محلى ابن حزم - المجلد السادس/الصفحة الأربعون


كتاب قتل أهل البغي

2158 - مسألة: قتل أهل البغي

قال أبو محمد رحمه الله : قال الله تعالى {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} الآية . فكان قتال المسلمين فيما بينهم على وجهين : قتال البغاة ، وقتال المحاربين - فالبغاة قسمان لا ثالث لهما : إما قسم خرجوا على تأويل في الدين فأخطئوا فيه ، كالخوارج وما جرى مجراهم من سائر الأهواء المخالفة للحق . وإما قسم أرادوا لأنفسهم دنيا فخرجوا على إمام حق ، أو على من هو في السيرة مثلهم ، فإن تعدت هذه الطائفة إلى إخافة الطريق ، أو إلى أخذ مال من لقوا ، أو سفك الدماء هملا : انتقل حكمهم إلى حكم المحاربين ، وهم ما لم يفعلوا ذلك في حكم البغاة . فالقسم الأول من أهل البغي يبين حكمهم : ما نا هشام بن سعد الخير نا عبد الجبار بن أحمد المقرئ نا الحسن بن الحسين البجيرمي نا جعفر بن محمد الأصبهاني نا يونس بن حبيب نا أبو داود الطيالسي نا شعبة أخبرني أيوب السختياني ، وخالد الحذاء ، كلاهما قال : عن الحسن البصري أخبرتنا أمنا عن أم سلمة : أن رسول الله قال في عمار تقتلك الفئة الباغية.

قال أبو محمد رحمه الله : وإنما قتل عمار رضي الله عنه - أصحاب معاوية رضي الله عنه وكانوا متأولين تأويلهم فيه - وإن أخطئوا الحق - مأجورون أجرا واحدا : لقصدهم الخير . ويكون من المتأولين قوم لا يعذرون ، ولا أجر لهم : كما روينا من طريق البخاري نا عمر بن حفص بن غياث نا أبي نا الأعمش نا خيثمة نا سويد بن غفلة قال قال علي : سمعت رسول الله يقول: سيخرج قوم في آخر الزمان ، أحداث الأسنان ، سفهاء الأحلام ، يقولون من قول خير البرية ، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم ، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة. وروينا من طريق مسلم نا محمد بن المثنى نا محمد بن أبي عدي عن سليمان هو الأعمش - عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله ذكر قوما يكونون في أمته يخرجون في فرقة من الناس ، سيماهم التحالق ، هم شر الخلق ، أو من شر الخلق ، تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق. وذكر الحديث . قال أبو محمد رحمه الله : ففي هذا الحديث نص جلي بما قلنا ، وهو أن النبي ذكر هؤلاء القوم فذمهم أشد الذم ، وأنهم من شر الخلق ، وأنهم يخرجون في فرقة من الناس . فصح أن أولئك أيضا : مفترقون ، وأن الطائفة المذمومة تقتلها أدنى الطائفتين المفترقتين إلى الحق ، فجعل عليه السلام في الافتراق تفاضلا ، وجعل إحدى الطائفتين المفترقتين لها دنو من الحق - وإن كانت الأخرى أولى به - ولم يجعل للثالثة شيئا من الدنو إلى الحق . فصح أن التأويل يختلف ، فأي طائفة تأولت في بغيتها طمسا لشيء من السنة ، كمن قام برأي الخوارج ليخرج الأمر عن قريش ، أو ليرد الناس إلى القول بإبطال الرجم ، أو تكفير أهل الذنوب ، أو استقراض المسلمين ، أو قتل الأطفال والنساء ، وإظهار القول بإبطال القدر ، أو إبطال الرؤية ، أو إلى أن الله تعالى لا يعلم شيئا إلا حتى يكون ، أو إلى البراءة عن بعض الصحابة ، أو إبطال الشفاعة ، أو إلى إبطال العمل بالسنن الثابتة عن رسول الله ودعا إلى الرد إلى من دون رسول الله أو إلى المنع من الزكاة ، أو من أداء حق من مسلم ، أو حق لله تعالى : فهؤلاء لا يعذرون بالتأويل الفاسد ؛ لأنها جهالة تامة . وأما من دعا إلى تأويل لا يحل به سنة ، لكن مثل تأويل معاوية في أن يقتص من قتلة عثمان قبل البيعة لعلي : فهذا يعذر ؛ لأنه ليس فيه إحالة شيء من الدين ، وإنما هو خطأ خاص في قصة بعينها لا تتعدى . ومن قام لعرض دنيا فقط ، كما فعل يزيد بن معاوية ، ومروان بن الحكم ، وعبد الملك بن مروان في القيام على ابن الزبير ، وكما فعل مروان بن محمد في القيام على يزيد بن الوليد ، وكمن قام أيضا عن مروان ، فهؤلاء لا يعذرون ، لأنهم لا تأويل لهم أصلا ، وهو بغي مجرد . وأما من دعا إلى أمر بمعروف ، أو نهي عن منكر ، وإظهار القرآن ، والسنن ، والحكم بالعدل : فليس باغيا ، بل الباغي من خالفه - وبالله تعالى التوفيق . وهكذا إذا أريد بظلم فمنع من نفسه - سواء أراده الإمام أو غيره - وهذا مكان اختلف الناس فيه : فقالت طائفة : إن السلطان في هذا بخلاف غيره ، ولا يحارب السلطان وإن أراد ظلما . كما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب السختياني أن رجالا سألوا ابن سيرين فقالوا : أتينا الحرورية زمان كذا وكذا ، لا يسألون عن شيء غير أنهم يقتلون من لقوا ؟ فقال ابن سيرين : ما علمت أن أحدا كان يتحرج من قتل هؤلاء تأثما ، ولا من قتل من أراد قتالك إلا السلطان ، فإن للسلطان نحوا . وخالفهم آخرون فقالوا : السلطان وغيره سواء ، كما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن أبي قلابة قال : أرسل معاوية بن أبي سفيان إلى عامل له أن يأخذ الوهط فبلغ ذلك عبد الله بن عمرو بن العاص فلبس سلاحه هو ومواليه وغلمته ، وقال : إني سمعت رسول الله يقول : من قتل دون ماله - مظلوما - فهو شهيد . ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار ، قال : إن عبد الله بن عمرو بن العاص تيسر للقتال دون الوهط ، ثم قال : مالي لا أقاتل دونه وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول من قتل دون ماله فهو شهيد . قال ابن جريج : وأخبرني سليمان الأحول أن ثابتا مولى عمر بن عبد الرحمن أخبره ، قال : لما كان بين عبد الله بن عمرو بن العاص ، وبين عنبسة بن أبي سفيان ما كان وتيسروا للقتال ركب خالد بن العاص - هو ابن هشام بن المغيرة المخزومي - إلى عبد الله بن عمرو فوعظه ، فقال له عبد الله بن عمرو بن العاص : أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من قتل على ماله فهو شهيد. قال أبو محمد رحمه الله : فهذا عبد الله بن عمرو بن العاص بقية الصحابة وبحضرة سائرهم - رضي الله عنهم - يريد قتال عنبسة بن أبي سفيان عامل أخيه معاوية أمير المؤمنين إذ أمره بقبض " الوهط " ورأى عبد الله بن عمرو أن أخذه منه غير واجب ، وما كان معاوية - رحمه الله - ليأخذ ظلما صراحا ، لكن أراد ذلك بوجه تأوله بلا شك ، ورأى عبد الله بن عمرو أن ذلك ليس بحق ، ولبس السلاح للقتال ، ولا مخالف له في ذلك من الصحابة - رضي الله عنهم وهكذا جاء عن أبي حنيفة ، والشافعي ، وأبي سليمان ، وأصحابهم : أن الخارجة على الإمام إذا خرجت سئلوا عن خروجهم ؟ فإن ذكروا مظلمة ظلموها أنصفوا ، وإلا دعوا إلى الفيئة ، فإن فاءوا فلا شيء عليهم ، وإن أبوا قوتلوا ، ولا نرى هذا إلا قول مالك أيضا . فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن نرد ما اختلفوا فيه إلى ما افترض الله تعالى علينا الرد إليه ، إذ يقول تعالى {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} . ففعلنا : فلم نجد الله تعالى فرق في قتال الفئة الباغية على الأخرى بين سلطان وغيره ، بل أمر تعالى بقتال من بغى على أخيه المسلم - عموما - حتى يفيء إلى أمر الله تعالى: {وما كان ربك نسيا} وكذلك قوله عليه السلام: من قتل دون ماله فهو شهيد أيضا - عموم - لم يخص معه سلطانا من غيره ، ولا فرق في قرآن ، ولا حديث ، ولا إجماع ولا قياس : بين من أريد ماله ، أو أريد دمه ، أو أريد فرج امرأته ، أو أريد ذلك من جميع المسلمين . وفي الإطلاق على هذا هلاك الدين وأهله ، وهذا لا يحل بلا خلاف - وبالله تعالى التوفيق . قال أبو محمد رحمه الله : ومن أسر من أهل البغي ، فإن الناس قد اختلفوا فيه : أيقتل أم لا ؟ فقال بعض أصحاب أبي حنيفة : ما دام القتال قائما فإنه يقتل أسراهم ، فإذا انجلت الحرب فلا يقتل منهم أسير . قال أبو محمد رحمه الله : واحتج هؤلاء بأن عليا - رضي الله عنه - قتل ابن يثربي - وقد أتي به أسيرا وقال الشافعي : لا يحل أن يقتل منهم أسير أصلا ما دامت الحرب قائمة ، ولا بعد تمام الحرب - وبهذا نقول . برهان ذلك : أن النبي قد صح عنه أنه قال: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان ، أو زنى بعد إحصان ، أو نفس بنفس . وأباح الله تعالى دم المحارب ، وأباح رسول الله دم من حد في الخمر ثم شربها في الرابعة . فكل من ورد نص بإباحة دمه : مباح الدم ، وكل من لم يبح الله تعالى دمه ولا رسوله حرام الدم بقول الله تعالى {ولا تقتلوا أنفسكم} ، وبقول رسول الله : إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام وأما احتجاجهم بفعل علي - رضي الله عنه - فلا حجة لهم فيه لوجوه : أحدها - أنه لا حجة في قول أحد دون رسول الله . والثاني - أنه لا يصح مسندا إلى علي رضي الله عنه . والثالث - أنه لو صح لكان حجة عليهم لا لهم ؛ لأن ذلك الخبر إنما هو في ابن يثربي ارتجز يوم ذلك ، فقال : أنا لمن ينكرني ابن يثربي قاتل عليا وهند الجمل ثم ابن صوحان على دين علي فأسر ، فأتي به علي بن أبي طالب ، فقال له : استبقني ؟ فقال له علي : أبعد إقرارك بقتل ثلاثة من المسلمين : عليا ، وهندا ، وابن صوحان - وأمر بضرب عنقه - فإنما قتله علي قودا بنص كلامه - وهم لا يرون القود في مثل هذا ؟ فعاد احتجاجهم به حجة عليهم ، ولاح أنهم مخالفون لقول علي في ذلك ولفعله والرابع - أنه قد صح عن علي النهي عن قتل الأسراء في الجمل وصفين - على ما نذكر إن شاء الله تعالى - فبطل تعلقهم بفعل علي في ذلك ، وما نعلمهم شغبوا بشيء غير هذا . فإن قالوا : قد كان قتله - بلا خلاف - مباحا قبل الإسار ، فهو على ذلك بعد الإسار حتى يمنع منه نص ، أو إجماع ؟ قلنا لهم : هذا باطل ، وما حل قتله قط قبل الإسار مطلقا ، لكن حل قتله ما دام باغيا مدافعا ، فإذا لم يكن باغيا مدافعا : حرم قتله - وهو إذا أسر فليس حينئذ باغيا ، ولا مدافعا : فدمه حرام . وكذلك لو ترك القتال وقعد مكانه ولم يدافع لحرم دمه - وإن لم يؤسر - وبالله تعالى التوفيق . وإنما قال الله تعالى: {فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} ولم يقل : قاتلوا التي تبقى ، والقتال والمقاتلة فعل من فاعلين ، فإنما حل قتال الباغي ، ومقاتلته ، ولم يحل قتله قط في غير المقاتلة ، والقتال ، فهذا نص القرآن - وبالله تعالى التوفيق . فإن قالوا نقيسه على المحارب ؟ قلنا : المحارب المقدور عليه يقتل إن رأى الإمام ذلك قبل تمام الحرب وبعدها بلا خلاف في أن حكمه في كلا الأمرين سواء - وأيضا فليس يختلف أحد في أن حكم الباغي غير حكم المحارب ، وبالتفريق بين حكمهما جاء القرآن .

قال أبو محمد رحمه الله : واختلفوا أيضا في الإجهاز على جرحاهم ، والقول فيهم كالقول في الأسراء سواء ، لأن الجريح إذا قدر عليه فهو أسير ، وأما ما لم يقدر عليه وكان ممتنعا فهو باغ كسائر أصحابه . وقد روينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج قال : أخبرني جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب قال : قال علي بن أبي طالب : لا يذفف على جريح ، ولا يقتل أسير ، ولا يتبع مدبر - وكان لا يأخذ مالا لمقتول ، يقول : من اعترف شيئا فليأخذه . ومن طريق عبد الرزاق عن يحيى بن العلاء عن جويبر قال : أخبرتني امرأة من بني أسد قالت : سمعت عمارا بعد ما فرغ علي من أصحاب الجمل ينادي : لا تقتلن مدبرا ولا مقبلا ، ولا تذففوا على جريح ، ولا تدخلوا دارا ، ومن ألقى السلاح فهو آمن ، كالمأسور ، قد قدرنا أن نصلح بينه وبين المبغي عليه بالعدل ، وهو أن نمنعه من البغي ، بأن نمسكه ولا ندعه يقاتل . وكذلك الجريح إذا قدرنا عليه ، ونص هذه الآية يقتضي تحريم دم الأسير ، ومن قدر عليه ؛ لأن فيها إيجاب الإصلاح بينهما - نعني الباغي والمبغي عليه - ولا يجوز أن يصلح بين حي وميت ، وإنما يصلح بين حيين - فصح تحريم دم الأسير ، ومن قدر عليه من أهل البغي بيقين . واختلفوا هل يجوز اتباع مدبرهم ؟ فقالت طائفة : لا يتبع المدبر منهم أصلا . وقال آخرون : إن كانوا تاركين للقتال جملة ، منصرفين إلى بيوتهم ، فلا يحل اتباعهم أصلا ، وإن كانوا منحازين إلى فئة أو لائذين بمعقل يمتنعون فيه ، أو زائلين عن الغالبين لهم من أهل العدل إلى مكان يأمنونهم فيه لمجيء الليل ، أو ببعد الشقة ثم يعودون إلى حالهم : فيتبعون . قال أبو محمد رحمه الله : وبهذا نقول ؛ لأنه نص القرآن ؛ لأن الله تعالى افترض علينا قتالهم حتى يفيئوا إلى أمر الله تعالى ، فإذا فاءوا حرم علينا قتلهم وقتالهم ، فهم إذا أدبروا تاركين لبغيهم ، راجعين إلى منازلهم ، أو متفرقين عما هم عليه ، فبتركهم البغي صاروا فائين إلى أمر الله ، فإذا فاءوا إلى أمر الله فقد حرم قتلهم ، وإذا حرم قتلهم فلا وجه لاتباعهم ، ولا شيء لنا عندهم حينئذ . وأما إذا كان إدبارهم ليتخلصوا من غلبة أهل الحق - وهم باقون على بغيهم - فقتالهم باق علينا بعد ؛ لأنهم لم يفيئوا بعد إلى أمر الله تعالى . فإن احتج محتج بما ناه عبد الله بن أحمد الطلمنكي نا أحمد بن مفرج نا محمد بن أيوب الصموت الرقي نا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار نا محمد بن معمر نا عبد الملك بن عبد العزيز نا كوثر بن حكيم عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله : يا ابن أم عبد هل تدري كيف حكم الله فيمن بغى من هذه الأمة ؟ قال : الله ورسوله أعلم ، قال : لا يجهز على جريحها ، ولا يقتل أسيرها ، ولا يطلب هاربها ، ولا يقسم فيئها فإن كوثر بن حكيم ساقط ألبتة متروك الحديث - ولو صح لكان حجة لنا ؛ لأن الهارب : هو التارك لما هو فيه ، فأما المتخلص ؛ ليعود فليس هاربا - وبالله تعالى التوفيق . قال أبو محمد رحمه الله : واختلفوا أيضا في قتال أهل البغي ؟ فقال بعض أصحاب الحديث : تقسم أموالهم وتخمس - وبه قال الحسن بن حي : أموال اللصوص المحاربين مغنومة مخمسة ، ما كان منها في عسكرهم . وقال أبو يوسف صاحب أبي حنيفة : ما وجد في أيدي أهل البغي من السلاح والكراع فإنه فيء يقسم ويخمس - ولم ير ذلك في غير السلاح والكراع . وقال أبو حنيفة وسائر أصحابه : أما ما دامت الحرب قائمة فإنه يستعان في قتالهم بما أخذ من سلاحهم وكراعهم خاصة ؛ فإذا تلف من ذلك شيء في حال الحرب فلا ضمان فيه ، فإذا وضعت الحرب أوزارها لم يؤخذ شيء من أموالهم لا سلاح ، ولا كراع ، ولا غير ذلك - يرد عليهم ما بقي مما قاتلوا به في الحرب من سلاحهم وكراعهم وقال مالك ، والشافعي ، وأصحابنا : لا يحل لنا شيء من أموالهم : لا سلاح ، ولا كراع ، ولا غير ذلك - لا في حال الحرب ولا بعدها ؟ قال أبو محمد رحمه الله : فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن ننظر في ذلك لنعلم الحق فنتبعه ، بعون الله تعالى . فنظرنا فيما احتج به أبو حنيفة ، وأصحابه ، بأن يستعمل سلاحهم ، وكراعهم ما دامت الحرب قائمة - فلم نجد لهم في ذلك حجة أصلا ، لا من قرآن ، ولا من سنة صحيحة ، ولا سقيمة ، ولا من قول صاحب ، ولا إجماع - وما كان هكذا فهو باطل بلا شك ، وقال رسول الله : إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام. والسلاح والكراع مال من مالهم فهو محرم على غيرهم ، لكن الواجب أن يحال بينهم وبين كل ما يستعينون به على باطلهم ؛ لقول الله تعالى {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} . فصح بهذا يقينا أن تخليتهم يستعملون السلاح في دماء أهل العدل والكراع في قتالهم تعاون على الإثم والعدوان فهو محرم بنص القرآن . وصح أن الحيلولة بينهم وبين السلاح والكراع في حال البغي : تعاون على البر والتقوى ، وأما استعماله فلا يحل ؛ لما ذكرنا ، إلا أن يضطر إليه فيجوز حينئذ ، ومن اضطر إلى الدفاع عن نفسه بحق ففرض عليه أن يدفع الظلم عن نفسه ، وعن غيره ، بما أمكنه من سلاح نفسه أو سلاح غيره ، فإن لم يفعل فهو ملق بيده إلى التهلكة ، وهذا حرام عليه - فسقط قول أبي حنيفة وأصحابه . ثم نظرنا في قول أبي يوسف فلم نجد لهم شبهة إلا خبرا رواه فطر بن خليفة عن محمد بن الحنفية : أن عليا قسم يوم الجمل فيهم بين أصحابه ما قوتل به من الكراع والسلاح - وهذا خبر فاسد ، لأن فطرا ضعيف . وذكروا أيضا ما كتب به إلى يوسف بن عبد البر النمري قال : نا أحمد بن محمد بن الجسور نا محمد بن عيسى بن رفاعة الخولاني نا بكر بن سهل نا نعيم بن حماد نا محمد بن فضيل عن عطاء بن السائب عن أبي البختري ، والشعبي ، وأصحاب علي " عن علي أنه لما ظهر على أصحاب الجمل بالبصرة يوم الجمل جعل لهم ما في عسكر القوم من السلاح ، فقالوا : كيف تحل لنا دماؤهم ولا تحل لنا أموالهم ولا نساؤهم ؟ قال : هاتوا سهامكم فأقرعوا على عائشة ، فقالوا : نستغفر الله ، فخصمهم علي رضي الله عنه وعرفهم أنها إذا لم تحل لم يحل بنوها " وهذا أيضا أثره ضعيف ، ومداره على نعيم بن حماد وهو الذي روى بإسناد أحسن من هذا عن النبي تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أشدها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال فإن أجازوه هنا فليجيزوه هنالك . ثم لو صح لم يكن لهم فيه حجة ؛ لأنه لا حجة في أحد دون رسول الله وكم قولة لعلي رضي الله عنه قد خالفوها بآرائهم . ثم نظرنا فيما ذهب إليه الحسن بن حي فلم نجد لهم علقة إلا من طريق عبد الرزاق عن ابن عيينة عن أصحابه عن حكيم بن جبير عن عصمة الأسدي قال : بهش الناس إلى علي فقالوا : اقسم بيننا نساءهم وذراريهم ، فقال علي : عنتني الرجال فعنيتها وهذه ذرية قوم مسلمين في دارهم ، لا سبيل لكم عليهم ما أوت الدار من مال فهو لهم ، وما أجلبوا به عليكم في عسكرهم فهو لكم مغنم . قال أبو محمد رحمه الله : وهذا خبر في غاية الفساد ؛ لأن ابن عيينة - رحمه الله - رواه عن أصحابه الذين لا يدرى من هم ، ثم عن حكيم بن جبير - وهو هالك كذاب فلم يبق إلا من قال : إن جميع أموالهم مخمسة مغنومة ، وقول من قال : لا يحل منها شيء فنظرنا في تلك . فوجدناهم يحتجون بما نا به حمام بن أحمد قال نا عباس بن أصبغ نا محمد بن عبد الملك بن أيمن نا أحمد بن زهير بن حرب نا عفان بن مسلم نا محمد بن ميمون نا محمد بن سيرين عن أخيه معبد بن سيرين عن أبي سعيد الخدري عن النبي قال : يخرج ناس من قبل المشرق يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه حتى يعود السهم إلى فوقه سيماهم التحليق والتسبيد . ومن طريق مسلم ني محمد بن المثنى نا محمد بن أبي عدي عن سليمان - هو الأعمش - عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله ذكر قوما يكونون في أمته يخرجون في فرقة من الناس سيماهم التحالق وهم شر الخلق أو من شر الخلق تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق ، وذكر باقي الخبر . قالوا : وقد قال الله تعالى {إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية} . قالوا : فمن الباطل المتيقن أن يكونوا مسلمين ويقول رسول الله  : إنهم شر الخلق ، أو من شر الخلق ، فالخلق والبرية سواء ، قالوا : فإذ هم بشهادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من شر الخلق ، وقد مرقوا من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه أبدا ، فهم بيقين من المشركين ، الذين قال الله تعالى : إنهم {شر البرية} لا من الذين آمنوا الذين شهد الله تعالى لهم أنهم من {خير البرية} فأموالهم مغنومة مخمسة كأموال الكفار . قال أبو محمد رحمه الله : وهذا قول صحيح ، واحتجاج صادق ، إلا أنه مجمل غير مرتب ، والصحيح من هذا هو جمع الآيات والأحاديث ، فمن خرج بتأويل هو فيه مخطئ ، لم يخالف فيه الإجماع ، ولا قصد فيه خلاف القرآن وحكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يتعمد خلافهما ، أو يعند عنهما بعد قيام الحجة عليه ، أو خرج طالبا غلبة في دنيا ، ولم يخف طريقا ، ولا سفك الدم جزافا ، ولا أخذ المال ظلما ، فهذا هو الباغي الذي يصلح بينه وبين من بغى عليه ، على ما في آية البغاة وعلى ما قال عليه السلام من خروج المارقة بين الطائفتين من أمته ، إحداهما باغية ، وهي التي تقتل عمارا ، والأخرى أولى بالحق ، وحمد عليه السلام من أصلح بينهما . كما روينا من طريق البخاري نا صدقة نا ابن عيينة نا أبو موسى عن الحسن سمع أبا بكرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر ، والحسن إلى جنبه ينظر إلى الناس مرة ، وإليه مرة ، ويقول : ابني هذا سيد ، ولعل الله يصلح به بين فئتين من المسلمين. فإن زاد الأمر حتى يخيفوا السبيل ، ويأخذوا مال المسلمين غلبة ، بلا تأويل ، أو يسفكوا دما كذلك ، فهؤلاء محاربون لهم حكم المحاربة ، فإن زاد الأمر حتى يخرقوا الإجماع فهم مرتدون : تغنم أموالهم كلها حينئذ وتخمس وتقسم - وبالله تعالى التوفيق . ولا يحل مال المحارب ، ولا مال الباغي ولا شيء منه ؛ لأنهما وإن ظلما فهما مسلمان - ولا يحل شيء من مال المسلم ، إلا بحق ، وقد يحل دمه ، ولا يحل ماله ، كالزاني المحصن ، والقاتل عمدا - وقد يحل ماله ولا يحل دمه ، كالغاصب ونحو ذلك ، وإنما يتبع النص ، فما أحل الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام من دم أو مال حل ، وما حرما من دم أو مال فهو حرام ، والأصل في ذلك التحريم حتى يأتي إحلال ، لقول رسول الله : إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام. وبالله تعالى التوفيق .

محلى ابن حزم - المجلد السادس/كتاب قتل أهل البغي
كتاب قتل أهل البغي (مسألة 2158) | كتاب قتل أهل البغي (مسألة 2159 - 2160) | كتاب قتل أهل البغي (مسألة 2161 - 2166)