مصطلح التاريخ (الطبعة الثالثة)/الباب الحادي عشر: العرض


البَـابُ الحَادي عَشَر


العَرْض


لقد انتهينا من التحليل والتحقيق والتنسيق والتنظيم والتعليل والإيضاح ولم يبق أَمامنا سوى أَمر واحد هو العرض. والعرض في عُرف المؤرخين يتوقف على مكانة القارئ واستعداده لتقبل ما نكتب. وهو نوعان ما يدون للعلماء ورجال الاختصاص وما يقدم لجمهور القراء.

فحيث نعنى ببحث علمي دقيق ونكتب لزملائنا المؤرخين يجدر بنا أن ننتبه إلى أمور منها ما يأتي:

١) أَن تكون رسالتنا وحدة تامة المعنى مرتبطة الأجزاء. وهو سهل المنال لمن يتبصر في الأَمر فيبدأ العمل بهيكل منطقي كامل شامل لجميع نقاط البحث. ثم يتروى في الكتابة. فيبدأُ كل فصل من فصوله وكل فقرة من فقراته بملخص عام يستعرض فيه آراءه العمومية ثم ينتقل إلى النقاط الفرعية والمواد الجزئية وعليه أن يحسن الانتقال من فقرة إلى أخرى ومن فصل إلى فصل بجمل معينة تعيد ما قاله أَولاً وتبين علاقته بما يليه من الأَقوال.

٢) أَن نفرق ما أَمكننا بين المتن والهامش. فلا نورد في المتن ما قد يزعزع وحدته أَو يفصل أَجزاءه بعضها عن بعض.
٣) أَن تتجلى أقوالنا بالأَمانة والنزاهة بحيث تظهر بمظهر التعليل والإيضاح حينما تكون تعليلاً أو إيضاحاً منا، وتنص بالحقيقة المجردة حينما تكون حقيقة صرفاً خالية من الرأي أو الإيضاح أَو التعليل. فيتمكن القارئ من التفريق بين آرائنا وبين الحقائق التاريخية المثبتة.
٤) أَن نؤيد كل حقيقة من الحقائق المفردة التي نأتي على ذكرها في المتن بإشارة في الهامش إلى المرجع الذي أُخذت عنه. وذلك بالتفصيل التام وبصورة جليلة واضحة تسهيلًا لمتابعة البحث والتدقيق. فقد يخالفنا أحد رجال الاختصاص فيما نذهب إليه من الاستنتاج أَو الاجتهاد. ومن المستحسن أَيضاً أن نذيل الهامش بشيء من التقدير العلمي للأصل الذي أخذنا عنه. وإذا ما أَشرنا إلى مرجع من مراجعنا فعلينا أن نذكر أَولاً اسم المؤلف ثم عنوان المؤلف ثم المجلد فالصفحة والطبعة.
٥) أَن نعرض الحقائق في المتن بترتيبها التاريخي كي نتأكد من صحة الاستنتاج ولا سيما في أمر الأسباب والمسببات.

بقي علينا أَن نقول كلمة في التواريخ التي تصنف خصيصاً لجمهور القراء. فإنها يجب أن لا تختلف عن سواها في صحة القول وسلامة الاستنتاج. ولكن وجه الاختلاف بينها وبين ما يكتب لرجال الاختصاص أن على المؤلف في الأولى أن يتبسط ما أمكنه في عرض الحقائق بحيث تصبح قريبة من متناول أفهامهم. ولا بد أَيضاً من عرض هذه الحقائق بصورة جذابة محببة إلى القراء ترغبهم في الاستطلاع، ويراعى فيها انتقاء الموضوع الذي يلذ لأَمثالهم.

وهناك خطر نريد أَن ننبه إليه، ذلك أن بعض المحدِّثين من العلماء كادوا يذهبون إلى أن من شروط الطريقة العلمية في البحث أن لا يعمد المؤلف إلى هذه الأساليب الشيقة في عرض الحقائق. كأنهم يزعمون أن العلم يتنافى معها. والواقع أنه بإمكان العالم أن يكون دقيقاً في كلامه واستنتاجه وجذاباً في أسلوبه وعرضه في آنٍ واحد. ومن يدري فلعل الدافع عند هؤلاء إلى مثل هذه الأحكام ضعفهم في الأداء وعدم تمكنهم من ناحية اللغة وقصورهم عن إيجاد التعابير الشيقة. وهل يضير الحسناء إذا ظهرت بزينتها الكاملة! فواجب المؤرخ إذاً أن يجيد اللغة التي يصطنعها لتدوين حقائقه وعرضها بحيث لا تعوزه معرفة قواعد اللغة ومفرداتها وبيانها وأساليبها. وعليه أن يتقن فن الرواية وقص القصص في اللغة التي يكتب بها حتى إذا قص أخباره وقعت موقعًا حسنًا في قلوب القراء.