معركة الإسلام والرأسمالية (1952)/صيحة النذير


صيْحَة النّذير

هذا الوضع الاجتماعي السيء الذي تعانيه الجماهير في مصر.. غير قابل للبقاء والاستمرار.. هذه حقيقة يجب أن تكون معروفة من الجميع، كى يمكن السير بعد ذلك على هداها في الطريق الصحيح.

نعم! غير قابل للبقاء والاستمرار، ذلك أنه مخالف لطبائع الأشياء، لا يحمل عنصراً واحداً من عناصر البقاء، يملى له في الأجل، ويهيئ له فرصة البقاء.

إنه مخالف لروح الحضارة الإنسانية بكل معنى من معانيها، مخالف لروح الدين بكل تأويل من تأويلاته، مخالف لروح العصر بكل مقتضى من مقتضياته. ذلك فوق مخالفته لأبسط المبادئ الاقتصادية السليمة. ومن ثم فهو معطل للنمو الاقتصادي ذاته، بله النمو الاجتماعى والإنسانى.

وكل وضع اجتماعى يكون من نتائجه شل قوى الأمة عن العمل والإنتاج، فتعويقها بهذا عن النموّ والتقدم.. هو وضع شاذ، لا يفقد فقط حقه في البقاء، بل يصبح بالفعل غير قادر على البقاء. فكيف إذا اجتمع إلى هذه الآفة، أنه يهدر الكرامة الإنسانية، ويفسد الخُلق والضمير، ويقضى على كل معانى العدالة، ويقتل الثقة الضرورية في المجتمع والدولة، وينشر القلق، ويذهب بالاطمئنان؟

إن الذين يتشبثون اليوم بهذا الوضع الشاذ، ويحاولون أن يقيموا له الأسناد؛ سواء كانوا من المستغلين، الذين يعز عليهم أن يساهموا في التكاليف والأعباء الضرورية لإقامة المجتمع الصالح وصيانته؛ أو من الطغاة الذين يصعب على نفوسهم أن تجرى العدالة مجراها، فتحرمهم أسباب السلطان الزائف الذي لا يقوم على أساس؛ أو من المستمتعين الذين مردوا على المتاع الفاجر، فهم لا يطيقون القصد فيه والاعتدال؛ أو من رجال الدين المحترفين، الذين باعوا أنفسهم لا لله ولا للوطن، ولكن الشيطان، ولمن ينتقدهم فيها ثمناً بخساً دراهم معدودات ... إن هؤلاء جميعاً إنما يحاولون مالا قِبَلَ لهمَ به، لأنهم يحاولون ضد طبائع الأشياء! إنهم إنما يُلْقُونَ بأيديهم إلى التهلكة لأنهم يضيعون كل فرص السلامة السانحة المتاحة. ويا ليتهم يذهبون وحدهم حين يذهبون؛ ولكنهم سيذهبون هذه الأوطان المنكوبة، ما لم تأخذ هذه الأوطان على أيديهم وفي الوقت متسع، قبل أن يحق عليها النذير الصادق الحاسم: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيرا.

إن الحقائق الواقعة لا تعالج، كما نعالجها نحن اليوم، بالخُطَب الوعظية، أو الفتاوى المحتالة؛ كذلك لا تعالج بتكميم الأفواه، وتحطيم الأقلام.. إنما تعالج بحقائق واقعية تقابلها وغيرها. والمَعِدات الجائعة لا تفهم المنطق – حتى ولو كان منطقاً صحيحاً لا احتيال فيه ولا التواء – وعلينا أن ندرك هذا قبل فوات الأوان. ولقد أوشك والله أن يفوت الأوان!

فليقل من شاء كيف شاء: من الطغاة المستغلين، ومن رجال الدين المحترفين، ومن الكُتَّاب المرتزقين، والصحفيين المأجورين: إن الدعاة إلى إصلاح هذا الواقع الاجتماعي السيء، شيوعيون، أو خارجون عن القانون، أو خطرون على الأمن والنظام، أو دُعاة هدم وفوضى؛ وليحاربوهم بكل الوسائل الجهنمية، التي يملكها الطغاة في كل زمان ومكان، ليزجُّوا بهم في المعتقلات والسجون، وليعطلوا لهم الصحف والأقلام، وليحاربوهم في أرزاقهم وأقواتهم، وليسدلوا الستار على حياتهم وذكراهم.

إن صوتاً سيرتفع بعد ذلك كله، ولن يمكن إسكاته أبدًا: صوت المِعدات الخاوية، التي تملأ جنبات هذا الوادى. صوت الملايين التى تبذل العرق والدماء، ولا تنال مقابلها لقمة الخبز جافة، ولا خرقة الكساء متواضعة. صوت الجموع التي لم تقرأ في حياتها كلمة واحدة عن الشيوعية أو غير الشيوعية؛ ولكنها جموع من الأحياء، تطالبهم معداتهم بلقمة الخبز، وتطالبهم جلودهم بخرقة الكساء.

سيبقى صوت واحد لا يخفت – ولو خفتت جميع الأصوات – صوت الواقع الذي ينطق بلسان الملايين من تلك القطع الآدمية المحطمة الزرية، التي مسحتها تلك الأوضاع الاجتماعية الظالمة، فحرمتها حتى حاسة الإحساس بالظلم، وحتى شعور الإنسان بالحرمان.

نعم! وصوت مئات الألوف من الحطام الآدمى المتناثر في الطرقات، اللاصق بالجدران، الباحث عن الفتات في صناديق القمامة مع القطط الضالة والكلاب. ذلك الحطام المشوَّه الخِلْقَةِ، المقرح الجِلد، المسمول الأعين، الشارد المتلصص، أو الذليل المتسوّل.. هنا وهناك في كل مكان.

ذلك بينما الترف الفاجر الداعر يعربد في المواخير والقصور؛ والذهب المتجمد من دماء الملايين، يبعثر على الموائد الخضر وفى حجور الغوانى؛ والأرباح الفاحشة تعجز أربابها العد والإحصاء بَلْه الإنفاق والاستهلاك!

من ذا الذي يستطيع أن يقول: إن وضعاً اجتماعياً تلك ثماره المتعفنة الخبيثة يمكن أن يدوم، مهما أقيمت له الأسناد المنتحلة من فتاوى لمحترفين، أو مقالات المرتزقة المأجورين، أو عسف الطغاة والمستغلين؟

إنه عبث. عبث ضائع. عبث ضد طبائع الأشياء.