معالم في الطريق
معالم في الطريق
عدلتقف البشرية اليوم على حافة الهاوبة .. لا بسبب التهديد بالفناء المعلق على رأسها .. فهذا عرض للمرض وليس هو المرض .. ولكن بسبب إفلاسها في عالم « القيم » التى يمكن ان تنمو الحياة الانسانية في ظلالها نموا سليما وتترقى ترقيا صحيحا. وهذا واضح كل الوضوح في العالم الغربي، الذي لم يعد لديه ما يعطيه للبشرية من « القيم » بل الذي لم يعد لديه ما يقنع ضميره باستحقاقه للوجود، بعدما انتهت « الديمقراطية » فيه الى ما يشبه الافلاس » حيث بدأت تستعير - ببطء - وتقتبس من أنظمة المعسكر الشرقي وبخاصة في الانظمة الاقتصادية ! تحت اسم الاشتراكية !
كذلك الحال في المعسكر الشرقي نفسه .. فالنظريات الجماعية وفي مقدمتها الماركسية التي اجتذبت في أول عهدها عددا كبيرا فى الشرق - وفي الغرب نفسه - باعتبارهما مذهبا يحمل طابع العقيدة، قد تراجعت هي الاخرى تراجعا واضحا من ناحية « الفكرة » حتى لتكاد تنحصر الان في « الدولة » وأنظمتها، التي تبعد بعدا كبيرا عن أصول المذهب .. وهي على العموم تناهض طبيعة الفطرة البشرية ومقتضياتها، ولا تنمو الا في بيئة محطمة! أو بيئة قد ألفت النظام الدكتاتوري فترات طويلة! وحتى في مثل هذه البيئات قد بدأ يظهر فشلها المادى الاقتصادي - وهو الجانب الذي تقوم عليه وتتبجح به - فروسيا - التي تمثل قمة الانظمة الجماعية - تتناقص غلاتها بعد ان كانت فائضة حتى في عهود القياصرة، وتستورد القمح والمواد الغذائية. وتبيع ما لديها من الذهب لتحصل على الطعام بسبب فشل المزارع الجماعية وفشل النظام الذى يصادم الفطرة البشرية.
ولا بد من قيادة للبشرية جديدة !
إن قيادة الرجل الغربي للبشرية قد اوشكت على الزوال .. لا لأن الحضارة الغربية قد افلست ماديا او ضعفت من ناحية القوة الاقتصادية والعسكرية .. ولكن لأن النظام الغربي قد انتهى دوره لأنه لم بعد يملك رصيدا من « القيم » يسمح له بالقيادة.
لا بد من قيادة تملك ابقاء وتنمية الحضارة المادبة التي وصلت اليها البشرية. عن طريق العبقرية الاوروبية في الابداع المادي، وتزود البشرية بقيم جديدة جدّة كاملة - بالقياس الى ما عرفته البشرية - وبمنهج اصيل وايجابي وواقعى في الوقت ذاته.
والاسلام - وحده - هو الذى يملك تلك القيم وهذا المنهج.
لقد أدّت النهضة العلمية دورها .. هذا الدور الذي بدأت مطالعه مع عصر النهضة في القرن السادس عشر الميلادي، ووصلت الى ذروتها خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر .. ولم تعد تملك رصيدا جديدا.
كذلك أدت « الوطنية » و « القومية » التى برزت في تلك الفترة، والتجمعات الاقليمية عامة دورها خلال هذه القرون .. ولم تعد تملك هي الاخرى رصيدا جديدا.
ثم فشلت الانظمة الفردية والانظمة الجماعية في نهاية المطاف.
ولقد جاء دور « الاسلام ».. ودور « الامة » في أشد الساعات حرجا وحيرة واضطرابا .. جاء دور الاسلام الذي لا يتنكّر للابداع المادي في الارض، لانه يعدّه من وظيفة الانسان الاولى منذ ان عهد الله اليه بالخلافة في الارض، ويعتبره - تحت شروط خاصة - عبادة لله، وتحقيقا لغاية الوجود الانساني ..
« واذ قال ربك للملائكة انى جاعل في الارض خليفة » ( سور البقرة : 30 )
« وما خلقت الحن والانس الا ليعبدون » ( الذاريات : 56 )
وجاء دور « الامة المسلمة » لتحقق ما أراده الله باخراجها للناس :
« كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله » ( آل عمران : 10 )
« وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا » ( سورة البقرة : 143 )
ولكن الاسلام لا يملك ان يؤدي دوره الا أن يتمثل في مجتمع، أي أن يتمثل في أمة .. فالبشرية لا تستمتع - وبخاصة في هذا الزمان - الى عقيدة مجردة، لا ترى مصداقها الواقعي في حياة مشهودة .. و « وجود » الامة المسلمة يعتبر قد انقطع منذ قرون كثيرة .. فالأمة المسلمة ليست « أرضا » كان يعيش فيها الاسلام. وليست « قوما » كان أجدادهم في عصر من عصور التاريخ يعيشون بالنظام الاسلامي .. انما « الامة المسلمة » جماعة من البشر تنبثق حياتهم وتصوراتهم واوضاعهم وانظمتهم وقيمهم وموازينهم كلها من المنهج الاسلامي. وهذه الامة - بهذه المواصفات! قد انقطع وجودها منذ انقطاع الحكم بشريعة الله من فوق ظهر الارض جميعا.
ولا بد من اعادة وجود هذه « الامة » لكي يؤدي الاسلام دوره المرتقب في قيادة البشرية مرة اخرى.
لا بد من « بعث » لتلك الامهة التي واراها ركام الاجيال وركام التصورات، وركام الاوضاع وركام الانظمة، التى لا صلة لها بالاسلام، ولا بالمنهج الاسلامي .. وان كانت ما تزال تزعم انها قائمة فيما يسمى « العالم الاسلامي » !!!
وانا أعرف ان المسافة بين محاولة « البعث » وبين
تسلم « القيادة » مسافة شاسعة .. فقد غابت الامة المسلمة
عن « الوجود » وعن « الشهود » دهرا طويلا. وقد تولت
قيادة البشرية افكار اخرى وامم اخرى، وتصورات اخرى
وأوضاع اخرى فترة طويلة. وقد ابدعت العبقرية الاوروبية
في هذه الفترة رصيدا ضخما من « العلم » و « الثقافة »
و « الانظمة » و « الانتاج المادي » .. وهو رصيد صخم
تقف البشربة على قمته، ولا تفرّط فيه ولا فيمن يمثله
بسهولة ! وبخاصة أن ما يسمى « العالم الاسلامي » يكاد
يكون عاطلا من كل هذه الزينة !
ولكن لابد مع هذه الاعتبارات كلها من « البعث الاسلامي » مهما تكن المسافة شاسعة بين محاولة البعث وبين تسلم القيادة. فمحاولة البعث الاسلامي هي الخطوة الاولى التي لا يمكن تخطيها !
ولكي نكون على بينة من الامر، ينبغي أن ندرك - على وجه التحديد - مؤهلات هذه الامة للقيادة البشرية، كي لا نخطىء عناصرها في محاولة البعث الاولى.
ان هذه الامة لا تملك الآن - وليس مطلوبا منها - ان تقدم للبشرية تفوقا خارقا في الابداع المادي، يحني لها الرقاب، ويفرض قيادتها العالمية من هذه الزاوية .. فالعبقر بة الارروبية قد سبقته في هذا المضمار سبقا واسعا. وليس من المنتظر خلال عدة قرون على الاقل - التفوق المادي عليها !
فلا بد اذن من مؤهل آخر ! المؤهل الذي تفتقده هذه الحضارة !
ان هذا لا يعني ان نهمل الابداع المادي. فمن واجبنا ان نحاول فيه جهدنا. ولكن لا بوصفه « المؤهل » الذي نتقدم به لقيادة البشرية في المرحلة الراهنة. انما بوصفه ضرورة ذاتبة لوجودنا. كذلك بوصفه واجبا يفرضه علينا « التصور الاسلامي » الذي ينوط بالانسان خلافة الارض، ويجعلها - تحت شروط خاصة - عبادة لله، وتحقيقا لغاية الوجود الانساني.
لا بد اذن من مؤهل آخر لقيادة البشرية - غير الابداع
المادي - ولن يكون هذا المؤهل سوى « العقيدة » و « المنهج »
الذي يسمح للبشرية أن تحتفظ بنتاج العبقرية المادية، تحت
اشراف تصور آخر يلبّي حاجة الفطرة كما يلبيه الابداع
المادي. وأن تتمثل العقيدة والمنهج في تجمع انساني. أي في
مجتمع مسلم.
انّ العالم يعيش اليوم كله في « جاهلية » من ناحية الاصل الذى تنبثق منه مقومات الحياة وانظمتها. جاهلية لا تخفف منها شيئا هذه التيسيرات المادية الهائلة، وهذا الابداع المادى الفاثئق !
هذه الجاهلية تقوم على اساس الاعتداء على سلطان الله فى الارض وعلى أخص خصائص الالوهية .. وهي الحاكمية .. انها تسند الحاكمية الى البشر، فتجعل بعضهم لبعض اربابا، لا في الصورة البدائية الساذجة التي عرفتها الجاهلية الاولى، ولكن فى صورة ادعاء حق وضع التصورات والقيم : والشعرائع والقوانين، والانظمة والاوضاع. بمعزل عن منهج الله للحياة، وفيما لم يأذن به الله .. فينشأ عن هذا الاعتداء على سلطان الله اعتداء عل عباده .. وما مهانة « الانسان » عامة في الانظمة الجماعية، وما ظلم « الافراد » والشعوب بسيطرة رأس المال والاستعمار في النظم « الرأسمالية » الا أثرا من آثار الاعتداء على سلطان الله، وانكار الكرامة التى قرّرها الله للانسان !
وفى هذا يتفرد المنهج الاسلامي .. فالناس في كل نظام غير النظام الاسلامي، يعبد بعضهم بعضا - في صورة من الصور وفي المنهج الاسلامي وحده يتحرر الناس جميعا من عبادة بعضهم لبعض، بعبادة الله وحده، والتلقي من الله وحده، والخضوع لله وحده.
وهذا هو مفترق الطريق .. وهذا كذلك هو التصور الجديد الذي نملك اعطاءه للبشرية - هو وسائر ما يترتب عليه من آثار عميقة في الحياة البشرية الواقعية - وهذا هو الرصيد الذى لا تملكه البشرية، لانه ليس من « منتجات » الحضارة الغربية، وليس من منتجات العبقرية الاوروبية ! شرقية كانت أو غربية.
اننا دون شك نملك شيئا جديدا جدّة كاملة. شيئا لا تعرفه البشرية. ولا تملك هي ان « تنتجه » !
ولكن هذا الجديد، لا بد ان يتمثل - كما قلنا في واقع عملي. لا بد ان تعيش به أمة .. وهذا يقتضي عملية « بعث » في الرقعة الاسلامية هذا البعث الذي يتبعه - على مسافة ما بعيدة أو قريبة - تسلم قيادة البشرية.
فكيف تبدأ عملية البعث الاسلامى ؟
انه لا بد من طليعة تعزم هذه العزمة، وتمضي في الطريق. تمضي في خضم الجاهلية الضاربة الاطناب في ارجاء الارض جميعا. تمضي وهي تزاول نوعا من العزلة من جانب، ونوعا من الاتصال من الجانب الآخر بالجاهلية المحيطة ..
ولا بد لهذه الطليعة التي تعزم هذه العزمة من « معالم
في الطريق » معالم تعرف منها طبيعة دورها، وحقيقة
وظيفتها، وصلب غايتها، ونقطة البدء في الرحلة الطويلة ..
كما تعرف منها طبيعة موقفها من الجاهلية الضاربة الاطناب
في الارض جميعا .. اين تلتقي مع الناس وأين تفترق ؟ ما
خصائصها هي وما خصائص الجاهلية من حولها ؟ كيف
تخاطب أهل هذه الجاهلية بلغة الاسلام وفيم تخاطبها ؟ ثم
تعرف من أين تتلقى - في هذا كله وكيف تتلقى ؟
هذه المعالم لا بد ان تقام من المصدر الاول لهذه العقيدة .. القرآن .. ومن توجيهاته الاساسية، ومن التصور الذي انشأه في نفوس الصفوة المختارة، التى صنع الله بها في الارض ما شاء ان يصنع، والتي حولت خط سير التاريخ مرة الى حيث شاء الله ان يسير.
لهذه الطليعة المرجوة المرتقبة كتبتُ « معالم في الطريق ». منها أربعة فصول مستخرجة من كتاب « في ظلال القرآن » مع تعديلات واضافات مناسبة لموضوع كتاب المعالم1. ومنها ثمانية فصول - غير هذه التقدمة - مكتوبة في فترات حسبما اوحت به اللفتات المتوالية الى المنهج الرباني الممثل في القرآن الكريم .. وكلها يجمعها - على تفرقها - أنها معالم في الطريق . كما هو الشأن في معالم كل طريق! وهي في مجموعها تمثل المجموعة الأولى من هذه « المعالم » والتى أرجو أن تتبعها مجموعة اخرى أو مجموعات. كلما هداني الله إلى معالم هذا الطريق !
وبالله التوفيق.
- ↑ « طبيعة المنهج القرآني » و « التصور الاسلامي والثقافة » و « الجهاد في سبيل الله » و « نشأة المجتمع المسلم وخصائصه »
جيل قرآني فريد
عدلهنالك ظاهرة تاريخية ينبغي أن يقف أمامها اصحاب الدعوة الاسلامية فى كل أرض وفي كل زمان. وأن يقفوا أمامها طويلا. ذلك أنها ذات أثر حاسم فى منهج الدعوة واتجاهها.
لقد خرّجت هذه الدعوة جيلا من الناس - جيل الصحابة رضوان الله عليهم - جيلا مميزا في تاريخ الإسلام كله وفي تاريخ البشرية جميعه. ثم لم تعد تخرّج هذا الطراز مرة اخرى . نعم وُجد افراد من ذلك الطراز على مدار التاريخ. ولكن لم يحدث قط أن تجمّع مثل ذلك العدد الضخم، في مكان واحد، كما وقع في الفترة الأولى من حياة هذه الدعوة.
هذه ظاهرة واضحة واقعة، ذات مدلول ينبغي الوقوف امامه طويلا. لعلنا نهتدي الى سرّه.
إن قرآن هذه الدعوة بين أيدينا، وحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهديه العملي، وسيرته الكريمة، كلها بين أيدينا كذلك، كما كانت بين أيدي ذلك الجيل الاول . الذي لم يتكرر في التاريخ. ولم يغب الا شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهل هذا هو السر ؟
لو كان وجود شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتميا لقيام هذه الدعوة. وإيتائها ثمراتها. ما جعلها الله دعوة للناس كافة، وما جعلها آخر رسالة، وما وكل إليها أمر الناس في هذه الارض، الى آخر الزمان ..
ولكن الله سبحانه - تكفل بحفظ الذكر، وعلم ان هذه الدعوة يمكن أن تقوم بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويمكن أن تؤتى ثمارها. فاختاره الى جواره بعد ثلاثة وعشرين عاما من الرسالة، وابقى هذا الدّين من بعده إلى آخر الزمان . وإذن فإن غيبة شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا تفسر تلك الظاهرة ولا تعللها.
فلنبحث إذن وراء سبب آخر. لننظر في النبع الذي كان يستقي منه هذا الجيل الاول . فلعل شيئا قد تغير فيه. ولننظر في المنهج الذي تخرجوا عليه، فلعل شيئا قد تغير فيه كذلك.
كان النبع الأول الذي استقى منه ذلك الجيل هو نبع القرآن. القرآن وحده. فما كان حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهديه إلا أثرا من آثار ذلك النبع. فعندما سُئلت عائشة رضي الله عنها - عن خُلق رسول الله - صل الله عليه وسلم - قالت : «كان خُلقه القرآن » (أخرجه النسائي).
كان القرآن وحده إذن هو النبع الذي يستقون منه، ويتكيفون به، ويتخرجون عليه، ولم يكن ذلك كذلك لأنه لم يكن للبشرية يومها حضارة، ولا ثقافة، ولا علم، ولا مؤلفات ولا دراسات .. كلا! فقد كانت هناك حضارة الرومان وثقافتها وكتبها وقانونها الذي ما تزال أوروبا تعيش عليه، او على امتداده. وكانت هناك مخلفات الحضارة الإغريقية ومنطقها وفلسفتها وفنها، وهو ما يزال ينبوع التفكير الغربي حتى اليوم. وكانت هناك حضارة الفرس وفنها وشعرها وأساطيرها وعقائدها ونظم حكمها كذلك. وحضارات أخرى قاصية ودانية: : حضارة الهند وحضارة الصين الخ. وكانت الحضارتان الرومانية والفارسية تحفان بالجزيرة العربية من شمالها ومن جنوبها، كما كانت اليهودية والنصرانية تعيشان في قلب الجزيرة. فلم يكن إذن عن فقر في الحضارات العالمية والثقافات العالمية يقصُر ذلك الجيل على كتاب الله وحده .. في فترة تكونه .. وانما كان ذلك عن « تصميم » مرسوم، ونهج مقصود. يدل على هذا القصد غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد رأى فى يد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - صحيفة من التوراة. وقوله : « انه والله لو كان موسى حياً بين أظهر كم ما حلّ له إلا أن يتبعني » (رواه الحافظ أبو يعلى عن حماد عن الشعبي عن جابر) .
وإذن فقد كان هناك قصد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقصُر النبع الذي يستقي منه ذلك الجيل .. في فترة التكون الأولى .. على كتاب الله وحده، لتخلص نفوسهم له وحده. ويستقيم عودهم على منهجه وحده. ومن ثم غضب أن رأى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يستقي من نبع آخر.
كان رسول الله صل الله عليه وسلم - يريد صنع جيل خالص القلب. خالص العقل. خالص التصور. خالص الشعور. خالص التكوين من أي مؤثر آخر غير المنهج الإلهي، الذي يتضمنه القرآن الكريم.
ذلك الجيل استقى إذن من ذلك النبع وحده. فكان
له في التاريخ ذلك الشأن الفريد . ثم ما الذي حدث،
اختلطت الينابيع ! صبت في النبع الذي استقت منه
الأجيال التالية فلسفة الإغريق ومنطقهم. واساطير الفرس
وتصوراتهم، واسرائيليات اليهود ولاهوت النصارى، وغير
ذلك من رواسب الحضارات والثقافات. واختلط هذا كله
بتفسير القرآن الكريم، وعلم الكلام، كما اختلط بالفقه
والاصول ايضا. وتخرج على ذلك النبع المشوب سائر الأجيال
بعد ذلك الجيل، فلم يتكرر ذلك الجيل ابدا.
وما من شك أن اختلاط النبع الأول كان عاملا اساسياً من عوامل ذلك الاختلاف البيّن بين الأجيال كلها وذلك الجيل المميز الفريد.
هناك عامل أساسي آخر غير اختلاف طبيعة النبع. ذلك هو اختلاف منهج التلقي عما كان عليه في ذلك الجيل الفريد ..
انهم - في الجيل الأول - لم يكونوا يقرؤون القرآن بقصد الثقافة والاطلاع، ولا بقصد التذوق والمتاع. لم يكن أحدهم يتلقى القرآن ليستكثر به من زاد الثقافة لمجرد الثقافة، ولا ليضيف إلى حصيلته من القضايا العلمية والفقهية محصولا يملأ به جعبته. إنما كان يتلقى القرآن ليتلقى أمر الله في خاصة شأنه وشأن الجماعة التي يعيش فيها وشأن الحياة التي يحياها هو وجماعته، يتلقى ذلك الأمر ليعمل
به فور سماعه، كما يتلقى الجندي في الميدان « الأمر
اليومي » ليعمل به فور تلقيه ! ومن ثم لم يكن أحدهم
ليستكثر منه في الجلسة الواحدة، لأنه كان يحس انه انما
يستكثر من واجبات وتكاليف يجعلها على عاتقه، فكان يكتفي
بعشر آيات حتى يحفظها ويعمل بها كما جاء في حديث ابن
مسعود رضي الله عنه (ذكره ابن كثير في مقدمة التفسير) .
هذا الشعور .. شعور التلقي للتنفيذ .. كان يفتح لهم من القرآن آفاقا من المتاع و آفاقا من المعرفة، لم تكن لتفتح عليهم لو أنهم قصدوا إليه بشعور البحث والدراسة والاطلاع، وكان ييسر لهم العمل، ويخفف عنهم ثقل التكاليف، ويخلط القرآن بذواتهم، ويحوله في نفوسهم وفي حياتهم الى منهج واقعي. والى ثقافة متحركة لا تبقى داخل الأذهان ولا في بطون الصحائف، إنما تتحول آثارا وأحداثا تحوّل خط سير الحياة.
إن هذا القرآن لا يمنح كنوزه إلا لمن يُقبل عليه بهذه الروح : روح المعرفة المنشئة للعمل. إنه لم يجيء ليكون كتاب متاع عقلي، ولا كتاب أدب وفن، ولا كتاب قصة وتاريخ وإن كان - هذا كله من محتوياته - إنما جاء ليكون منهاج حياة. منهاجا إلهيا خالصا. وكان الله سبحانه يأخذهم بهذا المنهج مفرقا، يتلو بعضه بعضا :
وقرآنا فرّقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا » .. ( الإسراء : 106 )
لم ينزل هذا القرآن جملة، إنما نزل وفق الحاجات المتجددة، ووفق النمو المطرد في الأفكار والتصورات، والنمو المطرد في المجتمع والحياة، ووفق المشكلات العملية التي تواجهها الجماعة المسلمة في حياتها الواقعية. وكانت الآية أو الآيات تنزل في الحالة الخاصة والحادثة المعينة تحدث الناس عما في نفوسهم، وتصوّر لهم ما هم فيه من الأمر، وترسم لهم منهج العمل في الموقف، وتصحح لهم أخطاء الشعور والسلوك، وتربطهم في هذا كله بالله ربهم، وتعرّفه لهم بصفاته المؤثرة في الكون، فيحسون حينئذ انهم يعيشون مع الملأ الاعلى، تحت عين الله، في رحاب القدرة. ومن ثم يتكيفون في واقع حياتهم، وفق ذلك المنهج الإلهي القويم.
منهج التلقي للتنفيذ والعمل هو الذي صنع الجيل الاول. ومنهج التلقي للدراسة والمتاع هو الذي خرّج الاجيال التي تليه. وما من شك أن هذا العامل الثاني كان عاملا أساسيا كذلك في اختلاف الأجيال كلها عن ذلك الجيل المميز الفريد.
هناك عامل ثالث جدير بالانتباه والتسجيل.
لقد كان الرجل حين يدخل في الإسلام يخلع على عتبته كل ماضيه في الجاهلية. كان يشعر في اللحظة التي يجيء فيها إلى الإسلام أنه يبدأ عهدا جديدا، منفصلا كل الانفصال عن حياته التي عاشها في الجاهلية. وكان يقف من كل ما عهده في جاهليته موقف المستريب الشاك الحذر المتخوف، الذي يحس ان كل هذا رجس لا يصلح للإسلام ! وبهذا الاحساس كان يتلقى هدي الإسلام الجديد . فإذا غلبته نفسه مرة، وإذا اجتذبته عاداته مرة، وإذا ضعف عن تكاليف الإسلام مرة .. شعر في الحال بالإثم والخطيئة، و أدرك في قرارة نفسه أنه في حاجة إلى التطهر مما وقع فيه، وعاد يحاول من جديد أن يكون على وفق الهدي القرآني.
كانت هناك عزلة شعورية كاملة بين ماضي المسلم في جاهليته وحاضره في إسلامه، تنشأ عنها عزلة كاملة في صلاته بالمجتمع الجاهلي من حوله وروابطه الاجتماعية، فهو قد انفصل نهائيا من بيئته الجاهلية واتصل نهائيا ببيئته الإسلامية. حتى ولو كان يأخذ من بعض المشركين ويعطي في عالم التجارة والتعامل اليومي، فالعزلة الشعورية شيء والتعامل اليومي شيء آخر.
وكان هناك انخلاع من البيئة الجاهلية، وعرفها وتصورها، وعاداتها وروابطها، ينشأ عن الانخلاع من عقيدة الشرك إلى عقيدة التوحيد، ومن تصور الجاهلية إلى تصور الاسلام عن الحياة والوجود. وينشأ من الانضمام الى التجمع الإسلامي الجديد، بقيادته الجديدة، ومنح هذا المجتمع وهذه القيادة كل ولائه وكل طاعته و كل تبعيته.
وكان هذا مفرق الطريق، وكان بدء السير في الطريق الجديد . السير الطليق مع التخفف من كل ضغط للتقاليد التي يتواضع عليها المجتمع الجاهلي ومن كل التصورات والقيم السائدة فيه. ولم يكن هناك إلا ما يلقاه المسلم من اذى وفتنة، ولكنه هو في ذات نفسه قد عزم وانتهى، ولم يعد لضغط التصور الجاهلي، ولا لتقاليد المجتمع الجاهلي عليه من سبيل .
نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم. كل ما حولنا جاهلية .. تصورات الناس وعقائدهم، عاداتهم وتقاليدهم. موارد ثقافتهم، فنونهم وآدابهم، شرائعهم وقوانينهم. حتى الكثير مما نحسبه ثقافة إسلامية، ومراجع إسلامية، وفلسفة إسلامية، وتفكيرا اسلاميا .. هو كذلك من صنع هذه الجاهلية !!
لذلك لا تستقيم قيم الإسلام في نفوسنا، ولا يتضح تصور الإسلام في عقولنا، ولا ينشأ فينا جيل ضخم من الناس من ذلك الطراز الذي أنشأه الإسلام أول مرة.
فلا بد إذن - في منهج الحركة الإسلامية - أن نتجرد في فترة الحضانة والتكوين من كل مؤثرات الجاهلية التي نعيش فيها ونستمد منها. لا بد ان نرجع ابتداء الى النبع الخالص الذي استمد منه أولئك الرجال . النبع المضمون أنه لم يختلط ولم تشبه شائبة. نرجع إليه نستمد منه تصورنا لحقيقة الوجود كله ولحقيقة الوجود الإنساني ولكافة الارتباطات بين هذين الوجودين وبين الوجود الكامل الحق، وجود الله سبحانه .. ومن ثم نستمد تصوراتنا للحياة، وقيمنا وأخلاقنا، ومناهجنا للحكم والسياسة والاقتصاد وكل مقومات الحياة.
ولا بد ان نرجع اليه حين نرجع - بشعور التلقي للتنفيذ والعمل، لا بشعور الدراسة والمتاع. نرجع اليه لنعرف ماذا يطلب منا أن نكون، لنكون. وفي الطريق سنلتقي بالجمال الفني في القرآن وبالقصص الرائع في القرآن، وبمشاهد القيامة في القرآن . وبالمنطق الوجداني في القرآن .. وبسائر ما يطلبه أصحاب الدراسة والمتاع. ولكننا سنلتقي بهذا كله دون أن يكون هو هدفنا الأول. ان هدفنا الأول أن نعرف : ماذا يريد منا القرآن أن نعمل ؟ ما هو التصور الكلي الذي يريد منا أن نتصور ؟ كيف يريد القرآن أن يكون شعورنا بالله ؟ كيف يريد ان تكون اخلاقنا واوضاعنا ونظامنا الواقعي في الحياة ؟
ثم لا بد لنا من التخلص من ضغط المجتمع الجاهلي والتصورات الجاهلية والتقاليد الجاهلية والقيادة الجاهلية .. في خاصة نفوسنا .. ليست مهمتنا أن نصطلح مع واقع هذا المجتمع الجاهلي ولا ان ندين بالولاء له، فهو بهذه الصفة .. صفة الجاهلية .. غير قابل لان نصطلح معه. إن مهمتنا أن نغيّر من أنفسنا أولا لنغير هذا المجتمع أخيرا.
إن مهمتنا الأولى هي تغيير واقع هذا المجتمع. مهمتنا هي تغيير هذا الواقع الجاهلي من أساسه. هذا الواقع الذي يصطدم اصطداما أساسيا بالمنهج الإسلامي، وبالتصور الإسلامي، والذي يحرمنا بالقهر والضغط أن نعيش كما بريد لنا المنهج الالهي ان نعيش.
إن أولى الخطوات في طريقنا هي أن نستعلي على هذا المجتمع الجاهلي وقيمه وتصوراته. وألا نعدّل نحن في قيمنا و تصوراتنا قليلا أو كثيرا لنلتقي معه في منتصف الطريق. كلا ! إننا وإياه على مفرق الطريق . وحين نسايره خطوة واحدة فإننا نفقد المنهج كله ونفقد الطريق !
وسنلتقي في هذا عنتاً ومشقة، وستفرض علينا تضحيات باهظة، ولكننا لسنا مخيرين إذا نحن شئنا أن نسلك طريق الجيل الأول الذي أقر الله به منهجه الإلهي، ونصره على منهج الجاهلية.
وإنه لمن الخير ان ندرك دائما طبيعة منهجنا، وطبيعة موقفنا، وطبيعة الطريق الذي لا بد أن نسلكه للخروج من الجاهلية كما خرج ذلك الجيل المميز الفريد ..