مشروع رؤية وثيقة الإنقاذ الوطني/مظاهر الأزمة

ملاحظات: من ملتقي التشاور الوطني في صنعاء 2010 المصدر [1]


مظاهر الأزمة

المظاهر السياسية

1. استبدال مشروع بناء الدولة الوطنية المؤسسية بسلطة فرد اكتفت بحشد عناصر الدولة خارج نظامها المؤسسي لتأمين وظيفة تسلطية تتجه بجانب منها نحو إعاقة بناء الدولة وتتجه بالجزء الآخر نحو حماية السلطة العائلية في عمليتين تلتقيان معا في المجرى الذي يفضي إلى نتيجة واحدة، وهي مواصلة تكريس شخصنة الدولة والسلطة والنظام، من خلال:ـ

‌أ. تشويه الوعي الوطني تجاه مفهوم الدولة ووظائفها، وتقويض المشروعية الدستورية والقانونية عبر ممارسة سلطات ومؤسسات وأجهزة وإدارات الدولة السياسية والإدارية وظائفها وأعمالها في ظل انتهاك صارخ للدستور والقانون، وبوسائل بدائية متخلفة، في ظل غياب كامل لأي رقابة على ممارساتها، فكانت النتيجة الطبيعية لذلك: هذا الغول المتوحش للفساد المستشري في كل مفاصلها، ونهب وهدر موارد البلاد والعبث بها، وتعطيل مصالح الناس، وضياع حقوقهم، وتردي مستوى الأداء الوظيفي.

‌ب. الإضعاف الممنهج للسلطة التشريعية وإفراغها من مضامينها ووظائفها الدستورية.

‌ج. التحكم بمصائر السلطة القضائية في التشكيل، والتعيين، والترقية، والنقل، وتحديد الرواتب، وتحويلها إلى أداة لتنفيذ أوامر وتوجيهات الحاكم، فغاب القضاء عن القيام بدوره في حماية حقوق الناس وحرياتهم، واتسعت غوائل الشرور والانفلات الأمني، وأهدرت الحقوق العامة والخاصة .

‌د. إجهاض خطوات ومطالب الحكم المحلي، وتشويه معناه، حيث يجري تحت شعاره ممارسة أسوأ أشكال المركزية، التي لا تنسجم حتى مع مفاهيم الإدارة المحلية بأدنى مراتبها ، فما يجري على أرض الواقع هو تعطيل الدور الحيوي للسلطة المحلية وأجهزتها، وتحويلها إلى أجهزة صورية، ومناصب شرفية، لكسب الولاءات وشراء الذمم.

‌هـ. إقحام القوات المسلحة والأمن كمؤسستين وطنيتين في مهام خارج إطار دورهما وواجبهما الدستوري، والزج بهما في صراعات سياسية داخلية مكانها المؤسسات السياسية، ومصادرة دورهما الوطني والمهني، وشخصنة برامج التوجيه المعنوي، وتعدد مراكز القيادة والتوجيه في القوات المسلحة والأمن، وإفساد وتخريب نظام وتقاليد الضبط والربط ، وإحلال معايير القرابة والولاء اشخصي والعائلي محل المعايير الوطنية، والكفاءة المهنية، وقاعدة الأقدمية في الترقيات، وتولي المهام والوظائف القيادية فيهما، في انتهاك صارخ للدستور، إضافة إلى تعريض منتسبي هاتين المؤسستين من الأفراد، والضباط، وضباط الصف، للكثير من الضيم والهضم في حقوقهم المادية والمعنوية، وأما أسر الشهداء ومناضلو الثورة اليمنية، والمتقاعدون، فما لحقهم من التنكر والغبن فقد كان أشد وأنكي.

2. تدمير النظام السياسي التعددي وضرب المشروع الديمقراطي ومقومات الحياة المدنية، وذلك من خلال سعي السلطة المستمر لـ:

-تهميش وإلغاء الوضع القانوني للمعارضة كـأحد ركني النظام السياسي ألتعددي [السلطة + المعارضة]، وما تمارسه السلطة في حق أحزابها من انتهاكات وتعسفات، وتضييق، وإضعاف، سواء بالدفع بالانشقاقات الحزبية ودعمها، أو من خلال محاصرة الأحزاب في الموارد المالية، ومصادرة حقها في وسائل الإعلام العام، والاستيلاء على ممتلكات ومقرات بعضها، وملاحقة أعضائها النشطاء وتسريحهم في كثير من الأحيان من العمل، أو مضايقتهم، ولجوئِها إلى إغرائهم بترك أحزابهم، والانضمام إلى الحزب الحاكم، إذا رغبوا في الترقية، وفي أحسن الأحوال شراء صمتهم مقابل الحصول على حسن السيرة والسلوك.

-مصادرة حرية واستقلالية النقابات العمالية واتحاداتها، وكل نقابات، ومنظمات وتشكيلات المجتمع المدني، المهنية، والإبداعية، والاتحادات الطلابية، والجمعيات التعاونية، الزراعية، والسمكية .....الخ، والعمل على إخضاعها لمحاولات الهيمنة والاحتواء، أو الشق والتفريخ، أو التعطيل والتجميد، ولصنوف من الضغوطات والتعسفات التي تهدد حياديتها واستقلاليتها في أدائها لمهامها والدفاع عن حقوق منتسبيها، وبالمقابل يتم تضخيم وإشهار ودعم الكيانات البديلة المفرخة كأجهزة ملحقة بالسلطة ــ وتحت السيطرة الكاملة ــ لاستخدامها لضرب العمل النقابي والأهلي، وكواجهة يتم من خلالها الإدعاء بوجود المجتمع المدني وشراكته مع الدولة.

3. مصادرة الحقوق والحريات العامة، وفي المقدمة منها حق التعبير وخنق الصحافة الحرة والتضييق عليها وملاحقة الصحفيين والنشطاء السياسيين، وتعريضهم للاعتقالات والحبس، والمحاكمات، واعتماد نهج القوة والعنف وإطلاق الرصاص الحي في مواجهة كل أشكال النضال والفعاليات المطلبية والاحتجاجية السلمية، ولم يقف الأمر عند حدود الممارسات العملية للانتهاكات بصورة شبه يومية، بل تعدى ذلك إلى العبث التشريعي بإفراغ معظم الحقوق من محتواها وسلبها معناها الحقيقي، عبر التلاعب بالقوانين للانتقاص من الحقوق الدستورية، أو بإصدار اللوائح والتعميمات التي تذهب بما أبقت عليه القوانين.

4. توليد وتغذية أسباب العنف والتطرف، وثقافة الكراهية، وكل أشكال الصراعات السياسية، والثارات والحروب القبلية، والعنف المحلي، وذلك بهدف إبقاء الأوضاع العامة تحت حالة الطوارئ غير المعلنة، واستخدام الورقة الأمنية في تصفية الحسابات مع الخصوم السياسيين، ونشر الرعب في أوساط المجتمع، وإشغال الناس عن المطالبة بحقوقهم المنتهكة، هذا عدا عن توظيف بعض جوانب الاختلالات الأمنية وإبقائها في مستوى معين يكفي لإثارة القلق والمخاوف الدولية والإقليمية كوسيلة للابتزاز السياسي والمالي.

المظاهر الوطنية الرئيسية للأزمة

1.القضية الجنوبية

مثلت القضية الجنوبية أخطر وأبرز مظاهر الأزمة الوطنية الملتهبة، ففي مجرى هذه الأزمة وتداعياتها نشأت حالة غليان جماهيرية غير مسبوقة في المحافظات الجنوبية، فتبلور هذا الغليان في حراك سياسي واجتماعي، راح يطرح بقوة موضوع القضية الجنوبية، كرد فعل طبيعي لفشل السلطة في إدارة مشروع الوحدة، وتحويله من مشروع وطني ديمقراطي إلى مشروع للغلبة الداخلية، واعتماد نهج الحرب، واستخدام القوة في الإطاحة بالشراكة الوطنية والاستئثار بالسلطة، والثروة، بما في ذلك إشاعة [ثقافة الفيد ]، ونهب الممتلكات العامة والخاصة في المحافظات الجنوبية على نطاق واسع.

على أن الدافع الحقيقي لبروز القضية الجنوبية يكمن في النتائج والآثار المترتبة عن حرب صيف 1994م، وفي الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي ولدتها سياسات السلطة الانتقامية ضد المشروع الوطني الوحدوي، وممارساتها المتبعة في المحافظات الجنوبية منذ نهاية الحرب وحتى الآن، إذ إن السلطة نظرت إلى انتصارها العسكري في 7/7/1994م، باعتباره المنجز الأخير لاكتمال التاريخ أو نهايته، وأنها منذئذ غير مضطرة لتقديم مشروع سياسي وطني يأخذ بعين الاعتبار تصفية آثار الحرب، ومعالجة جروحها والسير بالبلاد قدما نحو تنفيذ مضامين الاتفاقيات الوحدوية، وبخاصة ما يتصل منها بالاتجاهات المتعلقة ببناء دولة القانون، القائمة على مؤسسات وطنية قوية، وعلى رعاية حقوق المواطنة المتساوية، وتحويل المشروع الوحدوي الديمقراطي إلى مصدر لإنتاج مصالح جديدة للمواطنين بمختلف فئاتهم وشرائحهم، وكذا انتهاج سياسات فعالة لتعزيز وشائج الإخاء الوطني، وإجراء عملية تأهيل واسعة لليمن الموحد والكبير تساعده على تحقيق الاندماج الوطني والاجتماعي بصورة موضوعية.

إن الممارسات والإجراءات التي نفذتها السلطة في المحافظات الجنوبية منذ ما بعد حرب 1994م وكجزء من سياساتها التدميرية التي حلت بالبلاد عموما، إنما تقوم بالدرجة الأولى على التراجع عن مضامين الاتفاقيات الوحدوية، فبدلا من الأخذ بالأفضل من تجربة الشطرين، أخذت بالأسوأ، وقضت على أفضل ما كان عندهما، كما عملت على تكريس نزعة الهيمنة والإقصاء، وإعادة قولبة الأوضاع في الجنوب وكأنه مجرد جغرافيا بلا تاريخ، وبلا خصائص سياسية، واقتصادية، واجتماعية، وثقافية، نشأت وتبلورت في فضاء الهوية اليمنية على مدى فترات زمنية طويلة.

لقد أفرزت الحرب والسياسات الرسمية اللاحقة لها وضعا عاما يتسم بالانقسام الرأسي القائم على التمييز ضد أبناء المحافظات الجنوبية، واعتماد مجموعة من الإجراءات الهادفة إلى تدمير التراث السياسي، والإداري، الذي كان ينبغي أن ينظر إليه باعتباره جزءا من الموروث الوطني اليمني، ومن الخبرات المتراكمة، التي اكتسبها اليمنيون في سياق تجاربهم التاريخية، حيث راحت السلطة ـ وبعقلية الغلبة البدائية ـ تدمر جهاز الدولة الجنوبية السابقة، وتلغي تراكمات خبراته، وتسرح عشرات الآلاف من موظفيه المدنيين والعسكريين، دون مراعاة للحد الأدنى من حقوقهم المشروعة، وجرى خصخصة مؤسسات القطاع العام من خلال عملية نهب واسعة كان المتنفذون هم المستفيد الوحيد منها، وقذف بالعاملين فيها إلى سوق البطالة بدون حقوق، وبالمثل طرد الفلاحون من أراضيهم، وصودرت مزارع الدولة، وأعيد توزيعها على حفنة من المتنفذين، ونهبت أراضي الدولة لصالح فئة صغيرة من كبار المتنفذين، وعلى حساب الاحتياجات الاستثمارية والسكنية، في حين كان مواطنو المحافظات الجنوبية المستبعد الأكبر فيها، وتجاوز الأمر ذلك إلى نهب أراضي وممتلكات خاصة لأعداد كبيرة من المواطنين، وإلى إخضاع المحافظات الجنوبية لإدارة عسكرية وأمنية صارمة، ما أدى إلى تهميش دور الإدارة المدنية، كما مورست الكثير من إجراءات التصفية، والانتقام السياسيين وأشيعت حالة مفتعلة من الفوضى، ومن الانتهاكات للقانون، وتعمد إحياء مختلف أنواع النزاعات، والعصبيات القديمة [سياسية وقبلية وجهوية].

وبدلا من أن تقوم السلطة بتوفير المصالح والخدمات التي تطلع المواطنون إلى نيلها في ظل دولة الوحدة، راحت تضرب شبكة تلك المصالح التي اعتاد مواطنو المحافظات الجنوبية على قيام الدولة بتوفيرها لشرائح واسعة منهم، وتراجعت الكثير من الخدمات التي كانوا يحصلون عليها، وأهين تراث المواطنين الجنوبيين ورموزهم عمدا, وطمست المعالم المجسدة لشراكتهم في الوحدة كجزء رئيسي من شراكتهم الوطنية, وتحولت الوحدة من قضية وطنية نبيلة ربطوا أحلامهم وتطلعاتهم بها إلى تهمة يومية تلاحق الكثيرين منهم في حلهم وترحالهم بينما لم يتوقف الإعلام الرسمي عن استخدامها كوسيلة لتوجيه الإهانات وممارسة القتل المعنوي ضد المواطنين في الجنوب بدون استثناء.

2. حرب صعده

شكلت الإنفجارات المتكررة للحرب في صعدة، منذ يونيو 2004م واتساع رقعتها حتى وصلت إلى أبواب العاصمة، حالة خطرة عكست غياب النظام المؤسسي القادر على التعاطي مع التحديات الاجتماعية، والثقافية، والسياسية، والأمنية، من منظور وطني يتجاوز منحدر صراعات وحروب العصبيات التي أعادها هذا الوضع الخطير لمشكلة صعدة إلى الواجهة بصورة بات يخشى معها من تمددها على نحو يدمر الوحدة الوطنية، وينذر بإشعال صراعات طائفية وقبلية غير مسبوقة .

وخلال الأعوام التي دارت فيها الحروب في صعدة ظلت السلطة ترفض كل دعوات إيقاف الحرب، والتعامل مع الأوضاع استنادا إلى الدستور والقوانين، الأمر الذي أفضى إلى سقوط آلاف القتلى والجرحى من أبناء اليمن مدنيين وعسكريين، وشردت عشرات الآلاف من الأسر التي فقدت منازلها، ومصادر رزقها، بفعل ما ألحقته الحرب من دمار هائل في الممتلكات.

وقد صاحب تلك الحروب وتخللتها حملات إعلامية استخدمت السلطة فيها كل صيغ ومفردات وأدوات الفتنة والعصبية المذهبية والقبلية، بالتزامن مع حملات وإجراءات أمنية قمعية ولازال الكثير من المعتقلين على ذمة أحداث وحروب صعدة في السجون حتى اليوم.

لقد جاء إعلان رئيس الجمهورية وقف الحرب في صعدة في يوليو 2008 من طرف واحد وتوقفها فعلاً، ليؤكد أن الحرب تنفجر أو تتوقف بحسب إرادة السلطة، وهو ما أظهرته بجلاء الحرب السادسة، كما أظهرت أن الحروب الداخلية تمثل آلية مهمة تدير السلطة بها البلد، دونما اكتراث بالدستور والقانون، وبحياة الناس وحقوقهم وممتلكاتهم، فضلا عن حرياتهم.

لقد أظهرت حرب صعدة مدى الأضرار الفادحة التي تلحقها السلطة بالمجتمع، جراء الترويج لمشاعر الكراهية بين المواطنين، وتغذية نزعات العنف، لديمومة استمرار رأس السلطة متربعا على كرسي الحكم .

المظاهر الاقتصادية للأزمة

تمثل المظاهر الاقتصادية والاجتماعية للأزمة أحد أبرز التحديات التي تواجهها بلادنا، ويكتوي بنارها المجتمع كله، وخاصة الفقراء، ومحدودو الدخل الذين تتسع رقعتهم يوما فيوما، ليشكلوا السواد الأعظم من أبناء الشعب، ولم يكن ذلك أمرا عرضيا مؤقتا طرأ على حين غفلة، وإنما حالة مزمنة لا يكفي تفسيرها بظروف التخلف التاريخية الموروثة، وبشحة الموارد، وسيادة البنى التقليدية...الخ، لكنها مرتبطة على نحو وثيق بطبيعة الحكم الفردي المستند إلى مركزية عصبوية، والذي عمد إلى التعامل مع الموارد، والثروات الوطنية كغنيمة يتم تقاسمها بين القلة من الورثة، وذوي القربى، والموالين، كما تعامل مع السكان بكونهم فائضا بشريا يعكر صفو رفاهية هذه القلة التي يراها صاحبة حق في اقتسام الثروة والموارد المالية والاقتصادية، ولهذا السبب كان يعتمد في مواجهة الأزمة الاقتصادية التي تشتد بين حين وآخر نهجاً ثابتاً يقوم على تحميل الفقراء وذوي الدخل المحدود، وأصحاب الملكيات الخاصة الصغيرة والمتوسطة تكاليف الإجراءات الاقتصادية التي يضطر إلى اتخاذها، لتصب هذه السياسات الخاطئة والمتخلفة في زيادة معاناة الشعب، وإرهاق المواطنين بفرض المزيد من الأعباء المالية على السلع والخدمات.

وقد ظلت السلطة تتهرب من التعامل مع المسببات الحقيقية للأزمة الاقتصادية، وفي مقدمتها الفساد وسوء الإدارة، بل إن ما جرى كان على العكس من ذلك حيث أطلقت يد الفساد، وتسيدت مافيا المصالح غير المشروعة حتى غدا الفساد، وبكل أسف، ممارسة منظمة تدار به البلاد، وأداة من أدوات احتكار السلطة وتملكها، وتأمين الاحتفاظ بها، وتوريثها للأبناء فيما بعد، وتحولت عملية التنمية وخططها إلى وسيلة للاستحواذ على الثروة الوطنية، وموضوع للدعاية السياسية.

لقد تغولت قوى الفساد، وتضخمت مصالحها، ونمت أرصدتها المالية، واستحكمت هيمنتها على مختلف الأوضاع في البلاد.. وأصبح جزء مهم من المقدرات الاقتصادية للبلاد أصولاً وممتلكات خاصة لكبار الفاسدين.

وبمقدار ما اتسعت الفرص للقلة المتنفذة ومعها مجموعات المصالح المرتبطة بها، فإن الأغلبية الساحقة من الشعب لم تجد إلا العوز، والضيق، والتغييب لمصالحها، نتيجة استمرار ارتفاع معدل التضخم، و أسعار السلع، والخدمات، وفي مقدمة ذلك أسعار الغذاء، وأجور السكن، والخدمات التعليمية، والصحية ....الخ، جراء السياسات المالية الإنفاقية غير الرشيدة واستمرار البذخ، والإنفاق المالي على احتفالات غير ضرورية، ومشروعات مظهرية وسفرات خارجية ونفقات جارية غير مبررة، ناهيك عن توزيع الإيرادات العامة على قطاعات الاقتصاد الوطني ومرافق الدولة بصورة غير عادلة، ومزاجية، بدليل أن النفقات المخصصة للدفاع والأمن ترتفع باضطراد، بينما تتراجع النفقات المخصصة لقطاعات التنمية الاقتصادية والاجتماعية باستمرار، وفي المقابل تتصاعد حدة الضغوط التضخمية على الأسعار أما الأشياء الحقيقية التي ظلت وما تزال تنمو وبدون توقف فهي معدلات البطالة بكل أشكالها وأنواعها والفقر بكافة مظاهره ونتائجه المدمرة والخطيرة.

لقد أفضى هذا النهج وفي ظل هشاشة البنى المؤسسية للدولة، وتسيد الفساد، ووجود إدارة اقتصادية عاجزة وغير مؤهلة، إلى:ـ

1. إهدار وتبديد ما حصلت عليه بلادنا خلال السنوات الماضية من موارد اقتصادية ومالية، ومن فوائض نقدية كبيرة في موازناتها العامة نتيجة لارتفاع أسعار النفط، وزيادة كميات الإنتاج.

2. تآكل القدرات الحيوية للبلاد، واستنزاف مواردها، وثرواتها، والحيلولة بينها وبين إرساء قاعدة راسخة لتطور اقتصادي وسياسي واجتماعي وثقافي حقيقي.

3. العجز عن استيعاب القروض والمنح المقدمة من المانحين في مختلف مجالات التنمية .

4. تقليص دور الاستثمارات الخاصة في عملية التنمية، حيث شهدت البلاد تسربا هائلا للأموال إلى الخارج، وتراجعا ملحوظا لمساهمة القطاع الخاص الوطني في التنمية، نتيجة لمعاناته المستمرة، وتعرضه للمضايقات، والابتزاز، وسياسة الخنق و "التطفيش" التي تمارس ضده من قبل العناصر المتنفذة ودوائر الفساد، فضلا عن تردي الخدمات.

5. التدهور السريع والمتواصل في المستوى المعيشي للمواطنين، وتفاقم مشكلتي الفقر والبطالة، واستمرار تصاعد معدلاتهما، وارتفاع الأسعار باضطراد، وعدم التوزيع العادل للثروة, واتساع فجوة التفاوت في الدخل, وغياب مبدأ التكافؤ في الحصول على الفرص الاقتصادية, واستئثار القلة من النافذين، والسماسرة الفاسدين، بمعظم موارد الوطن, لدرجة باتوا معها أثرياء لحد التخمة، إلى جانب ما تعرضت له الطبقة الوسطى من سحق، ما جعلها تتآكل، الأمر الذي حرم المجتمع من دورها الهام كرافعه للتنمية والتطور, كل ذلك أدى إلى ما تعانيه الغالبية الساحقة من الناس من العوز والبطالة والحرمان من أبسط الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.

6. تردي مستوى التعليم، سواء من حيث النوعية، والجودة، إضافة إلى عدم تطويع مخرجاته سواء من حيث التخصصات، أو المواصفات، مع احتياجات خطط التنمية ومتطلبات أسواق العمل، داخليا، وخارجيا، أو من حيث ارتفاع نسبة الأمية.

7. غياب الخدمات الصحية العامة، وتدهور الموجود منها، وكذا خدمات المياه والكهرباء وكافة الخدمات الاجتماعية والأساسية العامة التي تقدمها الدولة.

8. غياب التنمية الريفية الشاملة، وهو ما يعني تهميش أغلبية السكان، وحرمانهم من ثمار التنمية ومنافعها، حيث أن أكثر من 70% من السكان يقطنون في الريف.

إن هذا التشخيص لمظاهر ومسارات الأزمة العامة في البلاد ليس عملا ترفيا ولا مجرد تسجيل نقاط اعتراض على الواقع الراهن، وإنما هو عمل وطني يستهدف إيجاد الحلول والمعالجات الجادة للأسباب الحقيقية المنتجة لهذه الأزمة، لإخراج البلاد من براثن ومآسي الوضع الراهن ومآلاته الكارثية، وليس أقلها وضع الدولة الفاشلة والمهددة بالانهيار.

إن الأزمة بكل مظاهرها ستظل تتسع وتكبر مع كل انتشار وتصاعد للفساد السياسي والإداري، والاقتصادي والمالي، الذي ينتجه استمرار الحكم الفردي، وعصبوية الدولة المشخصنة، وستزداد تفاقماً مع كل تراجع في عملية التطور الديمقراطي والمشاركة السياسية، وغياب الدولة الوطنية المؤسسية، وأسس وقواعد الحكم الرشيد.

إن التقارير الدولية بما تحتويه من بيانات ومعلومات وأرقام رسمية، ودولية، دقيقة، تبين حجم الأزمة وخطورتها، ومظاهر الاختلالات التي طالت بنية الدولة ومؤسساتها، كما تضع اليمن وبكل وضوح في مصاف الدول الفاشلة، وعلى حافة الانهيار.

تأسيسا على ما سبق لم يعد أمام اليمنيين بجميع فئاتهم وشرائحهم وقواهم السياسية والاجتماعية من خيار آخر وقبل فوات الأوان سوى خيار الإنقاذ الوطني، وإخراج البلاد نهائيا من دوامة أزماتها الم

تنطلق هذه الرؤية في وضع الحلول والمعالجات الشاملة والنوعية من الحرص على تحقيق الغاية الجوهرية التي تتمثل في الوقت الراهن في انتشال الوطن من شرك الأزمة المركبة والطاحنة التي يعيشها ويرزح تحت وطأتها، وإحياء روح ومضامين وحدة الثاني والعشرين من مايو عام 1990م السلمية وإعادة الحياة إلى المشروع الوطني الديمقراطي كمدخل أساسي لحل ومعالجة مختلف مظاهر الأزمة الخطيرة، وفي مقدمتها: القضية الجنوبية، وقضية صعدة, والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية لإنقاذ الشعب، حاضرا ومستقبلا، من دوامة العنف المتزايد، والاضطرابات المتصاعدة بوتائر متسارعة ومن ضروب المعاناة المعيشية والخدمية تلافيا لحدوث انهيار شامل ومريع.

وإن أي توجه حقيقي وجاد لبلوغ الغاية المتوخاة يجب أن يتركز اهتمامه في المقام الأول, على تحديد الخطوات، والإجراءات الكفيلة بإيقاف المنحى الحالي لمسار الأزمة المتفاقم والخطير، لئلا تبقى بلادنا قابعة في النفق المظلم لأمد طويل.

إلا أن تحقيق ذلك لا يمكن أن يتأتى بمعالجات غير جذرية بهدف التهدئة، وإنما لابد من إذكاء وتكريس الوعي في أوساط الجماهير بوجوب وأهمية تصعيد نضالها بكل الوسائل السلمية المشروعة، لانتزاع حقها في التعبير عن إرادتها، وممارسة كافة الحقوق والحريات العامة المكفولة لها بموجب الشرائع السماوية، ونصوص الدستور والقوانين الوطنية، والمواثيق الدولية, والتصدي لأية انتهاكات تتعرض لها أيا كان مصدرها، حتى يشعر المواطن بأنه سيد قراره، وقادر على فرض مشيئته دونما خوف على حياته, أو رزقه أو عرضه وكي لا تبقى الطريق المفضية إلى التغيير والإصلاح عبر الحلول الجذرية والإستراتيجية موصده أمام كافة الجهود الوطنية الخيرة والمخلصة.