مذكراتي عن الثورة العربية الكبرى/النفير العام


النفير العام

او
الحرب العالمية الاولى ( اول آب ۱۹۱۹)

مما لا شك فيه أن تركيا لم تدخل غمار الحرب العظمی ( في منتصف تشرين الثاني ۱۹۱٤) إلا بوحي من ألمانيا وتأثيرها.

إلا أن ثمة سؤالًا يطلب جوابه. وهو هل ترامت تركيا في أحضان ألمانيا دفعة واحدة من غير أن تصطلح على هذه البادرة عدة عوامل أدت إليها ؟. والواقع أن العلاقات التركية – الألمانية ليست حديثة، وانما ترجع إلى أمد بعيد، أي إلى ما قبل الحرب. فقد كانت تركيا تعلم علم اليقين أن عدوها الحقيقي هو روسيا، وهذا العدو لا يتورع في بذل قصارى الجهد في سبيل القضاء على الكيان العثماني،وبحسبه أنه هو الذي استثار الارمن، وهو الذي يتحين أية فرصة لتحقيق ما ينشده من بسط سلطانه على الدردنيل. وقد أدركت تركيا هذه الحقيقة التي لا تقبل أي جدال، وبخاصة عند إبرام الاتفاق بين روسيا وايطاليا في الرابع والعشرين من تشرين الثاني عام ۱۹۰۹، حيث أطلقت الأولى يد الثانية في الاستيلاء على طرابلس وبرقة كما أطلقت الثانية يد الاولى اذا ما حاولت الاستيلاء على الدردنيل.

فلما أن انقسمت أوروبا قبل الحرب إلى معسكرين، راحت الدولة العثمانية تفكر في أيهما أرجح كفة لصالحها كما تميل اليه و تنضوي وخاصة أنها تحققت من أن الحياد مستحيل.

ولقد تشعبت الآراء في هذه الاثناء واختلفت الاتجاهات، ولكن الأحداث ما لبثت أن رجحت فكرة الانضمام إلى ألمانيا وحلفائها على فكرة الانضمام إلى فرنسة وحلفائها. ونستطيع أن نحدد ذلك ببدء الغزوة الايطالية لطرابلس وبرقة إذ طلبت تركيا من بريطانيا التدخل لتسوية مشكلة الغزوة الايطالية،فما كان من بريطان ياإلاأن أبدت اعتذارها معربة عن عدم استعدادها لمثل هذه المهمة.

وكان جمال باشا معروفًا بصداقته لفرنسة، فسافر إلى باريس قبیل مقتل الأرشيدوق فرنسوا فرديناند، واجتمع هناك إلى وزير الخارجية الفرنسية، وبحث معه الموقف الدولي وهل اذا كانت فرنسا تضمن للدولة العثمانية كيانها اذا ما سارت الى جانبها، وهي ملتزمة الحياد اذا نشبت الحرب، فما كان من الوزير الا أن أجاب : ولا سبيل إلى الجواب قبل استفتاء حليفتنا روسيا في هذا الشأن».

ثم أحاله على مدير الشؤون السياسية في وزارة الخارجية الفرنسية وكان جمال باشا في خلال حديثه مع المدير المذكور يحاول غاية جهده أن يقنعه بانضمام تركيا إلى صفوف فرنسا لقاء مساعدة الحكومة الفرنسية وحلفائها لتركيا كما تنهض من كبوتها وتسترد قوتها بعد الوهن الذي اعتراها من جراءالحرب البلقانية،و تأمن عائلةالمطامع الروسية وكان. في جملة ما قال : «اذا أنتم وقیتمونا عواقب الأخطار التي تهددنا من روسيا ، فاننا نصبح لكم حلفاء أمناء في الشرق . وان جناية سيراجيفو قد تؤدي عامة ، فمن المهم البت في ذلك بسرعة». ولما عاد جمال باشا الى الاستانة ، حمر لإخوانه عما كانت بينه و بين وزير الخارجية الفرنسية ،فكان ذلك من أهم العوامل التي أدت إلى انضمام تركيا إلى ألمانيا. وهكذا عقدت معاهدة تحالف سرية ما بين الدولتين التركية والألمانية في الثاني من آب ۱۹۱۶.

ومن هدا  تبين انه لم يكن سبب اتفاق تركيامع ألمانيا سوى

خشيةالدولةالعثمانية من مطامع روسياالتوسعية،ولاسما نزوعها الدائب الى الاستحواز على الاستانة والدردنيل . ولما وقعت معركة المرن الشهيرة علنت الحقيقة ، وتبدى بما لا يقبل الشك أن مزاعم القواد الان لاقطاب تركيا بأن نصير ألمانيا محقق ، غير صحيح . ومع ذلك فقد بذلت ألمانيا غاية الجهد لحمل تركيا على تنفيذالاتفاقيةالسرية بينهماالتي تقضي عليها بالنزول إلى ميدان الحرب العظمى الى جانها ، أملا بأن تخفف الضغط الموجه اليها في الساحات الغربية . وفي هذا الظرف العصيب ، أي في منتصف شهر تشرين الثاني عام دخلت تر کا غمار الحرب العظمی. وعلى الأثر استقال سلم البستاني الوزير العربي في الوزارة من وزارةالزراعة والتجارة لانه كان من المعارضين في دخول الدولة العثمانية الحرب . وهنا لا بد من التساؤل عما اذا كان خليقا بتركيا أن تدخل الحرب العظمى قبل أن تدرس الموقف درست دقيقة وبخاصة وضع الجيش الألماني ومقدار قوته على مجابهة الأخطار التي تعترضه. ومن البدهي أن دراسة الموقف من افة كان من أو حب الواجبات على تركيا قبل الانزلاق في الحرب ، ولكنها لم تفعل . ولم ترجع عن رأيها سيما بعد أن عاينت توقف الزحف الالماني عقب معركة المارن. نعم كان الجيش الألماني غاية في النظام والاستعداد ، وقوة البأس والشكيمة،إلا أنه كان يعوزه التحرر من سلطة غليوم الثاني المستبد رأيه والذي طالما تدخل في شؤون الجيش تدخلا مباشرة دون أن بادع للقواد القديرين الخبراء رأيهم وحريتهم في العمل،فأفسد بذلك على الدولة قوة جيشها وفوت عليها ظفرها . ومن الممكن اتخاذ صورة واضحة عن استبداد الامبراطور الألماني ،بل غطرسته التي بلغت غايتها من الغرور ، من تصريحه عقب معارضة أقطاب ألمانيا العسكريين في تعيين « مولتکه الصغير»، رئيسا الأركان حرب الجيش الألماني ،إذ قال في تأبهه المعروف : «وأنا الرئيس الأركان حرب الجيش في الحرب ، أما في السي فسي الأسم)» وان مثل هذا القول يصدر عن رجل مغرور بنفسه ، لا شك في أنه يشل يد القواد الخبيرين ويصرفهم عن حمل عبء مقاليد الأمور الحليلة ؛ ثم هوبالتالي يعقب أسوأ العواقب .وقد جزم الخبراء العسكريون في أن غرور الامبراطور و استبداده برأيه ما علة العلل في عدم نجاح ألمانيا بتوجيه الضربةالقاصمة الحاسمة إلى فرنسا واحتلال باريس أسرع ما يكون . تلك حقيقةوضع الجيش الألماني . فكان على تركيا ألا تخفي عليها هذه الحقيقة بعد الدراسة الواسعة العميقة. وكان عليها كدلك أن لا تزج بنفسها في الحرب العظمی قبل سبر غور قوتها وقوة حليفتها نعم ان الجيش التركي كان قد بلغ درجة حسنة من حيث القوة والتنظيم بفضل الجهودالعظمى التي بذلهاأنور باشا وزملاؤه في انقاذهذاالجيش من استبداد السلطان عبد الحميد هذا الاستبداد الذي امتد زهاء ثلاثين عاماوالذي أصبحت الدولة العثمانية بسببه صورة كالحة للتأخر والاضطراب ؛ ثم ما تلا ذلك من انقسام في الرأي ، لتدخل الجيش بالشؤون السياسية بعد ثورة الجيش في مكدونيا ودخوله استانبول واعلان الدستورالعثماني عام ۱۹۰۸ ثم خلعه عبد الحميد حيث أدى هذا التدخل الى خسارة تركياالحرب البلقانية،وولاياتهاالأوروبية؛ولكن البدء بتقوية وتنظم هذا الجيش يجب ألا يؤخذ مقياسا وحده دون أن تعار أوضاع الجيوش الاخرى الاهمية اللازمة سواء أكانت هذه الجيوش محالفة أو معادية.وهكذا أفضى تدخل الامبراطور غليوم الثاني ، ذلك الرجل الاناني المستبد برأيه ، بشؤون الجيش إلى ضياع ألمانيا ؛ كما أن وجود رجل نظير أنور باشا عرف بالحزم وقوة الشكيمة على رأس الجيش التركي ادى الى انقاذ هذا الجيش من وباء الفوضى والاضطراب ، إلا أن رعونة انور وزملائه الاتحاديين و عدم تبصره في الأمور كانت اكبر عامل في دخول تركيا الحرب وضياع الامبراطورية العثمانية .