محلى ابن حزم - المجلد الخامس/الصفحة الثالثة عشر


كتاب الرضاع

1871 - مسألة: قال أبو محمد: وإن ارتضع صغير أو كبير لبن ميتة أو مجنونة أو سكرى خمس رضعات فإن التحريم يقع به؛ لأنه رضاع صحيح.

وقال الشافعي: لا يقع بلبن الميتة رضاع؛ لأنه نجس.

قال علي: هذا عجب جدا أن يقول في لبن مؤمنة: إنه نجس وقد صح عن النبي ، أنه قال: المؤمن لا ينجس وقد علمنا أن المؤمن في حال موته وحياته سواء، هو طاهر في كلتا الحالتين، ولبن المرأة بعضها، وبعض الطاهر طاهر، إلا أن يخرجه عن الطهارة نص فيوقف عنده ثم يرى لبن الكافرة طاهرا يحرم، وهو بعضها، والله تعالى يقول: {إنما المشركون نجس} وبعض النجس نجس بلا شك.

فإن قيل: فأنتم تقولون: إن لبن الكافرة نجس بلا شك وأنتم تجيزون مع ذلك استرضاع الكافرة.

قلنا: لأن الله تعالى أباح لنا نكاح الكتابية، وأوجب على الأم رضاع ولدها، وقد علم الله تعالى أنه سيكون لنا أولاد منهن: وما كان ربك نسيا. إلا أننا نقول: إن غير الكتابية لا يحل لنا استرضاعها؛ لأنها ليست مما أبيح لنا اتخاذهن أزواجا وطلب الولد منهن فبقي لبنها على النجاسة جملة، وبالله تعالى التوفيق.

ثم نقول: لو خالط لبن المرضعة دم ظاهر من فم المرضع، أو غير ذلك من المحرمات كما يحرم الذي لم يخالطه شيء من ذلك؛ لأننا قد بينا في " كتاب الطهارة " من كتابنا هذا وغيره أن النجس، والحرام إذا خالطهما الطاهر الحلال فإن الطاهر طاهر، والنجس نجس، والحلال حلال، والحرام حرام، فالمحرم هو اللبن لا ما خالطه من حرام أو نجس ولكل شيء حكمه وبالله تعالى التوفيق. ولبن المشركة إنما ينجس هو وهي بذلك؛ لدينها النجس، فلو أسلمت لطهرت كلها، فلأرضاعها حكم الإرضاع في التحريم؛ لما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق.

1872 - مسألة: ولا يحرم من الرضاع إلا خمس رضعات، تقطع كل رضعة من الأخرى أو خمس مصات مفترقات كذلك أو خمس ما بين مصة ورضعة، تقطع كل واحدة من الأخرى هذا إذا كانت المصة تغني شيئا من دفع الجوع، وإلا فليست شيئا، ولا تحرم شيئا. وهذا مكان اختلف فيه السلف: فروي عن طائفة: أنه لا يحرم إلا عشر رضعات لا أقل من ذلك.

كما روينا من طريق مالك عن نافع أن سالم بن عبد الله بن عمر أخبره أن عائشة زوج النبي أرسلت به إلى أم كلثوم أختها بنت أبي بكر الصديق وهي ترضع فقالت: أرضعيه عشر رضعات حتى يدخل علي قال سالم: فأرضعتني ثلاث رضعات، ثم مرضت أم كلثوم فلم ترضعني، فلم أكن أدخل على عائشة أم المؤمنين من أجل أن أم كلثوم لم تتم لي عشرا من الرضعات.

ومن طريق مالك عن نافع عن صفية بنت أبي عبيد أنها أخبرته أن حفصة أم المؤمنين أرسلت عاصم بن عبد الله بن سعد إلى أختها فاطمة بنت عمر ترضعه عشر رضعات ليدخل عليها وهو صغير ففعلت، فكان يدخل عليها.

قال أبو محمد: عاصم بن عبد الله بن سعد هذا هو مولى عمر بن الخطاب: ثنا أحمد بن محمد الطلمنكي، أخبرنا ابن مفرج أنا أحمد بن فراس أنا محمد بن علي بن يزيد أنا سعيد بن منصور أنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن إبراهيم بن عقبة قال: سألت عروة بن الزبير عن الرضاع فقال: كانت عائشة لا ترى شيئا دون عشر رضعات فصاعدا. فدل هذا على أنه قول عروة؛ لأنه أجاب به الذي استفتاه. وقد روي أيضا: سبع رضعات: كما حدثنا أحمد بن قاسم أنا أبي قاسم بن محمد بن قاسم أنا جدي قاسم بن أصبغ، حدثنا أحمد بن زهير بن حرب أنا عبيد الله بن عمر القواريري أنا معاذ بن هشام الدستوائي حدثني أبي عن قتادة عن أبي الخليل صالح بن أبي مريم عن يوسف بن ماهك عن عبد الله بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: إنما يحرم من الرضاع سبع رضعات.

قال أبو محمد: الأول عنها أصح، وهذا قد رواه من هو أحفظ من أبي الخليل، ومن يوسف بن ماهك. كما رويناه من طريق عبد الرزاق عن معمر عن إبراهيم بن عقبة أنه سأل عروة بن الزبير عن صبي شرب قليلا من لبن امرأة فقال له عروة: كانت عائشة تقول: لا تحرم دون سبع رضعات أو خمس، وطائفة قالت: بخمس رضعات كما قلنا نحن.

كما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: لا تحرم دون خمس رضعات معلومات.

قال أبو محمد: هذا يخرج على أنها كما كانت تأخذ لنفسها بعشر رضعات، ولغيرها بخمس رضعات: أنا محمد بن سعيد بن نبات أنا أحمد بن عبد البصير أنا قاسم بن أصبغ أنا محمد بن عبد السلام الخشني أنا محمد بن المثنى أنا محمد بن أبي عدي عن حنظلة بن أبي سفيان الجمحي عن سالم بن عبد الله بن عمر عن زيد بن ثابت قال: لا تحرم الرضعة والرضعتان والثلاث وهو قول الشافعي، وأصحابه. وطائفة قالت: لا يحرم أقل من ثلاث رضعات وهو قول سليمان بن يسار، وسعيد بن جبير، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبي عبيد، وأبي ثور، وابن المنذر، وأبي سليمان، وجميع أصحابنا. وظن قوم أنه يدخل في هذا القول ما رويناه من طريق أحمد بن شعيب أنا أحمد بن حرب المولى أنا أبو معاوية الضرير عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين، وعبد الله بن الزبير، قالا جميعا: لا تحرم المصة، ولا المصتان.

ومن طريق سعيد بن منصور ثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن إبراهيم بن عقبة قال: سألت سعيد بن المسيب عن الرضاع فقال: لا أقول كما يقول ابن عباس، وابن الزبير، كانا يقولان: لا تحرم المصة، ولا المصتان.

قال أبو محمد: كل هذا ليس فيه بيان أنهم كانوا يحرمون بالثلاث.

وقالت طائفة: لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء، وأخصب الجسم:

كما روينا من طريق أحمد بن شعيب: أرنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث بن سعيد التنوري، حدثني أبي يعني عبد الوارث أنا حسين هو المعلم أنا مكحول عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين قالت: ليس بالمصة، ولا بالمصتين بأس، إنما الرضاع ما فتق الأمعاء.

ومن طريق عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج عن ثور هو أبو زيد عن عمرو بن شعيب أن سفيان بن عبد الله كتب إلى عمر بن الخطاب يسأله: ما يحرم من الرضاع فكتب إليه أنه لا يحرم منها: الضرار، والعفافة والملجة. والضرار أن ترضع المرأة الولدين كي تحرم بينهما. والعفافة الشيء اليسير الذي يبقى في الثدي. والملجة اختلاس المرأة ولد غيرها فتلقمه ثديها. قال ابن جريج: وأخبرني محمد بن عجلان أن عمر بن الخطاب أتى بغلام وجارية أرادوا أن يناكحوا بينهما قد علموا أن امرأة أرضعت أحدهما فقال لها عمر: كيف أرضعت الآخر قالت: مررت به وهو يبكي فأرضعته أو قالت: فأمصصته، فقال عمر: ناكحوا بينهما، فإنما الرضاعة الخصابة.

ومن طريق عبد الرزاق أنا معمر، وابن جريج، قالا جميعا: أنا هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه عن الحجاج بن الحجاج الأسلمي: أنه استفتى أبا هريرة فقال له أبو هريرة: لا يحرم إلا ما فتق الأمعاء يعني من الرضاع.

ومن طريق وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي عمرو الشيباني عن عبد الله بن مسعود قال: لا يحرم من الرضاع إلا ما أنبت اللحم وأنشز العظم وبه يؤخذ.

قال أبو محمد: هكذا نص الحديث: أنا محمد بن سعيد بن نبات أنا أحمد بن عبد البصير أنا قاسم بن أصبغ أنا محمد بن عبد السلام الخشني أنا محمد بن المثنى أنا عبد الرحمن بن مهدي أنا سفيان الثوري عن أبي حصين عن أبي عطية الوادعي: أن ابن مسعود قال: إنما الرضاع ما أنبت اللحم والعظم، فبلغ ذلك أبا موسى الأشعري فقال: لا تسألوني عن شيء ما دام هذا الحبر بين أظهركم.

ومن طريق مالك عن يحيى بن سعيد الأنصاري: أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: لا رضاع إلا ما أنبت اللحم والدم. وذهبت طائفة إلى التحريم بما قل أو كثر ولو بقطرة صح ذلك، عن ابن عمر، وعن ابن عباس في أحد قوليه.

وروي عن علي بن أبي طالب، وابن مسعود منقطعا دونهما. وعن جابر بن عبد الله كذلك أيضا. وصح عن سعيد بن المسيب في أحد قوليه. وصح أيضا عن عطاء، وعروة، وطاووس.

وروي عن الحسن، والزهري، ومكحول، وقتادة، وربيعة والقاسم، وسالم، وقبيصة بن ذؤيب.

وهو قول أبي حنيفة، ومالك، والأوزاعي، والليث بن سعد، وسفيان الثوري.

فنظرنا فيما احتج به من ذهب إلى سبع رضعات، فلم نجد لهذا القول متعلقا، فسقط. ثم نظرنا فيما احتج به من ذهب إلى عشر رضعات فوجدناهم يذكرون ما كتب به إلى أبو المرجى علي بن عبد الله بن زرواز: أنا أبو الحسن محمد بن حمزة الرحبي أنا أبو مسلم الكاتب أنا أبو الحسن عبد الله بن أحمد بن المغلس قال أنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: أنا أبي أنا يعقوب بن إبراهيم الزهري أنا أبي هو إبراهيم بن سعد، عن ابن إسحاق قال: أنا الزهري عن عروة عن عائشة أم المؤمنين: أن سهلة بنت سهيل أتت النبي فقالت له: إن سالما كان منا حيث علمت كنا نعده ولدا، وكان يدخل علي، فلما أنزل الله عز وجل فيه وفي أشباهه: أنكرت وجه أبي حذيفة، إذ رآه يدخل علي قال: فأرضعيه عشر رضعات ثم ليدخل عليك كيف شاء، فإنما، هو ابنك.

قال أبو محمد: وهذا إسناد صحيح، إلا أنه لا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما: أحدهما أن يكون ابن إسحاق وهم فيه؛ لأنه قد روى هذا الخبر عن الزهري من هو أحفظ من ابن إسحاق، و، هو ابن جريج فقال فيه: أرضعيه خمس رضعات على ما نورده بعد هذا إن شاء عز وجل. أو يكون محفوظا فتكون رواية ابن إسحاق صحيحة ورواية ابن جريج صحيحة فيكونان خبرين اثنين، فإذا كان ذلك، فالعشر الرضعات منسوخات على ما نورد بعد هذا إن شاء الله تعالى فسقط هذا الخبر، إذ لا يخلو ضرورة من أن يكون وهما، أو منسوخا، لا بد من أحدهما. ثم نظرنا فيما احتج به من حرم بثلاث رضعات لا بأقل فوجدناهم يحتجون بالخبر المشهور من طرق شتى. منها ما رويناه من طريق مسلم أنا محمد بن عبد الله بن نمير أنا إسماعيل بن إبراهيم، هو ابن علية عن أيوب السختياني، عن ابن أبي مليكة عن عبد الله بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين قالت: قال رسول الله : لا تحرم المصة، ولا المصتان.

وهكذا رواه أصحاب شعبة عن شعبة عن أيوب السختياني، عن ابن أبي مليكة عن عائشة أم المؤمنين عن النبي قال رسول الله : لا تحرم المصة، ولا المصتان.

قال أبو محمد: ابن أبي مليكة أدرك أم المؤمنين فسمعه منها، ومن ابن الزبير عنها، فحدث به كذلك، وهو الثقة المأمون المشهور.

ومن طريق أحمد بن شعيب أنا محمد بن عبد الله بن بزيع أنا يزيد، هو ابن زريع أنا سعيد، هو ابن أبي عروبة عن قتادة قال: كتبنا إلى إبراهيم النخعي نسأله عن الرضاع فكتب: إن أبا الشعثاء المحاربي حدثنا أن عائشة أم المؤمنين حدثته أن رسول الله كان يقول: لا تحرم الخطفة، ولا الخطفتان. ومن طريق أحمد بن شعيب أخبرني عبيد الله بن فضالة بن إبراهيم النسائي أنا مسلم بن إبراهيم أنا محمد بن دينار أنا هشام بن عروة عن أبيه، عن ابن الزبير عن الزبير عن النبي قال: لا تحرم المصة، ولا المصتان، ولا الإملاجة، ولا الإملاجتان.

ومن طريق أحمد بن شعيب أخبرني شعيب بن يوسف النسائي عن يحيى بن سعيد القطان عن هشام بن عروة أخبرني أبي عن عبد الله بن الزبير عن النبي : لا تحرم المصة، ولا المصتان.

قال أبو محمد: ابن الزبير سمع أباه، وخالته أم المؤمنين، فرواه عن كل واحد منهما، وله أيضا صحبة، وإلا فليخبرنا المقدم على نصر الباطل، ودفع الحق، ومؤثر رأيه على ما ثبت عن رسول الله من يتهم من رواة هذه الأخبار.

وقد صح أيضا: من طريق أبي هريرة، كما روينا من طريق أحمد بن شعيب أنا محمد بن منصور الطوسي أنا يعقوب، هو ابن إبراهيم بن سعد أنا أبي عن محمد بن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير عن الحجاج بن الحجاج الأسلمي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : لا تحرم من الرضاع المصة، ولا المصتان، ولا يحرم منه إلا ما فتق الأمعاء من اللبن. وصح أيضا من طريق أم الفضل أم عبد الله بن العباس:

كما روينا من طريق مسلم، أخبرنا إسحاق، هو ابن راهويه ويحيى بن يحيى، وعمرو الناقد كلهم عن المعتمر بن سليمان التيمي واللفظ ليحيى قال: أنا المعتمر بن سليمان عن أيوب هو السختياني عن أبي الخليل هو صالح بن أبي مريم عن عبد الله بن الحارث، هو ابن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب عن أم الفضل أن رسول الله قال: لا تحرم الإملاجة، ولا الإملاجتان.

ومن طريق مسلم أنا أبو بكر بن أبي شيبة عن عبدة بن سليمان عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أبي الخليل عن عبد الله بن الحارث أن أم الفضل حدثته أن رسول الله قال: لا تحرم الرضعة، ولا الرضعتان، ولا المصة، ولا المصتان. ورويناه أيضا من طريق مسلم، أخبرنا ابن أبي عمر أنا بشر بن السري أنا حماد بن أبي سلمة عن قتادة عن أبي الخليل الضبعي عن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن أم الفضل أن رسول الله قال: لا تحرم الإملاجة، ولا الإملاجتان. وناه حمام بن أحمد أنا عباس بن أصبغ أنا محمد بن عبد الملك بن أيمن أنا جعفر بن محمد الصائغ أنا عفان بن مسلم أنا وهيب بن خالد أنا أيوب السختياني عن صالح أبي الخليل الضبعي عن عبد الله بن الحارث عن أم الفضل أن رسول الله قال: لا تحرم الإملاجة، ولا الإملاجتان. قالوا: فهذه آثار صحاح رواها أم المؤمنين، وأم الفضل، والزبير، وأبو هريرة، وابن الزبير كلهم عن رسول الله فجاءت مجيء التواتر قالوا: فهي مستثناة من عموم قول الله عز وجل: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة} وبقي ما زاد على التحريم.

قال أبو محمد: صدقوا في أنها في غاية الصحة، ولكن لو لم يرد غيرها لكان القول ما قالوا لكن قد جاء غير هذا مما سنذكره الآن إن شاء عز وجل. ثم نظرنا فيما احتج به من لم يحد المحرم من الرضاع إلا بما أغنى من الجوع فوجدناهم يحتجون بما رويناه من طريق مسلم أنا هناد بن السري أنا أبو الأحوص عن أشعث بن أبي الشعثاء عن أبيه عن مسروق عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله قال لها: انظرن من إخوتكن من الرضاعة فإنما الرضاعة من المجاعة. ورويناه أيضا من طريق شعبة، وسفيان الثوري، وزائدة، كلهم عن أشعث بن أبي الشعثاء عن أبيه عن مسروق عن عائشة أم المؤمنين عن النبي : إنما الرضاعة من المجاعة. وقد أوردنا أيضا قبل من طريق أبي هريرة عن النبي من أنه لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء. ورويناه أيضا من طريق شريح بن النعمان عن حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عن الحجاج بن الحجاج الأسلمي عن أبي هريرة عن النبي .

قال أبو محمد: وهذان أثران في غاية الصحة، والحجة بهما قائمة.

ثم نظرنا فيما احتج به من قال: لا يحرم من الرضاع أقل من خمس رضعات فوجدنا ما رويناه من طريق حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد الأنصاري، وعبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، كلاهما عن عمرة عن عائشة أم المؤمنين قالت: نزل القرآن أن لا يحرم إلا عشر رضعات، ثم نزل بعد وخمس معلومات هذا لفظ يحيى بن سعيد. ولفظ عبد الرحمن: قالت " كان مما نزل من القرآن ثم سقط: لا يحرم من الرضاع إلا عشر رضعات، ثم نزل بعد وخمس معلومات ".

ومن طريق القعنبي عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت " كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات يحرمن، فتوفي رسول الله وهن مما يقرأ من القرآن ".

وروينا أيضا معناه من طريق مسلم أنا القعنبي، ومحمد بن المثنى، قال ابن المثنى أنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، وقال القعنبي: أنا سليمان بن بلال، ثم اتفق سليمان، وعبد الوهاب كلاهما عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن عمرة عن عائشة أم المؤمنين قالت: لما نزل في القرآن عشر رضعات معلومات، ثم نزل أيضا خمس معلومات.

ومن طريق عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج، أخبرنا ابن شهاب أخبرني عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين أن أبا حذيفة تبنى سالما وهو مولى امرأة من الأنصار كما تبنى رسول الله زيدا، وكان من تبنى رجلا في الجاهلية دعاه الناس إليه وورث من ميراثه حتى أنزل الله عز وجل: {ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم} فردوا إلى آبائهم فمن لم يعرف له أب فمولى وأخ في الدين، فجاءت سهلة فقالت: يا رسول الله إنا كنا نرى سالما ولدا يأوي معي ومع أبي حذيفة ويراني فضلا، وقد أنزل الله فيه ما قد علمت فقال رسول الله أرضعيه خمس رضعات فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة.

قال أبو محمد: وهذان خبران في غاية الصحة وجلالة الرواة وثقتهم، ولا يسع أحدا الخروج عنهما.

وهذا الخبر من رواية ابن جريج يبين وهم رواية ابن إسحاق لهذا الخبر، فذكر فيه عشر رضعات أو نسخه، إذ قد يمكن أن يكون عليه الصلاة والسلام أفتاها بالعشر قبل أن ينزل التحريم بالخمس، ثم أفتاها بالخمس بعد نزولها، وقد لا يكون بين الأمرين إلا بعض ساعة. ثم نظرنا فيما احتج به من رأى أن التحريم بقليل الرضاعة وكثيرها فوجدناهم يحتجون بقول الله عز وجل: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة} قالوا: فعم الله عز وجل ولم يخص. ثم ذكروا آثارا صحاحا: مثل قوله عليه الصلاة والسلام في بنت حمزة: إنها ابنة أخي من الرضاعة. وقوله في بنت أبي سلمة: إنها ابنة أخي من الرضاعة. وقوله عليه الصلاة والسلام لعائشة أم المؤمنين في عمها من الرضاعة: إنه عمك فليلج عليك، وفي عم حفصة أم المؤمنين: أرى فلانا يعني عمها من الرضاعة. وبالخبر الثابت في أمر سالم مولى أبي حذيفة. ورويناه من طريق سفيان بن عيينة وسفيان الثوري عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين.

ومن طريق أيوب السختياني، وابن جريج، عن ابن أبي مليكة عن القاسم بن محمد عن عائشة أم المؤمنين.

ومن طريق مالك بن أنس، ويونس بن يزيد، وجعفر بن ربيعة، كلهم عن الزهري عن عروة عن عائشة أم المؤمنين.

ومن طريق شعبة عن حميد بن نافع عن زينب بنت أم سلمة أم المؤمنين عن عائشة أم المؤمنين، كلهم لم يذكروا إلا " أرضعيه " فقط دون ذكر عدد. وذكروا قوله عليه الصلاة والسلام: إنما الرضاعة من المجاعة، ولا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء قالوا: فلم يذكر عليه الصلاة والسلام في كل ذلك عددا. وذكروا مما لا خير فيه: خبرا رويناه من طريق ابن وهب عن مسلمة بن علي عن رجال من أهل العلم عن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن أم الفضل بنت الحارث قالت سئل رسول الله عما يحرم من الرضاعة فقال: الرضعة والرضعتان.

قال أبو محمد: أما هذا الخبر، فخبر سوء موضوع، ومسلمة بن علي فساقط لا يروى عنه، قد أنكر الناس على ابن وهب الرواية عنه، ثم ذكره عمن لم يسمه، فلا معنى لان يشتغل بالباطل.

وأما الأخبار الثابتة التي ذكرنا قبل والآية المذكورة، فإن كل ذلك حق، لكن لما جاءت رواية الثقات التي ذكرنا بأنه لا تحرم الرضعة، ولا الرضعتان، وأنه إنما يحرم خمس رضعات: كانت هذه الأخبار زائدة على ما في تلك الآية، وفي تلك الأخبار، وكانت رواية ابن جريج في حديث أبي حذيفة " أرضعيه خمس رضعات، هي زائدة على رواية من ذكرنا، وابن جريج ثقة لا يجوز ترك زيادته التي انفرد بها. وقد فعل المخالفون لنا مثل هذا حيث يجب أن يفعل، وحيث لا يجب أن يفعل: كتركهم عموم القرآن في قطع السارق لرواية فاسدة في العشرة الدراهم ولرواية صالحة في ربع الدينار. وكزيادة المالكيين التدلك في الغسل على ما في القرآن لغير نص، وكزيادة الحنفيين الوضوء بالنبيذ، ومن الرعاف، والقيء لروايات في غاية الفساد. وترك الزيادة التي يرويها العدل خطأ لا تجوز؛ لأنها رواية عن رسول الله ثابتة فمن خالفها فقد خالف أمره عليه الصلاة والسلام فهذا لا يجوز. واعترضوا بالآثار التي جاءت بخمس رضعات محرمات بما رويناه عن طاووس، أنه قال: كان لأزواج النبي رضاعات محرمات، ولسائر النساء رضاعات معلومات، ثم ترك ذلك بعد. وأنه سئل عن قول من يقول: لا يحرم من الرضاع دون سبع رضعات ثم صار إلى خمس وقال طاووس: قد كان ذلك فحدث بعد ذلك أمر جاء بالتحريم المرة الواحدة تحرم.

قال أبو محمد: هذا قول طاووس لم يسنده إلى صاحب فضلا عن رسول الله ومثل هذا لا تقوم به حجة، ولا يحل القطع بالنسخ بظن تابعي. وقالوا أيضا: قول الراوي: فمات عليه الصلاة والسلام وهو مما يقرأ من القرآن قول منكر، وجرم في القرآن، ولا يحل أن يجوز أحد سقوط شيء من القرآن بعد موت رسول الله .

فقلنا: ليس كما ظننتم إنما معنى قول عبد الله بن أبي بكر في روايته لما ذكرتم، ثم إنه عليه الصلاة والسلام مات وهو مما يقرأ مع القرآن بحروف الجر يبدل بعضها من بعض، ومما يقرأ من القرآن الذي بطل أن يكتب في المصاحف، وبقي حكمه، كآية الرجم سواء سواء فبطل اعتراضهم المذكور. واعترضوا على الخبر الثابت الذي فيه لا تحرم المصة، ولا المصتان، ولا الرضعة، ولا الرضعتان بأن قالوا: هو خبر مضطرب في سنده، فمرة عن عائشة، ومرة عن الزبير.

فقلنا: فكان ماذا هذا قوة للخبر أن يروى من طرق، وما يعترض بهذا في الآثار إلا جاهل بما يجب في قول النقل الثابت؛ لأنه اعتراض لا دليل على صحته أصلا، إنما هو دعوى فاسدة. والعجب كله أنهم يعيبون الأخبار الثابتة بنقلها مرة عن صاحب، ومرة عن آخر، ثم لا يفكر الحنفيون في أخذهم بحديث أيمن فيما تقطع فيه يد السارق، وهو حديث ساقط مضطرب فيه أشد الأضطراب. ولا يفكر المالكيون في أخذهم في ذلك بحديث ربع الدينار. وفي الصدقة في الفطر بخبر أبي سعيد، وكلاهما أشد اضطرابا من خبر الرضعتين، ولكنهم يتعلقون بما أمكنهم. وقالوا: عروة بن الزبير أحد رواة ذلك الخبر، وقد روي عنه: أن قليل الرضاع وكثيره لا يحرم .

فقلنا: فكان ماذا إنما الحجة في روايته لا رأيه، وقد أفردنا في كتابنا المعروف ب " الإعراب " اضطراب الطائفتين في هذا المعنى، وأخذهم برواية الراوي وتركهم لرأيه في خلافه لما رواه. وذكروا أيضا اعتراضات في غاية الفساد والغثاثة، لا يخفى سقوطها على ذي فهم، عمدتها ما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق. فوجب الأخذ بهذه الأخبار، ولما كان عليه الصلاة والسلام قد أخبر أنه لا تحرم الرضعة، ولا الرضعتان، ولا المصة، ولا المصتان علمنا أن المصة غير الرضعة، فمن ذلك

قلنا: إن استنفاد الراضع ما في الثديين متصلا رضعة واحدة، وأن المصة لا تحرم، إلا إذا علمنا أنها قد سدت مسدا من الجوع، ولا يوقن بوصولها إلى الأمعاء، وأن اليسير من ذلك الذي لا يسد مسدا من الجوع، ولا يوقن بوصوله إلى الأمعاء لا يحرم شيئا أصلا وبالله تعالى التوفيق.

محلى ابن حزم - المجلد الخامس/كتاب الرضاع
كتاب الرضاع (مسألة 1867 - 1870) | كتاب الرضاع (مسألة 1871 - 1872) | كتاب الرضاع (مسألة 1873 - 1874)