مستخدم:Obayd/القواعد النوارنية

القواعد النورانية الفقهية

ابن تيمية القواعد النورانية الفقهية

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه ثقتي وهو حسبي ونعم الوكيل

قال الشيخ الإمام العالم العامل القدوة رباني الأمة ومحيي السنة العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني قدس الله روحه ونور ضريحه

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد خاتم المرسلين وإمام المهتدين وعلى آله أجمعين

فصل

عدل

أما العبادات فأعظمها الصلاة والناس آما أن يبتدئوا مسائلها بالطهور لقوله مفتاح الصلاة الطهور كما رتبه أكثرهم وأما بالمواقيت التي تجب بها الصلاة كما فعله مالك وغيره

فأما الطهارة والنجاسة فنوعان من الحلال والحرام في اللباس ونحوه تابعان للحلال والحرام في الأطعمة والأشربة

ومذهب أهل الحديث في هذا الأصل العظيم الجامع وسط بين مذهب العراقيين والحجازيين فإن أهل المدينة مالكا وغيره يحرمون من الأشربة كل مسكر كما صحت بذلك النصوص عن النبي من وجوه متعددة وليسوا في الأطعمة كذلك بل الغالب عليهم فيها عدم التحريم

)هذا حرام وقال في وقت آخر فيه أو في مثله إنه ليس بحرام أو قال ما يستلزم أنه ليس بحرام فقد تناقض قولاه وهو مصيب في كليهما عند من يقول كل مجتهد مصيب وأنه ليس لله في الباطن حكم على المجتهد غير ما اعتقده (

وأما الجمهور الذين يقولون إن الله حكما في الباطن علمه في إحدى المقالتين ولم يعلمه في المقالة التي تناقضها وعدم علمه به مع اجتهاد مغفور له مع ما يثاب عليه من قصده للحق واجتهاد في طلبه ولهذا يشبه بعضهم تعارض الاجتهاد ن العلماء بالناسخ والمنسوخ في شرائع الأنبياء مع الفرق بينهما بأن كل واحد من الناسخ والمنسوج ثابت بخطاب حكم الله باطنا وظاهرا بخلاف أحد قولي العالم المتناقضين

هذا فيمن يتقي الله فيما يقوله مع علمه بتقواه وسلوكه الطريق الراشد

وأما أهل الأهواء والخصومات فهم مع علمه بتقواه وسلوكه الطريق الراشد

وأما أهل الأهواء والخصومات فهم مذمومون في مناقضتهم لأنهم يتكلمون بغير علم ولا حسن قصد لما يجب قصده

وعلى هذا فلازم قول الإنسان نوعان

أحدهما لازم قوله الحق فهذا مما يجب عليه أن يلتزمه فإن لازم الحق حق ويجوز أن يضاف إليه إذا علم من حاله أنه لا يمتنع من التزامه بعد ظهوره وكثير ما يضيفه الناس إلى مذهب الأئمة من هذا الباب

والثاني لازم قوله الذي ليس بحق فهذا لا يجب التزامه إذا أكثر ما فيه أنه قد تناقض وقد بينت أن التناقض واقع من كل عالم غير النبيين ثم إن عرف من حاله أنه يلتزمه بعد ظهوره له فقد يضاف إليه وإلا فلا يجوز أن يضاف إليه قول لو ظهر له فساده لم يلتزمه لكونه قد قال ما يلزمه وهو لم يشعر بفساد ذلك القول ولا يلزمه

هذا التفصيل في اختلاف الناس في لازم المذهب هل هو مذهب أو ليس بمذهب هو أجود من إطلاق أحدهما فما كان من اللوازم يرضاه القائل

يبلغ الهدى محله فراجعه بعضهم في ذلك فغضب وقال أنظروا ما أمرتكم به فافعلوه وكان هو قد ساق الهدى فلم يحل من إحرامه ولما رأى كراهة بعضهم للإحلال قال لو استقبلت من أمري مااستدبرت لما سقت الهدى ولجعلتها عمرة ولولا أن معي الهدى لأحللت وقال أيضا إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر فحل المسلمون جميعهم إلا النفر الذين ساقوا الهدى منهم رسول الله وعلى بن أبي طالب وطلحة بن عبيد الله فلما كان يوم التروية احرم المحلون بالحج وهم ذاهبون إلى منى فبات بهم تلك الليلة بمنى وصلى بهم فيها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ثم سار بهم إلى نمرة على طريق ضب ونمرة خارجة عن عرنة من يمانيها وغربيها ليست من الحرم ولا من عرفة فنصبت له القبة بنمرة وهناك كان ينزل خلفاؤه الراشدون بعده وبها الأسواق وقضاء الحاجة والأكل ونحو ذلك فلما زالت الشمس ركب وهو ومن ركب معه وسار المسلمون إلى المصلى ببطن عرنة حيث قد بنى المسجد وليس هو من الحرم ولا من عرفة وإنما هو برزخ بين المشعرين الحلال والحرام هناك بينه وبين الموقف نحو ميل فخطب بهم خطبة الحج على راحلته وكان يوم الجمعة ثم نزل فصلى بهم الظهر والعصر مقصورتين مجموعتين ثم سار والمسلمون معه إلى الموقف بعرفة عند الجبل المعروف بجبل الرحمة واسمه إلال على وزن هلال وهو الذي تسميه العامة عرفة فلم يزل هو والمسلمون في الذكر والدعاء إلى أن غربت الشمس فدفع بهم إلى مزدلفة فصلى المغرب والعشاء بعد مغيب الشفق قبل حط الرحال حيث نزلوا بمزدلفة وبات بها حتى طلع الفجر فصلى بالمسلمين الفجر في أول وقتها مغلسا بها زيادة على كل يوم ثم وقف عند قزح وهو جبل مزدلفة الذي يسمى المشعر الحرام وإن كانت مزدلفة كلها هي المشعر الحرام المذكور في القرآن فلم يزل واقفا بالمسلمين إلى أن أسفر جدا ثم دفع بهم حتى قدم منى فاستفتحها برمى جمرة العقبة ثم رجع

عن النبي ويطيلون السجود فيها كما صح عن النبي ويجهرون فيها بالقراءة كما ثبت في الصحيح عن النبي وكذلك الاستسقاء يجوزون الخروج إلى الصحراء لصلاة الاستسقاء والدعاء كما ثبت ذلك عن النبي ويجوزون الخروج والدعاء بلا صلاة كما فعله عمر رضى الله عنه بمحضر من الصحابة ويجوزون الاستسقاء بالدعاء تبعا للصلوات الراتبة كخطبة الجمعة ونحوها كما فعله النبي

وكذلك الجنازة فإن اختيارهم أنه يكبر عليها أربعا كما ثبت عن النبي وأصحابه أنهم كانوا يفعلونه غالبا ويجوز على المشهور عند احمد التخميس في التكبير ومتابعة الإمام في ذلك لما ثبت عن النبي أنه كبر خمسا وفعله غير واحد من الصحابة مثل على بن أبي طالب وغيره ويجوز أيضا على الصحيح عنده التسبيع ومتابعة الإمام فيه لما ثبت عن الصحابة أنهم كانوا يكبرون أحيانا سبعا بعد موت النبي ولما في ذلك من الرواية عن النبي

فصل

عدل

الأصل الثاني الزكاة

وهم أيضا متبعون فيها لسنة النبي وخلفائه آخذين بأوسط الأقوال الثلاثة أو بأحسنها في السائمة فاخذوا في أوقاص الإبل بكتاب الصديق رضى الله عنه ومتابعيه المتضمن أن في الإبل الكثيرة في أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة لأنه آخر الأمرين من رسول الله بخلاف الكتاب الذي فيه استئناف الفريضة بعد مائة وعشرين فإنه متقدم على هذا لأن استعمال عمرو بن حزم على نجران كان قبل موته بمدة وأما كتاب الصديق فإنه كتبه ولم يخرجه إلى العمال حتى أخرجه أبو بكر

وتوسطوا في المعشرات بين أهل الحجاز وأهل العراق فإن أهل العراق كأبي حنيفة يوجبون العشر في كل ما أخرجت الأرض إلا القصب ونحوه في القليل والكثير منه بناء على أن العشر حق الأرض كالخراج ولهذا لا يجمعون بين العشر والخراج وأهل الحجاز لا يوجبون العشر إلا في النصاب المقدر بخمسة أوسق ووافقهم عليه أبو يوسف ومحمد ولا يوجبون من الثمار إلا في التمر والزبيب وفي الزروع في الأقوات ولا يوجبون في عسل ولا غيره والشافعي على مذهب أهل الحجاز

وأما أحمد وغيره من فقهاء الحديث فيوافقون في النصاب قول أهل الحجاز لصحة السنن عن النبي بأنه ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ولا يوجبون الزكاة في الخضراوات لما في الترك من عمل النبي وخلفائه والأثر عنه لكن يوجبها في الحبوب والثمار التي تدخر وإن لم تكن تمرا أو زبيبا كالفستق والبندق جعلا للبقاء في المعشرات بمنزلة الحول في الماشية والجرين فيفرق بين الخضراوات وبين المدخرات وقد يلحق بالموسق الموزونات كالقطن على إحدى الروايتين لما في ذلك من الآثار عن الصحابة رضى الله عنهم

ويوجبها في العسل لما فيه من الآثار التي جمعها هو وإن كان غيره لم تبلغه إلا من طريق ضعيفة وتسوية بين جنس ما أنزله الله من السماء وما أخرجه من الأرض

ويجمعون بين العشر والخراج لأن العشر حق الزرع والخراج حق الأرض وصاحبا أبي حنيفة قولمها هو قول أحمد أو قريب منه

وأما مقدار الصاع والمد ففيه ثلاثة أقوال

أحدها أن الصاع خمسة أرطال وثلث والمد ربعه وهذا قول أهل الحجاز في الأطعمة والمياه وقصة مالك مع أبي يوسف فيه مشهورة وهو قول الشافعي وكثير من أصحاب أحمد أو أكثرهم

والثاني أنه ثمانية أرطال والمد ربعه وهو قول أهل العراق في الجميع

والقول الثالث أن صاع الطعام خمسة أرطال وثلث وصاع الطهارة ثمانية أرطال كما جاء بكل واحد منهما الأثر فصاع الزكوات والكفارات وصدقة الفطر هو ثلثا صاع الغسل والوضوء وهذا قول طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم ممن جمع بين الأخبار المأثورة في هذا الباب لمن تأمل الأخبار الواردة في ذلك

ومن أصولها أن أبا حنيفة أوسع في إيجابها من غيره فإنه يوجب في الخيل السائمة المشتملة على الآثار ويوجبها في كل خارج من الأرض ويوجبها في جميع أنواع الذهب والفضة من الحلى المباح وغيره ويجعل الركاز المعدن وغيره فيوجب فيه الخمس لكنه لا يوجب ما سوى صدقة الفطر والعشر إلا على مكلف ويجوز الاحتيال لإسقاطها واختلف أصحابه هل هو مكروه أم لا فكرهه محمد ولم يكرهه أبو يوسف وأما مالك والشافعي فاتفقا على أنه لا يشترط لها التكليف بما في ذلك من الآثار الكثيرة عن الصحابة

ولم يوجبها في الخيل ولا في الحلى المباح ولا في الخارج إلا ما تقدم ذكره وحرم مالك الاحتيال لإسقاطها وأوجبها مع الحيلة وكره الشافعي الحيلة في اسقاطها

وأما أحمد فهو في الوجوب بين أبي حنيفة ومالك كما تقدم في المعشرات وهو يوجبها في مال المكلف وغير المكلف

واختلف قوله في الحلى المباح وإن كان المنصور عند أصحابه أنه لا يجب وقوله في الاحتيال كقول مالك يحرم الاحتيال لسقوطها ويوجبها مع الحيلة كما دلت عليه سورة نون وغيرها من الدلائل

والأئمة الأربعة وسائر الأمة إلا من شذ متفقون على وجوبها في عرض التجارة سواء كان التاجر مقيما أو مسافرا وسواء كان متربصا وهو الذي يشتري التجارة وقت رخصها ويدخرها إلى وقت ارتفاع السعر أو مدبرا كالتجار الذين في الحوانيت سواء كانت التجارة بزا من جديد أو لبس أو طعاما من قوت أو فاكهه أو أدم أو غير ذلك أو كانت آنية كالفخار ونحوه أو حيوانا من رقيق أو خيلا أو بغالا أو حميرا أو غنما معلوفة أو غير ذلك فالتجارات هي أغلب أموال أهل الأمصار الباطنة كما أن الحيوانات الماشية هى أغلب الأموال الظاهرة

فصل

عدل

ولا بد في الزكاة من الملك

واختلفوا في اليد فلهم في زكاة ما ليس في اليد كالدين ثلاثة أقوال

أحدها أنها تجب في كل دين وكل عين وإن لم تكن تحت يد صاحبها كالمنصوب والضال والدين المجحود وعلى معسر أو مماطل وانه يجب تعجيل الإخراج مما يمكن قبضه كالدين على الموسر وهذا أحد قولى الشافعي وهو أقواهما

فصل

عدل

والناس في إخراج القيم في الزكاة ثلاثة أقوال

أحدها أنه يجزئ بكل حال كما قاله أبو حنيفة

والثاني لا يجزئ بحال كما قاله الشافعي

والثالث أنه لا يجزئ إلا عند الحاجة مثل من يجب عليه شاة في الإبل وليست عنده ومثل من يبيع عنبه ورطبه قبل اليبس

وهذا هو المنصوص عن أحمد صريحا فإنه منع من إخراج القيم وجوزه في مواضع للحاجة لكن من أصحابه من نقل عنه جوازه فجعلوا عنه في إخراج القيمة روايتين واختاروا المنع لأنه المشهور عنه كقول الشافعي وهذا القول أعدل الأقوال كما ذكرنا مثله في الصلاة فإن الأدلة الموجبة للعين نصا وقياسا كسائر أدلة الوجوب ومعلوم أن مصلحة وجوب العين قد يعارضها أحيانا في القيمة من المصلحة الراجحة وفي العين من المشقة المنتفية شرعا

فصل

عدل

وأما الأفصل الثالث فالصيام

وقد اختلفوا في تبييت نيته على ثلاثة أقوال

فقالت طائفة منهم أبو حنيفة أنه يجزئ كل صوم فرضا كان أو نفلا بنية قبل الزوال كما دل عليه حديث عاشوراء وحديث النبي لما دخل على عائشة فلم يجد طعاما فقال إني إذا صائم

وبإزائها طائفة أخرى منهم مالك قالت لا يجزئ الصوم إلا مبيتا من الليل فرضا كان أو نفلا على ظاهر حديث حفصة وابن عمر الذي يروي مرفوعا وموقوفا لا صيام لمن يبيت الصيام من الليل

وأما القول الثالث فالفرض لا يجزئ إلا بتبييت النية كما دل عليه حديث حفصة وابن عمر لأن جميع الزمان يجب فيه الصوم والنية لا تنعطف على الماضي وأما النفل فيجزئ بنية من النهار كما دل عليه قوله إني إذا صائم كما أن الصلاة المكتوبة يجب فيها من الأركان كالقيام والاستقرار على الأرض ما لا يجب في التطوع توسيعا من الله على عباده في طرق التطوع فإن أنواع التطوعات دائما أوسع من أنواع المفروضات وصومهم يوم عاشوراء إن كان واجبا فإنما وجب عليهم من النهار لأنهم لم يعلموا قبل ذلك وما رواه بعض الخلافيين المتأخرين أن ذلك كان في رمضان فباطل لا اصل له

وهذا أوسط الأقوال وهو قول الشافعي وأحمد واختلف قولهما هل يجزئ التطوع بنية بعد الزوال والأظهر صحته كما نقل عن الصحابة

فصل

عدل

وأما القراءة خلف الإمام

فالناس فيها طرفان ووسط منهم من يكره القراءة خلف الإمام حتى يبلغ بها بعضهم إلى التحريم سواء في ذلك صلاة السر والجهر وهذا هو الغالب على أهل الكوفة ومن اتبعهم كأصحاب أبي حنيفة ومنهم من يؤكد القراءة خلف الإمام حتى يوجب قراءة الفاتحة وإن سمع الإمام يقرأ وهذا هو الجديد من قولى الشافعي وقول طائفة معه ومنهم من يأمر بالقراءة في صلاة السر وفي حال سكتات الإمام في صلاته الجهرية وللبعيد الذي لا يسمع الإمام وأما للقريب الذي يسمع قراءة الإمام فيأمرونه بالإنصات لقراءة إمامه إقامة للاستماع مقام التلاوة وهذا قول الجمهور كمالك وأحمد وغيرهم من فقهاء الأمصار وفقهاء الآثار وعليه يدل عمل أكثر الصحابة وتتفق عليه أكثر الأحاديث

وهذا الاختلاف شبيه باختلافهم في صلاة المأموم هل هي مبنية على صلاة الإمام أم كل واحد منهما يصلى لنفسه كما تقدم التنبيه عليه فأصل أبي حنيفة أنها داخلة فيها ومبنية عليها مطلقا حتى إنه يوجب الإعادة على المأموم حيث وجبت الإعادة على الإمام

وأصل الشافعي أن كل رجل يصلى لنفسه لا يقوم مقامة لا في فرض ولا سنة ولهذا أمر المأموم بالتسميع وأوجب عليه القراءة ولم يبطل صلاته بنقص صلاة الإمام إلا في مواضع مستثناة كتحمل الإمام عن المأموم سجود السهو وتحمل القراءة إذا كان المأموم مسبوقا وإبطال صلاة القارئ خلف الأمي ونحو ذلك

وأما مالك وأحمد فإنها عندهما مبنية عليها من وجه دون وجه كما ذكرنا من الاستماع للقراءة في حال الجهر والمشاركة في حال المخافتة ولا يقول المأموم عندها سمع الله لمن حمده بل يحمد جوابا لتسميع الإمام كما دلت عليه

قلت لعمر بن عبد العزيز ما منعك أن تتم التكبير وهذا عاملك عبد العزيز يتمه فقال تلك صلاة الأول وأبى أن يقبل مني

قلت وإنما خفي على عمر بن عبد العزيز وعلى هؤلاء الجهر بالتكبير كما خفي ذلك على طوائف من أهل زماننا وقبله ما ذكره أبي شيبة أخبرنا جرير عن منصور عن إبراهيم قال أول من نقص التكبير زياد

قلت زياد كان أميرا في زمن عمر فيمكن أن يكون ذلك صحيحا ويكون زياد قد سن ذلك حين تركه غيره وروى عن الأسود بن يزيد عن أبي موسى الأشعري قال لقد ذكرنا علي صلاة كنا نصليها مع رسول الله إما نسيناها وإما تركناها عمدا وكان يكبر كلما رفع وكلما وضع وكلما سجد

ومعلوم أن الأمراء بالعراق الذين شاهدوا ما عليه أمراء البلد وهم أئمة ولم يبلغهم خلاف ذلك عن رسول الله رأوا من شاهدوهم من أهل العلم والدين لا يعرفون غير ذلك فظنوا أن ذلك هو من أصل السنة وحصل بذلك نقصان في وقت الصلاة وفعلها فاعتقدوا أن تأخير الصلاة أفضل من تقديمها كما كان الأئمة يفعلون ذلك وكذلك عدم إتمام التكبير وغير ذلك من الأمور الناقصة عما كان عليه رسول الله حتى كان ابن مسعود يتأول في بعض الأمراء الذين كانوا على عهده أنهم من الخلف الذين قال الله تعالى فيهم فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا فكان يقول كيف بكم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير ويهرم فيها الكبير إذا ترك فيها شيء قيل تركت السنة فقيل متى ذلك يا أبا عبد الرحمن فقال ذلك إذا ذهب علماؤكم وقلت فقهاؤكم والتمست الدنيا بعمل الآخرة وتفقه لغير الدين وكان عبد الله بن مسعود يقول أيضا أنا من غير الدجال أخوف عليكم من الدجال أمور تكون من كبرائكم

بإقامة الصلاة وذم المصلين الساهين عنها المضيعين لها فقال تعالى في غير موضع وأقيموا الصلاة وإقامتها تتضمن إتمامها بحسب الإمكان كما سيأتي في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال أقيموا الركوع والسجود فإني أراكم من بعد ظهري وفي رواية أتموا الركوع والسجود وسيأتي تقرير دلالة ذلك

والدليل على ذلك من القرآن أنه سبحانه وتعالى قال وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا فأباح الله القصر من عددها والقصر من صفتها ولهذا علقه بشرطين السفر والخوف فالسفر يبيح قصر العدد فقط كما قال النبي إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة ولهذا كانت سنة رسول الله المتواترة التي اتفقت الأمة على نقلها عنه أنه كان يصلي الرباعية في السفر ركعتين ولم يصلها في السفر أربعا قط ولا أبو بكر ولا عمر رضي الله عنهما لا في الحج ولا في العمرة ولا في الجهاد والخوف يبيح قصر صفتها كما قال الله تعالى في تمام الكلام وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم فذكر صلاة الخوف وهي صلاة ذات الرقاع إذ كان العدو في جهة القبلة وكان فيها أنهم كانوا يصلون خلفه فإذا قام إلى الثانية فارقوه وأتموا لأنفسهم الركعة الثانية ثم ذهبوا إلى مصاف أصحابهم كما قال فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم فجعل السجود لهم خاصة فعلم أنهم يفعلونه منفردين ثم قال ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك فعلم أنهم يفعلونه

وفي هذه الصلاة تفريق المأمومين ومفارقة الأولين للإمام وقيام الآخرين قبل سلام الإمام ويتمون لأنفسهم ركعة ثم قال تعالى 4 : 103 فإذا السبب وكذلك كان عمر رضى الله عنه إذا أبطأ خبر عليه جيوش السلمين قنت وكذلك على رضى الله عنه قنت لما حارب من حارب من الخوارج وغيرهم

قالوا وليس الترك نسخا فإن الناسخ لا بد أن ينافي المنسوخ وإذا فعل الرسول ص - أمرا لحاجة ثم تركه لزالها لم يكن ذلك نسخا بل لو تركه تركا مطلقا لكان ذلك يدل على جواز الفعل والترك لا على النهي عن الفعل

قالوا ونعلم قطعا أنه لم يكن يقنت قنوتا راتبا فإن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله فإنه لم ينقل أحد من الصحابة قط أنه دعا في قنوته في الفجر ونحوها إلا لقوم أو على قوم ولا نقل أحد منهم قط أنه قنت دائما بعد الركوع ولا أنه قنت دائما يدعو قبله وأنكر غير واحد من الصحابة القنوت الراتب فإذا علم هذا علم قطعا أن ذلك لم يكن كما يعلم أن حى على خير العمل لم يكن من الأذان الراتب وإنما فعله بعض الصحابة لعارض تحضيضا للناس على الصلاة

فهذا القول أوسط الأقوال وهو أن القنوت مشروع غير منسوخ لكنه مشروع للحاجة النازلة لا سنة راتبة

وهذا أصل آخر في الواجبات والمستحبات كالأصل الذي تقدم فيما يسقط بالعذر فإن كل واحد من الواجبات والمستحبات الراتبة يسقط بالعذر العارض بحيث لا يبقى لا واجبا ولا مستحبا كما سقط بالسفر والمرض والخوف كثير من الواجبات والمستحبات وكذلك أيضا قد يجب أو يستحب للأسباب العارضة مالا يكون واجبا ولا مستحبا راتبا

فالعبادات في ثبوتها وسقوطها تنقسم إلى راتبة وعارضة وسواء في ذلك ثبوت الوجوب أو الاستحباب أو سقوطه وإنما تغلط الأذهان من حيث تجعل العارض راتبا أو تجعل الراتب لا يتغير بحال ومن اهتدى للفرق بين المشروعات الراتبة والعارضة انحلت عنه هذه المشكلات انحلالا كثيرا إلى منزله بمنى فحلق رأسه ثم نحر ثلاثا وستين بدنه من الهدى الذي ساقه وأمر عليا فنحر الباقي وكان مائة بدنة ثم أفاض إلى مكة فطاف طواف الإفاضة وكان قد عجل ضعفة أهل بيته من مزدلفة قبل طلوع الفجر فرموا الجمرة بليل ثم أقام بالمسلمين أيام منى الثلاث يصلى بهم الصلوات الخمس مقصورة غير مجموعة يرمي كل يوم الجمرات الثلاث بعد زوال الشمس يفتتح بالجمرة الأولى وهى الصغرى وهى الدنيا إلى منى والقصوى من مكة ويختم بجمرة العقبة ويقف بين الجمرتين الأولى والثانية وبين الثانية والثالثة وقوفا طويلا بقدر سورة البقرة يذكر الله ويدعو فإن المواقف ثلاث عرفة ومزدلفة ومنى ثم أفاض آخر أيام التشريق بعد رمى الجمرات هو والمسلمون فنزل بالمحصب عند خيف بنى كنانة فبات هو والمسلمون فيه ليلة الأربعاء وبعث تلك الليلة عائشة مع أخيها عبد الرحمن لتعتمر من التنعيم وهو أقرب أطراف الحرم إلى مكة من طريق أهل المدينة وقد بنى بعده هناك مسجد سماه الناس مسجد عائشة لأنه لم يعتمر بعد الحج مع النبي من أصحابه أحد قط إلا عائشة لأجل أنها كانت قد حاضت لما قدمت وكانت معتمرة فلم تطف قبل الوقوف بالبيت ولا بين الصفا والمروة وقال لها النبي اقضي ما يقضي الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت ولا بين الصفا والمروة ثم ودع البيت هو والمسلمون ورجعوا إلى المدينة ولم يقم بعد أيام التشريق ولا اعتمر أحد قط على عهده عمرة يخرج فيها من الحرام إلى الحل إلا عائشة وحدها

فأخذ فقهاء الحديث كأحمد وغيره بسنته في ذلك كله وإن كان منهم ومن غيرهم من قد يخالف بعض ذلك بتأويل تخفى عليه فيه السنة

فمن ذلك أنهم استحبوا للمسلمين أن يحجوا كما أمر النبي أصحابه ولما اتفقت جميع الروايات على أنه أمر أصحابه بأن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها متعة استحبوا المتعة لمن جمع بين النسكين في سف واحدة وأحرم في أشهر الحج

كما أمر به النبي وعلموا أن من أفرد الحج واعتمر عقبه من الحل وإن قالوا إنه جائز فإنه لم يفعله أحد على عهد رسول الله إلا عائشة على قول من يقول إنها رفضت العمرة وأحرمت بالحج كما يقول الكوفيون وأما على قول أكثر الفقهاء أنها صارت قارنة فلا عائشة ولا غيرها فعل ذلك

وكذلك علموا أن من لم يسق الهدى وقرن بين النسكين لا يفعله وإن قال أكثرهم كأحمد وغيره إنه جائز فإنه لم يفعله أحد على عهد النبي إلا عائشة على قول من قال إنها كانت قارنة

ولم يختلف أئمة الحديث فقهاء وعلماء كأحمد وغيره أن النبي نفسه لم يكن مفردا للحج ولا كان متمتعا تمتعا حل به من إحرامه ومن قال من أصحاب أحمد إنه تمتع وحل من إحرامه فقد غلط وكذلك من قال إنه لم يعتمر في حجته فقد غلط

وأما من توهم من بعض الفقهاء أنه اعتمر بعد حجته كما يفعله المختارون للأفراد إذا جمعوا بين النسكين فهذا لم يروه أحد ولم يقله أحد أصلا من العالمين بحجته فأنه لا خلاف بينهم أنه لا هو ولا أحد من أصحابه اعتمر بعد الحج إلا عائشة ولهذا لا يعرف موضع الإحرام بالعمرة إلا بمساجد عائشة حيث لم يخرج أحد من الحرم إلى الحل فيحرم بالعمرة إلا هى ولا كان أيضا قارنا قرانا طاف فيه طوافين وسعى سعيين فإن الروايات الصحيحة كلها تصرح بأنه إنما طاف بالبيت وبين الصفا والمروة قبل التعريف مرة واحدة

فمن قال من أصحاب أبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد شيئا من هذه المقالات فقد غلط

وسبب غلطه ألفاظ مشتركة سمعها في ألفاظ الصحابة الناقلين لحجة النبي فإنه قد ثبت في الصحاح عن غير واحد منهم عائشة وابن عمر وغيرهما أنه تمتع بالعمرة إلى الحج وثبت أيضا عنهم أنه أفرد الحج وعامة الذين نقل عنهم أنه أفرد الحج ثبت عنهم أنهم قالوا إنه تمتع بالعمرة إلى الحج وثبت عن أنس ابن مالك أنه قال سمعت رسول الله يقول لبيك عمرة وحجا وعن عمر أنه اخبر عن النبي أنه قال أتاني آت من ربي يعني بوادي العقيق وقال قل عمرة في حجة ولم يحك أحد لفظ النبي الذي أحرم به إلا عمر وأنس

فلهذا قال الإمام أحمد لا أشك أن النبي كان قارنا وأما ألفاظ الصحابة فإن التمتع بالعمرة إلى الحج اسم لكل من اعتمر في أشهر الحج وحج من عامه سواء جمع بينهما بإحرام واحد أو تحلل من إحرامه فهذا التمتع العام يدخل فيه القرآن ولذلك وجب عليه الهدى عند عامة الفقهاء إدخالا له في عموم قوله تعالى فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى وإن كان اسم التمتع قد يختص بمن اعتمر ثم أحرم بالحج بعد قضاء عمرته فمن قال منهم تمتع بالعمرة إلى الحج لم يرد أنه حل من إحرامه ولكن أراد أنه جمع في حجته بين النسكين معتمرا في أشهر الحج لكن لم يبين هل أحرم بالعمرة قبل الطواف بالبيت وبالجبلين أو أحرم بالحج بعد ذلك فإن كان قد أحرم قبل الطوافين فهو قارن بلا تردد وإن كان إنما أهل بالحج بعد الطواف بالبيت وبالجبلين وهو لم يكن حل من إحرامه فهذا يسمى متمتعا لأنه اعتمر قبل الإهلال بالحج ويسمى قارنا لأنه أحرم بالحج قبل إحلاله من العمرة ولهذا يسميه بعض أصحابنا متمتعا ويسميه بعضهم قارنا ويسميه بعضهم بالإسمين وهو الأصوب وهذا التمتع الخاص فأما التمتع العام فيشمله بلا تردد

ومع هذا فالصواب ما قطع به أحمد من أنه أحرم بالحج قبل الطواف لقوله لبيك عمرة وحجا ولو كان من حين يحرم بالعمرة مع قوله سبحانه فصيام ثلاثة أيام في الحج لأن العمرة دخلت في الحج كما قاله النبي

وإذا كانت عمرة التمتع جزءا من حجه فالهدى المسوق لا ينحر حتى يقضي التفث كما قال تعالى ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذرهم وذلك إشارة إلى الهدي المسوق فإنه نذر ولهذا لو عطب دون محله وجب نحره لأن نحره إنما يكوه عند بلوغه محله وإنما يبلغ محله إذا بلغ صاحبه محله لأنه تبع له وإنما يبلغ صاحبه محله يوم النحر إذ قبل ذلك لا يحل مطلقا لأنه يجب عليه أن يحج بخلاف من اعتمر عمرة مفردة فإنه حل حلا مطلقا

وأما ما تضمنته سنة رسول الله من المقام بمنى يوم التروية والمبيت بها الليلة التي قبل يوم عرفة ثم المقام بعرنه التي بين المشعر الحرام وعرفة إلى الزوال والذهاب منها إلى عرفة والخطبة والصلاتين في أثناء الطريق ببطن عرنه فهذا كالجمع عليه بين الفقهاء وإن كان كثير من المصنفين لا يميزه وأكثر الناس لا يعرفه لغلبة العادات المحدثة

ومن سنة رسول الله أنه جمع بالمسلمين جميعهم بعرفة بين الظهر والعصر وبمزدلفة بين المغرب والعشاء وكان معه خلق كثير ممن منزله دون مسافة القصر من أهل مكة وما حولها ولم يأمر حاضري المسجد الحرام بتفريق كل صلاة في وقتها ولا أن يعتزل المكيون ونحوهم فلم يصلوا معه العصر وأن ينفردا فيصلوها في أثناء الوقت دون سائر المسلمين فإن هذا مما يعلم بالاضطرار لمن تتبع الأحاديث أنه لم يكن وهو قول مالك وطائفة من أصحاب الشافعي وأحمد وعليه يدل كلام أحمد

وإنما غفل قوم من أصحاب الشافعي وأحمد عن هذا فطردوا قياسهم في إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة والسنن في حديث بروع بنت واشق وإجماع العلماء على جواز عقد النكاح بدون فرض الصداق وتستحق مهر المثل إذا دخل بها بإجماعهم وإذا مات عند فقهاء الحديث وأهل الكوفة المتبعين لحديث بروع بنت واشق وهو أحد قولي الشافعي وهو معلوم أن مهر المثل متقارب لا محدود فلو كان التحديد معتبرا في المهر ما جاز النكاح بدونه كما رواه أحمد في المسند عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي نهى عن استئجار الأجير حتى يبين له أجره وعن بيع اللمس والنجس وإلقاء الحجر فمضت الشريعة بجواز النكاح قبل فرض المهر وأن الإجارة لا تجوز إلا مع تبيين الأجر فدل على الفرق بينهما

وسببه أن المعقود عليه في النكاح وهو منافع البضع غير محدودة بل المرجع فيها إلى العرف فلذلك عوضه الآخر لأن المهر ليس هو المقصود وإنما هو نحلة تابعة فأشبه الثمر التابع للشجر في البيع قبل بدو صلاحه ولذلك لما قدم وفد هوازن على النبي وخيرهم بين السبي وبين المال فاختاروا السبي قال لهم إني قائم فخاطب الناس فقولوا إنا نستشفع برسول الله على المسلمين ونستشفع بالمسلمين على رسول الله وقام فخطب الناس فقال إني قد رددت على هؤلاء سبيهم فمن شاء طيب ذلك ومن شاء فإنا نعطيه عن كل رأس عشر قلائص من أول ما يفيء الله علينا فهذا معاوضة عن الإعتاق كعوض الكتابة بإبل مطلقة في الذمة إلى أجل متقارب غير محدود وقد روى البخاري عن ابن عمر في حديث خيبر أن النبي قاتلهم حتى ألجأهم إلى قصرهم وغلبهم على الأرض والزرع والنخل فصالحوه على أن يجلو منها ولهم ما حملت ركابهم ولرسول الله الصفراء والبيضاء والحلقة وهي السلاح ويخرجون منها واشترط عليهم أن لا يكتبوا ولا يغيبوا شيئا فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد فهذا مصالحة على مال متميز غير معلوم

الإمساك لكن وأكثر نصوص أحمد تدل على هذا القول وأنه كان يستحب صومه ويفعله لا أنه يوجبه وإنما أخذ في ذلك بما نقله عن الصحابة في مسائل ابنه عبد الله والفضل بن زياد القطان وغيرهم أخذ بما نقله عن عبد الله بن عمر ونحوه والمنقول عنهم أنهم كانوا يصومون في حال الغيم لا يوجبون الصوم وكان غالب الناس لا يصومون ولم ينكروا عليهم الترك

وإنما لم يستحب الصوم في الصحو بل نهى عنه لأن الأصل والظاهر عدم الهلال فصومه تقديم لرمضان بيوم وقد نهى النبي عن ذلك

واختلف الرواية عنه هل يسمى يوم الغيم يوم شك على روايتين وكذلك اختلف أصحابه في ذلك

وأما يوم الصحو عنده فيوم شك أو يقين من شعبان ينهى عن صومه بلا توقف وأصول الشريعة أدل على هذا القول منها على غيره فإن المشكوك في وجوبه كما لو شك في وجوب زكاة أو كفارة أو صلاة أو غير ذلك لا يجب فعله ولا يستحب تركه بل يستحب فعله احتياطا فلم تحرم أصول الشريعة الاحتياط ولم توجب بمجرد الشك

وأيضا فإن أول الشهر كأول النهار ولو شك في طلوع النهار لم يجب عليه الإمساك ولم يحرم عليه الإمساك بقصد الصوم ولأن الإغمام أول الشهر كالإغمام بالشك بل ينهى عن صوم يوم الشك لما يخاف من الزيادة في الفرض

وعلى هذا القول يجتمع غالب المأثور عن الصحابة في هذا الباب فإن الجماعات الذين صاموا منهم كعمر وعلي ومعاوية وغيرهم لم يصرحوا بالوجوب

الربا ويشددان فيه حق التشديد لما تقدم من شدة تحريمه وعظم مفسدته ويمنعان الاحتيال له بكل طريق حتى يمنعا الذريعة المفضية إليه وإن لم تكن حيلة وإن كان مالك يبلغ في سد الذرائع ما لا يختلف قول أحمد فيه أو لا يقوله لكنه يوافقه بلا خلاف عنه على منع الحيل كلها

وجماع الحيل نوعان إما أن يضموا إلى أحد العوضين ما ليس بمقصود أو يضموا إلى العقد عقدا ليس بمقصود

فالأول مسألة مد عجوة وضابطها أن يبيع ربويا بجنسه ومعهما أو مع أحدهما ما ليس من جنسه مثل أن يكون غرضهما بيع فضة بفضة متفاضلا ونحو ذلك فيضم إلى الفضة القليلة عوضا آخر حتى يبيع ألف دينار في منديل بألفي دينار

فمتى كان المقصود بيع الربوي بجنسه متفاضلا حرمت مسألة مد عجوة بلا خلاف عند مالك وأحمد وغيرهما وإنما يسوغ هذا من جوز الحيل من الكوفيين وإن كان قدماء الكوفيين يحرمون هذا

وأما إن كان كلاهما مقصودا كمد عجوة ودرهم بمد عجوة ودرهم أو مدين أو درهمين ففيه روايتان عن أحمد والمنع قول مالك والشافعي والجواز قول أبي حنيفة وهي مسألة اجتهاد

وأما إن كان المقصود من أحد الطرفين غير الجنس الربوي كبيع شاة ذات صوف ولبن بصوف أو لبن فأشهر الروايتين عن أحمد الجواز

والنوع الثاني من الحيل أن يضما إلى العقد المحرم عقدا غير مقصود مثل أن يتواطآ على أن يبيعه بجرزه ثم يبتاع الخرز منه بأكثر من ذلك الذهب أو يوطئا ثالثا على أن يبيع أحدهما عرضا ثم يبيعه المبتاع لمعامله المرابي ثم يبيعه المرابي لصاحبه وهي الحيلة المثلثة أو يقرن بالقرض محاباة في بيع أو إجارة أو مساقاة ونحو ذلك مثل أن يقرضه ألفا ويبيعه سلعة تساوي عشرة بمائتين أو يكريه دارا تساوي ثلاثين بخمسة ونحو ذلك

وقيل إنما تلقاه من علماء أهل بيته فلهذا تمسك الفقهاء بهذا الحديث في التسبيحات لما له من الشواهد حتى صاروا يقولون في الثلاث إنها أدنى الكمال أو أدنى الركوع وذلك يدل على أن أعلاه أكثر من هذا

فقول من يقول من الفقهاء إن السنة للإمام أن يقتصر على ثلاث تسبيحات من أصل الشافعي وأحمد رضي الله عنهما وغيرهم هو من جنس قول من يقول من السنة أن لا يطيل الاعتدال بعد الركوع أو أن يؤخر الصلاة إلى آخر الوقت أو نحو ذلك فإن الذين قالوا هذا ليس معهم أصل يرجعون إليه من السنة أصلا بل الأحاديث المستفيضة عن النبي الثابتة في الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها تبين أنه كان يسبح في أغلب صلاته أكثر من ذلك كما تقدم دلالة الأحاديث عليه ولكن هذا قالوه لما سمعوا أن النبي قال إذا أم أحدكم الناس فليخفف وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء ولم يعرفوا مقدار التطويل ولا علموا التطويل الذي نهى عنه لما قال لمعاذ أفتان أنت يا معاذ فجعلوا هذا برأيهم قدرا للمستحب ومن المعلوم أن مقدار الصلاة واجبها ومستحبها لا يرجع فيه إلى غير السنة فإن هذا من العلم الذي لم يكله الله ورسوله إلى آراء العباد إذ النبي كان يصلي بالمسلمين في كل يوم خمس صلوات وكذلك خلفاؤه الراشدون الذين أمرنا بالاقتداء بهم فيجب البحث عما سنه رسول الله ولا ينبغي أن يوضع فيه حكم بالرأي وإنما يكون اجتهاد الرأي فيما لم تمض به سنة عن رسول الله لا يجوز أن يعمد إلى شيء مضت به سنة فيرد بالرأي والقياس

ومما يبين هذا أن التخفيف أمر نسبي إضافي ليس له حد في اللغة ولا في العرف إذ قد يستطيل هؤلاء ما يستخفه هؤلاء ويستخف هؤلاء ما يستطيله هؤلاء فهو أمر يختلف باختلاف عادات الناس ومقادير العبادات ولا في كل من العبادات التي ليست شرعية

فعلم أن الواجب على المسلم أن يرجع في مقدار التخفيف والتطويل إلى السنة وبهذا يتبين أن أمره بالتخفيف لا ينافي أمره بالتطويل أيضا في حديث عمار الذي في الصحيح لما قال إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة وهناك أمرهم بالتخفيف ولا منافاة بينهما فإن الإطالة هنا بالنسبة إلى الخطبة والتخفيف هناك بالنسبة إلى ما فعل بعض الأئمة في زمانه من قراءة البقرة في العشاء الآخرة ولهذا قال فإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء

فبين أن المنفرد ليس لطول صلاته حد تكون به الصلاة خفيفة بخلاف الإمام لأجل مراعاة المأمومين فإن خلفه السقيم والكبير وذو الحاجة ولهذا مضت السنة بتخفيفها عن الإطالة إذا عرض للمأمومين أو بعضهم عارض كما قال إني لأدخل الصلاة وأنا أريد أن أطيلها فأسمع بكاء الصبي فأخفف لما أعلم من وجد أمه وبذلك علل النبي فيما تقدم من حديث ابن مسعود

وكذلك في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء وفي رواية فإن فيهم السقيم والشيخ الكبير وذا الحاجة

ولهذا كان النبي يقصرها أحيانا عما كان يفعل غالبا كما روى مسلم في صحيحه عن عمرو بن حريث رضي الله عنه قال كأني أسمع صوت النبي يقرأ في صلاة الغداة فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس وروى أنه قرأ في صلاة الفجر في بعض أسفاره بسورة الزلزلة وكان يطولها أحيانا حتى ثبت في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أم الفضل بنت الحارث سمعته وهو يقرأ والمرسلات عرفا فقالت يا بنى لقد أذكرتنى بقراءتك هذه السورة أنها لآخر ما سمعت رسول الله يقرأ بها في المغرب وفي الصحيحين عن محمد ابن جبير بن مطعم عن أبيه أنه قال سمعت رسول الله يقرأ بالطور في المغرب وفي البخاري والسنن عن مروان بن الحكم قال قال لى زيد بن ثابت مالك تقرأ في المغرب بقصار المفصل وقد رأيت رسول الله يقرا في المغرب بطولي الطوليين قال قلت ما طولى الطوليين قال الأعراف

فهذه الأحاديث من أصح الأحاديث وقد ثبت فيها أنه كان يقرأ في المغرب تارة بالأعراف وتارة بالطور وتارة بالمرسلات مع اتفاق الفقهاء على أن القراءة في المغرب سنتها أن تكون أقصر نم القراءة في الفجر فكيف تكون القراءة في الفجر وغيرها

ومن هذا الباب ما روى وكيع عن منصور عن إبراهيم النخعي قال كان أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود يطيل القيام بقدر الركوع فكانوا يعيبون ذلك عليه قال أبو محمد بن حزم العيب على من عاب عمل رسول الله وعول على من لا حجة فيه

قلت قد تقدم فعل أبي عبيدة الذي في الصحيح وموافقته لفعل رسول الله وهؤلاء الذين عابوا عليه كانوا من أهل الكوفة الذين في زمن الحجاج وفتنة ابن الأشعث لم يكونوا من الصحابة ولا عرف أنهم من أعيان التابعين وإن كان قد يكون فيهم من أدرك ابن مسعود فابن بن مسعود لم يكن هو الإمام الراتب في زمنه بل الإمام الراتب كان غيره وابن بن مسعود أقرب إلى متابعة أبيه من هؤلاء المجهولين

فهؤلاء الذين أنكروا على أبي عبيدة إنما أنكروا عليه لمخالفته العادة التي اعتادوها وإن خالفت السنة النبوية ولكن ليس هذا الإنكار من الفقهاء

يبين ذلك أن أجل فقيه أخذ عنه إبراهيم النخعي هو علقمة وتوفى قبل فتنة ابن الأشعث التي صلى فيها أبو عبيدة بن عبد الله فإن علقمة توفى سنة إحدى أو اثنتين وستين في أوائل إمارة يزيد وفتنة ابن الأشعث كانت في إمارة عبد الملك وكذلك مسروق قيل إنه توفى قبل السبعين أيضا وقيل فيهما كما قيل في مسروق ونحوه

فتبين أن أكابر الفقهاء من أصحاب عبد الله بن مسعود لم يكونوا هم الذين أنكروا ذلك مع أن من الناس إذا سمع هذا الإطلاق صرفه إلى إبراهيم النخعي وقد عرفت أن المشهور أن علقمة يظن أن إبراهيم وأمثاله أنكروا ذلك وهم رأوا ذلك وهم أخذوا العلم عن عبد الله ونحوه فقد تبين أن الأمر ليس كذلك

آخر ما وجد في الأصل والحمد لله رب العالمين

فصل

عدل

وأما السلام من الصلاة فالمختار عند مالك ومن تبعه من أهل المدينة تسليمة واحدة في جميع الصلاة فرضها ونقلها المشتملة على الأركان الفعلية أو على ركن واحد وعند أهل الكوفة تسليمتان في جميع ذلك وافقهم الشافعي

والمختار في المشهور عن أحمد أن الصلاة الكاملة المشتملة على قيام وركوع وسجود يسلم منها تسليمتان وأما الصلاة بركن واحد كصلاة الجنازة وسجود التلاوة وسجود الشكر فالمختار فيها تسليمة واحدة كما حاءت أكثر الآثار بذلك فالخروج من الأركان الفعلية المتعددة بالتسليم المتعدد ومن الركن الفعلي المفرد بالتسليم المفرد فإن صلاة النبي كانت معتدلة فما طولها أعطى كل جزء منها حظه من الطول وما خففها أدخل التخفيف على عامة أجزائها

فصل

عدل

فأما صلاة الجماعة فاتبع أهل الحديث ما دل عليه الكتاب والسنة وأقوال الصحابة من وجوبها مع عدم العذر وسقوطها بالعذر وتقديم الأئمة بما قدم به النبي حيث قال يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة ففرق بين العلم بالكتاب والعلم بالسنة كما دل عليه الحديث وإنما يكون ترجيح بعض الأئمة على بعض إذا استووا في المعرفة بإقام الصلاة على الوجه المشروع وفعلها على السنة وفي دين الإمام الذي يخرج به المأموم عن نقص الصلاة خلفه فإذا استويا في كمال الصلاة منهما وخلفهما قدم الأقرأ ثم الأعلم بالسنة وإلا ففضل الصلاة في نفسها مقدم على صفة إمامهم وما يحتاج إليه من العلم والدين فيها مقدم على ما يستحب من ذلك وغيره

وقد يقول بعض العلماء هي سنة مؤكدة وقد يقول آخرون هي فرض على الكفاية ولهم في تقديم الأئمة خلاف

ويأمر بإقامة الصفوف فيها كما أمر به النبي من سننها الخمس وهي تقويم الصفوف ورصها وتقاربها وسد الأول فالأول

وغالب الذين أفطروا لم يصرحوا بالتحريم ولعل من كره الصوم منهم إنما كرهه لمن يعتقد وجوبه خشية إيجاب ما ليس بواجب كما كره من كره منهم الاستنجاء بالماء لمن خيف عليه أن يعتقد وجوبه وكما أمر طائفة منهم من صام في السفر أن يقضي لما ظنوه به من كراهة الفطر في السفر فتكون الكراهة عائدة إلى حال الفاعل لا إلى نفس الاحتياط بالصوم فإن تحريم الصوم أو إيجابه كلاهما فيه بعد عن أصول الشريعة والأحاديث المأثورة في الباب إذا تؤملت إنما يصرح غالبها بوجوب الصوم إكمال العدة كما دل بعضها على الفعل قبل الإكمال أما الإيجاب قبل الإكمال للصوم ففيها نظر

فهذا القول المتوسط هو الذي يدل عليه غالب نصوص أحمد

ولو قيل بجواز الأمرين واستحباب الفطر لكان عن التحريم والإيجاب يؤثر عن الصديق أنهم كانوا يأكلون مع الشك في طلوع الفجر لكن

فصل

عدل

وأما الحج فأخذوا فيه بالسنن الثابتة عن رسول الله في صفته وأحكامه

وقد ثبت بالنقل المتواتر عند الخاصة من علماء الحديث من وجوه كثيرة في الصحيحين وغيرهما أنه لما حج حجة الوداع أحرم هو والمسلمون من ذي الحليفة فقال من شاء أن يهل بعمرة فليفعل ومن شاء أن يهل بحجة فليفعل ومن شاء أن يهل بعمرة وحجة فليفعل فلما قدموا وطافوا بالبيت وبين الصفا والمروة أمر جميع المسلمين الذين حجوا معه أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة إلا من ساق الهدى فإنه لا يحل حتى

الصلاة ولهذا كان تحصيل الجماعة في صلاة الخوف والمرض ونحوهما مع استدبار القبلة والعمل الكثير ومفارقة الإمام ومع ترك المريض القيام أولى من أن يصلوا وحدانا ولهذا ذهب بعض أصحاب أحمد إلى أنه يجوز تقديم المؤتم على إمامه عند الحاجة كحال الزحام ونحوه وإن كان لا يجوز لغير حاجة وقد روى في بعض صفات صلاة الخوف ولهذا سقط عنده وعند غيره من أئمة السنة ما يعتبر للجماعة من عدل الإمام وحل البقعة ونحو ذلك للحاجة فجوزوا بل أوجبوا فعل صلوات الجمعة والعيدين والخوف والمناسك ونحو ذلك خلف الأئمة الفاجرين وفي الأمكنة المغصوبة إذا أفضى ترك ذلك إلى ترك الجمعة والجماعة أو إلى فتنة في الأمة ونحو ذلك كما جاء في حديث جابر رضي الله عنه لا يؤمن فاجر مؤمنا إلا أن يقهره بسلطان يخاف سيفه أو سوطه لأن غاية ذلك أن يكون عدل الإمام واجبا فيسقط بالعذر كما سقط كثير من الواجبات في جماعة الخوف بالعذر

ومن اهتدى لهذا الأصل وهو أن نفس واجبات الصلاة تسقط بالعذر وكذلك الواجبات في الجماعات ونحوها فقد هدى لما جاءت به السنة من التوسط بين إهمال بعض واجبات الشريعة رأسا كما قد يبتلى به بعضهم وبين الإسراف في ذلك الواجب حتى يفضي إلى ترك غيره من الواجبات التي هي أوكد منه عند العجز عنه وإن كان ذلك الأوكد مقدورا عليه كما قد يبتلى به آخرون فإن فعل المقدور عليه من ذلك دون المعجوز عنه هو الوسط بين الأمرين

وعلى هذا الأصل تنبني مسائل الهجرة والعزم التي هي أصل مسألة الإمامة بحيث لا يفعل ولا تسع القدرة

وكان أحمد في المنصوص عنه وطائفة من أصحابه يقولون بجواز اقتداء المفترض

النصوص الصحيحة وهى مبنية عليها فيما يعذران فيه دون ما لا يعذران كما تقدم في الإمامة

فصل

عدل

وأما الصلوات في الأحوال العارضة كالصلاة المكتوبة في الخوف والمرض والسفر ومثل الصلاة لدفع البلاء عند أسبابه كصلوات الآيات في الكسوف ونحوه أو الصلاة لاستجلاب النعماء كصلاة الاستسقاء ومثل الصلاة على الجنازة ففقهاء الحديث كأحمد وغيره متبعون لعامة الثابت عن النبي وأصحابه في هذا الباب فيجوزون في صلاة الخوف جميع الأنواع المحفوظة عن النبي ويختارون قصر الصلاة في السفر إتباعا لسنة النبي فأنه لم يصل في السفر قط رباعية إلا مقصورة ومن صلى أربعا لم يبطلوا صلاته لأن الصحابة أقروا من فعل ذلك بل منهم من يكره ذلك ومنهم من لا يكرهه وإن رأى تركه أفضل وفي ذلك عن أحمد روايتان

وهذا بخلاف الجمع بين الصلاتين فإن النبي لما لم يفعله إلا مرات قليلة فإنهم يستحبون تركه إلا عند الحاجة إليه اقتداء بالنبي حين جد به السير حتى اختلف عن أحمد هل يجوز الجمع للمسافر النازل الذي ليس بسائر أم لا ولهذا كان أهل السنة مجمعين على جواز القصر مختلفون في جواز الإتمام ومجمعون على جواز التفريق بين الصلاتين مختلفون في جواز الجمع بينهما

ويجوزون جميع الأنواع الثابتة عن النبي في صلاة الكسوف

فأصحها وأشهرها أن يكون في كل ركعة ركوعان وفي الصحيح أيضا في كل ركعة ثلاث ركوعات وأربعة ويجوزون حذف الركوع الزائد كما جاء به ولهذا كرهه أيضا إذا مرض الإمام الراتب مرضا مزمنا لأنه يتعين حينئذ انصرافه عن الإمامة ولم ير هذا منسوخا بكونه في مرضه صلى في أثناء الصلاة قاعدا وهم قيام لعدم المنافاة بين ما أمر به وبين ما فعله ولأن الصحابة فعلوا ما أمر به بعد موته مع شهودهم لفعله فيفرق بين القعود من أول الصلاة والقعود في أثنائها إذ يجوز الأمران جميعا إذ ليس في الفعل تحريم للمأمور به بحال مع ما في هذه المسائل من الكلام الدقيق الذي ليس هذا موضعه وإنما الغرض التنبيه على قواعد الشريعة التي تعرفها القلوب الصحيحة التي دل عليها قوله تعالى فاتقوا الله ما استطعتم وقوله إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم وأنه إذا تعذر جمع الواجبين قدم أرجحهما وسقط الآخر بالوجه الشرعي والتنبيه على ضوابط من مآخذ العلماء

فصل

عدل

في انعقاد صلاة المأموم بصلاة الإمام

الناس فيه على ثلاثة أقوال

أحدها أنه لا ارتباط بينهما وأن كل امرئ يصلي لنفسه وفائدة الائتمام في تكثير الثواب بالجماعة وهذا هو الغالب على أصل الشافعي لكن قد عورض بمنعه اقتداء القارئ بالأمي والرجل بالمرأة وإبطال صلاة المؤتم بمن لا صلاة له كالكافر والمحدث وفي هذه المسائل كلام ليس هذا موضعه

ومن الحجة فيه قول النبي في الأئمة إن أحسنوا فلكم ولهم وإن أساءوا فلكم وعليهم

والقول الثاني أنها منعقدة بصلاة الإمام فرع عليها مطلقا فكل خلل حصل في صلاة الإمام يسري إلى صلاة المأموم لقوله الإمام ضامن وعلى هذا فالمؤتمن بالمحدث الناسي لحدثه يعيد كما يعيد إمامه وهذا مذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد اختارها أبو الخطاب حتى اختار بعض هؤلاء كمحمد بن الحسن أن لا يأتم المتوضئ بالمتيمم لنقص طهارته عنه

والقول الثالث أنها منعقدة بصلاة الإمام بها لكن إنما يسري النقص إلى صلاة المأموم مع عدم العذر منهما فأما مع العذر فلا يسري النقص فإذا كان الإمام يعتقد طهارته فهو معذور في الإمامة والمأموم معذور في الائتمام وهذا قول مالك وأحمد وغيرهما وعليه ينزل ما يؤثر عن الصحابة في هذه المسألة وهو أوسط الأقوال كما ذكرنا في نفس صفة الإمام الناقص أن حكمه مع الحاجة يخالف حكمه مع عدم الحاجة فحكم صلاته كحكم نفسه

وعلى هذا أيضا ينبني اقتداء المؤتم بإمام قد ترك ما يعتقده المأموم من فرائض الصلاة إذا كان الإمام متأولا تأويلا يسوغ كأن لا يتوضأ من خروج النجاسات من غير السبيلين ولا من مس الذكر ونحو ذلك فإن اعتقاد الإمام هنا صحة صلاته كاعتقاده صحتها مع عدم العلم بالحدث وأولى فإنه هناك تجب عليه الإعادة وهذا أصل نافع أيضا

ويدل على صحة هذا القول ما أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم وإن أخطأوا فلكم وعليهم فهذا نص في أن الإمام إذا أخطأ كان درك خطأه عليه لا على المأمومين فمن صلى معتقدا لطهارته وكان محدثا أو جنبا أو كانت عليه نجاسة وقلنا عليه الإعادة للنجاسة كما يعيد من الحدث فهذا الإمام مخطئ في هذا الاعتقاد فيكون خطؤه عليه فيعيد صلاته وأما المأمومون فلهم هذه الصلاة وليس عليهم من خطئه شيء كما صرح به رسول الله وهذا نص في إجزاء صلاتهم

وكذلك لو ترك الإمام بعض فرائض الصلاة بتأويل أخطأ فيه عند المأموم مثل أن يمس ذكره ويصلي أو يحتجم ويصلي أو يترك قراءة البسملة أو يصلي وعليه نجاسة لا يعفي عنها عند المأموم ونحو ذلك فهذا الإمام أسوأ أحواله أن يكون مخطئا إن لم يكن مصيبا فتكون هذه الصلاة للمأموم وليس عليه من خطأ إمامه شيء وكذلك روى أحمد وأبو داود عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله يقول من أم الناس فأصاب الوقت وأتم الصلاة فله ولهم ومن انتقص من ذلك شيئا فعليه ولا عليهم لكن لم يذكر أبو داود وأتم الصلاة فهذا الانتقاص يفسره الحديث الأول أنه الخطأ ومفهوم قوله وإن أخطأ فعليه ولا عليهم أنه إذا تعمد لم يكن كذلك ولاتفاق المسلمين على أن من يترك الأركان المتفق عليها لا ينبغي الصلاة خلفه

فصل

عدل

وأما القنوت فالناس فيه طرفان ووسط منهم من لا يرى القنوت إلا قبل الركوع ومنهم من لا يراه إلا بعده

وأما فقهاء أهل الحديث كأحمد وغيره فيجوزون كلا الأمرين لمجيء السنة الصحيحة بهما وإن اختاروا القنوت بعد الركوع لأنه أكثر وأقيس فإن سماع الدعاء مناسب لقول العبد سمع الله لمن حمد فإنه يشرع الثناء على الله قبل دعائه كما بينت فاتحة الكتاب على ذلك أولها ثناء وآخرها دعاء

وأيضا فالناس في شرعه في الفجر على ثلاثة أقوال بعد اتفاقهم على أن النبي قنت في الفجر منهم من قال هو منسوخ فإنه قنت ثم ترك كما جاءت به الأحاديث الصحيحة ومن قال المتروك هو الدعاء على أولئك الكفار فلم يبلغه ألفاظ الحديث أو بلغته فلم يتأملها فإن في الصحيحين عن عاصم الأحول قال سألت أنس بن مالك رضي الله عنه عن القنوت هل كان قبل الركوع أو بعد الركوع فقال قبل الركوع قال فإن فلانا أخبرني أنك قلت بعد الركوع قال كذب إنما قنت رسول الله بعد الركوع أراه كان بعث قوما يقال لهم القراء زهاء سبعين رجلا إلى قوم مشركين دون أولئك وكان بينهم وبين رسول الله عهد فقنت شهرا يدعو عليهم وكذلك الحديث الذي رواه أحمد والحاكم عن الربيع بن أنس عن أنس بن مالك رضى الله عنه أنه قال ما زال رسول الله يقنت حتى فارق الدنيا جاء لفظه مفسرا أنه ما زال يقنت قبل الركوع

والمراد هنا بالقنوت طول القيام لا الدعاء كذلك جاء مفسرا

ويبينه ما جاء في الصحيحين عن محمد بن سيرين قال قلت لأنس بن مالك رضى الله عنه قنت رسول الله في صلاة الصبح قال نعم بعد الركوع يسيرا فأخبر أن قنوته كان سرا وكان بعد الركوع فلما كان لفظ القنوت هو إدامة الطاعة سمى كل تطويل في قيام أو ركوع أو سجود قنوتا كما قال تعالى أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما ولهذا لما سئل ابن عمر رضى الله عن القنوت الراتب قال ما سمعنا ولا رأينا وهذا قول ومنهم من قال بل القنوت سنة راتبة حيث قد ثبت عن النبي أنه قنت وروى عنه أنه ما زال يقنت حتى فارق الدنيا وهذا قول الشافعي

ثم من هؤلاء من استحبه في جميع الصلوات لما صح عن النبي أنه قنت فيهن وجاء ذلك من غير وجه في المغرب والعشاء الآخرة والظهر لكن لم يرو أحد انه قنت قنوتا راتبا بدعاء معروف فاستحبوا أن يدعو فيه بقنوت الوتر الذي علمه النبي للحسن بن على وهو اللهم اهدني فيمن هديت إلى آخره

وتوسط آخرون من فقهاء الحديث وغيرهم كأحمد وغيرهم فقالوا قد ثبت أن النبي قنت للنوازل التي نزلت به من العدو في قتل أصحابه أو حبسهم ونحو ذلك فإنه قنت مستنصرا كما استسقى حين الجدب فاستنصاره عند الحاجة كاسترزاقه عند الحاجة إذ بالنصر والرزق قوام أمر الناس كما قال تعالى الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف وكما قال النبي وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم بدعائهم وصلاتهم واستغفارهم وكما قال في صفات الأبدال بهم ترزقون وبهم تنصرون وكما ذكر الله هذين النوعين في سورة الملك وبين أنهما بيده سبحانه وتعالى في قوله أم من هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور أم من هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور ثم ترك القنوت جاء مفسرا أنه تركه لزوال ذلك

وصلوا كما ذكر الله الطواف والصلاة ثم سعوا ولم يصلوا عقب السعي فاستحباب الصلاة عقب السعي كاستحبابها عند الجمرات أو بالموقف بعرفات أو جعل الفجر أربعا قياسا على الظهر والترك الراتب سنة كما أن الفعل الراتب سنة بخلاف ما كان تركه بعدم مقتض أو فوات شرط أو وجود مانع وحدث بعده من المقتضيات والشروط وزوال المانع ما دلت الشريعة على فعله حينئذ كجمع القرآن في المصحف وجمع الناس التراويح على إمام واحدا وتعلم العربية وأسماء النقلة للعلم وغير ذلك مما يحتاج إليه في الدين بحيث لا تتم الواجبات أو المستحبات الشرعية إلا به وإنما تركه لفوات شرطه أو وجود مانع

فأما ما تركه من جنس العبادات مع أنه لو كان مشروعا لفعله أو أذن فيه ولفعله الخلفاء بعده والصحابة فيجب القطع بأن فعله بدعة وضلالة ويمتنع القياس بمثله وإنجاز القياس في النوع الأول وهو مثل قياس صلاة العيدين والإستسقاء والكسوف على الصلوات الخمس في أن يجعل لها أذان وإقامة كما فعله بعض المروانية في العيدين وقياس حجرته ونحوها من مقابر الأنبياء على بيت الله في الإستلام والتقبيل ونحو ذلك من الأقيسة التي تشبه قياس الذين حكى الله عنهم أنهم قالوا إنما البيع مثل الربا

وأخذ فقهاء الحديث كالشافعي وأحمد وغيرهما مع فقهاء الكوفة ما عليه جمهور الصحابة والسلف بتلبية رسول الله فإنه قد ثبت عنه أنه لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة

وذهب طائفة من السلف من الصحابة والتابعين وأهل المدينة كمالك إلى أن التلبية تنقطع بالوصول إلى الموقف بعرفة لأنها إجابة فتنقطع بالوصول إلى المقصد وسنة رسول الله عليه وسلم هي التي يجب إتباعها

وأما المعنى فإن الواصل إلى عرفة وإن كان قد وصل إلى هذا الموقف فإنه قد دعي بعده إلى موقف آخر وهو مزدلفة فإذا قضى الوقوف بمزدلفة

بالمتنقل للحاجة كما في صلاة الخوف وكما لو كان المفترض غير قارئ كما في حديث عمرو بن سلمة ومعاذ ونحو ذلك وإن كان لا يجوزه لغير حاجة على إحدى الروايتين عنه فأما إذا جوزه مطلقا فلا كلام وإن كان من أصحابه من لا يجوزه بحال

فصارت الأقوال في مذهبه وغير مذهبه ثلاثة والمنع مطلقا هو المشهور عن أبي حنيفة ومالك كما أن الجواز مطلقا هو قول الشافعي

ويشبه هذا مفارقة المأموم إمامه قبل السلام فعنه ثلاث روايات أوسطها جواز ذلك للحاجة كما تفعل الطائفة الأولى في صلاة الخوف وكما فعل الذي طول عليه معاذ صلاة العشاء الآخرة لما شق عليه طول الصلاة والرواية الثانية المنع مطلقا كقول أبي حنيفة والرواية الثالثة الجواز مطلقا كقول الشافعي ولهذا جوز أحمد في المشهور عنه أن المرأة تؤم الرجل لحاجة مثل أن تكون قارئة وهم غير قارئين فتصلي بهم التراويح كما أذن النبي لأم ورقة أن تؤم أهل دارها وجعل لها مؤذنا وتتأخر خلفهم وإن كانوا مأمومين بها للحاجة وهو حجة لمن يجوز تقدم المأموم لحاجة هذا مع ما روى عنه من قوله لا تؤمن امرأة رجلا وأن المنع من إمامة المرأة بالرجال قول عامة العلماء

ولهذا الأصل استعمل أحمد ما استفاض عن النبي من قوله في الإمام إذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون وأنه علل ذلك بأنه يشبه قيام الأعاجم بعضهم لبعض فسقط عن المأمومين القيام لما في القيام من المفسدة التي أشار إليها النبي من مخالفة الإمام والتشبه بالأعاجم في القيام له وكذلك عمل أئمة الصحابة بعده لما اعتلوا فصلوا قعودا والناس خلفهم قعود كأسيد بن الحضير

ولكن كره هذا لغير الإمام الراتب إذ لا حاجة إلى نقص الصلاة في الائتمام

والغرض من هذه المذاهب أن من جوز بيع البستان من الجنس الواحد لبدو الصلاح في بعضه فقياس قوله جواز بيع المقتاة إذا بدا صلاح بعضها والمعدوم هنا فيها كالمعدوم من أجزاء الثمرة فإن الحاجة تدعو إلى ذلك أكثر إذ تفريق الأشجار في البيع أيسر من تفريق البطيخات والقثاءات والخيارات وتمييز اللقطة عن اللقطة لو لم يشق فإنه أمر لا ينضبط فإن اجتهاد الناس في ذلك متفاوت

والغرض من هذا أن أصول أحمد تقتضي موافقة مالك في هذه المسائل كما قد يروي عنه في بعض الجوابات أو قد خرجه أخرجه أصحابه على أصوله وكما أن العالم من الصحابة والتابعين والأئمة كثيرا ما يكون له في المسألة الواحدة قولان في وقتين فكذلك يكون له في النوع الواحد من المسائل قولان في وقتين فيجيب في بعض أفرادها بجواب في وقت ويجيب في بعض الأفراد بجواب آخر في وقت آخر وإذا كانت الأفراد مستوية كان له فيها قولان فإن لم يكن بينهما فرق يذهب إليه مجتهد فقالت طائفة منهم أبو الخطاب لا يخرج وقال الجمهور كالقاضي أبي يعلى يخرج الجواب إذا لم يكن هو ممن يذهب إلى الفرق كما اقتضته أصوله ومن هؤلاء من يخرج الجواب إذا رآهما مستويين وإن لم يعلم هل هو ممن يفرق أم لا وإن فرق بين بعض الأفراد وبعض مستحضرا لهما فإن كان سبب الفرق مأخذا شرعيا كان الفرق قولا به وإن كان سبب الفرق مأخذا عاديا أو حسيا ونحو ذلك مما قد يكون أهل الخبرة به أعلم من الفقهاء الذين لم يباشروا ذلك فهذا في الحقيقة لا يفرق بينهما شرعا وإنما هو أمر من أمر الدنيا لم يعلمه العالم فإن العلماء ورثة الأنبياء وقد قال النبي أنتم أعلم بأمر دنياكم فأما ما كان من أمر دينكم فإلي.

وهذا الاختلاف في عين المسألة أو نوعها من العلم قد يسمى تناقضا أيضا لأن التناقض اختلاف مقالتين بالنفي والاثبات فإذا كان في وقت قد قال إن

الجمع واعتقدوا أنه إنما جمع لأجل السفر والجمع للسفر لا يكون إلا لمن سافر ستة عشر فرسخا وحاضروا مكة ليسوا عن عرنة بهذا البعد

وهذا ليس بحق فإنه لو كان جمعه لأجل السفر لجمع قبل هذا اليوم وبعده وقد أقام بمنى أيام التشريق ولم يجمع فيها لا سيما ولم ينقل عنه أنه جمع في السفر وهو نازل إلا مرة واحدة وإنما كان يجمع في السفر إذا جد به السير وإنما جمع لنحو الوقوف لأجل أن لا يفصل بين الوقوف بصلاة ولا غيرها كما قال أحمد أنه يجوز الجمع لأجل ذلك من الشغل المانع من تفرق الصلوات

ومن اشترط في هذا الجمع السفر من أصحاب أحمد فهو أبعد عن أصوله من أصحاب الشافعي فإن أحمد يجوز الجمع لأمور كثيرة غير السفر حتى قال القاضي أبو يعلى وغيره تفسيرا لقول أحمد إنه يجمع لكل ما يبيح ترك الجماعة فالجمع ليس من خصائص السفر وهذا بخلاف القصر فإنه لا يشرع إلا للمسافر

وبهذا قال أكثر الفقهاء كالشافعي وأحمد إن قصر الصلاة بعرفة ومزدلفة ومنى وأيام التشريق لا يجوز إلا للمسافر الذي يباح له القصر عندهم طردا للقياس واعتقادا أن القصر لم يكن إلا للسفر بخلاف الجمع حتى أمر أحمد وغيره أن الموسم لا يقيمه أمير مكة لأجل قصر الصلاة

وذهب طوائف من أهل المدينة وغيرهم منهم مالك وطائفة من أصحاب الشافعي وأحمد كأبي الخطاب في عبادته الخمس إلا أنه يقصر المكيون وغيرهم وأن القصر هناك لأجل النسك

والحجة مع هؤلاء أنه لم يثبت أن النبي أمر من صلى خلفه بعرنه ومزدلفة ومنى من المكيين أن يتموا الصلاة كما أمرهم أن يتموا لما كان يصلى بهم بمكة أيام فتح مكة حين قال لهم أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر

فإنه لو كان المكيون قد قاموا لما صلوا خلفه الظهر فأتموها أربعا ثم لما صلوا العصر قاموا فأتموها أربعا ثم لما صلوا خلفه عشاء الآخرة قاموا فأتموها أربعا ثم كانوا مدة مقامه بمنى يتمون خلفه لما أهمل الصحابة نقل مثل هذا

ومما قد يغلط فيه الناس اعتقاد بعضهم أنه يستحب صلاة العيد بمنى يوم النحر حتى قد يصليها بعض المنتسبين إلى الفقه أخذا فيه بالعمومات اللفظية أو القياسية وهذه غفلة عن السنة ظاهرة فإن النبي وخلفاءه لم يصلوا بمنى عيدا قط وإنما صلاة العيد بمنى هي جمرة العقبة فرمى جمرة العقبة لأهل الموسم بمنزلة صلاة العيد لغيرهم ولهذا استحب أحمد أن تكون صلاة أهل الأمصار وقت النحر بممنى ولهذا خطب النبي يوم النحر بعد الجمرة كان كما يخطب في غير مكة بعد صلاة العيد ورمى الجمرة تحية منى كما أن الطواف تحية المسجد الحرام

ومثل هذا ما قاله طائفة منهم ابن عقيل أنه يستحب للمحرم إذا دخل المسجد الحرام أن يصلى تحية المسجد كسائر المساجد ثم يطوف طواف القدوم أو نحوه وأما الأئمة وجماهير الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم فعلى إنكار هذا أما أولا فلأنه خلاف السنة المتواترة من فعل النبي وخلفائه فإنهم لما دخلوا المسجد لم يفتتحوا إلا بالطواف ثم الصلاة عقب الطواف

وأما ثانيا فلأن تحية المسجد الحرام هي الطواف كما أن تحية سائر المساجد هي الصلاة

وأشنع من هذا استحباب بعض أصحاب الشافعي لمن سعى بين الصفا والمروة أن يصلى ركعتين بعد السعي على المروة قياسا على الصلاة بعد الطواف وقد أنكر ذلك سائر العلماء من أصحاب الشافعي وسائر الطوائف ورأوا أن هذه بدعة ظاهرة القبح فإن السنة مضت بأن النبي وخلفاؤه طافوا

؟ عليكم ذلا لا يرفعه عنكم حتى تراجعوا دينكم وإن لم يتواطأ فإنهما يبطلان البيع الثاني سدا للذريعة ولو كانت عكس مسألة العينة من غير تواطؤ ففيه روايتان عن أحمد وهو أن يبيعه حالا ثم يبتاع منه بأكثر مؤجلا وأما مع التواطؤ فربا محتال عليه

ولو كان مقصود المشتري الدرهم وابتاع السلعة إلى أجل ليبيعها ويأخذ ثمنها فهذا يسمى التورق ففي كراهته عن أحمد روايتان والكراهة قول عمر بن عبد العزيز ومالك فيما أظن بخلاف المشتري الذي غرضه التجارة أو غرضه الانتفاع أو القنية فهذا يجوز شراؤه إلى أجل بالاتفاق

ففي الجملة أهل المدينة وفقهاء الحديث مانعون من أنواع الربا منعا محكما مراعين لمقصود الشريعة وأصولها وقولهم في ذلك هو الذي يؤثر مثله عن الصحابة وتدل عليه معاني الكتاب والسنة

وأما الغرر فأشد الناس فيه قولا أبو حنيفة والشافعي أما الشافعي فإنه يدخل في هذا الاسم من الأنواع مالا يدخله غيره من الفقهاء مثل الحب والثمر في قشره الذي ليس بصوان كالباقلاء والجوز واللوز في قشره الأخضر وكالحب في سنبله فإن القول الجديد عنده أن ذلك لا يجوز مع أنه قد اشترى في مرض موته باقلاء أخضر فخرج ذلك له قولا واختاره طائفة من أصحابه كأبي سعيد الاصطخري وروى عنه أنه ذكر له أن النبي نهى عن بيع الحب حتى يشتد فدل على جواز بيعه اشتداده وإن كان في سنبله فقال إن صح هذا أخرجته من العام أو كلاما قريبا من هذا وكذلك ذكر أنه رجع عن القول بالمنع

قال ابن المنذر جواز ذلك هو قول مالك وأهل المدينة وعبيد الله ابن الحسن وأهل البصرة وأصحاب الحديث وأصحاب الرأي وقال الشافعي مرة لا يجوز

ثم بلغه حديث ابن عمر فرجع عنه وقال به قال ابن المنذر ولا أعلم أحدا يعدل عن القول به

وذكر بعض أصحابه له قولين وأن الجواز هو القديم حتى منع من بيع الأعيان الغائبة بصفة وغير صفة متأولا أن بيع الغائب غرر وإن وصف حتى اشترط فيما في الذمة كدين السلم من الصفات وضبطها ما لم يشترط غيره ولهذا يتعذر أو يتعسر على الناس المعاملة في العين والدين بمثل هذا القول وقاس على بيع الغرر جميع العقود من التبرعات والمعاوضات فاشترط في أجرة الأجير وفدية الخلع والكتابة وصلح أهل الهدنة وجزية أهل الذمة ما اشترطه في البيع عينا ودينا ولم يجوز في ذلك جنسا وقدرا وصفة إلا ما يجوز مثله في البيع وإن كانت هذه العقود لا تبطل بفساد أعواضها أو يشترط لها شروط أخر

وأما أبو حنيفة فإنه يجوز بيع الباقلاء ونحوه في القشرين ويجوز إجارة الأجير بطعامه وكسوته ويجوز أن تكون جهالة المهر كجهالة من المثل ويجوز بيع الأعيان الغائبة بلا صفة مع الخيار لأنه يرى وقف العقود لكنه يحرم المساقاة والمزارعة ونحوهما من المعاملات مطلقا والشافعي يجوز بيع بعض ذلك ويحرم أيضا كثيرا من الشروط في البيع والإجارة والنكاح وغير ذلك مما يخالف مطلق العقد

وأبو حنيفة يجوز بعض ذلك ويجوز من الوكالات والشركات مالا يجوزه الشافعي حتى جوز شركة المفاوضة والوكالة بالمجهول المطلق وقال الشافعي إن لم تكن شركة المفاوضة باطلة فما أعلم شيئا باطلا

فبينهما في هذا الباب عموم وخصوص لكن أصول الشافعي المحرمة أكثر من أصول أبي حنيفة في ذلك

وأما مالك فمذهبه أحسن المذاهب في هذا فيجوز بيع هذه الأشياء وجميع ما تدعو إليه الحاجة أو يقل غرره بحيث يحتمل في العقود حتى يجوز بيع المقاتي جملة وبيع المغيبات في الأرض كالجزر والفجل ونحو ذلك

وأحمد قريب منه في ذلك فإنه يجوز هذه الأشياء ويجوز على المنصوص عنه أن يكون المهر عبدا مطلقا أو عبدا من عبيده ونحو ذلك مما لا يزيد جهالة على مهر المثل وإن كان من أصحابه من يجوز المبهم دون المطلق كأبي الخطاب ومنهم من يوافق الشافعي فلا يجوز في المهر وفدية الخلع ونحوهما إلا ما يجوز في المبيع كأبي بكر عبد العزيز ويجوز على المنصوص عنه في فدية الخلع أكثر من ذلك حتى ما يجوز في الوصية وإن لم يجز في المهر كقول مالك مع اختلاف في مذهبه ليس هذا موضعه لكن المنصوص عنه أنه لا يجوز بيع المغيب في الأرض كالجزر ونحوه إلا إذا قلع وقال هذا الغرر شيء ليس يراه كيف يشتريه والمنصوص عنه أنه لا يجوز بيع القثاء والخيار والباذنجان ونحوه إلا لقطة لقطة ولا يباع من المقاتي والمباطخ إلا ما ظهر دون ما بطن ولا تباع الرطبة إلا جزة جزة كقول أبي حنيفة والشافعي لأن ذلك غرر وهو بيع الثمرة قبل بدو صلاحها

ثم اختلف أصحابه فأكثرهم أطلقوا ذلك في كل مغيب كالجزر والفجل والبصل وما أشبه ذلك كقول مالك

وقال الشيخ أبو محمد إذا كان مما يقصد فروعه وأصوله كالبصل المبيع أخضر والكراث والفجل أو كان المقصود فروعه فالأولى جواز بيعه لأن المقصود منه ظاهر فأشبه الشجر ويدخل ما لم يظهر في البيع تبعا وإن كان معظم المقصود منه أصوله لم يجز بيعه في الأرض لأن الحكم للأغلب وإن تساويا لم يجز أيضا لأن الأصل اعتياد الشرط وإنما سقط في الأقل التابع

وكلام أحمد يحتمل وجهين فإن أبا داود قال قلت لأحمد بيع الجزر في الأرض قال لا يجوز بيعه إلا ما قلع منه هذا الغرر شيء ليس يراه كيف يشتريه فعلل بعدم الرؤية

فقد يقال إن لم يره كله لم يبع وقد يقال رؤية بعض المبيع تكفي إذا دلت على الباقي كرؤية وجه العبد

وكذلك اختلفوا في المقاتي إذا بيعت بأصولها كما هو العادة غلبا فقال قوم من المتأخرين يجوز ذلك لأن بيع أصول الخضراوات كبيع الشجر وإذا باع الشجرة وعليها الثمر لم يبد صلاحه جاز فذلك هذا وذكر أن هذا مذهب أبي حنيفة والشافعي

وقال المتقدمون لا يجوز بحال وهو معنى كلامه ومنصوصه وهو إنما نهى عما يعتاده الناس وليست العادة جارية في البطيخ والقثاء والخيار أن يباع دون عروقه والأصل الذي قاسوا عليه ممنوع عنده فإن المنصوص عنه في رواية الأثرم وإبراهيم بن الحرث في الشجر الذي عليه ثمر لم يبد صلاحه أنه إن كان الأصل هو مقصوده الأعظم جاز وأما إن كان مقصوده الثمرة فاشترى الأصل معها حيلة لم يحز وكذلك إذا اشترى أرضا وفيها زرع أو شجر مثمر لم يبد صلاحه فإن كانت الأرض هى المقصود جاز دخول الثمر والزرع معها تبعا وإن كان المقصود هو الثمر والزرع فاشترى الأرض لذلك لم يجز وإذا كان هذا قوله في ثمرة الشجر فمعلوم أن المقصود من المقاتي والمباطخ إنما هو الخضراوات دون الأصول التي ليس لها إلا قيمة يسيرة بالنسبة إلى الخضر

وقد خرج ابن عقيل وغيره فيها وجهين

أحدهما جواز بيع المغيبات بناء على إحدى الروايتين عنه في بيع ما لم يره ولا شك انه ظاهر فإن المنع إنما يكون على قولنا لا يصح بيع ما لم يره فإذا صححنا بيع الغائب فهذا من الغائب

والثاني أنه يجوز بيعها مطلقا كمذهب مالك إلحاقا لها بلب الجوز وهذا القول هو قياس أصول أحمد وغيره لوجهين

أحدهما أن أهل الخبرة يستدلون برؤية ورق هذه المدفونات على حقيقتها

فهذا ونحوه من الحيل لا تزول به المفسدة التي حرم الله من أجلها الربا وقد ثبت عن النبي من حديث عبد الله بن عمرو أنه قال لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك قال الترمذي حديث حسن صحيح وهو من جنس حيل اليهود فإنهم إنما استحلوا الربا بالحيل ويسمونه المشكند وقد لعنهم الله على ذلك

وقد روى ابن بطة بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلون محارم الله بأدنى الحيل وفي الصحيحين عنه أنه قال لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا ثمنها وفي السنن عنه أنه قال من أدخل فرسا بين فرسين وهو لا يؤمن أن يسبق فليس قمارا من أدخل فرسا بين فرسين وقد أمن أن يسبق فهو قمار وقال فيما رواه أهل السنن من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله

ودلائل تحريم الحيل من الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار كثيرة ذكرنا منها نحوا من ثلاثين دليلا فيما كتبناه في ذلك وذكرنا ما يحتج به من يجوزها كيمين أبي أيوب وحديث تمر خيبر ومعاريض السلف وذكرنا جواب ذلك

ومن ذرائع ذلك مسألة العينة وهو أن يبيعه سلعة إلى أجل ثم يبتاعها منه بأقل من ذلك فهذا مع التواطؤ يبطل البيعين لأنها حيلة وقد روى أحمد وأبو داود بإسنادين جيدين عن ابن عمر قال قال رسول الله إذا تبايعتم بالعينة واتبعتم أذناب البقر وتركتم الجهاد في سبيل الله أرسل الله

ابن وهب أخبرني عياض بن عبد الله الفهري أن عبد الله بن عمر كان يقول لكل شيء زينة وزينة الصلاة التكبير ورفع الأيدي فيها وإذا كان ابن عمر يقول ذلك فكيف يظن به أنه لا يكبر إذا صلى وحده هذا لا يظنه عاقل بابن عمر

قال ابن عبد البر وقد روى عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز وقتادة وغيرهم انهم كانوا لا يتمون التكبير وذكر ذلك أيضا عن القاسم وسعيد بن جبير وروى عن أبي سلمة عن أبي هريرة انه كان يكبر هذا التكبير ويقول إنها لصلاة رسول الله قال وهذا يدل على أن التكبير في كل خفض ورفع كان الناس قد تركوه وفي ترك الناس له من غير نكير من واحد منهم ما يدل على أن الأمر محمول عندهم على الإباحة قلت لايمكن أن يعلم إلا ترك الجهر به فأما ترك الإمام التكبير سرا فلا يجوز أن يدعى تركه إن لم يصل الإمام إلى فعله فهذا لم يقله أحد من الأئمة ولم يقل أحد إنهم كانوا يتركون في كل خفض ورفع بل قالوا كانوا لا يتمونه ومعنى لا يتمونه لا ينقصونه ونقصه عدم فعله في حال الخفض كما تقدم من كلامه وهو نقص بترك رفع الصوت به أو نقص له بترك ذلك في بعض المواضع وقد روى ابن عبد البر عن أنس بن مالك رضى الله عنة قال صليت خلف رسول الله صلى عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان رضى الله عنهم فكلهم كان يكبر إذا رفع رأسه وإذا خفض قال وهذا معارض لما روى عن عمر انه كان لا يتم التكبير وروى عن سعيد بن عبد العزيز عن الزهرى قال

بألف ومائتين مؤجلة إذا لم يكن له حاجة لتلك الألف وإنما يأخذ المال بمثله وزيادة إلى أجل من هو محتاج إليه فتقع تلك الزيادة ظلما للمحتاج بخلاف الميسر فإن المظلوم فيه غير معين ولا هو محتاج إلى العقد وقد تخلو بعض صوره عن الظلم إذا وجد في المستقبل المبيع على الصفة التي ظناها والربا فيه ظلم محقق لمحتاج ولهذا كان ضد الصدقة فإن الله لم يدع الأغنياء حتى أوجب عليهم إعطاء الفقراء فإن مصلحة الغني والفقير في الدين والدنيا لا تتم إلا بذلك فإذا أربى معه فهو بمنزلة من له على رجل دين فمنعه دينه وظلمه زيادة أخرى والغريم محتاج إلى دينه فهذا من أشد أنواع الظلم ويعظمه لعن النبي آكله وهو الأخذ وموكله وهو المحتاج المعطي الزيادة وشاهديه وكاتبه لإعانتهم عليهم

ثم إن النبي حرم أشياء مما يخفى فيها الفساد لإفضائها إلى الفساد المحقق كما حرم قليل الخمر لأنه يدعو إلى كثيرها مثل ربا الفضل فإن الحكمة فيه قد تخفى إذا العاقل لا يبيع درهما بدرهمين إلا لاختلاف الصفات مثل كون الدرهم صحيحا والدرهمين مكسورين أو كون الدرهم مصوغا أو من نقد نافق ونحو ذلك ولذلك خفيت حكمة تحريمه على ابن عباس ومعاوية وغيرهما فلم يروا به بأسا حتى أخبرهم الصحابة الأكابر كعبادة بن الصامت وأبي سعيد وغيرهما بتحريم النبي لربا الفضل

وأما الغرر فإنه ثلاثة أنواع إما المعدوم كحبل الحبلة وبيع السنين وإما المعجوز عن تسليمه كالعبد الآبق وإما المجهول المطلق أو المعين المجهول جنسه أو قدره كقوله بعتك عبدا أو بعتك ما في بيتي أو بعتك عبيدي

فأما المعين المعلوم جنسه وقدره المجهول نوعه أو صفته كقوله بعتك الثوب الذي في كمي أو العبد الذي أملكه ونحو ذلك ففيه خلاف مشهور وتغلب مسألة بيع الأعيان الغائبة وعن أحمد فيه ثلاث روايات إحداهن لا يصح

كذلك فعلى الحج أو فمالي صدقة أو فعلى صيام يريد بذلك أن يمنع نفسه عن الفعل أو أن يقول إن لم أفعل كذل فعلى الحج ونحوه فمذهب أهل العلم من أهل مكة والمدينة والبصرة والكوفة أنه يجزيه كفارة يمين وهو قول فقهاء الحديث كالشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وغيرهم وهذا هو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة وهو الرواية المتأخرة عنه

ثم اختلف هؤلاء فأكثرهم قالوا هو مخير بين الوفاء بما نذره وبين كفارة يمين وهذا قول الشافعي والمشهور عن أحمد ومنهم من قال بل عليه الكفارة عينا كما يلزمه ذلك في اليمين بالله وهو الرواية الأخرى عن أحمد وقول بعض أصحاب الشافعي وقال مالك وأبو حنيفة في الرواية الأخرى وطائفة بل يجب الوفاء بهذا النذر

وقد ذكروا أن الشافعي سئل عن هذه المسألة بمصر فأفتى فيها بالكفارة فقال له السائل يا أبا عبد الله هذا قولك فقال قول من هو خير منى عطاء ابن أبي رباح وذكروا أن عبد الرحمن بن القاسم حث ابنه في هذه اليمين فأفتاه بكفارة يمين بقول الليث بن سعد وقال إن عدت أفتيك بقول مالك وهو الوفاء به ولهذا يفرع أصحاب مالك مسائل هذه اليمين على عمومات الوفاء بالنذر كقوله من نذر أن يطيع الله فليطعه لأنه حكم جائز معلق بشرط فوجب عند ثبوت شرطه كسائر الأحكام والأول هو الصحيح والدليل عليه مع ما سنذكره إن شاء الله من دلالة الكتاب والسنة ما اعتمده الإمام أحمد وغيره

قال أبو بكر الأثرم في مسائله سألت أبا عبد الله عن رجل قال ماله في رتاج الكعبة قال كفارة يمين واحتج بحديث عائشة قال وسمعت أبا عبد الله يسأل عن الرجل يحلف بالمشي إلى بيت الله أو الصدقة بالملك أو نحو هذه اليمين فقال إذا حنث فكفارة يمين إلا أنى لا أحمله على الحنث ما لم يحنث قال له لا يفعل قيل لأبي عبد الله فإذا حنث كفر قال نعم قيل له

بعد وضوحه له فهو قوله وما لا يرضاه فليس قوله وإن كان متناقضا وهو الفرق بين اللازم الذي يجب التزامه مع لزوم اللازم الذي يجب ترك الملزوم للزومه فإذا عرف هذا عرف الفرق بين الواجب من المقالات والواقع منها وهذا متوجه في اللوازم التي لم يصرح هو بعدم لزومها

فأما إذا نفى هو اللزوم لم يجز أن يضاف إليه اللازم بحال وإلا لأضيف إلى كل عالم ما اعتقدنا أن النبي قاله لكونه ملتزما لرسالته فلما لم يضف إليه ما نفاه عن الرسول وإن كان لازما له ظهر الفرق بين اللازم الذي لم ينفه واللازم الذي نفاه ولا يلزم من كونه نص على الحكم نفيه للزوم ما يلزمه لأنه قد يكون عن اجتهادين في وقتين

وسبب الفرق بين أهل العلم وأهل الأهواء مع وجود الاختلاف في قول كل منهما أن العالم قد فعل ما أمر به من حسن القصد والاجتهاد وهو مأمور في الظاهر باعتقاد ما قام عنده دليله وإن لم يكن مطابقا لكن اعتقادا ليس بيقيني كما يؤمر الحاكم بتصديق الشاهدين ذوي العدل وإن كانا في الباطن قد أخطأ أو كذبا وكما يؤمر المفتي بتصديق المخبر العدل الضابط أو باتباع الظاهر فيعتقد ما دل عليه ذلك وإن لم يكن ذلك الاعتقاد مطابقا فالاعتقاد المطلوب هو الذي يغلب على الظن مما يؤمر به العباد وإن كان قد يكون غير مطابق وإن لم يكونوا مأمورين في الباطن باعتقاد غير مطابق قط

فإذا اعتقد العالم اعتقادين متناقضين في قضية أو قضيتين مع قصده للحق واتباعه لما أمر باتباعه من الكتاب والحكمة عذر بما لم يعلمه وهو الخطأ المرفوع عنا بخلاف أصحاب الأهواء فإنهم إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ويجزمون بما يقولونه بالظن والهوى جزما لا يقبل النقيض مع عدم العلم بجزمه فيعتقدون ما لم يؤمروا باعتقاده لا باطنا ولا ظاهرا ويقصدون ما لم يؤمروا بقصده ويجتهدون اجتهادا لم يؤمروا به فلم يصدر عنهم من

الاجتهاد والقصد ما يقتضي مغفرة ما لم يعلموه فكانوا ظالمين شبيها بالمغضوب عليهم أو جاهلين شبيها بالضالين

فالمجتهد الاجتهاد العلمي المحض ليس له غرض سوى الحق وقد سلك طريقه وأما متبع الهوى المحض فهو من يعلم الحق ويعاند عنه

وثم قسم آخر وهم غالب الناس وهو أن يكون له هوى وله في الأمر الذي قصد إليه شبهة فتجتمع الشهوة والشبهة ولهذا جاء في حديث مرسل عن النبي أنه قال إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات

فالمجتهد المحض مغفور له أو مأجور وصاحب الهوى المحض مستوجب للعذاب وأما المجتهد الاجتهاد المركب على شبهة وهوى فهو مسيء وهم في ذلك درجات بحسب ما يغلب وبحسب الحسنات الماحية

وأكثر المتأخرين من المنتسبين إلى فقه أو تصوف مبتلون بذلك

وهذا القول الذي دلت عليه أصول مالك وأصول أحمد وبعض أصول غيرهما هو أصح الأقوال وعليه يدل غالب معاملات السلف ولا يستقيم أمر الناس في معاشهم إلا به وكل من توسع في تحريم ما يعتقده غررا فإنه لا بد أن يضطر إلى إجازة ما حرمه فإما أن يخرج عن مذهبه الذي يقلده في هذه المسألة وإما أن يحتال وقد رأينا الناس وبلغتنا أخبارهم فما رأينا أحدا التزم مذهبه في تحريم هذه المسائل ولا يمكنه ذلك ونحن نعلم قطعا أن مفسدة التحريم لا تزول بالحيلة التي يذكرونها فمن المحال أن يحرم الشارع علينا أمرا نحن محتاجون إليه ثم لا يبيحه إلا بحيلة لا فائدة فيها وإنما هي من جنس اللعب

ولقد تأملت أغلب ما أوقع الناس في الحيل فوجدته أحد شيئين إما ذنوب جوزوا عليها بتضييق في أمورهم فلم يستطيعوا دفع هذا الضيق إلا بالحيل فلم تزدهم الحيل إلا بلاء كما جرى لأصحاب السبت من اليهود وكما قال تعالى:

فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وهذا الذنب ذنب عملي وإما مبالغة في التشديد لما اعتقدوه من تحريم الشارع فاضطرهم هذا الاعتقاد إلى الاستحلال بالحيل وهذا من خطأ الاجتهاد وإلا فمن اتقى الله وأخذ ما أحل له وأدى ما أوجب عليه فإن الله لا يحوجه إلى الحيل المبتدعة أبدا فإنه سبحانه لم يجعل علينا في الدين من حرج وإنما بعث نبينا بالحنيفية السمحة فالسبب الأول هو الظلم والسبب الثاني هو عدم العلم والظلم والجهل هما وصف للإنسان المذكور في قوله تعالى 33 : 72 وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا

وأصل هذا أن الله سبحانه إنما حرم علينا المحرمات من الأعيان كالدم والميتة ولحم الخنزير أو من التصرفات كالميسر والربا وما يدخل فيهما بنوع من الغرر وغيره لما في ذلك من المفاسد التي نبه الله عليها ورسوله بقوله سبحانه 5 : 91 إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون فأخبر سبحانه أن الميسر يوقع العداوة والبغضاء سواء كان ميسرا بالمال أو باللعب فإن المغالبة بلا فائدة وأخذ المال بلا حق يوقع في النفوس ذلك وكذلك روى فقيه المدينة من الصحابة زيد بن ثابت رضي الله عنه قال كان الناس على عهد رسول الله يتبايعون الثمار فإذا أجدب الناس وحضر تقاضيهم قال المبتاع إنه أصاب الثمر الدمان أصابه مراض أصابه قشام عاهات يحتجون بها قال رسول الله لما كثرت عنده الخصومة في ذلك فأما لا فلا تبايعوا حتى يبدو صلاح الثمر كالمشورة لهم يشير بها لكثرة خصومتهم واختلافهم وذكر خارجة بن زيد أن زيدا لم يكن يبيع ثمار أرضه حتى تطلع الثريا فيتبين الأحمر من الأصفر رواه البخاري تعليقا وأبو داود إلى قوله خصومتهم وروى أحمد في المسند عنه قال قدم رسول الله صلى الله عليه

وسلم المدينة ونحن نتبايع الثمار قبل أن يبدو صلاحها فسمع رسول الله خصومة فقال ما هذا فقيل له إن هؤلاء ابتاعوا الثمار يقولون أصابنا الدمان والقشام فقال رسول الله فلا تبايعوها حتى يبدو صلاحها

فقد أخبر أن سبب نهي النبي عن ذلك ما أفضت إليه من الخصام وهكذا بيوع الغرر وقد ثبت نهيه عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها في الصحيحين من حديث ابن عمر وابن عباس وجابر وأنس وفي مسلم من حديث أبي هريرة وفي حديث أنس تعليله ففي الصحيحين عن أنس أن رسول الله نهى عن بيع الثمار حتى تزهى قيل وما تزهى قال حتى تحمر أو تصفر فقال رسول الله أرأيت إذا منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه وفي رواية أن النبي نهى عن بيع الثمر حتى يزهو فقلنا لأنس ما زهوها قال تحمر وتصفر أرأيت إن منع الله الثمرة بم تستحل مال أخيك قال أبو مسعود الدمشقي جعل مالك والداروردي قول أنس أرأيت إن منع الله الثمرة من حديث النبي أدرجاه فيه ويرون أنه غلط

فهذا التعليل سواء كان من كلام النبي أو من كلام أنس فيه بيان أن في ذلك أكل للمال بالباطل حيث أخذه في عقد معاوضة بلا عوض مضمون

وإذا كانت مفسدة بيع الغرر هي كونه مظنة العداوة والبغضاء وأكل الأموال بالباطل فمعلوم أن هذه المفسدة إذا عارضتها المصلحة الراجحة قدمت عليها كما أن السباق بالخيل والسهام والإبل لما كان فيه مصلحة شرعية جاز بالعروض وإن لم يجز غيره بعوض وكما أن اللهو الذي يلهو به الرجل إذا لم يكن فيه منفعة فهو باطل وإن كان فيه منفعة وهو ما ذكره النبي بقوله كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته امرأته فإنهن من الحق صار هذا اللهو حقا

ومعلوم أن الضرر على الناس بتحريم هذه المعاملات أشد عليهم مما قد يتخوف فيها من تباغض أو أكل مال بالباطل لأن الغرر فيها يسير كما تقدم والحاجة إليها ماسة والحاجة الشديدة يندفع بها يسير الغرر والشريعة جميعها مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم إذا عارضها حاجة راجحة أبيح المحرم فكيف إذا كانت المفسدة منتفية ولهذا لما كانت الحاجة داعية إلى بقاء الثمر بعد البيع على الشجر إلى كمال الصلاح أباح الشرع ذلك قاله جمهور العلماء كما سنقرر قاعدته إن شاء الله تعالى ولهذا كان مذهب أهل المدينة وفقهاء الحديث أنها إذا تلفت بعد البيع بجائحة هلكت من ضمان البائع كما رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله لو بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا بم تأخذ مال أخيك بغير حق وفي رواية لمسلم عنه أمر رسول الله بوضع الجوائح والشافعي رضي الله عنه لما لم يبلغه هذا الحديث وإنما بلغه حديث لسفيان بن عيينة اضطرب فيه أخذ في ذلك بقول الكوفيين إنها تكون من ضمان المشتري لأنه مبيع قد تلف بعد القبض لأن المشتري لم يملك إبقاءه على الشجر وإنما موجب العقد عندهم القبض التخلية بين المشتري وبينه قبض وهذا على أصل الكوفيين أمشى لأن الناجز بكل حال وهو طرد لقياس سنذكر أصله وضعفه مع أن مصلحة بني آدم لا تقوم على ذلك ومع أني لا أعلم عن النبي سنة صريحة بأن المبيع التالف قبل التمكن من القبض يكون من مال البائع وينفسخ العقد بتلفه إلا حديث الجوائح هذا ولو لم يكن فيه سنة لكان الاعتبار الصريح يوافقه وهو ما نبه عليه النبي بقوله بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق فإن المشتري

ويعلمون ذلك أجود مما يعلمون العبد برؤية وجهه والمرجع في كل شئ إلى الصالحين من أهل الخبرة به وهم يقرون بأنهم يعرفون هذه الأشياء كما يعرف غيرها مما اتفق المسلمون على جواز بيعه وأوكد

الثاني أن هذا مما تمس حاجة الناس إلى بيعه فإنه إذا لم يبع حتى يقلع حصل على أصحابه ضرر عظيم فإنه قد يتعذر عليهم مباشرة القلع والاستنابة فيه وإن قلعوه جملة فسد بالقلع فبقاؤه في الأرض كبقاء الجوز واللوز ونحوهما في قشره الأخضر

وأحمد وغيره من فقهاء الحديث يجوزون العرايا مع ما فيها من المزابنة لحاجة المشتري إلى أكل الرطب أو البائع إلى أكل الثمر فحاجة البائع هنا أو سحد بكثير وستقرر ذلك إن شاء الله

وكذلك قياس أصول أحمد وغيره من فقهاء الحديث جواز بيع المقاتي باطنها وظاهرها وإن اشتمل ذلك على بيع معدوم إذا بدا صلاحها كما يجوز بالاتفاق إذا بدا صلاح بعض نخله أو شجره أن يباع جميع ثمرها وإن كان فيها ما لم يصلح بعد

وغاية ما اعتذروا به عن خروج هذا من القياس أن قالوا إنه لا يمكن إفراد البيع لذلك من نخلة واحدة لأنه لو أفرد البسرة بالعقد اختلطت بغيرها في يوم واحد لأن البسرة تصفر في يومها وهذا بعينه موجود في المقتاة

وقد اعتذر بعض أصحاب الشافعي وأحمد عن بيع المعدوم تبعا بأن ما يحدث من الزيادة في الثمرة بعد العقد ليس بتابع للموجود وإنما يكون ذلك للمشتري لأنه موجود في ملكه

والجمهور من الطائفتين يعلمون فساد هذا العذر لأنه يجب على البائع سقى الثمرة ويستحق إبقائها على الشجر بمطلق العقد ولو لم يستحق الزيادة بالعقد لما وجب على البائع ما به تؤخذ فإن الواجب على البائع بحكم البيع توفية المبيع الذي أوجبه العقد لا ما كان من موجبات الملك

فأما التزام لفظ مخصوص فليس فيه أثر ولا نظر

وهذه القاعدة الجامعة التي ذكرناها من أن العقود تصح بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل هي التي تدل عليها أصول الشريعة وهي التي تعرفها القلوب وذلك أن الله سبحانه وتعالى قال فانكحوا ما طاب لكم من النساء وقال وأنكحوا الأيامى منكم وقال وأحل الله البيع وقال فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا وقال إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم وقال فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وقال إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه إلى قوله إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة وقال من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا وقال مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل وقال يمحق الله الربا ويربي الصدقات وقال إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لهم وقال فتحرير رقبة وقال فطلقوهن لعدتهن وقال فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف إلى غير ذلك من الآيات المشروع فيها هذه العقود إما أمرا وإما إباحة والمنهي فيها عن بعضها كالربا فإن الدلالة فيها من وجوه

أحدها أنه اكتفى بالتراضي في البيع في قوله إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم وبطيب نفس في التبرع في قوله فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا فتلك الآية في جنس المعاوضات وهذه الآية في

وفي الصحيحين عن أبي مسعود رضي الله عنه قال جاء رجل إلى رسول الله فقال إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلان مما يطيل بنا فما رأيت رسول الله غضب في موعظة قط أشد مما غضب يومئذ قال أيها الناس إن منكم منفرين فأيكم أم الناس فليوجز فإن وراءه الكبير والضعيف وذا الحاجة وفي رواية فإن فيهم الضعيف والكبير وفي رواية فليخفف فإن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة

وفي صحيح البخاري من حديث أبي قتادة عن النبي أنه قال إني لأقوم إلى الصلاة وأنا أريد أن أطول فيها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز كراهية أن أشق على أمه

وأما مقدار بقية الأركان مع القيام فقد أخرجا في الصحيحين عن شريك ابن عبد الله بن أبي نمر عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم صلاة من النبي وفي رواية عن شريك عنه وإن كان ليسمع بكاء الصبي فيخفف مخافة أن تفتتن أمه

وأخرجا فيهما من حديث عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال كان النبي يوجز الصلاة ويكملها وفي لفظ يوجز الصلاة ويتم

وأخرجا أيضا عن أبي قتادة عن أنس رضي الله عنه عن النبي قال إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد أن أطيلها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز من صلاتي مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه رواه مسلم من حديث ثابت عن أنس رضي الله عنه قال كان رسول الله يسمع بكاء الصبي مع أمه وهو في الصلاة فيقرأ بالسورة الخفيفة أو بالسورة القصيرة

وروى مسلم أيضا عن أنس رضي الله عنه قال ما صليت خلف أحد أوجز صلاة ولا أتم من رسول الله وكانت صلاته متقاربة

فقد دعى إلى الجمرة فإذا شرع في الرمي فقد انقضى دعاؤه ولم يبق مكان يدعى إليه محرما لأن الحلق والذبح يفعله حيث أحب من الحرم وطواف الإفاضة يكون بعد التحلل الأول

ولهذا قالوا أيضا بما ثبت عن النبي إنه يلبي بالعمرة إلى أن يستلم الحجر وإن كان ابن عمر ومن اتبعه من أهل المدينة كمالك قالوا يلبي إلى أن يصل إلى الحرم فإنه وإن وصل إليه فإنه مدعو إلى البيت

نعم يستفاد من هذا المعنى أنه إنما يلبي حال سيره لا حال الوقوف بعرفة ومزدلفة وحال المبيت بها وهذا مما اختلف فيه أهل الحديث

فأما التلبية حال السير من عرفة إلى مزدلفة ومن مزدلفة إلى منى فاتفق من جمع الأحاديث الصحيحة عليه

واختلف الناس في أكل المحرم لحم الصيد الذي صاده الحلال وذكاه على ثلاثة أقوال

فقالت طائفة من السلف هو حرام إتباعا لما فهموه من قوله تعالى وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ولما ثبت عن النبي من أنه رد لحم الصيد لما أهدى إليه

وقال آخرون منهم أبو حنيفة بل هو مباح مطلقا عملا بحديث أبي قتادة لما صاد الحمار الوحشي وأهدى لحمه للنبي وأخبره بأنه لم يصده له كما جاء في الأحاديث الصحيحة

وقالت الطائفة الثالثة التي فيها فقهاء الحديث بل هو مباح للمحرم إذا لم يصده له المحرم ولا ذبحه من أجله توفيقا بين الأحاديث كما روى جابر عن النبي أنه قال لحم صيد البر لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصاد لكم قال الشافعي هذا أحسن حديث في هذا الباب وأقيس وهذا مذهب مالك وأحمد والشافعي وغيرهم

وإنما اختلفوا إذا صيد لمحرم بعينه فهل يباح لغيره من المحرمين على قولين هما وجهان في مذهب أحمد رحمه الله تعالى

فصل

عدل

وأما العقود من المعاملات المالية والنكاحية وغيرهم

فنذكر فيها قواعد جامعة عظيمة المنفعة فإن ذلك فيها أيسر منه في العبادات

فمن ذلك صفة العقود فالفقهاء فيها على ثلاثة أقوال

أحدها أن الأصل في العقود أنها لا تصح إلا بالصيغ والعبارات التي قد يخصها بعض الفقهاء باسم الإيجاب والقبول سواء في ذلك البيع والإجارة والهبة والنكاح والوقف والعتق وغير ذلك وهذا ظاهر قول الشافعي وهو قول في مذهب أحمد يكون تارة رواية منصوصة في بعض المسائل كالبيع والوقف ويكون تارة رواية مخرجة كالهبة والإجارة

ثم هؤلاء يقيمون الإشارة مقام العبارة عند العجز عنها كما في الأخرس ويقيمون الكناية أيضا مقام العبارة عند الحاجة وقد يستثنون مواضع دلت النصوص على جوازها إذا مست الحاجة إليها كما في الهدي إذا عطب دون محله فإنه ينحر ثم يصبغ نعله المعلق في عنقه بدمه علامة للناس ومن أخذه ملكه وكذلك الهدية ونحو ذلك لكن الأصل عندهم هو اللفظ لأن الأصل في العقود هو التراضي المذكور في قوله تعالى إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم وقوله تعالى فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا والمعاني التي في النفس لا تنضبط إلا بالألفاظ التي جعلت لإبانة ما في القلب إذ الأفعال من المعاطاة ونحوها تحتمل وجوها كثيرة ولأن العقود من جنس الأقوال فهي في المعاملات كالذكر والدعاء في العبادات

والقول الثاني أنها تصح بالأفعال فما كثر عقده بالأفعال كالمبيعات المحقرات وكالوقف في مثل من بنى مسجدا وأذن للناس في الصلاة فيه أو سبل أرضا الدفن فيها أو بنى مطهرة وسبلها للناس وكبعض أنواع الإجارة كمن دفع ثوبه إلى غسال أو خياط يعمل بالأجرة أو ركب سفينة ملاح وكالهدية ونحو ذلك فإن هذه العقود لو لم تنعقد بالأفعال الدالة عليها لفسدت أكثر أمور الناس ولأن الناس من لدن النبي وإلى يومنا هذا ما زالوا يتعاقدون في مثل هذه الأشياء بلا لفظ بل بالفعل الدال على المقصود

وهذا هو الغالب على أصول أبي حنيفة وهو قول في مذهب أحمد ووجه في مذهب الشافعي بخلاف المعاطاة في الأموال الجليلة فإنه لا حاجة إليه ولم يجر به العرف

والقول الثالث أن العقود تنعقد بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل وبكل ما عده الناس بيعا أو إجارة فإن اختلف اصطلاح الناس في الألفاظ والأفعال انعقد العقد عند كل قوم بما يفهمونه بينهم من الصيغ والأفعال وليس لذلك حد مستقر لا في شرع ولا في لغة بل يتنوع بتنوع اصطلاح الناس كما تنوعت لغاتهم فإن ألفاظ البيع والإجارة في لغة العرب ليست هي الألفاظ التي في لغة الفرس أو الروم أو الترك أو البربر أو الحبشة بل قد تختلف ألفاظ اللغة الواحدة

ولا يجب على الناس التزام نوع معين من الاصطلاحات في المعاملات ولا يحرم عليهم التعاقد بغير ما يتعاقد به غيرهم إذا كان ما تعاقدوا به دالا على مقصودهم وإن كان قد يستحب بعض الصفات وهذا هو الغالب على أصول مالك وظاهر مذهب أحمد ولهذا يصحح في ظاهر مذهبه بيع المعاطاة مطلقا وإن كان قد وجد اللفظ من أحدهما والفعل من الآخر بأن يقول خذ هذا بدراهم فيأخذه أو يقول أعطني خبزا بدراهم فيعطيه ما يقبضه أو لم يوجد لفظ من أحدهما بأن يضع الثمن ويقبض جزرة البقل أو الحلواء أو غير ذلك كما يتعامل به غالب الناس أو يضع المتاع له ليوضع بدله فإذا وضع البدل الذي يرضى به أخذه كما يحكيه التجار عن عادة بعض أهل المشرق فكل ما عده الناس بيعا فهو بيع وكذلك في الهبة كل ما عده الناس هبة

ومثل تجهيز الزوجة بمال يحمل معها إلى بيت زوجها إذا كانت العادة جارية بأنه عطية لا عارية وكذلك الإجارات مثل ركوب سفينة الملاح المكاري وركوب دابة الجمال أو الحمار أو البغال المكاري على الوجه الذي اعتقد أنه إجارة ومثل الدخول إلى الحمامات التي يدخلها الناس بالأجر ومثل دفع الثوب إلى غسال أو خياط يعمل بالأجر أو دفع الطعام إلى طباخ أو شواء يطبخ أو يشوي بالأجر سواء شوي اللحم مشروحا أو غير مشروح حتى اختلف أصحابه في الخلع هل يقع بالمعاطاة مثل أن تقول اخلعني بهذه الألف أو بهذا الثوب فيقبض العوض على الوجه المعتاد من أن ذلك رضا منه بالمعاوضة

فذهب العكبريون كأبي حفص العكبري وأبي على بن شهاب إلى أن ذلك خلع صحيح وذكروا من كلام أحمد ومن قبله من السلف من الصحابة والتابعين ما يوافق قولهم ولعله هو الغالب على نصوصه بل لقد نص على أن الطلاق يقع بالقول وبالفعل واحتج على أنه يقع بالكتاب بقول النبي إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به قال وإذا كتب فقد عمل

وذهب البغداديون الذين كانوا في ذلك الوقت كأبي عبد الله بن حامد ومن اتبعهم كالقاضي أبي يعلى ومن سلك سبيله أنه لا تقع الفرقة إلا بالكلام وذكروا من كلام أحمد ما اعتمدوه في ذلك بناء على أن الفرقة فسخ النكاح والنكاح يفتقر إلى لفظ فكذلك فسخه

وأما النكاح فقال هؤلاء كابن حامد والقاضي وأصحابه مثل أبي الخطاب

وعامة المتأخرين إنه لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح والتزويج كما قاله الشافعي بناء على أنه لا ينعقد بالكناية لأن الكناية تفتقر إلى نية والشهادة شرط في صحة النكاح والشهادة على النيه غير ممكنة ومنعوا من انعقاد النكاح بلفظ الهبة أو العطية أو غيرهما من ألفاظ التمليك

وقال أكثر هؤلاء كابن حامد والقاضي والمتأخرين إنه لا ينعقد إلا بلفظ العربية لمن يحسنها ومن لم يقدر على تعلمها انعقد بمعناها الخاص بكل لسان وإن قدر على تعلمها ففيه وجهان بناء على أنه مختص بهذين اللفظين وأن فيه ثواب التعبد

وهذا مع أنه ليس منصوصا عن أحمد فهو مخالف لأصوله ولم ينص أحمد على ذلك ولا نقلوا عنه نصا في ذلك وإنما نقلوا قوله في رواية أبي الحرث إذا وهبت نفسها لرجل فليس بنكاح فإن الله تعالى قال خالصة لك من دون المؤمنين وهذا إنما هو نص على منع ما كان من خصائص النبي وهو النكاح بغير مهر بل قد نص أحمد في المشهور عنه على أن النكاح ينعقد بقوله لأمته أعتقتك وجعلت عتقك صداقك وبقوله جعلت عتقك صداقك أو صداقك عتقك ذكر ذلك في غير موضع من جواباته

فاختلف أصحابه فأما أبو عبد الله بن حامد فطرد قياسه وقال لا بد مع ذلك من أن يقول تزوجتها أو نكحتها لأن النكاح لا ينعقد قط بالعربية إلا بهاتين الصيغتين

وأما القاضي أبو يعلى وغيره فجعلوا هذه الصورة مستثناة من القياس الذي وافقوا عليه ابن حامد وأن ذلك من صور الاستحسان

وذكر ابن عقيل قولا في المذهب أنه ينعقد بغير لفظ الإنكاح والتزويج لنص أحمد بهذا وهذا أشبه بنصوص أحمد وأصوله

ومذهب مالك في ذلك شبيه بمذهبه فأن أصحاب مالك اختلفوا هل

بيعه بحال كقول الشافعي الجديد والثانية يصح وإن لم يوصف وللمشتري الخيار إذا رآه كقول أبي حنيفة وقد روي عن أحمد لا خيار له والثالثة وهي المشهور أنه لا يصح بالصفة ولا يصح بدون الصفة كالمطلق الذي في الذمة وهو قول مالك

ومفسدة الغرر أقل من الربا فلذلك رخص فيما تدعو إليه الحاجة منه فإن تحريمه أشد ضررا من ضرر كونه غررا مثل بيع العقار جملة وإن لم يعلم دواخل الحيطان والأساس ومثل بيع الحيوان الحامل أو المرضع وإن لم يعلم مقدار الحمل أو اللبن وإن كان قد نهي عن بيع الحمل مفردا وكذلك اللبن عند الأكثرين وكذلك بيع الثمرة بعد بدو صلاحها فإنه يصح مستحق الإبقاء كما دلت عليه السنة وذهب إليه الجمهور كمالك والشافعي وأحمد وإن كانت الأجزاء التي يكمل الصلاح بها لم تخلق بعد

وجوز النبي إذا باع نخلا قد أبرت أن يشترط المبتاع ثمرتها فيكون قد اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها لكن على وجه البيع للأصل

فظهر أنه يجوز من الغرر اليسير ضمنا وتبعا ما لا يجوز من غيره

ولما احتاج الناس إلى العرايا رخص في بيعها بالخرص فلم يجوز المفاضلة المتيقنة بل سوغ المساواة بالخرص في القليل الذي تدعو إليه الحاجة وهو قدر النصاب خمسة أوسق أو ما دون النصاب على اختلاف القولين الشافعي وأحمد وإن كان المشهور عن أحمد ما دون النصاب

إذا تبين ذلك فأصول مالك في البيوع أجود من أصول غيره فإنه أخذ ذلك عن سعيد بن المسيب الذي كان يقال هو أفقه الناس في البيوع كما كان يقال عطاء أفقه الناس في المناسك وإبراهيم أفقههم في الصلاة والحسن أجمع لذلك كله ولهذا وافق أحمد كل واحد من التابعين في أغلب ما فضل فيه لمن استقرأ ذلك في أجوبته ولهذا كان أحمد موافقا له في الأغلب فإنهما يحرمان

جنس التبرعات ولم يشترط لفظا معينا ولا فعلا معينا يدل على التراضي وعلى طيب النفس ونحن نعلم بالاضطرار من عادات الناس في أقوالهم وأفعالهم أنهم يعلمون التراضي وطيب النفس بطرق متعددة من الأقوال والأفعال

فنقول قد وجد التراضي وطيب النفس والعلم به ضروري في غالب ما يعتاد من العقود وهو ظاهر في بعضها وإذا وجد تعلق الحكم بهما بدلالة القرآن وبعض الناس قد يحمله اللد في نصره لقول معين على أن يجحد ما يعلمه الناس من التراضي وطيب النفس فلا عبرة بجحد مثل هذا فإن جحد الضروريات قد يقع كثيرا عن مواطأة وتلقين في الأخبار والمذاهب فالعبرة بالفطرة السليمة التي لم يعارضها ما يغيرها ولهذا قلنا إن الأخبار المتواترة يحصل بها العلم حيث لا تواطؤ على الكذب لأن الفطرة السليمة لا تتفق على الكذب فأما مع التواطؤ والاتفاق فقد يتفق جماعات على الكذب

الوجه الثاني أن هذه الأسماء جاءت في كتاب الله وسنة رسوله معلقا بها أحكام شرعية وكل اسم فلا بد له من حد فمنه ما يعلم حده باللغة كالشمس والقمر والبر والبحر والسماء والأرض ومنه ما يعلم بالشرع كالمؤمن والكافر والمنافق وكالصلاة والزكاة والصيام والحج وما لم يكن له حد في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى عرف الناس كالقبض المذكور في قوله من ابتاع طعاما فلا يبيعه حتى يقبضه

ومعلوم أن البيع والإجارة والهبة ونحوها لم يحد الشارع لها حدا لا في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا نقل عن أحد من الصحابة والتابعين أنه عين للعقود صفة معينة الألفاظ أو غيرها أو قال ما يدل على ذلك من أنها لا تنعقد إلا بالصيغ الخاصة بل قد قيل إن هذا القول مما يخالف الإجماع القديم وأنه من البدع وليس لذلك حد في لغة العرب بحيث يقال إن أهل اللغة يسمون هذا بيعا ولا يسمون هذا بيعا حتى يدخل أحدهما في خطاب الله ولا يدخل الآخر

واختلف أصحابهما في الثواب هل هو ثواب يوم كامل أو من حين نواه والمنصوص عن أحمد أن الثواب من حين النية

وكذلك اختلفوا في التعيين وفيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره

أحدها أنه لا بد من نية رمضان فلا تجزئ نية مطلقة ولا معينة لغير رمضان وهذا قول الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين اختارها كثير من الصحابة

والثاني انه يجزئ بنية مطلقة ومعنية لغيره كمذهب أبي حنيفة ورواية محكية عن أحمد

والثالث انه يجزئ بالنية المطلقة دون نية التطوع أو القضاء أو النذر وهو رواية عن أحمد اختارها طائفة من أصحابه

فصل

عدل

واختلفوا في صوم يوم الغيم وهو ما إذا حال دون مطلع الهلال غيم أو قتر ليلة الثلاثين من شعبان فقال قوم يجب صومه بنية من رمضان احتياطا وهذه الرواية عن أحمد وهى التي اختارها أكثر متأخرى أصحابه وحكوها عن أكثر متقدميهم بناء على ما تأولوه من الحديث وبناء على أن الغالب على شعبان هو النقص فيكون الأظهر طلوع الهلال كما هو الغالب فيجب بغالب الظن

وقالت طائفة لا يجوز صومه من رمضان وهذه رواية عن أحمد اختارها طائفة من أصحابه كابن عقيل والحلواني وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي استدلالا بما جاء من الأحاديث وبناء على أن الوجوب لا يثبت بالشك

وهناك قول ثالث وهو أنه يجوز صومه من رمضان ويجوز فطره والأفضل صومه من وقت الفجر ومعلوم أنه لو عرف وقت الفجر الذي يجوز طلوعه جاز له الإمساك والأكل وإن أمسك وقت الفجر فإنه لا معنى لاستحباب

وأيضا فإن الرواية اختلفت عن أحمد إذا بدا الصلاح في حديقة من الحدائق هل يجوز بيع جميعها أم لا يباع إلا ما صلح منها على روايتين

أشهرهما عنه أنه لا يباع إلا ما بدا صلاحه وهى اختيار قدماء أصحابه كأبي بكر وابن شاقلا

والرواية الثانية يكون بدو الصلاح في البعض صلاحا للجميع وهي اختيار أكثر أصحابه كابن حامد والقاضي ومن تبعها

ثم المنصوص عنه في هذه الرواية أنه قال إذا كان في بستان بعضه بالغ وبعضه غير بالغ بيع إذا كان الأغلب عليه البلوغ فمنهم من فرق بين صلاح القليل والكثير كالقاضي أخيرا وأبي حكيم النهرواني وأبي البركات وغيرهم ممن قصر الحكم بما إذا غلب الصلاح ومنهم من سوى بين الصلاح القليل والكثير كأبي الخطاب وجماعات وهو قول مالك والشافعي والليث وزاد مالك فقال يكون صلاحا لما جاوره من الأقرحة وحكوا ذلك رواية عن أحمد

واختلف هؤلاء هل يكون صلاح النوع كالبرني من الرطب صلاحا لسائر أنواع الرطب على وجهين في مذهب الشافعي وأحمد

أحدهما المنع وهو قول القاضي وابن عقيل وأبي محمد

والثاني الجواز وهو قول أبي الخطاب

وزاد الليث على هؤلاء فقال صلاح الجنس كالتفاح واللوز يكون صلاحا لسائر أجناس الثمار

ومأخذ من جوز شيئا من ذلك أن الحاجة تدعو إلى ذلك فإن بيع بعض ذلك دون بعض يفضي إلى سوء المشاركة واختلاف الأيدي وهذه علة من فرق بين البستان الواحد والبساتين ومن سوى بينهما فإنه قال المقصود الأمن من العاهة وذلك يحصل بشروع الثمر في الصلاح

ومأخذ من منع ذلك أن قول النبي حتى يبدو صلاحها يقتضي بدو صلاح الجميع

بل تسمية أهل العرف من العرب هذه المعاقدات بيعا دليل على أنها في لغتهم تسمى بيعا والأصل بقاء اللغة وتقريرها لا نقلها وتغييرها فإذا لم يكن له حد في الشرع ولا في اللغة كان المرجع فيه إلى عرف الناس وعاداتهم فما سموه بيعا فهو بيع وما سموه هبة فهو هبة

الوجه الثالث أن تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان عبادات يصلح بها دينهم وعادات يحتاجون إليها في دنياهم فباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع

وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه والأصل فيه عدم الحظر فلا يحظر منه إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى وذلك لأن الأمر والنهي هما شرع الله والعبادة لا بد أن يكون مأمور ا بها فما لم يثبت أنه مأمور به كيف يحكم عليه بأنه محظور ولهذا كان أحمد وغيره من فقهاء أهل الحديث يقولون إن الأصل في العبادات التوقيف فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله وإلا دخلنا في معنى قوله تعالى أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله

والعادات الأصل فيها العفو فلا يحظر منها إلا ما حرمه وإلا دخلنا في معنى قوله أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا ولهذا ذم الله المشركين الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله وحرموا ما لم يحرمه في سورة الأنعام من قوله تعالى وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون وقالوا هذا أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون فذكر ما ابتدعوه من العبادات ومن التحريمات

وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار رضي الله عنه عن النبي قال قال الله تعالى إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا

وهذه قاعدة عظيمة نافعة وإذا كان كذلك فنقول

البيع والهبة والإجارة وغيرها من العادات التي يحتاج الناس إليها في معاشهم كالأكل والشرب واللباس فإن الشريعة قد جاءت في هذه العادات بالآداب الحسنة فحرمت منها ما فيه فساد وأوجبت ما لا بد منه وكرهت ما لا ينبغي واستحبت ما فيه مصلحة راجحة في أنواع هذه العادات ومقاديرها وصفاتها

وإذا كان كذلك فالناس يتبايعون ويستأجرون كيف شاءوا ما لم تحرم الشريعة كما يأكلون ويشربون كيف شاءوا ما لم تحرم الشريعة وإن كان بعض ذلك قد يستحب أو يكون مكروها وما لم تحد الشريعة في ذلك حدا فيبقون فيه على الإطلاق الأصلي

وأما السنة والإجماع فمن تتبع ما ورد عن النبي والصحابة من أنواع المبايعات والمؤاجرات والتبرعات علم ضرورة أنهم لم يكونوا يلتزمون الصيغة من الطرفين والآثار في ذلك كثيرة ليس هذا موضعها إذ الغرض التنبيه على القواعد وإلا فالكلام في أعيان المسائل له موضع غير هذا

فمن ذلك أن رسول الله بنى مسجده والمسلمون بنوا المساجد على عهده وبعد موته ولم يأمر أحدا أن يقول وقفت هذا المسجد ولا ما يشبه هذا اللفظ بل قال النبي من بنى لله مسجدا بنى الله

له بيتا في الجنة فعلق الحكم بنفس بنائه وفي الصحيحين أنه لما اشترى الجمل من عبد الله بن عمر بن الخطاب قال هو لك يا عبد الله ابن عمر ولم يصدر من ابن عمر قبول وكان يهدي ويهدي له فيكون قبض الهدية قبولها ولما نحر البدنات قال من شاء اقتطع مع إمكان قسمتها فكان هذا إيجابا وكان الاقتطاع هو القبول وكان يسأل فيعطي أو يعطي من غير سؤال فيقبض المعطى ويكون الإعطاء هو الإيجاب والأخذ هو القبول في قضايا كثيرة جدا ولم يكن يأمر الآخذين بلفظ ولا يلتزم أن يتلفظ لهم بصيغة كما في إعطائه للمؤلفة قلوبهم وللعباس وغيرهم

وجعل إظهار الصفات في المبيع بمنزلة اشتراطها باللفظ في مثل المصراة ونحوها من المدلسات

وأيضا فإن التصرفات جنسان عقود وقبوض كما جمعها النبي في قوله رحم الله عبدا سمحا إذا باع سمحا إذا اشترى سمحا إذا قضى سمحا إذا اقتضى ويقول الناس البيع والشراء والأخذ والعطاء والمقصود من العقود إنما هو القبض والاستيفاء فإن المعاقدات تفيد وجوب القبض وجوازه بمنزلة إيجاب الشارع ثم التقابض ونحوه وفاء بالعقود بمنزلة فعل المأمور به في الشرعيات

والقبض ينقسم إلى صحيح وفاسد كالعقد وتتعلق به أحكام شرعية كما تتعلق بالقبض فإذا كان المرجع في القبض إلى عرف الناس وعاداتهم من غير حد يستوي فيه جميع الناس في جميع الأحول والأوقات فكذلك العقود وإن حررت عبارته قلت أحد نوعى التصرفات فكان المرجوع فيه إلى عادة الناس كالنوع الآخر

ومما يلتحق بهذا أن الإذن العرفي في الإباحة أو التمليك أو التصرف بطريق الوكالة كالإذن اللفظي فكل واحد من الوكالة والإباحة ينعقد بما يدل عليها من قول وفعل والعلم برضي المستحق يقوم مقام إظهاره للرضا

وعلى هذا يخرج مبايعة النبي عن عثمان بن عفان بيعة الرضوان وكان غائبا وإدخاله أهل الخندق إلى منزل أبي طلحة ومنزل جابر بدون استئذانهما لعلمه أنهما راضيان بذلك ولما دعاه اللحام سادس ستة اتبعهم رجل فلم يدخله حتى استأذن اللحام الداعي وكذلك ما يؤثر عن الحسن البصري أن أصحابه لما دخلوا منزله وأكلوا طعامه قال ذكرتموني أخلاق قوم قد مضوا وكذلك معنى قول أبي جعفر إن الإخوان من يدخل أحدهم يده في جيب صاحبه فيأخذ منه ما شاء

ومن ذلك قوله لمن استوهبه كبة شعر أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فقد وهبته لك وكذلك إعطاؤه المؤلفة قلوبهم عند من يقول إنه أعطاهم من أربعة الأخماس

وعلى هذا خرج الإمام أحمد بيع حكيم بن حزم وعروة بن الجعد لما وكله النبي في شراء شاه بدينار فاشترى شاتين وباع إحداهما بدينار

فإن التصرف بغير استئذان خاص تارة بالمعاوضة وتارة بالتبرع وتارة بالانتفاع مأخذه إما إذن عرفي عام أو خاص

فصل

عدل

القاعدة الثانية في المعاقد حلالها وحرامها

والأصل في ذلك أن الله حرم في كتابه أكل أموالنا بيننا بالباطل وذم الأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل وذم اليهود على أخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وهذا يعم كل ما يؤكل بالباطل في المعاوضات والتبرعات وما يؤخذ بغير رضا المستحق والاستحقاق

وأكل المال بالباطل في المعاوضة نوعان ذكرهما الله في كتابه هما الربا والميسر فذكر تحريم الربا الذي هو ضد الصدقة في آخر سورة البقرة وسور آل عمران والروم والمدثر وذم اليهود عليه في سورة النساء وذكر تحريم الميسر في المائدة

ثم إن رسول الله فصل ما جمعه الله في كتابه فنهى عن بيع الغرر كما رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه والغرر هو المجهول العاقبة فإن بيعه من الميسر الذي هو القمار وذلك أن العبد إذا أبق أو الفرس أو البعير إذا شرد فإن صاحبه إذا باعه فإنما يبيعه مخاطرة فيشتريه المشتري بدون ثمنه بكثير فإن حصل له قال البائع قمرتني وأخذت مالي بثمن قليل وإن لم يحصل قال المشتري قمرتني وأخذت الثمن مني بلا عوض فيفضي إلى مفسدة الميسر التي هي إيقاع العداوة والبغضاء مع ما فيه من أكل المال بالباطل الذي هو نوع من الظلم ففي بيع الغرر ظلم وعداوة وبغضاء

وما نهى عنه النبي من بيع حبل الحبلة والملاقيح والمضامين ومن بيع السنين وبيع الثمر قبل بدو صلاحه وبيع الملامسة والمنابذة ونحو ذلك كله من نوع الغرر وأما الربا فتحريمه في القرآن أشد ولهذا قال تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فائذنوا بحرب من الله ورسوله وذكره النبي في الكبائر كما خرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وذكر الله أنه حرم على الذين هادوا طيبات أحلت لهم بظلمهم وصدهم عن سبيل الله وأخذهم الربا وأكلهم أموال الناس بالباطل وأخبر سبحانه أنه يمحق الربا كما يربي الصدقات وكلاهما أمر مجرب عند الناس وذلك أن الربا أصله إنما يتعامل به المحتاج وإلا فالموسر لا يأخذ ألفا حالة

ينعقد بغير لفظ الإنكاح والتزويج على قولين والمنصوص عنه إنما هو منع ما اختص به النبي من هبة البضع بغير مهر قال ابن القاسم وإن وهب ابنته وهو يريد إنكاحها فلا أحفظه عن مالك فهو عندي جائز وما ذكره بعض أصحاب مالك وأحمد من أنه لا ينعقد إلا بهذين اللفظين بعيد عن أصولهما فإن الحكم مبني على مقدمتين

إحداهما أن ما سوي ذلك كناية وأن الكناية مفتقرة إلى النية ومذهبهما المشهور أن دلالة الحال في الكنايات تجعلها صريحة وتقوم مقام إظهار النية ولهذا جعلا الكنايات في الطلاق والقذف ونحوهما مع دلالة الحال كالصريح

ومعلوم أن دلالات الأحوال في النكاح معروفة من اجتماع الناس لذلك والتحدث بما اجتمعوا له فإذا قال بعد ذلك ملكتكها لك بألف درهم علم الحاضرون بالاضطرار أن المراد به الانكاح وقد شاع هذا اللفظ في عرف الناس حتى سموا عقده إملاكا وملاكا ولهذا روى الناس قول النبي لخاطب الواهبة الذي التمس فلم يجد خاتما من حديد رووه تارة أنكحتكها بما معك من القرآن وتارة ملكتكها وإن كان النبي لم يثبت عنه أنه اقتصر على ملكتكها بل إما أنه قالهما جميعا أو قال أحدهما لكن لما كان اللفظان عندهم في مثل هذا الموضع سواء رووا الحديث تارة هكذا وتارة هكذا

ثم تعيين اللفظ العربي في مثل هذا في غاية البعد عن أصول أحمد ونصوصه وعن أصول الأدلة الشرعية إذ النكاح يصح من الكافر والمسلم وهو وإن كان قربة فإنما هو كالعتق والصدقة ومعلوم أن العتق لا يتعين له لفظ لا عربي ولا عجمي وكذلك الصدقة والوقف والهبة لا يتعين لها لفظ عربي بالإجماع

وفي رواية له ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تستوي قائما وباقيه مثله وفي رواية وإذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك وما انتقصت من هذا فإنما انتقصته من صلاتك

وعن رفاعة بن رافع رضي الله عنه أن رجلا دخل المسجد فذكر الحديث وقال فيه فقال النبي إنه لا تتم صلاة لأحد من الناس حتى يتوضأ فيضع الوضوء مواضعه ثم يكبر ويحمد الله عز وجل ويثني عليه ويقرأ بما شاء من القرآن ثم يقول الله أكبر ثم يركع حتى يطمئن راكعا ثم يقول الله أكبر ثم يرفع رأسه حتى يستوي قائما ثم يسجد حتى يطمئن ساجدا ثم يقول الله أكبر ثم يرفع رأسه حتى يستوي قاعد ثم يقول الله أكبر ثم يسجد حتى تطمئن مفاصله ثم يرفع رأسه فيكبر فإذا فعل ذلك فقد تمت صلاته وفي رواية إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمر الله عز وجل فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين ثم يكبر الله ويحمده ثم يقرأ من القرآن ما أذن له وتيسر وذكر نحو اللفظ الأول وقال ثم يكبر فيسجد فيمكن وجهه وربما قال جبهته من الأرض حتى تطمئن مفاصله وتسترخي ثم يكبر فيستوي قاعدا على مقعدته ويقيم صلبه فوصف الصلاة هكذا أربع ركعات حتى فرغ ثم قال لا تتم صلاة لأحدكم حتى يفعل ذلك رواه أهل السنن أبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن والروايتان لفظ أبي داود

وفي رواية ثالثة له قال إذا قمت فتوجهت إلى القبلة فكبر ثم اقرأ بأم القرآن وبما شاء الله أن تقرأ فإذا ركعت فضع راحتك على ركبتيك وامدد ظهرك وقال إذا سجدت فمكن لسجودك فإذا رفعت فاقعد على فخذك اليسرى وفي رواية أخرى قال إذا أنت قمت في صلاتك فكبر الله عز وجل ثم اقرأ ما تيسر عليك من القرآن وقال فيه فإذا جلست في وسط

كعبد الرحمن بن عوف وابن عباس وغيرهما الحائض إذا طهرت قبل الغروب أن تصلي الظهر والعصر وإذا طهرت قبل الفجر أن تصلي المغرب والعشاء وأحمد موافق في هذه المسائل لمالك رحمه الله وزائد عليه بما جاءت به الآثار والشافعي رحمه الله هو دون مالك في ذلك وأبو حنيفة أصله في الجمع معروف وكذلك أوقات الاستحباب فإن أهل الحديث يستحبون الصلاة في أول الوقت في الجملة إلا حيث يكون في التأخير مصلحة راجحة كما جاءت به السنة فيستحبون تأخير الظهر في الحر مطلقا سواء كانوا مجتمعين أو متفرقين ويستحبون تأخير العشاء ما لم يشق

وبكل ذلك جاءت السنن الصحيحة التي لا دافع لها وكل من الفقهاء يوافقهم في البعض أو الأغلب

فأبو حنيفة يستحب التأخير إلا في المغرب والشافعي يستحب التقديم مطلقا حتى في العشاء على أحد القولين وحتى في الحر إذا كانوا مجتمعين وحديث أبي ذر الصحيح فيه أمر النبي لهم بالإبراد وكانوا مجتمعين

فصل

عدل

وأما الأذان الذي هو شعار الإسلام فقد استعمل فقهاء الحديث كأحمد

ومنها أنواع تكبيرات العيدين يجوز كل مأثور وإن استحب بعضه

ومنها التكبير على الجنائز يجوز على المشهور التربيع والتخميس والتسبيع وإن اختار التربيع

وأما بقية الفقهاء فيختارون بعض ذلك ويكرهون بعضه فمنهم من يكره الترجيع في الأذان كأبي حنيفة ومنهم من يكره تركه كالشافعي ومنهم من يكره شفع الإقامة كالشافعي ومنهم من يكره إفرادها حتى صار الأمر بأتباعهم إلى نوع جاهلية فصاروا يقتتلون في بعض بلاد المشرق على ذلك حمية جاهلية مع أن الجميع حسن قد أمر به رسول الله أمر بلالا بإفراد الإقامة وأمر أبا محذورة بشفعها وإنما الضلالة حق الضلالة أن ينهي أحد عما أمر به النبي

فصل

عدل

فأما صفة الصلاة فمن شعائرها مسألة البسملة

فإن الناس اضطربوا فيها نفيا وإثباتا في كونها آية من القرآن وفي قراءتها وصنفت من الطرفين مصنفات يظهر في بعض كلامها نوع من جهل وظلم مع أن الخطب فيها يسير وأما التعصب لهذه المسائل ونحوها فمن عائر الفرقة والاختلاف الذي نهينا عنه إذ الداعي لذلك هو ترجيح الشعائر المفرقة بين الأمة وإلا فهذه المسائل من أخف مسائل الخلاف جدا لولا ما يدعو إليه الشيطان من إظهار شعار الفرقة

فأما كونها آية من القرآن فقالت طائفة كمالك ليست من القرآن إلا في سورة النمل والتزموا أن الصحابة أودعت المصحف ما ليس من كلام الله على سبيل التبرك

وحكى طائفة من أصحاب أحمد هذا رواية عنه وربما اعتقد بعضهم أنه مذهبه

وقالت طائفة منهم الشافعي ما كتبوها في المصحف بقلم المصحف مع تجريدهم للمصحف عما ليس من القرآن إلا وهي من السورة مع أدلة أخرى

وتوسط أكثر فقهاء الحديث كأحمد ومحققي أصحاب أبي حنيفة فقالوا كتابتها في المصحف تقتضي أنها من القرآن للعلم بأنهم لم يكتبوا فيه ما ليس بقرآن لكن لا يقتضي ذلك أنها من السورة بل تكون أية مفردة أنزلت في أول كل سورة كما كتبها الصحابة سطرا مفصولا كما قال ابن عباس كان لا يعرف فصل السورة حتى ينزل بسم الله الرحمن الرحيم

فعند هؤلاء هي آية من كتاب الله في أول كل سورة كتبت في أولها وليست من السورة وهذا هو المنصوص عن أحمد في غير موضع ولم يوجد عنه نقل صريح بخلاف ذلك وهو قول عبد الله بن المبارك وغيره وهو أوسط الأقوال وأعدلها

وكذلك الأمر في تلاوتها في الصلاة طائفة لا تقرؤها لا سرا ولا جهرا كمالك والأوزاعي وطائفة تقرؤها جهرا كأصحاب ابن جريج والشافعي والطائفة الثالثة المتوسطة جماهير فقهاء الحديث مع فقهاء أهل الرأي يقرءونها سرا كما نقل عن جماهير الصحابة مع أن أحمد يستعمل ما روى عن الصحابة في هذا الباب فيستحب الجهر بها لمصلحة راجحة حتى إنه نص على أن من صلى بالمدينة يجهر بها قال بعض أصحابه لأنهم كانوا ينكرون على من يجهر بها ويستحب للرجل أن يقصد إلى تأليف هذه القلوب بترك هذه المستحبات لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا كما ترك النبي تغيير بناء البيت لما رأى في إبقائه من تأليف القلوب وكما أنكر ابن مسعود على عثمان إتمام الصلاة في السفر ثم صلى خلفه متما وقال الخلاف شر

وهذا وإن كان وجها حسنا فمقصود أحمد أن أهل المدينة كانوا لا يقرءونها فيجهر بها ليبين أن قراءتها سنة كما جهر ابن عباس بقراءة أم الكتاب على الجنازة وقال لتعلموا أنها سنة وكما جهر عمر بالاستفتاح غير مرة وكما كان النبي يجهر بالآية أحيانا في صلاة الظهر والعصر ولهذا نقل عن أكثر من روى عنه الجهر بها من الصحابة المخافتة فكأنهم جهروا لإظهار أنهم يقرءونها كما جهر بعضهم بالاستعاذة أيضا

والاعتدال في كل شئ استعمال الآثار على وجهها فإن كون النبي كان يجهر بها دائما وأكثر الصحابة لم ينقلوا ذلك ولم يفعلوه ممتنع قطعا وقد ثبت عن غير واحد منهم نفيه عن النبي ولم يعارض ذلك خبر ثابت إلا وهو محتمل وكون الجهر بها لا يشرع بحال مع أنه قد ثبت عن غير واحد من الصحابة نسبة للصحابة إلى فعل المكروه وإقراره مع أن الجهر في صلاة المخافتة يشرع لعارض كما تقدم وكراهة قراءتهم مع ما في قراءتها من الآثار الثابتة عن الصحابة المرفوع بعضها إلى النبي وكون الصحابة كتبوها في المصحف وأنها كانت تنزل مع السورة فيه ما فيه مع أنها إذا قرئت في أول كتاب سليمان فقراءتها في أول كتاب الله في غاية المناسبة

فمتابعة الآثار فيها الاعتدال والائتلاف والتوسط الذي هو أفضل الأمور

ثم مقدار الصلاة يختار فيه فقهاء الحديث صلاة النبي التي كان يفعلها غالبا وهي الصلاة المعتدلة المتقاربة التي يخفف فيها القيام والقعود ويطيل فيها الركوع والسجود ويسوي بين الركوع والسجود وبين الاعتدال منهما كما ثبت ذلك عن النبي مع كون قراءته في الفجر بما بين الستين إلى المائة آية وفي الظهر بنحو الثلاثين آية وفي العصر والعشاء على النصف من ذلك مع أنه قد كان يخفف عن هذه الصلاة لعارض كما قال إني لأدخل في الصلاة وإني أريد أن أطيلها فأسمع بكاء الصبي فأخفف لما أعلم من وجد أمه به كما أنه قد يطيلها عن ذلك لعارض كما قرأ في المغرب بطولى الطوليين وهى الأعراف

ويستحب إطالة الركعة الأولى من كل صلاة على الثانية ويستحب أن يمد في الأوليين ويحذف في الأخريين كما رواه سعد بن أبي وقاص عن النبي وعامة فقهاء الحديث على هذا

ومن الفقهاء من لا يستحب أن يطيل الاعتدال من الركوع والسجود ومنهم من يراه ركنا خفيفا بناء على أنه يشرع تابعا لأجل الفصل لا أنه مقصود

ومنهم من يسوي بين الركعتين الأوليين

ومنهم من يستحب ألا يزيد الإمام في تسبيح الركوع والسجود على ثلاث تسبيحات إلى أقوال أخر قالوها

فصل

عدل

في بيان ما أمر الله به ورسوله من إقامة الصلاة وإتمامها والطمأنينة فيها

قال الله تعالى في غير موضع من كتابه أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وقال تعالى إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين وقال تعالى قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم

أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم على صلواتهم يحافظون وقال تعالى واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين وقالت تعالى فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا وقال تعالى فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا وقال تعالى حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين وسيأتي ببيان الدلالة في هذه الآيات

وقد أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين وأخرج أصحاب السنن أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأصحاب المسانيد كمسند احمد وغير ذلك من أصول الإسلام عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله دخل المسجد فدخل رجل ثم جاء فسلم على النبي فرد رسول الله وقال ارجع فصل فإنك لم تصل فرجع الرجل فصلى كما كان صلى ثم سلم عليه فقال رسول الله وعليك السلام ثم قال ارجع فصل فإنك لم تصل حتى فعل ذلك ثلاث مرات فقال الرجل والذي بعثك بالحق ما أحسن غير هذا فعلمني قال إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعتدل قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم اجلس حتى تطمئن جالسا ثم افعل ذلك في صلاتك كلها وفي رواية للبخاري إذا قمت إلى الصلاة فاسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر واقرأ بما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع رأسك حتى تعتدل قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تستوي وتطمئن جالسا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تستوى قائما ثم افعل ذلك في صلاتك كلها

فصل

عدل

وأما إذا ابتدؤا الصلاة بالمواقيت ففقهاء الحديث قد استعلموا في هذا الباب جميع النصوص الواردة عن النبي في أوقات الجواز وأوقات الاختيار

فوقت الفجر ما بين طلوع الفجر الصادق إلى طلوع الشمس ووقت الظهر من الزوال إلى مصير ظل كل شيء مثله سوى في الزوال ووقت العصر إلى اصفرار الشمس على ظاهر مذهب أحمد ووقت المغرب إلى مغيب الشفق ووقت العشاء إلى منتصف الليل على ظاهر مذهب أحمد وهذا بعينه قول رسول الله في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو وروي أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وليس عن النبي حديث من قوله في المواقيت الخمس أصح منه وكذلك صح معناه من غير وجه من فعل النبي في المدينة من حديث أبي موسى وبريدة رضى الله عنهما وجاء مفرقا في عدة أحاديث وغالب الفقهاء إنما استعملوا غالب ذلك

فأهل العراق المشهور عنهم أن العصر لا يدخل وقتها حتى يصير ظل كل شئ مثليه وأهل الحجاز مالك وغيره ليس للمغرب عندهم إلا وقت واحد

فصل

عدل

وكذلك نقول بما جاءت به السنة والآثار من الجمع بين الصلاتين في السفر والمطر والمرض كما في حديث المستحاضة وغير ذلك من الأعذار

؟ ونقول بما دل عليه الكتاب والسنة والآثار من أن الوقت وقتان وقت اختيار وهو خمس مواقيت ووقت اضطرار وهو ثلاث مواقيت ولهذا أمرت الصحابة

الصلاة فاطمئن وافترش فخذك اليسرى ثم تشهد ثم إذا قمت فمثل ذلك حتى تفرغ من صلاتك وفي رواية أخرى قال فتوضأ كما أمرك الله ثم تشهد فأتم ثم كبر فإن كان معك قرآن فاقرأ به وإلا فاحمد الله عز وجل وكبره وهلله وقال فيه وإن انتقصت منه شيئا انتقصت من صلاتك

فالنبي أمر ذلك المسيء في صلاته بأن يعيد الصلاة وأمر الله ورسوله إذا أطلق كان مقتضاه الوجوب وأمره إذا قام إلى الصلاة بالطمأنينة كما أمره بالركوع والسجود وأمره المطلق على الإيجاب

وأيضا قال له فإنك لم تصل فنفى أن يكون عمله الأول صلاة والعمل لا يكون منفيا إلا إذا انتفى شيء من واجباته فأما إذا فعل كما أوجبه الله عز وجل فإنه لا يصح نفيه لانتفاء شيء من المستحبات التي ليست بواجبة

وأما ما يقوله بعض الناس إن هذا نفي للكمال كقوله لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد فيقال له نعم هو لنفي الكمال لكن لنفي كمال الواجبات أو لنفي كمال المستحبات

فأما الأول فحق وأما الثاني فباطل لا يوجد مثل ذلك في كلام الله عز وجل ولا في كلام رسوله قط وليس بحق فإن الشيء إذا كملت واجباته فكيف يصح نفيه

وأيضا فلو جاز لجاز نفي صلاة عامة الأولين والآخرين لأن كمال المستحبات من أندر الأمور

وعلى هذا فما جاء من نفي الأعمال في الكتاب والسنة فإنما هو لانتفاء

فيه جميع سنن رسول الله فاستحسن أذان بلال وإقامته وأذان أبي محذورة وإقامته وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره أن النبي علم أبا محذورة الأذان مرجعا وفي صحيح مسلم الإقامة مشفوعة وثبت في الصحيحين أن بلالا أمر أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة وفي السنن أنه لم يكن يرجع

فرجح أحمد أذان بلال لأنه الذي كان يفعل بحضرة النبي دائما قبل أذان أبي محذورة وبعده إلى أن مات واستحسن أذان أبي محذورة ولم يكرهه وهذا أصل مستمر له في جميع صفات العبادات أقوالها وأفعالها يستحسن كل ما ثبت عن النبي من غير كراهة لشئ منه مع علمه بذلك واختياره للبعض أو تسويته بين الجميع كما جوز القراءة بكل قراءة ثابتة وإن كان قد اختار بعض القراءة مثل أنواع الأذان والإقامة وأنواع التشهدات الثابتة عن النبي كتشهد ابن مسعود وأبي موسى وابن عباس وغيرهم وأحبها إليه تشهد ابن مسعود لأسباب متعددة

منها كونه أصحها وأشهرها

ومنها كونه محفوظ الألفاظ لم يختلف في حرف منه

ومنها كون غالبها يوافق ألفاظه فيقتضي أنه هو الذي كان النبي يأمر به غالبا

وكذلك أنواع الاستفتاح والاستعاذة المأثورة وإن اختار بعضها

وكذلك مواضع رفع اليدين في الصلاة ومحل وضعهما بعد الرفع وصفات التحميد المشروع بعد التسميع

ومنها صفات الصلاة على النبي وإن اختار بعضها

ومنها أنواع صلاة الخوف يجوز كل ما فعله النبي من غير كراهة

قال هل تسمع النداء قال نعم قال ما أجد لك رخصة

لكن إذا ترك هذا الواجب فهل يعاقب عليه ويثاب على ما فعله من الصلاة أم يقال إن الصلاة باطلة عليه إعادتها كأنه لم يفعلها

هذا فيه نزاع بين العلماء

وعلى هذا قوله إذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك وما انتقصت من هذا فإنما انتقصت من صلاتك

فقد بين أن الكمال الذي نفي هو هذا التمام الذي ذكره النبي فإن التارك لبعض ذلك قد انتقص من صلاته بعض ما أوجبه الله فيها وكذلك قوله في الحديث الآخر فإذا فعل هذا فقد تمت صلاته

ويؤيد هذا أنه أمره بأن يعيد الصلاة ولو كان المتروك مستحبا لم يأمره بالإعادة ولهذا يؤمر مثل هذا المسيء بالإعادة كما أمر النبي هذا لكن لو لم يعد وفعلها ناقصة فهل يقال إن وجودها كعدمها بحيث يعاقب على تركها أو يقال إنه يثاب على ما فعله ويعاقب على ما تركه بحيث يجبر ما تركه من الواجبات بما فعله من التطوع هذا فيه نزاع والثاني أظهر لما روى أبو داود وابن ماجة عن أنس بن حكيم الضبي قال خاف رجل من زياد أو ابن زياد فأتى المدينة فلقي أبا هريرة رضي الله عنه قال فنسبني فانتسبت له فقال يا فتى ألا أحدثك حديثا قال قلت بلى يرحمك الله قال يونس فأحسبه ذكره عن النبي قال إن أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة من أعمالهم الصلاة قال يقول ربنا تعالى لملائكته وهو أعلم انظروا في صلاة عبدي أتمها أم نقصها فإن كانت تامة كتبت له تامة وإن كان انتقص منها شيئا قال انظروا هل لعبدي من تطوع فإن كان له تطوع قال أتموها من تطوعه ثم تؤخذ الأعمال على ذلكم وفي لفظ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته فإن صلحت فقد أفلح وأنجح وإن فسدت فقد خاب وخسر فإن انتقص من فريضته شيئا قال الرب انظروا هل لعبدي من تطوع فكمل به ما انتقص من الفريضة ثم يكون سائر أعماله على هذا رواه الترمذي وقال حديث حسن

وروى أيضا أبو داود وابن ماجة عن تميم الداري رضي الله عنه عن النبي بهذا المعنى قال ثم الزكاة مثل ذلك ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك

وأيضا فعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال قال رسول الله لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود رواه أهل السنن الأربعة وقال الترمذي حديث حسن صحيح

فهذا صريح في أنه لا تجزئ الصلاة حتى يعتدل الرجل من الركوع وينتصب من السجود فهذا يدل على إيجاب الاعتدال في الركوع والسجود

وهذه المسألة وإن لم تكن هي مسألة الطمأنينة فهي تناسبها وتلازمها

وذلك أن هذا الحديث نص صريح في وجوب الاعتدال فإذا وجب الاعتدال لإتمام الركوع والسجود فالطمأنينة فيهما أوجب

وذلك أن قوله يقيم ظهره في الركوع والسجود أي عند رفعه رأسه منهما فإن إقامة الظهر تكون من تمام الركوع والسجود لأنه إذا ركع كان الركوع من حين ينحني إلى أن يعود فيعتدل ويكون السجود من حين الخرور من القيام أو القعود إلى حين يعود فيعتدل فالخفض والرفع هما طرفا الركوع والسجود وتمامهما فلهذا قال يقيم صلبه في الركوع والسجود

ويبين ذلك أن وجوب هذا من الاعتدالين كوجوب إتمام الركوع والسجود وهذا كقوله في الحديث المتقدم ثم يكبر فيسجد فيمكن وجهه حتى تطمئن مفاصله وتسترخي ثم يكبر فيستوي قاعدا على مقعدته ويقيم صلبه فأخبر أن إقامة الصلب في الرفع من السجود لا في حال الخفض

والحديثان المتقدمان بين فيهما وجوب هذين الاعتدالين ووجوب الطمأنينة لكن قال في الركوع والسجود والقعود حتى تطمئن راكعا وحتى تطمئن ساجدا وحتى تطمئن جالسا وقال في الرفع من الركوع حتى تعتدل قائما وحتى تستوي قائما لأن القائم يعتدل ويستوي وذلك مستلزم الطمأنينة

وأما الراكع والساجد فليسا منتصبين وذلك الجالس لا يوصف بتمام الاعتدال والاستواء فإنه قد يكون فيه انحناء إما إلى أحد الشقين ولا سيما عند التورك وإما إلى أمامه لأن أعضاءه التي يجلس عليها منحنية غير مستوية ومعتدلة مع أنه قد روى ابن ماجة أنه قال في الرفع من الركوع حتى تطمئن قائما

وعن علي بن شيبان الحنفي قال خرجنا حتى قدمنا على رسول الله فبايعناه وصلينا خلفه فلمح بمؤخر عينه رجلا لا يقيم صلاته يعني صلبه في الركوع والسجود فلما قضى النبي الصلاة قال يا معشر المسلمين لا صلاة لمن لا يقيم صلبه في الركوع والسجود رواه الإمام أحمد وابن ماجة وفي رواية للإمام أحمد أن رسول الله قال لا ينظر الله إلى رجل لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده

وهذا يبين أن إقامة الصلب هي الاعتدال في الركوع كما بيناه وإن كان طائفة من العلماء من أصحابنا وغيرهم فسروا ذلك بنفس الطمأنينة واحتجوا بهذا الحديث على ذلك وحده لا على الاعتدالين وعلى ما ذكرناه فإنه يدل عليهما

وروى الإمام أحمد في المسند عن أبي قتادة رضي الله عنه قال قال رسول الله أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته قالوا يا رسول الله كيف يسرق من صلاته قال لا يتم ركوعها ولا سجودها أو قال لا يقيم صلبه في الركوع والسجود وهذا التردد في اللفظ ظاهره أن المعنى المقصود من اللفظين واحد وإنما شك في اللفظ كما في نظائر ذلك

وأيضا فعن عبد الرحمن بن شبل رضي الله عنه قال نهى رسول الله عن نقرة الغراب وافتراش السبع وأن يوطن الرجل المكان في المسجد كما يوطن البعير أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة

وإنما جمع بين الأفعال الثلاثة وإن كانت مختلفة الأجناس لأنه يجمعها مشابهة البهائم في الصلاة فنهى عن مشابهة فعل الغراب وعما يشبه فعل السبع وعما يشبه فعل البعير وإن كان نقر الغراب أشد من ذينك الأمرين لما فيه من أحاديث أخر وفي الصحيحين عن قتادة عن أنس رضي الله عنه عن النبي قال اعتدلوا في الركوع والسجود ولا يبسطن أحدكم ذراعيه انبساط الكلب لا سيما وقد بين في حديث آخر أنه من صلاة المنافقين والله تعالى أخبر في كتابه أنه لن يقبل عمل المنافقين

فروى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك عن النبي أنه قال تلك صلاة المنافق يمهل حتى إذا كانت الشمس بين قرني شيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا فأخبر أن المنافق يضيع وقت الصلاة المفروضة ويضيع فعلها وينقرها فدل ذلك على ذم هذا وهذا وإن كان كلاهما تاركا للواجب

وذلك حجة واضحة في أن نقر الصلاة غير جائز وأنه من فعل من فيه نفاق والنفاق كله حرام وهذا الحديث حجة مستقلة بنفسها وهو مفسر لحديث قبله وقال الله تعالى إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا وهذا وعيد شديد لمن ينقر في صلاته فلا يتم ركوعه وسجوده بالاعتدال والطمأنينة

والمثل الذي ضربه النبي من أحسن الأمثال فإن الصلاة قوت القلوب كما أن الغذاء قوت الجسد فإذا كان الجسد لا يتغذى باليسير من الأكل فالقلب لا يقتات بالنقر في الصلاة بل لا بد من صلاة تامة تقيت القلوب

وأما ما يرويه طوائف من العامة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى رجلا ينقر في صلاته فنهاه عن ذلك فقال لو نقر الخطاب من هذه نقرة لم يدخل النار فسكت عنه عمر فهذا لا أصل له ولم يذكره أحد من أهل العلم فيما بلغني لا في الصحيح ولا في الضعيف والكذب ظاهر عليه فإن المنافقين قد نقروا أكثر من ذلك وهم في الدرك الأسفل من النار

وأيضا فعن أبي عبد الله الأشعري الشامي قال صلى رسول الله بأصحابه ثم جلس في طائفة منهم فدخل رجل فقام يصلي فجعل يركع وينقر في سجوده ورسول الله ينظر إليه فقال ترون هذا لو مات مات على غير ملة محمد ينقر صلاته كما ينقر الغراب الرمة إنما مثل الذي يصلي ولا يتم ركوعه وينقر في سجوده كالجائع لا يأكل إلا تمرة أو تمرتين لا تغنيان عنه شيئا فأسبغوا الوضوء ويل للأعقاب من النار وأتموا الركوع والسجود قال أبو صالح فقلت لأبي عبد الله الأشعري من حدثك بهذا الحديث قال أمراء الأجناد خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان كل هؤلاء يقولون سمعت رسول الله رواه أبو بكر بن خزيمة في صحيحه بكماله وروى ابن ماجة بعضه

وأيضا ففي صحيح البخاري عن أبي وائل عن زيد بن وهب أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه رأى رجلا لا يتم ركوعه ولا سجوده فلما قضى صلاته دعاه وقال له حذيفة ما صليت ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله

وتوسيط الإمام حتى ينهى عما نهى عنه النبي من صلاة المنفرد خلف الصف ويأمره بالإعادة كما أمر بها النبي في حديثين ثابتين عنه أمر فيهما المنفرد خلف الصف بالإعادة كما أمر المسيء في صلاته بالإعادة وكما أمر المسيء في وضوءه الذي ترك فيه موضع ظفر من قدمه لم يمسه الماء بالإعادة

فهذه المواضع دلت على اشتراط الطهارة والاصطفاف في الصلاة والإتيان بأركانها

والذين خالفوا حديث المنفرد خلف الصف كأبي حنيفة ومالك والشافعي منهم من لم يبلغه الحديث أو لم يثبت عنده والشافعي رآه معارضا بكون الإمام يصلي وحده وبكون مليكة جدة أنس صلت خلفهم وبحديث أبي بكرة لما ركع دون الصف

وأما أحمد فأصله في الأحاديث إذا تعارضت في قضيتين متشابهتين غير متماثلتين أنه يستعمل كل حديث على وجهه ولا يضرب أحدهما بالآخر فيقول في مثل هذه المرأة إذا كانت مع النساء صلت بينهن وأما إذا كانت مع الرجال لم تصل إلا خلفهم وإن كانت وحدها لأنها منهية عن مصافة الرجال فانفرادها عن الرجال أولى بها من مصافتهم كما أنها إذا صلت بالنساء صلت بينهن لأنه أستر لها كما يصلي إمام العراة بينهم وإن كانت سنة الرجل الكاسي إذا أم أن يتقدم بين يدي الصف

ونقول إن الإمام لا يشبه المأموم فإن سنته التقدم لا المصافة وسنة المؤتمين الاصطفاف نعم يدل انفراد الإمام والمرأة على جواز انفراد الرجل المأموم لحاجة وهو ما إذا لم يحصل له مكان يصلي فيه إلا انفرادا فهذا قياس قول أحمد وغيره ولأن واجبات الصلاة وغيرها تسقط بالأعذار فليس الاصطفاف إلا بعض واجباتها فسقط بالعجز في الجماعة كما يسقط غيره فيها وفي سنن

من حديث أبي ذر وأبي هريرة رضي الله عنهما وجاء من حديث غيرهما أنه يقطع الصلاة الكلب الأسود والمرأة والحمار وفرق النبي بين الكلب الأسود والأحمر والأبيض بأن الأسود شيطان وصح عنه أنه قال إن الشيطان تفلت على البارحة ليقطع صلاتي فأخذته فأردت أن أربطه إلى سارية ن سواري المسجد الحديث فأخبر أن الشيطان أراد أن يقطع عليه صلاته فهذا أيضا يقتضي أن مرور الشيطان يقطع الصلاة فلذلك اخذ أحمد بذلك في الكلب الأسود واختلف قوله في المرأة والحمار لأنه عارض هذا الحديث حديث عائشة لما كان النبي يصلى وهي في قبلته وحديث ابن عباس رضى الله عنهما لما اجتاز على أتانه بين يدي بعض الصف والنبي يصلى بأصحابه بمنى مع أن المتوجه أن الجميع يقطع وأنه يفرق بين المار واللابث كما فرق بينهما في الرجل في كراهة مروره دون لبثه في القبلة إذا استدبره المصلى ولم يكن متحدثا وأن مروره ينقص ثواب الصلاة دون اللبث

واختلف المتقدمون من أصحاب أحمد في الشيطان الجنى إذا علم بمروره هل يقطع الصلاة والأوجه أنه يقطعها بتعليل رسول الله وبظاهر قوله يقطع صلاتي لأن الأحكام التي جاءت بها السنة في الأرواح الخبيثة من الجن وشياطين الدواب في الطهارة والصلاة في أمكنتهم وممرهم ونحو ذلك قوية في الدليل نصا وقياسا ولذلك اخذ بها فقهاء الحديث ولكن مدرك

؟ بمبيت الشيطان على خيشومه فعلم أن ذلك سبب للطهارة من غير النجاسة الظاهرة فلا يستبعد أن يكون هو السبب لغسل يد القائم من نوم الليل

وكذلك نهي عن الصلاة في أعطان الإبل وقال إنها جن خلقت من جن كما ثبت عنه أنه قال الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام وقد روي عنه أن الحمام بيت الشيطان وثبت عنه أنه لما ارتحل عن المكان الذي ناموا فيه عن صلاة الفجر قال إنه مكان حضرنا فيه الشيطان

فعلل الأماكن بالأرواح الخبيثة كما يعلل بالأجسام الخبيثة وبهذا يقول أحمد وغيره من فقهاء الحديث ومذهبه الظاهر عنه أن ما كان مأوى للشياطين كالمعاطن والحمامات حرمت الصلاة فيه وما عرض الشيطان فيه كالمكان الذي ناموا فيه عن الصلاة كرهت فيه الصلاة

والفقهاء الذين لم ينهوا عن ذلك إما لأنهم لم يسمعوا هذه النصوص سماعا تثبت به عندهم أو سمعوها ولم يعرفوا العلة فاستبعدوا ذلك عن القياس فتأولوه

وأما من نقل عن الخلفاء الراشدين أو جمهور الصحابة خلاف هذه المسائل وأنهم لم يكونوا يتوضئون من لحوم الإبل فقد غلط عليهم وإنما توهم ذلك لما نقل عنهم أنهم لم يكونوا يتوضئون مما مست النار وإنما المراد أن أكل ما مس النار ليس هو سببا عندهم لوجوب الوضوء والذي أمر به النبي من الوضوء من لحوم الإبل ليس سببه مس النار كما يقال كان فلان لا يتوضأ من مس الذكر وإن كان يتوضأ منه إذا خرج منه مذي

ومن تمام هذا أنه قد صح عن النبي في صحيح مسلم وغيره

قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة فأمرهم بعد الأمن بإقامة الصلاة وذلك يتضمن الإتمام وترك القصر منها الذي أباحه الخوف والسفر فعلم أن الأمر بالإقامة يتضمن الأمر بإتمامها بحسب الإمكان

وأما قوله في صلاة الخوف فأقمت لهم الصلاة فتلك إقامة وإتمام في حال الخوف كما أن الركعتين في السفر إقامة وإتمام كما ثبت في الصحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال صلاة السفر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان وصلاة الفطر ركعتان تمام من غير قصر على لسان نبيكم وهذا يبين ما رواه مسلم وأهل السنن عن يعلى بن أمية قال قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه إقصار الناس الصلاة اليوم وإنما قال الله تعالى إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا وقد ذهب ذلك اليوم فقال عجبت مما عجبت منه فذكرت لرسول الله فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته فإن المتعجب ظن أن القصر مطلقا مشروط بعدم الأمن فبينت السنة أن القصر نوعان كل نوع له شرط

وثبتت السنة أن الصلاة مشروعة في السفر تامة لأنه بذلك أمر الناس ليست مقصورة في الأجر والثواب وإن كانت مقصورة في الصفة والعمل إذ المصلى يؤمر بالإطالة تارة ويؤمر بالاقتصار تارة

وأيضا فإن الله تعالى قال 4 : 103 فإذ1 اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا والموقوت قد فسره السلف بالمفروض وفسروه بما له وقت والمفروض هو المقدر المحدد فإن التوقيت والتقدير والتحديد والفرض ألفاظ متقاربة وذلك يوجب أن الصلاة مقدرة محددة مفروضة موقوتة وذلك في زمانها وأفعالها وكما أن زمانها محدود فأفعالها أولى أن تكون محدودة موقوتة وهو يتناول تقدير عددها بأن جعله خمسا وجعل

فيبيحون الطيور مطلقا وان كانت من ذات المخالب ويكرهون كل ذي ناب من السباع وفي تحريمها عن مالك روايتان وكذلك في الحشرات عنه هل هي محرمة أو مكروهة روايتان وكذلك البغال والحمير وروي عنه أنها مكروهة أشد من كراهة السباع وروى عنه أنها محرمة بالسنة دون تحريم الحمير والخيل أيضا يكرهها لكن دون كراهة السباع

وأهل الكوفة في باب الأشربة مخالفون لأهل المدينة ولسائر الناس ليست الخمر عندهم إلا من العنب ولا يحرمون القليل من المسكر إلا أن يكون خمرا من العنب أو أن يكون من نبيذ التمر أو الزبيب النيء أو يكون من مطبوخ عصير العنب إذا لم يذهب ثلثاه وهم في الأطعمة في غاية التحريم حتى حرموا الخيل والضباب وقيل إن أبا حنيفة يكره الضب والضباع ونحوها

فأخذ أهل الحديث في الأشربة بقول أهل المدينة وسائر أهل الأمصار موافقة للسنة المستفيضة عن النبي وأصحابه في التحريم وزادوا عليهم في متابعة السنة وصنف الإمام أحمد كتابا كبيرا في الأشربة ما علمت أحدا صنف أكبر منه وكتابا أصغر منه وهو أول من أظهر في العراق هذه السنة حتى إنه دخل بعضهم بغداد فقال هل فيها من يحرم النبيذ فقالوا لا إلا أحمد بن حنبل دون غيره من الأئمة وأخذ فيها بعامة السنة حتى إنه حرم العصير والنبيذ بعد ثلاث وان لم يظهر فيه شدة متابعة للسنة المأثورة في ذلك لان الثلاث مظنة ظهور الشدة غالبا والحكمة هنا مما تخفى فأقيمت المظنة مقام الحكمة حتى إنه كره الخليطين إما كراهة تنزيه أو تحريم على اختلاف الروايتين عنه وحتى اختلف قوله في الانتباذ في الأوعية هل هو مباح أو محرم أو مكروه لان أحاديث النهي كثيرة جدا وأحاديث النسخ قليلة فاختلف اجتهاده هل تنسخ تلك الأخبار المستفيضة بمثل هذه الأخبار التي لا تخرج عن كونها أخبار آحاد ولم يخرج البخاري منها شيئا

وأخذوا في الأطعمة بقول أهل الكوفة لصحة السنن عن النبي بتحريم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير وتحريم لحوم الحمر لأن النبي أنكر على من تمسك في هذا الباب بعدم وجود نص التحريم في القرآن حيث قال لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول بيننا وبينكم هذا القرآن فما وجدنا فيه من حلال استحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله تعالى وهذا المعنى محفوظ عن النبي من غير وجه

وعلموا أن ما حرمه رسول الله إنما هو زيادة تحريم ليس نسخا للقرآن لأن إنما دل على أن الله لم يحرم إلا الميتة والدم ولحم الخنزير

وعدم التحريم ليس تحليلا وإنما هو بقاء للأمر على ما كان وهذا قد ذكره الله في سورة الأنعام التي هي مكية باتفاق العلماء ليس كما ظنه أصحاب مالك والشافعي أنها من آخر القرآن نزولا وإنما سورة المائدة هي المتأخرة وقد قال الله فيها أحل لكم الطيبات فعلم أن عدم التحريم المذكور في سورة الأنعام ليس تحليلا وإنما هو عفو فتحريم رسول الله رافع للعفو ليس نسخا للقرآن

لكن لم يوافق أهل الحديث الكوفيين على جميع ما حرموه بل أحلوا الخيل لصحة السنن عن النبي بتحليلها يوم خيبر وبأنهم ذبحوا على عهد رسول الله فرسا وأكلوا لحمه وأحلوا الضب لصحة السنن عن النبي بأنه قال لا أحرمه وبأنه أكل على مائدته وهو ينظر ولم ينكر على من أكله وغير ذلك مما جاءت فيه الرخصة

فنقصوا عما حرمه أهل الكوفة من الأطعمة كما زادوا على أهل المدينة في الأشربة لأن النصوص الدالة على تحريم الأشربة المسكرة أكثر من النصوص الدالة على تحريم الأطعمة

ولأهل المدينة سلف من الصحابة والتابعين في استحلال ما أحلوه أكثر من سلف أهل الكوفة في استحلال المسكر والمفاسد الناشئة من المسكر أعظم من مفاسد خبائث الأطعمة ولهذا سميت الخمر أم الخبائث كما سماها عثمان بن عفان رضي الله عنه وغيره وأمر النبي بجلد شاربها فإنه لم يحد فيها أحد من أهل العلم إلا ما بلغنا عن الحسن البصري بل قد أمر بقتل شارب الخمر في الثالثة أو الرابعة وإن كان الجمهور على أنه منسوخ ونهى النبي فيما صح عنه عن تخليل الخمر وأمر بشق ظروفها وكسر دنانها وإن كان قد اختلفت الرواية عن أحمد هل هذا باق أو منسوخ

ولما كان الله سبحانه وتعالى إنما حرم الخبائث لما فيها من الفساد إما في العقول أو الأخلاق أو غيرها ظهر على الذين استحلوا بعض المحرمات من الأطعمة أو الأشربة ممن النقص بقدر ما فيها من المفسدة ولولا التأويل لاستحقوا العقوبة

ثم إن الإمام أحمد وغيره من علماء الحديث زادوا في متابعة السنة على غيرهم بأن أمروا بما أمر الله به ورسوله مما يزيل ضرر بعض المباحات مثل لحوم الإبل فإنها حلال بالكتاب والسنة والإجماع ولكن فيها من القوة الشيطانية ما أشار إليه النبي بقوله إنها جن خلقت من جن وقد قال فيما رواه أبو داود الغضب من الشيطان وإن الشيطان من النار

وأن المصلي الذي ليس بدائم مذموم وهذا يوجب ذم من لا يديم أفعاله المتصلة والمنفصلة وإذا وجب دوام أفعالها فذلك هو نفس الطمأنينة فإنه يدل على وجوب إدامة الركوع والسجود وغيرهما ولو كان المجزئ أقل مما ذكر من الخفض وهو نقر الغراب لم يكن ذلك دواما ولم يجب الدوام على الركوع والسجود وهما أصل أفعال الصلاة

فعلم أنه كما تجب الصلاة يجب الدوام عليها المتضمن للطمأنينة والسكينة في أفعالها

وأيضا فقد قال الله تعالى 2 : 45 واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين

وهذا يقتضي ذم غير الخاشعين كقوله تعالى 20 : 143 وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وقوله تعالى 13 : 42 كبر على المشركين ما تدعوهم إليه

فقد دل كتاب الله عز وجل على من كبر عليه ما يحبه الله وأنه مذموم بذلك في الدين مسخوط منه ذلك والذم أو السخط لا يكون إلا لترك واجب أو فعل محرم وإذا كان غير الخاشعين مذمومين دل ذلك على وجوب الخشوع

فمن المعلوم أن الخشوع المذكور في قوله تعالى وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين لا بد أن يتضمن الخشوع في الصلاة فإنه لو كان المراد الخشوع خارج الصلاة لفسد المعنى إذ لو قيل إن الصلاة لكبيرة إلا على من خشع خارجها ولم يخشع فيها كان يقتضي أنها لا تكبر على من لم يخشع فيها وتكبر على من خشع فيها وقد انتفى مدلول الآية فثبت أن الخشوع واجب في الصلاة

ويدل على وجوب الخشوع فيها أيضا قوله تعالى 11 - 1 : 23 قد أفلح

بعض واجباته كقوله تعالى 4 : 65 فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما وقوله تعالى 24 : 47 ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين وقوله تعالى 59 : 15 إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا الآية وقوله 24 : 62 إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه الآية ونظائر ذلك كثيرة

ومن ذلك قوله لا إيمان لمن لا أمانة له ولا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ولا صلاة إلا بوضوء

وأما قوله لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد فهذا اللفظ قد قيل إنه لا يحفظ عن النبي وذكر عبد الحق الإشبيلي أنه رواه بإسناد كلهم ثقات وبكل حال فهو مأثور عن علي رضي الله عنه ولكن نظيره في السنن عن النبي أنه قال من سمع النداء ثم لم يجب من غير عذر فلا صلاة له

ولا ريب أن هذا يقتضي أن إجابة المؤذن المنادي والصلاة في جماعة من الواجبات كما ثبت في الصحيح أن ابن أم مكتوم قال يا رسول الله إني رجل شاسع الدار ولي قائد لا يلائمني فهل تجد لي رخصة أن أصلي في بيتي

المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم على صلاتهم يحافظون أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون أخبر سبحانه وتعالى أن هؤلاء هم الذين يرثون فردوس الجنة وذلك يقتضي أنه لا يرثها غيرهم وقد دل هذا على وجوب هذه الخصال إذ لو كان فيها ما هو مستحب لكانت جنة الفردوس تورث بدونها لأن الجنة تنال بفعل الواجبات دون المستحبات ولهذا لم يذكر في هذه الخصال إلا ما هو واجب وإذا كان الخشوع في الصلاة واجبا فالخشوع يتضمن السكينة والتواضع جميعا

ومنه حديث عمر رضي الله عنه حيث رأى رجلا يعبث في صلاته فقال لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه أي لسكنت وخضعت وقال تعالى 39 : 49 ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت فأخبر أنها بعد الخشوع تهتز والاهتزاز حركة وتربو والربو الارتفاع

فعلم أن الخشوع فيه سكون وانخفاض ولهذا كان النبي يقول في حال ركوعه اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت خشع لك سمعي وبصري ومخي وعقلي وعصبي رواه مسلم في صحيحه فوصف نفسه بالخشوع في حال الركوع لأن الراكع ساكن متواضع وبذلك فسرت الآية ففي التفسير المشهور الذي يقال له تفسير الوالبي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما وقد رواه المصنفون في التفسير كأبي بكر بن المنذر ومحمد بن جرير الطبري وغيرهما من حديث أبي صالح عبد الله بن صالح عن معاوية بن أبي صالح عن علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس قوله تعالى في صلاتهم خاشعون يقول خائفون ساكنون ورووا في التفاسير المسندة

فأيما رجل أو امرأة أدرك ذلك الزمان فالسمت الأول فالسمت الأول

ومن هذا الباب أن عمر بن عبد العزيز لما تولى إمارة المدينة في خلافة الوليد بن عمه وعمر هذا هو الذي بنى الحجرة النبوية إذ ذاك صلى خلفه أنس بن مالك رضي الله عنه فقال ما رواه أبو داود والنسائي عن أنس بن مالك رضي الله عنه ما صليت وراء أحد بعد رسول برسول الله صلى الله ع عليه وسلم من هذا الفتى يعني عمر بن عبد العزيز قال فخررنا في ركوعه عشر تسبيحات وفي سجوده عشر تسبيحات وهذا كان في المدينة مع أن أمراءها كانوا أكثر محافظة على السنة من أمراء بقية الأمصار فإن الأمصار كانت تساس برأي الملوك والمدينة إنما كانت تساس بسنة رسول الله أو نحو هذا ولكن كانوا قد غيروا أيضا ببعض السنة ومن اعتقد أن هذا كان في خلافة عمر بن عبد العزيز فقد غلط فإن أنس بن مالك رضي الله عنه لم يدرك خلافة عمر بن عبد العزيز بل مات قبل ذلك بسنتين

وهذا يوافق الحديث المشهور الذي في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجة عن عون بن عبد الله عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله إذا ركع أحدكم فليقل ثلاث مرات سبحان ربي العظيم وذلك أدناه وإذا سجد فليقل سبحان ربي الأعلى ثلاثا وذلك أدناه قال أبو داود هذا مرسل عون لم يدرك عبد الله بن مسعود وكذلك قال البخاري في تاريخه وقال الترمذي ليس إسناده بمتصل عون ابن عبد الله لم يدرك ابن مسعود عون هو من علماء الكوفة المشهورين وهو من أهل بيت عبد الله

علمها آثرا هو لأهل الحديث ومدركه قياسا هو في باطن الشريعة وظاهرها دون التفقه في ظاهرها فقط

ولو لم يكن في الأئمة من استعمل هذه السنن الصحيحة النافعة لكان وصمة على الأمة ترك مثل ذلك والأخذ بما ليس بمثله لا أثرا ولا رأيا

ولقد كان أحمد رحمه الله يعجب ممن يدع حديث الوضوء من لحوم الإبل مع صحته التي لا شك فيها وعدم المعارض له ويتوضأ من مس الذكر مع تعارض الأحاديث فيه وأن أسانيدها ليست كأحاديث الوضوء من لحوم الإبل ولذلك أعرض عنها الشيخان البخاري ومسلم وإن كان أحمد على المشهور عنه يرجح أحاديث الوضوء من مس الذكر لكن غرضه أن الوضوء من لحوم الإبل أقوى في الحجة من الوضوء من مس الذكر

وقد ذكرت ما يبين أنه أظهر في القياس منه فإن تأثير المخالطة أعظم من تأثير الملامسة ولهذا كان كل نجس محرم الأكل وليس كل محرم الأكل نجسا

وكان أحمد يعجب أيضا ممن لا يتوضأ من لحوم الإبل ويتوضأ من الضحك في الصلاة مع أنه أبعد عن القياس والأثر والأثر فيه مرسل قد ضعفه أكثر الناس وقد صح عن الصحابة ما يخالفه

والذين خالفوا أحاديث القطع للصلاة لم يعارضوها إلا بتضعيف بعضهم وهو تضعيف من لم يعرف الحديث كما ذكر أصحابه أو بأن عارضوها بروايات ضعيفة عن النبي أنه قال لا يقطع الصلاة شيء

أو بما روى في ذلك عن الصحابة وقد كان الصحابة مختلفين في هذه المسألة أو برأي ضعيف لو صح لم يقاوم هذه الحجة خصوصا مذهب أحمد

فهذا أصل في الخبائث الجسمانية والروحانية

وأصل آخر وهو أن الكوفيين قد عرف تخفيفهم في العفو عن النجاسة فيعفون من المغلظة عن قدر الدرهم البغلى ومن المخففة عن ربع المحل المتنجس

والشافعي بإزائهم في ذلك فلا يعفو عن النجاسات إلا عن أثر الاستنجاء وونيم الذباب ونحوه ولا يعفو عن دم ولا عن غيره إلا عن دم البراغيث ونحوه مع أنه ينجس أرواث البهائم وأبوالها وغير ذلك فقوله في النجاسات نوعا وقدرا أشد أقوال الأئمة الأربعة

ومالك متوسط في نوع النجاسة وفي قدرها فإنه لا يقول بنجاسة الأرواث والأبوال مما يؤكل لحمه ويعفو عن يسير الدم وغيره

وأحمد كذلك فإنه متوسط في النجاسات فلا ينجس الأرواث والأبوال ويعفو عن اليسير من النجاسة التي يشق الإحتراز عنا حتى إنه في إحدى الروايتين عنه يعفو عن يسير روث البغل والحمار وبول الخفاش وغير ذلك مما يشق الإحتراز عنه بل يعفو في إحدى الروايتين عن اليسير من الروث والبول من كل حيوان طاهر كما ذكر ذلك القاضي أبو يعلى في شرح المذهب وهو مع ذلك يوجب اجتناب النجاسة في الصلاة في الجملة من غير خلاف عنه لم يختلف قوله في ذلك كما اختلف أصحاب مالك ولو صلى بها جاهلا أو ناسيا لم يجب عليه الإعادة في أصح الروايتين كقول مالك كما دل عليه حديث النبي لما خلع نعليه في أثناء الصلاة لأجل الأذى الذي فيهما ولم يستقبل الصلاة ولما صلى الفجر فوجد في ثوبه نجاسة أمر بغسلها ولم يعد الصلاة

والرواية الأخرى تجب الإعادة كقول أبي حنيفة والشافعي

وأصل آخر في إزالتها فمذهب أبي حنيفة تزال بكل مزيل من المائعات والجامدات والشافعي لا يرى إزالتها إلا بالماء حتى ما يصيب أسفل الخف والحذاء والذيل لا يجزئ فيه إلا الغسل بالماء وحتى نجاسة الأرض

ومذهب أحمد فيه متوسط فكل ما جاءت به السنة قال به يحوز في الصحيح عنه مسحها بالتراب ونحوه من النعل ونحوه كما جاءت به السنة كما يجوز مسحها من السبيلين فإن السبيلين بالنسبة إلى سائر الأعضاء كأسفل الخف بالنسبة إلى سائر الثياب في تكرر النجاسة على كل منها

واختلف أصحابه في أسفل الذيل هل هو كأسفل الخف كما جاءت به السنة واستوائها للأثر في ذلك والقياس إزالتها عن الأرض بالشمس والريح يجب التوسط فيه

فإن التشديد في النجاسات جنسا وقدرا هو دين اليهود والتساهل هو دين النصارى ودين الإسلام هو الوسط فكل قول يكون فيه شيء من هذا الباب يكون أقرب إلى دين الإسلام

وأصل آخر وهو اختلاط الحلال بالحرام كاختلاط المائع الطاهر بالنجس فقول الكوفيين فيه من الشدة مالا خفاء به

وسر قولهم إلحاق الماء بسائر المائعات وأن النجاسة إذا وقعت في مائع لم يمكن استعماله إلا باستعمال الخبث فيحرم الجميع مع أن تنجيس المائع غير الماء الآثار فيه قليلة

وبإزائهم مالك وغيره من أهل المدينة فإنهم في المشهور لا ينجسون الماء إلا بالتغير ولا يمنعون من المستعمل ولا غيره مبالغة في طهورية الماء مع فرقهم بينه وبين غيره من المائعات

ولأحمد قول كمذهبهم لكن المشهور عنه التوسط بالفرق بين قليله وكثيره كقول الشافعي

واختلف قوله في المائعات غير الماء هل يلحق بالماء أولا يلحق به كقول مالك والشافعي أو يفرق بين الماء وغير الماء كخل العنب على ثلاث روايات

وفي هذه الأفوال من التوسط أثرا ونظرا ما لا خفاء به مع أن قول أحمد الموافق لقول مالك راجح في الدليل

وأصل آخر وهو أن للناس في أجزاء الميتة التي لا رطوبة فيها كالشعر والظفر والريش مذاهب هل هو طاهر أو نجس ثلاثة أقوال

أحدها نجاستها مطلقا كقول الشافعي ورواية عن أحمد بناء على أنها جزء من الميتة

والثاني طهارتها مطلقا كقول أبي حنيفة وقول في مذهب أحمد بناء على أن الموجب للنجاسة هن الرطوبات وهي إنما تكون فيما يجري فيه الدم ولهذا حكم بطهارة مالا نفس له سائلة فما لا رطوبة فيه من الأجزاء بمنزلة مالا نفس له سائلة

والثالث نجاسة ما كان فيه حس كالعظم إلحاقا له باللحم اليابس وعدم نجاسة ما لم يكن فيه إلا النماء كالشعر إلحاقا له بالنبات

وأصل آخر وهو طهارة الأحداث التي هي الوضوء والغسل فإن مذهب فقهاء الحديث استعملوا فيها من السنن ما لا يوجد لغيرهم ويكفي المسح على الخفين وغيرها من اللباس والحوائل فقد صنف الإمام أحمد كتاب المسح على الخفين وذكر فيه من النصوص عن النبي وأصحابه في المسح على الخفين والجوربين وعلى العمامة بل على خمر النساء كما كانت أم سلمة زوج النبي وغيرها تفعله وعلى القلانس كما كان أبو موسى وأنس يفعلانه ما إذا تأمله العالم علم فضل علم أهل الحديث على غيرهم مع أن القياس يقتضي ذلك اقتضاءا ظاهرا وإنما توقف عنه من توقف من الفقهاء لأنهم قالوا بما بلغهم من الأثر وجبنوا عن القياس ورعا

ولم يختلف قول أحمد فيما جاء عن النبي كأحاديث المسح على العمائم والجوربين والتوقيت في المسح وإنما اختلف قوله فيما جاء عن الصحابة كخمر النساء وكالقلانس الدنيات

ومعلوم أن في هذا الباب من الرخصة التي تشبه أصول الشريعة وتوافق الآثار الثابتة عن النبي

واعلم أن كل من تأول في هذه الأخبار تأويلا مثل كون المسح على العمامة مع بعض الرأس هو المجزئ ونحو ذلك لم يقف على مجموع الأخبار وإلا فمن وقف على مجموعها أفادته علما يقينا بخلاف ذلك

وأصل آخر في التيمم فإن أصح حديث فيه حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه المصرح بأنه يجزئ ضربة واحدة للوجه والكفين وليس في الباب حديث يعارضه من جنسه وقد أخذ به فقهاء الحديث أحمد وغيره وهذا أصح من قول

وإنما تطفئ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ فأمر بالتوضؤ من الأمر العارض من الشيطان فأكل لحمها يورث قوة شيطانية تزول لما أمر به النبي من الوضوء من لحمها كما صح ذلك عنه من غير وجه من حديث جابر بن سمرة والبراء بن عازب وأسيد بن الحضير وذي الغرة وغيرهم فقال مرة توضئوا من لحوم الإبل ولا توضئوا من لحوم الغنم وصلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في معاطن الإبل فمن توضأ من لحومها اندفع عنه ما يصيب المدمنين لأكلها من غير وضوء كالأعراب من الحقد وقسوة القلب التي أشار إليها النبي بقوله المخرج عنه في الصحيحين إن الغلظة وقسوة القلوب في الفدادين أصحاب الإبل وإن السكينة في أهل الغنم

واختلف عن أحمد هل يتوضأ من سائر اللحوم المحرمة على روايتين بناء على أن الحكم مختص بها أو أن المحرم أولى بالتوضؤ منه من المباح الذي فيه نوع مضرة

وسائر المصنفين من أصحاب الشافعي وغيره وافقوا أحمد على هذا الأصل وعلموا أن من اعتقد أن هذا منسوخ بترك الوضوء مما مست النار فقد أبعد لأنه فرق في الحديث بين اللحمين ليتبين أن العلة هي الفارقة بينهما لا الجامع

وكذلك قالوا بما اقتضاه الحديث من أنه يتوضأ منه نيئا ومطبوخا ولأن هذا الحديث كان بعد النسخ ولهذا قال في لحم الغنم وإن شئت فلا تتوضأ ولأن النسخ لم يثبت إلا بالترك من لحم غنم فلا عموم له وهذا معنى قول جابر كان آخر الأمرين منه ترك الوضوء مما مست النار فإنه رآه يتوضأ ثم رآه أكل لحم غنم ولم يتوضأ ولم ينقل عن النبي صيغة عامة في ذلك ولو نقلها لكان فيه نسخ للخاص بالعام الذي لم يثبت شموله لذلك الخاص عينا وهو أصل لا يقول به أكثر المالكية والشافعية والحنبلية

هذا مع أن أحاديث الوضوء مما مست النار لم يثبت أنها منسوخة بل قد قيل إنها متأخرة ولكن أحد الوجهين في مذهب أحمد أن الوضوء منها مستحب ليس بواجب والوجه الآخر لا يستحب

فلما جاءت السنة بتجنب الخبائث الجسمانية والتطهر منها كذلك جاءت بتجنب الخبائث الروحانية والتطهر منها حتى قال إذا قام أحدكم من الليل فليستنشق بمنخريه من الماء فإن الشيطان يبيت على خيشومه وقال إذا قام أحدكم من نوم الليل فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده فعلل الأمر بالغسل

؟ سمع الله لمن حمد اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد

وقوله أحق ما قال العبد هكذا هو في الحديث وهو خبر مبتدأ محذوف وأما ما ذكره بعض المصنفين من الفقهاء والصوفية من قوله حق ما قال العبد فهو تحريف بلا نزاع بين أهل العلم بالحديث والسنة ليس له أصل في الأثر ومعناه أيضا فاسد فإن العبد يقول الحق والباطل وأما الرب سبحانه وتعالى فهو يقول الحق ويهدي السبيل كما قال تعالى فالحق والحق أقول

وأيضا فليست الصلاة مبنية إلا على الثناء على الله تعالى

وروى مسلم وغيره عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي كان إذا رفع رأسه من الركوع قال اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد

وروى مسلم وغيره عن عبد الله بن أبي أوفى قال كان رسول الله إذا رفع رأسه من الركوع يقول سمع الله لمن حمد اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد

وفي رواية أخرى لمسلم زاد بعد هذا أنه كان يقول اللهم طهرني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس

فإن قيل فإذا كانت هذه صلاة رسول الله التي اتفق الصحابة رضي الله عنهم على نقلها عنه وقد نقلها أهل الصحاح والسنن والمسانيد من هذه الوجوه وغيرها والصلاة عمود الدين فكيف خفي ذلك على طائفة من

عليها محمدا ولفظ أبي وائل ما صليت وأحسبه قال لو مت مت على غير سنة محمد

وهذا الذي لم يتم صلاته إنما ترك الطمأنينة أو ترك الاعتدال أو ترك كلاهما فإنه لا بد أن يكون قد ترك بعض ذلك إذ نقر الغراب والفصل بين السجدتين بحد السيف والهبوط من الركوع إلى السجود لا يمكن أن ينقص منه مع الإيتان بما قد يقال إنه ركوع أو سجود وهذا الرجل كان يأتي بما قد يقال له ركوع وسجود لكنه لم يتمه ومع هذا قال له حذيفة ما صليت فنفى عنه الصلاة ثم قال لو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمدا وعلى غير السنة وكلاهما المراد به هنا الدين والشريعة ليس المراد به فعل المستحبات فإن هذا لا يوجب هذا الذم والتهديد فلا يكاد أحد يموت على كل ما فعله النبي من المستحبات ولأن لفظ الفطرة والسنة في كلامهم هو الدين والشريعة وإن كان بعض الناس اصطلحوا على أن لفظ السنة يراد به ما ليس بفرض إذ قد يراد بها ذلك كما في قوله إن الله فرض عليكم صيام رمضان وسننت لكم قيامه فهي تتناول ما سنه من الواجبات أعظم مما سنه من التطوعات كما في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال إن الله شرع لنبيكم سنن الهدى وإن هذه الصلوات في جماعة من سنن الهدى وإنكم لو صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم ولقد رأينا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق ومنه قوله عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ ولأن الله سبحانه وتعالى أمر في كتابه

ثم يقال لو وجد استعمال لفظ الركوع والسجود في لغة العرب بمجرد ملاقاة الوجه للأرض بلا طمأنينة لكان المعفر خده ساجدا ولكان الراغم أنفه وهو الذي لصق أنفه بالرغام وهو التراب ساجدا لا سيما عند المنازع الذي يقول يحصل السجود بوضع الأنف دون الجبهة من غير طمأنينة فيكون نقر الأرض بالأنف سجودا ومعلوم أن هذا ليس من لغة القوم كما أنه ليس من لغتهم تسمية نقرة الغراب ونحوها سجودا ولو كان كذلك لكان يقال للذي يضع وجهه على الأرض ليمص شيئا على الأرض أو يعضه أو ينقله ونحو ذلك ساجدا

وأيضا فإن الله أوجب المحافظة والإدامة على الصلاة وذم إضاعتها والسهو عنها فقال في أول سورة المؤمنين قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين همم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم على صلواتهم يحافظون وقد سبق بيان أن هذه الخصال واجبة وكذلك في سورة سأل سائل قال إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم والذين يصدقون بيوم الدين والذين هم من عذاب ربهم مشفقون إن عذاب ربهم غير مأمون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزوجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم بشهاداتهم قائمون والذين هم على صلاتهم يحافظون فذم الإنسان كله إلا ما استثناه فمن لم يكن متصفا بما استثناه كان مذموما كما في قوله تعالى

3 - 1 : 103 والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر وقال تعالى 19 : 69 فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا وقال تعالى 5 , 4 : 107 فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون وقال تعالى 2 : 238 حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين

وهذه الآيات تقتضي ذم من ترك شيئا من واجبات الصلاة وإن كان في الظاهر مصليا مثل أن يترك الوقت الواجب أو يترك تكميل الشرائط والأركان من الأعمال الظاهرة والباطنة وبذلك فسرها السلف ففي تفسير عبد بن حميد وذكره عن ابن المنذر في تفسيره من حديث عبد حدثنا روح عن سعيد عن قتادة والذين هم على صلواتهم يحافظون على وضوئها ومواقيتها وركوعها وروى أبو بكر بن المنذر في تفسيره من حديث أبي عبد الرحمن عن عبد الله قال قيل لعبد الله إن الله أكثر ذكر الصلاة في القرآن الذين هم على صلاتهم دائمون والذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم على صلاتهم يحافظون فقال عبد الله ذلك على مواقيتها فقالوا ما كنا نرى ذلك يا أبا عبد الرحمن إلا الترك قال تركها كفر وروى سعيد بن منصور حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن مسلم عن مسروق في قول الله والذين هم على صلاتهم يحافظون قال على مواقيتها فقالوا ما كنا نرى ذلك يا أبا عبد الرحمن إلا الترك قال تركها كفر وروى من حديث سعيد بن أبي مريم والذين هم عن صلاتهم ساهون بتضييع ميقاتها وروى عن أبي ثور عن ابن جريج في قوله والذين هم على صلاتهم يحافظون المكتوبة والتي في سأل سائل التطوع وهذا قول ضعيف

فصل

عدل

وأما القدر المشروع للإمام فهي صلاة رسول الله كما في صحيح البخاري عن أبي قلابة عن مالك بن الحويرث أنه قال إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم ثم صلوا كما رأيتموني أصلي

وأما القيام ففي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة أن النبي كان يقرأ في الفجر بق والقرآن المجيد ونحوها وكانت صلاته بعد إلى تخفيف أي يجعل صلاته بعد الفجر خفيفة كما في صحيح مسلم أيضا عنه قال كان رسول الله يقرأ في الظهر بالليل إذا يغشى وفي العصر نحو ذلك وفي الصبح أطول من ذلك وفي الصحيحين عن أبي برزة الأسلمي قال كان رسول الله يصلي الهجير التي تدعونها الأولى لحين تدحض الشمس ويصلي العصر ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية قال الراوي ونسيت ما قال في المغرب وكان يستحب أن يؤخر العشاء التي تدعونها العتمة وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه وكان يقرأ فيها بالستين إلى المئة وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال حزرنا قيام رسول الله في الظهر والعصر فحزرنا قيامه في الركعتين الأولتين من الظهر قدر ثلاثين أية قدر آلم السجدة وحزرنا قيامه في الأولتين من العصر على قدر الآخرتين من الظهر وحزرنا قيامه في الآخرتين من العصر على النصف من ذلك رواه مسلم وأبو داود والنسائي وفي الصحيحين وغيرهما عن جابر بن سمرة قال قال عمر لسعد بن أبي وقاص لقد شكاك الناس في كل شيء حتى في الصلاة قال أما أنا فأمد في الأوليين وأحذف الأخريين ولا آلو ما اقتديت به من صلاة رسول الله قال ذاك الظن بك يا أبا إسحاق وفي صحيح مسلم أيضا عن أبي سعيد رضي الله عنه قال لقد كانت صلاة الظهر تقام فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته ثم يتوضأ ثم يأتي ورسول الله في الركعة الأولى مما يطيلها وفي صحيح مسلم أيضا عن أبي وائل قال خطبنا عمار بن ياسر يوما فأوجز وأبلغ فقلنا يا أبا اليقظان لقد أبلغت وأوجزت فلو كنت تنفست فقال إني سمعت رسول الله يقول إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة في فقهه فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة إن من البيان لسحرا

وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال كنت أصلي مع النبي الصلوات فكانت صلاته قصدا أي وسطا

وفعله الذي سنه لأمته هو من التخفيف الذي أمر به الأئمة إذ التخفيف من الأمور الإضافية فالمرجع في مقداره إلى السنة وذلك كما خرجاه في الصحيحين عن جابر رضي الله عنه قال كان معاذ يصلي مع النبي ثم يرجع فيؤمنا وقال مرة ثم يرجع فيصلي بقومه فأخبر النبي وقال مرة العشاء فصلى معاذ مع النبي ثم جاء يؤم قومه فقرأ البقرة فاعتزل رجل من القوم فصلى فقيل نافقت فقال ما نافقت فأتى النبي فقال إن معاذا يصلي معك ثم يرجع فيؤمنا يا رسول الله إنما نحن أصحاب نواضح ونعمل بأيدينا وإنه جاء يؤمنا فقرأ سورة البقرة فقال أفتان أنت يا معاذ اقرأ بكذا اقرأ بكذا قال أبو الزبير سبح باسم ربك الأعلى والليل إذا يغشى وفي رواية للبخاري عن جابر رضي الله عنه قال أقبل رجل بناضحين وقد جنح الليل فوافق معاذا يصلي وذكره نحوه فقال في آخره فلولا صليت بسبح باسم ربك الأعلى والشمس وضحاها والليل إذا يغشى فإنه يصلي وراءك الضعيف والكبير وذو الحاجة

كان يوجزها ويكملها والتي كانت أخف الصلاة وأتمها أنه كان يقوم فيها من الركوع حتى يقول القائل إنه قد نسي ويقعد بين السجدتين حتى يقول القائل قد نسي وإذا كان في هذا يفعل ذلك فمن المعلوم اتفاق المسلمين والسنة المتواترة أن الركوع والسجود لا ينقصان عن هذين الاعتدالين بل كثير من العلماء يقول لا يشرع ولا يجوز أن يجعل هذين الاعتدالين بقدر الركوع والسجود بل ينقصان عن الركوع والسجود وفي الصحيحين من حديث شعبة عن الحكم قال غلب على الكوفة رجل قد سماه زمن ابن الأشعث وسماه غندر في رواية مطر بن ناجية فأمر أبا عبيدة بن عبد الله أن يصلي بالناس فكان يصلي فإذا رفع رأسه من الركوع قام وقدر ما أقول اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد قال الحكم فذكرت ذلك لعبد الرحمن بن أبي ليلى قال سمعت البراء بن عازب يقول كانت صلاة رسول الله قيامه وركوعه وإذا رفع رأسه من الركوع وسجوده وما بين السجدتين قريبا من السواء قال شعبة فذكرته لعمرو بن مرة فقال قد رأيت عبد الرحمن ابن أبي ليلى فلم تكن صلاته هكذا ولفظ مطر عن شعبة كان ركوع النبي وسجوده وبين السجدتين وإذا رفع رأسه من الركوع ما خلا القيام والقعود قريبا من السواء وهو في الصحيح والسنن من حديث هلال بن أبي حميد عن ابن أبي ليلى عن البراء بن عازب قال رمقت الصلاة مع محمد فوجدت قيامه فركوعه فاعتداله بعد ركوعه فسجدته فجلسته بين السجدتين فسجدته ما بين التسليم والانصراف قريبا من السواء

ويشهد لهذا ما رواه مسلم وأبو داود والنسائي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله كان يقول حين يرفع رأسه من الركوع

الفريضة والنافلة والناس يصلون على عهده ولم يصل قط إلا بالاعتدال عن الركوع والسجود وبالطمأنينة وكذلك كانت صلاة أصحابه على عهده وهذا يقتضي وجوب السكون والطمأنينة في هذه الأفعال كما يقتضي وجوب عددها وهو سجودان مع كل ركوع

وأيضا فإن مداومته على ذلك في كل صلاة كل يوم مع كثرة الصلوات من أقوى الأدلة على وجوب ذلك إذ لو كان غير واجب لتركه ولو مرة ليبين الجواز أو ليبين جواز تركه بقوله فلما لم يبين لا بقوله ولا بفعله جواز ترك ذلك مع مداومته عليه كان ذلك دليلا على وجوبه

وأيضا فقد ثبت عنه في صحيح البخاري أنه قال لمالك بن الحويرث وصاحبه إذا حضرت الصلاة فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما وصلوا كما رأيتموني أصلي فأمرهم أن يصلوا كما رأوه يصلي

وذلك يقتضي أنه يجب على الإمام أن يصلي بالناس كما كان النبي يصلي لهم ولا معارض لذلك ولا مخصص فإن الإمام يجب عليه ما لا يجب على المأموم والمنفرد

وقد ثبت عن النبي في الصحيحين عن سهل بن سعد أنه قال لقد رأيت رسول الله قام على المنبر وكبر وكبر الناس معه وراءه وهو على المنبر ثم رجع فنزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته ثم أقبل على الناس فقال يا أيها الناس إنما صنعت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي وفي سنن أبي داود والنسائي عن سالم البراد قال أتينا عقبة بن عمرو الأنصاري أبا مسعود فقلنا له حدثنا عن صلاة رسول الله فقام بين أيدينا في المسجد فكبر فلما ركع وضع يديه على ركبتيه وجعل أصابعه أسفل من ذلك وجافى بين مرفقيه حتى استقر كل شيء منه ثم قال سمع الله لمن حمده فقام حتى استقر كل شيء منه

التسبيح كما أنه لما سماها قياما في قوله تعالى 2 : 72 قم الليل إلا قليلا دل على وجوب القيام وكذلك لما سماها قرآنا في قوله تعالى 17 : 78 وقرآن الفجر دل على وجوب القرآن فيها ولما سماها ركوعا وسجودا في مواضع دل على وجوب الركوع والسجود فيها

وذلك أن تسميتها بهذه الأفعال دليل على أن هذه الأفعال لازمة لها فإذا وجدت الصلاة وجدت هذه الأفعال فتكون من الأبعاض اللازمة كما أنهم يسمون الإنسان بأبعاضه اللازمة له فيسمونه رقبة ورأسا ووجها ونحو ذلك كما في قوله تعالى 3 : 58 فتحرير رقبة ولو جاز وجود الصلاة بدون التسبيح لكان الأمر بالتسبيح لا يصلح أن يكون أمرا بالصلاة فإن اللفظ حينئذ لا يكون دالا على معناه ولأعلى ما يستلزم معناه

وأيضا فإن الله تعالى ذم عموم الإنسان واستثنى إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون قال تعالى 23 - 19 : 70 إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون والسلف من الصحابة ومن بعدهم قد فسروا الدائم على الصلاة بالمحافظ على أوقاتها وبالدائم على أفعالها بالإقبال عليها والآية تعم هذا وهذا فإنه قال على صلاتهم دائمون والدائم على الفعل هو المديم له الذي يفعله دائما فإذا كان هذا فيما يفعل في الأوقات المتفرقة هو أن يفعله كل يوم بحيث لا يفعله تارة ويتركه أخرى وسمي ذلك دواما عليه فالدوام على الفعل الواحد المتصل أولى أن يكون دواما وأن تتناول الآية ذلك وذلك يدل على وجوب إدامة أفعالها لأن الله عز وجل ذم عموم الإنسان واستثنى المداوم على هذه الصفة فتارك إدامة أفعالها يكون مذموما من الشارع والشارع لا يذم إلا على ترك واجب أو فعل محرم

وأيضا فإنه سبحانه وتعالى قال إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون فدل ذلك على أن المصلي قد يكون دائما على صلاته وقد لا يكون دائما عليها

واجب بالإجماع لقوله تعالى 22 : 77 يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا وقوله تعالى 42 : 68 يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون وقوله تعالى 21 , 20 : 84 فما لهم لا يؤمنون وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون وقوله تعالى 15 : 32 إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون وقوله تعالى 19 : 96 واسجد واقترب وقوله تعالى 18 : 22 ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب

فدل على أن الذي لا يسجد لله من الناس قد حق عليه العذاب وقوله 26 : 76 ومن الليل فاسجد له وسبحه طويلا وقوله تعالى 15 : 98 فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين وقوله تعالى 48 : 77 وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون وقوله تعالى 5 : 55 إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون

وإذا كان الله تعالى قد فرض الركوع والسجود لله في كتابه كما فرض أصل الصلاة فالنبي هو المبين للناس ما نزل إليهم وسنته تفسر الكتاب وتبينه وتدل عليه وتعبر عنه وفعله إذا خرج امتثالا لأمر أو تفسيرا لمجمل كان حكمه حكم ما امتثله وفسره وهذا كما أنه لما كان يأتي في كل ركعة بركوع واحد وسجودين كان كلاهما واجبا وكان هذا امتثالا منه لما أمر الله به من الركوع والسجود وتفسيرا لما أجمل ذكره في القرآن وكذلك المرجع إلى سنته في كيفية السجود وقد كان يصلي الفريضة والنافلة والناس يصلون على عهده ولم يصل قط إلا بالاعتدال عن الركوع والسجود وبالطمأنينة في أفعال الصلاة كلها قد نقل ذلك كل من نقل صلاة

فقهاء العراق وغيره حتى لم يجعلوا الاعتدال من الركوع والقعود بين السجدتين من الأفعال المقارنة للركوع والسجود ولا استحبوا في ذلك ذكرا أكثر من التحميد يقول ربنا لك الحمد حتى إن بعض المتفقهة قال إذا طال ذلك طولا كثيرا بطلت صلاته

قيل سبب ذلك وغيره أن الذي مضت به السنة أن الصلاة يصليها المسلمين الأمراء وولاة الحرب فوالى الجهاد هو كان أمير الصلاة على عهد النبي وخلفائه الراشدين وما بعد ذلك إلى أثناء دولة بني العباس والخليفة هو الذي يصلى بالناس الصلوات الخمس والجمعة لا يعرف المسلمون غير ذلك وقد أخبر النبي بما سيكون بعده من تغير الأمراء حتى قال سيكون من بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها فصلوا الصلاة لوقتها واجعلوا صلاتكم معهم نافلة فكان من هؤلاء من يؤخرها عن وقتها حتى يضيع الوقت المشروع فيها أن بعضهم كان لا يتم التكبير أى لا يجهر بالتكبير في انتقالات الركوع وغيره ومنهم من لا يتم الاعتدالين وكان هذا يشيع في الناس فيربو في ذلك الصغير ويهرم فيه الكبير حتى إن كثيرا من خاصة الناس لا يظن السنة إلا ذلك فإذا جاء أمراء أحيوا السنة عرف ذلك كما رواه البخاري في صحيحه عن قتادة عن عكرمة قال صليت خلف شيخ بمكة فكبر اثنين وعشرين تكبيرة فقلت لابن عباس إنه لأحمق فقال ثكلتك أمك سنة أبي القاسم

وفي رواية أبي بشر عن عكرمة قال رأيت رجلا عند المقام يكبر في كل خفض ورفع وإذا قام وإذا وضع فأخبرت ابن عباس فقال أو ليس تلك صلاة رسول الله لا أم لك وهذا يعني به أن ذلك الإمام كان يجهر بالتكبير فكان الأئمة الذين يصلي خلفهم عكرمة لا يفعلون ذلك وابن عباس لم يكن إماما حتى يعرف ذلك منه فأنكر ذلك عكرمة حتى أخبره ابن عباس وأما نفس التكبير فلم يكن يشتبه أمره على أحد وهذا كما أن عامة

الأئمة المتأخرين لا يجهرون بالتكبير بل يفعل ذلك المؤذن ونحوه فيظن أكثر الناس أن هذه هي السنة ولا خلاف بين أهل العلم أن هذه ليست هي السنة بل هم متفقون على ما ثبت عندهم بالتواتر عن النبي أن المؤذن وغيره من المأمومين لا يجهرون بالتكبير دائما كما أن بلالا لم يكن يجهر بذلك خلف النبي لكن إذا احتيج إلى ذلك لضعف صوت الإمام أو بعد المكان فهذا قد احتجوا لجوازه بأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يسمع الناس التكبير خلف النبي في مرضه حتى تنازع الفقهاء في جهر المأموم لغير حاجة هل يبطل صلاته أم لا

ومثل ذلك ما أخرجاه في الصحيحين والسنن عن مطرف بن عبد الله بن الشخير قال صليت خلف علي بن أبي طالب أنا وعمران بن حصين فكان إذا سجد كبر وإذا رفع رأسه كبر وإذا نهض من الركعتين كبر فلما قضي الصلاة أخذ عمران بن حصين بيدي فقال قد ذكرني هذا بصلاة محمد أو قال لقد صلى بنا صلاة محمد ولهذا لما جهر بالتكبير سمعه عمران ومطرف كما سمعه غيرهما

ومثل هذا ما في الصحيحين والسنن أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يكبر في كل صلاة من المكتوبة وغيرها يكبر حين يقوم ثم يكبر حين يسجد ثم يكبر حين يرفع رأسه ثم يكبر حين يقوم من الجلوس من الثنتين يفعل ذلك في كل ركعة حتى يفرغ من الصلاة ثم يقول حين ينصرف والذي نفسي بيده إني لأقربكم شبها بصلاة رسول الله إن كانت هذه لصلاته حتى فارق الدنيا

وهذا كان يفعله أبو هريرة رضي الله عنه لما كان أميرا على المدينة فإن معاوية كان يعاقب بينه وبين مروان بن الحكم في إمارة المدينة فيولي هذا تارة ويولي هذا تارة وكان مروان يستخلف وكان أبو هريرة يصلي بهم بما هو أشبه بصلاة رسول الله من صلاة مروان وغيره من أمراء المدينة

وقوله في المكتوبة وغيرها يعني ما كان من النوافل مثل قيام رمضان كما أخرجه البخاري من حديث الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحرث وأبي سلمة أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يكبر في كل صلاة من المكتوبة وغيرها في رمضان وغيره فيكبر حين يقوم ويكبر حين يركع ثم يقول سمع الله لمن حمده ثم يقول ربنا لك الحمد وذكر نحوه

وكان الناس قد اعتادوا ما يفعله غيره فلم يعرفوا ذلك حتى سألوه كما رواه مسلم من حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يكبر في الصلاة كلما رفع ووضع فقلت يا أبا هريرة ما هذا التكبير قال إنها لصلاة رسول الله

وهذا كله معناه جهر الإمام بالتكبير ولهذا كانوا يسمونه إتمام التكبير لما فيه من إتمامه برفع الصوت وفعله في كل خفض ورفع

يبين ذلك أن البخاري ذكر في باب التكبير عند النهوض من الركعتين قال وكان ابن الزبير يكبر في نهضته ثم روى البخاري من حديث فليح ابن سليمان عن سعيد بن الحارث قال صلى لنا أبو سعيد فجهر بالتكبير حين رفع رأسه من السجود وحين سجد وحين رفع وحين قام من الركعتين وقال هكذا رأيت رسول الله ثم أردفه البخاري بحديث مطرف قال صليت أنا وعمران بن حصين خلف على بن أبي طالب رضي الله عنه فكان إذا سجد كبر وإذا رفع كبر وإذا نهض من الركعتين كبر فلما سلم أخذ عمران بن حصين بيدي فقال لقد صلى بنا هذا صلاة محمد أو قال لقد ذكرني هذا صلاة محمد

فهذا يبين أن الكلام إنما هو في الجهر بالتكبير وأما أصل التكبير فلم يكن مما يخفى على أحد وليس هذا أيضا مما يجهل هل يفعله الإمام أم لا يفعله

فلا يصح لهم نفيه عن الأئمة كما لا يصح نفي القراءة في صلاة المخافتة ونفي التسبيح في الركوع والسجود ونفي القراءة في الركعتين الآخرتين ونحو ذلك ولهذا استدل بعض من كان لا يتم بالتكبير ولا يجهر به بما روي عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزي عن أبيه أنه صلى مع رسول الله وكان لا يتم التكبير رواه أبو داود والبخاري في التاريخ الكبير وقد حكى أبو داود الطيالسي أنه قال هذا عندنا باطل وهذا إن كان محفوظا فلعل ابن أبزي صلى خلف النبي في مؤخر المسجد وكان النبي صوته ضعيفا فلم يسمع تكبيره فاعتقد أنه لم يتم التكبير وإلا فالأحاديث المتواترة عنه بخلاف ذلك فلو خالفها كان شاذا لا يلتفت إليه ومع هذا فإن كثيرا من الفقهاء المتأخرين يعتقدون أن إتمام التكبير هو نفس فعله ولو سرا وأن علي بن أبي طالب وأبا هريرة وغيرهما من الأئمة إنما أفادوا الناس نفس فعل التكبير في الانتقالات ولازم هذا أن عامة المسلمين ما كانوا يعرفون أن الصلاة لا يكبر في خفضها ولا رفعها

وهذا غلط بلا ريب ولا نزاع بين من يعرف كيف كانت الأحوال ولو كان المراد التكبير سرا لم يصح نفي ذلك ولا إثباته فإن المأموم لا يعرف ذلك من إمامه ولا يسمي ترك التكبير بالكلية تركا لأن الأئمة كانوا يكبرون عند الافتتاح دون الانتقالات وليس كذلك السنة بل الأحاديث المروية تبين أن رفع الإمام وخفضه كان في جميعها التكبير وقد قال إسحاق بن منصور قلت لأحمد بن حنبل ما الذي نقصوا من التكبير قال إذا انحط إلى السجود من الركوع وإذا أراد أن يسجد السجدة الثانية من كل ركعة

فقد بين الإمام أحمد أن الأئمة لم يكونوا يتمون التكبير بل نقصوا التكبير في الخفض من القيام ومن القعود وهو كذلك والله أعلم لأن الخفض يشاهد بالأبصار فظنوا لذلك أن المأموم لا يحتاج إلى أن يسمع تكبيرة الإمام لأنه يرى ركوعه ويرى سجوده بخلاف الرفع من الركوع والسجود فإن المأموم لا يرى الإمام فيحتاج أن يعلم رفعه بتكبيره

ويدل على صحة ما قاله أحمد من حديث ابن أبزي أنه صلى خلف النبي فلم يتم التكبير وكان لا يكبر إذا خفض هكذا رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة عن الحسن بن عمران عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزي عن أبيه

وقد ظن أبو عمر بن عبد البر كما ظن غيره أن هؤلاء السلف ما كانوا يكبرون في الخفض والرفع وجعل ذلك حجة على أنه ليس بواجب لأنهم لا يقرون الأمة على ترك واجب حتى إنه قد روي عن ابن عمر أنه كان يكبر إذا صلى وحده في الفرض وأما التطوع فلا قال أبو عمر لا يحكي أحمد عن ابن عمر إلا ما صح عنده إن شاء الله

قال وأما رواية مالك عن نافع عن ابن عمر أنه كان يكبر في الصلاة كلما خفض ورفع فيدل ظاهرها على أنه كذلك كان يفعل إماما وغير إمام قلت ما روى مالك لا ريب فيه والذي ذكره أحمد لا يخالف ذلك ولكن غلط ابن عبد البر فيما فهم من كلام أحمد فإن كلامه إنما كان في التكبير دبر الصلاة أيام العيد الأكبر لم يكن التكبير في الصلاة ولهذا فرق أحمد بين الفرض والنفل فقال أحب إلي أن يكبر في الفرض دون النفل ولم يكن أحمد ولا غيره يفرقون في تكبير الصلاة بين الفرض والنفل بل ظاهر مذهبه أن تكبير الصلاة واجب في النفل كما أنه واجب في الفرض وإن قيل هو سنة في الفرض قيل هو سنة في النفل فأما التفريق بينهما فليس قولا له ولا لغيره

وأما الذي ذكره عن ابن عمر في تكبيره دبر الصلاة إذا كان منفردا فهو كتفسير ابن المنذر وغيره من حديث سفيان الثوري عن منصور عن مجاهد خاشعون قال السكون فيها قال وكذلك قال الزهري ومن حديث هشام عن مغيرة عن إبراهيم النخعي قال الخشوع في القلب وقال ساكنون قال الضحاك الخشوع الرهبة لله وروى عن الحسن خائفون وروى ابن المنذر من حديث أبي عبد الرحمن المقبري حدثنا المسعودي حدثنا أبو سنان أنه قال في هذه الآية الذين هم في صلاتهم خاشعون قال الخشوع في القلب وأن يلين كنفه للمرء المسلم وأن لا تلفت في صلاتك وفي تفسير ابن المنذر أيضا ما في تفسير إسحاق بن راهويه عن روح حدثنا سعيد عن قتادة الذين هم في صلاتهم خاشعون قال الخشوع في القلب والخوف وغض البصر في الصلاة وعن أبي عبيدة معمر بن المثنى في كتابه مختار القرآن في صلاتهم خاشعون أي لا تطمح أبصارهم ولا يلتفتون وقد روى الإمام أحمد في كتاب الناسخ والمنسوخ من حديث ابن سيرين ورواه إسحاق بن راهويه في التفسير وابن المنذر أيضا في التفسير الذي له رواه من حديث الثوري حدثني خالد عن ابن سيرين قال كان النبي يرفع بصره إلى السماء فأمر بالخشوع فرمى ببصره نحو مسجده أي محل سجوده قال سفيان وحدثني غيره عن ابن سيرين أن هذه الآية نزلت في ذلك قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون قال هو سكون المرء في صلاته قال معمر وقال الحسن خائفون وقال قتادة الخشوع في القلب ومنه خشوع البصر وخفضه وسكونه عند تقليبه في الجهات كقوله تعالى 8 - 6 : 54 فتول عنهم يوم يدع الداع إلى شيء نكر خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر وقوله 44 - 43 : 70 يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي مشهور عنه وهي مسألة نزاع بين العلماء مشهورة وقد قال ابن عبد البر لما ذكر حديث أبي سلمة أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يصلي لهم فيكبر كلما خفض ورفع فلما انصرف قال والله إني لأشبهكم صلاة برسول الله فقال ابن عبد البر إن الناس لم يكونوا كلهم يفعلون ذلك ويدل عيه مارواه ابن أبي ذئب في موطئه عن سعيد بن سمعان عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال ثلاث كان رسول الله يفعلهن وتركهن الناس كان إذا قام إلى الصلاة رفع يديه مدا وكان يقف قبل القراءة هنيهة يسأل الله من فضله وكان يكبر كلما رفع وخفض قلت هذه الثلاثة تركها طائفة من الأئمة والفقهاء ممن لا يرفع اليدين ولا يوجب التكبير ومن لا يستحب الاستفتاح والاستعاذة ومن لا يجهر من الأئمة بتكبير الانتقال

قال وقد قال قوم من أهل العلم إن التكبير إنما هو إيذان بحركات الإمام وشعار للصلاة وليس بسنة إلا في الجماعة أما من صلى وحده فلا بأس عليه أن لا يكبر ولهذا ذكر مالك هذا الحديث وحديث ابن شهاب عن علي بن حسين قال كان رسول الله يكبر في الصلاة كلما خفض ورفع فلم تزل تلك صلاته حتى لقي الله تعالى وحديث ابن عمر وجابر رضي الله عنهم أنهما كانا يكبران كلما خفضا ورفعا في الصلاة فكان جابر يعلمهم ذلك قال فذكر مالك هذه الأحاديث كلها ليبين لك أن التكبير من سنن الصلاة

قلت ما ذكره مالك فكما ذكره وأما ما ذكره ابن عبد البر من الخلاف فلم أجده ذكر لذلك أصلا إلا ما ذكره أحمد عن علماء المسلمين أن التكبير مشروع في الصلوات وإنما ذكر ذلك مالك وغيره والله أعلم لأجل ما كره من فعل الأئمة الذين كانوا لا يتمون التكبير وقد قال ابن عبد البر روى من قال يجب ضربتان والى المرفقين كقول أبي حنيفة والشافعي في الجديد أو ضربتان إلى الكوعين

وأصل آخر في الحيض والاستحاضة فإن مسائل الاستحاضة من أشكل أبواب الطهارة وفي الباب عن النبي ثلاث سنن سنة في المعتادة أنها ترجع إلى عادتها وسنة في المميزة أنها تعمل بالتمييز وسنة في المتحيرة التي ليست لها عادة ولا تتميز بأنها تتحيض غالب عادات النساء ستا أو سبعا وأن تجمع بين الصلاتين إن شاءت

فأما السنتان الأولتان ففي الصحيح وأما الثالثة فحديث حمنة بنت جحش رواه أهل السنن وصححه الترمذي وكذلك قد روى أبو داود وغيره في سهلة بنت سهيل بعض معناه

وقد استعمل أحمد هذه السنن الثلاث في المعتاد المميزة والمتحيرة فإن اجتمعت العادة والتمييز قدم العادة في أصح الروايتين كما جاء في أكثر الأحاديث

فأما أبو حنيفة فيعتبر العادة إن كانت ولا يعتبر التمييز ولا الغالب بل إن لم تكن عادة إن كانت مبتدأة حيضها حيضة الأكثر وإلا حيضة الأقل

ومالك يعتبر التمييز ولا يعتبر العادة ولا الأغلب فإن لم يعتبر العادة ولا الأغلب فلا يحيضها بل تصلى أبدا إلا في الشهر الأول فهل تحيض أكثر الحيض أو عادتها وتستظهر ثلاثة أيام على روايتين

والشافعي يستعمل التمييز والعادة دون الأغلب فإن اجتمع قدم التمييز وإن عدم صلت أبدا واستعمل من الاحتياط في الإيجاب والتحريم والإباحة ما فيه مشقة عظيمة علما وعملا

فالسنن الثلاث التي جاءت عن النبي في هذه الحالات الفقهية استعملها فقهاء الحديث ووافقهم في كل منها طائفة من الفقهاء

بعضها أربعا في الحضر واثنتين في السفر وبعضها ثلاثا وبعضها اثنتين في الحضر والسفر وتقدير عملها أيضا ولهذا يجوز عند العذر الجمع المتضمن لنوع من التقديم والتأخير في الزمان كما يجوز أيضا القصر من عددها ومن صفتها بحسب ما جاءت به الشريعة وذلك أيضا مقدر عند العذر كما هو مقدر عند غير العذر ولهذا فليس للجامع بين الصلاتين أن يؤخر صلاة النهار إلى الليل أو صلاة الليل إلى النهار وصلاتي النهار الظهر والعصر وصلاتي الليل المغرب العشاء وكذلك أصحاب الأعذار الذين ينقصون من عددها وصفتها وهو موقوت محدود ولا بد أن تكون الأفعال محدودة الابتداء والانتهاء فالقيام محدود بالانتصاب بحيث لو خرج عن حد المنتصب إلى حد المنحنى الراكع باختياره لم يكن قد أتى بحد القيام

ومن المعلوم أن ذكر القيام الذي هو القراءة أفضل من ذكر الركوع والسجود ولكن نفس عمل الركوع والسجود أفضل من عمل القيام ولهذا كان عبادة بنفسه ولم يصح في شرعنا إلا لله بوجه من الوجوه وغير ذلك من الأدلة المذكورة في غير هذا الموضع

وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن هذه الأفعال مقدرة محدودة بقدر التمكن منها فالساجد عليه أن يصل إلى الأرض وهو غاية التمكن ليس له غاية دون ذلك إلا العذر وهو من حين انحنائه أخذ في السجود سواء سجد من قيام أو من قعود فينبغي أن يكون ابتداء السجود مقدرا بذلك بحيث يسجد من قيام أو قعود لا يبكون سجوده من انحناء فإن ذلك يمنع كونه مقدرا محدودا بحسب الإمكان ومتى وجب ذلك وجب الاعتدال في الركوع وبين السجدتين

وأيضا ففي ذلك إتمام الركوع والسجود

وأيضا فأفعال الصلاة إذا كانت مقدرة وجب أن يكون لها قدر وذلك هو الطمأنينة فإن من نقر نقر الغراب لم يكن لفعله قدر أصلا فإن قدر الشيء ومقداره فيه زيادة على أصل وجوده ولهذا يقال للشيء الدائم ليس له قدر

فإن القدر لا يكون لأدنى حركة بل لحركة ذات امتداد

وأيضا فإن الله تعالى أمرنا بإقامتها والإقامة أن تجعل قائمة والشيء القائم هو المستقيم المعتدل فلا بد أن تكون افعال الصلاة مستقرة معتدلة وذلك إنما يكون بثبوت أبعاضها واستقرارها وهذا يتضمن الطمأنينة فإن من نقر نقر الغراب لم يقم السجود ولا يتم سجوده إذا لم يثبت ولم يستقر وكذلك الراكع

يبين ذلك ما جاء في الصحيحين عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنهما قال قال رسول الله سووا صفوفكم فإن تسوية الصف من تمام الصلاة وأخرجاه من حديث عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك رضى الله عنة قال قال رسول الله أتموا الصفوف فإني أراكم من خلف ظهري وفي لفظ أقيموا الصفوف وروى البخاري من حديث حميد عن أنس قال أقيمت الصلاة فأقبل علينا رسول الله فقال أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهرى وكان أحدنا يلصق منكبه بمنكب صاحبه وبدنه ببدنه

فإذا كان تقويم الصف وتعديله من تمامها وإقامتها بحيث لو خرجوا عن الاستواء والاعتدال بالكلية حتى يكون رأس هذا عند النصف الأسفل من هذا لم يكونوا مصطفين ولكانوا يؤمرون الإعادة وهم بذلك أولى من الذي صلى خلف الصف وحده فأمر النبى صلى الله علية وسلم أن يعيد الصلاة فكيف بتقويم أفعالها وتعديلها بحيث لا يقيم صلبه في الركوع والسجود

ويدل على ذلك وهو دليل مستقل في المسألة ما أخرجاه في الصحيحين عن شعبة عن قتادة عن أنس رضي الله عن النبي قال أقيموا الركوع والسجود فوالله إني لأراكم من بعدي وفي رواية من بعد ظهري إذا ركعتم وسجدتم وفي رواية للبخاري عن همام عن قتادة عن أنس رضى الله عنه أنه سمع النبي يقول أتموا الركوع والسجود فوالذي نفسي بيده إني لأراكم من بعد ظهري إذا ما ركعتم وإذا ما سجدتم ورواه مسلم من حديث هشام الدستوائي وابن أبي عروبة عن قتادة عن أنس رضى الله عنه أن نبي الله قال أتموا الركوع والسجود ولفظ ابن أبي عروبة أقيموا الركوع والسجود فإني أراكم وذكره

فهذا يبين أن إقامة الركوع والسجود توجب إتمامها كما في اللفظ الآخر وأيضا فأمر لهم بإقامة الركوع والسجود يتضمن السكون فيهما إذ من المعلوم أنهم كانوا يأتون بالانحناء في الجملة بل الأمر بالإقامة يقتضي أيضا الاعتدال فيهما وإتمام طرفيهما وفي هذا رد على من زعم أنه لا يجب الرفع فيهما وذلك أن هذا أمر للمأمومين خلفه ومن المعلوم أنه لم يكن يمكنهم الإنصراف قبله

وأيضا فقوله تعالى 2 : 238 حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين أمر بالقنوت للقيام لله والقنوت دوام الطاعة لله تعالى سواء كان في حال الانتصاب أو في حال السجود كما قال تعالى 9 : 39 أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه وقال تعالى 4 : 34 فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله وقال 31 : 33 ومن يقنت منكن لله ورسوله 2 : 116 وقال وله من في السموات والأرض كل له قانتون

فإذا كان ذلك كذلك فقوله تعالى وقوموا لله قانتين إما أن يكون أمرا لإقامة الصلاة مطلقا كما في قوله 4 : 135 كونوا قوامين بالقسط فيعم أفعالها ويقتضي الدوام في أفعالها وإما أن يكون المراد به قيام المخالف للقعود فهذا يعم ما قبل الركوع وما بعده ويقتضي الطول وهو القنوت المتضمن للدعاء كقنوت النوازل وقنوت الفجر عند من يستحب المداومة عليه

وإذا ثبت وجود هذا ثبت وجوب الطمأنينة في سائر الأفعال بطريق الأولى

ويقوى الوجه الأول حديث زيد بن أرقم الذي في الصحيحين عنه قال كان أحدنا يكلم الرجل إلى جنبه في الصلاة فنزلت وقوموا لله قانتين قال فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام حيث أخبر أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة ومعلوم أن السكوت عن خطاب الآدميين واجب في جميع الصلاة فاقتضى ذلك الأمر بالقنوت في جميع الصلاة ودل الأمر للقنوت على السكوت عن مخاطبة الناس لأن القنوت هو دوام الطاعة فالمشتغل لمخاطبة العباد تارك للاشتغال بالصلاة التي هي عبادة الله وطاعته فلا يكون مداوما على طاعته ولهذا قال النبي لما سلم عليه ولم يرد بعد أن كان يرد إن في الصلاة لشغلا فأخبر أن في الصلاة ما يشغل المصلى عن مخاطبة الناس وهذا هو القنوت فيها وهو دوام الطاعة ولهذا جاز عند جمهور العلماء تنبيه الناسي لما هو مشروع فيها من القراءة والتسبيح لأن ذلك لا يشغله عنها ولا ينافي القنوت فيها

وأيضا فإنه سبحانه قال 15 : 32 إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون فأخبر أنه لا يكون مؤمنا إلا من سجد إذا ذكر بالآيات وسبح بحمد ربه

ومعلوم أن قراءة القرآن في الصلاة هي تذكير بالآيات ولذلك وجب السجود مع ذلك وقد أوجب خرورهم سجدا وأوجب تسبيحهم بحمد ربهم وذلك يقتضي وجوب التسبيح في السجود وهذا يقتضي وجوب الطمأنينة ولهذا

قال طائفة من العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم إن مقدار الطمأنينة الواجبة مقدار التسبيح الواجب عندهم

والثاني أن الخرور هو السقوط والوقوع وهذا إنما يقال فيما يثبت ويسكن لا فيما لا يوجد منه سكون على الأرض ولهذا قال الله 22 : 36 فإذا وجبت جنوبها والوجوب في الأصل هو الثبوت والاستقرار

وأيضا فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال لما نزلت 56 : 96 فسبح باسم ربك العظيم قال رسول الله اجعلوها في ركوعكم ولما نزلت 1 : 87 سبح اسم ربك الأعلى قال اجعلوها في سجودكم رواه أبو داود وابن ماجة

فأمر النبي بجعل هذين التسبيحين في الركوع والسجود وأمره على الوجوب وذلك يقتضي وجوب ركوع وسجود تبعا لهذا التسبيح وذلك هو الطمأنينة

ثم إن من الفقهاء من قد يقول التسبيح ليس بواجب وهذا القول يخالف ظاهر الكتاب والسنة فإن ظاهرهما يدل على وجوب الفعل والقول جميعا فإذا دل دليل على عدم وجوب القول لم يمنع وجوب الفعل

وأما من يقول بوجوب التسبيح فيستدل لذلك بقوله تعالى 39 : 50 وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب وهذا أمر بالصلاة كلها كما ثبت في الصحيحين عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال كنا جلوسا عند النبي إذ نظر إلى القمر ليلة البدر فقال إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضارون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ثم قرأ وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب

وإذا كان الله عز وجل قد سمى الصلاة تسبيحا فقد دل ذلك على وجوب

ثم العجمي إذا تعلم العربية في الحال قد لا يفهم المقصود من ذلك اللفظ كما يفهمه من اللغة التي اعتادها

نعم لو قيل تكره العقود بغير العربية لغير حاجة كما يكره سائر أنواع الخطاب بغير العربية لغير حاجة لكان متوجها كما قد روي عن مالك وأحمد والشافعي ما يدل على كراهة اعتياد المخاطبة بغير العربية لغير حاجة وقد ذكرنا هذه المسألة في غير هذا الموضع

وقد ذكر أصحاب مالك والشافعي وأصحاب أحمد كالقاضي أبي يعلى وابن عقيل والمتأخرين أنه يرجع في نكاح الكفار إلى عادتهم فما اعتقدوه نكاحا بينهم جاز إقرارهم عليه إذا أسلموا وتحاكموا إلينا إذا لم يكن حينئذ مشتملا على مانع وإن كانوا يعتقدون أنه ليس بنكاح لم يجز الإقرار عليه حتى قالوا لو قهر حربي حربية فوطئها أو طاوعته واعتقداه نكاحا أقرا عليه وإلا فلا

ومعلوم أن كون القول أو الفعل يدل على مقصود العقد لا يختص به المسلم دون الكافر وإنما اختص المسلم بأن الله أمر في النكاح بأن يميز عن السفاح كما قال تعالى محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان وقال محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فأمر بالولي الشهود ونحو ذلك مبالغة في تمييزه عن السفاح وصيانة للنساء عن التشبه بالبغايا حتى شرع فيه الضرب بالدف والوليمة الموجبة لشهرته ولهذا جاء في الأثر المرأة لا تزوج نفسها فإن البغي هي التي تزوج نفسها وأمر فيه بالإشهاد أو بالإعلان أو بهما جميعا فإنه ثلاثة أقوال هي ثلاث روايات في مذهب أحمد ومن اقتصر على الإشهاد علله بأن به يحصل الإعلان المميز له عن السفاح وبأنه يحفظ النسب عند التجاحد

فهذه الأمور التي اعتبرها الشارع في الكتاب والسنة والآثار حكمتها بينة

ثم كبر وسجد ووضع كفه على الأرض ثم جافى بين مرفقيه حتى استقر كل شيء منه ثم رفع رأسه فجلس حتى استقر كل شيء منه ففعل ذلك أيضا ثم صلى أربع ركعات مثل هذا الركعة فصلى صلاته ثم قال هكذا رأينا رسول الله يصلي

وهذا إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنهم كانوا لا يصلون إلا مطمئنين وإذا رأى بعضهم من لا يطمئن أنكر عليه ونهاه ولا ينكر واحد منهم على المنكر لذلك وهذا إجماع منهم على وجوب السكون والطمأنينة في الصلاة قولا وفعلا ولو كان ذلك غير واجب لكانوا يتركونه أحيانا كما كانوا يتركون ما ليس بواجب

وأيضا فإن الركوع والسجود في لغة العرب لا يكون إلا إذا سكن حين انحنائه وحين وضع وجهه على الأرض فأما مجرد الخفض والرفع عنه فلا يسمى ذلك ركوعا ولا سجودا ومن سماه ركوعا وسجودا فقد غلط على اللغة فهو مطالب بدليل من اللغة على أن هذا يسمى راكعا وساجدا حتى يكون فاعله ممتثلا للأمر وحتى يقال إن هذا الأمر المطالب به يحصل الامتثال فيه بفعل ما يتناوله الاسم فإن هذا لا يصح حتى يعلم أن مجرد هذا يسمى في اللغة ركوعا وسجودا وهذا مما لا سبيل إليه ولا دليل عليه فقائل ذلك قائل بغير علم في كتاب الله وفي لغة العرب وإذا حصل الشك هل هذا ساجد أو ليس بساجد لم يكن ممتثلا بالاتفاق لأن الوجوب معلوم وفعل الواجب ليس بمعلوم كمن يتيقن وجوب صلاة أو زكاة عليه ويشك في فعلها

وهذا أصل ينبغي معرفته فإنه يحسم مادة المنازع الذي يقول إن هذا يسمى ساجدا وراكعا في اللغة فإنه قال بلا علم ولا حجة وإذا طولب بالدليل انقطع وكانت الحجة لمن يقول ما نعلم براءة ذمته إلا بالسجود والركوع المعروفين

المال بالباطل أو ما يذكر من هذا الجنس وهذه المعاني منتفية في الفرع فإذا لم يكن التحريم موجب إلا كذا وهو منتف فلا تحريم

وأما الأحاديث حديث رافع بن خديج وغيره فقد جاءت مفسرة مبينة لنهي النبي أنه لم يكن نهيا عما فعل هو والصحابة في عهده وبعده بل الذي رخص فيه غير الذي نهى عنه فعن رافع بن خديج قال كنا أكثر أهل المدينة مزدرعا كنا نكرى الأرض بالناحية منها تسمى لسيد الأرض قال مما يصاب ذلك وتسلم الأرض ومما تصاب الأرض ويسلم ذلك فنهينا فأما الذهب والورق فلم يكن يومئذ رواه البخاري وفي رواية له قال كنا أكثر أهل المدينة حقلا وكان أحدنا يكرى أرضه فيقول هذه القطعة لي وهذه لك فربما أخرجت ذه ولم تخرج ذه فنهاهم النبي وفي رواية فربما أخرجت هذه كذا ولم تخرج ذه فنهينا عن ذلك ولم ننه عن الورق وفي صحيح مسلم عن رافع قال كنا أكثر أهل الأمصار حقلا قال كنا نكرى الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا عن ذلك وأما الورق فلم ينهنا وفي مسلم أيضا عن حنظلة بن قيس قال سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والورق فقال لا بأس به إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله بما على الماذيانات وأقبال الجداول وأشياء من الزرع فيهلك هذا ويسلم هذا ويهلك هذا ويسلم هذا فلم يكن الناس كراء إلا هذا فلذلك زجر الناس عنه فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به

فهذا رافع بن خديج الذي عليه مدار الحديث يذكر أنه لم يكن لهم على عهد رسول الله كراء إلا بزرع مكان معين من الحقل وهذا النوع حرام بلا ريب عند الفقهاء قاطبة وحرموا نظيره في المضاربة فلو اشترط ربح ثوب بعينه لم يجز وهذا الغرر في المشاركات نظير الغرر في المعاوضات

وعن ابن عباس قال صالح رسول الله أهل نجران على ألفي حلة النصف في صفر والبقية في رجب يؤدونها إلى المسلمين وعارية ثلاثين درعا وثلاثين فرسا وثلاثين بعيرا وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح يغزون بها والمسلمون ضامنون لها حتى يردوها عليهم إن كان باليمن كيد أو غارة رواه أبو داود

فهذا مصالحة على ثياب مطلقة معلومة الجنس غير موصوفة بصفات المسلم وكذلك عارية خيل وإبل وأنواع من السلاح مطلقة موصوفة عند شرط قد يكون وقد لا يكون

فظهر بهذه النصوص أن العوض عما ليس بمال كالصداق والكتابة والفدية في الخلع والصلح عن القصاص والجزية والصلح مع أهل الحرب ليس بواجب أن يعلم كما يعلم الثمن والأجرة ولا يقاس على بيع الغرر كل عقد على غرر لأن الأموال إما إنها لا تجب في هذه العقود أو ليست هي المقصود الأعظم منها وما ليس هو المقصود إذا وقع فيه غرر لم يفض إلى المفسدة المذكورة في البيع بل يكون أيجاب التحديد في ذلك فيه من العسر والحرج المنفي شرعا ما يزيد على ضرر ترك تحديده

فصل

عدل

ومما تمس الحاجة إليه من فروع هذا القاعدة ومن مسائل بيع الثمر قبل بدو صلاحه ما قد عمت به البلوى في كثير من بلاد الإسلام أو أكثرها لا سيما دمشق وذلك أن الأرض تكون مشتملة على غراس وأرض تصلح للزرع وربما اشتملت مع ذلك على مساكن فيريد صاحبها أن يؤاجرها لمن يسقيها ويزدرعها أو يسكنها مع ذلك فهذا إذا كان فيها أرض ووغراس مما اختلف الفقهاء فيه على ثلاثة أقوال

كانوا يوعدون وفي القراءة الأخرى خشعا أبصارهم وفي هاتين الآيتين وصف أجسادهم بالحركة السريعة حيث لم يصف بالخشوع إلا أبصاره بخلاف آية الصلاة فإنه وصف بالخشوع جملة المصلين بقوله تعالى الذين هم في صلاتهم خاشعون وقوله نعالى وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين

وقال تعالى 43 - 42 : 68 يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة

ومن ذلك خشوع الأصوات كقوله تعالى 20 : 108 وخشعت الأصوات للرحمن وهو انخفاضها وسكونها وقال تعالى 42 : 45 - 44 وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي وقال تعالى 5 - 2 : 88 وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية تسقى من عين آنية وهذا يكون يوم القيامة وهذا هو الصواب من القولين بلا ريب كما قال في القسم الآخر 10 - 8 : 88 وجوه يومئذ ناعمة لسعيها راضية في جنة عالية وقال تعالى 21 : 73 - 72 ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين

وإذا كان الخشوع في الصلاة واجبا وهو متضمن للسكون والخشوع فمن نقر نقر الغراب لم يخشع في سجوده وكذلك من لم يرفع رأسه من الركوع ويستقر قبل أن ينخفض لم يسكن لأن السكون هو الطمأنينة بعينها فمن لم يطمئن لم يسكن

ومن لم يسكن لم يخشع في ركوعه ولا في سجوده ومن لم يخشع كان آثما عاصيا وهو الذي بيناه

ويدل على وجوب الخشوع في الصلاة أن النبي توعد تاركيه كالذي يرفع بصره إلى السماء فإنه حركته ورفعه وهو ضد حال الخاشع فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله ما بال أقوام يرفعون أبصارهم في صلاتهم فاشتد قوله في ذلك فقال لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم وعن جابر بن سمرة قال دخل رسول الله المسجد وفيه ناس يصلون رافعي أبصارهم إلى السماء فقال لينتهين رجال يشخصون أبصارهم إلى السماء أو لا ترجع إليهم أبصارهم الأول في البخاري والثاني في مسلم وكلاهما في سنن أبي داود والنسائي وابن ماجة

وقال محمد ابن سيرين كان رسول الله يرفع بصره في الصلاة فلما نزلت هذه الآية قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون لم يكن يجاوز بصره موضع سجوده رواه الإمام أحمد في كتاب الناسخ والمنسوخ

فلما كان رفع البصر إلى السماء ينافي الخشوع حرمه النبي وتوعد عليه

وأما الالتفات لغير حاجة فهو ينقص الخشوع ولا ينافيه فلهذا كان ينقص الصلاة كما روى البخاري وأبو داود والنسائي عن عائشة رضى الله عنها قالت سألت رسول الله عن التفات الرجل في الصلاة فقال هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد

وروى أبو داود والنسائي عن أبي الأحوص عن أبى ذر رضي الله عنه قال قال رسول الله لا يزال الله مقبلا على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت فإذا التفت انصرف عنه وأما لحاجة فلا بأس به كما روى أبو داود عن سهل بن الحنظلية قال ثوب بالصلاة يعني صلاة الصبح

فجعل رسول الله يصلي وهو يلتفت إلى الشعب قال أبو داود وكان أرسل فارسا إلى الشعب من الليل يحرس وهذا كحمله أمامة بنت أبى العاص بن الربيع من زينب بنت رسول الله وفتحه الباب لعائشة ونزوله من المنبر لما صلى بهم يعلمهم وتأخره في صلاة الكسوف وإمساكه الشيطان وخنقه لما أراد أن يقطع صلاته وأمره بقتل الحية والعقرب في الصلاة وأمره برد المار بين يدي المصلى ومقاتلته وأمره النساء بالتصفيق وإشارته في الصلاة وغير ذلك من الأفعال التي تفعل لحاجة ولو كانت لغير حاجة كانت من العبث المنافي للخشوع المنهي عنه في الصلاة

ويدل على ذلك أيضا حارواه تميم الطائي عن جابر بن سمرة رضى الله عنه قال دخل علينا رسول الله والناس رافعوا أيديهم قال الراوي وهو زهير بن معاوية وأراه قال في الصلاة فقال مالي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس اسكنوا في الصلاة رواه مسلم وأبو داود والنسائي ورووا أيضا عن عبيد الله بن القبطية عن جابر بن سمرة رضى الله عنه قال كنا إذا صلينا خلف رسول الله فسلم أحدنا أشار بيده من عن يمينه ومن عن يساره فلما صلى قال ما بال أحدكم يومئ بيده كأنها أذناب خيل شمس إنما يكفي أحدكم أو ألا يكفي أحدكم أن يقول هكذا وأشار بإصبعه يسلم على أخيه من عن يمينه ومن عن شماله وفي رواية قال أما يكفي أحدكم أو أحدهم أن يضع يده على ففخذه ثم يسلم على أخيه من عن يمينه ومن عن شماله ولفظ مسلم صلينا مع رسول الله وكنا إذا سلمنا قلنا بأيدينا السلام عليكم فنظر إلينا رسول الله فقال ما شأنكم تشيرون بأيديكم كأنها أذناب خيل شمس إذا سلم أحدكم فليلتفت إلى صاحبه ولا يؤمى بيده

فقد أمر رسول الله بالسكون في الصلاة وهذا يقتضي السكون فيها كلها والسكون لا يكون إلا بالطمأنينة فمن لم يطمئن لم يسكن فيها وأمره بالسكون فيها موافق لما أمر الله تعالى به من الخشوع فيها وأحق الناس باتباع هذا هم أهل الحديث

ومن ظن أن نهيه عن رفع الأيدي هو النهى عن رفعها إلى منكبه حين الركوع وحين الرفع منه وحمله على ذلك فقد غلط فإن الحديث جاء مفسرا بأنهم كانوا إذا سلموا في الصلاة سلام التحليل أشاروا بأيديهم إلى المسلم عليهم من عن اليمين ومن عن الشمال

ويبين ذلك قوله مالي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس والشمس جمع شموس وهو الذي تقول له العامة الشموص وهو الذي يحرك ذنبه ذات اليمين وذات الشمال وهى حركة لا سكون فيها

وأما رفع الأيدي عند الركوع وعند الرفع بمثل رفعها عن الاستفتاح فذلك مشروع باتفاق المسلمين فكيف يكون الحديث نهيا عنه

وقوله اسكنوا في الصلاة يتضمن ذلك ولهذا صلى بعض الأئمة الذين لم يكونوا يرون هذا الرفع إلى جنب عبد الله بن المبارك فرفع ابن المبارك يديه فقال له أتريد أن تطير فقال إن كنت أطير في أول مرة فأنا أطير في الثانية وإلا فلا وهذا نقض لما ذكره من المعنى

وأيضا فقد تواترت السنن عن النبي وأصحابه بهذا الرفع فلا يكون نهيا عنه ولا يكون ذلك الحديث معرضا بل لو قد تعارضنا فأحاديث هذا الرفع كثيرة متواترة ويجب تقديمها على الخبر الواحد لو عارضها وهذا الرفع فيه سكون فقوله اسكنوا في الصلاة لا ينافي هذا الرفع كرفع الاستفتاح وكسائر أفعال الصلاة بل قوله اسكنوا يقتضي السكون في كل بعض من أبعاض الصلاة وذلك يقتضي وجوب السكون في الركوع والسجود والاعتدالين

فيبن هذا أن السكون مشروع في جميع أفعال الصلاة بحسب الإمكان ولهذا يسكن فيها في الانتقالات التي منتهاها إلى الحركة فإن السكون فيها يكون بحركة معتدلة لا سريعة كما أمر النبي في المشى إليها وهى حركة إليها فكيف بالحركة فيها فقال إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها تسعون وائتوها وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا

وهذا أيضا دليل مستقل في المسألة فعن أبى هريرة رضى الله عنه قال سمعت رسول الله يقول إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وائتوها تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا رواه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه قال أبو داود وكذلك قال الترمذي وابن أبي ذئب وإبراهيم بن سعد ومعمر وشعيب ابن أبي حمزة عن الزهري وما فاتكم فأتموا وقال ابن عينية عن الزهري فاقضوا قال محمد بن عمر عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضى الله عنه وجعفر بن أبي ربيعة عن الأعرج عن أبي هريرة فأتموا وابن مسعود عن النبي فأتموا وروى أبو داود عن أبي هريرة عن النبي قال ائتوا الصلاة وعليكم السكينة فصلوا ما أدركتم واقضوا ما سبقكم قال أبو داود وكذا قال ابن سيرين عن ابي هريرة رضى الله عنه وليقض وكذلك قال أبو رافع عن أبي هريرة وأبو ذر رضى الله عنه روى عنه فأتموا واقضوا اختلف عنه

فإذا كان النبي قد أمر بالسكينة حال الذهاب إلى الصلاة ونهى عن السعي الذي هو إسراع في ذلك لكونه سببا للصلاة فالصلاة أحق أن يؤمر فيها بالسكينة وينهى فيها عن الاستعجال

فعلم أن الراكع والساجد مأمور بالسكينة منهي عن الاستعجال بطريق الأولى والأخرى لا سيما وقد أمره بالسكينة بعد سماع الإقامة الذي يوجب عليه الذهاب إليها ونهاه أن يشتغل عنها بصلاة تطوع وإن أفضى ذلك إلى فوات

وصلاة أبي بكر متقاربة فلما كان عمر رضي الله عنه مد في صلاة الصبح وعن قتادة عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله كان من أخف الناس صلاة في تمام

فقول أنس رضي الله عنه ما صليت وراء إمام قط أخف ولا أتم صلاة من رسول الله يريد أنه كان أخف الأئمة صلاة وأتم الأئمة صلاة وهذا لاعتدال صلاته وتناسبها كما في اللفظ الآخر وكانت صلاته معتدلة وفي اللفظ الآخر كانت صلاته متقاربة لتخفيف قيامها وقعودها وتكون أتم صلاة لإطالة ركوعها وسجودها ولو أراد أن يكون نفس الفعل الواحد كالقيام هو أخف وهو أتم لناقض ذلك ولهذا بين التخفيف الذي كان يفعله إذا بكى الصبي وهو قراءة سورة قصيرة وبين أن عمر بن الخطاب مد في صلاة الصبح وإنما مد في القراءة فإن عمر رضي الله عنه كان يقرأ في الفجر بسورة يونس وسورة هود وسورة يوسف

والذي يبين ذلك ما رواه أبو داود في سننه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال ما صليت خلف رجل أوجز صلاة من رسول الله في تمام وكان رسول الله إذا قال سمع الله لمن حمد قام حتى نقول قد أوهم ثم يكبر ويسجد وكان يقعد بين السجدتين حتى نقول قد أوهم كما أخرجا في الصحيحين عن حماد بن زيد عن ثابت عن أنس قال إني لا آلو أن أصلي بكم كما كان رسول الله يصلي بنا قال ثابت فكان أنس يصنع شيئا لا أراكم تصنعونه كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائما حتى يقول القائل قد نسي وللبخاري من حديث شعبة عن ثابت قال قال أنس رضي الله عنه ينعت لنا صلاة رسول الله وكان يصلي فإذا رفع رأسه من الركوع حتى يقول القائل قد نسي

فهذه أحاديث أنس الصحيحة تصرح أن صلاة النبي التي

الشريعة هذه الحال كان هذا دليلا على أن ما أفضى إلى هذا الفساد لم يشرعه الله ولا رسوله كما نبهنا عليه في ضمان الحدائق لمن يزرعها ويستثمرها وبيع الخضر ونحوها

وذلك أن الحالف بالطلاق إذا حلف ليقطعن رحمه أو ليعقن أباه أو ليقتلن عدوه المسلم المعصوم أو ليأتين الفاحشة أو ليشربن الخمر أو ليفرقن بين المرء وزوجه ونحو ذلك من كبائر الإثم والفواحش فهو بين ثلاثة أمور إما أن يفعل هذا المحلوف عليه فهذا لا يقوله مسلم لما فيه من ضرر الدنيا والآخرة مع أن كثيرا من الناس بل من المفتين إذا رآه قد حلف بالطلاق كان ذلك سببا لتخفيف الأمر عليه وإقامة عذره

وإما أن يحتال ببعض تلك الحيل المذكورة كما استخرجه قوم من المفتين ففي ذلك من الاستهزاء بآيات الله ومخادعته والمكر السيء بدينه والكيد له وضعف العقل والدين والاعتداء لحدود الله والانتهاك لمحارمه والإلحاد في آياته ما لا خفاء به وإن كان من إخواننا الفقهاء من قد يستجيز بعض ذلك فقد دخل من الغلط في ذلك وإن كان مغفورا لصاحبه المجتهد المتقي لله ما فساده ظاهر لمن تأمل حقيقة الدين

وإما أن لا يحتال ولا يفعل المحلوف عليه بل يطلق امرأته كما يفعله من يخشى الله إذا اعتقد وقوع الطلاق ففي ذلك من الفساد في الدين والدنيا ما لا يأذن به الله ولا رسوله

أما فساد الدين فإن الطلاق منهي عنه مع استقامة حال الزوجين باتفاق العلماء حتى قال النبي إن المختلعات والمنتزعات هن المنافقات وقال أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة

وقد اختلف العلماء هل هو محرم أو مكروه وفيه روايتان عن أحمد وقد استحسنوا جواب أحمد لما سئل عمن حلف بالطلاق ليطأن امرأته وهي حائض

كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون

وفيها قواعد عظيمة لكن تحتاج إلى تقديم مقدمات نافعة جدا في هذا الباب وغيره

المقدمة الأولى أن اليمين تشتمل على جملتين جملة مقسم بها وجملة مقسم عليها ومسائل الأيمان إما في حكم المحلوف به وإما في حكم المحلوف عليه

فأما المحلوف به فالأيمان التي يحلف بها المسلمون مما قد يلزم بها حكم ستة أنواع ليس لها سابع

أحدها اليمين بالله وما في معناها مما فيه التزام كفر على تقدير الحنث كقوله هو يهودي أو نصراني إن فعل كذا على ما فيه من الخلاف بين الفقهاء

الثاني اليمين بالنذر الذي يسمى نذر اللجاج والغضب كقوله علي الحج لا أفعل كذا أو إن فعلت كذا فعلي الحج أو مالي صدقة إن فعلت كذا ونحو ذلك

الثالث اليمين بالطلاق

الرابع اليمين بالعتاق

الخامس اليمين بالحرام كقوله الحل علي حرام لا أفعل كذا

السادس الظهار كقوله أنت علي كظهر أمي إن فعلت كذا

فهذا مجموع ما يحلف به المسلمون مما فيه حكم

فأما الحلف بالمخلوقين كالحلف بالكعبة أو قبر الشيخ أو بنعمة السلطان أو بالسيف أو بحياة أحد من المخلوقات فما أعلم بين العلماء خلافا أن هذه اليمين مكروهة منهي عنها وأن الحلف بها لا يوجب حنثا ولا كفارة وهل الحلف بها محرم أو مكروه كراهة تنزيه فيه قولان في مذهب أحمد وغيره

والله لا أفعل كذا أو الطلاق يلزمني لا أفعل كذا أو الحل علي حرام لا أفعل كذا أو علي الحج لا أفعل كذا والثاني كقوله إن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني أو بريء من الإسلام أو إن فعلت كذا فامرأتي طالق أو إن فعلت كذا فعلي الحج أو فما لي صدقة ولهذا عقد الفقهاء لمسائل الأيمان بابين أحدهما باب تعليق الطلاق بالشروط فيذكرون فيه الحلف بصيغة الجزاء كإن وإذا ومتى أشبه ذلك وإن دخل فيه صيغة القسم ضمنا وتبعا والباب الثاني باب جامع الأيمان مما يشترك فيه اليمين بالله والطلاق والعتاق وغير ذلك فيذكرون فيه الحلف بصيغة القسم وإن دخلت صيغة الجزاء ضمنا وتبعا

ومسائل أحد البابين مختلطة بمسائل الباب الآخر لاتفاقهما في المعنى كثيرا أو غالبا ولذلك كان طائفة من الفقهاء كأبي الخطاب وغيره لما ذكروا في كتاب الطلاق باب تعليق الطلاق بالشروط أردفوه بباب جامع الأيمان وطائفة أخرى كالخرقى والقاضي أبي يعلى وغيرهما إنما ذكروا باب جامع الأيمان في كتاب الأيمان لأنه به أمس ونظير هذا الباب حد القذف منهم من يذكره عند باب اللعان لاتصال أحدهما بالآخر ومنهم من يؤخره إلى كتاب الحدود لأنه به أخص

وإذا تبين أن لليمين صيغتين صيغة القسم وصيغة الجزاء فالمقدم صيغة القسم مؤخر في صيغة الجزاء والمؤخر في صيغة الجزاء مقدم في صيغة القسم والشرط المنفي في صيغة الجزاء مثبت في صيغة القسم فإنه إذا قال الطلاق يلزمني لا أفعل كذا فقد حلف بالطلاق أن لا يفعل فالطلاق مقدم والفعل مؤخر منفي ولو حلف بصيغة الجزاء لقال إن فعلت كذا فامرأتي طالق فكان تقدم الفعل مثبتا وتأخر الطلاق منفيا كما أنه في القسم قدم الحكم

وأخر الفعل وبهذه القاعدة تنحل مسائل كثيرة من مسائل الأيمان

فأما صيغة الجزاء فهي جملة فعلية في الأصل فإن أدوات الشرط لا يتصل بها في الأصل إلا الفعل وأما صيغة القسم فتكون فعلية كقوله أحلف بالله أو تالله أو والله ونحو ذلك وتكون اسمية كقوله لعمر الله لأفعلن والحل علي حرام لأفعلن

ثم هذا التقسيم ليس من خصائص الأيمان التي بين العبد وبين الله بل غير ذلك من العقود التي تكون بين الآدميين تارة تكون بصيغة التعليق الذي هو الشرط والجزاء كقوله في الجعالة من رد عبدي الآبق فله كذا وقوله في السبق من سبق فله كذا وتارة بصيغة الجزم والتحقيق إما صيغة خبر كقوله بعت وزوجت وإما صيغة طلب كقول بعني واخلعني

المقدمة الثالثة وبها يظهر مسائل الأيمان ونحوها أن صيغة التعليق التي تسمى صيغة الشرط وصيغة المجازاة تنقسم إلى ستة أنواع لأن الحالف إما أن يكون مقصوده وجود الشرط فقط أو وجود الجزاء فقط أو وجودهما وإما أن لا يقصد وجود واحد منهما بل يكون مقصوده عدم الشرط فقط أو عدم الجزاء فقط أو عدمهما فالأول بمنزلة كثير من صور الخلع والكتابة ونذر التبرر والجعالة ونحوها فإن الرجل إذا قال لامرأته إن أعطيتني ألفا فأنت طالق أو فقد خلعتك أو قال لعبده إن أديت ألفا فأنت حر أو قال إن رددت عبدي الآبق فلك ألف درهم أو قال إن شفى الله مريضي أو سلم مالي الغائب فعلي عتق كذا أو الصدقة بكذا فالمعلق قد لا يكون مقصوده إلا أخذ المال ورد العبد وسلامة النفس والمال وإنما التزم الجزاء على سبيل العوض كالبائع الذي إنما مقصوده أخذ الثمن والتزم أداء المبيع على سبيل العوض

فهذا الضرب هو شبيه بالمعاوضة في البيع والإجارة وكذلك إذا كان قد جعل الطلاق عقوبة لها مثل أن يقول إذا ضربت أمتي فأنت طالق أو إن خرجت من الدار فأنت طالق فإنه في الخلع عوضها بالتطليق عن المال لأنها تريد الطلاق وهنا عوضها عن بعضيتها بالطلاق

وأما الثاني فمثل أن يقول لامرأته إذا طهرت فأنت طالق أو يقول لعبده إذا مت فأنت حر أو إذا جاء رأس الحول فأنت حر أو فمالي صدقة ونحو ذلك من التعليق الذي هو توقيت محض فهذا الضرب هو بمنزلة المنجز في أن كل واحد منهما قصد الطلاق والعتاق وإنما أخره إلى الوقت المعين بمنزلة تأجيل الدين وبمنزلة من يؤخر التطليق من وقت إلى وقت لغرض له في التأخير لا لعوض ولا لحلف على طلب أو خبر ولهذا قال الفقهاء من أصحابنا وغيرهم إذا حلف أنه لا يحلف بالطلاق مثل أن يقول والله لا أحلف بطلاقك أو إن حلفت بطلاقك فعبدي حر أو فأنت طالق وأنه إذا قال إن دخلت أو إن لم تدخلي ونحو ذلك مما فيه معنى الحض أو المنع فهو حالف ولو كان تعليقا محضا كقوله إذا طلعت الشمس فأنت طالق أو أنت طالق إن طلعت الشمس فاختلفوا فيه قال أصحاب الشافعي ليس بحالف وقال أصحاب أبي حنيفة والقاضي في الجامع هو حالف

وأما الثالث وهو أن يكون مقصوده وجودهما فمثل الذي قد آذته المرأة حتى أحب طلاقها واسترجاع الفدية منها فيقول إن أبرأتيني من صداقك أو من نفقتك فأنت طالق وهو يريد كلا منهما

وأما الرابع وهو أن يكون مقصوده عدم الشرط لكنه إذا وجد لم يكره الجزاء بل يحبه أو لا يحبه ولا يكرهه فمثل أن يقول لامرأته إن زنيت فأنت طالق أو إن ضربت أمي فأنت طالق ونحو ذلك من التعليق الذي يقصد فيه عدم الشرط ويقصد وجود الجزاء عند وجوده بحيث إذا زنت أو إذا ضربت أمه يجب أن يفارقها لأنها لا تصلح له فهذا فيه معنى اليمين وفيه معنى التوقيت فإنه منعها من الفعل وقصد إيقاع الطلاق عنده كما قصد

إيقاعه عند أخذ العوض منها أو عند طهرها أو عند طلوع الهلال

وأما الخامس وهو أن يكون مقصوده عدم الجزاء وتعلقه بالشرط لئلا يوجد وليس له غرض في عدم الشرط فهذا قليل كمن يقول إن أصبت مائة رمية أعطيتك كذا

وأما السادس وهو أن يكون مقصودهما عدم الشرط والجزاء وإنما تعلق الجزاء بالشرط ليمتنع وجودهما فهو مثل نذر اللجاج والغضب ومثل الحلف بالطلاق والعتاق على حض أو منع أو تصديق أو تكذيب مثل أن يقال له تصدق على فلان أو أصلح بين فلان وفلان أو حج في هذه السنة فيقول إن تصدقت عليه فعليه صيام كذا أو فامرأته طالق أو فعبيده أحرار أو يقول إن لم أفعل كذا وكذا فعلي نذر كذا أو امرأتي طالق أو عبدي حر أو يحلف على غيره ممن يقصد منعه كعبده ونسيبه وصديقه ممن يحضه على طاعته فيقول له إن فعلت أو إن لم تفعلي فعلي كذا أو فامرأتي طالق أو فعبيدي أحرار ونحو ذلك

فهذا نذر اللجاج والغضب وما أشبهه من الحلف بالطلاق والعتاق يخالف في المعنى نذر التبرر والتقرب وما أشبهه من الخلع والكتابة فإن الذي يقول إن سلمني الله أو سلم مالي من كذا أو إن أعطاني الله كذا فعلي أن أتصدق أو أصوم أو أحج قصده حصول الشرط الذي هو الغنيمة أو السلامة وقصد أن يشكر الله على ذلك بما نذره وكذلك المخالع والمكاتب قصده حصول العوض وبذل الطلاق والعتاق عوضا عن ذلك

وأما النذر في اللجاج والغضب فكما إذا قيل له افعل كذا فامتنع من فعله ثم قال إن فعلته فعلي الحج أو الصيام فهنا مقصوده أن لا يكون الشرط ثم إنه لقوة امتناعه ألزم نفسه إن فعله بهذه الأمور الثقيلة عليه ليكون لزومها له إذا فعل مانعا له من الفعل وكذلك إذا قال إن فعلته فامرأتي طالق أو فعبيدي أحرار إنما مقصوده الامتناع والتزم بتقدير الفعل ما هو شديد عليه من فراق أهله وذهاب ماله ليس غرض هذا أن يتقرب إلى الله بعتق أو صدقة ولا أن يفارق امرأته ولهذا سمى العلماء هذا نذر اللجاج والغضب مأخوذا من قول النبي فيما أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة والله لا يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي الكفارة التي فرض الله عليه

فصورة هذا النذر صورة نذر التبرر في اللفظ ومعناه شديد المباينة لمعناه ومن هذا نشأت الشبهة التي سنذكرها في هذا الباب إن شاء الله تعالى على طائفة من العلماء وبهذا يتبين فقه الصحابة الذين نظروا إلى معاني الألفاظ لا إلى صورها

إذا تبينت هذه الأنواع الداخلة في قسم التعليق فقد علمت أن بعضها معناه معنى اليمين بصيغة القسم وبعضها ليس معناه معنى اليمين بصيغة القسم فمتى كان الشرط المقصود حضا على فعل أو منعا منه أو تصديقا لخبر أو تكذيبا كان الشرط مقصود العدم هو وجزاؤه كنذر اللجاج والغضب والحلف بالطلاق على وجه اللجاج والغضب

القاعدة الأولى أن الحالف بالله سبحانه قد بين الله حكمه بالكتاب والسنة والإجماع

أما الكتاب فقال تعالى لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور رحيم وقال قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم وقال لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشره مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم وو احفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون

كثيرة بما نقلوه عن أحمد من أن الشرط المتقدم على العقد في الصداق لا يؤثر وإنما يؤثر تسميته في العقد ومن أصحاب أحمد طائفة كالقاضي أبي يعلى يفرقون بين الشرط المتقدم الرافع لمقصود العقد والمقيد له فإن كان رافعا كالمواطأة على كون العقد تلجئة أو تحليلا أبطله وإن كان مقيدا له كاشتراط كون المهر أقل من المسمى لم يؤثر فيه لكن المشهور في نصوص أحمد وأصوله وما عليه قدماء أصحابه كقول أهل المدينة أن الشرط المتقدم كالشرط المقارن فإذا اتفقا على شيء وعقد العقد بعد ذلك فهو مصروف إلى المعروف بينهما مما اتفقا عليه كما ينصرف الدرهم والدينار في العقود إلى المعروف بينهما وكما أن جميع العقود وإنما تنصرف إلى ما يتعارفه المتعاقدان

فصل

عدل

القاعدة الخامسة في الأيمان والنذور

قال الله تعالى يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم وقال تعالى ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم وقال تعالى لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور رحيم للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك تحلة أيمانكم والتحلة مصدر حللت الشيء تحليلا وتحلة كما يقال كرمته تكريما وتكرمة وهذا المصدر يسمى به المحلل نفسه الذي هو الكفارة فإن أريد المصدر فالمعنى فرض الله لكم تحليل اليمين وهو حلها الذي هو خلاف العقد أو الحل ولهذا استدل من استدل من أصحابنا وغيرهم كأبي بكر بن عبد العزيز بهذه الآية على التكفير قبل الحنث لأن التحلة لا تكون بعد الحنث فإنه بالحنث تنحل اليمين وإنما تكون التحلة إذا أخرجت قبل الحنث لتتحلل اليمين وإنما هي بعد الحنث كفارة لأنها كفرت ما في الحنث من سبب الإثم لنقض عهد الله

فإذا تبين أن ما اقتضته اليمين من وجوب الوفاء بها رفعه الله عن هذه الأمة بالكفارة التي جعلها بدلا من الوفاء في جملة ما رفعه عنها من الأخبار التي نبه عليها بقوله تعالى ويضع عنهم إصرهم فالأفعال ثلاثة إما طاعة وإما معصية وإما مباح فإذا حلف ليفعلنه مباحا أو ليتركنه فهنا الكفارة مشروعة بالإجماع وكذلك إذا كان المحلوف عليه فعل مكروه أو ترك مستحب وهو المذكور في قوله تعالى ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم

وأما إن كان المحلوف عليه ترك واجب أو فعل محرم فهنا لا يجوز الوفاء به بالاتفاق بل يجب التكفير عند عامة العلماء

وأما قبل أن تشرع الكفارة فكان الحالف على مثل هذا لا يحل له الوفاء بيمينه ولا كفارة له ترفع عنه مقتضى الحنث بل يكون عاصيا معصية لا كفارة فيها سواء وفى أم لم يف كما لو نذر معصية عند من لم يجعل في نذره كفارة وإن كان المحلوف عليه فعل طاعة غير واجبة

فصل

عدل

فأما الحالف بالنذر الذي هو نذر اللجاج والغضب مثل أن يقول إذا فعلت

أصحهما أنه محرم ولهذا قال أصحابنا كالقاضي أبي يعلى وغيره أنه إذا قال أيمان المسلمين تلزمني إن فعلت كذا لزمه اليمين بالله والنذر والطلاق والعتاق والظهار ولم يذكر الحرام لأن يمين الحرام ظهار عند أحمد وأصحابه فلما كان موجبها واحد عندهم دخل الحرام في الظهار ولم يدخلوا النذر في اليمين بالله وإن جاز أن يكفر يمينه بالنذر لأن موجب الحلف بالنذر المسمى بنذر اللجاج والغضب عند الحنث هو التخيير بين التكفير وبين فعل المنذور وموجب اليمين بالله هو التكفير فقط فلما اختلف موجهما جعلوهما يمينين

نعم إذا قالوا بالرواية الأخرى عن أحمد وهو أن الحلف بالنذر موجبه الكفارة فقط دخلت اليمين بالنذر في اليمين بالله

وأما اختلافهم واختلاف غيرهم من العلماء في أن مثل هذا الكلام هل ينعقد به اليمين أو لا ينعقد فسأذكره إن شاء الله تعالى وإنما غرضي هنا حصر الأيمان التي يحلف بها المسلمون

وأما أيمان البيعة فقالوا أول من أحدثها الحجاج بن يوسف الثقفي وكانت السنة أن الناس يبايعون الخلفاء كما بايع الصحابة النبي يعقدون البيعة كما يعقدون عقد البيع والنكاح ونحوهما إما أن يذكروا الشروط التي يبايعون عليها ثم يقولون بايعناك على ذلك كما بايعت الأنصار النبي ليلة العقبة فلما أحدث الحجاج ما أحدث من الفسق كان من جملته أن حلف الناس على بيعتهم لعبد الملك بن مروان بالطلاق والعتاق واليمين بالله صدقة المال فهذه الأيمان الأربعة هي كانت أيمان البيعة القديمة المبتدعة ثم أحدث المستخلفون عن الأمراء والملوك وغيرهم أيمانا كثيرة أكثر من ذلك وقد تختلف فيها عاداتهم ومن أحدث ذلك فعليه إثم ما ترتب على هذه الأيمان من الشر

المقدمة الثانية أن تخرج اليمين عن هاتين الصيغتين فالأول كقوله أليس كفارة يمين قال نعم قال وسمعت أبا عبد الله يقول في حديث ليلى بنت العجماء حين حلفت بكذا وكذا كل مملوك لها حر فأفتيت بكفارة يمين فاحتج بحديث ابن عمر وابن عباس حين أفتيا فيمن حلف بعتق جاريته وأيمان فقال أما الجارية فعتق قال الأثرم حدثنا الفضل بن دكين حدثنا حسن عبد الله بن أبي نجيح عن عطاء عن عائشة قالت من قال مالي في رتاج الكعبة وكل مالي فهو هدى وكل مالي في المساكين فليكفر عن يمينه

وقال حدثنا عارم بن الفضل حدثنا معتمر بن سلميان قال قال أبي حدثنا بكر بن عبد الله أخبرني أبو رافع قال قالت مولاتى ليلى بنت العجماء كل مملوك لها محرر وكل مال لها هدى هى يهودية وهي نصرانية إن لم تطلق امرأتك أو تفرق بينك وبين امرأتك قال فأتيت زينب بنت أم سلمة وكانت إذا ذكرت امرأة بالمدينة فقيهة ذكرت زينب قال فأتيتها فجاءت معي إليها فقالت في البيت هاروت وماروت قالت يا زينب جعلني الله فداك إنها قالت كل مملوك لها محرر وكل مال لها هدى وهى يهودية وهى نصرانية فقالت يهودية ونصرانية خلى بين الرجل وامرأته فأتيت حفصة أم المؤمنين فأرسلت إليها فأتتها فقالت يا أم المؤمنين جعلني الله فداك إنها قالت كل مملوك محرر وكل مال لها هدى وهى يهودية وهى نصرانية فقالت يهودية ونصرانية خلى بين الرجل وبين امرأته قال فأتيت عبد الله بن عمر فجاء معي إليها فقام على الباب فسلم فقالت بأبي أنت وبأبي أبوك فقال أمن حجارة أنت أم من حديد أنت أم من أى شئ أنت أفتتك زينب وأفتتك أم المؤمنين فلم تقبلي فتياهما قالت يا أبا عبد الرحمن جعلني الله فداءك إنها قالت كل مملوك لها حر وكل مال لها هدى وهى يهودية وهى نصرانية فقال يهودية ونصرانية كفري عن يمينك وخلى بين الرجل وبين امرأته

قال الأثرم حدثنا عبد الله بن رجاء حدثنا عمران عن قتادة عن زرارة ابن أوفى أن امرأة سألت ابن عباس أن امرأة جعلت بردها عليها هديا إن لبسته فقال ابن عباس أفي غضب أم في رضى قالت في غضب قال إن الله تعالى لا يتقرب إليه بالغضب لتكفر عن يمينها وقال حدثني ابن الطباع حدثنا أبو بكر بن عياش عن العلاء بن المسيب عن يعلى بن نعمان عن عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما سئل عن الرجل جعل ماله في المساكين فقال أمسك عليك مالك وأنفقه على عيالك واقض به دينك وكفر عن يمينك وروى الأثرم عن أحمد قال حدثنا عبد الرزاق أنبأنا ابن جريج قال سئل عطاء عن رجل قال على ألف بدنه قال يمين وعن رجل قال على ألف حجة قال يمين وعن رجل قال مالي هدى قال يمين وعن رجل قال مالي في المساكين قال يمين وقال أحمد حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن قتادة عن الحسن وجابر بن زيد في الرجل يقول إن لم أفعل كذا وكذا فأنا محرم بحجة قالا ليس الإحرام إلا على من نوى الحج يمين يكفرها وقال أحمد حدثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال يمين يكفرها وقال حرب الكرمانى حدثنا المسيب بن واضح حدثنا يوسف بن السفر عن الأوزاعي عن عطاء بن أبي رباح قال سألت ابن عباس عن الرجل يحلف بالمشي إلى بيت الله الحرام قال إنما المشي على من نواه فأما من حلف في الغضب فعليه كفارة يمين

وأيضا فإن الاعتبار في الكلام بمعنى الكلام لا بلفظه وهذا الحالف ليس مقصوده قربة الله وإنما مقصوده الحض على فعل أو المنع منه وهذا معنى اليمين فإن الحالف يقصد الحض على فعل شئ أو المنع منه ثم إذا علق ذلك الفعل بالله تعالى أجزأته الكفارة فلأن تجزيه إذا علق به وجوب عبادة أو تحريم مباح بطريق الأولى لأنه إذا علقه بالله ثم حنث كان موجب حنثه أنه قد هتك أيمانه بالله حيث لم يف بعهده وإذا علق به وجوب فعل أو تحريمه فإنما يكون موجب حنثه ترك واجب أو فعل محرم ومعلوم أن الحنث الذي موجبه خلل في التوحيد أعظم مما موجبه معصية من المعاصي فإذا كان الله قد شرع الكفارة لإصلاح ما اقتضي الحنث فساده في التوحيد ونحو ذلك وجبره فلأن يشرع لإصلاح ما اقتضى الحنث فساده في الطاعة أولى وأحرى

وأيضا فإنا نقول إن موجب صيغة القسم مثل موجب صيغة التعليق والنذر نوع من اليمين وكل نذر فهو يمين فقول الناذر لله على أن أفعل بمنزلة قوله أحلف بالله لأفعلن موجب هذين القولين التزام الفعل معلقا بالله

والدليل على هذا قول النبي النذر حلفة فقوله إن فعلت كذا فعلى الحج لله بمنزلة قوله إن فعلت كذا فوالله لأحجن

وطرد هذا انه اذا حلف ليفعلن برا ! لزمه فعله ولم يكن له ان يكفر فإن حلفه ليفعلنه نذر لفعله

وكذلك طرد هذا أنه إذا نذر ليفعلن معصية أو مباحا فقد حلف على فعلها بمنزلة ما لو قال والله لأفعلن كذا ولو حلف بالله ليفعلن معصية أو مباحا لزمته كفارة يمين وكذلك لو قال على لله أن أفعل كذا

ومن الفقهاء من أصحابنا وغيرهم من يفرق بين البابين

فصل

عدل

فأما اليمين بالطلاق أو العتاق في اللجاج والغضب فمثل أن يقصد بها حضا أو منعا أو تصديقا أو تكذيبا مثل قوله الطلاق يلزمني لأفعلن كذا أو لا فعلت كذا أو إن فعلت كذا فعبيدي أحرار أو إن لم أفعله فعبيدي أحرار فمن

قال من الفقهاء المتقدمين إن نذر اللجاج والغضب يجب فيه الوفاء فإنه يقول هنا يقع الطلاق والعتاق أيضا وأما الجمهور الذين قالوا في نذر اللجاج والغضب تجزيه الكفارة فاختلفوا هنا مع أنه لم يبلغني عن الصحابة في الحلف بالطلاق كلام وإنما بلغنا الكلام فيها عن التابعين ومن بعدهم لأن اليمين به محدثة لم تكن تعرف في عصرهم ولكن بلغنا عن الصحابة الكلام في الحلف بالعتق كما سنذكره إن شاء الله

فاختلف التابعون ومن بعدهم في اليمين بالطلاق والعتاق فمنهم من فرق بينه وبين اليمين بالنذر وقالوا إنه يقع الطلاق والعتاق بالحنث ولا تجزيه الكفارة بخلاف اليمين بالنذر هذا رواية عوف عن الحسن وهو قول الشافعي وأحمد في الصريح المنصوص عنه وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد وغيرهم

فروى حرب الكرماني عن معتمر بن سليمان عن عوف عن الحسن قال

كل يمين وإن عظمت ولو حلف بالحج والعمرة وإن جعل ماله في المساكين ما لم يكن طلاق امرأة في ملكه يوم حلف أو عتق غلام في ملكه يوم حلف فإنما هي يمين وقال إسماعيل بن سعيد الشالنجي سألت أحمد بن حنبل عن الرجل يقول لابنه إن كلمتك فامرأتي طالق وعبدي حر فقال لا يقوم هذا مقام اليمين ويلزمه ذلك في الغضب والرضا وقال سليمان بن داود يلزمه الحنث في الطلاق والعتاق وبه قال أبو خيثمة قال إسماعيل حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق عن معمر بن إسماعيل بن أمية عن عثمان بن حاضر الحميري أن امرأة حلفت بمالها في سبيل الله أو في المساكين وجاريتها حرة إن لم تفعل كذا وكذا فسألت ابن عمر وابن عباس فقالا أما الجارية فتعتق وأما قولها في المال فإنها تزكي المال قال أبو إسحاق إبراهيمم الجوزجاني الطلاق والعتق لا يحلان في هذا محل الأيمان ولو كان المجزئ فيها مجزئا في الأيمان لوقع على الحالف بها إذا حنث كفارة وهذا مما لا يختلف الناس فيه أن لا كفارة فيها

قلت أخبر أبو إسحاق بما بلغه من العلم في ذلك فإن أكثر مفتي الناس في ذلك الزمان من أهل المدينة وأهل العراق أصحاب أبي حنيفة ومالك كانوا لا يفتون في نذر اللجاج والغضب إلا بوجوب الوفاء لا بالكفارة وإن كان أكثر التابعين مذهبهم فيها الكفارة حتى إن الشافعي لما أفتى بمصر بجواز الكفارة كان غريبا بين أصحابه المالكية وقال له السائل يا أبا عبد الله هذا قولك فقال قول من هو خير مني قول عطاء بن أبي رباح فلما أفتى فقهاء الحديث كالشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وسليمان بن داود وابن أبي شيبة وعلي المديني ونحوهم في الحلف بالنذر بالكفارة وفرق من فرق بين ذلك وبين الطلاق والعتاق لما سنذكره صار الذي يعرف قول هؤلاء وقول أولئك لا يعلم خلافا في الطلاق والعتاق وإلا فسنذكر الخلاف في ذلك إن شاء الله تعالى عن الصحابة

فأفتوه بما يخرجه عن يمينه واعتاض مما يلزمه في يمينه بما ذكره ولم يزل به إلى أن خلع نفسه وبويع للمهدي ولموسى الهادي بعده

وأما أبو ثور فقال في العتق المعلق على وجه اليمين يجزئه كفارة يمين كنذر اللجاج والغضب لأجل ما تقدم من حديث ليلى بنت العجماء التي أفتاها عبد الله بن عمر وحفصة أم المؤمنين وزينب ربيبة رسول الله بكفارة يمين في قولها إن لم أفرق بينك وبين امرأتك فكل مملوك لي محرر وهذه القصة هي مما اعتمده الفقهاء المستدلون في مسألة نذر اللجاج والغضب لكن توقف أحمد وأبو عبيد عن العتق فيها لما ذكرته من الفرق وعارض أحمد ذلك وأما الطلاق فلم يبلغ أبا ثور فيه أثر فتوقف عنه مع أن القياس عنده مساواته للعتق لكن خاف أن يكون مخالفا للإجماع

والصواب أن الخلاف في الجميع في الطلاق وغيره كما سنذكره ولو لم ينقل في الطلاق نفسه خلاف معين لكان فتيا من أفتى من الصحابة في الحلف بالعتاق بكفارة يمين من باب التنبيه على الحلف بالطلاق فإنه إذا كان نذر العتق الذي هو قربة لما خرج مخرج اليمين أجزأت فيه الكفارة فالحلف بالطلاق الذي ليس بقربة إما أن تجزئ فيه الكفارة ولا يجب فيه شيء على قول من يقول نذر غير الطاعة لا شيء فيه ويكون قوله إن فعلت كذا فأنت طالق بمنزلة قوله فعلي أن أطلقك كما كان عند أولئك الصحابة ومن وافقهم قوله فعبيدي أحرار بمنزلة قوله فعلي أن أعتقهم

على أني إلى الساعة لم يبلغني عن أحد من الصحابة كلام في الحلف بالطلاق وذاك والله أعلم لأن الحلف بالطلاق لم يكن قد حدث في زمانهم وإنما ابتدعه الناس في زمن التابعين ومن بعدهم فاختلف فيه التابعون ومن بعدهم فأحد القولين أنه يقع به كما تقدم والقول الثاني أنه لا يلزمه الوقوع ذكر عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن طاووس عن أبيه أنه كان يقول الحلف

فتبين أن رسول الله قدم مصلحة جواز البيع الذي يحتاج إليه على مفسدة الغرر اليسير كما تقتضيه أصول الحكمة التي بعث بها وعلمها أمته

ومن طرد القياس الذي انعقد في نفسه غير ناظر إلى ما يعارض علته من المانع الراجح أفسد كثيرا من أمر الدين وضاق عليه عقله ودينه

وأيضا ففي صحيح مسلم عن أبي رافع أن رسول الله استسلف من رجل بكرا فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره فرجع إليه أبو رافع فقال لم أجد فيها إلا جملا خيارا رباعيا فقال النبي أعطه إياه فإن خيار الناس أحسنهم قضاء

ففي هذا دليل على جواز الاستسلاف فيما سوى المكيل والموزون من الحيوان ونحوه كما عليه فقهاء الحجاز والحديث خلافا لمن قال من الكوفيين لا يجوز ذلك لأن القرض موجب لرد المثل والحيوان ليس بمثلي وبناء على أن ما سوى المكيل والموزون لا يثبت في الذمة عوضا عن مال

وفيه دليل على أنه يثبت مثل الحيوان تقريبا في الذمة كما هو المشهور من مذاهبهم خلافا للكوفيين ووجه في مذهب أحمد أنه يثبت بالقيمة

وهذا دليل على أن المعتبر في معرفة المعقود عليه هو التقريب وإلا فيعجز الإنسان عن وجود حيوان مثل ذلك الحيوان لا سيما عند القائلين بأن الحيوان ليس بمثلي وأنه مضمون في الغصب والإتلاف بالقيمة

وأيضا فقد اختلف الفقهاء في تأجيل الديون إلى الحصاد والجداد وفيه روايتان عن أحمد أحدهما يجوز كقول مالك وحديث جابر الذي في الصحيح يدل عليه

وأيضا فقد دل الكتاب في قوله تعالى 2 : 236 لا جناح عليكم

وأما السنة ففي الصحيحين عن عبد الرحمن بن سمرة أن النبي قال له يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فائت الذي هو خير وكفر عن يمينك

فبين له النبي حكم الأمانة الذي هو الإمارة وحكم العهد الذي هو اليمين وكانوا في أول الإسلام لا مخرج لهم من اليمين قبل أن تشرع الكفارة ولهذا قالت عائشة كان أبو بكر لا يحنث في يمين حتى أنزل الله كفارة اليمين وذلك لأن اليمين بالله عقد بالله فيجب الوفاء به كما يجب في سائر العقود وأشد لأن قوله أحلف بالله وأقسم بالله وأولي الله ونحو ذلك في معنى قوله أعقد بالله لهذا عدي بحرف الإلصاق الذي يستعمل في الربط والعقد فينعقد المحلوف عليه بالله كما تنعقد إحدى اليدين بالأخرى في المعاقدة ولهذا سماه الله سبحانه عقدا في قوله ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فإذا كان قد عقدها بالله فإن الحنث فيها نقض لعهد الله وميثاقه لولا ما فرضه الله من التحلة ولهذا سمي حلها حنثا والحنث هو الإثم في الأصل فالحنث فيها سبب للإثم لولا الكفارة الماحية وإنما الكفارة منعته أن يوجب إثما

ونظير الرخصة في كفارة اليمين بعد عقدها الرخصة أيضا في كفارة الظهار بعد أن كان الظهار في الجاهلية وأول الإسلام طلاقا وكذلك الإيلاء كان عندهم طلاقا فإن هذا جار على قاعدة وجوب الوفاء بمقتضى اليمين فإن الإيلاء إذا أوجب الوفاء بمقتضاه من ترك الوطء صار الوطء محرما وتحريم الوطء تحريما مطلقا مستلزم لزوال الملك الذي هو الطلاق وكذلك الظهار إذا أوجب التحريم فالتحريم مستلزم لزوال الملك فإن الزوجة لا تكون محرمة على الإطلاق ولهذا قال سبحانه وتعالى يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم قد فرض الله لكم

للثمرة إنما يتمكن من جذادها عند كمالها ونضجها لا عند العقد كما أن المستأجر إنما يتمكن من استيفاء المنفعة شيئا فشيئا فتلف الثمرة قبل التمكن من استيفاء المنفعة في الإجارة يتلف من ضمان المؤجر بالاتفاق فكذلك في البيع

وأبو حنيفة يفرق بينهما بأن المستأجر لم يملك المنفعة وأن المشتري لم يملك الإبقاء وهذا الفرق لا يقول به الشافعي وسنذكر أصله

فلما كان النبي قد نهى عن بيعها حتى يبدو صلاحها وفي لفظ مسلم عن ابن عمر قال قال رسول الله لا تتبايعوا الثمر حتى يبدو صلاحه وتذهب عنه الآفة وفي لفظ لمسلم عنه نهى عن بيع النخل حتى تزهى وعن السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة نهى البائع والمشتري وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال نهى رسول الله عن بيع النخل حتى يحرز من كل عارض

فمعلوم أن العلة ليست كونه كان معدوما فإنه بعد بدو صلاحه وأمنه العاهة يزيد أجزاء لم تكن موجودة وقت العقد وليس المقصود الأمن من العاهات النادرة فإن هذا لا سبيل إليه إذ قد يصيبها ما ذكره الله عن أهل الجنة الذين 68 : 17 إلى 18 أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون وما ذكره في سورة يونس في قوله 10 : 24 حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس وإنما المقصود ذهاب الآفة التي يتكرر وجودها وهذا إنما تصيب الزرع قبل اشتداد الحب وقبل ظهور النضج في الثمر إذ العاهة بعد ذلك نادرة بالنسبة إلى ما قبله ولأنه لو منع بيعه بعد هذه العاهة لم يكن له وقت يجوز بيعه إلى حين كمال الصلاح وبيع الثمر على الشجر بعد كمال صلاحه متعذر لأنه لا يكمل جملة واحدة وإيجاب قطعه على مالكه فيه ضرر مرب على ضرر الغرر

كتاب الله أحق وشرط الله أوثق أى كتاب الله أحق من هذا الشرط وشرط الله أوثق منه وهذا إنما يكون إذا خالف ذلك الشرط كتاب الله وشرطه بأن يكون المشروط مما حرمه الله تعالى

وأما إذا كان المشروط مما لم يحرمه الله فلم يخالف كتاب الله وشرطه حتى يقال كتاب الله أحق وشرط الله أوثق فيكون المعنى من اشترط أمرا ليس في حكم الله ولا في كتابه بواسطة وبغير واسطة فهو باطل لأنه لا بد أن يكون المشروط مما يباح فعله بدون الشرط حتى يصح اشتراطه ويجب بالشرط ولما لم يكن في كتاب الله أن الولاء لغير المعتق أبدا كان هذا المشروط وهو ثبوت الولاء لغير المعتق شرطا ليس في كتاب الله فانظر إلى المشروط إن كان أصلا أو حكما فإن كان الله قد أباحه جاز اشتراطه ووجب وإن كان الله لم يبحه لم يجز اشتراطه فإذا شرط الرجل أن لا يسافر بزوجته فهذا المشروط في كتاب الله لأن كتاب الله يبيح أن لا يسافر بها فإذا شرط عدم السفر فقد شرط مشروطا مباحا في كتاب الله

فمضمون الحديث أن المشروط إذا لم يكن من الأفعال المباحة أو يقال ليس في كتاب الله أى ليس في كتاب الله نفيه كما قال سيكون أقوام يحدثونكم بما لا تعرفون أنتم ولا آباؤكم أى بما تعرفون خلافه وإلا فما لا يعرف كثير

ثم نقول إذا لم يرد النبي أن العقود والشروط التي لم يبحها الشارع تكون باطلة بمعنى أنه لا يلزم بها شئ لا إيجاب ولا تحريم فإن هذا خلاف الكتاب والسنة بل العقود والشروط المحرمة قد يلزم بها أحكام فإن الله قد حرم عقد الظهار في نفس كتابه وسماه منكرا من القول وزورا ثم إنه أوجب به على من عاد الكفارة ومن لم يعد جعل في حقه مقصود التحريم من ترك الوطء أو ترك العقد وكذا النذر فإن النبي صلى الله عليه

وسلم نهى عن النذر كما ثبت عنه من حديث أبي هريرة وابن عمر فقال إنه لا يأتي بخير ثم أوجب الوفاء به إذا كان طاعة في قوله من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه

فالعقد المحرم قد يكون سببا لإيجاب أو تحريم نعم لا يكون سببا لإباحة كما أنه لما نهى عن بيوع الغرر وعن عقد الربا وعن نكاح ذوات المحارم ونحو ذلك لم يستفد المنهي عنه الاستباحة لأن المنهي عنه معصية والأصل في المعاصي أنها لا تكون سببا لنعمة الله ورحمته والإباحة من نعمة الله ورحمته وإن كانت قد تكون سببا للإملاء ولفتح أبواب الدنيا لكن ذلك قدر ليس بشرع بل قد يكون سببا لعقوبة الله والإيجاب والتحريم قد يكون عقوبة كما قال الله تعالى فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وإن كان قد يكون رحمة أيضا كما جاءت شريعتنا الحنيفية

والمخالفون في هذه القاعدة من أهل الظاهر ونحوهم قد يجعلون كل ما لم يؤذن فيه إذن خاص فهو عقد حرام وكل عقد حرام فوجوده كعدمه وكلا المقدمتين ممنوعة كما تقدم

وقد يجاب عن هذه الحجة بطريقة ثانية إن كان النبي أراد الشروط التي لم يبحها وإن كان لم يحرمها باطلة فنقول

قد ذكرنا ما في الكتاب والسنة والآثار من الأدلة الدالة على وجوب الوفاء بالعهود والشروط عموما وأن المقصود هو وجوب الوفاء بها وعلى هذا التقدير فوجوب الوفاء بها يقتضي أن تكون مباحة فإنه إذا وجب الوفاء بها لم تكن باطلة وإذا لم تكن باطلة كانت مباحة وذلك لأن قوله ليس في كتاب الله إنما يشمل ما ليس في كتاب الله لا بعمومه ولا بخصوصه وإنما دل كتاب الله على إباحته بعمومه فإنه في كتاب الله لأن قولنا هذا في كتاب الله يعم ما هو فيه بالخصوص أو بالعموم وعلى هذا معنى قوله تعالى ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وقوله ولكن تصديق الذي بين يديه وقوله ما فرطنا في الكتاب من شيء على قول من جعل الكتاب هو القرآن وأما على قول من جعل اللوح المحفوظ فلا يجيء ههنا

يدل على ذلك أن الشرط الذي بينا جوازه بسنة أو إجماع صحيح بالاتفاق فيجب أن يكون في كتاب الله وقد لا يكون في كتاب الله بخصوصه لكن في كتاب الله الأمر باتباع السنة واتباع سبيل المؤمنين فيكون في كتاب الله بهذا الاعتبار لأن جامع الجامع جامع ودليل الدليل دليل بهذا الاعتبار

يبقى أن يقال على هذا الجواب فإذا كان كتاب الله أوجب الوفاء بالشروط عموما فشرط الولاء داخل في العموم

فيقال العموم إنما يكون دالا إذا لم ينفعه دليل خاص فإن الخاص يفسر العام وهذا المشروط قد نفاه النبي بنهيه عن بيع الولاء وعن هبته وقوله من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنه الله والملائكة والناس أجمعين ودل الكتاب على ذلك بقوله تعالى ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعيائكم أبنائكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آبائهم فإخوانكم في الدين ومواليكم فأوجب علينا دعاءه لأبيه الذي ولده دون من تبناه وحرم التبني ثم أمر عند عدم العلم بالأب بأن يدعي أخاه في الدين ومولاه كما قال النبي لزيد بن حارثة أنت أخونا ومولانا وقال إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليكسه مما يلبس

فجعل سبحانه الولاء نظير النسب وبين سبب الولاء في قوله وإذ تقول الذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه فبين أن سبب الولاء هو الإنعام بالإعتاق كما أن سبب النسب هو الإنعام بالإيلاد فإذا كان قد حرم الانتقال

عن المنعم بالإيلاد فكذلك يحرم الانتقال عن المنعم بالأعتاق لأنه في معناه فمن اشترط على المشتري أن يعتق ويكون الولاء لغيره فهو كمن اشترط على المستنكح أنه إذا أولد كان النسب لغيره

وإلى هذا المعنى أشار النبي في قوله إنما الولاء لمن أعتق

وإذا كان كتاب الله قد دل على تحريم هذا المشروط بخصوصه وعمومه لم يدخل في العهود التي أمر الله بالوفاء بها لأنه سبحانه لا يأمر بما حرمه مع أن الذي يغلب على القلب أن النبي لم يرد إلا المعنى الأول وهو إبطال الشروط التي تنافي كتاب الله والتقدير من اشترط شيئا لم يبحه الله فيكون المشروط قد حرمه لأن كتاب الله قد أباح عموما لم يحرمه أو من اشترط ما ينافي كتاب الله بدليل قوله كتاب الله أحق وشرط الله أوثق فإذا ظهر أن لعدم تحريم العقود والشروط جملة وصحتها أصلان الأدلة الشرعية العامة والأدلة العقلية التي هي الاستصحاب وانتفاء المحرم فلا يجوز القول بموجب هذه القاعدة في أنواع المسائل وأعيانها إلا بعد الاجتهاد في خصوص ذلك النوع أو المسألة هل ورد من الأدلة الشرعية ما يقتضي التحريم أم لا

أما إذا كان المدرك الاستصحاب ونفي الدليل الشرعي فقد أجمع المسلمون وعلم بالاضطرار من دين الإسلام أنه لا يجوز لأحد أن يعتقد ويفتي بموجب هذا الاستصحاب والنفي إلا بعد البحث عن الأدلة الخاصة إذا كان من أهل ذلك فإن جميع ما أوجبه الله ورسوله وحرمه الله ورسوله مفسر لهذا الاستصحاب فلا يوثق به إلا بعد النظر في أدلة الشرع لمن هو من أهل ذاك وأما إذا كان المدرك هو النصوص العامة فالعام الذي كثرت تخصيصاته المنتشرة أيضا لا يجوز التمسك به إلا بعد البحث عن تلك المسألة هل هي من المستخرج أو من المستبقي وهذا أيضا لا خلاف فيه وإنما اختلف العلماء في العموم الذي لم يعلم تخصيصه أو علم تخصيص صور معينة فيه هل يجوز استعماله فيما عدا ذلك قبل البحث عن المخصص المعارض له فقد اختلف في ذلك أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما وذكروا عن أحمد فيه روايتين وأكثر نصوصه على أنه لا يجوز لأهل زمانه ونحوهم استعمال ظواهر الكتاب قبل البحث عما يفسرها من السنة وأقوال الصحابة والتابعين وغيرهم وهذا هو الصحيح الذي اختاره أبو الخطاب وغيره فإن الظاهر الذي لا يغلب على الظن انتفاء ما يعارضه لا يغلب على الظن مقتضاه فإذا غلب على الظن انتفاء معارضه غلب على الظن مقتضاه وهذا الغلبة لا تحصل للمتأخرين في أكثر العمومات إلا بعد البحث عن المعارض سواء جعل عدم المعارض جزءا من الدليل فيكون الدليل هو الظاهر المجرد عن القرينة كما يختاره من لا يقول بتخصيص الدليل ولا العلة من أصحابنا وغيرهم أو جعل المعارض باب المانع للدليل فيكون الدليل هو الظاهر لكن القرينة مانعة لدلالته كما يقوله من يقول بتخصيص الدليل والعلة من أصحابنا وغيرهم وإن كان الخلاف في ذلك إنما يعود إلى اعتبار عقلي أو إطلاق لفظي أو اصطلاح جدلي لا يرتفع إلى أمر علمي أو فقهي

فإذا كان كذلك فالأدلة النافية لتحريم العقود والشروط والمثبتة لحلها مخصوصة بجميع ما حرمه الله ورسوله من العقود والشروط فلا ينتفع بهذه القاعدة في أنواع المسائل إلا مع العلم بالحجج الخاصة في ذلك النوع فهي بأصول الفقه التي هي الأدلة العامة أشبه منها بقواعد الفقه التي هي الأحكام العامة

نعم من غلب على ظنه من الفقهاء انتفاء المعارض في مسألة خلافية أو حادثة انتفع بهذه القاعدة فنذكر من أنواعها قواعد حكمية مطلقة

فمن ذلك ما ذكرناه من أنه يجوز لكل من أخرج عينا من ملكه بمعاوضة كالبيع والخلع أو تبرع كالوقف والعتق أن يستثني بعض منافعها مما لا يصلح فيه القربة كالبيع فلا بد أن يكون المستثنى معلوما لما روى البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي عن جابر قال بعته يعني بعيره من النبي صلى الله

فإن هذا لا يشبه هذا ألا ترى أن عمر فرق بينهما العتق والطلاق لا يكفران وأصحاب أبي حنيفة يقولون إذا قال الرجل مالي في المساكين إنه يتصدق به على المساكين وإذا قال مالي على فلان صدقة وفرقوا بين قوله إن فعلت كذا فمالي صدقة أو فعلي الحج وبين قوله فامرأته طالق أو فعبدي حر بأنه هناك وجب القول وجوب الصدقة والحج لا وجود الصدقة والحج

فإذا اقتضى الشرط وجوب ذلك كانت الكفارة بدلا عن هذا الواجب كما تكون بدلا عن غيره من الواجبات كما كانت في أول الإسلام بدلا عن الصوم الواجب والإطعام بدلا عن الصوم عن العاجز عنه وكما تكون بدلا عن الصوم الواجب في ذمة الميت فإن الواجب إذا كان في الذمة أمكن أن يخير بأدائه وأداء غيره

وأما العتق والطلاق فإن موجب الكلام وجودهما فإذا وجد الشرط وجد العتق والطلاق وإذا وقعا لم يرتفعا بعد وقوعهما لأنهما لا يقبلان الفسخ بخلاف ما لو قال إن فعلت كذا فلله علي أن أعتق فإنه هنا لم يعلق العتق وإنما علق وجوبه بالشرط فيخير بين فعل هذا الإعتاق الذي أوجبه على نفسه وبين الكفارة التي هي بدلا عنه ولهذا لو قال إذا مت فعبدي حر عتق بموته من غير حاجة إلى الإعتاق ولم يكن له فسخ هذا التدبير عند الجمهور إلا قولا للشافعي ورواية أحمد وفي بيعه الخلاف المشهور ولو وصى بعتقه فقال إذا مت فأعتقوه كان له الرجوع في ذلك كسائر الوصايا وكان بيعه هنا وإن لم يجز كبيع المدبر

ذكر أبو عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة في تاريخه أن المهدي لما رأى ما أجمع عليه رأي أهل بيته من العهد عزم على خلع عيسى ودعاهم إلى البيعة لموسى فامتنع عيسى من الخلع وزعم أن عليه أيمانا تخرجه من أملاكه وتطلق نساءه فأحضر له المهدي ابن علاثة ومسلم ابن خالد الزنجي وجماعة من الفقهاء

فقد نازع من منع منه واستدل على جوازه باشتراط النبي ظهر البعير لجابر وبحديث بريرة وبأن النبي إنما نهى عن شرطين في بيع مع أن حديث جابر فيه استثناء بعض منفعة المبيع وهو نقص لموجب العقد المطلق واشتراط العتق فيه تصرف مقصود مستلزم لنقص موجب العقد المطلق

فعلم أنه لا يفرق بين أن يكون النقص في التصرف أو في المملوك واستدلاله بحديث الشرطين دليل على جواز هذا الجنس كله ولو كان العتق على خلاف القياس لما قاسه على غيره ولا استدل عليه بما يشمله وغيره

وكذلك قال أحمد بن الحسين بن حسان سألت أبا عبد الله عمن اشترى مملوكا واشترط هو حر بعد موتي قال هذا مدبر فجوز اشتراط التدبير كالعتق ولأصحاب الشافعي في شرط التدبير خلاف صحح الرافعي أنه لا يصح

وكذلك جوز اشتراط التسري فقال أبو طالب سألت أحمد عن رجل اشترى جارية بشرط أن يتسرى بها تكون نفيسة يحب أهلها أن يتسرى بها ولا تكون للخدمة قال لا بأس به فلو كان التسري للبائع وللجارية فيه مقصود صحيح جوزه

وكذلك جوز أن يشترط بائع الجارية ونحوها على المشتري أنه لا يبيعها لغير البائع وأن البائع يأخذها إذا أراد المشتري بيعها بالثمن الأول كما رووه عن عمر وابن مسعود وامرأته زينب

وجماع ذلك أن المبيع الذي يدخل في مطلق العقد بأجزائه ومنافعه يملكان اشتراط الزيادة عليه كما قال النبي من باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع فجوز للمشتري اشتراط زيادة على موجب العقد المطلق وهو جائز بالإجماع ويملكان اشتراط النقص منه بالاستثناء كما نهى النبي عن الثنيا إلا أن تعلم فدل على جوازها إذا

صوره وشرط فيه ما ينافي ذلك المقصود فقد جمع بين المتناقضين بين إثبات المقصود ونفيه فلا يحصل شئ ومثل هذا الشرط باطل بالاتفاق بل هو مبطل للعقد عندنا

والشروط الفاسدة قد تبطل لكونها تنافي مقصود الشارع مثل اشتراط الولاء لغير المعتق فإن هذا لا ينافي مقتضى العقد ولا مقصوده الملك والعتق قد يكون مقصودا للعقد فإن اشتراء العبد لعتقه يقصد كثيرا فثبوت الولاء لا ينافي مقصود العقد وإنما ينافي كتاب الله وشرطه كما بينه النبي بقوله كتاب الله أحق وشرط الله أوثق فإذا كان الشرط منافيا لمقصود العقد كان العقد لغوا وإذا كان منافيا لمقصود الشارع كان مخالفا لله ورسوله فأما إذا لم يشتمل على واحد منهما فلم يكن لغوا ولا اشتمل على ما حرمه الله ورسوله فلا وجه لتحريمه بل الواجب حله لأنه عمل مقصود للناس يحتاجون إليه إذا لولا حاجتهم إليه لما فعلوه فإن الإقدام على الفعل مظنة الحاجة إليه ولم يثبت تحريمه فيباح لما في الكتاب والسنة مما يرفع الحرج

وأيضا فإن العقود والشروط لا تخلوا إما أن يقال لا يحل ولا يصح إن لم يدل على حلها دليل شرعي خاص من نص أو إجماع أو قياس عند الجمهور كما ذكرناه من القول الأول أو يقال لا تحل وتصح حتى يدل على حلها دليل سمعى وإن كان عاما أو يقال تصح ولا تحرم إلا يحرمها الشارع بدليل خاص أو عام

والقول الأول باطل لأن الكتاب والسنة دلا على صحة العقود والقبوض التي وقعت في حال الكفر وأمر الله بالوفاء بها إذا لم يكن فيها بعد الإسلام شيء محرم فقال سبحانه في آية الربا يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقى من الربا إن كنتم مؤمنين فأمرهم بترك ما بقى لهم من الربا في الذمم ولم يأمرهم برد ما قبضوه بعقد الربا بل مفهوم الآية الذي اتفق العمل عليه

فإن فيها خلافا ليس هذا موضعه لكون أهل الحرب تباح دماؤهم وأموالهم وكذلك ما ملكوه من الأبضاع

وكذلك فقهاء الحديث وأهل الحجاز متفقون على أنه إذا باع شجرا قد بدا ثمره كالنخل المؤبر فثمره للبائع مستحق الإبقاء إلى كمال صلاحه فيكون البائع قد استثنى منفعة الشجر إلى كمال الصلاح وكذلك 3بيع العين المؤجرة كالدار والعبد عامتهم يجوزه ويملكه المشتري دون المنفعة التي للمستأجر

فقهاء الحديث كأحمد وغيره يجوزون استثناء بعض منفعة العقد كما في صور الوفاق وكاستثناء بعض أجزاءه معينا ومشاعا وكذلك يجوزون استثناء بعض أجزائه معينا إذا كانت العادة جارية بفصله كبيع الشاة واستثناء بعضها سواء قطعها من الرأس والجلد والأكارع وكذلك الإجارة فإن العقد المطلق يقتضي نوعا من الانتفاع في الإجارات المقدرة بالزمان كما لو استأجر أرضا للزرع أو حانوتا لتجارة فيه أو صناعة أو أجير لخياطة أو بناء ونحو ذلك فإنه لو زاد على موجب العقد المطلق أو نقص عنه فإنه يجوز بغير خلاف أعلمه في النكاح فإن العقد المطلق يقتضي ملك الاستمتاع المطلق الذي يقتضيه العرف حيث شاء ومتى شاء فينقلها إلى حيث شاء إذا لم يكن فيه ضرر إلا ما استثناه من الاستمتاع المحرم الذي هو مهر المثل وملكها للاستمتاع في الجملة فإنه لو كان مجبوبا أو عنينا ثبت لها الفسخ عند السلف والفقهاء والمشاهير ولو آلى منها ثبت لها فراقه إذا لم يفئ بالكتاب والإجماع وإن كان من الفقهاء من لا يوجب عليه الوطء وقسم الابتداء بل يكتفي بالباعث الطبيعي كمذهب أبي حنيفة والشافعي ورواية عن أحمد فإن الصحيح من وجوه كثيرة أنه يجب عليه الوطء والقسم كما دل عليه الكتاب والسنة وآثار الصحابة والاعتبار وقيل يتقدر الوطء الواجب بمرة كل أربعة أشهر اعتبارا بالإبلاء ويجب إن يطأها بالمعروف كما ينفق عليها بالمعروف فيه خلاف في مذهب أحمد وغيره والصحيح الذي يدل عليه أكثر نصوص أحمد وعليه أكثر السلف أن ما يوجبه العقد لكل واحد من الزوجين على الآخر كالنفقة والاستمتاع والمبيت للمرأة وكالاستمتاع للزوج ليس بمقدر بل المرجع في ذلك إلى العرف كما دل عليه الكتاب في مثل قوله تعالى ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف والسنة في مثل قوله لهند خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف وإذا تنازع الزوجان فيه فرض الحاكم باجتهاده كما فرضت الصحابة مقدار الوطء للزوج بمرات معدودة ومن قدر من أصحاب أحمد الوطء المستحق فهو كتقدير الشافعي النفقة إذ كلاهما تحتاجه المرأة ويوجبه العقد وتقدير ذلك ضعيف عند عامة الفقهاء بعيد عن معاني الكتاب والسنة والاعتبار والشافعي إنما قدره طردا للقاعدة التي ذكرناها عنه من نفيه للجهالة في جميع العقود قياسا على المنع من بيع الغرر فجعل النفقة المستحقة بعقد النكاح مقدرة طردا لذلك وقد تقدم التنبيه على هذا الأصل

وكذلك يوجب العقد المطلق سلامة الزوج من الجب والعنة عند عامة الفقهاء وكذلك يوجب عند الجمهور سلامتها من موانع الوطء كالرتق وسلامتها من الجنون والجذام والبرص وكذلك سلامتها من العيوب التي تمنع كماله كخروج النجاسات منه أو منها ونحو ذلك في أحد الوجهين في مذهب أحمد وغيره دون الجمال ونحو ذلك وموجبه كفاءة الرجل أيضا دون ما زاد على ذلك

ثم لو شرط أحد الزوجين في الآخر صفة مقصودة كالمال والجمال والبكارة ونحو ذلك صح ذلك وملك المشترط الفسخ عند فواته في أصح الرواية عند أحمد أو أصح وجهي أصحاب الشافعي وظاهر مذهب مالك والرواية الأخرى لا يملك الفسخ إلا في شرط الحرية والدين وفي شرط النسب على هذه الرواية وجهان سواء كان المشترط هو المرأة في الرجل أو الرجل في المرأة بل اشتراط المرأة في الرجل أوكد باتفاق الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم وما ذكره بعض أصحاب أحمد بخلاف ذلك لا أصل له

وكذلك لو اشترط بعض الصفة المستحقة بمطلق العقد مثل أن يشترط الزوج أنه مجبوب أو عنين أو المرأة أنها رتقاء أو مجنونة صح هذا الشرط باتفاق الفقهاء فقد اتفقوا على صحة الشرط الناقص عن موجب العقد واختلفوا في شرط الزيادة عليه في هذا الموضع كما ذكرته لك فإن مذهب أبي حنيفة أنه لا يثبت للرجل خيار عيب ولا شرط في النكاح وأما المهر فإنه لو زاد على مهر المثل أو نقص جاز بالاتفاق

كذلك يجوز أكثر السلف أو كثير منهم وفقهاء الحديث ومالك في إحدى الروايتين أن ينقص ملك الزوج فتشترط عليه أن لا ينقلها من بلدها أو من دارها وأن يزيدها على ما تملكه بالمطلق صرفوا عليها نفسه فلا يتزوج عليها ولا يتسرى وعند طائفة من السلف وأبي حنيفة والشافعي ومالك في الرواية الأخرى لا يصح هذا الشرط لكنه له عند أبي حنيفة والشافعي أثر في تسمية المهر

والقياس المستقيم في هذا الباب الذي عليه أصول أحمد وغيره من فقهاء الحديث أن اشتراط الزيادة على مطلق العقد واشتراط النقص جائز ما لم يمنع منه الشرع فإذا كانت الزيادة في العين أو المنفعة المعقود عليها والنقص من ذلك ما ذكرت فالزيادة في الملك المستحق بالعقد والنقص منه كذلك فإذا شرط على المشتري أن يعتق العبد أو يقف العين على البائع أو غيره أو أن يقضي بالعين دينا عليه لمعين أو غير معين أو أن يصل به رحمه ونحو ذلك فهو اشتراط تصرف مقصود ومثله التبرع المفروض والتطوع

وأما التفريق بين العتق وغيره بما في العتق من الفضل الذي يتشوفه الشارع فضعيف فإن بعض أنواع التبرعات أفضل منه فإن صلة ذي الرحم المحتاج أفضل منه كما نص عليه أحمد فإن ميمونة زوج النبي أعتقت جارية لها فقال النبي صلى الله عليه سلم لو تركتيها لأخوالك لكان خيرا لك ولهذا لو كان للميت أقارب لا يرثون كانت الوصية لهم أولى من الوصية بالعتق وما أعلم في هذا خلافا وإنما أعلم الاختلاف في وجوب الوصية لهم فإن فيه عن أحمد روايتين إحداهما تجب كقول طائفة من السلف والخلف والثانية لا تجب كقول الفقهاء الثلاثة وغيرهم ولو وصى لغيرهم دونهم فهل تسري تلك الوصية على أقاربه دون الموصي له أو يعطى ثلثها للموصى له وثلثاها لأقاربه كما تقسم التركة بين الورثة والموصى له على روايتين عن أحمد وإن كان المشهور عند أكثر أصحابه هو القول بنفوذ الوصية فإذا كان بعض التبرعات أفضل من العتق لم يصح تعليله باختصاصه بمزيد الفضيلة

وأيضا فقد يكون المشروط على المشتري أفضل كما لو كان عليه دين لله من زكاة أو كفارة أو نذر أو دين لآدمي فاشترط عليه وفاء دينه من ذلك المبيع أو اشترط المشتري على البائع وفاء الدين الذي عليه من الثمن ونحو ذلك فهذا أوكد من اشتراط العتق

وأما السرية فإنما كانت لتكميل الحرية وقد شرع مثل ذلك في الأموال وهو حق الشفعة فإنها شرعت لتكميل الملك للمشتري لما في الشركة من الضرار ونحن نقول شرع ذلك في جميع المشاركات فيمكن الشريك من المقاسمة فإن أمكن قسمة العين وإلا قسمنا ثمنها إذا طلب أحدهما ذلك فتكميل العتق نوع من ذلك إذ الشركة تزول بالقسمة تارة وبالتكميل أخرى

وأصل ذلك أن الملك هو القدرة الشرعية على التصرف بمنزلة القدرة الحسية فيمكن أن تثبت القدرة على التصرف دون تصرف شرعا كما يثبت ذلك حسا ولهذا جاء الملك في الشرع أنواعا كما أن القدرة تتنوع أنواعا فالملك التام يملك فيه التصرف في الرقبة بالبيع والهبة ويورث عنه ويملك التصرف في منافعه بالإعارة والإجارة والانتفاع وغير ذلك ثم قد يملك الأمة المجوسية أو المحرمات عليه بالرضاع فلا يملك منهن الاستمتاع ويملك المعاوضة عليه بالتزويج بأن يزوج المجوسية المجوسي مثلا وقد يملك أم الولد ولا يملك بيعها ولا هبتها ولا تورث عنه عند جماهير المسلمين ويملك وطأها واستخدامها باتفاقهم وكذلك تملك المعاوضة على ذلك بالتزويج والإجارة عند أكثرهم كأبي حنيفة والشافعي وأحمد

ويملك المرهون ويجب عليه مؤونته ولا يملك من التصرف ما يزيل حق المرتهن لا ببيع ولا هبة وفي العتق خلاف مشهور

والعبد المنذور عتقه والهدي والمال الذي قد نذر الصدقة بعينه ونحو ذلك مما استحق صرفه إلى القربة قد اختلف فيه الفقهاء من أصحابنا وغيرهم هل يزال ملكه عنه بذلك أم لا وكلا القولين خارج عن قياس الملك المطلق فمن قال لم يزل ملكه عنه كما قد يقوله أكثر أصحابنا فهو ملك لا يملك صرفه إلا إلى الجهة المعينة بالإعتاق أو النسك أو الصدقة وهونظير العبد المشترى بشرط العتق أو الصدقة أو الصلة أو الفدية المشتراة بشرط الإهداء إلى الحرم ومن قال زال ملكه عنه فإنه يقول هو الذي يملك عتقه وإهداءه والصدقة به وهو أيضا خلاف قياس زوال الملك في غير هذا الموضع وكذلك اختلاف الفقهاء في الوقف على معين هل يصير الموقوف ملكا لله أو ينتقل إلى الموقوف عليه أو يكون باقيا على ملك الواقف على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره

وعلى كل تقدير فالملك الموصوف نوع مخالف لغيره من الملك في البيع أو الهبة وكذلك ملك الموهوب له حيث يجوز للوهب الرجوع كالأب إذا وهب لابنه عند فقهاء الحديث كالشافعي وأحمد نوع مخالف لغيره حيث سلط غير المالك على انتزاعه منه وفسخ عقده

ونظيره سائر الأملاك في عقد يجوز لأحد المتعاقدين فسخه كالمبيع بشرط الإجارة التي تشبه البيع في عامة أحكامه والفقهاء المتأخرون إذا أطلقوا الإجارة أو قالوا باب الإجارة أرادوا هذا بالمعنى

فيقال المساقاة والمزارعة والمضاربة ونحوهن من المشاركات على نماء يحصل من قال هي إجارة بالمعنى الأعم أو العام فقد صدق ومن قال هي إجارة بالمعنى الخاص فقد أخطأ وإذا كانت إجارة بالمعنى العام التي هي الجعالة فهنالك إن كان العوض شيئا مضمونا من عين أو دين فلا بد أن يكون معلوما وأما إن كان العوض مما يحصل من العمل جاز أن يكون جزءا شائعا فيه كما لو قال الأمير في الغزو من دلنا على حصن كذا فله منه كذا فحصول الجعل هناك مشروط بحصول المال مع أنه جعالة محضة لا شركة فيه فالشركة أولى وأحرى ويسلك في هذا طريقة أخرى فيقال الذي دل عليه قياس الأصول أن الإجارة الخاصة يشترط فيها أن يكون العوض غررا قياسا على الثمن فأما الإجارة العامة التي لا يشترط فيها العلم بالمنفعة فلا تشبه هذه الإجارة لما تقدم فلا يجوز إلحاقها بها فتبقى على الأصل المبيح

فتحرير المسألة أن المعتقد لكونها إجارة يستفسر عن مراده بالإجارة فإن أراد الخاصة لم يصح وإن أراد العامة فأين الدليل على تحريمها إلا بعوض معلوم فإن ذكر قياسا بين له الفرق الذي لا يخفى على غير فقيه فضلا عن الفقيه ولن تجد إلى أمر يشمل مثل هذه الإجارة سبيلا فإذا انتفت أدلة التحريم ثبت الحال

ويسلك في هذا طريقة أخرى وهو قياس العكس وهو أن يثبت في الفرع نقيض حكم الأصل لانتفاء العلة المقتضية لحكم الأصل فيقال المعنى الموجب لكون الأجرة يجب أن تكون معلومة منتف في باب المزارعة ونحوها لأن المقتضي لذلك أن المجهول غرر فيكون في معنى بيع الغرر المقتضي أكل

علمت وكما استثنى جابر ظهر بعيره إلى المدينة

وقد أجمع المسلمون فيما أعلمه على جواز استثناء الجزء الشائع مثل مثل أن يبيعه الدار إلا ربعها أو ثلثها واستثناء الجزء المعين إذا أمكن فصله بغير ضرر مثل أن يبيعه ثمر البستان إلا نخلات بعينها أو الثياب أو العبيد أو الماشية التي قد رأياها إلا شيئا منها قد عيناه

واختلفوا في استثناء بعض المنفعة كسكنى الدار شهرا أو استخدام العبد شهرا أو ركوب الدابة مدة معينة أو إلى بلد بعينه مع اتفاق الفقهاء المشهورين وأتباعهم وجمهور الصحابة على أن ذلك قد يقع كما إذا اشترى أمة مزوجة فأن منفعة بضعها التي يملكها الزوج لم تدخل في العقد كما اشترت عائشة بريرة وكانت مزوجة لكن هي اشترتها بشرط العتق فلم تملك التصرف فيها إلا بالعتق والعتق ينافي نكاحها فلذلك كان ابن عباس رضي الله عنهما وهو ممن روى حديث سريره يرى أن بيع الأمة طلاقها مع طائفة من الصحابة تأويلا لقوله تعالى والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم قالوا فإذا ابتاعها أو اتهبها أو ورثها فقد ملكتها يمينه فتباح له ولا يكون ذلك إلا بزوال ملك الزوج واحتج بعض الفقهاء على ذلك بحديث بريرة

فلم يرض أحمد هذه الحجة لأن ابن عباس رواه وخالفه وذلك والله أعلم لما ذكرته من أن عائشة لم تملك بريرة ملكا مطلقا

ثم الفقهاء قاطبة وجمهور الصحابة على أن الأمة المزوجة إذا انتقل الملك فيها ببيع أو هبة أو إرث أو نحو ذلك وكان مالكها معصوم الملك لم يزل عنها ملك الزوج وملكها المشتري ونحوه إلا منفعة البضع

ومن حجتهم أن البائع نفسه لو أراد أن يزيل ملك الزوج لم يمكنه ذلك فالمشتري الذي هو دون البائع لا يكون أقوى منه ولا يكون الملك الثابت للمشتري أتم من البائع والزوج معصوم لا يجوز الاستيلاء على حقه بخلاف المسبية

فأخبر ابن عمر أن رافعا روى النهي عن الخبر وقد تقدم معنى حديث رافع قال أبو عبيد الخير بكسر الخاء بمعنى المخابرة والمخابرة المزارعة بالنصف والثلث والربع وأقل وأكثر وكان أبو عبيد يقول لهذا سمى الأكار خيبرا لأنه يخابر على الأرض والمخابرة هي المؤاكرة

وقد قال بعضهم أصل هذا من خيبر لأن رسول الله أقرها في أيديهم على النصف فقيل خابرهم أي عاملهم في خيبر وليس هذا بشيء فإن معاملته بخيبر لم ينه عنها قط بل فعلها الصحابة في حياته وبعد موته وإنما روى حديث المخابرة رافع بن خديج وجابر وقد فسرا ما كانوا يفعلونه والخبير هو الفلاح سمى بذلك لأنه يخبر الأرض

وقد ذهب طائفة من الفقهاء إلى الفرق بين المخابرة والمزارعة فقالوا المخابرة هي المعاملة على أن يكون البذر من العامل والمزارعة على أن يكون البذر من المالك قالوا والنبي نهى عن المخابرة لا المزارعة

وهذا أيضا ضعيف فإنا قد ذكرنا عن النبي ما في الصحيح من أنه نهى عن المزارعة كما نهى عن المخابرة وكما نهى عن كراء الأرض وهذه الألفاظ في أصل اللغة عامة لموضع نهيه وغير موضع نهيه وإنما اختصت بما يفعلونه لأجل التخصيص العرفي لفظا وفعلا ولأجل القرينة اللفظية وهي لام العهد وسؤال السائل وإلا فقد نقل أهل اللغة أن المخابرة هي المزارعة والاشتقاق يدل على ذلك

فصل

عدل

والذين جوزوا المزارعة منهم من اشترط أن يكون البذر من المالك وقالوا هذه في المزارعة فإما إن كان البذر من العامل لم يجز وهذا إحدى الروايتين عن أحمد اختارها طائفة من أصحابه وأصحاب مالك والشافعي حيث يجوزون المزارعة وحجة هؤلاء قياسها على المضاربة وبذلك احتج أحمد

يوجب أنه غير منهي عنه ولذلك فإن النبي أسقط عام حجة الوداع الربا الذي في الذمم ولم يأمرهم برد المقبوض وقال أيما قسم قسم في الجاهلية فهو على ما قسم وأيما قسم أدركه الإسلام فهو على قسم الإسلام وأقر الناس على أنكحتهم التي عقدوها في الجاهلية ولم يستفصل هل عقد به في عدة أو غير عدة بولى أو بغير ولى بشهود أو بغير شهود ولم يأمر أحدا بتجديد نكاح ولا بفراق امرأته إلا أن يكون السبب المحرم موجودا حين الإسلام كما أمر غيلان بن سلمة الثقفي الذي أسلم وتحته عشر نسوة أن يمسك أربعا ويفارق سائرهن وكما أمر فيروزا الديلمي الذي أسلم وتحته أختان أن يختار إحداهما ويفارق في الأخرى وكما أمر الصحابة من أسلم من المجوس أن يفارقوا ذوات المحارم ولهذا اتفق المسلمون على أن العقود التي عقدها الكفار يحكم بصحتها بعد الإسلام إذا لم تكن محرمة على المسلمين وإن كان الكفار لم يعقدوها بإذن الشارع ولو كانت العقود عندهم كالعبادات لا تصح إلا بشرع لحكموا بفسادها أو بفساد ما لم يكن أهله مستمسكين فيه بشرع

فإن قيل فقد اتفق فقهاء الحديث وأهل الحجاز على أنها إذا عقدت على وجه محرم في الإسلام ثم أسلموا بعد زواله ولم يؤمروا باستئنافها لأن الإسلام يجب ما قبله فليس ما عقدوه بغير شرع دون ما عقدوه مع تحريم الشرع وكلاهما عندكم سواء

قلنا ليس كذلك بل ما عقدوه مع التحريم إنما يحكم بصحته إذا اتصل به التقابض وأما إذا أسلموا قبل التقابض فإنه يفسخ بخلاف ما عقدوه يغير شرع فإنه لا يفسخ لا قبل القبض ولا بعده ولم أر الفقهاء من أصحابها وغيرهم اشترطوا في النكاح القبض بل سووا بين الإسلام قبل الدخول وبعده لأن نفس عقد النكاح يوجب أحكاما بنفسه وإن لم يحصل به القبض من المصاهرة

وإذا قال أحمد أو غيره من العلماء إن الحلف بالطلاق والعتاق لا كفارة فيه لأنه لا استثناء فيه لزم من هذا القول أنه لا استثناء في الحلف بهما وأما من فرق من أصحاب أحمد فقال يصح في الحلف بهما الاستثناء ولا يصح فيه الكفارة فهذا الفرق ما أعلمه منصوصا عليه عن أحمد ولكنهم معذورون فيه من قوله حيث لم يجدوه نص في تكفير الحلف بهما على روايتين

لكن هذا القول لازم على إحدى الروايتين عنه التي ينصرونها ومن سوى الأنبياء يجوز أن يلزم قوله لوازم لا يتفطن للزومها ولو تفطن لكان إما أن يلتزمها أولا يلتزمها بل يرجع عن الملزوم أو لا يرجع عنه ويعتقد أنها غير لوازم

والفقهاء من أصحابنا وغيرهم إذا خرجوا على قول عالم لوازم قوله وقياسه فإما أن لا يكون نص على ذلك اللازم لا بنفي ولا إثبات أو نص على نفيه وإذا نص على نفيه فإما أن يكون نص على نفي لزومه أو لم ينص فإن كان قد نص على نفي ذلك اللازم وخرجوا عليه خلاف المنصوص عنه في تلك المسألة مثل أن ينص في مسألتين متشابهتين على قولين مختلفين أو يعلل مسألة بعلة ينقضها في موضع آخر كما علل أحمد هنا عدم التكفير بعدم الاستثناء وعنه في الاستثناء روايتان فهذا مبني على تخريج مالم يتكلم بنفي ولا إثبات هل يسمى ذلك مذهبا له أو لا يسمى

ولأصحابنا فيه خلاف مشهور فالأثرم والخرقي وغيرهما يجعلونه مذهبا له والخلال وصاحبه وغيرهما لا يجعلونه مذهبا له

والتحقيق أنه قياس قوله فليس بمنزلة المذهب المنصوص عنه ولا هو أيضا بمنزلة ما ليس بلازم قوله بل هو منزلة بين المنزلتين هذا حيث أمكن أن لا يلتزمه

وأيضا فإن الله شرع الطلاق مبيحا له أو آمرا به وملزما له إذا أوقعه صاحبه وكذلك العتق وكذلك النذر

وهذه العقود من النذر والطلاق والعتاق تقتضي وجوب أشياء على العبد أو تحريم أشياء عليه والوجوب والتحريم إنما يلزم العبد إذ قصده أو قصد سببه فإنه لو جرى على لسانه هذا الكلام بغير قصد لم يلزمه شئ بالاتفاق ولو تكلم بهذه الكلمات مكرها لم يلزمه حكمها عندنا وعند الجمهور كما دلت عليه السنة وآثار الصحابة لأن مقصوده إنما هو دفع المكروه عنه لم يقصد حكمها ولا قصد التكلم بها ابتداء فكذلك الحالف إذا قال إن لم أفعل كذا فعلى الحج أو الطلاق ليس قصده التزام حج ولا طلاق ولا تكلم بما يوجبه ابتداء وإنما قصده الحض على ذلك الفعل أو منع نفسه منه كما أن قصد المكره دفع المكروه عنه ثم قال على طريق المبالغة في الحض والمنع إن فعلت كذا فهذا لى لازم أو هذا على حرام لشدة امتناعه من هذا اللزوم والتحريم علق ذلك به فقصده منعهما جميعا لا ثبوت أحدهما ولا ثبوت سببه وإذا لم يكن قاصدا للحكم ولا لسببه وإنما قصده عدم الحكم لم يجب أن يلزمه الحكم

وأيضا فإن اليمين بالطلاق بدعة محدثة في الأمة لم يبلغني أنه كان يحلف به على عهد قدماء الصحابة ولكن قد ذكروها في أيمان البيعة التي رتبها الحجاج ابن يوسف وهي تشتمل على اليمين بالله وصدقة المال والطلاق والعتاق وإني لم أقف إلى الساعة على كلام لأحد من الصحابة في الحلف بالطلاق وإنما الذي بلغنا عنهم الجواب في الحلف بالعتق كما تقدم

ثم هذه البدعة قد شاعت في الأمة وانتشرت انتشارا عظيما ثم لما اعتقد من اعتقد أن الطلاق يقع بها لا محالة صار في وقوع الطلاق بها من الأغلال على الأمة ما هو شبيه بالأغلال التي كانت على بني إسرائيل ونشأ عن ذلك خمسة أنواع من المفاسد والحيل في الأيمان حتى اتخذوا آيات الله هزوا

وذلك أنهم يحلفون بالطلاق على ترك أمور لا بد لهم من فعلها إما شرعا

وإما طبعا وغالب ما يحلفون بذلك في حال اللجاج والغضب ثم فراق الأهل فيه من الضرر في الدين والدنيا ما يزيد على كثير من أغلال اليهود وقد قيل إن الله إنما حرم المطلقة ثلاثا حتى تنكح زوج غيره لئلا يتسارع الناس إلى الطلاق لما فيه من المفسدة فإذا حلفوا بالطلاق على الأمور اللازمة أو الممنوعة وهم محتاجون إلى فعل تلك الأمور أو تركها مع عدم فراق الأهل فقد قدحت الأفكار لهم أربعة أنواع من الحيل أخذت عن الكوفيين وغيرهم

الحيلة الأولى في المحلوف عليه فيتؤول لهم خلاف ما قصدوه وخلاف ما يدل على الكلام في عرف الناس وعاداتهم وهذا هو الذي وضعه بعض المتكلمين في الفقه وسموه باب المعاياة وسموه باب الحيل في الأيمان وأكثره مما يعلم بالاضطرار من الدين أنه لا يسوغ في الدين ولا يجوز حمل كلام الحالف عليه ولهذا كان الأئمة كأحمد وغيره يشددون النكير على من يحتال في هذه الأيمان

الحيلة الثانية إذا تعذر الاحتيال في الكلام المحلوف عليه احتالوا للفعل المحلوف عليه بأن يأمروه بمخالعة امرأته ليفعل المحلوف عليه في زمن البينونة وهذه الحيلة أحدث من التي قبلها وأظنها حدثت في حدود المائة الثالثة فإن عامة الحيل إنما نشأت عن بعض أهل الكوفة وحيلة الخلع لا تمشي على أصلهم لأنهم يقولون إذا فعل المحلوف عليه في العدة وقع عليه به الطلاق لأن المعتدة من فرقة ثانية يلحقها الطلاق عندهم فيحتاج المحتال بهذه الحيلة إلى أن يتربص حتى تنقضي العدة ثم يفعل المحلوف عليه وهذا فيه ضرر عليه من جهة طول المدة فصار يفتي بها بعض أصحاب الشافعي وربما ركبوا معها أحد قوليه الموافق لأشهر الروايتين عن أحمد من أن الخلع فسخ وليس بطلاق فيصيير الخالع كلما أراد الحنث خلع زوجته وفعل المحلوف عليه ثم تزوجها فإما أن يفتوه بنقص عدد الطلاق أو يفتوه بعدمه

وهذا الخلع الذي هو خلع الأيمان هو شبيه بنكاح المحلل سواء فإن ذلك عقد عقدا لم يقصده وإنما قصد إزالته وهذا فسخ فسخا لم يقصده وإنما قصد إزالته وهذه حيلة محدثة باردة قد صنف أبو عبد الله بن بطة جزءا في إبطالها وذكر عن السلف في ذلك من الآثار ما قد ذكرت بعضه في غير هذا الموضع

الحيلة الثالثة إذا تعذر الاحتيال في المحلوف عليه احتالوا في المحلوف به فيبطلوه بالبحث عن شروطه فصار قوم من المتأخرين من أصحاب الشافعي يبحثون عن صفة عقد النكاح لعله اشتمل على أمر يكون به فاسدا ليرتبوا على ذلك أن الطلاق في النكاح الفاسد لا يقع ومذهب الشافعي في أحد قوليه وأحمد في إحدى روايتيه أن الولي الفاسق لا يصح نكاحه والفسوق غالب على كثير من الناس فينفق سوق هذه المسألة بسبب الاحتيال لرفع يمين الطلاق حتى رأيت من صنف في هذه المسألة مصنفا مقصوده به الاحتيال لرفع يمين الطلاق ثم تجد هؤلاء الذين يحتالون بهذه الحيلة إنما ينظرون في صفة عقد النكاح وكون ولاية الفاسق لا تصح عند إيقاع الطلاق الذي قد ذهب كثير من أهل العلم أو أكثرهم إلى أنه يقع في الفاسد في الجملة وأما عند الوطء والاستمتاع الذي أجمع المسلمون على أنه لا يباح بالنكاح الفاسد فلا ينظرون في ذلك وكذلك لا ينظرون في ذلك عند الميراث وغيره من أحكام النكاح الصحيح بل إنما ينظرون إليه فقط عند وقوع الطلاق خاصة وهو نوع من اتخاذ آيات الله هزوا ومن المكر في آيات الله وإنما أوجبه الحلف بالطلاق والضرورة إلى عدم وقوعه

الحيلة الرابعة السريجية في إفساد المحلوف به أيضا لكن لوجود مانع لا لفوات شرط فإن أبا العباس بن سريج وطائفة بعده اعتقدوا أنه إذ1 قال لامرأته إذا وقع عليك طلاقي أو طلقتك فأنت طالق قبله ثلاثا أنه لا يقع بعد ذلك عليها طلاق أبدا لأنه إذا وقع المنجز لزم وقوع المعلق فإذا وقع المعلق امتنع وقوع المنجز فيفضي وقوعه إلى عدم وقوعه فلا يقع وأما عامة فقهاء الإسلام من جميع الطوائف فأنكروا ذلك بل رأوه من الزلات التي يعلم بالاضطرار كونها ليست من دين الإسلام حيث قد علم بالضرورة من دين محمد رسول الله أن الطلاق أمر مشروع في كل نكاح وأنه ما من نكاح إلا ويمكن فيه الطلاق

وسبب الغلط أنهم اعتقدوا صحة هذا الكلام فقالوا إذا وقع المنجز وقع المعلق وهذا الكلام ليس بصحيح فإنه مستلزم وقوع طلقة مسبوقة بثلاث ووقوع طلقة مسبوقه بثلاث ممتنع في الشريعة والكلام المشتمل على ذلك باطل وإذا كان باطلا لم يلزم من وقوع المنجز وقوع المعلق لأنه إنما يلزم إذا كان التعليق صحيحا

ثم اختلفوا هل يقع من المعلق تمام الثلاث أن يبطل التعليق ولا يقع إلا المنجز على قولين في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما

وما أدري هل استحدث ابن سريج هذه المسألة للاحتيال على رفع الطلاق أم قالها طردا لقياس اعتقد صحته واحتال بها من بعده لكني رأيت مصنفا لبعض المتأخرين بعد المائة الخامسة صنفه في هذه المسألة ومقصوده بها الاحتيال على عدم وقوع الطلاق ولهذا صاغوها بقولهم إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا لأنه لو قال إذا طلقتك فأنت طالق ثلاثا لم تنفعه هذه الصيغة في الحيلة وإن كان كلاهما في الدور سواء وذلك لأن الرجل إذا قال لامرأته إذا طلقتك فعبدي حر أو فأنت طالق لم يحنث إلا بتطليق ينجزه بعد هذه اليمين أو يعلقه بعدها على شرط فيوجد فإن كل واحد من المنجز والمعلق الذي وجد شرطه تطليق أما إذا كان قد علق طلاقها قبل هذه اليمين بشرط ووجد الشرط بعد هذه اليمين لم يكن مجرد وجود الشرط ووقوع الطلاق به تطليقا لأن التطليق لا بد أن يصدر عن المطلق ووجود الطلاق بصفة يفعلها غيره ليس فعلا منه فأما إذا قال إذا وقع عليك طلاقي فهذا يعم المنجز والمعلق بعد هذا بشرط والواقع بعد هذا بشرط تقدم تعليقه

لا بصيغة الجزاء ولا بصيغة القسم وهذا أشهر القولين في مذهب مالك وإحدى الروايتين عن أحمد

والقول الثالث أن إيقاع الطلاق والعتاق لا يدخل في ذلك بل يدخل فيه الحلف بالطلاق والعتاق وهذا الرواية الثانية عن أحمد ومن أصحابه من قال إن كان الحلف بصيغة القسم دخل في الحديث ونفعته المشيئة رواية واحدة وإن كان بصيغة الجزاء ففيه روايتان

وهذا القول الثالث هو الصواب المأثور معناه عن أصحاب رسول الله وجمهور التابعين فإن ابن عباس وأكثر التابعين كسعيد بن المسيب والحسن لم يجعلوا في الطلاق استثناء ولم يجعلوه من الأيمان

ثم قد ذكرنا عن الصحابة وجمهور التابعين أنهم جعلوا الحلف بالصدقة والهدى والعتاقة ونحو ذلك يمينا مكفرة وهذا معنى قول أحمد في غير موضع لا استثناء في الطلاق والعتاق ليسا من الأيمان

وقال أيضا الثنيا في الطلاق لا أقول بها وذلك أن الطلاق والعتاق حرفان واقعان

وقال أيضا إنما يكون الاستثناء فيما تكون فيه كفارة والطلاق والعتاق لا يكفران وهذا الذي قاله ظاهر

وذلك أن إيقاع الطلاق والعتاق ليسا يمينا أصلا وإنما هو بمنزلة العفو عن القصاص والإبراء من الدين ولهذا لو قال والله لا أحلف على يمين ثم إنه أعتق عبيدا له أو طلق امرأته أو أبرأ غريمه من دم أو مال أو عرض فإنه لا يحنث ما علمت أحدا خالف في ذلك

فمن أدخل إيقاع الطلاق والعتاق في قول النبي من حلف على يمين فقال إن شاء الله لم يحنث فقد حمل العام ما لا يحتمله كما أن من أخرج من هذا العام قوله الطلاق يلزمني لأفعلن كذا أو لا أفعله إن

الناس بها وأوجب كثرة إنكار الفقهاء عليها واستخراجهم لها هو حلف الناس بالطلاق واعتقاد وقوع الطلاق عند الحنث لا محالة حتى لقد فرع الكوفيون وغيرهم من فروع الأيمان شيئا كثيرا مبناه على هذا الأصل وكثير من الفروع الضعيفة التي يفرعها هؤلاء ونحوهم كما كان الشيخ أبو محمد المقدسي يقول مثالها مثال رجل بنى دارا حسنة على حجارة مغصوبة فإذا نوزع في استحقاق تلك الحجارة التي هي الأساس فاستحقها غيره انهدم بناؤه فإن تلك الفروع الحسنة إن لم تكن على أصول محكمة وإلا لم يكن لها منفعة

فإذا كان الحلف بالطلاق واعتقاد لزوم الطلاق عند الحنث قد أوجب هذه المفاسد العظيمة التي قد غيرت بعض أمور الإسلام عند من فعل ذلك وصار في هؤلاء شبه بأهل الكتاب كما أخبر به النبي مع أن لزوم الطلاق عند الحلف به ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا أفتى به أصحاب رسول الله بل ولا أحد منهم فيما أعلمه ولا اتفق عليه التابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين ولا العلماء بعدهم ولا هو مناسب لأصول الشريعة ولا حجة لمن قاله أكثر من عادة مستمرة استندت على قياس معتضد بتقليد لقوم أئمة علماء محمودين عند الأمة وهم ولله الحمد فوق ما يظن بهم لكن لم نؤمر عند التنازع إلا بالرد إلى الله وإلى رسوله وقد خالفهم فيه من ليس دونهم بل مثلهم أو فوقهم فإنا قد ذكرنا عن أعيان الصحابة كعبد الله بن عمر المجمع على إمامته وفقهه ودينه وأخته حفصة أم المؤمنين وزينب ربيبة رسول الله وهي من أمثل فقيهات الصحابة الإفتاء بالكفارة في الحلف بالعتق والطلاق ما هو أولى منه وذكرنا عن طاوس وهو من أفاضل أفاضل علماء التابعين علما وفقها ودينا أنه لم يكن يرى اليمين بالطلاق موقعة له

فإذا كان لزوم الطلاق عند الحنث في اليمين به مقتضيا لهذه المفاسد وحاله في

والكفارة إنما شرعت لما يحصل من الحنث في اليمين التي قد يحصل فيها الموافقة بالبر تارة والمخالفة بالحنث أخرى فوجوب الكفارة بالحنث في اليمين التي تحتمل الموافقة والمخالفة كارتفاع اليمين بالمشيئة التي تحتمل التعليق وعدم التعليق فكل من حلف على شيء ليفعله فلم يفعله فإنه إن علقه بالمشيئة فلا حنث عليه وإن لم يعلقه بالمشيئة لزمته الكفارة فالاستثناء والتكفير يتعاقبان اليمين إذا لم يحصل فيها الموافقة

فهذا أصل صحيح يدفع ما وقع في هذا الباب من الزيادة أو النقص على ما أوجبه كلام رسول الله

ثم يقال بعد ذلك قول أحمد وغيره الطلاق والعتاق لا يكفران كقوله وقول غيره لا استثناء فيهما وهذا في إيقاع الطلاق والعتاق أما الحلف بهما فليس تكفيرا لهما وإنما هو تكفير للحلف بهما كما أنه إذا حلف بالصلاة والصيام والصدقة والحج والهدي ونحو ذلك في نذر اللجاج والغضب فإنه لم يكفر الصلاة والصيام والهدي والحج وإنما كفر الحلف بهما وإلا فالصلاة لا كفارة فيها وكذلك هذه العبادات لا كفارة فيها لمن يقدر عليها وكما أنه إذا قال إن فعلت كذا فعلي أن أعتق فإن عليه الكفارة بلا خلاف في مذهب أحمد وموافقيه من القائلين بنذر اللجاج والغضب وليس ذلك تكفير للعتق وإنما هو تكفير للحلف به

فلازم قول أحمد هذا أنه إذا جعل الحلف بهما يصح فيه الاستثناء كان الحلف بهما تصح فيه الكفارة وهذا موجب سنة رسول الله كما قدمناه

وأما من لم يجعل الحلف بهما يصح فيه الاستثناء كأحد القولين في مذهب مالك وإحدى الروايتين عن أحمد فهو قول مرجوح

ونحن في هذا المقام إنما نتكلم بتقدير تسليمه وسنتكلم إن شاء الله في مسألة الاستثناء على حدة

فقال يطلقها ولا يطأها قد أباح الله الطلاق وحرم وطء الحائض

وهذا الاستحسان يتوجه على أصلين أما على قوله إن الطلاق ليس بحرام وإنما يكون تحريمه دون تحريم الوطء وإلا فإذا كان كلاهما حراما لم يخرج من حرام إلا إلى حرام

وأما ضرر الدنيا فأبين من أن يوصف فإن لزوم الطلاق المحلوف به في كثير من الأوقات يوجب من الضرر ما لم تأت به الشريعة الإسلامية في مثل هذا قط أن المرأة الصالحة تكون في صحبة زوجها الرجل الصالح سنين كثيرة وهي متاعه التي قال فيها النبي الدنيا متاع وخير متاعها المرأة المؤمنة إن نظرت إليها أعجبتك وإن أمرتها أطاعتك وإن غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك وهي التي أمر بها النبي في قوله لما سأله المهاجرون أي المال خير فنتخذه فقال أفضله لسان ذاكر وقلب شاكر وامرأة صالحة تعين أحدكم على إيمانه رواه الترمذي من حديث سالم بن أبي الجعد عن ثوبان وبينهما من المودة والرحمة ما امتن الله به في كتابه بقوله ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة فيكون ألم الفراق أشد عليهما من الموت أحيانا وأشد من ذهاب المال وأشد من فراق الأوطان خصوصا إن كان بقلب كل واحد منهما حب وعلاقة من صاحبه أو كان بينهما أطفال يضيعون بالفراق ويفسد حالهم ثم يفضي ذلك إلى القطيعة بين أقاربهما ووقوع الشر لما زالت نعمة المصاهرة التي امتن الله بها في قوله فجعله نسبا وصهرا ومعلوم أن هذا من الحرج الداخل في عموم قوله تعالى وما جعل عليكم في الدين من حرج ومن العسر المنفي بقوله يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر

وأيضا فلو كان المحلوف عليه بالطلاق فعل بر وإحسان من صدقة وعتاقة وتعليم علم وصلة رحم وجهاد في سبيل الله وإصلاح بين الناس ونحو ذلك من الأعمال الصالحة التي يحبها الله ويرضاها فإنه لما عليه من الضرر العظيم في الطلاق لا يفعل ذلك بل ولا يؤمر به شرعا لأنه قد يكون الفساد الناشئ من الطلاق أعظم من الصلاح الحاصل من هذه الأعمال وهي المفسدة التي أزالها الله بقوله ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم وأزالها النبي بقوله لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم عند الله من أن يأتي الكفارة التي فرض الله

فإن قيل فهو الذي أوقع نفسه في أحد هذه المضرات الثلاث فما كان ينبغي له أن يحلف

قيل ليس في شريعتنا ذنب إذا فعله الإنسان لم يكن له مخرج منه بالتوبة إلا بضرر عظيم فإن الله لم يحمل علينا إصرا كما حمله على الذين من قبلنا فهب أن هذا قد أتى كبيرة من الكبائر في حلفه بالطلاق ثم تاب من تلك الكبيرة فكيف يناسب أصول شريعتنا أن يبقى أثر ذلك الذنب عليه لا يجد منه خرجا وهذا بخلاف الذي ينشئ الطلاق لا بالحلف عليه فإنه لا يفعل ذلك إلا وهو مريد الطلاق إما لكراهته للمرأة أو غضبه عليها ونحو ذلك وقد جعل الله الطلاق ثلاثا فإذا كان إنما يتكلم بالطلاق باختياره ووالى ثلاث مرات متفرقات كان وقوع الضرر في مثل هذا نادرا بخلاف الأول فإن مقصوده لم يكن الطلاق وإنما كان أن يفعل المحلوف عليه أولا يفعله ثم قد يأمره الشرع أو تضطره الحاجة إلى فعله أو تركه فيلزمه الطلاق بغير اختيار له ولا لسببه

وأيضا فإن الذي بعث الله به محمدا في باب الأيمان تخفيفها بالكفارة لا تثقيلها بالإيجاب أو التحريم فإنهم كانوا في الجاهلية يرون الظهار طلاقا واستمروا على ذلك في أول الإسلام حتى ظاهر أوس بن الصامت رضي الله عنه من امرأته

وأيضا فالاعتبار بنذر اللجاج والغضب فإنه ليس بينهما من الفرق إلا ما ذكرناه وسنبين إن شاء الله عدم تأثيره والقياس بالفارق أصح ما يكون من الاعتبار باتفاق العلماء المعتبرين

وذلك أن الرجل إذا قال إن أكلت أو شربت فعلي أن أعتق عبدي أو فعلي أن أطلق امرأتي أو فعلي الحج أو فأنا محرم بالحج أو فمالي صدقة أو فعلي صدقة فإنه تجزئة كفارة يمين عند الجمهور كما قدمناه بدلالة الكتاب والسنة وإجماع الصحابة فكذلك إذا قال إن أكلت هذا أو شربت هذا فعلي الطلاق أو فالطلاق لي لازم أو فامرأتي طالق أو فعبيدي أحرار وإن قال علي الطلاق لا أفعل كذا أو الطلاق يلزمني لا أفعل كذا فهو بمنزلة قوله علي الحج لا أفعل كذا والحج لي لازم لا أفعل كذا وكلاهما يمينان محدثتان ليستا مأثورتين عن العرب ولا معروفتين عند الصحابة وإنما المستأخرون صاغوا من هذه المعاني أيمانا وربطوا إحدى الجملتين بالأخرى كالأيمان التي كان المسلمون من الصحابة يحلفون بها وكانت العرب تحلف بها لا فرق بين هذا وهذا إلا أن قوله إن فعلت كذا فمالي صدقة يقتضي وجوب الصدقة عند الفعل وقوله مرأتي طالق يقتضي وجود الطلاق فالكلام يقتضي وقوع الطلاق بنفس الشرط وإن لم يحدث بعد هذا طلاقا ولا يقتضي وقوع الصدقة حتى يحدث صدقة

وجواب هذا الفرق الذي اعتمده الفقهاء الفرقون من وجهين

أحدهما منع الوصف الفارق في بعض الأصول المقيس عليها وفي بعض صور الفروع المقيس عليها

والثاني بيان عدم التأثير

أما الأول فإنه إذا قال إن فعلت كذا فمالي صدقة أو فأنا محرم أو فبعيري هدي فالمعلق بالصفة وجود الصدقة والإحرام والهدي لا وجوبها كما أن المعلق في قوله فعبدي حر وامرأتي طالق وجود الطلاق والعتق لا وجوبهما ولهذا اختلف الفقهاء من أصحابنا وغيرهم فيما إذا قال هذا هدي وهذا صدقة لله هل يخرج عن ملكه أولا يخرج فمن قال يخرج عن ملكه فهو كخروج زوجه وعبده عن ملكه أكثر ما في الباب أن الصدقة والهدي يتملكهما الناس بخلاف الزوجة والعبد وهذا لا تأثير له وكذلك لو قال علي الطلاق لأفعلن كذا أو الطلاق يلزمني لأفعلن كذا فهو كقوله علي الحج لأفعلن كذا فهلا جعل المحلوف به هنا وجوب الطلاق لا وجوده كأنه قال إن فعلت كذا فعلي أن أطلق

فبعض صور الحلف بالطلاق يكون المحلوف به صيغة وجوب كما أن بعض صور الحلف بالنذر يكون المحلوف به صيغة وجود

وأما الجواب الثاني فنقول هب أن المعلق بالفعل هنا وجود الطلاق والعتاق والمعلق هناك وجود الصدقة والحج والصيام والإهداء أليس موجب الشرط ثبوت هذا وجوب وذاك الوجود عند وجود الشرط

فإذا كان عند الشرط لا يثبت ذلك الوجوب بل يجزيه كفارة يمين فكذلك عند الشرط لا يثبت هذا الوجود بل يجزيه كفارة يمين كما لو قال هو يهودي أو نصراني أو كافر إن فعل كذا فإن المعلق هنا وجود الكفر عند الشرط ثم إذا وجد الشرط لم يوجد الكفر بالاتفاق بل يلزمه كفارة يمين ولا يلزمه شيء ولو قال ابتداء هو يهودي أو نصراني أو كافر للزمه الكفر بمنزلة قوله ابتداء عبدي حر وامرأتي طالق وهده البدنة هدي وعلي صوم يوم الخميس ولو علق الكفر بشرط يقصد وجوده كقوله إذا أهل الهلال فقد برئت من دين الإسلام لكان الواجب أن يحكم بكفره لكن لا يتأخر الكفر لأن توقيته دليل على فساد عقيدته

فإن قيل في الحلف بالنذر إنما عليه الكفارة فقط

قيل مثله في الحلف بالعتق وكذلك في الحلف بالطلاق كما لو قال فعلي أن أطلق امرأتي

ومن قال إنه إذا قال فعلي أن أطلق امرأتي لا يلزمه شيء فقياس قوله في الطلاق لا يلزمه شيء ولهذا توقف طاووس في كونه يمينا

وإن قيل إنه يخير بين الوفاء به والتكفير فكذلك هنا يخير بين الطلاق والعتق وبين التكفير فإن وطئ امرأته كان اختيارا منه للتكفير كما أنه في الظهار يكون مخيرا بين التكفير وبين تطليقها فإن وطئها لزمته الكفارة لكن في الظهار لا يجوز له الوطء حتى يكفر لأن الظهار منكر من القول وزور حرمها عليه وأما هنا فقوله إن فعلت فهي طالق فهو بمنزلة قوله فعلي أن أطلقها أو قال والله لأطلقنها فإن طلقها فلا شيء عليه وإن لم يطلقها فعليه كفارة يمين

يبقى أن يقال فهل تجب الكفارة على الفور إذا لم يطلقها حينئذ كما لو قال والله لأطلقنها الساعة ولم يطلقها أو لا تجب إلا إذا عزم على إمساكها أو لا يجب إلا إذا وجد منه ما يدل على الرضا بها من قول أو فعل كالذي يخير بين فراقها وإمساكها لعيب ونحوه وكالمعتقة تحت عبد أو لا يجب بحال حتى يفوت الطلاق قبل الحكم في ذلك كما لو قال فثلث مالي صدقة أو هدي ونحو ذلك

والأقيس في ذلك أنه مخير بينهما على التراخي ما لم يوجد منه ما يدل على الرضا بأحدهما كسائر أنواع الخيار

فصل

عدل

موجب نذر اللجاج والغضب على المشهور عندنا أحد شيئين

إما التكفير وإما فعل المعلق ولا ريب أن موجب اللفظ في مثل قوله إن فعلت كذا فعلي صلاة ركعتين أو صدقة ألف أو فعلي الحج أو صوم شهر هو الوجوب عند الفعل فهو مخير بين هذا الوجوب وبين وجوب الكفارة فإذا لم يستلزم الوجوب المعلق ثبت وجوب الكفارة فاللازم له أحد الوجوبين كل منهما ثابت بتقدير عدم الآخر كما في الواجب المخير

وكذلك إذا قال إذا فعلت كذا فعلي عتق هذا العبد أو تطليق هذه

المرأة أو علي أن أتصدق أو أهدي فإن ذلك يوجب استحقاق العبد للإعتاق والمال للتصدق والبدنة للهدي

ولو أنه نجز ذلك فقال هذا المال صدقة وهذه البدنة هدي وعلي عتق هذا العبد فهل يخرج عن ملكه بذلك أو يستحق الإخراج فيه خلاف وهو يشبه قوله هذا وقف

وأما إذا قال هذا العبد حر وهذه المرأة طالق فهو إسقاط بمنزلة قوله برئت ذمة فلان من كذا ومن دم فلان أو من قذفي فإن إسقاط حق الدم والمال والعرض من باب إسقاط حق الملك بملك البضع وملك اليمين

فإذا قال إن فعلت فعلي الطلاق أو فعلي العتق أو فامرأتي طالق أو فعبيدي أحرار وقلنا إن موجبه أحد الأمرين فإنه يكون مخيرا بين وقوع ذلك وبين وجوب الكفارة كما لو قال فهذا المال صدقة أو هذه البدنة هدي

ونظير ذلك ما لو قال إذا طلعت الشمس فعبيدي أحرار ونسائي طوالق وقلنا التخيير إليه فإنه إذا اختار أحدهما كان ذلك بمنزلة اختياره أحد الأمرين من الوقوع أو وجوب التكفير وأمثال ذلك

وأيضا إذا أسلم وتحته أكثر من أربع أو أختان فاختار إحداهما فهذه المواضع التي تكون فيها الفرقة أحد اللازمين إما فرقة معين أو نوع الفرقة لا يحتاج إلى إنشاء طلاق لكن لا يتعين الطلاق إلا بما يوجب تعيينه كما في النظائر المذكورة

ثم إذا اختار الطلاق فهل يقع من حين الاختيار أو من حين الحنث يخرج على نظير ذلك

فلو قال في جنس مسائل نذر اللجاج والغضب اخترت التكفير أو اخترت فعل المنذور فهل يتعين بالقول أو لا يتعين إلا بالفعل

إن كان التخيير بين الوجوبين تعين بالقول كما في التخيير بين النساء وبين الطلاق والعتق وإن كان بين الفعلين لم يتعين إلا بالفعل كالتخيير

بالطلاق ليس شيئا قلت أكان يراه يمينا قال لا أدري

فقد أخبر ابن طاوس عن أبيه أنه كان لا يراه موقعا للطلاق وتوقف في كونه يمينا يوجب الكفارة لأنه من باب نذر ما لا قربة فيه وفي كون مثل هذا يمينا خلاف مشهور وهذا قول أهل الظاهر كداود وأبي محمد بن حزم لكن بناء على أنه لا يقع طلاق معلق ولا عتق معلق

واختلفوا في المؤجل وهو بناء على ما تقدم من أن العقود لا يصح منها إلا ما ورد نص أو إجماع على وجوبه أو جوازه وهو مبني على ثلاث مقدمات يخالفون فيها

إحداها كون الأصل تحريم العقود

الثانية أنه لا يباح إلا ما كان في معنى النصوص

الثالثة أن الطلاق المؤجل والمعلق لم يندرج في عموم النصوص

وأما المأخذ المتقدم من كون هذا كنذر اللجاج والغضب وفرقوا بين نذر التبرر ونذر الغضب فإن هذا الفرق يوجب الفرق بين المعلق الذي يقصد وقوعه عند الشرط وبين المعلق المحلوف به الذي يقصد عدم وقوعه إلا أن يصح الفرق المذكور بين كون المعلق هو الوجود أو الوجوب وسنتكلم عليه

وقد ذكرنا أن هذا القول يخرج على أصول أحمد من مواضع ذكرناها وكذلك هو أيضا لازم لمن قال في نذر اللجاج والغضب بكفارة كما هو ظاهر مذهب الشافعي وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة التي اختارها أكثر متأخري أصحابه وإحدى الروايتين عن ابن القاسم التي اختارها كثير من متأخري المالكية فإن التسوية بين الحلف بالنذر والحلف بالعتق هو المتوجه ولهذا كان هذا من أقوى حجج القائلين بوجوب الوفاء في الحلف بالنذر فإنهم قاسوه على الحلف بالطلاق والعتاق واعتقده بعض المالكية مجمعا عليه

وأيضا فإذا حلف بصيغة القسم كقوله عبيدي أحرار لأفعلن أو نسائي

فصوروا المسألة بصورة قوله إذا وقع عليك طلاقي حتى إذا حلف الرجل بالطلاق لا يفعل شيئا قالوا له قل إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا فيقول ذلك فيقولون له افعل الآن ما حلفت عليه فإنه لا يقع عليك طلاق

فهذا التسرج المنكر عند عامة أهل الإسلام المعلوم يقينا أنه ليس من الشريعة التي بعث الله بها محمدا إنما نفقه في الغالب ما أحوج كثيرا من الناس إليه من الحلف بالطلاق وإلا فلولا ذلك لم يدخل فيه أحد لأن العاقل لا يكاد يقصد سد باب الطلاق عليه إلا نادرا

الحيلة الخامسة إذا وقع الطلاق ولم يمكن الاحتيال لا في المحلوف عليه قولا ولا فعلا ولا في المحلوف به إبطالا ولا منعا احتالوا لإعادة النكاح بنكاح المحلل الذي دلت عليه السنة وإجماع الصحابة مع دلالة القرآن وشواهد الأصول على تحريمه وفساده ثم قد تولد من نكاح المحلل من الفساد ما لا يعلمه إلا الله كما نبهنا على بعضه في كتاب بيان الدليل على إبطال التحليل وأغلب ما يحوج الناس إلى نكاح المحلل هو الحلف بالطلاق وإلا فالطلاق الثلاث لا يقدم عليه الرجل في الغالب إلا إذا قصده ومن قصده لم يترتب عليه عنده من الندم والفساد ما يترتب على من اضطر إلى وقوعه لحاجته إلى الحنث

فهذه المفاسد الخمسة التي هي الاحتيال على نقض الأيمان وإخراجها عن مفهومها ومقصودها ثم الاحتيال بالخلع وإعادة النكاح ثم الاحتيال بالبحث عن فساد النكاح ثم الاحتيال بمنع وقوع الطلاق ثم الاحتيال بنكاح المحلل في هذه الأمور من المكر والخداع والاستهزاء بآيات الله واللعب الذي ينفر العقلاء عن دين الله ويوجب طعن الكفار فيه كما رأيته في بعض كتب النصارى وغيرهم ويتبين لكل مؤمن صحيح الفطرة أن دين الإسلام منزه عن هذه الخزعبلات التي تشبه حيل اليهود ومخاريق الرهبان وأن أكثر ما أوقع

عند من يقول انتقل إلى المشتري كالشافعي وأحمد في أحد قوليهما وكالمبيع إذا أفلس المشتري بالثمن عند فقهاء الحديث وأهل الحجاز وكالمبيع الذي ظهر فيه عيب أو فوات صفة عند جميع المسلمين فهنا في المعاوضة والتبرع يملك العقد انتزاعه وملك الأب لا يملك انتزاعه وجنس الملك يجمعهما وكذلك ملك الابن في مذهب أحمد وغيره من فقهاء الحديث الذي اتبعوا فيه معني الكتاب وصريح السنة

وطوائف من السلف يقولون هو مباح للأب مملوك للابن بحيث يكون للأب كالمباحات التي تملك بالاستيلاء وملك الابن ثابت عليه بحيث يتصرف فيه تصرفا مطلقا فإذا كان الملك يتنوع أنواعا وفيه من الإطلاق والتقييد ما وصفته وما لم أصفه لم يمتنع أن يكون ثبوت ذلك مفوضا إلى الإنسان يثبت منه ما رأى فيه مصلحة له ويمتنع من إثبات ما لا مصلحة له فيه والشارع لا يحظر على الإنسان إلا ما فيه فساد راجح أو محض فإذا لم يكن فيه فساد أو كان فساده مغمورا بالمصلحة لم يحظره أبدا

فصل

عدل

القاعدة الرابعة أن الشرط المتقدم على العقد بمنزلة المقارن له في ظاهر مذهب فقهاء الحديث أحمد وغيره ومذهب أهل المدينة مالك وغيره وهو قول في مذهب الشافعي نص عليه في صداق السر والعلانية ونقلوه إلى شرط التحليل المتقدم وغيره وإن كان المشهور من مذهبه ومذهب أبي حنيفة أن المتقدم لا يؤثر بل يكون كالوعد المطلق عندهم يستحب الوفاء به وهو قول في مذهب أحمد قد يختاره في بعض المواضع طائفة من أصحابه كاختيار بعضهم أن التحليل المشروط قبل العقد لا يؤثر إلا أن ينويه الزوج وقت العقد وقول طائفة

طوالق لأفعلن فهو بمنزلة قوله مالي صدقة لأفعلن وعلي الحج لأفعلن

والذي يوضح التسوية أن الشافعي إنما اعتمد في الطلاق المعلق على فدية الخلع فقال في البويطي وهو كتاب مصري من أجود كتبه وذلك أن الفقهاء يسمون الطلاق المعلق بسبب طلاقا بصفة ويسمون ذلك الشرط صفة ويقولون إذا وجدت الصفة في زمان البينونة وإذا لم توجد الصفة ونحو ذلك

وهذه التسمية لها وجهان

أحدهما أن هذا الطلاق موصوف بصفة ليس طلاقا مجردا عن صفة فإنه إذا قال أنت طالق في أول السنة أو إذا ظهرت فقد وصف الطلاق بالزمان الخاص فإن الظرف صفة للمظروف وكذلك إذا قال إن أعطيتني ألفا فأنت طالق فقد وصفه بعوضه

والثاني أن نحاة الكوفة يسمون حروف الجر ونحوها حروف الصفات فلما كان هذا معلقا بالحروف التي قد تسمى حروف الصفات سمي طلاقا بصفة كما لو قال أنت طالق بألف

والوجه الأول هو الأصل فإن هذا يعود إليه إذ النحاة إنما سموا حروف الجر حروف الصفات لأن الجار والمجرور يصير في المعنى صفة لما تعلق به

فإذا كان الشافعي وغيره إنما اعتمدوا في الطلاق الموصوف على طلاق الفدية المذكور في القرآن وقاسوا كل طلاق بصفة عليه صار هذا كما أن النذر المعلق بشرط مذكور في قوله ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين ومعلوم أن النذر المعلق بشرط هو نذر بصفة وقد فرقوا بين النذر المقصود شرطه وبين النذر المقصود عدم شرطه الذي خرج مخرج اليمين فكذلك يفرق بين الطلاق المقصود وصفة كالخلع حيث المقصود فيه العوض والطلاق المحلوف به الذي يقصد عدمه

وعدم شرطه فإنه انما يقاس بما في الكتاب والسنة ما أشبهه ومعلوم ثبوت الفرق بين الصفة المقصودة وبين الصفة المحلوف عليها التي يقصد عدمها كما فرق بينهما في النذر سواء والدليل على هذا القول الكتاب والسنة والأثر والاعتبار

أما الكتاب فقوله سبحانه يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم

فوجه الدلالة أن الله قال قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم وهذا نص عام في كل يمين يحلف بها المسلمون أن الله قد فرض لهم تحلتها وقد ذكره سبحانه بصيغة الخطاب للأمة بعد تقدم الخطاب بصيغة الإفراد للنبي مع علمه سبحانه بأن الأمة يحلفون بأيمان شتى فلو فرض يمين واحدة ليس له تحلة لكان مخالفة للآية كيف وهذا عام لا يحض منه صورة واحدة لا بنص ولا بإجماع بل هو عام عموما معنويا مع عمومه اللفظي فإن اليمين معقودة فوجب منع المكلف من الفعل فشرع التحلة لهذا العقد مناسب لما فيه من التخفيف والتوسعة وهذا موجود في اليمين بالعتق والطلاق أكثر منه في غيرهما من أيمان نذر اللجاج والغضب فإن الرجل إذا حلف بالطلاق ليقتلن النفس أو ليقطعن رحمه أو ليمنعن الواجب عليه من أداء الأمانة ونحوها فإنه يجعل الطلاق عرضة ليمينه أن يبر ويتقي ويصلح بين الناس أكثر مما يجعل الله عرضة ليمينه ثم إن وفى بيمينه كان عليه من ضرر الدنيا والآخرة ما قد أجمع المسلمون على تحريم الدخول فيه وإن طلق امرأته ففي الطلاق أيضا من ضرر الدنيا والدين ما لا خفاء به أما الدين فإنه مكروه باتفاق الأمة مع استقامة حال الزوجين إما كراهة تنزيه أو كراهة تحريم فكيف إذا كانا في غاية الاتصال وبينهما من الأولاد والعشرة ما يجعل في طلاقهما في أمر الدين ضررا عظيما وكذلك ضرر الدنيا كما يشهد به الواقع بحيث لو خير أحدهما بين أن يخرج من ماله ووطنه وبين الطلاق لاختار فراق ماله ووطنه على الطلاق وقد قرن الله فراق الوطء بقتل النفس ولهذا قال أحمد في إحدى الروايتين متابعة لعطاء إنها إذا أحرمت بالحج فحلف عليها زوجها بالطلاق أنها لا تحج صارت محصرة وجاز لها التحلل لما عليها في ذلك من الضرر الزائد على ضرر الإحصار بالعدو أو القريب منه

وهذا ظاهر فيما إذا قال إن فعلت كذا فعلى أن أطلقك أو أعتق عبيدي فإن هذا في نذر اللجاج والغضب بالاتفاق كما لو قال والله لأطلقنك أو لا أعتقت عبيدي وإنما الفرق بين وجود العتق ووجوبه هو الذي اعتمده المفرقون وسنتكلم عليه إن شاء الله

وأيضا فإن الله تعالى قال يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم وهى تقتضي أنه ما من تحريم لما أحل الله إلا والله غفور لفاعله رحيم به وأنه لا علة تقتضي ثبوت ذلك التحريم لأن قول لا شئ استفهام في معنى النفي والإنكار والتقدير لا سبب لتحريمك ما أحل الله لك والله غفور رحيم فلو كان الحالف بالنذر والعتاق والطلاق على أنه لا يفعل شيئا لا رخصة له لكان هنا سبب يقتضي تحريم الحلال وانتفاء موجب المغفرة والرحمة عن هذا الفاعل

وأيضا قوله سبحانه يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون والحجة فيها كالحجة في الأولى وأوفى فإنه قال لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم وهذا عام يشمل تحريمها بالأيمان من الطلاق وغيرها ثم يبين وجه المخرج من ذلك بقوله لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته أى فكفارة تعقيدكم أو عقدكم الأيمان وهذا عام ثم قال ذلك كفارة أيمانكم إ ذا حلفتم وهذا عام كعموم قوله واحفظوا أيمانكم

ومما يوضح عمومه أنهم قد أدخلوا الحلف بالطلاق في عموم قوله من حلف فقال إن شاء الله فإن شاء فعل وإن شاء ترك فأدخلوا فيه الحلف بالطلاق والعتاق والنذر والحلف بالله وإنما لم يدخل مالك وأحمد وغيرهما الحلف بالطلاق موافقة لابن عباس لأن إيقاع الطلاق ليس بحلف وإنما الحلف المنعقد ما تضمن محلوفا به ومحلوفا عليه إما بصيغة القسم وإما بصيغة الجزاء أو ما كان في معنى ذلك مما سنذكره إن شاء الله

وهذه الدلالة بينة على أصول الشافعي وأحمد ومن وافقهم في مسألة نذر اللجاج والغضب فإنهم احتجوا على التكفير فيه بهذه الآية وجعلوا قوله تعالى تحلة أيمانكم وكفارة أيمانكم عاما في اليمين بالله واليمين بالنذر ومعلوم أن شمول اللفظ لنذر اللجاج والغضب في الحج والعتق ونحوهما سواء

فإن قيل المراد بالآية اليمين بالله فقط فإن هذا هو المفهوم من مطلق اليمين ويجوز أن يكون التعريف بالألف واللام أو الإضافة في قوله عقدتم الأيمان وتحلة أيمانكم منصرفا إلى اليمين المعهود عندهم وهى اليمين بالله وحينئذ فلا يعم اللفظ إلا المعروف عندهم والحلف بالطلاق ونحوه لم يكن معروفا عندهم ولو كان اللفظ عاما فقد علمنا أنه لم يدخل فيه اليمين التي ليست مشروعة اليمين بالمخلوقات فلا يدخل فيه الحلف بالطلاق ونحوه لأنه ليس من اليمين المشروعة لقوله من كان حالفا فليحلف بالله أو فليصمت

وهنا سؤال ممن يقول كل يمين غير مشروعة فلا كفارة لها ولا حنث

فيقال لفظ اليمين يشمل هذا كله بدليل استعمال النبي والصحابة والعلماء اسم اليمين في هذا كله كقوله النذر حلفة وقول الصحابة لمن حلف بالهدى والعتق كفر يمينك وكذلك فهمته الصحابة من كلام النبي كما سنذكره ولإدخال العلماء لذلك في قوله من حلف فقال إن شاء الله فإن شاء فعل وإن شاء ترك

ويدل على عمومه في الآية أنه سبحانه قال لم تحرم ما أحل الله لك ثم قال قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم فاقتضى هذا أن نفس تحريم الحلال يمين كما استدل به ابن عباس وغيره وسبب نزول الآية إما تحريمه العسل وإما تحريمه مارية القبطية وعلى كل تقدير فتحريم الحلال يمين على ظاهر الآية وليس يمينا بالله ولهذا أفتى جمهور الصحابة كعمر وعثمان وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس رضى الله عنهم وغيرهم أن تحريم الحلال يمين مكفرة إما كفارة كبرى كالظهار وإما كفارة صغرى كاليمين بالله وما زال السلف يسمون الظهار ونحوه يمينا

وأيضا فإن قوله تعالى لم تحرم ما أحل الله لك إما أن يراد به لم تحرمه بلفظ الحرام وإما لم تحرمه باليمين بالله ونحوها وإما لم تحرمه مطلقا فإن أريد الأول أو الثالث فقد ثبت تحريمه بغير الحلف بالله يمين فنعم وأن أريد به تحريمه بالحلف بالله فقد سمى الله الحلف بالله تحريما للحلال ومعلوم أن اليمين بالله لم توجب الحرمة الشرعية لكن لما أوجبت امتناع الحالف من الفعل فقد حرمت عليه الفعل تحريما شرطيا لا شرعيا فكل يمين توجب امتناعه من الفعل فقد حرمت عليه الفعل فيدخل في عموم قوله لم تحرم ما أحل الله لك

وحينئذ فقوله قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم لا بد أن يعم كل يمين

والتابعين ومن بعدهم وقد اعتذر أحمد عما ذكرناه عن الصحابة في كفارة العتق بعذرين

أحدهما انفراد سليمان التيمي بذلك

والثاني معارضته بما رواه عن ابن عمر وابن عباس أن العتق يقع من غير تكفير وما وجدت أحدا من العلماء المشاهير بلغه في هذه المسألة من العلم المأثور عن الصحابة ما بلغ أحمد فقال المروزي قال أبو عبد الله إذا قال كل مملوك له حر فيعتق عليه إذا حنث لأن الطلاق والعتق ليس فيهما كفارة وقال ليس يقول كل مملوك لها حر في حديث ليلى بنت العجماء حديث أبي رافع أنها سألت ابن عمر وحفصة وزينب وذكرت العتق فأمروها بالكفارة إلا التيمي وأما حميد وغيره فلم يذكروا العتق قال سألت أبا عبد الله عن حديث أبي رافع قصة حلف مولاته ليفارقن امرأته وأنها سألت ابن عمر وحفصة فأمروها بكفارة يمين قلت فيها شيء قال نعم أذهب إلى أن فيه كفارة يمين قال أبو عبد الله ليس يقول فيه كل مملوك إلا التيمي قلت فإذا حلف بعتق مملوكه فحنث قال يعتق كذا يروي عن ابن عمر وابن عباس أنهما قالا الجارية تعتق ثم قال ما سمعناه إلا من عبد الرزاق عن معمر قلت فإبش إسناده قال معمر عن إسماعيل عن عثمان بن حاضر عن ابن عمر وابن عباس وقال إسماعيل ابن أمية وأيوب ابن موسى وهما مكيان وقد فرقا بين الحلف بالطلاق والعتق والحلف بالنذر لأنهما لا يكفران واتبع ما بلغه في ذلك عن ابن عمر وحفصة وزينب مع انفراد التيمي بهذه الزيادة وقال صالح ابن أحمد قال أبي وإذا قال جاريتي حرة إن لم أصنع كذا وكذا قال قال ابن عمر وابن عباس تعتق وإذا قال كل مالي في المساكين لم يدخل فيه جاريته

عقد لله ولكن إذا كان حالفا فهو لم يقصد العقد لله بل قصد الحلف به فإذا حنث ولم يف به فقد ترك ما عقده لله كما أنه إذا فعل المحلوف به فقد ترك ما عقده بالله

يوضح ذلك أنه إذا حلف بالله أو بغير الله مما يعظمه بالحلف فإنما حلف به ليعقد به المحلوف عليه ويربطه لأنه لعظمته في قلبه إذا ربط به شيئا لم يحله فإذا حل ما ربطه فقد انقضت عظمته في قلبه وقطع السبب الذي بينه وبينه كما قال بعضهم اليمين العقد على نفسه لحق من له حق ولهذا إذا كانت اليمين غموسا كانت من الكبائر الموجبة للنار كما قال سبحانه إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة وقال في عد الكبائر فيما روى الإمام أحمد في المسند عن أبي هريرة قال قال رسول الله خمس ليس لهن كفارة الشرك بالله وقتل النفس بغير حق وبهت مؤمن والفرار يوم الزحف ويمين صابرة يقطع بها مالا يغير حق

وذلك لأنه إذا تعمد أن يعقد بالله ما ليس منعقدا به فقد نقض الصلة التي بينه وبين ربه بمنزلة من أخبر عن الله بما هو منزه عنه أو تبرأ من الله بخلاف ما إذا حلف على المستقبل فإنه عقد بالله فعلا قاصدا لعقده على وجه التعظيم لله لكن أباح الله له حل هذا العقد الذي عقده به كما يبيح له ترك بعض الواجبات لحاجة أو يزيل عنه وجوبها ولهذا قال أكثر أهل العلم إذا قال هو يهودي أو نصراني إن لم يفعل كذا فهى يمين بمنزلة قوله والله لأفعلن لأنه ربط عدم الفعل بكفره الذي هو براءته من الله فيكون قد ربط الفعل بإيمانه بالله وهذا هو حقيقة الحلف بالله فربط الفعل بأحكام الله من الإيجاب أو التحريم أدنى حالا من ربطه بالله

على هذا الأصل بقوله تعالى 5 : 3 اليوم أكملت لكم دينكم وقوله 2 : 229 ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون

قالوا فالشروط والعقود التي لم تشرع تعد لحدود الله وزيادة في الدين

وما أبطله هؤلاء من الشروط التي دلت النصوص على جوازها بالعموم أو بالخصوص قالوا ذلك منسوخ كما قاله بعضهم في شروط النبي مع المشركين عام الحديبية أو قالوا هذا عام أو مطلق فيخص بالشرط الذي في كتاب الله

واحتجوا أيضا بحديث يروى في حكاية عن أبي حنيفة وابن أبي ليلى وشريك أن النبي نهى عن بيع وشرط وقد ذكره جماعة من المصنفين في الفقه ولا يوجد في شيء من دواوين الحديث وقد أنكره أحمد وغيره من العلماء وذكروا أنه لا يعرف وأن الأحاديث الصحيحة تعارضه وأجمع الفقهاء المعروفون من غير خلاف أعلمه عن غيرهم أن اشتراط صفة في المبيع ونحوه كاشتراط كون العبد كاتبا أو صانعا أو اشتراط طول الثوب أو قدر الأرض ونحو ذلك شرط صحيح

القول الثاني أن الأصل في العقود والشروط الجواز والصحة ولا يحرم منها ويبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله نصا أو قياسا عند من يقول به وأصول أحمد المنصوص عنه أكثرها يجري على هذا القول ومالك قريب منه لكن أحمد أكثر تصحيحا للشروط فليس في الفقهاء الأربعة أكثر تصحيحا للشروط منه

وعامة ما يصححه أحمد من العقود والشروط فيها يشتبه بدليل خاص من أثر أو قياس لكنه لا يجعل حجة الأولين مانعا من الصحة ولا يعارض ذلك بكونه شرطا يخالف مقتضى العقد أولم يرد به نص وكان قد بلغه في العقود والشروط من الآثار عن النبي والصحابة ما لا تجده عند

فإذا عدم الفعل كان مقتضاه عدم إيمانه هذا لولا ما شرع الله من الكفارة كما أن مقتضى قوله إن فعلت كذا وجب على كذا أنه عند الحلف يجب ذلك الفعل لولا ما شرع من الكفارة

يوضح ذلك أن النبي قال من حلف بملة غير الإسلام كاذبا فهو كما قال أخرجاه في الصحيحين فجعل اليمين الغموس في قوله هو يهودي أو نصراني إن فعل كذا كالغموس في قوله والله ما فعلت كذا إذ هو في كلا الأمرين قد قطع عهده من الله حيث علق الإيمان بأمر معدوم والكفر بأمر موجود بخلاف اليمين على المستقبل

وطرد هذا المعنى أن اليمين الغموس إذا كانت في النذر أو الطلاق أو العتاق وقع المعلق به ولم ترفعه الكفارة كما يقع الكفر بذلك في أحد تولى العلماء وبهذا يحصل الجواب على قولهم المراد به اليمين المشروعة

وأيضا فقوله ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم فإن السلف مجمعون أو كالمجمعين على أن معناها لا تجعلوا الله مانعا لكم إذا حلفتم به من البر والتقوى والإصلاح بين الناس بأن يحلف الرجل أن لا يفعل معروفا مستحبا أو واجبا أو ليفعلن مكروها حراما او نحوه فإذا قيل له افعل ذلك أو لا تفعل هذا قال قد حلفت بالله فيجعل الله عرضة ليمينه

فإذا كان الله قد نهى عباده أن يجعلوا نفسه مانعا لهم بالحلف به من البر والتقوى فالحلف بهذه الأيمان إن كان داخلا في عموم الحلف وجب أن لا يكون مانعا وإن لم يكن داخلا فهو أولى أن لا يكون مانعا من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى فإنه إذا نهى عن أن يكون هو سبحانه عرضة لأيماننا أن نبر ونتقى فغيره أولى أن نكون منتهين عن جعله عرضة لأيماننا وإذا ثبت أننا منهيون عن أن نجعل شيئا من الأشياء عرضة لأيماننا أن نبر ونتقى

ونصلح بين الناس فمعلوم أن ذلك إنما هو لما في البر والتقوى والإصلاح مما يحبه الله ويأمر به

فإذا حلف الرجل بالنذر أو بالطلاق أو بالعتاق أن لا يبر ولا يتقي ولا يصلح فهو بين أمرين إن وفى ذلك فقد جعل هذه الأشياء عرضة ليمينه أن يبر ويتقى ويصلح بين الناس وإن حنث فيها وقع عليه الطلاق ووجب عليه فعل المنذور فقد يكون خروج أهله وماله عنه أبعد عن البر والتقوى من الأمر المحلوف عليه فإن أقام على يمينه ترك البر والتقوى وإن خرج عن أهله وماله ترك البر والتقوى فصارت عرضة ليمينه أن يبر ويتقى فلا يخرج عن ذلك إلا بالكفارة وهذا المعنى هو الذي دلت عليه السنة

ففي الصحيحين من حديث همام عن أبي هريرة قال قال رسول الله والله لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطى كفارته التي افترض الله عليه ورواه البخاري أيضا من حديث عكرمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله من استلج في أهله فهو أعظم إنما فأخبر النبي أن اللجاج باليمين في أهل الحالف أعظم إثما من التكفير واللجاج هو التمادي في الخصومة ومنه قيل رجل لجوج إذا تمادى في المخاصمة ولهذا تسمى العلماء هذا نذر اللجاج والغضب فإنه يلج حتى يعقده ثم يلج في الإمتناع من الحنث فبين النبي أن اللجاج باليمين أعظم إثما من الكفارة وهذا عام في جميع الأيمان

وأيضا فإن النبي قال لعبد الرحمن بن سمرة إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فائت الذي هو خير وكفر عن يمينك أخرجاه في الصحيحين وفي رواية في الصحيحين فكفر عن يمينك وائت هو الذي خير وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله قال من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه

وليفعل الذي هو خير وفي رواية فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه وهذا نكرة في سياق الشرط فيعم كل حلف على يمين كائنا ما كان الحلف فإذا رأى غير اليمين المحلوف عليها خيرا منها وهو أن يكون اليمين المحلوف عليها تركا لخير فيرى فعله خيرا من تركه أو يكون فعلا شر فيرى تركه خيرا من فعله فقد أمره النبي أن يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه

وقوله هنا على يمين هو والله أعلم من باب تسمية المفعول باسم المصدر سمى الأمر المحلوف عليه يمينا كما سمى المخلوق خلقا والمضروب ضربا والمبيع بيعا ونحو ذلك

وكذلك أخرجا في الصحيحين عن أبي موسى الأشعرى في قصته وقصة أصحابه لما جاءوا إلى النبي يستحملونه فقال والله ما أحملكم وما عندي ما أحملكم عليه ثم قال إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها وفي رواية في الصحيحين إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير

وروى مسلم في صحيحه عن عدى بن حاتم قال قال رسول الله إذا حلف أحدكم على اليمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفرها وليأت الذي هو خير وفي رواية لمسلم أيضا من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفرها وليأت الذي هو خير

وقد رويت هذه السنة عن النبي من غير هذه الوجوه من حديث عبد الله بن عمر وعوف بن مالك الجشمي

فهذه نصوص رسول الله المتواترة أنه أمر من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها أن يكفر يمينه ويأتي الذي هو خير ولم يفرق

بين الحلف بالله أو النذر ونحوه ورواه النسائي عن أبي موسى قال قال رسول الله ما على الأرض يمين أحلف عليها فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيته وهذا صريح في أنه قصد تعميم كل يمين في الأرض وكذلك أصحابه فهموا منه دخول الحلف بالنذر في هذا الكلام

فروى أبو داود في سنته حدثنا محمد بن المنهال حدثنا يزيد بن زريع حدثنا حبيب بن المعلم عن عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال إن عدت تسألني القسمة فكل مالي في رتاج الكعبة فقال له عمر إن الكعبة غنية عن مالك كفر عن يمينك وكلم أخاك سمعت رسول الله يقول لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة الرحم ولا فيما لا تملك

فهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه أمر هذا الذي حلف بصيغة الشرط ونذر نذر اللجاج والغضب بأن يكفر عن يمينه وأن لا يفعل ذلك المنذور واحتج بما سمعه من النبي أنه قال لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة الرحم ولا فيما لا تملك

ففهم من هذا أن من حلف بيمين أو نذر على معصية أو قطيعة فإنه لا وفاء عليه في ذلك النذر وإنما عليه الكفارة كما أفتاه عمر ولولا أن هذا النذر كان عنده يمينا لم يقل له كفر عن يمينك وإنما قال النبي لا يمين ولا نذر لأن اليمين ما قصد بها الحض أو المنع والنذر ما قصد به التقرب وكلاهما لا يوفى به في المعصية والقطيعة

وفي هذا الحديث دلالة أخرى وهى أن قول النبي لا يمين ولا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة الرحم يعم جميع ما يسمى يمينا أو نذرا سواء كانت اليمين بالله أو كانت بوجوب ما ليس بواجب من الصدقة أو الصيام أو الحج أو الهدى أو كانت بتحريم الحلال كالظهار والطلاق والعتاق

ومقصود النبي إما أن يكون نهيه عن فعل المحلوف عليه من المعصية والقطيعة فقط أو يكون مقصوده مع ذلك أنه لا يلزمه ما في اليمين والنذر من الإيجاب والتحريم

وهذا الثاني هو الظاهر لاستدلال عمر بن الخطاب به فإنه لولا أن الحديث يدل على هذا لم يصح استدلال عمر بن الخطاب به على ما أجاب به السائل من الكفارة دون إخراج المال في كسوة الكعبة ولأن لفظ النبي يعم ذلك كله

وأيضا فمما يبين دخول الحلف بالنذر والطلاق والعتاق في اليمين والحلف في كلام الله ورسوله ما روى ابن عمر قال قال رسول الله من حلف على يمين فقال أن شاء الله فلا حنث عليه رواه أحمد والنسائي وابن ماجة والترمذي وقال حديث حسن ولفظ أبي داود قال حدثنا سفيان عن أيوب عن نافع عن ابن عمر يبلغ به النبي قال من حلف على يمين فقال إن شاء الله فقد استثنى ورواه أيضا من طريق عبد الوارث عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله من حلف فاستثنى فإن شاء رجع وإن شاء ترك غير حنث

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث رواه أحمد والترمذي وابن ماجة ولفظه فله ثنياه والنسائي وقال فقد استثنى

ثم عامة الفقهاء أدخلوا الحلف بالنذر وبالطلاق وبالعتاق في هذا الحديث وقالوا ينفع فيه الاستثناء بالمشيئة بل كثير من أصحاب أحمد يجعل الحلف بالطلاق لا خلاف فيه في مذهبه وإنما الخلاف فيما إذا كان بصيغة الجزاء وإنما الذي لا يدخل عند أكثرهم هو نفس إيقاع الطلاق والعتاق والفرق بين إيقاعهما والحلف بهما ظاهر وسنذكر إن شاء الله قاعدة الاستثناء

فإذا كانوا قد أدخلوا الحلف بهذه الأشياء في قوله من حلف على يمين فقال إن شاء الله فلا حنث عليه فكذلك يدخل في قوله من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه فإن كلا اللفظين سواء وهذا واضح لمن تأمله

فإن قوله من حلف على يمين فقال إن شاء الله فلا حنث عليه لفظ العموم فيه مثله في قوله من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه وإذا كان لفظ رسول الله في حكم الاستثناء هو لفظه في حكم الكفارة وجب أن يكون كل ما ينفع فيه الاستثناء ينفع فيه التكفير وكل ما ينفع فيه التكفير ينفع فيه الاستثناء كما نص عليه أحمد في غير موضع

ومن قال إن الرسول قصد بقوله من حلف على يمين فقال إن شاء الله فلا حنث عليه جميع الأيمان التي يحلف بها من اليمين بالله وبالنذر وبالطلاق وبالعتاق وأما قوله من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها إلخ إنما قصد به اليمين بالله أو اليمين بالله والنذر فقوله ضعيف فإن حضور موجب أحد اللفظين بقلب النبي مثل حضور موجب اللفظ الآخر إذ كلاهما لفظ واحد والحكم فيهما من جنس واحد وهو رافع اليمين إما بالاستثناء وإما بالتكفير

وعند هذا فاعلم أن الأمة انقسمت في دخول الطلاق والعتاق في حديث الاستثناء على ثلاثة أقسام

فقوم قالوا يدخل في ذلك الطلاق والعتاق أنفسهما حتى لو قال أنت طالق إن شاء الله وأنت حر إن شاء الله دخل ذلك في عموم الحديث وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وغيرهما

وقوم قالوا لا يدخل في ذلك الطلاق والعتاق لا إيقاعهما ولا الحلف بهما

يوضح ذلك أنه إذا عقد اليمين بالله فهو عقد لها بإيمانه بالله وهو ما في قلبه من إجلال الله وإكرامه الذي هو حق الله ومثله الأعلى في السموات والأرض كما أنه إذا سبح الله وذكره فهو مسبح له وذاكر له بقدر ما في قلبه من معرفته وعبادته ولذلك جاء التسبيح تارة لاسم الله كما في قوله سبح اسم ربك الأعلى كما أن الذكر يكون تارة لاسم الله كما في قوله واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا وكذلك الذكر مع التسبيح في قوله يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا فحيث عظم العبد ربه بتسبيح اسمه أو الحلف به أو الاستعاذة به فهو مسبح له بتوسط المثل الأعلى الذي في قلبه من معرفته وعبادته وعظمته ومحبته علما وقصدا وإجلالا وإكراما وحكم الإيمان والكفر إنما يعود إلى ما كسبه قلبه من ذلك كما قال سبحانه لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم وكما قال في موضع آخر ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان

فلو اعتبر الشارع ما في لفظ القسم من انعقاده بالإيمان وارتباطه به دون قصد الحلف لكان موجبه أنه إذا حنث يتغير إيمانه بزوال حقيقته كما في قوله لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن كما أنه إذا حلف على ذلك يمينا فاجرة كانت من الكبائر إذ قد اشترى بها ثمنا قليلا فلا خلاق له في الآخرة ولا يكلمه الله يوم القيامة ولا يزكيه وله عذاب أليم

لكن الشارع علم أن الحالف بها ليفعلن أو لا يفعل ليس غرضه الاستخفاف بحرمة اسم الله والتعلق به كغرض الحالف في اليمين الغموس فشرع له الكفارة لأنه حل هذه العقدة وأسقطها عن لغو اليمين لأنه لم يعقد قلبه شيئا من الخيانة على إيمانه فلا حاجة إلى الكفارة

وإذا ظهر أن موجب اليمين انعقاد الفعل بهذا الإيمان الذي هو إيمانه بالله

وقال هرقل في جوابه سألتك هل يغدر فذكرت أنه لا يغدر وكذلك الرسل لا تغدر فجعل هذا صفة لازمة للمرسلين

وفي الصحيحين عن عقبة بن عامر أن رسول الله قال إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج فدل على استحقاق الشروط بالوفاء وأن شروط النكاح أحق بالوفاء من غيرها

وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال قال الله تعالى ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حرا ثم أكل ثمنه ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره فذم الغادر وكل من شرط شرطا ثم نقصه فقد غدر

فقد جاء الكتاب والسنة بالأمر بالوفاء بالعهود والشروط والمواثيق والعقود وبأداء الأمانة ورعاية ذلك والنهي عن الغدر ونقض العهود والخيانة والتشديد على من يفعل ذلك

ولما كان الأصل فيها الحظر والفساد إلا ما أباحه الشرع لم يجز أن يؤمر بها مطلقا ويذم من نقضها وغدر مطلقا كما أن قتل النفس لما كان الأصل فيه الحظر إلا ما أباحه الشرع أو أوجبه لم يجز أن يؤمر بقتل النفس ويحمل على القدر المباح بخلاف ما كان جنسه واجبا كالصلاة والزكاة فإنه يؤمر به مطلقا وإن كان لذلك شروط وموانع فينهى عن الصلاة بغير طهارة وعن الصدقة بما يضر النفس ونحو ذلك وكذلك الصدق في الحديث مأمور به وإن كان قد يحرم الصدق أحيانا لعارض ويحج السكوت أو التعريض

وإذا كان جنس الوفاء ورعاية العهد مأمورا به علم أن الأصل صحة العقود والشروط إذ لا معنى للتصحيح إلا ما ترتب عليه أثره وحصل به مقصوده ومقصود العقد هو الوفاء به فإذا كان الشارع قد أمر بمقصود العهود دل على أن الأصل فيها الصحة والإباحة

إذا كانت مقصودة احتاج إلى استئجارها واحتاج مع ذلك إلى اشتراء الثمرة ولا يتم غرضه من الانتفاع إلا بأن يكون له ثمرة يأكلها فإن مقصوده الانتفاع بالسكنى في ذلك المكان والأكل من الثمر الذي فيه ولهذا إذا كان المقصود الأعظم هو السكنى والشجر قليل مثل أن يكون في الدار نخلات أو غريس عنب ونحو ذلك فالجواز هنا مذهب مالك وقياس أكثر نصوص أحمد وغيره وإن كان المقصود مع السكنى التجارة في الثمر وهو أكثر من منفعة السكنى فالمنع هنا أوجه منه في التي قبلها كما فرق بينهما مالك وأحمد وإن كان المقصود السكنى والأكل فهو شبيه بما لو قصد السكنى والشرب من البئر وإن كان ثمن المأكول أكثر فهنا الجواز فيه أظهر من التي قبلها ودون الأولى على قول من يفرق وأما على قول ابن عقيل المأثور عن السلف فالجمع جائز كما قررناه لأجل الجمع فإن اشترط مع ذلك أن يحرث له المضمن مقتاة فهو كما لو استأجر أرضا من رجل للزرع على أن يحرثها المؤجر فقد استأجر أرضه واستأجر منه عملا في الذمة وهذا جائز كما لو استكرى منه جملا أو حمارا على أن يحمل المؤجر للمستأجر عليه متاعه وهذه إجارة عين وإجارة على عمل في الذمة إلا أن يشترط عليه أن يكون هو الذي يعمل العمل فيكون قد استأجر عينين

ولو لم تكن السكنى المقصودة وإنما المقصود ابتياع ثمرة في بستان ذي أجناس والسقي على البائع فهذا عند الليث يجوز وهو قياس القول الثالث الذي ذكرناه عند أصحابنا وغيرهم وقررناه لأن الحاجة إلى الجمع بين الجنسين كالحاجة إلى الجمع بين بيع الثمرة والمنفعة وربما كان أشد فإنه قد لا يمكن بيع كل جنس عند بدو صلاحه فإنه في كثير من الأوقات لا يحصل ذلك وفي بعضها إنما يحصل بضرر كثير وقد رأيت من يواطئ المشتري على ذلك ثم كلما صلحت ثمرة يقسط عليها بعض الثمن وهذا من الحيل الباردة التي لا تخفى حالها كما تقدم وما يزال العلماء والمؤمنون ذوو الفطر السليمة ينكرون تحريم

وتعريف المضاف إليه فالبيع المذكور للثمر هو بيع الثمر الذي يعهدونه دخل كدخول القرن الثاني والثالث فيما خاطب به الرسول أصحابه

ونظير هذا ما ذكره أحمد في نهى النبي عن بول الرجل في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل منه فحمله على ما كان معهودا على عهده من المياه الدائمة كالأبيار والحياض التي بين مكة والمدينة فأما المصانع الكبار التي لا يمكن نزحها التي أحدثت بعده فلم يدخله في العموم لوجود الفارق المعنوي وعدم العموم اللفظي

يدل على عدم العموم في مسألتنا أن في الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله نهى عن بيع الثمار حتى تزهى قيل وما تزهى قال تحمر وتصفر وفي لفظ نهى عن بيع الثمر حتى يزهو ولفظ مسلم نهى عن بيع ثمر النخل حتى يزهو ومعلوم أن ذلك هو ثمر النخل كما جاء مقيدا لأنه هو الذي يزهو فيحمر أو يصفر وإلا فمن الثمار ما يكون نضجها بالبياض كالتوت والتفاح والعنب الأبيض والإجاص الأبيض الذي يسميه أهل دمشق الخوخ والخوخ الأبيض الذي يسمى الفرسك ويسميه الدمشقيون الدراق أو باللين ! بلا تغير لون كالتين ونحوه ولذلك جاء في الصحيحين عن جابر قال نهى النبي عن بيع الثمرة حتى تشقح قيل وما تشقح قال تحمار وتصفار ويؤكل منها وهذه الثمرة هي الرطب وكذلك في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله لا تبتاعوا الثمار حتى يبدو صلاحها ولا تبتاعوا التمر بالتمر والتمر الثاني هو الرطب بلا ريب فكذلك الأول لأن اللفظ واحد وفي صحيح مسلم قال قال رسول الله لا تبتاعوا التمر حتى يبدو صلاحه وتذهب عنه الآفة وقال بدو صلاحه حمرته وصفرته فهذه الأحاديث التي فيها لفظ التمر

وأما غيرها فصريح في النخل كحديث ابن عباس المتفق عليه نهى رسول الله عن بيع النخل حتى يأكل منه أو يؤكل منه وفي رواية لمسلم عن ابن عمر أن رسول الله نهى عن بيع النخل حتى يزهو وعن السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة نهى البائع والمشتري والمراد بالنخل ثمره بالاتفاق لأنه قد جوز اشتراء النخل المؤبر مع اشتراط المشتري لثمرته

فهذه النصوص ليست عامة عموما لفظيا في كل ثمرة في الأرض وإنما هي عامة لفظا لكل ما عهده المخاطبون وعامة معنى لكل ما كان في معناه وما ذكرنا عدم تحريمه ليس بمنصوص على تحريمه ولا في معناه فلم يتناوله دليل الحرمة فيبقى على الحل وهذا وحده دليل على عدم التحريم وبه يتم ما نبهنا عليه أولا من أن الأدلة النافية للتحريم من الأدلة الشرعية والاستصحابية تدل على ذلك لكن بشرط نفي الناقل المغير وقد بينا انتفاءه

الطريق الثاني أن نقول وإن سلمنا العموم اللفظي لكن ليست هي مراده بل هي مخصوصة بما ذكرناه من الأدلة التي تخص مثل هذا العموم فإن هذا العموم مخصوص بالسنة والإجماع في الثمر التابع لشجره حيث قال النبي من ابتاع نخلا لم يؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع أخرجاه من حديث ابن عمر فجعلها للمبتاع إذا اشترطها بعد التأبير ومعلوم أنها حينئذ لم يبد صلاحها ولا يجوز بيعها مفردة والعموم المخصوص بالنص أو الإجماع يجوز أن يخص منه صورة في معناه عند جمهور الفقهاء من سائر الطوائف ويجوز أيضا تخصيصه بالإجماع وبالقياس القوي وقد ذكرنا من آثار السلف ومن المعاني ما يخص مثل هذا لو كان عاما أو بالاشتداد بلا تغير لون كالجوز واللوز فبدو الصلاح في الثمار متنوع تارة يكون بالرطوبة بعد اليبس وتارة باليبس بعد الرطوبة وتارة بتغير لونه بحمرة أو صفرة أو بياض وتارة لا يتغير

وإذا كان قد نهى عن بيع الثمر حتى يحمر أو يصفر علم أن هذا اللفظ لم يشمل جميع أصناف الثمار وإنما يشمل ما تأتي فيه الحمرة والصفرة وقد جاء مقيدا أنه النخل

فتدبر ما ذكرناه في هذه المسألة فإنه عظيم المنفعة في هذه القصة التي عمت بها البلوى وفي نظائرها وانظر في عموم كلام الله ورسوله لفظا ومعنى حتى تعطيه حقه وأحسن ما تستدل به على معناه آثار الصحابة الذين كانوا أعلم بمقاصده فإن ضبط ذلك يوجب توافق أصول الشريعة وجريها على الأصول الثابتة المذكورة في قوله تعالى 7 : 157 يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم

وأما نهيه عن المعاومة الذي جاء مفسرا في رواية أخرى بأنه بيع السنين فهو والله أعلم مثل نهيه عن بيع حبل الحبلة إنما نهى أن يبتاع المشتري الثمرة التي يستثمرها رب الشجرة وأما اكتراء الأرض والشجرة حتى يستثمرها فلا يدخل هذا في البيع المطلق وإنما هو نوع من الإجارة

ونظير هذا ما تقدم من حديث جابر في الصحيح من أنه نهى عن كراء الأرض وأنه نهى عن المخابرة وأنه نهى عن المزارعة وأنه قال لا تكروا في الأرض فإن المراد بذلك الكراء الذي كانوا يعتادونه كما جاء مفسرا وهي المخابرة والمزارعة التي كانوا يعتادونها فنهاهم عما كانوا يعتادونه من الكراء أو المعاومة الذي يرجع حاصله إلى بيع الثمرة قبل أن تصلح وإلى المزارعة المشروط فيها جزء معين

وهذا نهى عما فيه مفسدة راجحة هذا نهى عن الغرر في جنس البيع وذاك نهى عن الغرر في جنس الكراء العام الذي يدخل فيه المساقاة والمزارعة وقد بين في كل منهما أن هذه المبايعة وهذه المكاراة كانت تفضي إلى الخصومة

والشنآن وهو ما ذكره الله في حكمة تحريم الميسر بقوله 5 : 91 إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر

فصل

عدل

ومن القواعد التي أدخلها قوم من العلماء في الغرر المنهي عنه أنواع من الإجارات والمشاركات كالمساقاة والمزارعة ونحو ذلك

فذهب قوم من الفقهاء إلى أن المساقاة والمزارعة حرام باطل بناء على أنها نوع من الإجارة لأنها عمل بعوض والإجارة لا بد أن يكون الأجر فيها معلوما لأنها كالثمن ولما روى أحمد عن أبي سعيد أن النبي نهى عن استئجار الأجير حتى يتبين له أجره وعن النجش واللمس وإلقاء الحجر وأن العوض في المساقاة والمزارعة مجهول لأنه قد يخرج الزرع والثمر قليلا وقد يخرج كثيرا وقد يخرج على صفات ناقصة وقد لا يخرج فإن منع الله الثمرة كان استيفاء عمل العامل باطلا وهذا قول أبي حنيفة وهو أشد الناس قولا بتحريم هذا

وأما مالك والشافعي فالقياس عندهما ما قاله أبو حنيفة إدخالا لذلك في الغرر لكن جوزا منه ما تدعو إليه الحاجة

فجوز مالك والشافعي في القديم المساقاة مطلقا لأن كراء الشجر لا يجوز لأنه بيع للثمر قبل بدو صلاحه والمالك قد يتعذر عليه سقي شجره وخدمته فيضطر إلى المساقاة بخلاف المزارعة فإنه يمكنه كراء الأرض بالأجر المسمى فيغنيه ذلك عن المزارعة عليه تبعا لكن جوزا من المزارعة ما يدخل في المساقاة تبعا فإذا كان بين الشجر بياض قليل جازت المزارعة عليه تبعا للمساقاة

ومذهب مالك أن زرع ذلك البياض للعامل بمطلق العقد فإن شرطاه بينهما جاز وهذا إذا لم يتجاوز الثلث

والشافعي لا يجعله للعامل لكن يقول إذا لم يمكن سقي الشجر إلا بسقيه

جازت المزارعة عليه ولأصحابه في البياض إذا كان كثيرا أكثر من الشجر وجهان

وهذا إذا جمعهما في صفقة واحدة فإن فرق بينهما في صفقتين فوجهان

أحدهما لا يجوز بحال لأنه إنما جاز تبعا فلا يفرد بعقد

والثاني يجوز إذا ساقى ثم زارع لأنه يحتاج إليه حينئذ وأما إذا قدم المزارعة لم يجز وجها واحدا وهذا إذا كان الجزء المشروط فيهما واحدا كالثلث والربع فإن فاضل بينهما ففيه وجهان

وروى عن قوم من السلف منهم طاووس والحسن وبعض الخلف المنع من إجارتها بالأجرة المسماة وإن كانت دراهم أو دنانير

وروى حرب عن الأوزاعي أنه سئل هل يصلح اكتراء الأرض فقال اختلف فيه فجماعة من أهل العلم لا يرون باكترائها بالدينار والدرهم بأسا وكره ذلك آخرون منهم وذلك لأن ذلك في معنى بيع الغرر لأن المستأجر يلتزم الأجرة بناء على ما يحصل له من الزرع وقد لا ينبت الزرع فيكون بمنزلة اكتراء الشجرة لاستثمارها وقد كان طاووس يزارع ولأن المزارعة أبعد عن الغرر من المؤاجرة لأن المتعاملين في المزارعة إما أن يغنما جميعا أو يغرما جميعا فتذهب منفعة بدن هذا وبقره ومنفعة أرض هذا وذلك أقرب إلى العدل من أن يحصل أحدهما على شيء مضمون ويبقى الآخر تحت الخطر إذ المقصود بالعقد هو الزرع لا القدرة على حرث على الأرض وبذرها وسقيها

وعذر الفريقين مع هذا القياس ما بلغهم من الآثار عن النبي من نهيه عن المخابرة وعن كراء الأرض كحديث رافع بن خديج وحديث جابر فعن نافع أن ابن عمر كان يكرى مزارعه على عهد النبي وفي إمارة أبي بكر وعمر وعثمان وصدرا من إمارة معاوية ثم حدث عن رافع بن خديج أن النبي نهى عن كراءالمزارع فذهب ابن عمر إلى رافع فذهبت معه فسأله فقال نهى النبي صلى الله

هذا إذا أكرى الأرض والشجر أو الشجرة وحدها لأن يخدمها ويأخذ الثمرة بعوض معلوم فإن باعه الثمرة فقط وأكراه الأرض للسكنى فهنا لا يجيء إلا الأصل الأول المذكور عن ابن عقيل وبعضه عن مالك وأحمد في إحدى الروايتين إذا كان الأغلب هو السكنى وهو أن الحاجة داعية إلى الجمع بينهما فيجوز في الجمع ما لا يجوز في التفريق كما تقدم من النظائر وهذا إذا كان كل واحد من السكنى والثمرة مقصود كما يجري في حوائط دمشق فإن البستان يكتري في المدة الصيفية للسكنى فيه وأخذ ثمره من غير عمل على الثمرة أصلا بل العمل على المكري المضمن

وعلى ذلك الأصل فيجوز وإن كان الثمر لم يطلع بحال سواء كان جنسا واحدا أو أجناسا متفرقة كما يجوز مثل ذلك في القسم الأول فإنه إنما جاز لأجل الجمع بينه وبين المنفعة وهو في الحقيقة جمع بين بيع وإجارة بخلاف القسم الأول فإنه قد يقال هو إجارة لأن مؤنة توفية الثمر هنا على المضمن وبعمله يصير ثمرا بخلاف القسم الأول فإنه إنما يصير مثمرا بعمل المستأجر ولهذا يسميه الناس ضمانا إذ ليس هو بيعا محضا ولا إجارة محضة فسمى باسم الالتزام العام في المعاوضات وغيرها وهوالضمان كما يسمي الفقهاء مثل ذلك في قوله ألق متاعك في البحر وعلي ضمانه وكذلك يسمى القسم الأول ضمانا أيضا لكن ذلك يسمى إجارة وهذا إذا سمي إجارة أو اكتراء فلأن بعضه إجارة أو اكتراء وفيه بيع أيضا

فأما إن كانت المنفعة ليست مقصودة أصلا وإنما جاءت لأجل جداد الثمرة مثل أن يشتري عنبا أو بلحا ويريد أن يقيم في الحديقة لقطافه فهذا لا يجوز قبل بدو صلاحه لأن المنفعة إنما قصدت هنا لأجل الثمر فلا يكون الثمر تابعا لها ولا يحتاج إلى إجارتها إلا إذا جاز بيع الثمر بخلاف القسم الذي قبله فإن المنفعة

كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه فإن لم يفعل فليمسك أرضه أخرجاه وهذا لفظ البخاري ولفظ مسلم كنا في زمان رسول الله نأخذ الأرض بالثلث أو الربع بالماذيانات فقام رسول الله في ذلك فقال من كانت له أرض فليزرعها فإن لم يزرعها فليمنحها أخاه فإن لم يمنحها أخاه فليمسكها وفي رواية الصحيح ولا يكريها وفي رواية في الصحيح نهى عن كراء الأرض

وقد ثبت أيضا في الصحيحين عن جابر قال نهى النبي عن المحاقلة والمزابنة والمعاومة والمخابرة وفي رواية في الصحيحين عن زيد ابن أبي أنيسة عن عطاء عن جابر أن رسول الله نهى عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة وأن يشترى النخل حتى يشقه والإشقاه أن يحمر أو يصفر أو يؤكل منه شئ والمحاقلة أن يباع الحقل بكيل من الطعام معلوم والمزابنة أن يباع النخل بأوساق من التمر والمخابرة الثلث والربع وأشباه ذلك قال زيد قلت لعطاء بن أبي رباح أسمعت جابرا يذكر هذا عن رسول الله فقال نعم فهذه الأحاديث قد يستدل بها من ينهى عن المؤاجرة والمزارعة لأنه نهى عن كرائها والكراء يعمها لأنه قال فليزرعها أو ليمنحها أخاه فإن لم يفعل فليمسكها فلم يرخص إلا في أن يزرعها أو يمنحها لغيره ولم يرخص في المعارضة عنه لا بمؤاجرة ولا بمزارعة

ومن يرخص في المزارعة دون المؤاجرة يقول الكراء هو الإجارة أو المزارعة الفاسدة التي كانوا يفعلونها بخلاف المزارعة الصحيحة التي ستأتي أدلتها والتي كان النبي يعامل بها أهل خيبر وعمل بها الخلفاء الراشدون وسائر الصحابة من بعده يؤيد ذلك أن ابن عمر الذي ترك كراء الأرض لما حدثه رافع كان يروي

مثل هذا مع أن أصول الشريعة تنافي تحريمه لكن ما سمعوه من العمومات اللفظية والقياسية التي اعتقدوا شمولها من قول العلماء الذين يدرجون هذا في العموم هو الذي أوجب ما أوجب وهو قياس ما قررناه من جواز بيع المقتاة جميعها بعد بدو صلاحها لأن تفريق بعضها متعسر أو متعذر كتعسر تفريق الأجناس في البستان الواحد وإن كانت المشقة في المقتاة أوكد ولهذا جوزها من منع الأجناس كمالك

فإن قيل هذه الصورة داخلة في عموم نهى النبي عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه بخلاف ما إذا أكراه الأرض والشجر ليعمل عليه فإنه كما قررتم ليس بداخل في العموم لأنه إجارة لمن يعمل لا بيع لمعين وأما هذا فبيع للثمرة فيدخل في النهى فكيف تخالفون النهى

قلنا الجواب عن هذا كالجواب عما يجوز بالسنة والإجماع من ابتياع الشجر مع ثمره الذي لم يبد صلاحه وابتياع الأرض مع زرعها الذي لم يشتد حبه وما نصرناه من ابتياع المقاتي مع أن بعض خضرها لم يخلق وجواب ذلك بطريقين

أحدهما أن يقال إن النهى لم يشمل بلفظه هذه الصورة لأن نهيه عن بيع الثمر انصرف إلى البيع المعهود عند المخاطبين وما كان مثله لأن لام التعريف تنصرف إلى ما يعرفه المخاطبون فإن كان هنالك شخص معهود أو نوع معهود انصرف الكلام إليه كما انصرف اللفظ إلى الرسول المعين في قوله تعالى 24 : 62 لا تجعلوا الرسول دعاء بينكم كدعاء بعضكم بعضا وفي قوله 73 : 16 فعصى فرعون الرسول وإلى النوع المخصوص نهيه عن بيع الثمر فإنه لا خلاف بين المسلمين أن المراد بالثمر هنا الرطب دون العنب وغيره وإن لم يكن المعهود شخصيا ولا نوعيا انصرف إلى

افتتحت خيبر سألت يهود رسول الله أن يقرهم فيها على أن يعملوا على نصف ما خرج منها من الثمر والزرع فقال رسول الله أقركم فيها على ذلك ما شئنا وكان الثمر على السهمان من نصف خيبر فيأخذ رسول الله الخمس وفي رواية مسلم عن عبد الله بن عمر عن رسول الله أنه دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعتملوها من أموالهم وللرسول شطر ثمرها وعن ابن عباس أن رسول الله أعطى خيبر أهلها على النصف نخلها وأرضها رواه الإمام أحمد وابن ماجة وعن طاوس أن معاذ بن جبل أكرى الأرض على عهد رسول الله وأبي بكر وعمر وعثمان على الثلث والربع فهو يعمل به إلى يومك هذا رواه ابن ماجة وطاوس كان بالمين وأخذ عن أصحاب معاذ الذين باليمن من أعيان المخضرمين وقوله وعمر وعثمان أي كنا نفعل كذلك على عهد عمر وعثمان فحذف الفعل لدلالة الحال عليه لأن المخاطبين كانوا يعلمون أن معاذا خرج من اليمن في خلافة الصديق وقدم الشام في خلافة عمر ومات بها في خلافته قال البخاري في صحيحه وقال قيس ابن مسلم عن أبي جعفر يعني الباقر ما بالمدينة دار هجرة إلا يزرعون على الثلث والربع قال وزارع علي وسعد ابن مالك وعبد الله بن مسعود وعمر بن عبد العزيز والقاسم وعروة وآل أبي بكر وآل عمر وآل علي وابن سيرين وعامل عمر الناس على انه إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا وهذه الآثار التي ذكرها البخاري قد رواها غير واحد من المصنفين في الآثار

فإذا كان جميع المهاجرين كانوا يزرعون والخلفاء الراشدون وأكابر الصحابة والتابعين من غير أن ينكر ذلك منكر لم يكن إجماع أعظم من هذا بل إن كان في الدنيا إجماع فهو هذا لا سيما وأهل بيعة الرضوان جميعهم زارعوا

على عهد رسول الله بعده إلى أن أجلا عمر اليهود إلى تيماء

وقد تأول من أبطل المزارعة والمساقاة ذلك بتأويلات مردودة مثل أن قال كان اليهود عبيدا للنبي والمسلمين فجعلوا ذلك مثل المخارجة بين العبد وسيده

ومعلوم بالنقل المتواتر أن النبي صالحهم ولم يسترقهم حتى أجلاهم عمر ولم يبعهم ولا مكن أحدا من المسلمين من استرقاق أحد منهم

ومثل أن قال هذه معاملة مع الكفار فلا يلزم أن تجوز مع المسلمين وهذا مردود فإن خيبر كانت قد صارت دار إسلام وقد أجمع المسلمون أنه يحرم في دار الإسلام بين المسلمين وأهل العهد ما يحرم بين المسلمين من المعاملات الفاسدة ثم إنا قد ذكرنا أن النبي عامل بين المهاجرين والأنصار وأن معاذ بن جبل عامل على عهده أهل اليمن بعد إسلامهم على ذلك وأن الصحابة كانوا يعاملون بذلك والقياس الصحيح يقتضي جواز ذلك مع عمومات الكتاب والسنة المبيحة أو النافية للحرج ومع الاستصحاب وذلك من وجوه

أحدها أن هذه المعاملة مشاركة ليست مثل المؤاجرة المطلقة فإن النماء الحادث يحصل من منفعة أصلين منفعة العين التي لهذا كبدنه وبقره ومنفعة العين التي لهذا كأرضه وشجره كما تحصل المغانم بمنفعة أبدان الغانمين وخيلهم وكما يحصل مال الفيء بمنفعة أبدان المسلمين من قوتهم ونصرهم بخلاف الإجارة فإن المقصود فيها هو العمل أو المنفعة فمن استأجر لبناء أو خياطة أو شق الأرض أو بذرها أو حصاد فإذا وافاه ذلك العمل فقد استوفى المستأجر مقصوده بالعقد واستحق الأجير أجره ولذلك يشترط في الإجارة اللازمة أن يكون العمل مضبوطا كما يشترط مثل ذلك في المبيع وهنا منفعة بدن العامل وبدن بقره وحديده هو مثل منفعة أرض المالك وشجره ليس مقصود واحد منهما استيفاء منفعة الآخر وإنما مقصودهما جميعا ما يتولد من اجتماع المنفعتين فإن حصل نماء اشتركا فيه وإن لم يحصل نماء ذهب على كل منهما منفعته فيشتركان في المغنم وفي المغرم كسائر المشتركين فيما يحدث من نماء الأصول التي لهم وهذا جنس من التصرفات يخالف في حقيقته ومقصوده وحكمه الإجارة المحضة وما فيه من شوب المعاوضة من جنس ما في الشركة من شوب المعاوضة

فإن التصرفات العدلية في الأرض جنسان معاوضات ومشاركات فالمعاوضات كالبيع والإجارة والمشاركات شركة الأملاك وشركة العقد ويدخل في ذلك اشتراك المسلمين في مال بيت المال واشتراك الناس في المباحات كمنافع المساجد والأسواق المباحة والطرقات وما يحيا من الموات أو يوجد من المباحات واشتراك الورثة في الميراث واشتراك الموصى لهم والموقوف عليهم في الوصية والوقف واشتراك التجار والصناع شركة عنان أو أبدان ونحو ذلك وهذان الجنسان هما منشأ الظلم كما قال تعالى عن داود عليه السلام 38 : 24 وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم

والتصرفات الأخرى هي الفضلية كالقرض والعارية والهبة والوصية وإذا كانت التصرفات المبنية على المعادلة هي معاوضة أو مشاركة فمعلوم قطعا أن المساقاة والمزارعة ونحوهما من جنس المشاركة ليسا من جنس المعاوضة المحضة والغرر إنما حرم بيعه في المعاوضة لأنه أكل مال الباطل وهنا لا يأكل أحدهما مال الآخر لأنه لم ينبت الزرع فإن رب الأرض يأخذ منفعة الآخر إذ هو لم يستوفها ولا ملكها بالعقد ولا هي مقصوده بل ذهبت منفعة بدنه كما ذهبت منفعة أرض هذا ورب الأرض لم يحصل له شيء حتى يكون قد أخذه والآخر لم يأخذ شيئا وبخلاف بيوع الغرر وإجارة الغرر فإن أحد المتعاوضين بأخذ شيئا والآخر يبقى تحت الخطر فيفضي إلى ندم أحدهما وخصومتهما

وهذا المعنى نتف في هذه المشاركات التي مبناها على المعادلة المحضة التي ليس فيها ظلم البتة لا في غرر ولا في غير غرر

ومن تأمل هذا تبين له مأخذه هذه الأصول وعلم أن جواز هذه أشبه بأصول الشريعة وأعرف في العقول وأبعد عن كل محذور من جواز إجارة الأرض بل ومن جواز كثير من البيوع والإجارات المجمع عليها حيث هي مصلحة محضة للخلق بلا فساد وإنما وقع اللبس فيها على من حرمها من إخواننا الفقهاء بعد ما فهموه من الآثار من جهة أنهم اعتقدوا هذا إجارة على عمل مجهول لما فيها من عمل بعوض وليس كل من عمل لينتفع بعمله يكون أجيرا كعمل الشريكين في المال المشترك وعمل الشريكين في شركة الأبدان وكاشتراك الغانمين في المغانم ونحو ذلك مما لا يعد ولا يحصى نعم لو كان أحدهما يعمل بمال يضمنه له الآخر لا يتولد من عمله كان هذا إجارة

الوجه الثاني أن هذه من جنس المضاربة فإنها عين تنمو بالعمل عليها فجاز العمل عليها ببعض نمائها كالدراهم والدنانير والمضاربة جوزها الفقهاء الفقهاء كلهم اتباعا لما جاء فيها عن الصحابة رضي الله عنهم مع أنه لا يحفظ فيها بعينها سنة عن النبي ولقد كان أحمد يرى أن يقيس المضاربة على المساقاة والمزارعة لأنها تبتت بالنص فتجعل أصلا يقاس عليه وإن خالف فيها من خالف وقياس كل منهما على الآخر صحيح فإن من ثبت عنده جواز أحدهما أمكنه أن يستعمل فيه حكم الآخر لتساويها

فإن قيل الربح في المضاربة ليس من عين الأصل بل الأصل يذهب ويجيء بدله فالمال المقسم حصل بنفس العمل بخلاف الثمر والزرع فإنه من نفس الأصل

قيل هذا الفرق فرق في الصورة وليس له تأثير شرعي فإنا نعلم بالاضطرار أن المال المستفاد إنما حصل بمجموع منفعة بدن العامل ومنفعة رأس المال ولهذا

يرد إلى رب المال مثل رأس ماله ويقتسمان الربح كما أن العامل يبقى بنفسه التي هي نظير الدراهم وليست إضافة الربح إلى عمل بدن هذا بأولى من إضافته إلى منفعة مال هذا

ولهذا فالمضاربة التي تروونها عن عمر إنما حصلت بغير عقد لما أقرض أبو موسى الأشعري لابني عمر من مال بيت المال فتحملاه إلى أبيهما فطلب عمر جميع الربح لأنه رأى ذلك كالغصب حيث أقرضهما ولم يقرض غيرهما من المسلمين والمال مشترك وأحد الشركاء إذا اتجر في المال المشترك بدون إذن الآخر فهو كالغاصب في نصيب الشريك وقال له ابنه عبد الله الضمان كان علينا فيكون الربح لنا فأشار عليه بعض الصحابة بأن يجعله مضاربة

وهذه الأقوال الثلاثة في مثل هذه المسألة موجودة بين الفقهاء وهي ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره هل يكون ربح من اتجر بمال غيره بغير إذنه لرب المال أو للعامل أولهما على ثلاثة أقوال وأحسنها وأقيسها أن يكون مشتركا بينهما كما قضى به عمر لأن النماء متولد عن الأصلين

وإذا كان أصل المضاربة الذي اعتمدوا قد عليه راعوا فيه ما ذكرناه من الشركة فأخذ مثل الدراهم يجري مجرى عينها ولهذا سمى النبي والمسلمون بعده القرض منيحة يقال منيحة ورق ويقول الناس أعرني دراهمك يجعلون رد مثل الدراهم مثل رد عين العارية والمقترض انتفع بها وردها وسموا المضاربة قراضا لأنها في المقابلات نظير القرض في التبرعات

ويقال أيضا لو كان ما ذكروه من الفرق مؤثرا لكان اقتضاءه لتجويز المزارعة دون المضاربة أولى من العكس لأن النماء إذ حصل مع بقاء الأصلين كان أولى بالصحة من حصوله مع ذهاب أحدهما وإن قيل الزرع نماء الأرض دون البدن فقد يقال والربح نماء العامل دون الدراهم أو بالعكس وكل هذا


عليه وسلم واشترطت حملانه إلى أهلي وإن لم يكن كذلك كالعتق والوقف فله أن يستثني خدمة العبد ما عاش سيده أو عاش فلان ويستثني غلة الوقف ما عاش الواقف

ومن ذلك أن البائع إذا شرط على المشتري أن يعتق العبد صح ذلك في ظاهر مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما لحديث بريرة وإن كان عنهما قول بخلافه

ثم هل يصير العتق واجبا على المشتري كما يجب العتق بالنذر بحيث يفعله الحاكم إذا امتنع أم يملك البائع الفسخ عند امتناعه من العتق كما يملك الفسخ بفوات الصفة المشروطة في المبيع على وجهين في مذهبهما ثم الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد يرون هذا خارجا عن القياس لما فيه من منع المشتري من التصرف في ملكه بغير العتق وذلك مخالف لمقتضى العقد فإن مقتضاه الملك الذي يملك صاحبه التصرف مطلقا

قالوا وإنما جوزته السنة لأن الشارع له إلى العتق تشوف لا يوجد في غيره ولذلك أوجب فيه السراية مع ما فيه من إخراج ملك الشريك بغير اختياره وإذا كان مبناه على التغليب والسراية والنفوذ في ملك الغير لم يلحق به غيره فلا يجوز اشتراط غيره

وأصول أحمد ونصوصه تقتضي جواز شرط كل تصرف فيه مقصود صحيح وإن كان فيه منع من غيره قال ابن القاسم قيل لأحمد الرجل يبيع الجارية على أن يعتقها فأجازه فقيل له فإن هؤلاء يعني أصحاب أبي حنيفة يقولون لا يجوز البيع على هذا الشرط قال لم لا يجوز قد اشترى النبي بعير جابر واشترط ظهره إلى المدينة واشترت عائشة بريرة على أن تعتقها فلم لا يجوز هذا قال وإنما هذا شرط واحد والنهي إنما هو عن شرطين قيل له فإن شرط شرطين أيجوز قال لا يجوز

أحدها أن ذلك لا يجوز بحال وهو قول الكوفيين والشافعي وهو المشهور من مذهب أحمد عند أكثر أصحابه

والقول الثاني يجوز إذا كان الشجر قليلا وكان بياض الثلثين أو أكثر وكذلك إذا استكرى دارا فيها نخلات قليلة أو شجرات عنب ونحو ذلك وهذا قول مالك وعن أحمد كالقولين قال الكرماني قيل لأحمد الرجل يستأجر الأرض فيها نخلات قال أخاف أن يكون استأجر شجرا لم يثمر وكأنه لم يعجبه أظنه أراد الشجر لم أفهم عن أحمد أكثر من هذا

وقد تقدم عنه فيما إذا باع ربويا بجنسه معه من غير جنسه إذا كان المقصود الأكبر هو غير الجنس كشاة ذات صوف أو لبن بصوف روايتان وأكثر أصوله على الجواز كقول مالك فإنه يقول إذا ابتاع عبدا وله مال وكان مقصوده العبد جاز وإن كان المال مجهولا أو من جنس الثمن ولأنه يقول إذا ابتاع أرضا أو شجرا فيها ثمر أو زرع لم يدرك يجوز إذا كان مقصوده الأرض والشجر

وهذا في البيع نظير مسألتنا في الإجارة فإن ابتياع الأرض بمنزلة اشترائها واشتراء النخل ودخول الثمرة التي لم تأمن العاهة في البيع تبعا للأصل بمنزلة دخول ثمر النخلات والعنب في الإجارة تبعا

وحجة الفريقين في المنع ما ثبت عن النبي من نهيه عن بيع السنين وبيع الثمر حتى يبدو صلاحه كما أخرجا في الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها نهى البائع والمبتاع وفيهما عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال نهى النبي أن تباع الثمرة حتى تشقح قيل وما تشقح قال تحمار وتصفار ويؤكل منها وفي رواية لمسلم أن هذا التفسير من كلام سعيد ابن المثنى المحدث عن جابر


عليه وسلم عن كراء المزارع فقال ابن عمر قد علمت أنا كنا نكري مزارعنا بما على الأربعاء وشئ من التبن أخرجاه في الصحيحين وهذا لفظ البخاري ولفظ مسلم حتى بلغه في آخر خلافة معاوية أن رافع بن خديج يحدث فيها نهي عن النبي فدخل عليه وأنا معه فسأله فقال كان رسول الله ينهى عن كراء المزارع فتركها ابن عمر بعد فكان إذا سئل عنها بعد قال زعم رافع بن خديج أن رسول الله نهى عنها وعن سالم بن عبد الله بن عمر أن عبد الله بن عمر كان يكري أرضه حتى بلغه أن رافع بن خديج الأنصاري كان ينهى عن كراء الأرض فلقيه عبد الله فقال يا ابن خديج ماذا تحدث عن رسول الله في كراء الأرض قال رافع بن خديج لعبد الله سمعت عمى وكانا قد شهدا بدرا يحدثان أهل الدار أن رسول الله نهى عن كراء الأرض قال عبد الله لقد كنت أعلم في عهد رسول الله أن الأرض تكري ثم خشى عبد الله أن يكون رسول الله أحدث في ذلك شيئا لم يعلمه فترك كراء الأرض رواه مسلم وروى البخاري قول عبد الله الذي في آخره عن رافع بن خديج عن عمه ظهير بن رافع قال ظهير لقد نهانا رسول الله عن أمر كان بنا رافقا فقلت وما ذاك ما قال رسول الله فهو حق قال دعاني رسول الله فقال ما تصنعون بمحاقلكم فقلت نؤاجرها يا رسول الله على الربيع أو على الأوسق من التمر أو الشعير قال فلا تفعلوا ازرعوها أو ازرعوها أو أمسكوها قال رافع قلت سمعا وطاعة أخرجاه في الصحيحين وعن أبي هريرة قال قال رسول الله من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه فإن أبى فليمسك أرضه أخرجاه وعن جابر بن عبد الله قال كانوا يزرعونها بالثلث أو الربع فقال رسول الله من


الأدلة الدالة على نفي التحريم شرعا وعقلا فإن دلالة هذه إنما تتم بعد الجواب عما استدل به أصحاب القول الأول

الوجه الأول ما ذكرناه من فعل عمر في قصة أسيد بن الحضير فإنه قبل الأرض والشجر الذي فيها بالمال الذي كان للغرماء وهذا عين مسألتنا ولا يحمل ذلك على أن النخل والشجر كان قليلا فإنه من المعلوم أن حيطان أهل المدينة كان الغالب عليها الشجر وأسيد بن الحضير كان من سادات الأنصار ومياسيرهم فبعيد أن يكون الغالب على حائطه الأرض البيضاء ثم هذه القصة لا بد أن تشتهر ولم يبلغنا أن أحدا أنكرها فيكون إجماعا وكذلك ما ضربه من الخراج على السواد فإن تسميته خراجا يدل على أنه عوض عما ينتفعون به من منفعة الأرض والشجر كما يسمي الناس اليوم كراء الأرض لمن يغرسها خراجا إذا كان على كل شجرة شيء معلوم ومنه قوله 23 : 72 أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير ومنه خراج العبد فإنه عبارة عن ضريبة يخرجها لسيده من ماله فمن اعتقد أنه ثمن أو عوض مستقل بنفسه فمعلوم أنه لا يشبه غيره وإنما جوزه الصحابة ولا نظير له لأجل الحاجة الداعية إليه والحاجة إلى ذلك موجودة في كل أرض فيها شجر كالأرض المفتتحة سواء

فإنه إن قيل يمكن المساقاة أو المزارعة قيل وقد كان يمكن عمر المساقاة والمزارعة كما فعل في أثناء الدولة العباسية إما في خلافة المنصور وإما بعده فإنهم نقلوا أرض السواد من الخراج إلى المقاسمة التي هي المساقاة والمزارعة

وإن قيل إنه يمكن جعل الكراء بإزاء الأرض والتبرع بمنفعة الشجر أو المحاباة فيها قيل قد كان يمكن عمر ذلك فالقدر المشترك بينهما ظاهر

وأيضا فإنا نعلم قطعا أن المسلمين ما زالت لهم أرضون فيها شجر بل هذا غالب على أموال أهل الأمصار ونعلم أن السلف لم يكونوا كلهم يعمرون أرضهم

وفي الصحيحين عن جابر قال نهى النبي عن المحاقلة والمزابنة والمعاومة والمخابرة وفي رواية لهما وعن بيع السنين بدل المعاومة وفيهما أيضا عن زيد بن أبي أنيسة عن عطاء عن جابر أن رسول الله نهى عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة وأن يشترى النخل حتى يشقه والإشقاه أن يحمر أو يصفر أو يؤكل منه شيء والمحاقلة أن يباع الحقل بكيل من الطعام معلوم والمزابنة أن يباع النخل بأوساق من التمر والمخابرة الثلث والربع وأشباه ذلك قال زبد قلت لعطاء أسمعت جابرا يذكر هذا عن النبي قال نعم وفيهما عن أبي البحتري قال سألت ابن عباس عن بيع النخل فقال نهى رسول الله عن بيع النخل حتى يأكل منه أو يؤكل وحتى يوزن فقلت ما يوزن فقال رجل عنده حتى يحرز وفي مسلم عن أبي هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله لا تبتاعوا الثمر بالتمر

وقال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن بيع ثمر النخل سنين لا يجوز قالوا فإذا أكره الأرض والشجر فقد باعه الثمر قبل أن يخلق وباعه سنة أو سنتين وهذا هو الذي نهى عنه النبي ثم منع منه مطلقا طردا لعموم القياس ومن جوزه إذا كان قليلا قال الضرر اليسير يحتمل في العقود كما لو ابتاع النخل وعليه ثمر لم يؤبر أو أبر ولم يبد صلاحه فإنه يجوز وإن لم يجز إفراده بالعقد

وهذا متوجه جدا على أصل الشافعي وأحمد وغيرهما من فقهاء الحديث ولكن لا يتوجه على أصل أبي حنيفة لأنه لا يجوز ابتياع الثمر بشرط البقاء ويجوز ابتياعه قبل بدو صلاحه وموجب العقد القطع في الحال فإذا ابتاعه مع الأصل فإنما استحق إبقاءه لأن الأصل ملكه وسنتكلم إن شاء الله على هذا الأصل

وذكر أبو عبيد أن المنع من إجارة الأرض التي فيها شجر كثير إجماع

والقول الثالث أنه يجوز استئجار الأرض التي فيها شجر ودخول الشجر في الإجارة مطلقا وهذا قول ابن عقيل وإليه مال حرب الكرماني هذا القول كالإجماع من السلف وإن كان المشهور عن الأئمة المتبوعين خلافه فقد روى سعيد بن منصور ورواه عنه حرب الكرماني في مسائله قال حدثنا عباد بن عباد بن هشام بن عروة عن أبيه أن أسيد بن حضير توفي وعليه ستة آلاف درهم فدعا عمر غرماءه فقبلهم أرضه سنين وفيها النخل والشجر

وأيضا فإن عمر بن الخطاب ضرب الخراج على أرض السواد وغيرها فأقر الأرض التي فيها النخل والعنب في أيدي أهل الأرض وجعل على كل جريب من جرب الأرض السواد والبيضاء خراجا مقدرا والمشهور أنه جعل على جريب العنب عشرة دراهم وعلى جريب النخل ثمانية دراهم وعلى جريب الرطبة ستة دراهم وعلى جريب الزرع درهما وقفيزا من طعام

والمشهور عند مالك والشافعي وأحمد أن هذه ا لمخارجة تجري مجرى المؤاجرة وإنما لم يؤقته لعموم المصلحة وأن الخراج أجرة الأرض فهذا بعينه إجارة الأرض السوداء التي فيها شجر وهو مما أجمع عليه عمر والمسلمون في زمانه وبعده ولهذا تعجب أبو عبيد في كتاب الأموال من هذا فرأى أن هذه المفاصلة تخالف ما علمه من مذاهب الفقهاء

وحجة ابن عقيل أن إجارة الأرض جائزة والحاجة إليها داعية ولا يمكن إجارتها إذا كان فيها شجر إلا بإجارة الشجر وما لا يتم الجائز إلا به فهو جائز لأن المستأجر لا يتبرع بسقي الشجر وقد لا يساقى عليها

وهذا كما أن مالكا والشافعي كان القياس عندهما أنه لا تجوز المزارعة فإذا ساقى العامل على شجر فيها بياض جوزا المزارعة في ذلك البياض تبعا للمساقاة فيجوزه مالك إذا كان دون الثلث كما قال في بيع الشجر تبعا للأرض وكذلك الشافعي يجوزه إذا كان البياض قليلا لا يمكن سقي النخل إلا بسقيه وإن كان كثيرا والنخل قليلا ففيه لأصحابه وجهان

هذا إذا جمع بينهما في عقد واحد وسوى بينهما في الجزء المشروط كالثلث والربع فأما إن فاضل بين الجزءين ففيه وجهان لأصحابه وكذلك إن فرق بينهما في عقدين وقدم المساقاة فيه وجهان فأما إن قدم المزارعة لم تصح المزارعة وجها واحدا

فقد جوز المزارعة التي لا تجوز عندهما تبعا للمساقاة فكذلك يجوز إجارة الشجر تبعا لإجارة الأرض

وقول ابن عقيل هو قياس أحد وجهي أصحاب الشافعي بلا شك ولأن المانعين من هذا هم بين محتال على جوازه ومرتكب لما يظن أنه حرام وصابر ومتضرر فإن الكوفيين احتالوا على الجواز تارة بأن يؤجر الأرض فقط ويبيحه ثمر الشجر كما يقولون في بيع الثمرة قبل بدو صلاحها يبيعه إياها مطلقا أو بشرط القطع بجميع الأجرة ويبيحه إبقاءها وهذه الحيلة منقولة عن أبي حنيفة والثوري وغيرهما وتارة بأن يكريه الأرض بجميع الأجرة ويساقيه على الشجر بالمحاباة مثل أن يساقيه على جزء من ألف جزء من الثمرة للمالك

وهذه الحيلة إنما يجوزها من يجوز المساقاة كأبي يوسف ومحمد والشافعي في القديم فأما أبو حنيفة فلا يجوزها بحال وكذلك الشافعي إنما يجوزها في الجديد في النخل والعنب فقد اضطروا في هذه المعاملة إلى أن تسمى الأجرة في مقابلة منفعة الأرض ويتبرع له إما بإعراء الشجر وإما بالمحاباة في مساقاتها

ولفرط الحاجة إلى هذه المعاملة ذكر بعض من صنف في إبطال الحيل من أصحاب الإمام أحمد هذه الحيلة فيما يجوز من الحيل أعني حيلة المحاباة في المساقاة والمنصوص عن أحمد وأكثر أصحابه إبطال هذه الحيلة بعينها كمذهب مالك وغيره

والمنع من هذه الحيل هو الصحيح قطعا لما روى عبد الله بن عمرو أن النبي قال لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك رواه الأئمة الخمسة أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة وقال الترمذي حديث حسن صحيح فنهى عن أن يجمع بين سلف وبيع فإذا جمع بين سلف وإجارة فهو جمع بين سلف وبيع أو مثله وكل تبرع يجمعه إلى البيع والإجارة مثل الهبة والعارية والعرية والمحاباة في المساقاة والمزارعة والمبايعة وغير ذلك هي مثل القرض

فجماع معنى الحديث أن لا يجمع بين معاوضة وتبرع لأن ذلك التبرع إنما كان لأجل المعاوضة لا تبرعا مطلقا فيصير جزءا من العوض فإذا اتفقا على أنه ليس بعوض جمعا بين أمرين متنافيين فإن من أقرض رجلا ألف درهم وباعه سلعة تساوي خمسمائة بألف لم يرض بالاقتراض إلا بالثمن الزائد للسلعة والمشتري لم يرض ببذل ذلك الثمن الزائد إلا لأجل الألف التي اقترضها فلا هذا باع بيعا بألف ولا هذا أقرض قرضا محضا بل الحقيقة أنه أعطاه الألف والسلعة بألفين فهي مسألة مد عجوة فإذا كان المقصود أخذ ألف بأكثر من ألف حرم بلا تردد وإلا خرج على الخلاف المعروف وهكذا من أكرى الأرض التي تساوي مائة بألف وأعراه الشجر ورضي من ثمرها بجزء من ألف جزء فمعلوم بالاضطرار أنه إنما تبرع بالثمرة لأجل الألف التي أخذها وإن المستأجر إنما بذل الألف لأجل الثمرة فالثمرة هي المقصود المعقود عليه أو بعضه فليست الحيلة إلا ضربا من اللعب وإلا فالمقصود المعقود عليه ظاهر

والذين لا يحتالون أو يحتالون وقد ظهر لهم فساد هذه الحيلة بين أمرين إما أن يفعلوا ذلك للحاجة ويعتقدوا أنهم فاعلون للمحرم كما رأينا عليه أكثر الناس وإما أن يتركوا ذلك ويتركوا تناول الثمار الداخلة في هذه المعاملة فيدخل عليهم من الضرر والإضرار ما لا يعلمه إلا الله وإن أمكن أن يلتزم ذلك واحد أو اثنان فما يمكن المسلمين التزام ذلك إلا بفساد الأموال الذي لا تأتي به شريعة قط فضلا عن شريعة قال الله فيها 22 : 78 ما جعل عليكم في الدين من حرج وقال تعالى 2 : 185 يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وقال تعالى 4 : 38 يريد الله أن يخفف عنكم وفي الصحيحين إنما بعثتم ميسرين ويسروا ولا تعسروا ليعلم اليهود أن في ديننا سعة فكل ما لا يتم المعاش إلا به فتحريمه حرج وهو منتف شرعا

والغرض من هذا أن تحريم مثل هذا مما لا يمكن الأمة التزامه قط لما فيه من الفساد الذي لا يطاق فعلم أنه ليس بحرام بل هو أشد من الأغلال والآصار التي كانت على بني إسرائيل ووضعها الله عنا على لسان محمد ومن استقرأ الشريعة في مواردها ومصادرها وجدها مبنية على قوله تعالى 2 : 173 فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه وقوله فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم فكل ما احتاج الناس إليه في معاشهم ولم يكن سببه معصية هي ترك واجب أو فعل محرم لم يحرم عليهم لأنهم في معنى المضطر الذي ليس بباغ ولا عاد وإن كان سببه معصية كالمسافر سفر معصية اضطر فيه إلى الميتة والمنفق للمال في المعاصي حتى لزمته الديون فإنه يؤمر بالتوبة ويباح له ما يزيل ضرورته فيباح له الميتة يقضي عنه دينه من الزكاة وإن لم يتب فهو الظالم لنفسه المحتال وحاله كحال الذين قال الله فيهم إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون وقوله 4 : 16 فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وهذه قاعدة عظيمة ربما ننبه إن شاء الله عليها

وهذا القول المأثور عن السلف الذي اختاره ابن عقيل هو قياس أصول أحمد وبعض أصول الشافعي وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لوجوه متعددة بعد


بعض الصلاة فأمره بالسكينة وأن يصلي ما فاته منفردا بعد سلام الإمام وجعل ذلك مقدما على الإسراع إليها وهذا يقتضي شدة النهي عن الاستعجال إليها فكيف فيها

يبين ذلك ما روى أبو داود عن أبي ثمامة الحناط عن كعب بن عجرة قال إن رسول الله قال إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه ثم خرج عامدا إلى المسجد فلا يشبكن يديه فإنه في صلاة فقد نهاه في مشيه إلى الصلاة عما نهاه عنه في الصلاة من الكلام والعمل له منفردا فكيف يكون حال المصلي نفسه في ذلك المشي وغير ذلك فإذا كان منهيا عن السرعة والعجلة في المشي مأمورا بالسكينة وإن فاته بعض الصلاة مع الإمام حتى يصلي قاضيا له فأولى أن يكون مأمورا بالسكينة فيها

ويدل على ذلك أن الله عز وجل أمر في كتابه بالسكينة والقصد في الحركة والمشي مطلقا فقال 9 : 31 واقصد في مشيك واغضض من صوتك وقال تعالى 25 : 63 وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما قال الحسن وغيره بسكينة ووقار فأخبر أن عباد الرحمن هم هؤلاء فإذا كان مأمورا بالسكينة والوقار في الأفعال العادية التي هي من جنس الحركة فكيف الأفعال العبادية ثم كيف بما هو فيها من جنس السكون كالركوع والسجود فإن هذه الأدلة تقتضي السكينة في الانتقال كالرفع والخفض والنهوض والانحطاط وأما نفس الأفعال التي هي المقصود بالانتقال كالركوع نفسه والسجود نفسه والقيام والقعود أنفسهما وهذه هي من نفسها سكون فمن لم يسكن فيها لم يأت بها وإنما هو بمنزلة من أهوى إلى القعود ولم يأت به كمن مد يده إلى الطعام ولم يأكل منه أو وضعه على فيه ولم يطعمه

وأيضا فإن الله تعالى أوجب الركوع والسجود في الكتاب والسنة وهو


بأنفسهم ولا غالبهم ونعلم أن المساقاة والمزارعة لا تتيسر في كل وقت لأنها تفتقر إلى عامل أمين وما كل أحد يرضى بالمساقاة ولا كل من أخذ الأرض يرضى بالمشاركة فلا بد أن يكونوا قد كانوا يكرون الأرض السوداء ذات الشجر ومعلوم أن الاحتيال بالتبرع أمر بارد لم يكن السلف من الصحابة والتابعين يفعلونه فلم يبق إلا أنهم كانوا يفعلون كما فعل عمر بمال أسيد بن الحضير وكما يفعله غالب المسلمين من تلك الأزمنة وإلى اليوم

فإذا لم ينقل عن السلف أنهم حرموا هذا الإجارة ولا أنهم أمروا بحيلة التبرع مع قيام المقتضى لفعل هذه المعاملة علم قطعا أن المسلمين كانوا يفعلونها من غير نكير من الصحابة والتابعين فيكون فعلها كان إجماعا منهم

ولعل الذين اختلفوا في كراء الأرض البيضاء أو المزارعة لم يختلفوا في كراء الأرض السوداء ولا في المساقاة لأن منفعة الأرض ليس فيها طائل بالنسبة إلى منفعة الشجر

فإن قيل فقد قال حرب الكرماني سئل أحمد عن تفسير حديث ابن عمر القبالات ربا قال هو أن يتقبل القرية فيها النخل والعلوج قيل فإن لم يكن فيها نخل وهي أرض بيضاء قال لا بأس إنما هو الآن مستأجر قيل فإن فيها علوجا قال فهذا هو القبالة المكروهة قال حرب حدثنا عبيد الله ابن معاذ حدثنا أبي حدثنا سعيد عن جبلة سمع ابن عمر يقول القبالات ربا قيل الربا فيما يجوز تأجيله إنما يكون في الجنس الواحد لأجل الفضل فإذا قيل في الأجرة أو الثمن أو نحوها إنه ربا مع جواز تأجيله فلأنه معاوضة بجنسه متفاضلا لأن الربا إما ربا النساء وذلك لا يكون إلا فيما يجوز تأجيله وإما ربا الفضل وذلك لا يكون إلا في الجنس الواحد فإذا انتفى ربا النساء الذي هو التأخير لم يبق إلا ربا الفضل الذي هو الزيادة في الجنس الواحد وهذا يكون إذا كان التقبل بجنس مغل الأرض مثل أن يقبل الأرض التي فيها

بين خصال الكفارة وإن كان بين الفعل والحكم كما في قوله إن فعلت كذا فعبدي حر أو امرأتي طالق أو دمي هدر أو مالي صدقة أو بدنتي هدي تعين الحكم بالقول ولم يتعين الفعل إلا بالفعل والله سبحانه وتعالى أعلم

آخر ما تيسر بحمد الله وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

بغير جنس المغل وإنما كانت ربا لأجل العلوج وهذه الصورة لا حاجة إليها فإن العلوج يقومون بها فتقبيلها لآخر مراباة له ولهذا كرهها أحمد وإن كانت بيضاء إذا كان فيها العلوج

وقد استدل حرب الكرماني على المسألة بمعاملة النبي لأهل خيبر على أرضها بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع على أن يعمروها من أموالهم وذلك أن هذا في المعنى إكراء للأرض منهم ببعض ما يخرج منها مع إكراء الشجر بنصف ثمره فقياس عليه إكراء الأرض والشجر بشئ مضمون لأن إعطاء الثمر لو كان بمنزلة بيعه لكان إعطاء بعضه بمنزلة بيعه وذلك لا يجوز وهذه المسألة لها أصلان

الأصل الأول أنه متى كان بين الشجر أرض أو مساكن دعت الحاجة إلى كرائهما جميعا فيجوز لأجل الحاجة وإن كان في ذلك غرر يسير لا سيما إن كان البستان وقفا أو مال يتيم فإن تعطيل منفعته لا يجوز وإكراء الأرض أو المسكن وحده لا يقع في العادة ولا يدخل أحد في إجارته على ذلك وإن اكتراه اكتراه بنقص كثير عن قيمته ومالا يتم المباح إلا به فهو مباح فكل ما ثبت إباحته بنص أو إجماع وجب إباحة لوازمه إذا لم يكن في تحريمها نص ولا إجماع وإن قام دليل يقتضي تحريم لوازمه ومالا يتم اجتناب المحرم إلا باجتنابه فهو حرام فهنا يتعارض الدليلان

وفي مسألتنا قد ثبت إباحة كراء بالسنة واتفاق الفقهاء المتبوعين بخلاف دخول كراء الشجر فإن تحريمه مختلف فيه ولا نص فيه

وأيضا فمتى أكريت الأرض وحدها وبقي الشجر لم يكن المكترى مأمونا على الثمر فيفضي إلى اختلاف الأيدي وسوء المشاركة كما إذا بدا الصلاح في نوع واحد يخرج على هذا القول مثل قول الليث بن سعد إذا بدا الصلاح في جنس وكان في بيعه متفرقا ضرر جاز بيع جميع الأجناس وبه فسر تفريق الصفقة ولأنه إذا أراد أن يبيع الثمر بعد ذلك لم يجد من يشتري الثمرة إذا كانت الأرض والمساكن لغيره إلا بنقص كثير ولأنه إذا أكرى الأرض فإن شرط عليه سقي الشجر والسقي من جملة المعقود عليه صار المعوض عوضا وإن لم يشرط عليه السقي فإذا سقاها إن ساقاه عليها صارت الإجارة لا تصح إلا بمساقاة وإن لم يساقه لزم تعطيل منفعة المستأجر فيدور الأمر بين أن تكون الأجرة بعض المنفعى أو لا تصح الإجارة إلا بمساقاة أو بتفويت منفعة المستأجر ثم إن حصل للمكري جميع الثمرة أو بعضها ففي بيعها مع أن الأرض والمساكن لغيره نقص للقيمة في مواضع كثيرة

فيرجع الأمر إلى أن الصفقة إذا كان في تفريقها ضرر جاز الجمع بينهما في المعاوضة وإن لم يجز إفراد كل منهما لأن حكم الجمع يخالف حكم التفريق ولهذا وجب عند أحمد وأكثر الفقهاء على أحد الشريكين إذا تعذرت القسمة أن يبيع مع شريكه أو يؤاجر معه إن كان المشترك منفعة لأن النبي قال من أعتق شركا له في عبد وكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد وإلا فقد عتق عليه ما عتق أخرجاه في الصحيحين فأمر النبي بتقويم العبد كله وبإعطاء الشريك حصته من القيمة ومعلوم أن قيمة حصته مفردة دون حصته من قيمة الجميع فعلم أن حقه في نصف النصف وإذا استحق ذلك بالإعتاق فبسائر أنواع الإتلاف أولى وإنما يستحق بالإتلاف ما يستحق بالمعاوضة فعلم أنه يستحق بالمعاوضة نصف القيمة وإنما يمكن ذلك عند بيع الجميع فيجب قسمة العين حيث لا ضرر فيها فإن كان فيها ضرر قسمت القيمة

فإذا كنا قد أوجبنا على الشريك بيع نصيبه لما في التفريق من نقص قيمة شريكه فلأن يجوز بيع الأمرين جميعا إذا كان في تفريقهما ضرر أولى ولذلك جاز بيع الشاة مع اللبن الذي في ضرعها وإن أمكن تفريقهما بالحلب وإن كان بيع اللبن وحده لا يجوز

وعلى هذا الأصل فيجوز متى كان مع الشجر منفعة مقصودة كمنفعة أرض للزرع أو بناء للسكن وأما إن كان المقصود هو الثمر فقط ومنفعة الأرض أو المسكن ليست جزءا من المقصود وإنما دخلت لمجرد الحيلة كما قد يفعل في مسائل مد عجوة لم يجئ هذا الأصل

الأصل الثاني أن يقال إكراء الشجر للاستثمار يجري مجرى إكراه الأرض للازدراع واستئجار الظئر للرضاع وذلك أن الفوائد التي تستحق مع بقاء أصولها تجري مجرى المنافع وإن كانت أعيانا وهي ثمر الشجر ولبن الآدميات والبهائم والصوف والماء العذب فإنه كلما خلق من هذه شيء فأخذ خلق الله بدله مع بقاء الأصل كالمنافع سواء ولهذا جرت في الوقف والعارية والمعاملة بجزء من النماء مجرى المنفعة فإن الوقف لا يكون إلا فيما ينتفع به مع بقاء أصله فإذا جاز وقف الأرض البيضاء أو الرباع لمنفعتها فكذلك وقف الحيطان لثمرتها ووقف الماشية لدرها وصوفها ووقف الآبار والعيون لمائها بخلاف ما يذهب بالانتفاع كالطعام ونحوه فلا يوقف

وأما باب العارية فيسمون إباحة الظهر إفقارا يقال أفقره الظهر وما أبيح لبنه منيحة وما أبيح ثمره عرية وغير ذلك عارية وشبهوا ذلك بالقرض الذي ينتفع به المقترض ثم يرد مثله ومنه قول النبي منيحة لبن أو منيحة ورق فاكتراء الشجر لأن يعمل عليها ويأخذ ثمرها بمنزلة استئجار الظئر لأجل لبنها وليس في القرآن إجارة منصوصة إلا إجارة الظئر في قوله سبحانه 65 : 6 فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن

ولما اعتقد بعض الفقهاء أن الإجارة لا تكون إلا على منفعة ليست عينا ورأى جواز إجارة الظئر قال المعقود عليه هو وضع الطفل في حجرها واللبن دخل ضمنا وتبعا كنقع البئر وهذا مكابرة للعقل والحس فإنا نعلم بالاضطرار أن المقصود بالعقد هو اللبن كما ذكره الله بقوله فإن أرضعن لكم وضم الطفل إلى حجرها إن فعل فإنما هو وسيلة إلى ذلك وإنما العلة ما ذكرته من أن الفائدة التي تستخلف مع بقاء أصلها تجري مجرى المنفعة وليس من البيع الخاص فإن الله لم يسم العوض إلا أجرا لم يسمه ثمنا وهذا بخلاف ما لو حلب اللبن فإن لا يسمى المعاوضة عليه حينئذ إلا بيعا لأنه لم يستوف الفائدة من أصلها كما يستوفي المنفعة من أصلها

فلما كان للفوائد العينية التي يمكن فصلها عن أصلها حالان حال تشبه فيه المنافع المحضة وهي حال اتصالها واستيفاء المنفعة وحال تشبه في الأعيان المحضة وهي حال انفصالها وقبضها كقبض الأعيان فإذا كان صاحب الشجر هو الذي يسقيها ويعمل عليها حتى تصلح الثمرة فإنما يبيع ثمرة محضة كما لو كان هو الذي يشق الأرض ويبذرها ويسقيها حتى يصلح الزرع فإنما يبيع زرعا محضا وأن كان المشتري هو الذي يجد ويحصد كما لو باعها على الأرض وكان المشتري هو الذي ينقل ويحول ولهذا جمع النبي بينهما في النهي عن بيع الحب حتى يشتد وعن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه فإن هذا بيع محض للثمرة والزرع وأما إذا كان المالك يدفع الشجرة إلىالمكري حتى يسقيها ويلقحها ويدفع عنها الأذى فهو بمنزلة دفعه الأرض إلى من يشقها ويبذرها ويسقيها ولهذا سوى بينهما في المساقاة والمزارعة فكما أن كراء الأرض ليس ببيع لزرعها فكذلك كراء الشجرة ليس ببيع لثمرها بل نسبة كراء الشجر إلى كراء الأرض كنسبة المساقاة إلى المزارعة هذا معاملة من النماء وهذا كراء بعوض معلوم فإذا كانت هذه الفوائد قد ساوت المنافع في الوقف لأصلها وفي التبرعات بها وفي المشاركة بجزء من نمائها وفي المعاوضة عليها بعد صلاحها فكذلك تساويها في المعاوضة على استفادتها وتحصيلها ولو فرق بينهما بأن الزرع إنما يخرج بالعمل بخلاف الثمر فإنه يخرج بلا عمل كان هذا الفرق عديم التأثير بدليل المساقاة والمزارعة وليس بصحيح فإن للعمل تأثيرا في الإثمار كماله تأثير في الإنبات ومع عدم العمل عليها قد يعدم الثمر وقد ينقص فإن من الشجر ما لو لم يسق لم يثمر ولو لم يكن للعمل عليه تأثير أصلا لم يجز دفعه إلى عامل بجزء من ثمره ولم يجز في مثل هذه الصورة إجارته قبل بدو صلاحه فإن بيع محض للثمرة لا إجارة للشجر ويكون كمن أكرى أرضه لمن يأخذ منها ما ينبته الله بلا عمل أحد أصلا قبل وجوده

فإن قيل المقصود بالعقد هنا غرر لأنه قد يثمر قليلا وقد يثمر كثيرا

يقال مثله في إكراء الأرض فإن المقصود بالعقد غرر أيضا على هذا التقدير فإنه قد ينبت قليلا وقد ينبت كثيرا

وإن قيل المعقود عليه هناك التمكن من الازدراع لا نفس الزرع النابت

قيل المعقود عليه هنا التمكن من الاستثمار لا نفس الثمر الخارج ومعلوم أن المقصود فيهما إنما هو الزرع والثمر وإنما يجب العوض بالتمكن من تحصيل ذلك كما أن المقصود باكتراء الدار إنما هو السكنى وإن وجب العوض بالتمكن من تحصيل ذلك

فالمقصود في اكتراء الأرض للزرع إنما هو نفس الأعيان التي تحصد ليس كاكترائها للسكنى أو البناء فإن المقصود هناك نفس الانتفاع بجعل الأعيان فيها

وهذا بين عند التأمل لا يزيده البحث عنه إلا وضوحا

حديث أهل خيبر رواية من يفتي به وأن النبي نهى عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة والمعاومةوجميع ذلك من أنواع الغرر والمؤاجرة أظهر في الغرر من المزارعة كما تقدم

ومن يجوز المؤاجرة دون المزارعة يستدل بما رواه مسلم في صحيحه عن ثابت ابن الضحاك أن رسول الله نهى عن المزارعة وأمر بالمؤاجرة وقال لا بأس بها فهذا صريح في النهى عن المزارعة والأمر بالمؤاجرة ولأنه سيأتي عن رافع بن خديج الذي روى الحديث عن النبي أنه لم ينههم النبي عن كرائها بشيء معلوم مضمون وإنما نهاهم عما كانوا يفعلونه من المزارعة

وذهب جميع فقهاء الحديث الجامعون لطرقه كلهم كأحمد بن حنبل وأصحابه كله من المتقدمين والمتأخرين وإسحاق بن راهويه وأبي بكر بن أبي شيبة وسليمان بن دواد الهاشمي وأبي خيثمة زهير بن حرب وأكثر فقهاء الكوفيين كسفيان الثوري ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وأبي يوسف ومحمد صاحبي أبي حنيفة والبخاري صاحب الصحيح وأبي داود وجماهير فقهاء الحديث من المتأخرين كابن المنذر وابن خزيمة والخطابي وغيرهم وأهل الظاهر وأكثر أصحاب أبي حنيفة إلى جواز المزارعة والمؤاجرة ونحو ذلك اتباعا لسنة رسول الله وسنة خلفائه وأصحابه وما عليه السلف وعمل جمهور المسلمين وبينوا معاني الأحاديث التي يظن اختلافها في هذا الباب

فمن ذلك معاملة النبي لأهل خيبر وهو وخلفاؤه من بعده إلى أن أجلاهم عمر فعن ابن عمر قال عامل رسول الله أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع أخرجاه وأخرجا أيضا عن ابن عمر أن رسول الله أعطى أهل خيبر على أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما خرج منها هذا لفظ البخاري ولفظ مسلم لما

نخل بثمر فيكون المزابنة وهذا مثل اكتراء الأرض بجنس الخارج منها إذا كان مضمونا في الذمة مثل أن يكتريها ليزرع فيها حنطة بحنطة معلومة ففيه روايتان عن أحمد إحداهما أنه ربا كقول مالك وهذا مثل القبالة التي كرهها ابن عمر لأنه ضمن الأرض للحنطة بحنطة تكون أكثر أو أقل فيظهر الربا

فالقبالات التي ذكر ابن عمر أنها ربا هو أن يضمن الأرض التي فيها النخل والفلاحون من جنس مغلها مثل أن يكون لرجل قرية فيها شجر وأرض وفيها فلاحون يعملون تغل له ما تغل من الحنطة والتمر بعد أجرة الفلاحين أو نصيبهم فيضمنها رجل منه بمقدار معلوم من الحنطة والتمر ونحو ذلك فهذا مظهر تسميته بالربا فأما ضمان الأرض بالدراهم والدنانير فليس من باب الربا بسبيل ومن حرمه فهو عنده من باب الغرر

ثم إن أحمد لم يكره ذلك إذا كانت أرضا بيضاء لأن الإجارة عنده جائزة وإن كانت الأجرة من جنس الخارج على إحدى الروايتين لأن المستأجر يعمل في الأرض بمنفعته وماله فيكون المغل بكسبه بخلاف ما إذا كان فيها العلوج وهم الذين يعالجون العمل فإنه لا يعمل فيها شيئا لا بمنفعته ولا بماله بل العلوج يعملونها وهو يؤدي القبالة ويأخد بدلها فهو طلب الربح في مبادلة المال من غير صناعة ولا تجارة وهذا هو الربا ونظير هذا ما جاء به عن أنه ربا وهو اكتراء الحمام والطاحون والفنادق ونحو ذلك مما لا ينتفع المستأجر به فلا يتجر فيه ولا يصطنع فيه وإنما يكتريه ليكويه فقط فقد قيل هو ربا

والحاصل أنها لم تكن ربا لأجل النخل ولا لأجل الأرض إذا كانت

حرمت الحلال لأن هذا حكم ذلك الفعل فلا يد أن يطابق جميع صوره لأن تحريم الحلال هو سبب قوله قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم وسبب الجواب إذا كان عاما كان الجواب عاما لئلا يكون جوابا عن البعض دون البعض مع قيام السبب المقتضى للتعميم وهكذا التقرير في قوله يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم إلى قوله ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم

وأيضا فإن الصحابة فهمت العموم وكذلك العلماء عامتهم حملوا الآية على اليمين بالله وغيرها

وأيضا فنقول سلمنا أن اليمين المذكورة في الآية المراد بها اليمين بالله وأن ما سوى اليمين بالله لا يلزم بها حكم فمعلوم أن الحلف بصفات الله سبحانه كالحلف به كما لو قال وعزة الله أو لعمر الله أو والقرآن العظيم فإنه قد ثبت جواز الحلف بهذه الصفات ونحوها عن النبي والصحابة ولأن الحلف بصفاته كالاستعاذة بها وإن كانت الأستعاذة لا تكون إلا بالله وصفاته في مثل قول النبي أعوذ بوجهك وأعوذ بكلمات الله التامات وأعوذ برضاك من سخطك ونحو ذلك وهذا أمر مقرر عند العلماء

وإذا كان كذلك فالحلف بالنذر والطلاق ونحوهما هو الحلف بصفات الله فإنه إذا قال إن فعلت كذا فعلى الحج فقد حلف بإيجاب الحج عليه وإيجاب الحج حكم من أحكام الله وهو من صفاته وكذلك لو قال فعلى تحرير رقبة وإذا قال فامرأتي طالق وعبدي حر فقد حلف بإزالة ملكه الذي هو تحريمه عليه والتحريم من صفات الله كما أن الإيجاب من صفات الله وقد جعل الله ذلك من آياته في قوله ولا تتخذوا آيات الله هزوا فجعل حدوده في النكاح والطلاق والخلع من آياته لكنه إذا حلف بالإيجاب والتحريم فقد عقد اليمين لله كما يعقد النذر لله فإن قوله على الحج والصوم

ونحوها كما أن نفس الوطء يوجب أحكاما وإن كان بغير نكاح فلما كان كل واحد من العقد والوطء مقصودا في نفسه وإن لم يقترن بالآخر أقرهم الشارع على ذلك بخلاف الأموال فإن المقصود بعقودها هو التقابض فإذا لم يحصل التقابض لم يحصل مقصودها فأبطلها الشارع لعدم حصول المقصود

فتبين بذلك أن مقصود العباد من المعاملات لا يبطله الشارع إلا مع التحريم لأنه لا يصححه إلا بتحليل

وأيضا فإن المسلمين إذا تعاقدوا بينهم عقودا ولم يكونوا يعلمون لا تحريمها ولا تحليلها فإن الفقهاء جميعهم فيما أعلمه يصححونها إذا لم يعتقدوا تحريمها وإن كان العاقد لم يكن حينئذ يعلم تحليلها لا باجتهاد ولا بتقليد ولا يقول أحد لا يصح العقد إلا الذي يعتقد العاقد أن الشارع أحله فلو كان إذن الشارع الخاص شرطا في صحة العقود لم يصح عقد إلا بعد ثبوت إذنه كما لو حكم الحاكم بغير اجتهاد فإنه آثم وإن كان قد صادف الحق

وأما إن قيل لا بد من دليل شرعي يدل على حلها سواء كان عاما أو خاصا فعنه جوابان

أحدهما المنع كما تقدم والثاني أن نقول قد دلت الأدلة الشرعية العامة على حل العقود والشوط جملة إلا ما استثناه الشارع وما عرضوا به سنتكلم عنه إن شاء الله فلم يبقى إلا القول الثالث وهو المقصود

وأما قوله أيما شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط كتاب الله أحق وشرط الله أوثق فالشرط يراد به المصدر تارة والمفعول أخرى وكذلك الوعد والخلف ومنه قولهم درهم ضرب الأمير والمراد به هنا والله أعلم المشروط لا نفس التكلم ولهذا قال وإن كان مائة شرط أى وإن كان قد شرط مائة شرط وليس المراد تعديد التكلم بالشرط وإنما المراد تعديد الشروط والدليل على ذلك قوله

ويجوز أيضا على قياس قوله استثناء بعض المنفعة في العين الموهوبة والصداق وفدية الخلع والصلح عن القصاص ونحو ذلك من أنواع إخراج الملك سواء كان بإسقاط كالعتق أو بتمليك بعوض كالبيع أو بغير عوض كالهبة

ويجوز أحمد أيضا في النكاح عامة الشروط التي للمشترط فيها غرض صحيح لما في الصحيحين عن النبي أنه قال إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج ومن قال بهذا الحديث قال إنه يقتضي أن الشروط في النكاح أوكد منها في البيع والإجارة وهذا مخالف لقول من يصحح الشروط في البيع دون النكاح فيجوز أحمد أن تستثني المرأة ما يملكه الزوج بالإطلاق فتشترط أن لا تسافر معه ولا تنتقل من دارها وتزيد على ما يملكه بالإطلاق فتشترط أن تكون مخلية به فلا يتزوج عليها ولا يتسرى

ويجوز على الرواية المنصوصة عنه المصححة عند طائفة من أصحابه أن يشترط كل واحد من الزوجين في الآخر صفة مقصودة كاليسار والجمال ونحو ذلك ويملك الفسخ بفواته وهو من أشد الناس قولا بفسخ النكاح وانفساخه فيجوز فسخه بالعيب كما لو تزوج عليها وقد شرطت عليه أن لا يتزوج عليها وبالتدليس كما لو ظنها حرة فطهرت أمة وبالخلف بالصفة على الصحيح كما لو شرط الزوج أن له مالا فظهر بخلاف ما ذكر وينفسخ عنده بالشروط الفاسدة المنافية لمقصوده كالتوقيت واشتراط الطلاق وهل يبطل بفساد المهر كالخمر والميتة ونحو ذلك فيه عنه روايتان إحداهما نعم كنكاح الشغار وهو رواية عن مالك والثانية لا ينفسخ لأنه تابع وهو عقد مفرز كقول أبي حنيفة والشافعي

وعلى أكثر نصوصه يجوز أن يشترط على المشتري فعلا أو تركا في المبيع مما هو مقصود للبائع أو للمبيع نفسه وإن كان أكثر متأخري أصحابه لا يجوزون من ذلك إلا العتق وقد يروى ذلك عنه لكن الأول أكثر في كلامه ففي

جامع الخلال عن أبي طالب سألت أحمد عن رجل اشترى جارية فشرط أن يتسرى بها تكون جارية نفيسه يحب أهلها أن يتسرى بها ولا تكون للخدمة قال لا بأس به وقال مهنا سألت أبا عبد الله عن رجل اشترى من رجل جارية فقال له إذا أردت بيعها فأنا أحق بها بالثمن الذي تأخذها به مني قال لا بأس به ولكن لا يطؤها ولا يقربها وله فيها شرط لأن ابن مسعود قال لرجل لا تقربنها ولأحد فيها شرط وقال حنبل حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبد الله بن عبيد الله بن عتبة أن ابن مسعود اشترى جارية من امرأته وشرط لها إن باعها فهي لها بالثمن الذي اشتراها به فسأل ابن مسعود عن ذلك عمر بن الخطاب فقال لا تنكحها وفيها شرط وقال حنبل قال عمي كل شرط في فرج فهو على هذا والشرط الواحد في البيع جائز إلا أن عمر كره لابن مسعود أن يطأها لأنه شرط لامرأته الذي شرط فكره عمر أن يطأها وفيها شرط وقال الكرماني سألت أحمد عن رجل اشترى جارية وشرط لأهلها أن لا يبيعها ولا يهبها فكأنه رخص فيه ولكنهم إن اشترطوا له إن باعها فهو أحق بها بالثمن فلا يقربها يذهب إلى حديث عمر بن الخطاب حين قال لعبد الله بن مسعود

فقد نص في غير موضع على أنه إذا أراد البائع بيعها لم يملك إلا ردها إلى البائع بالثمن الأول كالمقابلة وأكثر المتأخرين من أصحابه على القول المبطل لهذا ردها إلى الشرط وربما تأولوا قوله جائز إي العقد جائز وبقية نصوصه تصرح بأن مراده الشرط أيضا واتبع في ذلك القصة المأثورة عن عمر وابن مسعود وزينب امرأة عبد الله ثلاثة من الصحابة وكذلك اشتراط المبيع فلا يبيعه ولا يهبه أو يتسراها ونحو ذلك مما فيه تعيين لمصرف واحد كما روى عمر بن شبه في أخبار عثمان أنه اشترى من صهيب دارا وشرط أن يقفها على صهيب وذريته من بعده

وجماع ذلك أن الملك يستفاد به تصرفات متنوعة فكما جاز بالإجماع استثناء بعض المبيع وجوز أحمد وغيره استثناء بعض منافعه جوز أيضا استثناء بعض التصرفات

وعلى هذا فمن قال هذا الشرط ينافي مقتضى العقد قيل له أينافي مقتضى العقد المطلق أو مقتضى العقد مطلقا فإن أراد الأول فكل شرط كذلك وإن أراد الثاني لم يسلم له وإنما المحذور أن ينافي مقصود العقد كاشتراط الطلاق في النكاح أو اشتراط الفسخ في العقد فأما إذا شرط ما يقصد بالعقد لم ينافي مقصوده هذا القول هو الصحيح بدلالة الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار مع الاستصحاب وعدم الدليل المنافي

أما الكتاب فقال الله تعالى 5 : 1 يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود والعقود هي العهود وقال تعالى وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا وقال تعالى وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا وقال تعالى ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسئولا فقد أمر سبحانه بالوفاء بالعقود وهذا عام وكذلك أمر بالوفاء بعهد الله وبالعهد وقد دخل في ذلك ما عقده المرء على نفسه بدليل قوله ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل فدل على أن عهد الله يدخل فيه ما عقده المرء على نفسه وإن لم يكن الله قد أمر بنفس ذلك المعهود عليه قبل العهد كالنذر والبيع وإنما أمر بالوفاء به ولهذا قرنه بالصدق في قوله إذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا لأن العدل في القول خبر يتعلق بالماضي والحاضر والوفاء بالعهد يكون في القول المتعلق بالمستقبل كما قال تعالى ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون وقال سبحانه واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام قال المفسرون كالضحاك وغيره تساءلون به تتعاهدون وتتعاقدون وذلك لأن كل واحد من المتعاقدين يطلب من الآخر ما أوجبه العقد من فعل أو ترك أو مال أو نفع ونحو ذلك وجمع سبحانه في هذه الآية وسائر السورة أحكام الأسباب التي بين بني آدم المخلوقة كالرحم والمكسوبة كالعقود التي يدخل فيها الصهر وولاية مال اليتيم ونحو ذلك وقال سبحانه وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم والأيمان جمع يمين وكل عقد فإنه يمين قيل سمى بذلك لأنهم كانوا يعقدونه بالمصافحة باليمين يدل على ذلك قوله إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين فأذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتو الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم وإن أحد من المشركين استجارك فآجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسول إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة والإل هو القرابة والذمة العهد وهما المذكوران في قوله تساءلون به والأرحام إلى قوله لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة فذمهم الله على قطيعة الرحم ونقض الذمة إلى قوله وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وهذه نزلت في كفار مكة لما صالحهم النبي عام الحديبية ثم نقضوا العهد بإعانة بني بكر على خزاعة وأما قوله سبحانه براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فتلك عهود جائزة لا لازمة

فإنها كانت مطلقة وكان مخيرا بين إمضائها ونقضها كالوكالة ونحوها ومن قال من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم إن الهدنة لا تصلح إلا مؤقتة فقوله مع أنه مخالف لأصول أحمد يرده القرآن وترده سنة رسول الله في أكثر المعاهدين فإنه لم يوقت معهم وقتا فأما من كان من عهده موقتا فلم يبح له نقضه بدليل قوله إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين وقال إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين وقال إما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء فإنما أباح النبذ عند ظهور أمارات الخيانة لأن المحذور من جهتهم وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون الآية وجاء أيضا في صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري إن في القرآن الذي نسخت تلاوته سورة كانت كبراءة يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة وقال تعالى والذين هم لآماناتهم وعهدهم راعون في سورتي المؤمنون والمعارج وهذا من صفة المستثنين من الهلع المذموم بقوله إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم والذين يصدقون بيوم الدين والذين هم من عذاب ربهم مشفقون إن عذاب ربهم غير مأمون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون هذا يقتضي وجوب ذلك لأنه لم يستثن من المذموم إلا من اتصف بجميع ذلك ولهذا لم يذكر فيها إلا ما هو واجب وكذلك في سورة المؤمنين قال في أولها أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون فمن لم يتصف بهذه الصفات لم يكن من الوارثين لأن ظاهر الآية

فقال النبي الولاء لمن أعتق وإن اشترطوا مائة شرط وفي لفظ شرط الله أحق وأوثق وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر أن عائشة أم المؤمنين أرادت أن تشتري جارية لتعتقها فقال أهلها نبيعكها على أن ولائها لنا فذكرت ذلك لرسول الله فقال لا يمنعنك ذلك فإنما الولاء لمن أعتق وفي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال أرادت عائشة أن تشتري جارية فتعتقها فأبى أهلها إلا أن يكون لهم الولاء فذكرت ذلك لرسول الله فقال لا يمنعك ذلك فإنما الولاء لمن أعتق

ولهم من هذا الحديث حجتان

إحداهما قوله ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل فكل شرط ليس في القرآن ولا في الحديث ولا في الإجماع فليس في كتاب الله بخلاف ما كان في السنة أو في الإجماع فإنه في كتاب الله بواسطة دلالته على اتباع السنة والإجماع

ومن قال بالقياس وهم الجمهور قالوا إذا دل على صحته القياس المدلول عليه بالسنة أو بالإجماع المدلول عليه بكتاب الله فهو في كتاب الله

والحجة الثانية أنهم يقيسون جميع الشروط التي تنافي موجب العقد على اشتراط الولاء لأن العلة فيه كونه مخالفا لمقتضى العقد وذلك لأن العقود توجب مقتضياتها بالشرع فيعتبر تغييرها تغييرا لما أوجبه الشرع بمنزلة تغيير العبادات وهذا نكتة القاعدة وهي أن العقود مشروعة على وجه فاشتراط ما يخالف مقتضاها تغيير للمشروع ولهذا كان أبو حنيفة ومالك والشافعي في أحد القولين لا يجوزون أن يشترط في العبادات شرطا يخالف مقتضاها فلا يجوزون للمحرم أن يشترط الإحلال بالعذر متابعة لعبد الله بن عمر حيث كان ينكر الاشتراط في الحج ويقول أليس حسبكم سنة نبيكم وقد استدلوا بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين وقال إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم وقال تعالى ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون

والأحاديث في هذا كثيرة مثل ما في الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله أربع من كن فيه كان منافقا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد عن النبي قال لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة وفي رواية وفي رواية لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به بقدر غدرته ألا ولا غادر أعظم غدرة من أمير عامة وفي صحيح مسلم عن بريدة بن الحصيب قال كان رسول الله إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله وفيمن معه من المسلمين خيرا ثم قال اغزوا باسم الله وفي سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم الحديث فنهاهم عن الغدر كما نهاهم عن الغلول

وفي الصحيحين عن ابن عباس عن أبي سفيان بن حرب لما سأله هرقل عن صفة النبي هل يغدر فقال لا يغدر ونحن معه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها قال ولم يمكني كلمة أدخل فيها شيئا إلا هذه الكلمة


غيره من الأئمة فقال بذلك وبما في معناه قياسا عليه وما اعتمده غيره في إبطال الشروط من نص فقد يضعفه أو يضعف دلالته وكذلك قد يضعف ما اعتمدوه من قياس وقد يعتمد طائفة من أصحابه عمومات الكتاب والسنة التي سنذكرها في تصحيح الشروط كمسألة الخيار أكثر من ثلاث مطلقا فمالك يجوزه بقدر الحاجة وأحمد في إحدى الروايتين عنه يجوز شرط الخيار في النكاح أيضا ويجوزه ابن حامد وغيره في الضمان ونحوه ويجوز أحمد استثناء بعض منفعة الخارج من ملكه في جميع العقود واشتراط قدر زائد على مقتضاها عند الإطلاق فإذا كان لها مقتضى عند الإطلاق جوز الزيادة عليه بالشرط والنقص منه بالشرط ما لم يتضمن مخالفة الشرع كما سأذكره إن شاء الله

فيجوز للبائع أن يستثني بعض منفعة المبيع كخدمة العبد وسكنى الدار ونحو ذلك إذا كانت تلك المنفعة مما يجوز استبقاؤها في ملك الغير اتباعا لحديث جابر لما باع النبي جمله واستثنى ظهره إلى المدينة

ويجوز أيضا للمعتق أن يستثني خدمة العبد مدة حياته أو حياة السيد أو غيرهما اتباعا لحديث سفينة لما أعتقته أم مسلمة واشترطت عليه خدمة النبي ما عاش

ويجوز على عامة أقواله أن يعتق أمته ويجعل عتقها صداقها كما في حديث صفية وكما فعله أنس بن مالك وغيره وإن لم ترض المرأة كأنه أعتقها واستثنى منفعة البضع لكنه استثناها بالنكاح إذ استثناؤها بلا نكاح غير جائز بخلاف منفعة الخدمة

ويجوز أيضا للواقف إذا وقف شيئا أن يستثني منفعته وغلته جميعها لنفسه مدة حياته كما روي عن الصحابة أنهم فعلوا ذلك وروي فيه حديث مرسل عن النبي وهل يجوز وقف الإنسان على نفسه فيه عنه روايتان

وقد روى أبو داود والدارقطني من حديث سليمان بن بلال حدثنا كثير ابن زيد عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة قال قال رسول الله الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا والمسلمون على شروطهم وكثير بن زيد قال يحيى بن معين في رواية هو ثقة وضعفه في رواية أخرى

وقد روى الترمذي والبزار من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده أن رسول الله قال الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما قال الترمذي حديث حسن صحيح وروى ابن ماجة منه الفصل الأول لكن كثيرا ابن عمرو ضعفه الجماعة وضرب أحمد على حديثه في المسند فلم يحدث به فلعل تصحيح الترمذي له لروايته من وجوه وقد روي أبو بكر البزار أيضا عن محمد بن عبد الرحمن السلماني عن أبيه عن أبن عمر قال قال رسول الله الناس على شروطهم ما وافق الحق وهذه الأسانيد وإن كان الواحد منها ضعيفا فاجتماعها من طرق يشد بعضها بعضا

وهذا المعنى هو الذي يشهد له الكتاب والسنة وهو حقيقة المذهب فإن المشترط ليس له أن يبيح ما حرمه الله ولا يحرم ما أباحه الله فإن شرطه حينئذ يكون مبطلا لحكم الله وكذلك ليس له أن يسقط ما أوجبه الله وإنما المشترط له أن يكون يوجب بالشرط ما لم يكن واجبا بدونه فمقصود الشروط وجوب مالم يكن واجبا ولا حراما وعدم الإيجاب ليس نفيا للإيجاب حتى يكون المشترط مناقضا للشرع وكل شرط صحيح فلا بد أن يفيد وجوب ما لم يكن واجبا فإن المتبايعين يجب لكل منهما على الآخر من الإقباض ما لم يكن واجبا ويباح أيضل لكل منهما ما لم يكن مباحا ويحرم على كل منهما ما لم يكن حراما وكذلك كل من المتآجرين والمتناكحين وكذلك إذا اشترط صفة في المبيع أو رهنا أو اشترطت المرأة زيادة على مهر مثلها فإنه يجب ويحرم ويباح بهذا الشرط ما لم يكن كذلك

وهذا المعنى هو الذي أوهم من اعتقد أن الأصل فساد الشروط قال لأنها إما تبيح حراما أو تحرم حلالا أو توجب ساقطا أو تسقط واجبا وذلك لا يجوز إلا بإذن الشارع وأوردت شبهة عند بعض الناس حتى توهم أن هذا الحديث متناقض وليس كذلك بل كل ما كان حراما بدون الشرط فالشرط لا يبيحه كالربا وكالوطء في ملك الغير وكثبوت الولاء لغير المعتق فإن الله حرم الوطء إلا بملك نكاح أو ملك يمين فلو أراد رجل أن يعير أمته لآخر للوطء لم يجز له ذلك بخلاف إعارتها للخدمة فإنه جائز وكذلك الولاء فقد نهى النبي صلى لله عليه وسلم عن بيع الولاء وعن هبته وجعل الله الولاء كالنسب يثبت للمعتق كما يثبت النسب للوالد وقال من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنه الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا وأبطل الله ما كانوا عليه في الجاهلية من تبنى الرجل ابن غيره وانتساب المعتق إلى غير مولاه فهذا أمر لا يجوز فعله بغير شرط فلا يبيح الشرط منه ما كان حراما وأما ما كان مباحا بدون اشرط فالشرط يوجبه كالزيادة في المهر والثمن والرهن وتأخير الاستيفاء فإن الرجل له أن يعطي المرأة وله أن يتبرع بالرهن وبالإنظار ونحو ذلك فإذا شرطه صار واجبا وإذا وجب فقد حرمت المطالبة التي كانت حلالا بدونه لأن المطالبة لم تكن حلالا مع عدم الشرط فإن الشارع لم يبح مطالبة المدين مطلقا فما كان حلالا وحراما مطلقا فالشرط لا يغيره

وأما ما أباحه الله في حال مخصوصة ولم يبحه مطلقا فإذا حوله الشرط عن تلك الحال لم يكن الشرط قد حرم ما أحله الله وكذلك ما حرمه الله في حال مخصوصة ولم يحرمه مطلقا لم يكن الشرط قد أباح ما حرمه الله وإن كان بدون الشرط يستصحب حكم الإباحة والتحريم لكن فرق بين ثبوت الإباحة والتحريم بالخطاب وبين ثبوته بمجرد الاستصحاب

فالعقد والشرط يرفع موجب الاستصحاب لكن لا يرفع ما أوجبه كلام الشارع وآثار الصحابة توافق ذلك كما قال عمر رضى الله عنه مقطع الحقوق عند الشروط

وأما الاعتبار فمن وجوه أحدها أن العقود والشروط من باب الأفعال العادية والأصل فيها عدم التحريم فيستصحب عدم التحريم فيها حتى يدل ذلك على التحريم كما أن الأعيان الأصل فيها عدم التحريم وقوله وقد فصل لكم ما حرم عليكم عام في الأعيان والأفعال وإذا لم يكن حراما لم تكن فاسدة وكانت صحيحة

وأيضا فليس في الشرع ما يدل على تحريم جنس العقود والشروط إلا ما ثبت حله بعينه وسنبين إن شاء الله معنى حديث عائشة وأن انتفاء دليل التحريم دليل على عدم التحريم فثبت بالاستصحاب العقلي وانتفاء الدليل الشرعي عدم التحريم فيكون فعلها إما حلالا وإما عفوا كالأعيان التي لم تحرم وغالب ما يستدل به على أن الأصل في الأعيان عدم التحريم من النصوص العامة والأقيسة الصحيحة والاستصحاب العقلي وانتفاء الحكم لانتفاء دليله فإنه يستدل به على عدم تحريم العقود والشروط فيها سواء سمى ذلك حلالا أو عفوا على الاختلاف المعروف بين أصحابنا وغيرهم فإن ما ذكره الله في القرآن من ذم الكفار على التحريم بغير شرع منه سببه تحريم الأعيان ومنه ما سببه تحريم الأفعال كما كانوا يحرمون على المحرم لبس ثيابه والطواف فيها إذا لم يكن احمسيا ويأمرونه بالتعري إلا أن يعيره احمسى ثوبه ويحرمون عليه الدخول تحت سقف كما كان الأنصار يحرمون إتيان الرجل امرأته في فرجها إذا كانت مجنبة ويحرمون الطواف بالصفا والمروة وكانوا مع ذلك قد ينقضون العهود التي عقدوها بلا شرع فأمرهم الله سبحانه في سورة النحل وغيرها بالوفاء بها إلا ما اشتمل على محرم

فعلم أن العهود يجب الوفاء بها إذا لم تكن محرمة وإن لم يثبت حلها بشرع خاص كالعهود التي عقدوها في الجاهلية وأمر بالوفاء بها وقد نبهنا على هذه القاعدة فيما تقدم وذكرنا أنه لا يشرع إلا ما شرعه الله ولا يحرم إلا ما حرمه الله لأن الله ذم المشركين الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله وحرموا ما لم يحرمه الله فإذا حرمنا العقود والشروط التي تجري بين الناس في معاملاتهم العادية بغير دليل شرعي كنا محرمين ما لم يحرمه الله بخلاف العقود التي تتضمن شرع دين لم يأذن به الله فإن الله قد حرم أن يشرع من الدين مما لم يأذن به فلا يشرع عبادة إلا بشرع الله ولا يحرم عادة إلا بتحريم الله والعقود في المعاملات هي من العادات يفعلها المسلم والكافر وإن كان فيها قربة من وجه آخر فليست من العبادات التي يفتقر فيها إلى شرع كالعتق والصدقة

فإن قيل العقود تغير ما كان مشروعا لأن ملك البضع أو المال إذا كان ثابتا على حال فعقد عقدا أزاله عن تلك الحال فقد غير ما كان مشروعا بخلاف الأعيان التي لم تحرم فإنه لا يعتبر في إباحتها

فيقال لا فرق بينهما وذلك أن الأعيان إما أن تكون ملكا لشخص أو لا تكون فإن كانت ملكا فانتقالها بالبيع إلى غيره لا يغيرها وهو من باب العقود وإن لم تكن ملكا فملكها بالاستيلاء ونحوه هو فعل من الأفعال مغير لحكمها بمنزلة العقود

وأيضا فإنها قبل الزكاة محرمة فالزكاة الواردة عليها بمنزلة العقد الوارد على المال فكما أن أفعالنا في الأعيان من الأخذ والزكاة الأصل فيه الحل وإن غير

حكم العين فكذلك أفعالنا في الملاك في العقود ونحوها الأصل فيها الحل وإن غيرت حكم الملك

وسبب ذلك أن الأحكام الثابتة بأفعالنا كالملك الثابت بالبيع وملك البضع الثابت بالنكاح نحن أحدثنا أسباب تلك الأحكام والشارع أثبت الحكم لثبوت سببه منا لم يثبته ابتداء كما أثبت إيجاب الواجبات وتحريم المحرمات المبتدأة فإذا كنا نحن المثبتين لذلك الحكم ولم يحرم الشارع علينا رفعه لم يحرم علينا رفعه فمن اشترى عينا فالشارع أحلها له وحرمها على غيره لإثباته سبب ذلك وهو الملك الثابت بالبيع وما لم يحرم الشارع عليه ورفع ذلك فله أن يرفع ما أثبته على أى وجه احب ما لم يحرمه الشارع عليه كمن أعطى رجلا مالا فالأصل أن لايحرم عليه التصرف فيه وإن كان مزيلا للملك الذي أثبته المعطى ما لم يمنع مانع وهذا نكتة المسألة التي يتبين بها مأخذها وهو أن الأحكام الجزئية من حل هذا المال لزيد وحرمته على عمرو لم يشرعها الشارع شرعا جزئيا وإنما شرعها شرعا كليا مثل قوله وأحل الله البيع وحرم الربا وقوله وأحل لكم ما وراء ذلكم وقوله فانكحوا ما طاب لكم من النساء وهذا الحكم الكلي ثابت سواء وجد هذا البيع المعين أو لم يوجد فإذا وجد بيع معين أثبت ملكها معينا فهذا المعين سببه فعل العبد فإذا رفعه العبد فإنما رفع ما أثبته هو بفعله لا ما أثبته الله من الحكم الجزئي إنما هو تابع لفعل العبد سببه فقط لأن الشارع أثبته ابتداء

وإنما توهم بعض الناس أن رفع الحقوق بالعقود والفسوخ مثل نسخ الأحكام وليس كذلك فإن الحكم المطلق لا يزيله إلا الذي أثبته وهو الشارع وأما هذا المعين فإنما ثبت لأن العبد ادخله في المطلق فإدخاله في المطلق إليه فكذلك إخراجه إذ الشارع لم يحكم عليه في المعين بحكم أبدا مثل أن يقول هذا الثوب بعه أو لا تبعه أو هبه أو لا تهبه وإنما حكمه على المطلق الذي إذا أدخل فيه المعين على حكم المعين

فتدبر هذا وفرق بين تغيير الحكم المعين الخاص الذي أثبته العبد بإدخاله في المطلق وبين تغيير الحكم العام الذي أثبته الشارع عند وجود سببه من العبد وإذا ظهر أن العقود لا يحرم منها إلا ما حرمه الشارع فإنما وجب الوفاء بها لإيجاب الشارع الوفاء بها مطلقا إلا ما خصه الدليل على أن الوفاء بها من الواجبات التي اتفقت عليها الملل بل والعقلاء جميعهم وقد أدخلها في الواجبات العقلية من قال بالوجوب العقلي ففعلها ابتداء لا يحرم إلا بتحريم الشارع والوفاء بها وجب لإيجاب الشارع إذن ولإيجاب العقل أيضا

وأيضا فإن الأصل في العقود رضى المتعاقدين وموجبها هو ما أوجباه على أنفسهما بالتعاقد لأن الله قال في كتابه العزيز إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم وقال فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا فعلق جواز الأكل بطيب النفس تعليق الجزاء بشرطه فدل على أنه سبب له وهو حكم معلق على وصف مشتق مناسب فدل على أن ذلك الوصف سبب لذلك الحكم وإذا كان طيب النفس هو المبيح لأكل الصداق فكذلك سائر التبرعات قياسا عليه بالعلة المنصوص التي دل عليها القرآن وكذلك قوله إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم لم يشترط في التجارة إلا التراضي وذلك يقتضي أن التراضي هو المبيح للتجارة وإذا كان كذلك فإذا تراضى المتعاقدان بتجارة أو طابت نفس المتبرع بتبرع ثبت حله بدلالة القرآن إلا أن يتضمن ما حرمه الله ورسوله كالتجارة في الخمر ونحو ذلك

وأيضا فإن العقد له حالان حال إطلاق وحال تقييد ففرق بين العقد المطلق وبين المعنى المطلق من العقود فإذا قيل هذا شرط ينافي مقتضى العقد فإن أريد به ينافي العقد المطلق فكذلك كل شرط زائد وهذا لا يضره وإن أريد ينافى مقتضى العقد المطلق والمقيد احتاج إلى دليل على ذلك وإنما يصح هذا إذا نافى مقصود العقد فإن العقد إذا كان له مقصود يراد في جميع

وذلك أن الأصل في هذه المعاوضات والمقابلات هو التعادل من الجانبين فإن اشتمل أحدهما على غرر أو ربا دخلها الظلم فحرمها الله الذي حرم الظلم على نفسه وجعله محرما على عباده فإن كان أحد المتبايعين إذا ملك الثمن وبقي الآخر تحت الخطر لم يجز ولذلك حرم النبي بيع الثمر قبل بدو صلاحه فكذلك هذا إذا اشترطا لأحد الشريكين مكانا معينا خرجا عن موجب الشركة فإن الشركة تقتضي الاشتراك في النماء فإذا انفرد أحدهما بالمعين لم يبق للآخر فيه نصيب ودخله الخطر ومعنى القمار كما ذكره رافع في قوله فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فيفوز أحدهما ويخيب الآخر وهذا معنى القمار وأخبر رافع أنه لم يكن لهم كراء على عهد النبي إلا هذا وأنه إنما زجر عنه لأجل ما فيه من المخاطرة ومعنى القمار وأن النهي إنما انصرف إلى ذلك الكراء المعهود لا إلى ما يكون فيه الأجرة مضمونة في الذمة وسأشير إن شاء الله إلى مثل ذلك في نهيه عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها ورافع أعلم بنهي النبي عن أي شيء وقع وهذا والله أعلم هو الذي انتهى عنه عبد الله بن عمر فإنه قال لما حدثه رافع قد علمت أنا كنا نكرى مزارعنا على الأربعاء وبشيء من التبن فبين أنهم كانوا يكرون بزرع مكان معين وكان ابن عمر يفعله لأنهم كانوا يفعلونه على عهد النبي حتى بلغه النهي

يدل على ذلك أن ابن عمر كان يروي حديث معاملة خيبر دائما ويفتي به ويفتي بالمزارعة على الأرض البيضاء وأهل بيته أيضا بعد حديث رافع فروى حرب الكرماني قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن راهويه حدثنا معتمر بن سليمان سمعت كليب بن وائل قال أتيت ابن عمر فقلت أتاني رجل له أرض وماء وليس له بذر ولا بقر فأخذتها بالنصف فبذرت فيها بذري وعملت فيها ببقري فناصفته قال حسن وقال حدثنا ابن أخي حزم حدثنا

الحصر فإن إدخال الفصل بين المبتدأ والخبر يشعر الحصر ومن لم يكن من وارثي الجنة كان معرضا للعقوبة إلا أن يعفو الله عنه وإذا كانت رعاية العهد واجبة فرعايته هي الوفاء به ولما جمع الله بين العهد والأمانة جعل النبي ضد ذلك صفة المنافق في قوله إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر وعنه كان على خلق من نفاق فطبع المؤمن ليس الخيانة ولا الكذب وما زالوا يوصون بصدق الحديث وأداء الأمانة وهذا عام وقال تعالى وما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل فذمهم على نقض عهد الله وقطع ما أمر الله بصلته لأن الواجب إما بالشرع وإما بالشرط الذي عقده المرء باختياره وقال أيضا الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار وقال أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون وقال ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك همم المتقون وقال تعالى ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك

فظهر به أن الذي نهى عنه النبي من بيع الثمرة قبل زهوها وبيع الحب قبل اشتداده ليس هو إن شاء الله إكراؤها لمن يحصل ثمرتها وزرعها بعمله وسقيه ولا هذا داخل في نهيه لفظا ولا معنى

يوضح ذلك أن البائع لثمرتها عليه تمام سقيها والعمل عليها حتى يتمكن المشتري من الحصاد فإن هذا من تمام التوفية ومؤنه التوفية على البائع كالكيل والوزن وأما المكري لها لمن يخدمها حتى تثمر فهو كمكري الأرض لمن يخدمها حتى تنبت ليس على المكري عمل أصلا وإنما عليه التمكين من العمل يحصل به الثمر والزرع

ولكن يقال طرد هذا أن يجوز إكراء البهائم لمن يفعلها ويسقيها ويحتلب لبنها

قيل إذا جوزنا على إحدى الروايتين أن تدفع الماشية إلى من يعلفها ويسقيها بجزء من درها ونسلها جاز دفعها إلى من يعمل عليها لدرها بشيء من مضمون

وإن قيل فهلا جاز إجارتها لاحتلاب لبنها كما جاز إجارة الظئر أن ترضع بعمل صاحبها للغنم لأن الظئر هي التي ترضع الطفل فإذا كانت هي التي توفي المنفعة فنظيره أن يكون المؤجر هو الذي يوفي منفعة الإرضاع وحينئذ فالقياس جوازه ولو كان لرجل غنم فاستأجر غنم رجل ليرضعها لم يكن هذا ممتنعا وأما إن كان المستأجر هو الذي يحلب اللبن أو هو الذي يستوفيه فهذا مشتر اللبن ليس مستوفيا لمنفعة ولا مستوفيا للعين بعمل وهو شبيه باشتراء الثمرة واحتلابه كقطافها وهو الذي نهى عنه النبي بقوله لا يباع لبن في ضرع بخلاف ما لو استأجرها لأن يقوم عليها ويحتلب لبنها فهذا نظير اكتراء الأرض والشجر

يحيى بن سعيد حدثنا سعيد بن عبيد سمعت سالم بن عبد الله وأتاه رجل فقال الرجل منا ينطلق إلى الرجل فيقول أجيء ببذري وبقري وأعمل أرضك فما أخرج الله منه فلك منه كذا ولي منه كذا قال لا بأس به ونحن نصنعه وهكذا أخبر أقارب رافع ففي البخاري عن رافع قال حدثني عماي أنهم كانوا يكرون الأرض على عهد رسول الله فيما ينبت على الأربعاء أو بشيء يستثنيه صاحب الأرض فنهانا النبي عن ذلك فقيل لرافع فكيف بالدينار والدرهم فقال ليس بأس بالدينار والدرهم وكان الذي نهى عنه من ذلك ما لو نظر فيه ذو الفهم بالحلال والحرام لم يجزه لما فيه من المخاطرة وعن أسيد بن ظهير قال كان أحدنا إذا استغنى عن أرضه أعطاها بالثلث والربع والنصف ويشترط ثلاث جداول والقصارة وما سقى الربيع وكان العيش إذ ذاك شديدا وكان يعمل فيها بالحديد وما شاء الله ويصيب منها منفعة فأتانا رافع بن خديج فقال أن رسول الله ينهاكم عن الحقل ويقول من استغنى عن أرضه فليمنحها أخاه أو ليدع رواه أحمد وابن ماجة وروى أبو داود قول النبي زاد أحمد وينهاكم عن المزابنة والمزابنة أن يكون الرجل له المال العظيم من النخل فيأتيه الرجل فيقول أخذته بكذا وكذا وسقا من تمر والقصارة ما سقط من السنبل وهكذا أخبر سعد بن أبي وقاص وجابر فأخبر سعد أن أصحاب المزارع في زمان رسول الله كانوا يكرون مزارعهم بما يكون على السواقي من الزرع وما سعد بالماء مما حول البئر فجاءوا رسول الله فاختصموا في ذلك فنهاهم رسول الله أن يكروا ذلك وقال اكروا بالذهب والفضة رواه أحمد وأبو داود والنسائي فهذا صريح في الإذن بالكراء بالذهب والفضة وأن النهي إنما كان عن اشتراط زرع مكان معين وعن جابر رضي الله عنه قال كنا نخابر على عهد رسول الله بنصيب من القصري ومن كذا فقال رسول الله من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه أو فليدعها رواه مسلم

فهؤلاء أصحاب النبي الذين رووا عنه النهي قد أخبروا بالصورة التي نهى عنها والعلة التي نهى من أجلها وإذا كان قد جاء في بعض طرق الحديث أنه نهى عن كراء المزارع مطلقا فالتعريف للكراء المعهود بينهم وإذا قال لهم النبي لا تكروا المزارع فإنما أراد الكراء الذي يعرفونه كما فهموه من كلامه وهم أعلم بمقصوده وكما جاء مفسرا عنه أنه رخص في غير ذلك الكراء وكما يشبه ذلك ما قرن به النهي من المزابنة ونحوها واللفظ وإن كان في نفسه مطلقا فإنه إذا كان خطابا لمعين في مثل الجواب عن سؤال أو عقب حكاية حال ونحو ذلك فإنه كثيرا ما يكون مقيدا بمثل حال المخاطب كما لو قال المريض للطبيب إن به حرارة فقال له لا تأكل الدسم فإنه يعلم أن النهي مقيد بتلك الحال

وذلك أن اللفظ المطلق إذا كان له مسمى معهود أو حال يقتضيه انصرف إليه وإن كان نكرة كالمتبايعين إذا قال أحدهما بعتك بعشرة دراهم فإنها مطلقة في اللفظ ثم لا ينصرف إلا إلى المعهود من الدراهم فإذا كان المخاطبون لا يتعارفون بينهم لفظ الكراء إلا كذلك الذي كانوا يفعلونه ثم خوطبوا به لم ينصرف إلا إلى ما يعرفونه وكان ذلك من باب التخصيص العرفي كلفظ الدابة إذا كان معروفا بينهم أنه الفرس أو ذوات الحافر فقال لا تأتني بدابة لم ينصرف هذا المطلق إلا إلى ذلك ونهى النبي لهم كان مقيدا بالعرف وبالسؤال وقد تقدم ما في الصحيحين عن رافع بن خديج وعن ظهير بن رافع قال دعاني رسول الله فقال ما تصنعون بمحاقلكم قلت نؤاجرها بما على الربيع وعلى الأوسق من التمر والشعير قال لا تفعلوا ازرعوها أو أزرعوها أو أمسكوها

فقد صرح بأن النهي وقع عما كانوا يفعلونه وأما المزارعة المحضة فلم يتناولها النهي ولا ذكرها رافع وغيره فيما يجوز من الكراء لأنها والله أعلم عندهم جنس آخر غير الكراء المعتاد فإن الكراء اسم لما وجب فيه أجرة معلومة إما عين وإما دين فإن كان دينا في الذمة مضمونا فهو جائز وكذلك إن كان عينا من غير الزرع وأما إن كان عينا من الزرع لم يجز

فأما المزارعة بجزء شائع من جميع الزرع فليس هو الكراء المطلق بل هو شركة محضة إذ ليس جعل العامل مكتريا للأرض بجزء من الزرع بأولى من جعل المالك مكتريا للعامل بالجزء الآخر وإن كان من الناس من يسمي هذا كراء أيضا فإنما هو كراء بالمعنى العام الذي تقدم بيانه فأما الكراء الخاص الذي تكلم به رافع وغيره فلا ولهذا السبب بين رافع أحد نوعي الكراء الجائز وبين النوع الآخر الذي نهوا عنه ولم يتعرض للشركة لأنها جنس آخر

بقي أن يقال فقول النبي من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه وإلا فليمسكها أمر إذا لم يفعل واحدا من الزرع والمنيحة أن يمسكها وذلك يقتضي المنع من المؤاجرة ومن المزارعة كما تقدم

فيقال الأمر بهذا أمر ندب واستحباب لا أمر أيجاب أو كان أمر أيجاب في الابتداء لينزجروا عما اعتادوه من الكراء الفاسد وهذا كما أنه لما نهاهم عن لحوم الحمر الأهلية قال في الآنية التي كانوا يطبخون فيها أهريقوا ما فيها واكسروها وقال في آنية أهل الكتاب حين سأله عنها أبو ثعلبة الخشني إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها وإن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء وذلك لأن النفوس إذا اعتادت المعصية فقد لا تنفطم عنها انفطاما جيدا إلا بترك ما يقاربها من المباح كما قيل لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزا من الحلال كما أنها أحيانا لا تترك المعصية إلا بتدريج لا بتركها جملة

فهذا يقع تارة وهذا يقع تارة ولهذا يوجد في سنة النبي لمن خشي منه النفرة عن الطاعة الرخصة له في أشياء يستغني بها عن المحرم ولمن وثق بإيمانه وصبره النهي عن بعض ما يستحب له تركه مبالغة في فعل الأفضل ولهذا يستحب لمن وثق بإيمانه وصبره من فعل المستحبات البدنية والمالية كالخروج عن جميع ماله مثل أبي بكر الصديق ما لا يستحب لمن لم يكن حاله كذلك كالرجل الذي جاءه ببيضة من ذهب فحذفه بها فلو أصابته لأوجعته ثم قال يذهب أحدكم فيخرج ماله ثم يجلس كلا على الناس

يدل على ذلك ما قدمناه من رواية مسلم الصحيحة عن ثابت بن الضحاك أن النبي نهى عن المزارعة وأمر بالمؤاجرة وقال لا بأس بها وما ذكرناه من رواية سعد بن أبي وقاص أنه نهاهم أن يكروا بزرع موضع معين وقال كروا بالذهب والفضة وكذلك فهمته الصحابة فإن رافع ابن خديج قد روى ذلك وأخبر أنه لا بأس بكرائها بالذهب والفضة وكذلك فقهاء الصحابة كزيد بن ثابت وابن عباس ففي الصحيحين عن عمرو بن دينار قال قلت لطاووس لو تركت المخابرة فإنهم يزعمون أن النبي نهى عنها قال أي عمرو إني أعطيهم وأعينهم وإن أعلمهم أخبرني يعني ابن عباس أن النبي لم ينه عنه ولكن قال أن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ عليه خرجا معلوما وعن ابن عباس أيضا أن رسول الله لم يحرم المزارعة ولكن أمر أن يرفق بعضهم ببعض رواه مسلم مجملا والترمذي وقال حديث حسن صحيح فقد أخبر طاوس عن ابن عباس أن النبي إنما دعاهم إلى الأفضل وهو التبرع قال وأنا أعينهم وأعطيهم وأمر النبي بالرفق الذي منه واجب وهو ترك الربا والغرر ومنه مستحب كالعارية والقرض ولهذا لما كان التبرع بالأرض بلا أجرة من باب الإحسان كان المسلم أحق به فقال لأن يمنح أحدكم أخاه أرضه خير له من أن يأخذ عليه خرجا معلوما وقال من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه أو ليمسكها فكان الأخ هو الممنوح ولما كان أهل الكتاب ليسوا من الإخوان عاملهم النبي ولم يمنحهم لا سيما والتبرع إنما يكون عن فضل غني فمن كان محتاجا إلى منفعة أرضه لم يستحب له المنيحة كما كان المسلمون محتاجين إلى منفعة أرض خيبر وكما كان الأنصار محتاجين في أول الإسلام إلى أرضهم حيث عاملوا عليها المهاجرين وقد توجب الشريعة التبرع عند الحاجة كما نهاهم النبي عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الدافة التي دفت ليطعموا الجياع لأن إطعامهم واجب فلما كان المسلمون محتاجين إلى منفعة الأرض وأصحابها أغنياء عنها نهاهم عن المعاوضة ليجودوا بالتبرع ولم يأمرهم بالتبرع عينا كما نهاهم عن الادخار فإن من نهى عن الانتفاع بماله جاد ببذله إذ لا يترك بطالا وقد ينهى النبي بل الأئمة عن بعض أنواع المباح في بعض الأحوال لما في ذلك من منفعة المنهي كما نهاهم في بعض المغازي وأما ما رواه جابر من نهيه عن المخابرة فهذه هي المخابرة التي نهى عنها واللام لتعريف العهد ولم تكن المخابرة عندهم إلا ذلك

يبين ذلك ما في الصحيح عن ابن عمر قال كنا لا نرى بالخبر بأسا حتى كان عام أول فزعم رافع أن النبي نهى عنه فتركناه من أجله

باطل بل الزرع يحصل بمنفعة الأرض المشتملة على التراب والماء والهواء ومنفعة بدن العامل والبقر والحديد

ثم لو سلم أن بينها وبين المضاربة فرقا فلا ريب أنها بالمضاربة أشبه منها بالمؤاجرة لأن المؤاجرة المقصود فيها هو العمل ويشترط أن يكون معلوما والأجرة مضمونة في الذمة أو عين معينة وهنا ليس المقصود إلا النماء ولا يشترط معرفة العمل والأجرة ليست عينا ولا شيئا في الذمة وإنما هي بعض ما يحصل من النماء ولهذا متى عين فيها شيء معين فسد العقد كما تفسد المضاربة إذا شرطا لأحدهما ربحا معينا أو أجرة معلومة في الذمة وهذا بين في الغاية فإذا كانت بالمضاربة أشبه منها بالمؤاجرة جدا والفرق الذي بينها وبين المضاربة ضعيف والذي بينهما وبين المؤاجرة فروق غير مؤثرة في الشرع والعقل وكان لا بد من إلحاقها بأحد الأصلين وإلحاقها بما هي به أشبه أولى وهذا أجلى من أن يحتاج فيه إلى إطناب

الوجه الثالث أن نقول لفظ الإجارة فيه عموم وخصوص فإنها على ثلاث مراتب

أحدها أن يقال لكل من بذل نفعا بعوض فيدخل في ذلك المهر كما في قوله تعالى 4 : 24 فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن وسواء كان العمل هنا معلوما أو مجهولا وكان الآخر معلوما أو مجهولا لازما أو غير لازم

المرتبة الثانية الإجارة التي هي جعالة وهو أن يكون النفع غير معلوم لكن العوض مضمونا فيكون عقدا جائزا غير لازم مثل أن يقول من رد علي عبدي فله كذا فقد يرده من كان بعيدا أو قريبا

الثالثة الإجارة الخاصة وهي أن يستأجر عينا أو يستأجره على عمل في الذمة بحيث تكون المنفعة معلومة فيكون الأجر معلوما والإجارة لازمة وهذه

أيضا قال الكرماني قيل لأبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رجل دفع أرضه إلى الأكار على الثلث والربع قال لا بأس بذلك إذا كان البذر من رب الأرض والبقر والحديد والعمل من الأكار يذهب فيه مذهب المضاربة

ووجه ذلك أن البذر هو أصل الزرع كما أن المال هو أصل الربح فلا بد أن يكون البذر ممن له الأصل ليكون من أحدهما العمل ومن الآخر الأصل

والرواية الثانية عنه لا يشترط ذلك بل يجوز أن يكون البذر من العامل وقد نقل عنه جماهير أصحابه أكثر من عشرين نفسا أنه يجوز أن يكرى أرضه بالثلث والربع كما عامل النبي أهل خيبر

فقالت طائفة من أصحابه كالقاضي أبي يعلى إذا دفع أرضه لمن يعمل عليها ببذره بجزء من الزرع للمالك فإن كان على وجه الإجارة جاز وإن كان على وجه المزارعة لم يجز وجعلوا هذا التفريق تقريرا لنصوصه لأنهم رأوا في عامة نصوصه صرائح كثيرة جدا في جواز كراء الأرض بجزء من الخارج منها ورأوا أن هذا هو ظاهر مذهبه عندهم من أنه لا يجوز في المزارعة أن يكون البذر من المالك كالمضاربة ففرقوا بين باب المزارعة والمضاربة وباب الإجارة

وقال آخرون منهم أبو الخطاب معنى قوله في رواية الجماعة يجوز كراء الأرض ببعض الخارج منها أراد به المزارعة والعمل من الأكار قال أبو الخطاب ومتبعوه فعلى هذه الرواية إذا كان البذر من العامل فهو مستأجر للأرض ببعض الخارج منها وإن كان من صاحب الأرض فهو مستأجر للعامل بما شرط له قال فعلى هذا ما يأخذه صاحب البذر يستحقه ببذره وما يأخذه من الأجرة يأخذه بالشرط

وما قاله هؤلاء من أن نصه على المكاري ببعض الخارج هو المزارعة على أن يبذر الأكار هو الصحيح ولا يحتمل الفقه إلا هذا وأن يكون نصه على جواز المؤاجرة المذكورة يقتضي جواز المزارعة بطريق الأولى وجواز هذه

شاء الله أو إن فعلته فامرأتي طالق إن شاء الله فقد أخرج من القول العام ما هو داخل فيه فإن هذا اليمين بالطلاق والعتاق وهما ليسا من الأيمان فإن الحلف بهما كالحلف بالصدقة والحج ونحوهما وذلك معلوم بالاضطرار عقلا وعرفا وشرعا ولهذا لو قال والله لا أحلف على يمين أبدا ثم قال إن فعلت كذا فامرأتي طالق حنث

وقد تقدم أن أصحاب رسول الله سموه يمينا وكذلك عامة المسلمين يسمونه يمينا فمعنى اليمين موجود فيه فإنه إذا قال أحلف بالله لأفعلن إن شاء الله فإن المشيئة تعود عند الإطلاق إلى الفعل المحلوف عليه والمعنى إني حالف على هذا الفعل إن شاء الله فعله فإذا لم يفعله لم يكن قد شاءه فلا يكون ملتزما له وإلا فلو نوى عوده إلى الحلف بأن يقصد أني حالف إن شاء الله أن أكون حالفا كان معنى هذا معنى الاستثناء في الإنشاءات كالطلاق والعتاق وعلى مذهب الجمهور لا ينفعه ذلك وكذلك قوله الطلاق يلزمني لأفعلن كذا إن شاء الله تعود المشيئة عند الإطلاق إلى الفعل فالمعنى لأفعلنه إن شاء الله فعله فمتى لم يفعله لم يكن الله قد شاءه فلا يكون ملتزما للطلاق بخلاف ما لو عنى الطلاق يلزمني إن شاء الله لزومه إياه فإن هذا بمنزلة قوله أنت طالق إن شاء الله

وقول أحمد إنما يكون الاستثناء فيما فيه الكفارة والطلاق والعتاق لا يكفران كلام حسن بليغ لما تقدم أن النبي أخرج حكم الاستثناء وحكم الكفارة مخرجا واحدا بصيغة واحدة فلا يفرق بين ما جمعه النبي ولأن الاستثناء إنما يقع لما علق به الفعل فإن الأحكام التي هي الطلاق والعتاق ونحوهما لا تعلق على مشيئة الله بعد وجود أسبابها فإنها واجبة بوجود أسبابها فإذا انعقدت أسبابها فقد شاءها الله وإنما تعلق على المشيئة الحوادث التي قد يشاؤها الله وقد لا يشاؤها من أفعال العباد ونحوها

كما يراه طائفة من أصحابه الذين يجوزون هذه المعاملة بلفظ الإجارة ويمنعونها بلفظ المزارعة وكذلك يجوزون بيع ما في الذمة بيعا حالا بلفظ البيع ويمنعونه بلفظ السلم لأنه يصير سلما حالا ونصوص أحمد وأصوله تأبى هذا كما قدمناه عنه في مسألة صيغ العقود فإن الاعتبار في جميع التصرفات القولية بالمعاني لا بما يحمل على الألفاظ كما شهد به أجوبته في الأيمان والنذور والوصايا وغير ذلك من التصرفات وإن كان هو قد فرق بينهما كما فرق طائفة من أصحابه فيكون هذا التفريق رواية عنه مرجوحة كالرواية المانعة من الأمرين

وأما الدليل على جواز ذلك فالسنة والإجماع والقياس

أما السنة فما تقدم من معاملة النبي لأهل خيبر على أن يعتملوها من أموالهم ولم يدفع إليهم بذرا ولما عامل المهاجرون والأنصار على أن البذر من عندهم قال حرب الكرماني حدثنا محمد بن نصر حدثنا حسان بن إبراهيم عن حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد عن إسماعيل بن حكيم أن عمر بن الخطاب أجلى أهل نجران وأهل فدك وأهل خيبر واستعمل يعلى بن منية فأعطى العنب والنخل على أن لعمر الثلثين ولهم الثلث وأعطى البياض يعني بياض الأرض على إن كان البذر والبقر والحديد من عند عمر فلعمر الثلثان ولهم الثلث وإن كان منهم فلعمر الشطر ولهم الشطر فهذا عمر رضي الله عنه ويعلى بن منية عامله صاحب رسول الله قد عمل في خلافته بتجويز كلا الأمرين أن يكون البذر من رب الأرض وأن يكون من العامل وقال حرب حدثنا أبو معن حدثنا مؤمل حدثنا سفيان عن الحارث بن حصيرة الأزدي عن صخر بن الوليد عن عمرو بن صليع بن محارب قال جاء رجل إلى علي بن أبي طالب فقال إن فلانا أخذ أرضا فعمل فيها وفعل فدعاه فقال ما هذه الأرض التي أخذت فقال أرض أخذتها أكرى أنهارها وأعمرها وأزرعها فما أخرج الله من شيء فلي النصف وله النصف فقال لا بأس بهذا فظاهره أن البذر من عنده ولم ينهه علي عن ذلك ويكفي إطلاق سؤاله وإطلاق علي الجواب

وأما القياس فقد قدمنا أن هذه المعاملة نوع من الشركة ليست من الإجارة الخاصة وإن جعلت إجارة فهي من الإجارة العامة التي تدخل فيها الجعالة والسبق والرمي وعلى التقديرين فيجوز أن يكون البذر منهما وذلك أن البذر في المزارعة ليس من الأصول التي ترجع إلى ربها كالثمن في المضاربة بل البذر يتلف كما تتلف المنافع وإنما ترجع الأرض أو بدن البقرة والعامل فلو كان البذر مثل رأس المال لكان الواجب أن يرجع مثله إلى مخرجه ثم يقتسمان الفضل وليس الأمر كذلك بل يشتركان في جميع الزرع فظهر أن الأصول فيها من أحد الجانبين هي الأرض بمائها وهوائها وبدن العامل والبقر واكتراء الحرث والبقر يذهب كما تذهب المنافع وكما تذهب أجزاء من الماء والهواء والتراب فيستحيل زرعا والله سبحانه يخلق الزرع من نفس الحب التراب والماء والهواء كما يخلق الحيوان من ماء الأبوين بل ما يستحيل في الزرع من أجزاء الأرض أكثر مما يستحيل من الحب والحب يستحيل فلا يبقى بل يفلقه الله ويحيله كما يحيل أجزاء الماء والهواء وكما يحيل المني وسائر مخلوقاته من الحيوان والمعدن والنبات وقع ما وقع من رأي كثير من الفقهاء اعتقدوا أن الحب والنوى في الزرع والشجر هو الأصل والباقي تبع حتى قضوا في مواضع بأن يكون الزرع والشجر لرب النوى والحب مع قلة قيمته ولرب الأرض أجرة أرضه

والنبي إنما قضى بضد هذا حيث قال من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته فأخذ أحمد وغيره من فقهاء الحديث بهذا الحديث وبعض من أخذ به يرى أنه خلاف القياس وأنه من صور الاستحسان وهذا لما انعقد في نفسه من القياس المتقدم وهو أن الزرع تبع للبذر والشجر تبع للنوى وما جاءت به السنة هو القياس الصحيح الذي تدل عليه الفطرة فإن إلقاء الحب في الأرض بمنزلة إلقاء المني في الرحم سواء ولهذا تبع الولد الآدمي أمه في الحرية والرق دون أبيه ويكون الجنين البهيم لمالك الأم دون مالك الفحل الذي نما عن عسبه وذلك لأن الأجزاء التي استمدها من الأم أضعاف الأجزاء التي استمدها من الأب وإنما للأب حق الابتداء فقط ولا ريب أنه مخلوق منهما جميعا وكذلك الحب والنوى فإن الأجزاء التي خلق منها الشجر والزرع أكثرها من التراب والماء والهواء وقد يؤثر ذلك في الأرض فيتضعف بالزرع فيها لكن لما كانت هذه الأجزاء تستخلف دائما فإن الله سبحانه لا يزال يمد الأرض بالماء والهواء وبالتراب إما مستحيلا من غيره وإما بالموجود ولا يؤثر في الأرض نقص الأجزاء الترابية شيئا إما للخلف بالاستحالة وأما للكثرة لهذا صار يظهر أن أجزاء الأرض في معنى المنافع بخلاف الحب والنوى الملقى فيها فإنه عين ذاهبة غير مستخلفة ولا يعوض عنها لكن هذا القدر لا يوجب أن يكون البذر هو الأصل فقط فإن العامل هو وبقره لا بد له مدة العمل من قوت وعلف يذهب أيضا ورب الأرض لا يحتاج إلى مثل ذلك ولذلك اتفقوا على أن البذر لا يرجع إلى ربه كما يرجع في القراض ولو جرى عندهم مجرى الأصول لرجع

فقد تبين أن هذه المعاملة اشتملت على ثلاثة أشياء أصول باقية وهي الأرض بدن العامل والبقر والحديد ومنافع فانية وأجزاء فانية أيضا وهي البذر وبعض أجزاء الأرض وبعض أجزاء العامل وبقره فهذه الأجزاء الفانية كالمنافع الفانية سواء فتكون الخيرة إليهما فيمن يبذل هذه الأجزاء ويشتركان على أي وجه شاءا ما لم يفض إلى ما نهى عن النبي من أنواع الغرر أو الربا وأكل المال بالباطل ولهذا جوز أحمد سائر أنواع المشاركات التي تشبه المساقاة والمزارعة مثل أن يدفع دابته أو سفينته أو غيرهما إلى من يعمل عليها والأجرة بينهما

فصل

عدل

وهذا الذي ذكرناه من الإشارة إلى حكمة بيع الغرر وما يشبه ذلك يجمع 8اليسر في هذه الأبواب فإنك تجد كثيرا ممن تكلم في هذه الأمور إما أن يتمسك بما بلغه من ألفاظ يحسبها عامة أو مطلقة أو بضرب من القياس المعنوي أو الشبهى فرضى الله عن أحمد حيث يقول ينبغى للمتكلم في الفقه أن يجتنب هذين الأصلين المجمل والقياس وقال أيضا أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس ثم هذا التمسك يفضى إلى مالا يمكن اتباعه ألبتة

ومن هذا الباب بيع الديون دين السلم وغيره وأنواع من الصلح والوكالة وغير ذلك ولولا أن الغرض ذكر قواعد كلية تجمع أبوابا لذكرنا أنواعا من هذا

فصل

عدل

القاعدة الثالثة في العقود والشروط فيها فيما يحل منها ويحرم وما يصح منها ويفسد ومسائل هذه القاعدة كثيرة جدا

والذي يمكن ضبطه فيها قولان أحدهما أن يقال الأصل في العقود والشروط فيها ونحو ذلك الحظر إلا ماورد الشرع باجازته فهذا قول أهل الظاهر وكثير من أصول أبي حنيفة تنبنى على هذا وكثير من أصول الشافعي وطائفة من أصول أصحاب مالك وأحمد فإن أحمد قد يعلل أحيانا بطلان العقد بكونه لم يرد فيه أثر ولا قياس كما قاله في إحدى الروايتين في وقف الإنسان على نفسه وكذلك طائفة من أصحابه قد يعللون فساد الشروط بأنها تخالف مقتضى العقد ويقولون ما خالف مقتضى العقد فهو باطل أما أهل الظاهر فلم يصححوا

لا عقد ولا شرطا إلا ما ثبت جوازه بنص أو إجماع وإذا لم يثبت جوازه أبطلوه واستصحبوا الحكم الذى قبله وطردوا ذلك طردا جاريا لكن خرجوا في كثير منه إلى أقوال ينكرها عليهم غيرهم

وأما أبو حنيفة فأصوله تقتضي أنه يصحح في العقود شروطا يخالف مقتضاها في المطلق وإنما يصحح الشرط في المعقود عليه إذا كان العقد مما يمكن فسخه ولهذا أبطل أن يشترط في البيع خيار ولا يجوز عنده تأخير تسليم المبيع بحال ولهذا منع بيع العين المؤجرة وإذا ابتاع شجرة عليها ثمر للبائع فله مطالبته بإزالته وإنما جوز الإجارة المؤخرة لأن الإجارة عنده لا توجب الملك إلا عند وجود المنفعة أو عتق العبد المبيع أو الانتفاع به أو أن يشترط المشترى بقاء الثمر على الشجر وسائر الشروط التي يبطلها غيره ولم يصحح في النكاح شرطا أصلا لأن النكاح عنده لا يقبل الفسخ ولهذا لا ينفسخ عنده بعيب أو إعسار أو نحوهما ولا يبطل بالشروط الفاسدة مطلقا وإنما صحح أبو حنيفة خيار الثلاثة الأيام للأثر وهو عنده موضع استحسان

والشافعي يوافقه على أن كل شرط خالف مقتضى العقد فهو باطل لكنه يستثني مواضع للدليل الخاص فلا يجوز شرط الخيار أكثر من ثلاث ولا استثناء منفعة المبيع ونحو ذلك مما فيه تأخير تسليم المبيع حتى منع الإجارة المؤخرة لأن موجبها وهو القبض لا يلي العقد ولا يجوز أيضا ما فيه منع المشتري من التصرف المطلق إلا العتق لما فيه من السنة والمعنى لكنه يجوز استثناء المنفعة بالشرع كبيع العين المؤجرة على الصحيح في مذهبه وكبيع الشجر مع استيفاء الثمرة مستحقة البقاء ونحو ذلك ويجوز في النكاح بعض الشروط دون بعض ولا يجوز اشتراطها دارها أو بلدها ولا أن يتزوج عليها ولا يتسرى ويجوز اشتراط حريتها وإسلامها وكذلك سائر الصفات المقصودة على الصحيح من مذهبه كالجمال ونحوه وهو ممن يرى فسخ النكاح بالعيب والإعسار وانفساخه بالشروط التي تنافيه كاشتراط الأجل والطلاق ونكاح الشغار بخلاف فساد المهر ونحوه

وطائفة من أصحاب أحمد يوافقون الشافعي على معاني هذه الأصول لكنهم يستثنون أكثر مما يستثنيه الشافعي كالخيار أكثر من ثلاث وكاستثناء البائع منفعة المبيع واشتراط المرأة على زوجها أن لا ينقلها ولا يزاحمها بغيرها ونحو ذلك من المصالح فيقولون كل شرط ينافي مقتضى العقد فهو باطل إلا إذا كان فيه مصلحة المتعاقدين

وذلك أن نصوص أحمد تقتضي أنه جوز من الشروط في العقود أكثر مما جوزه الشافعي فقد يوافقونه في الأصل ويستثنون للمعارض أكثر مما استثنى كما قد يوافق هو أبا حنيفة في الأصل ويستثني أكثر مما يستثني للمعارض

وهؤلاء الفرق الثلاث يخالفون أهل الظاهر ويتوسعون في الشروط أكثر منهم لقولهم بالقياس والمعاني وآثار الصحابة ولما يفهمونه من معاني النصوص التي ينفردون بها عن أهل الظاهر وعمدة هؤلاء قصة بريرة المشهورة وهو ما خرجاه في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت جاءتني بريرة فقالت كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني فقلت إن أحب أهلك أن أعدها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم فأبوا عليها فجاءت من عندهم ورسول الله جالس فقالت إني قد عرضت ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون لهم الولاء فأخبرت عائشة النبي فقال خذيها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق ففعلت عائشة ثم قام رسول الله في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط قضاء الله أحق وشرط الله أوثق وإنما الولاء لمن أعتق وفي رواية للبخاري اشتريها فأعتقيها وليشترطوا ما شاءوا فاشترتها فأعتقتها واشترط أهلها ولاءها

المعاملة مطلقا هو الصواب الذي لا يتوجه غيره أثرا ونظرا وهو ظاهر نصوص أحمد المتواترة عنه واختيار طائفة من أصحابه

والقول الأول قول من اشترط أن يبذر رب الأرض وقول من فرق بين أن يكون إجارة أو مزارعة هو في الضعف نظير من سوى بين الإجارة الخاصة والمزارعة أو أضعف

أما بيان نص أحمد فهو أنه إنما جوز المؤاجرة ببعض الزرع استدلالا بقصة معاملة النبي لأهل خيبر ومعاملته لهم إنما كانت مزارعة لم تكن بلفظ الإجارة فمن الممتنع أن أحمد لا يجوز ما فعله النبي إلا بلفظ الإجارة ويمنع فعله باللفظ المشهور

وأيضا فقد ثبت في الصحيح أن النبي شارط أهل خيبر على أن يعملوها من أموالهم كما تقدم ولم يدفع إليهم النبي بذرا فإذا كانت المعاملة التي فعلها النبي إنما كانوا يبذرون فيها من أموالهم فكيف يحتج بها أحمد على المزارعة ثم يقيس عليها إذا كانت بلفظ الإجارة ثم يمنع الأصل الذي احتج به من المزارعة التي بذر فيها العامل والنبي قد قال لليهود نقركم فيها ما أقركم الله لم يشترط مدة معلومة حتى يقال كانت إجارة لازمة لكن أحمد حيث قال في إحدى الروايتين إنه يشترط كون البذر من المالك فإنما قاله متابعة لمن أوجبه قياسا على المضاربة وإذا أفتى العالم بقول لحجة ولهما معارض راجح لم يستحضر حينئذ ذلك المعارض الراجح ثم لما أفتى بجواز المؤاجرة بثلث الزرع استدلالا بمزارعة خيبر فلا بد أن يكون في خيبر كان البذر عنده من العامل وإلا لم يصح الاستدلال فإن فرضنا أن أحمد فرق بين المؤاجرة بجزء من الخارج وبين المزارعة ببذر العامل كما فرق بينهما طائفة من أصحابه فمستند هذا الفرق ليس مأخذا شرعيا فإن أحمد لا يرى اختلاف أحكام العقود باختلاف العبارات