معركة الإسلام والرأسمالية (1952)/في مفارق الطريق


في مفارق الطّريق

هذه الأوضاع الاجتماعية القائمة غير قابلة للبقاء والاستمرار.. هذا ما يحسه لا الذين يعارضونها وحدهم، بل الذين يحاولون أن يقيموا لها الأسناد! فإنه ينبغى أن تشهد أنهم ليسوا من الغباء بحيث يطمئنون إلى أن مثل هذه الأوضاع يمكن أن تمتد بذاتها كثيراً أو قليلا. لذلك هم يحاولون أن يقيموا لها الأسناد الزائفة لتعيش فترة أخرى طويلة أو قصيرة.. هم يضيفون بين آن وآخر مواد جديدة إلى قانون العقوبات تشمل مالم تكن تشمله المواد السابقة من الأحوال، أو تضيف عقوبات لم تكن المواد السابقة تتضمنها. رجاء إرهاب المكافحين في سبيل العدالة الاجتماعية، بأية طريق، وبأي عنوان!

وهم يزيدون الأموال المرصودة للدعاية لهذه الأوضاع؛ فتتحرك أقلام وتنشأ صحف، وتتم فى الظلام مؤامرات على التشكيلات النقابية وعلى الهيئات المكافحة، قوامها المال، وقوامها الترهيب والترغيب، وفي يدها سيف المعز وذهبه: هذا لمن شاء، وذلك لمن أراد!

وهم يتحدثون بين الحين والحين عن ... العدالة الاجتماعية! إى والله عن العدالة الاجتماعية. وعن الطبقات المحرومة، وعن ضرورة تحسين الأحوال. وكثيرٌ هم «الباشوات» الذين يطلقون للعدالة الاجتماعية البخور في هذه الأيام؛ إذ كان ذلك ألطف مخدر للجماهير الكادحة، يهدئ أعصابها، ويسيل لعابها، ويمنيها بالعدل الاجتماعى الذى لا تكافح من أجله وحدها. بل يكافح له معها «الباشوات» العظام! فما عليها إلا أن تستريح، وتستبشر، وتنام!

ولكن شيئاً من ذلك كله لن يجدى فتيلا، فالطبيعة والحياة والدين والحضارة الإنسانية والاقتصاد والعقل ضدها جميعاً. إنما هى تعلات فارغة، ذاهبة مع الريح في الهواء.

***

ونحن اليوم في مفارق الطريق. كلنا قد انتهينا إلى أن الأوضاع القائمة لن تدوم. كلنا متفقون على هذه الحقيقة، حتى أولئك الذين يقيمون من حولها الأسناد. إنما تختلف الآراء حول الوضع الجديد الذي ينبغى أن يخلف هذه الأوضاع. والتفكير في هذا واجب، فلا بد من وضع اجتماعى معين يحل محل هذا الوضع الذي يدق بيده أو بأيدى المتشبثين به، كل يوم مسماراً فى نعشه؛ والمسمار الأخير قريب قريب!

منا فريق يهتف بالاشتراكية. ومنا فريق يحلم بالشيوعية، ومنا فريق يدعو إلى الإسلام.

والأوضاع القائمة تجاهد الجميع، لأن واحداً من هذه الحلول كلها لن يدعها في سلام!

هى طبعاً تكافح الشيوعية بادئ ذي بدء جهاراً نهاراً بلا تقية ولا مداراة. وهى تكافح الإسلام فتداوره تارة، وتنكل به تارة، حسبما ترى من القوة التي تسنده إن كانت خطراً حقيقياً واقعاً، أو كانت خطباً ومواعظ يطفئها الكلام. وهى تدع اسم الاشتراكية يمر، حين لا تحسها خطراً حقيقياً قائماً، فأما حين تحسمها قوة حقيقية، فهى تكافحها كفاح الشيوعية وكفاح الإسلام.

لن تسلم الأوضاع الاجتماعية المستغلة لواحد من الثلاثة إذن، ولابد من كفاح منظم رتيب، طويل الأجل. كفاح قلم. وكفاح بحث. وكفاح تنظيم. وكفاح تكتل إلى جانب فكرة من هذه الفكر؛ لإنقاذ هذا الوطن المشرف على الانهيار.

***

هذا في الداخل. فأما فى الخارج، فهنالك كتلتان ضخمتان: كتلة الشيوعية فى الشرق، وكتلة الرأسمالية فى الغرب. وكلتاهما تبث دعاية ماهرة ماكرة فى جنبات الأرض، قوامها: أن ليس في العالم إلا كتلتان ووجهتان: الشيوعية والرأسمالية. وأن ليس للأمم الباقية مفر من أن تكون إلى جانب هذه الكتلة أو تلك؛ فليس هنالك من سبيل إلا هذا أو ذاك!

إن الشيوعية تخاطب الشعوب المستغَلة، والجماهير الكادحة؛ فمن مصلحتها أن تدع هذه الجماهير تفهم أنها إن لا تكن فى صف الشيوعية، فستكون في صف الرأسمالية! والجماهير حين تخيّر على هذا النحو، خيرتها واضحة، وطريقها مرسومة؛ وقد ذاقت من الرأسمالية الويل؛ فالشيوعية وحدها إذن طريق الخلاص!

والرأسمالية – أو الديمقراطية – تخاطب الهيئات الحاكمة، والطبقات المستغِلة؛ فمن مصلحتها أن تدع هذا الفريق يفهم أنه إن لا يكن فى صف الرأسمالية، فسيكون فى صف الشيوعية! والأسياد المستغلون حين يخيرون على هذا النحو، خيرتهم معروفة، وطريقهم مرسومة. وهم يفرقون من الشيوعية فرق الهمجى من الجن والغيلان!

ولما كانت الكتلة الغربية كالكتلة الشرقية، إنما تتنازعان رقعة العالم؛ وتديران المعركة لحسابها الخاص، على حساب الشعوب والأمم التى تدور فى فلك هذه أو تلك، فإن دعايتهما على هذا النحو مفهومة، وهما منطقيتان مع أنفسهما ومع أهدافهما بلا جدال!

فأما نحن فما شأننا فى هذا الصراع؟

نحن جربنا في فلسطين قريباً أنه لا الكتلة الشرقية ولا الكتلة الغربية تقيم وزناً للمبادئ التى تنادي بها، أو تقيم وزناً لنا نحن أنفسنا، حين يجد الجد، وتتكشف النيات، وتنطق المصالح والشهوات.

فنحن إذن لا راحم لنا عند هؤلاء ولا عند هؤلاء. ونحن إذن غرباء مستضعفون في صف هؤلاء أو فى صف هؤلاء. ونحن إذن أذناب فى القافلة سلكنا هذا الطريق أو ذاك.

وأنا أفهم جيداً أن نهون عند الآخرين، فأما أن نهون على أنفسنا فذلك أمر فهمه علىّ عسير، لأنه لا يخالف طبيعة الرجل الكريم فحسب، بل يخالف طبيعة الإنسان!

إنني أعرف أن فى هذه البشرية من يستطعمون الذل والمهانة، ويستلذون الأذى فى الجسم والكرامة. ذلك أنهم مرضى يعرفهم علم النفس، ويضعهم فى قوائم المرضى تحت عنوان خاص.

ولكننى لا أعرف أن أمة كاملة يمكن أن تكون مصابة بهذا المرض النفسى المعروف؛ ولا أن جيلًا كاملًا يستلذ الأذى والمهانة بحال من الأحوال.

ترى أحالتنا الأوضاع الاجتماعية القائمة أمة من العبيد، لا للسادة فيها فحسب، ولكن لأية سيادة تلوح لها من جانب الأفق الغربي أو الشرقي على بعد أُلوف الأميال!

إنني أعيذ الأمة الإسلامية أن يكتب عليها كلها هذا الهوان. فلقد وقف واحد منها في وسط «الكونجرس» الأمريكى يفهم الأمريكان أن الغرور وحده هو الذي يصور لهم وللروس، أن ليس في العالم كله إلا كتلتان: كتلة الشيوعية وكتلة الديمقراطية.. إن هنالك كتلة أخرى ثالثة.. كتلة الإسلام.

ارتفع هذا الصوت في قلب أمريكا، منبعثاً من فم المرحوم «السيد لياقت علي خان» رئيس وزراء الباكستان، بل من قلبه وضميره، بل من كرامته وكرامة شعبه، وكرامة الشرق المسلم، الذى يربأ بنفسه عن المهانة؛ ويرى لنفسه وجوداً وكياناً؛ ويأبى أن يقف في ذيل القافلة وقفة الذليل الخانع الجبان، تلك الوقعة التي يدعونا إليها مع الأسف شباب من هذا الجيل بلا تحرج ولا إباء.

فى هذا العالم رقعة فسيحة متصلة الحدود، من شواطئ الأطلنطى إلى جوانب الباسفيكى، تضم أكثر من ثلاثمائة مليون من الناس، يشتركون فى عقيدة واحدة، ونظام معيشي واحد؛ وتقاليد متقاربة، ولغة إن لا تكن واحدة فه في طريقها لأن تصبح لغة التفاهم للجميع. ودع عنك عشرات الملايين المتفرقة فى أوربا وآسيا وأفريقية، ممن يدينون بهذه العقيدة، وبذلك النظام الذي تحمله العقيدة.

فأى عمل يمكن أن يغفل هذه الكتلة الضخمة المتصلة الحدود من الحساب؟ إن الكتلتين الشرقية والغربية لا تغفلان هذه الكتلة الثالثة من حسابهما إغفالاً حقيقياً، كما يبدو فى دعايتهما الماهرة الماكرة؛ إنما هما تتنازعانها تنازع الأشياء والمتاع! ولكل من الكتلتين عذرها؛ فما عذرنا نحن أن نرضى بأن تكون كالأشياء والمتاع؟!

عذرنا أن الأوضاع الاجتماعية القائمة التى نعانيها في الداخل، لا تدع لنا أن نفكر في روية؛ ولا أن تحس في كرامة؛ ولا أن ندرك ما وراء الدعايات من أهداف!

هذا صحيح! ولكن هذا العذر يصلح لفرد أو أفراد. أما الشعوب والأمم فما هى بمعذورة أن تدع نفسها كالشىء التافه أو سقط المتاع، متى كان لها مخرج يحفظ عليها كرامتها، ويرد إليها اعتبارها، ولا يدعها في ذيل القافية، وفى مركز التابع الذي لا يؤبه لرأيه ولا يُستشار!

ولو لم يكن لها هذا المخرج لأوجبت عليها الكرامة الإنسانية، والاعتبارات القومية، أن تبحث عن مخرج، وأن تخلقه خلقاً، وتنشئه إنشاء. فكيف وهذا المخرج فى يدها، وفي متناولها، وفي رصيدها الحاضر الذي لا يعز على التناول؟

إلا تكن ذلة العبيد، فإنه نوع من التفكير عجيب!

***

واعتبار آخر . . .

لقد جربنا - حتى شبعنا - تلك القوالب الجاهزة التى استجديناها كالشحاذين من هنا ومن هناك. جربناها فى كل جانب من جوانب حياتنا الفكرية والاجتماعية والتشريعية، حتى انتهينا بها إلى «كرنفال» مضحك من المظاهر والأزياء. أزياء الفكر وأزياء الجسم سواء!

ولنأخذ مثالا ذلك التشريع الذي استوردناه أولا من فرنسا؛ ثم ما نزال نستورده من شتى بقاع الأرض، كلما احتجنا أن نشرع لهذه الحياة.

إن هناك تصادما دائماً بين روح التشريع الذي نستمده وروح الشعب الذى نسن له هذا التشريع. إن الشعب يم بالبطولة كل خارج على القانون، ويبذل له التشجيع والعون والمساعدة، بقدر ما ينفر من السلطات القائمة على القانون، ويضن عليها بثقته، أو مساعدته على جمع الأدلة والقرائن والشهادات.

لماذا؟.. يقولون: إن الشعب جاهل! كلا. فليس هذا هو السبب الأصيل، فالمتعلمون كذلك لا يستجيبون لدعوة القانون. إن السبب الحقيقى كامن فى التنافر بين روح الشعب وروح التشريع المستعار؛ لأن هذا التشريع لم يستمد من ظروفه الاجتماعية، وملابساته التاريخية، ومشاعره وعقائده، وتقاليده وعاداته. إنما استمد من وسط أجنبى عن روحه جميعاً، وسط له تاريخه الخاص، وله ديانته الخاصة، وله حاجاته الاجتماعية وظروفه الخاصة. والقانون ما لم يكن تلبية لروح الشعوب وحاجاتها، فلن تخلص له ولن تنقاد!

نحن لا ندعو إلى عزلة فكرية أو اجتماعية عن ركب الإنسانية المندفع. فنحن شركاء فى القافلة، شركاء فى الحضارة البشرية. بل نحن أدينا لهذه الحضارة الكثير؛ وقنا فيها بدور إيجابى ضخم، قد لا نفطن إليه اليوم ولا نحترمه، إلا إذا تخلصت نفوسنا من مشاعر العبيد!

ولكننا ننعى هذا التسول الدائم الذى نزاوله، وهذا الاستجداء المزري الذى نحن عاكفون عليه، وهذه الاستعارة التي لا نردها، ولا نؤدى ما يقابلها. وما دمنا نستجدى دائماً ولا نعطى شيئاً، فنحن على مائدة الإنسانية في موضع الشحاذ المتسول، لا فى موضع الواهب الكريم.

وقد يتسول المعدم ويستجدي المسكين. فأما أن يكون لك رصيد ضخم ثم تلبس أسمال الشحاذة، وتمد يد الاستجداء باسم المشاركة فى الحضارة، فتلاك مشاركة لا يعرفها إلا الشحاذون وحدهم، ولا يطمئن إليها إلا العبيد!

هنا لك معنيان للحضارة. فأما الأول فهو أن يكون لنا نصيبنا المتميز البارز فى بناء هذه الحضارة، وزينا الذاتى المستمد في أصوله مما عندنا، المنتفع فى تفريعاته وتطبيقاته بكل ما أفادته الإنسانية من التجارب. وأما الثانى فهو أن تأخذ القوالب الجاهزة، والسمات الظاهرة، وأن ننقل نقلا كل ما نراه بلا روية ولا تفكير ولا تعقيب.

المعنى الأول يفهمه الآدميون، والمعنى الثاني تفهمه القرود، وأخشى ما أخشاه أن لا نكون قد فهمنا إلا هذا المعنى الأخير!

***

وبعد فإن الجهة الغربية المؤلفة من أمريكا وانجلترا وفرنسا - تستعبدنا وتستذلنا، ولا مكان لنا فيها إلا مكان الذيول والعبيد، وكل تفكير فى الانضمام إليها إنما ينشأ من المصلحة المشتركة بين الرأسمالية المستغلة والاستعمار الذي يحميها؛ وكل ستار آخر إنما هو ستار خادع، للتعمية على الجماهير، التى أصبحت لحسن الحظ لا تنخدع بهذا الستار.

لقد منحنا أرضنا وسماءنا، وأقواتنا وأرزاقنا، ومصالحنا وأرواحنا، إلى هذه الجبهة مرتين فى خلال ربع قرن؛ ثم أبنا منها بصفعة كف أو ركلة قدم فى نهاية المطاف. فأما فى هذه المرة الثالثة فإننا أن نؤوب بذلك المصير السليم الذى قد يحمده العبيد، ويسجدون للسادة شكراً على السلامة والعافية. بل سنؤوب بالتدمير المطلق الشامل لحياتنا كلها إلى عدة أجيال.

إن الدفاع المشترك فى أية صورة من صوره؛ أو الانضمام إلى معسكر معين بأى وضع من أوضاعه، معناه تعريض هذا البلد الأعزل للخراب والدمار. هذا البلد المكشوف الذى ما تزال حياته تتوقف على خزان أسوان، وقنبلة واحدة تكفى لتحطيم هذا الخزان! أى لتحطم مصر كلها أجيالا بعد أجيال!

إنها جريمة وطنية أن نربط أنفسنا إلى عجلة معينة فى صراع الجبابرة القادم، فوق أنها جريمة فى حق الكرامة والشرف والضمير. الكرامة التى داستها الديمقراطيات الغربية مرتين، وما تزال تدوسها فى تبجح، لا يقيم لهذا الشعب وزناً، لأنه يرتكن إلى المصلحة المشتركة بينه وبين عهود الإقطاع.

إن هذا العالم العربي الممزق فى براثن الاستعمار الغربى، ليستحق اللعنة والاحتقار، إذا مد يده الذليلة ليسند الغرب الفاجر فى بأسائه مرة أخرى. والشرق لا يمد يده، وإنما يمطى على ظهره للغرب ليضع أقدامه، ويعبر الهاوية، ثم يركل الحمار الذليل الذي امتطاه!

إن الغرب الرأسمالى والاشتراكى سواء، يناصبنا العداء كله كتلة واحدة. وفي فلسطين شاهد ذلك العداء الناصب قريب. وهو فى الوقت ذاته يسومنا الذل والخسف فى تبجح ظاهر؛ ولا يخفض من تبرة الاستعلاء الفاجر إلا فى إبان الهزيمة والانكسار.

ونحن لم ننس بعد استهانة جنود الحليفة في الحرب الأخيرة بأرواح المصريين، الذين كانت عرباتهم تدوسهم باستهانة كما تداس الكلاب، وتدوس كراماتهم وأعراضهم كما تداس الرقيق والعبيد. وما تزال هذه الحوادث تجرى فى الشقة العريضة التى يحتلونها على ضفة القنال1.

نحن لا ننسى نظرات الازدراء التى كانت تطل من عيون شذاذ الآفاق الذين حشدهم الحليفة فى أرضنا، وهم يتوجهون بها إلى الجماهير فى غدوهم ورواحهم، بل يتوجهون بها إلى ضباط البوليس وعساكره فى أية مرة حضر هؤلاء للتفرج على حادثة من حوادث المجندين. فما كان للبوليس المصرى إلا أن يتفرج، والحلفاء يدوسون المصريين بسياراتهم، أو يركلونهم بأقدامهم، أو يبتزون منهم النقود فى الطرقات.

لقد شبعنا من منظر السكارى المعربدين من مجنديهم، والمائعات المستهترات من مجنداتهم، ومن تلك القذارات الأدمية التي جلبوها معهم، أو التي خلفوها لنا، مئات وألوفاً من الأعراض المثلومة، والكرامات المهدرة، والعار الذي تأنف منه الرجال ... والنساء!

لقد استكفينا جوعاً لنطعم شذاذ الآفاق من جنود الحلفاء، وعُرْياً لتشتغل مصانعنا لكسوتهم، بالتآمر مع رؤوس الأموال وممثليها فى عالم الصناعة وفى كراسي الحكم سواء.

لسنا مستعدين مرة أخرى أن تخطف بناتنا من الطرقات والبيوت ليهدر عفافهن فى المعسكرات والسيارات؛ ولا أن تخطف أقواتنا وطعامنا من المزارع والأسواق، لنصاب نحن بالسل والجوع، ولا أن تخطف أموالنا وأرصدتنا من البنوك، لنواجه الأزمات والكساد. ثم يقف بعد ذلك مستعمر متبجح مثل مستر تشرشل، ليمن علينا بنعمة الحماية، ويطالبنا، لا بالتنازل عن دَيْننا على بلاده، بل بدفع تعويض عن تضحيات جنوده.. جنوده السكارى المعربدين الأوباش!

وأما فرنسا فصفحتها فة تونس والجزائر ومراكش، وفة مصر ذاتها أقذر من صفحة الإنجليز.. ففرنسا التي وقفت فى مؤتمر (مونتريه) حجر عثرة فى طريق إلغاء الامتيازات؛ ولولا أن الإنجليز – لمصلحة خاصة – كانوا يريدون قصقصة جناحها فى الشرق العربي شيئاً فشيئا لظلت حجر عثرة فى طريقنا حتى الآن. فأما فظائعها في تونس والجزائر ومراكش، فهي فضائح البربرية المتوحشة فى القرون الوسطى ما تزال.

وفرنسا أمة انتهت، وهى في دور الانحلال الأخير، على الرغم من كل دعاتها فى الشرق العربى، ولكنها ماضية فى وحشية البرابرة وتعصب الصليبيين، تقتل وتحرق، وتعذب وتشوه، وتسرق وتسلب، وترتكب فى المغرب العربي ما ارتكبه المغول والصليبيون من آثام.

ولقد كان عبيد فرنسا هنا فى الشرق يردون علينا دائماً حين نحدثهم عن «أمهم الحنون» بأنه لا يجوز الحكم على فرنسا بتصرفات السياسيين، فالسياسة لا قلب لها ولا ضمير. فها هى ذي كبيرة صحفيات فرنسا «مدام تابوی» تصفع العبيد هنا بتصريحاتها العجيبة. ففى زيارتها الأخيرة لمصر تلقت مندوب إحدى صحفنا غاضبة، لا لشىء إلا أن رئيس الحكومة المصرية رد على رسالة زعيم من زعماء المغرب، يؤيد فيها حق الحرية. حتى لقد قالت لذلك المندوب: كنت قد أعددت مقالا عن بلادكم ولكني لن أنشره. فماذا كسبتم من تدخلكم في شؤوننا بالشمال الإفريقي؟!

وبلع العبيد فى مصر هذه الصفعة، وعادوا يسبحون بحمد فرنسا أمهم الحنون!

فأما أمريكا: فاللذين لم يعيشوا فيها ولم يروها، قد لا يذكرون لها إلا خيانتها لنا في قضيتنا بمجلس الأمن، وفي حرب فلسطين. ولكن الذين عاشوا فيها، ورأوا كيف ولفت صحافتها ومحطات إذاعتها وشركات أفلامها فى كراماتنا وفى سمعتنا، وكيف نشرت ذلك بعداء واضح واحتقار مقصود، أو أحسوا ذلك العداء العنيف لكل ما هو إسلامى وشرقى بوجه عام، أو عرفوا كيف ينظر الأمريكان للملونين عامة ومدی ما يكنون لهم من احتقار. هؤلاء يعرفون ما هى أمريكا، ويعرفون كيف يجب أن يردوا لها هذا الجميل وذاك!

ولقد لقى الآلاى التركى الذي ذهب إلى كورية جزاءه الحق من الأمريكان؛ وعرف نصيبه ونصيب أى جيش شرقى يذهب لمعاونة هؤلاء المتغطرسين على الشرقيين. لقد تركوه يحمي مؤخرة هزيمتهم؛ فلما قام بدوره تركوه بلا حماية من الطيارات، وبلا معونة من السيارات، بل بدون ذخيرة ودون طعام!

وإنه لمثل بسيط لما ينتظر جيوش العبيد في أى حلف مشترك. فالأتراك في نظر الأمريكان هم أرقى الشرقيين لسبب تافه بسيط: أنهم بيض البشرة! ومع ذلك فتلك معاملتهم لهم في الميدان. معاملة السيد الخائن الجبان!

تلك قصة الكتلة الغربية معنا — بما فيها من رأسمالية واشتراكية — فما هى قصة الجبهة الشرقية!

لقد كشفت لنا الشيوعية عن قيمة مبادئها التي تبشر بها يوم وقفت تسلح إسرائيل. وإسرائيل هى الدولة الوحيدة التي تقوم على الدين وحده فى الأرض. وعنصر الدين هو أول ما تنكر الشيوعية أن تقوم عليه الدول، وآخر ما تفكر فى احتضانه والدفاع عنه. ولكن الشيوعية لا تقيم وزناً إلا لمصلحتها الخاصة، وتحت أقدامها المبادىء التي تزخر بها الدعايات.

والشيوعية قد تمنحنا الخبز؛ وتعفى نفوسنا من مرارة النظر إلى الثراء الفاحش الفاجر الذي تنفر من رؤيته البشعة فطرة الإنسان! ولكنها تمنحنا الخبز لتسلبنا مقدساتنا كلها فى الحياة، لا مقدساتنا الدينية، ولكن مقدساتنا الإنسانية جميعاً، لتحبس نفوسنا فى إطار الخبز والكساء.

وقد يبدو الحديث عن المقدسات الإنسانية ترفاً فى مصر، أو حديثاً عن أوهام وخيالات لا وجود لها فى حقيقة الواقع الاجتماعى.

وهذا صحيح .. فما يمكن أن تعيش هذه المقدسات فى أوضاع اجتماعية كأوضاعنا القائمة. إن الحطام الآدمى الذى يعد بالملايين فى مصر، لا يتسنى له الشعور بتلك المقدسات، لأنه مشغول بشعور الجوع والحرمان ولكن ما القول: إذا كان هناك نظام آخر يمنحنا الخبز الذي تمنحه لنا الشيوعية؛ ويعفينا من بشاعة الثراء الفاحش وفوارق الطبقات، ويحقق لنا مجتمعاً متوازنا لا حرمان فيه ولا افتراء.. ثم يمنحنا فى الوقت ذاته غذاء الروح، وحرية الفكر، والشعور الإنسانى الأرقى الإنسان، والحياة؟

ما القول إذا كان هنالك نظام، لا يدعنا ذيلا فى القافلة: قافلة الشيوعية أو قافلة الرأسمالية.. إنما يمنحنا مع العدالة الاجتماعية المطلقة فى الداخل، كرامة دولية عزيزة فى الخارج، ويرد إلينا اعتبارنا فى المجتمع الدولى؛ وقد يعفينا من ويلات الحرب، ويعفى الإنسانية معنا من هذا البلاء؟

ما القول إذا كان هنالك نظام يحل لنا مشكلاتها الداخلية؛ وفى الوقت ذاته لا يدعنا نقف أبدا من المائدة الإنسانية وقفة المستجدى الذليل؛ بل وقفة المساهم فى هذه المائدة، المعطى ما عنده، وما ليس بالقليل؟

إننى لأعجب كيف يمكن الإنسان أن ينأى بنفسه عن موقف الكرامة إلى موقف الذلة؛ وعن دور المعطى إلى دور المستجدى؛ وعن مركز القيادة إلى موقف التبعية، وهو قادر على الاختيار، لو قاوم فى ضميره شعور الاضطرار!

إن لدينا ما نعطيه، ولسنا من الإفلاس بحيث يتصور الكثيرون، أو بحيث تصورنا لأنفسنا كتلة الغرب وكتلة الشرق سواء. إنما تصوراننا هكذا لغاية فى نفس يعقوب! ليحل التخاذل فى نفوسنا محل الثقة، واليأس محل التطلع؛ ولنسقط فرائس ذليلة مستغفلة فى هذا الفخ أو ذاك.

إن لدينا ما نعطيه، ولكننا فى حاجة لأن نؤمن بأنفسنا، ففى هذا الإيمان حياة، وفى هذا الإيمان نجاة.

  1. جاء هذا الكلام فى الطبعة الأولى قبل أحداث القتال الأخيرة. أما حوادث اليوم فهي معروضة معروفة لا تحتاج إلى كلام.