معركة الإسلام والرأسمالية (1952)/شبهات حول حكم الإسلام/بدائية الحكم


صور الخيام الساذجة فى الصحراء، وصور الأعراب الرجل على الإبل، أو العرب المقيمين فى الأكواخ؛ ويتصورون بسذاجة أن معنى الحكم الإسلامى هو العودة إلى تلك الحياة البسيطة الساذجة، الخاوية من كل أسباب الحضارة الإنسانية التى استحدثت فى خلال ألف وأربعمائة عام!

وإذن فلا عمارة ولا مدنية، ولا صناعة ولا تجارة، ولا علم ولا فن، حتى الشعر ذلك الفن العربى الأصيل، يخيل لهذا الفريق من الناس أن حكم الإسلام سيختم على أفواه قائليه ومنشديه، ما لم يحولوه إلى مواعظ دينية وألفيات نحوية!

وليس حكم الإسلام وحده هو الذى يثير هذه الصورة الماحلة فى خيالهم؛ بل إن بعضهم ليثير هذه الصورة فى حسه مجرد الربط بين الحكم وعنصر الأخلاق! ولست أنسى أن أحد «الدكاترة» فى التربية العائدين من أمريكا كان يتحدث معى عن المجتمع الأمريكي، فقلت: إن هذا المجتمع مزاياه؛ ولكن الذي أنكره عليه هو أنه ينفى العنصر الأخلاقى من حسابه جملة؛ ويعده عنصرًا دخيلاً على الحياة. فانتفض في حماسة وأستاذية يقول: «إذا كنا سنتحدث عن الأخلاق، إذن فلترجع إلى عيشة الخيام».

وبمثل هذه الروح سيتولى ذلك الدكتور العظيم إعداد جيل من المعلمين فى معهد التربية، يتولون بدورهم إعداد أجيال من أبنائنا الذين نسلمهم إليهم فى ثقة واطمئنان!

إن هؤلاء جميعًا يخلطون كما قلت بين النشأة التاريخية للإسلام، وبين النظام الإسلامى ذاته كمجرد نظام.

إن النظام الإسلامى ليس معناه فقط صورة ذلك المجتمع الإسلامى فى نشأته؛ بل معناه كل صورة اجتماعية خاضعة لفكرة الإسلام الكلية عن الحياة.

والنظام الإسلامى يتسع لعشرات من الصور، تتفق مع النمو الطبيعى للمجتمع، ومع حاجات العصر المتجددة، ما دامت فكرة الإسلام الكلية تسيطر على هذه الصور فى محيطها الخارجى الفسيح.

صورة من هذه الصور. صورة تشمل كل حضارة البشرية النظيفة وكل تجاربها العلمية الواقعية، وتجاربها الفكرية والشعورية، اللائقة بعالم يصدر عن الله.. وهى التي تريد تحقيقها عندما نقول: إننا نريد استئناف حياة إسلامية؛ محكومة بالقوانين الإسلامية1.

إن الشظف والبداوة ليسا أصلا من أصول الإسلام كما يعتقد بعض السذج الفضلاء! إنما كان الشظف ظاهرة اقتصادية فى مرحلة خاصة؛ وكان حث الناس على الصبر عليها ضرورة من ضرورات الواقع، كيلا تتهافت نفوسهم، وتنهار قواهم، وتخذلهم طاقتهم على المقاومة والكفاح، والدعوة فى حاجة إلى المقاومة والكفاح. فأما بعد ذلك فكل فرد مطالب بأن يستمتع فى الحدود التى لا تصل إلى مستوى الترف، ولا تدع الإنسان عبداً لشهواته ولذائذه، كذلك الفريق التافه الذى يسمى فى عصرنا هذا «أولاد الذوات»!

كذلك يخلط الكثيرون بين الشريعة الإسلامية فى ذاتها، وبين النشأة التاريخية للفقه الإسلامى، فيحسبون أن معنى استيحاء القوانين من الشريعة، هو الوقوف عند الأحكام الفقهية التى وردت فيها – وهى بطبيعة الحال لا تكفى لمواجهة حاجات المجتمع كلها – على توالى الزمان.

إنه خلط مضحك. فهذه الشريعة بما فيها من مرونة وشمول، استجابت لمطالب حياة البادية، كما استجابت فيما بعد لحياة الدولة الناشئة في عهد محمد، المتوسعة فى عهد عمر. ثم ظلت تستجيب لحياة الحضارة فيما بعد، ما بقيت فى الأمة الإسلامية حياة. ثم توقف نمو الفقه حينما توقفت حيوية الأمة الإسلامية ذاتها. فإذا دبت الحياة فى هذه الأمة والشريعة الإسلامية حاضرة، تلبى حاجاتها المتجددة، ومطالبها المتغيرة، بما فيها من سعة ومرونة وشمول.

وإنه لمن سوء الحظ أن تكون جمهرة المشتغلين بالتشريع فى مصر اليوم قد تلقت تعليمها كله فى ظل عقلية تشريعية أجنبية؛ وأنها لا تعرف عن الشريعة الإسلامية إلا اليسير الزهيد. فمن الصعب أن تتصور هذه الجمهرة، أن الشريعة الإسلامية قادرة على أن تمد المشرع الحديث، بكل حاجات الحياة الراهنة المتجددة.

إن بعض هذه الجمهرة ليسخر من هذه الفكرة؛ وهو أحق بالسخرية. لأنه يسخر سخرية الجهل والكسل، وسخرية الفتنة بحضارة لم يشترك فى صنعها، وإنما هو عالة عليها!

ولو كانت لنا عقلية تشريعية يقظة، لأدركنا من تطبيق القانون الفرنسى سبعين عاما، ذلك التصادم الذى تحدثنا عنه بين روح القانون وروح الجماهير، وذلك التنافر بين طبيعته وطبيعة الشعب الذى يطبق عليه، ومدى الفشل فى إقناع هذا الشعب بعدالة هذه القوانين التى تسن له.

ولو اقتنع الشعب بعدالة القانون، ولو اتفقت روحه مع روحه، ما عاشت تلك الظاهرة التى أبرزتاها، ظاهرة تكتل الجماهير فى صف الخارجين على القانون، واعتبارهم أبطالاً يستحقون الإعجاب والحماية والمساعدة!

إن استيحاء الشريعة الإسلامية سيحقق استجابة الناس للقانون أولا: لأنه سيمنحهم عدالة اجتماعية كاملة؛ ويقف فى سبيل الطغاة والمستغلين، وينشئ مجتعا سليما من الآفات التى تفسد فطرة الناس، وتحرمهم الثقة، وتشيع فيهم القلق والسخط والتمرد. وثانياً: لأنه سيتصل في نفوسهم بعقيدة قوية، وتتفق روحه مع أرواحهم فى الأعماق. وسيكون التعاون بين الجمهور والسلطات مستمداً من أن هذا التعاون لا يرضى السلطات الأرضية وحدها، ولكنه يرضى كذلك سلطان السماء، ويحقق عدالة السماء.

إن القانون دائماً يتضمن روادع وزواجر، ويحول بين الناس وبين الكثير من شهواتهم المستحبة، المرتكزة إلى ميولهم الفطرية؛ فيجب لكى يطيعوه ويحترموه من قلوبهم، أن يستند إلى قوة أعمق فى كيانهم. وقوة العقيدة كفيلة بأن تسنده وتؤيده، حتى وهو يمنع عن الأفراد ما يلذ لهم وما يطيب!

على أن الإسلام بما فيه من مراعاة لحاجات الفرد والجماعة، ومطالب الحياة المتجددة، والمجتمعات المتحضرة، يملك أن يلبى هذه الحاجات والمطالب فى يسر ومرونة وسهولة.

ولكن ينبغى أن يكون واضحاً أننا إذ نقول: إن الإسلام يملك أن يساير المجتمع المتحضر المتجدد.. لا نعنى إخضاع الإسلام ومبادئه ونظمه الشهوات الجماهير العارضة، ونزواتها الطارئة، تملقاً للجماهير، باسم التحضر والتجديد، على طريقة من يسمونهم «المسلمين المصريين» أو الأقزام الذين يدعونهم في جيل الأقزام «متحررين»!

لقد فهمت الكنيسة فى أمريكا ما يفهمه أولئك العصريون والمتحررون؛ فاستحالت من هيكل عبادة إلى ساحة رقص، ومن قدس تطهر إلى ساحة لذة.. ولست أنسى ذلك «الأب» الذي انتهى من الصلاة والترتيل، ليقود «أبناءه وبناته» إلى ساحة الرقص الملحقة بالكنيسة؛ ووقف ينظر برضا إليهم وإليهن أزواجا أزواجا متلاصقة تدور فى الساحة على أنغام الموسيقى، فى ظل الأنوار الحمر والصفر والزرق التى تلقى ظلال الرومانسية العنيفة، وتهيج الدم فى عروق الشباب! ثم تقدم إلى «الجراموفون» ليختار «اسطوانة» يرقص عليها أبناؤه وبناته تحت سمعه وبصره، فاختار قطعة غزل جنسية صارخة؛ تمثل حوار بين شاب وفتاة، عائدين من السينما بعد منتصف الليل؛ وهو يمسك بها فى حجرته الدافئة، ولا يطلقها لتعود إلى أهلها لأن الليلة باردة، وفى نهاية كل مقطع تتردد تلك الجملة: But baby; it is cold outside

«يا صغيرتي إنها باردة فى الخارج! »

كلا! نحن لا نعنى ذلك أبداً، إنما نعني صورة من صور المجتمع تحقق مطالب العصر ونساير نموه؛ وهى فى ذات الوقت تخضع كل الخضوع لروح الإسلام النظيفة، ومبادئه القوية، التى تلبى أرقى صور الحضارة الصحيحة السليمة، حضارة الإنسان، لا إباحية الحيوان.

حكم المشايخ والدراويش


  1. « نحو مجتمع إسلامى » بحث يتضمن صورة شاملة للمقومات الأصيلة لهذا المجتمع. أرجو أن ينشر قريباً بعون الله.