​مغني الطلاب
شرح متن إيساغوجي
 المؤلف محمود بن حسن المغنيسي
ملاحظات:


بسم الله الرحمن الرحيم

نحمدك يا من جعل المنطق ميزانًا لطريق التفهيم والتحقيق، ونشكرك يا من زيَّن الأذهان باكتساب التصوُّر والتصديق، ونصلّي على نبيّك محمدٍ الهادي إلى سواءِ الطريق، وعلى آلهِ وأصحابهِ الذين فازوا بالهداية والتوفيق.

أمّا بعدُ، فلما كانت الرسالة المشهورة بإيساغوجي المنسوبة إلى الشيخ الأمام العلَّامة أفضل المتأًخَّرين، قدوة الحكماءِ الراسخين، أثير الدين الأبهري نوَّر الله مضجعهُ، محتويةً على العجائب من القواعد، ومشتملةً على الغرائب من الفوائد، نكات معانيها محتجبةٌ تحت حجاب، ووجازة ألفاظها مستورةٌ في كل باب، وكان ما وُجِد من شروحها في غاية الاختصار، ونهاية الاقتصار، بل بعضها كمتنٍ متين، يحتاج إلى مُوضِحٍ ومُبِين، احتاجت إلى شرحٍ يزيل احتجابها، ويسهل الوصول لمن أراد انتسابها، وكان يخطر ببالي - وإن كان غير لائقٍ بحالي - أن أكتب لها شرحًا يحلُّ صعابها، ويكشف عن وجوه خرائدها نقابها، أنقد فيهِ مطارح الأفكار، وأوضح فيهِ خزائن الأسرار، على وجهٍ لطيف، ومنهجٍ منيف، ليكون وسيلةً للاشتعال والمراجعة، وذريعةً لاستعمال الخواطر في المطالعة، مسترشدًا من المرشد الرشيد، الذي هو يُبدِئُ ويُعيد، والمأْمول من الأحبَّاءِ المتحلِّين بحِلَى الإنصاف، المتخلِّين عن رذيلَتي البغي والاعتساف، إذا عثروا على شيء زلَّت فيهِ القدم، أو طغى بهِ القلم، أن يصلحوهُ بما يقتضيهِ المحل، فإن الإنسان منشأُ النسيان والزلل، ولما تيسَّر الإتمام بعون الله الوهَّاب، سمَّيتهُ بمغني الطلَّاب، ليكون الاسم مطابقًا المسمَّى في التحقيق، وموافقًا لهُ من جميع الوجوه بأتم التوفيق، وإلى الله أنضرع أن يجعل هذا خالصًا لوجههِ الكريم، ومقرّبًا من رحمتهِ في دار النعيم، ومنهُ المعونة والتوفيق، وبيدهِ أَزِمَّة التحقيق.

قال رحمهُ الله تعالى:

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيْمِ) أي ابتدئُ.

(نَحْمَدُ اللهَ) جمع بين التسمية والتحميد في الابتداء، عملاً بكتاب الله الكريم، وبخبر كلُّ أمرٍ ذي بالٍ لم يُبدأْ فيهِ ببسم الله فهو أجذم أي مقطوع البركة.

وفي رواية بحمد الله، ولا تعارُض بينهما إذ الابتداءُ حقيقي وإضافي، فالحقيقي حصل بالبسملة والإضافي بالحمدلة.

وقدَّم البسملة اقتفاءً لما نطق به الكتاب، واتفق عليهِ أولو الألباب.

والحمد هو الثناءُ باللسان على الجميل الاختياري سواءٌ تعلَّق بالفضائل أم بالفواضل، والمدح هو الثناءُ باللسان على الجميل مطلقًا، والشكر في مقابلة النعمة بالقول أو الفعل أو الاعتقاد، فهو أعمُّ من الحمد والمدح بحسب المورد، واخصُّ بحسب المتعلق، فبينهُ وبينهما عموم وخصوص من وجهٍ.

فعُلِم من هذا أن المصنّف إنما اختار الحمد دون المدح، ليؤْذن بالفعل الاختياري، ودون الشكر ليعمَّ الفضائل والفواضل.

واختار الجملة الفعلية على الاسمية ههنا، وفيما سيأتي قصدًا لإظهار العجز عن الإتيان بمضمونها على وجه الثبات والدوام.

وأتى بنون العظمة إظهارًا لملزومها، الذي هو نعمةٌ من تعظيم الله لهُ بتأهيله للعلم، امتثالاً لقولهِ تعالى: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ .

فمعنى قولهِ نحمد الله: أي نثني ثناءً بليغًا (عَلَى تَوْفِيقِهِ) لنا، أي خلقهِ قدرة الطاعة فينا، فإن التوفيق عند الأشعري وأكثر الصحابة خلق القدرة على الطاعة.

وقال إمام الحَرَمَين: هو خلق الطاعة، والظاهر أن ما قالهُ الإمام أحقُّ، فإن القدرة على الطاعة متحققة في كل مكلَّف، اللهمَّ إلا أن يكون المراد القدرة المؤثّرة القريبة من الاستطاعة التي هي مع الفعل، كما هو مذهب أهل الحق من أن القدرة مع الفعل، والتوفيقُ عكس الخلان فإنهُ خلق قدرة المعصية.

وإنما حمد على التوفيق، أي في مقابلتهِ لا مطلقًا، لإن الأول واجب والثاني مندوب.

(وَنَسْأَلُهُ هِدَايَةَ طَرِيقِهِ) السؤَال والدعاءُ مترادفان، وليس بينهُ وبين الأمر والالتماس فرق من جهة الصيغة، وإنما يحصل الفرق بالمقارنة، فإنها إن قارنت الاستعلاءَ فالأمر، وإن قارنت التساوي فالالتماس، وإن قارنت الخضوع فالسؤال والدعاءُ.

فالسؤَال: ما دلَّ على طلب الفعل دلالةً وضعيَّة مقارنًا للخضوع.

والهداية: الدلالة على ما يُوصِل إلى المطلوب أوصل إليهِ بالفعل أو لا أو الدلالة الموصلة إلى المطلوب، والأول مذهب أهل الحق، والثاني مذهب أهل الاعتزال.

والحق أنها مستعملة في كلا المعنيين، لإنهُ لا نزاع بينهم في الحقيقة، لأنها تجئُ تارةً بمعنى خلق الاهتداءِ.

(وَنُصَلَّي عَلَى مُحَمَّدِ) الصلوة من الله تعالى رحمة، ومن الملائكة استغفار، ومن الإِنس والجنّ دعاءٌ، وقد جمعها قولهُ تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا.

ومحمد معناهُ الوضعي أوَّلاً هو البليغ في كونهِ محمودًا، فيجوز أن يكون سبب تسمية النبي عليهِ الصلوة والسلام بهِ، ثبوت هذا المعنى في ذاتهِ.

(وَعَلَى عِتْرتِهِ) هي بكسر العين وسكون التاءِ المثناة، قيل: أهل بيتهِ، وقيل: أزواجهُ وذرّيتهُ، وقيل: أهلهُ وعشيرتهُ الأَدنَون، وقيل: وقيل: نسلهُ ورهطهُ (أَجْمَعِينَ) تأكيد.

(أمّا بَعْدُ) يؤتى بها للانتقال من أسلوبٍ إلى آخر، والتقدير مهما يكن شيءٍ بعد البسملة وما بعدها، (فَهذِهِ) أي الأمور الحاضرة في الذهن، كأَنَّ المصنّف استحضر المعاني التي ستُذكَر في رسالتهِ على وجه الإجمال، وأورد اسم الإشارة لبيانها، فإن أسماءَ الإشارة وإن كان وضعها للأمور المُبصَرة، إلا أنها ربما تُستعمل في الأمور المعقولة لنكتةٍ، وهي ههنا إمّا للإشارة إلى إيقان هذه المعاني، حتى صارت لكمال علمهِ بها كأنها مُبصَرة عندهُ، ويقدر على الإشارة إليها، وإِمَّا إلى كمال فطانة الطالب، كأنهُ بلغ مبلغًا صارت المعاني عندهُ كالمُبصَرات، واستحقَّ أن يشار لهُ إلى المعقول بالإشارة الحسيَّة، وفيهِ مبالغة في حس الطالب.

هذا إذا كانت الديباجة متقدمة على الرسالة وإن كانت متأخرة عنها، كما هو دأْب الأكثرين من المصنّفين، فيكون المشار إليهِ محسوسًا متحقَّقًا.

(رِسَالَةٌ) مؤَلفة (فِي) علم (المَنْطِقِ)، وهو آلةٌ قانونيَّة، تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأِ في الفكر، وموضوعهُ المعلومات التصوُّريَّة والتصديقيَّة، وفائدتهُ الاحتراز عن الخطأِ في الفكر، الذي هو ترتيب أمور معلومة حاصلة يُتوصَّل بها إلى تحصيل غير الحاصل.

ووجه تسمية هذه الآلة بالمنطق، أن المنطق مصدر ميمي يُطلَق بالاشتراك على النُطق بمعنى التكلم، وعلى إدراك الكليات وعلى قوانينها، ولما كانت هذه الآلة تعطي الأول قوةً، والثاني إصابةً، والثالث كمالاً، سُمّيت بالمنطق.

(أَوْرَدْنًا فِيهَا) أي في تلك الرسالة (مَا يَجِبُ اسْتِحْضَارُهُ) قيل المراد بالوجوب، الوجوب الاستحساني لا الوجوب الشرعي، الذي يكون تاركهُ آثمًا كالصلاة والصوم والزكاة، ولا الوجوب العقلي الذي يمتنع الشروع بدونهِ، كالتصور بوجهٍ ما، والتصديق بوجهٍ ما، لأن كثيرًا من المحصّلين يحصّل كثيرًا من العلوم من غير شعور بشيءٍ من تلك الاصطلاحات.

قال الإمام الغزَّالي: من لا معرفة لهُ بالمنطق فلا ثقة بعلمهِ، وسمَّاهُ معيار العلوم.

(لِمَنْ يَبْتَدِئُ فِي شَيءٍ مِنَ الْعُلُومِ) والمراد من العلوم ههنا العلوم الكـسَبْيَّة، التي يُحتاج في تحصيلها إلى كسب وفكر، لأن العلوم البديهية لا يُحتاج في تحصيلها إلى شيءٍ من الكسب، فكيف إلى وجوب استحضار شيءٍ من القواعد المنطقيَّة.

وإنما قال: يجب استحضارهُ لأن القواعد ليست هي نفسها تفيد معرفة الفكر، وإلاَّ لم يعرض للمنطقي غلطٌ أصلاً وليس كذلك، لأنهُ ربما يغلط لإهمال القواعد أو لنسيانها، وإلى هذا يشير قولهم في تعريف المنطق: تعصم مراعاتهُ الذهن.

وإنما يجب استحضارهُ لمن يبتدئُ في شيءٍ من العلوم، لأنهُ آلةٌ لسائر العلوم، وآلة الشيءِ مقدمة على ذلك الشيءِ.

فإن قلت: يلزم من كونهِ آلةً للعلوم كونهُ آلةً لنفسهِ، لأنهُ من العلوم قلت: إنهُ علمٌ في نفسهِ وآلةٌ لغيرهِ، والشيءُ الواحد يجوز أن يكون آلةً وعلمًا باعتبارين، أو المراد من العلوم في قولهِ في شيءٍ من العلوم سوى المنطق.

(مُسْتَعِينًا بِاللهِ) أي طالبًا منهُ المعونة (إِنَّهُ مُفِيضُ الْخَيْرَ) هو ما يُنْتَفع بهِ في نفس الأمر (وَالجَودِ) أي العطاءِ على عبادهِ.

ثم لمّا كان الغرض من المنطق معرفة صحة الفكر وفسادهِ، والفكر إمّا التحصيل المجهولات التصوريَّة أو التصديقية، كان للمنطق طرفان: تصوُّرات وتصديقات، ولكلٍّ منهما مبادئُ ومقاصد، فكانت أقسامهُ أربعةً: فمبادئُ التصورات الكُلِّيَّات الخمس، ومقاصدها القول الشارح، ومبادئُ التصديقات القضايا وأحكامها، ومقاصدها القياس.

ثم القياس بحسب المادَّة خمسة يسمونها الصناعات الخمس، فهي مع الأقسام الأربعة أبوابٌ تسعة للمنطق، وبعض المتأَخرين عدَّ مباحث الألفاظ جزءًا منها فصارت عشرة.

ولمّا أراد المصنّف أن يلحّ إلى كل واحدٍ من هذه الأبواب تسهيلاً للطلاَّب رتَّبها على وفق ما أشرنا إليهِ، فصار تقديم مباحث إيساغوجي واجبًا عليهِ فقال بعد ذكر الخطبة:

(إِيسَاغُوجِي) أي هذا باب إيساغوجي، وهو لفظ يوناني مركَّب حاصل معناهُ مُوصِل أو مَدخَل جعلهُ المنطقيون عَلَمًا للكليات الخمس، أعني (النوع، والجنس، والفصل، والخاصَّة، والعَرَض العامَّ).

وإنَّما انحصرتِ الكليَّات في هذه الخمسة، لأنَّ الكلي إذا نسبناهُ إلى ما تحتهُ من الجزئيات، فلا يخلوا إمّا أن يكون تمام ماهيتها، أو داخلاً فيها، أو خارجًا عنها.

فإن كان الأول فهو نوع، وإن كان الثاني فلا يخلو من أن يكون مقولاً في جواب ما هو أو لا، الأول الجنس، والثاني الفصلُ.

وإن كان الثالث فلا يخلو من أن يكون مقولاً في جواب أيُّ شيءٍ هو في عَرَضهِ الخاص أو لا، الأول الخاصَّة، والثاني العرض العام.

ثمَّ لمّا كان مقصودهم من استحضار الكليات وغيرها من الاصطلاحات المنطقية استحصال المجهولات، والمجهول أمّا تصوُّري أما تصديقي، والموصل إلى الأول القول الشارح المركَّب من الكليات، وإلى الثاني الحجَّة المركَّبة من القضايا، كان نظرهم إِمَّا القول الشارح وما يتركَّب هو منهُ، وإمّا إلى الحجة وما تتركَّب هي منهُ.

وذلك لا يتوقَّف لا على الألفاظ ولا على الدلالة، لكن لمّا كانت معرفة الكليات الخمس تتوقَّف على معرفة الدلالات الثلاث وأقسام اللفظ، بدأَ ببيانها فقال: (اللَّفْظْ الدَّالُّ بالوُضِعِ) الدلالة هي كون الشيءِ بحالةٍ يلزم من العلم بها العلم بشيءٍ آخر، ويسمَّى الشيءُ الأول دالًّا والثاني مدلولاً.

والدالُّ أن كان لفظاً فالدلالة لفظية وإلَّا فغير لفظيَّة.

وكلٌّ منهما أمّا وضعيَّة أو عقليَّة أو طبعيَّة لأن دلالة اللفظ على المعنى، أمّا بواسطة وضع اللفظ بإزاءِ المعنى أو بواسطة العقل أو بواسطة اقتضاءِ الطبع.

فإن كانت الأولى فالدلالة لفظيَّة وضعيَّة: كدلالة لفظ الإنسان على الحيوان الناطق.

وإن كانت الثانية فالدلالة لفظية عقلية: كدلالة اللفظ المسموع من وراءِ الجدار على وجود اللافظ.

وإن كانت الثالثة فالدلالة لفظيَّة طبعيَّة: كدلالة أَخ بفتح الهمزة وبالخاءِ المعجمة على الوجع مطلقًا، وكدلالة أَح بفتح الهمزة أو ضمها وبالحاءِ المهملة على وجع الصدر وهو السعال.

وكذلك الدلالة الغير اللفظيَّة: أمّا أن تكون بواسطة الوضع أو بواسطة العقل أو بواسطة الطبع فإن كانت الأولى فالدلالة غير لفظيَّةٍ وضعيَّةٌ: كدلالة الدوالّ الأربع على ما وُضِعَت لهُ.

وإن كانت الثانية فالدلالة غير لفظيَّة عقليَّةٌ: كدلالة الاثر على المؤثّر.

وإن كانت الثالثة فالدلالة غير لفظيَّة طبعيَّةٌ: كدلالة تغيُّر وجه العاشق عند رؤية المعشوق على العشق.

والمقصود الأصلي بالنظر إلى المنطق هو الدلالة اللفظيَّة الوضعية، لأن غيرها غير منضبطة، لاختلافها باختلاف الطبائع والعقول، بخلاف اللفظية الوضعية فإنها منضبطة.

إذا عرفت هذا فنقول: إن اللفظ الدال بالوضع (يَدُلُّ) ذلك اللفظ بتوسط الوضع (عَلَى تَمَامِ مَا وُضِعَ لَهُ بالمُطابَقَةِ) لموافقتهِ إياهُ، (وعَلَى جُزْئِهِ) أي جزءِ ما وُضع لهُ (بِالتَّضَمُّنِ) لدلالتهِ على ما في ضمن الموضوع لهُ (إِنْ كَانَ لَهُ) أي لمّا وُضع لهُ (جُزْءٌ) أمّا إذا لم يكن لهُ جزءٌ، كما في البسائط، مثل الواجب تعالى، والنقطة، فلا يتُصوَّر التضمن (وَعَلَى مَا يُلاَزِمُهُ) أي ما يلازم الموضوع لهُ (فِي الذَّهْنِ بِالاِلْتِزَامِ.) واللوازم ثلاثة: لازم ذهنًا وخارجًا: كقابل العلم، وصنعة الكتابة للإنسان، ولازم خارجًا فقط: كالسواد للغراب والزنجي، ولازم ذهنًا فقط: كالبصر للعمى.

والمعتبر في دلالة الالتزام اللزوم الذهني، وهو كون الشيءِ مقتضيًا للآخر في الذهن، بمعنى أنهُ كلما تحقق الملزوم في الذهن تحقق اللازم فيهِ، ولذا قيَّدهُ بقولهِ في الذهن.

ولا يجوز أن يُشترَط فيها اللزوم الخارجي، وهو كون الشيءِ مقتضيًا للآخر في الخارج، بمعنى أنهُ كلما ثبت الملزوم في الخارج ثبت اللازم فيهِ، إذ لو كان هذا شرطًا لم تتحقق دلالة الالتزام بدونهِ، لامتناع تحتق المشروط بدون الشرط، واللازم باطل، فكذا الملزوم.

لأن العدم كالعمى يدل على الملكة كالبصر التزامًا، إذ العمى عدم البصر عما من شأْنهِ أن يكون بصيرًا، مع أن بينهما معاندةً في الخارج.

وفي قولهِ: إن كان لهُ جزءٌ، إشارةٌ إلى أن المطابقة لا تستلزم التضمن، وكذا لا تستلزم الالتزام، خلافًا للفخر الرازي وأما التضمن والالتزام فيستلزمان المطابقة ضرورةً.

فدلالة المطابقة لفظية، لإنها لمحض اللفظ والأُخرَيان عقليتان لتوقفها على انتقال الذهن من المعنى إلى جزئهِ ولازمهِ، وقيل: وضعيتان وعليهِ أكثر المنطقيين.

وإنما انحصرت الدلالة اللفظية الوضعية في هذه الثلاث: لأن اللفظ الدالَّ بحسب الوضع على المعنى، لا يخلو من أن يدلَّ على تمام ما وُضع لهُ، أو على جزءِ ما وُضع لهُ، أو على ما يلازمهُ في الذهن.

فإن كان الأول فالدلالة دلالة بالمطابقة، وإن كان الثاني فالدلالة دلالة بالتضمن، وإن كان الثالث فالدلالة دلالة بالالتزام.

مثال الدلالة بالمطابقة: (كَالْإِنْسَانِ فَإنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الحَيَوَانِ النَّاطِقِ بِالمُطَابَقَةِ).

وإنما سُمّيت هذه الدلالة بالمطابقة لإن اللفظ موافق لتمام ما وُضع له، وذلك من قولهم: طابقت النعلُ النعلَ إذا توافقتا.

(وَ) مثال الدلالة بالتضمن، كالإنسان فإنهُ يدلُّ (عَلَى أَحَدِهِمَا) أي على الحيوان فقط أو على الناطق فقط (بِالتَّضَمُّنِ) لكن لا مطلقًا، بل عند إرادة المعنى المُطابَقيّ، أعني المجموع من الحيوان والناطق.

وإنما سمّيت هذه الدلالة تضمنًا، لأنهُ يدلُّ على ما في ضمن الموضوع لهُ.

(وَ) مثال الدلالة بالالتزام كالإنسان فإنهُ يدلُّ (عَلَى قَابِلِ العِلْمِ وَصِنَاعَةِ الْكِتَابَةِ بِالاِلْتِزَامِ).

وهذا أيضًا عند إرادة المعنى الموضوع لهُ، لا دلالتهُ على الأمر الخارج اللازم مطلقًا، وإنما سُمّيت هذه الدلالة بالالتزام لأن اللفظ لا يدلُّ على كل أمرٍ خارجٍ عنهُ، وإلاَّ لزم دلالة اللفظ على معانٍ غير متناهية، ولا على بعضٍ غير مضبوط لعدم الفهم بل يدلُّ على الأمر الخارج اللازم له ذهنًا.

ثم لما فرغ المصنّف من بيان الدلالات الثلاث، شرع في بيان تقسيم اللفظ فقال: (ثُمَّ اللَّفْظُ) الموضوع لمعنى (إِمَا مُفْرَدٌ: وَهُوَ الَّذِي لاَ يُرُادُ بِالجُزْءِ مِنْهُ دِلاَلَهٌ عَلَى جُزْءِ مَعْنَاهُ).

وهو أعمُّ من ان لا يكون لهُ جزءٌ كـ(ق) عَلَمًا، أو يكون لهُ جزءٌ لا لمعناهُ كلفظة النقطة.

أو يكون لهُ جزءٌ ولمعناهُ أيضًا جزءٌ، ولا يدلَّ جزءُ ذلك اللفظ على جزءِ معناهُ (كَالإِنْسَانِ) فإنهُ لفظٌ لا يراد جزئهِ دلالةٌ على جزءِ معناهُ، لإن الألف منه مثلاً لا تدلُّ على الحيوان، والنون منهُ لا تدلُّ على الناطق.

أو يكون لهُ جزءٌ دالٌّ على معنىً، لكن لا على جزءِ المعنى المراد، كعبد الله عَلَمًا، إذ ليس شيءٌ من العبودية والألوهية جزءًا للشخص المُعلَم، لأن المراد ذاتهُ المشخَّصة.

أو يكون لهُ جزءٌ دالٌّ على جزءِ المعنى المراد، ولا تكون دلالتهُ مُرادة حال أرادة ذلك المعنى، كالحيوان الناطق عَلَمًا، إذ ليس شيءٌ من معنى الحيوان والناطق الجزءَين للإنسان مُرادًا في حال العلمية، وإنما المراد دلالة مجموع الحيوان والناطق على الذات المشخَّصة.

فالمفرد خمسة أقسام.

(وَإِمَّا مُؤَلَّفٌ: وَهُوَ الَّذِي لاَ يَكُونُ كَذلِكَ) أي الذي يراد بالجزءِ منهُ دلالةٌ على جزءِ معناهُ، بأن تكون القيود الخمسة متحققة فيهِ، (كَرامِي الْحِجَارَةِ) فإن الرامي يراد بهِ الدلالة على ذاتٍ صدر منها الرمي، والحجارة يراد بها الدلالة على جسمٍ معيَّن بالتعيين النوعي.

فإن قلت: لِمَ قدَّم المصنّف تعريف المفرد على تعريف المؤَلف، مع أن الأَولى عكسهُ، لأن القيود المذكورة في تعريف المؤَلَّف وجودية، وفي تعريف المفرد عَدَميَّة، والأَعدام انما تُعرَف بملكاتها.

قلت: إن مقصود المصنّف هنا التقسيم بقرينة تصدير اللفظ، والتعريف يُستفاد منهُ ضِمنًا، والتقسيم باعتبار الذَّات لا باعتبار المفهوم، وذات المُفَرد سابقة على ذات المركَّب.

واعلم أن المفرد والمركَّب وأقسامهما الآتية، أقسام للمفهوم أولاً، وبالذَّات وللَّفظ ثانيًا، وبالعَرَض تنزيلاً للدال منزلة المدلول، إلاَّ أن المصنّف اعتبر التقسيم المجازي تقريبًا إلى فهم المبتدئين.

ولما فرغ مما تتوقف عليهِ الاصطلاحات شرع في مباحث الاصطلاحات فقال: (وَ) اللفظ (المُفْرَدُ:) بالنظر إلى معناهُ (إِمَّا كُلِّيٌّ وَهُوَ الَّذِي لاَ يَمْنَعْ نَفْسُ تَصَوُّرِ مَفْهُومِهِ) أي لا يمنع مفهومهُ لا من حيث هو هو، بل من حيث إنهُ متصوَّرٌ على ما يفيدهُ قيد النفس (مِنْ وَقَوعِ الشَّركَةِ فِيهِ) بين كثيرين.

والمراد بعدم منع الاشتراك، إمكان فرض صدقهِ على كثيرين، لا اشتراكهُ في الواقع، ولا فرضهُ بالفعل، حتى تدخل الكليَّات الفَرْضية، كشريك الباري واللاشيءِ واللاممكن في تعريف الكلّي، وتخرج عن تعريف الجزئي، وإلَّا لانتقضا جمعًا ومنعًا.

واعلم أن المراد بالكثيرين في اصطلاح أهل المنطق ما هو فوق الواحد على خلاف المتبادر في عُرْفِ العربيَّة، إذ المقصود كلُّ عددٍ يحتمل نسبة الاشتراك إليهِ، فيتناول الاثنين فما فوق.

وإنما قيد المفهوم بالتصوُّر لأن من الكليات ما يمنع الاشتراك بين كثيرين بالنظر إلى الدليل الخارجي، كواجب الوجود تعالى، فإن الدليل الخارجي قَطَعَ عرق الشركة عنهُ، وأمَّا بالنظر إلى مجرَّد تصوُّرهِ فلا يمنع عن صدقهِ على كثيرين، وإلَّا لم يُحْتَج في إثبات وحدانيَّتهِ إلى دليل خارجي والاحتياج فيهِ إلى دليل مقرَّر فظهر أن العقل لم يمنع صدق مفهومهِ على كثيرين عند قطع النظر عن الدليل الخارجي.

وأمَّا تقييدهُ بالنفس فلئلا يُتوهَّم دخول مفهوم الواجب في حد الجزئي.

وأمَّا ذكر المفهوم فمبنيٌّ على أن مَورِد القسمة اللفظ، فلا يلزم أن يكون للمفهوم مفهوم.

فمثال الكلّيّ (كَالإِنْسَانِ) فإن مفهومهُ إذا تُصُوّر لم يمنع عن صدقهِ على كثيرين من افراده.

(وَإِمَّا جُزْئِيٌ وَهُوَ الَّذِي يَمْنَعُ نَفْسُ تَصَوُّرِ مَفْهُومِهِ مِنْ ذلِكَ) أي من وقوع الشركة بإن كثيرين (كَزَيْدٍ) فإن مفهومهُ الذات مع التشخُّص، وهو من حيث إنهُ متصوَّرٌ يمنع وهو من وقوع الشركة بين كثيرين إذ يحصل من تعقل كل واحدٍ منهم أثرٌ متجدّد.

مثلاً إذا رأينا زيدًا ولاحظناهُ مع مشخِّصاتهِ، يحصل منهُ في أذهاننا الصورة الإنسانية المتصفة باللواحق، وإذا رأينا عقبه عمرًا ولاحظناهُ أيضاً مع مشخِّصاتهِ، يحصل منهُ صورةٌ أخرى غير الصورة الأولى، وقس على هذا.

وإنما قسم المفرد إلى الكلّي والجزئي دون المؤَلَّف، لأن كون المؤَلَّف كليًّا أو جزئيًّا، إنما يكون باعتبار كون أجزائهِ كليَّةً أو جزئيَّة أو نقول قسمة المفرد إليهما لا تنافي قسمة المؤَلَّف إليهما.

وقدَّم الكلي على الجزئي، لأن الكلي جزءٌ للجزئي غالبًا، كالإنسان فإنهُ جزءٌ لزيدٍ الجزئي، لأن الإنسان هو الحيوان الناطق، وزيدًا هو الحيوان الناطق مع التشخُّص، فالجزئيٌّ كلٌّ، لكون الكلي جزءًا منهُ على تقدير كونهِ مركَّبًا، ولأن الكلي مادَّة الحدود والبراهين والمطالب، بخلاف الجزئي.

واعلم أن الجزئي يُطلَق بالاشتراك على المعنى الذكور، ويسمَّى جزئيًّا حقيقيًّا، لأن جزئيتهُ بالنظر إلى حقيقتهِ المانعة من الشركة وبإزائهِ الكليُّ الحقيقي.

وعلى كلَّ أخصَّ تحت أعمَّ، كالإنسان بالنسبة إلى الحيوان، ويسمَّى جزئيًّا إضافيًّا، لأن جزئيتهُ بالإضافة إلى شيءٍ آخر وبإزائهِ الكليُّ الإضافي.

ولما فرغ من تقسيم اللفظ المفرد إلى الكلي والجزئي ابتدأَ بالكلي فقال: (وَ) اللفظ المفرد (الْكُلِّيُّ إِمَّا ذَاتِيٌّ وَهُوَ الَّذِي يَدْخُلُ فِي حَقِيقَةِ جُزْئِيَّاتِهِ كَالحَيَوَانِ بِالنَّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ) فإن الحيوان كلّيٌّ ذاتيٌّ داخل في حقيقة الإنسان، لكونهِ مركَّبًا من الحيوان والناطق وكذا بالنسبة إلى الفرس والبقر والبغل وغيرها من الأفراد النوعية المندرجة تحت الحيوان.

اعلم أن الكلي الذاتي يطلق بالاشتراك على معنيين، أحدهما ما يكون داخلاً في حقيقة جزئياتهِ، وثانيهما ما لا يكون خارجًا عنها، والمراد من الدخول ههنا هو المعنى الثاني، لتدخل نفس الماهية في الكلي الذاتي، وإن حُمِل المعنى الأول لم يصحَّ بعد ذلك تقسيم الكلي الذاتي إلى الجنس والنوع والفصل، فإن النوع على المعنى الأول ليس بذاتي، لأنهُ تمام حقيقة الجزئيات، فيلزم منهُ دخول الشيءِ في نفسهِ وهو محال وإمّا على المعنى الثاني فتكون نفس الحقيقة داخلة فيهِ، لأنهُ كما يصدق على جزءَي الحقيقة الأعمّ والمساوي - أعني الجنس والفصل - أنهما غير خارجين عنها، كذلك يصدق على نفس الحقيقة أنها غير خارجة عنها، وإلاَّ يلزم كون الشيءِ غير نفسهِ وهو محال.

فإن قلت: حقيقة النوع عين الذات، فكيف يكون ذاتيًّا - أي منسوبًا إلى الذات - والنسبة تقتضي التغاير بإن المنسوب والمنسوب إليهِ، والشيءُ لا يغاير نفسهُ.

قلت: إطلاق الذاتي عليهِ اصطلاحيٌّ، لأن الذاتي الاصطلاحي هو الذي ليس بعَرَضي، وعلى هذا لا يلزم كون الشيءِ منسوبًا إلى نفسهِ.

(وَإِمَّا عَرَضِيٌّ: وَهُوَ الَّذِي يُخَالِفُهُ) أي لا يدخل في حقيقة جزئياتهِ، بأن يكون خارجًا عنها (كَالضَّاحِكِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ) فإنهُ لا يدخل في حقيقة جزئيات الإنسان التي هي زيدٌ وعمرٌو وبكرٌ.

فإن قلت: إن الحكم على الناطق بأنهُ داخل في حقيقة الإنسان، وعلى الضاحك بأنهُ خارج عنها، تحكُّم لكونهما متساويَين في اختصاصهما بالإنسان.

قلت: ههنا قاعدة، وهي أن نوعًا ما إذا كان لهُ خواص مرتبة، كالناطق والمتعجِّب والضاحك، فأقدمها يُعتَبر ذاتيًّا، والناطق أقدم الخواص، لأن اختصاص الناطق بالإنسان أقوي من اختصاص الضاحك بهِ، إذ اختصاص الضحك تابع ومتفرع على اختصاص النطق بهِ، بناءً على أن الإنسان ما لم يتَّصف بالإدراك مطلقًا وهو النطق، لم يتَّصف بالانفعال عند إدراك الأمور الغريبة وهو الضحك.

(وَالذَّاتيُّ:) قد سبق بيان ما هو المراد منهُ، وهو ينحصر في ثلاثة أقسام (جنس ونوع وفصل)، لأنهُ إما مَقُولٌ في جواب ما هو بحسب الشركة فقط وهو الجنس أو في جواب ما هو بحسب الشركة والخَصُوصيَّة معًا وهو النوع أو مقول في جواب أيُّ شيءٍ هو في ذاتهِ وهو الفصل.

ولذا قال: (إِمَّا مَقُولٌ فِي جَوَابِ مَا هُوَ) أي في جواب السؤال بما هو (بِحَسَبِ الشَّركَةِ المَحْضَةِ) أي لا الخصوصية أيضًا، (كَالحَيَوَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ) أي بالنسبة إلى الأفراد المختلفة الحقيقة، فإنهُ إذا سُئل عنهما، بما هما كان الحيوان جوابًا عنهما، لأن السؤَال بما هما عن هذين الشيئين طلبٌ لتمام الماهية المشتركة بينهما، وتمام الماهية المشتركة بينهما هو الحيوان فقط.

فإذا أُفرِد كلُّ واحدٍ منهما في السؤَال، لم يصحَّ الحيوان أن يقع جوابًا عن كل واحدٍ منهما، لأن السؤَال بما هو عن شيءٍ واحد طلبٌ لتمام الماهية المختصَّة بهِ، وليس الحيوان كذلك، بل هو جزءٌ من تمام ماهية كل واحدٍ منهما، فيكون الجواب في السؤَال عن الإنسان وحدهُ هو الحيوان الناطق، وعن الفرس وحدهُ هو الحيوان الصاهل، لكونهما تمام ماهية كل واحدٍ منهما.

(وَهُوَ) أي ذلك المقول (الجْنْسُ) قدَّمهُ على النوع لأنهُ جزءُ النوع، والجزءُ مقدَّمٌ على الكل.

(وَيُرْسَمُ) الجنس (بِأَنَّهُ كُلِّيٌّ مَقُولٌ عَلَى كَثِيرِينَ مُخْتَلفِين بِالحقائِقِ فِي جَوَابِ مَا هُوَ) قولهُ كلّيٌّ: جنسٌ المجنس شامِلٌ لسائر الكليات.

وقولهُ: مقول، إنما ذُكِر ليتعلق بهِ قولهُ على كثيرين.

وقولهُ: على كثيرين، إنما ذُكر ليُوصَف بقولهِ مختلفين بالحقائق.

وبقولهِ: مختلفين بالحقائق، خرج النوع وخاصتَّهُ والفصل القريب.

وبقولهِ: في جواب ما هو، خرج الفصل البعيد والعَرَض العامُّ وخاصَّة الجنس.

واعلم الجنس: إمَّا عالٍ: وهو الذي تحتهُ جنس، وليس فوقهُ جنس، كالجوهر على القول بجنسيتَّهِ.

وإما متوسطٌ: وهو الذي فوقهُ وتحتهُ جنسٌ كالجسم.

وإما سافل: وهو الذي فوقهُ جنس وليس تحتهُ جنس كالحيوان، لأن ما تحتهُ أنواعٌ لا أجناسٌ.

وإما منفرد: وهو الذي ليس فوقهُ جنس وليس تحتهُ جنس. قالوا ولم يوجد لهُ مثال.

(وَإِمَّا مَقُولٌ فِي جَوَابِ مَا هُوَ بِحَسَبِ الشَّرِكَةِ وَالخُصُوصِيَّةِ مَعًا كَالْإِنْسَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى زَيْدٍ وَعَمْرٍو) وغيرهما من الأفراد الشخصية، فإنهُ إذا سُئِل عن زيدٍ وعمرٍو بما هما، كان الجواب الإنسان، لأن السائل طلب الماهيَّة المشتركة بينهما، والماهية المشتركة بينهما الإنسان، فيكون جوابًا عنهما، وإذا أُفرِد الأَفراد بأن سُئِل عن زيدٍ فقط أو عمرٍو فقط، كان الجواب أيضًا الإنسان، لأن السؤَال عن الأفراد على سبيل الانفراد طلبٌ للماهية المختصة بكل واحدٍ، والماهية المختصة بكل واحدٍ هي الإنسان فقط.

فعُلِم منهُ أن النوع يكون مقولاً في جواب ما هو بحسب الشركة والخصوصيَّة معًا، وإن أفراد النوع منحصرة في الجزئيات الحقيقية.

(وَهُوَ) أي ذلك المقول (النَّوْعُ وَيُرْسَمُ بِأَنَّهُ كُلَّيٌّ مَقُولٌ عَلَى كَثِيرِينَ مُخْتَلِفِينَ بِالْعَدَدِ دُونَ الحَقِيقَةِ فِي جَوَابِ مَا هُوَ).

فذكر الكليَّ والمقول على كثيرين كما مرَّ.

وقولهُ: مختلفين بالعدد دون الحقيقة احترازٌ عن الجنس وخاصتَّهِ والعَرَض العامّ والفصل البعيد.

وقولهُ: في جواب ما هو احترازٌ عن الفصل القريب وخاصَّة النوع فإنهما مقولان في جواب أيُّ شيءٍ هو في ذاتهِ أو في عَرَضهِ.

واعلم أن النوع قسمان: إِضافيٌّ وهو المندرج تحت جنس، وحقيقيٌّ وهو ما ليس تحتهُ نوع فبينهما عموم وخصوص من وجهٍ.

يجتمعان في نحو الإنسان، فإنهُ نوعٌ إضافي لاندراجهِ تحت جنس وهو الحيوان، وحقيقي إذ ليس تحتهُ نوع.

وينفرد الإضافي في نحو الحيوان فإن فوقهُ جنسًا وهو الجسم، وتحتهُ نوعًا وهو الإنسان.

وينفرد الحقيقي في الماهية البسيطة كالعقل المطلق عند الحكماءِ، على القول بنفي جنسيَّة الجوهر.

ولما فرغ من القسم الأول والثاني للذاتي شرع في القسم الثالث منهُ فقال: (وَإِمَّا غَيْرُ مَقُولٍ فِي جَوَابِ مَا هُوَ بَلْ مَقُولٌ فِي جَوَابِ أَيُ شَيْءٍ هُوَ فِي ذَاتِهِ) أي حقيقتهِ.

ههنا قاعدة لابُدَّ من معرفتها، وهي أن السؤَال بأَيُّ شيءٍ هو، على ثلاثة أقسام:

أحدهما: أن لا يزاد على أيُّ شيءٍ هو قيدٌ.

وثانيها: أن يزاد عليه قيدٌ، وهو في ذاتهِ.

وثالثها: أن يزاد عليهِ قيدٌ وهو في عَرَضهِ.

فإن كان الأول كان السؤَال عن المميز المُطلَق، فيكون الجواب بما يميزهُ في الجملة، سواءٌ كان فصلاً قريبًا أو بعيدًا أو خاصَّةً، كما إذا سئل عن الإنسان بأيُّ شيءٍ هو، فيصحُّ أن يقال في جوابه: أنهُ ناطقٌ أو حسَّاس أو ضاحك، فأن كلاَّ منها يميزهُ عن غيرهِ في الجملة.

وإن كان الثاني كان السؤَال عن المميز الذاتي، فيكون الجواب بالفصل القريب وحدهُ، لأن المميز الذاتي هو الفصل القريب لا غير، كما إذا سُئِل عنهُ بأّيُّ شيءٍ هو في ذاتهِ، فيصحُّ في الجواب أن يقال: أنهُ ناطقٌ، ولا يصحُّ أن يقال: أنهُ ضاحكٌ أو حسَّاس.

وإن كان الثالث كان السؤَال عن المميز العرضي، فيكون الجواب بالخاصَّة وحدها، كما إذا سُئِل عنهُ بأيُّ شيءٍ هو في عَرَضهِ؟ فالجواب عنهُ الضاحك.

ولمّا كان في قولهِ: بل مقول في جواب أيُّ شيءٍ هو في ذاتهِ نوع خفاءٍ، فسَّرهُ بقوله: (وَهُوَ الَّذِي يُمَيِّزُ الشَّيْءَ عمَّا يُشَاركُهُ فِي الجْنْسِ).

وإنما قيَّدهُ بقوله في الجنس، بناءً على أن كل ماهيةٍ لها فصلٌ فلها جنسٌ البتة (كَالنَّاطِقِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإنْسَانِ) فأن الناطق يميز الإنسان عما يشاركهُ في الحيوان، كالفرس والبغل والبقر وغيرها، فإذا سُئِل بأيُّ شيءٍ هو في ذاتهِ كان الجواب الناطق. (وَهُوَ الْفَصْلُ).

وهو إِمَّا قريبٌ إن ميَّز الشيءَ عما يشاركهُ في الجنس القريب، وإمّا بعيدٌ إن ميَّزهُ في الجملة عما يشاركهُ في الجنس البعيد.

(وَيُرْسَمُ) أي الفصل (بِأَنَّهُ كَلِّيٌّ يُقَالُ عَلَى الشَّيْءِ فِي جَوَابِ أَيَّ شَيْءٍ هُوَ فِي ذَاتِهِ).

فقولهُ كلي: جنس يشمل الكليات.

وقولهُ: يقال على الشيءِ في جواب أي شيءٍ هو يُخرج الجنس والنوع والعَرَض العامَّ، لأن الأوَّلاين يقُالان في جواب ما هو، لا في جواب أي شيءٍ هو، والثالث لا يقال في الجواب أصلاً.

وقولهُ في ذاتهِ: أي في جوهرهِ يُخرِج الخاصَّة، لأنها وإن كانت مميزةً للشيءِ، لا تميزهُ في ذاتهِ بل في عَرَضهِ، وإنما قال على الشيءِ ولم يَقُل على كثيرين - كما قال في سائر تعريفات الكليات - ليشمل فصل النوع الذي ينحصر في شخص واحد بحسب الخارج كالشمس.

(وَأَمَّا الْعَرَضِيَّ فَإِمَّا أَنْ يَمْتَنِعَ انْفِكَاكُهُ عَنِ المَاهِيَّةِ) سواءٌ امتنع انفكاكهُ عن الماهية من حيث هي هي بأَن يمتنع انفكاكهُ عنها في الذهن والخارج معًا، كالفرديَّة للثلاثة، ويسمَّى هذا لازم الماهية أو عن الماهية الموجودة بأن يمتنع انفكاكهُ عنها باعتبار وجودها في الخارج دون الذهن، كالسواد للحَبَشيّ، فإن السواد ليس بلازم لماهية الحَبَشيّ من حيث هي هي، وإلَّا لكان كل إنسان أسود، بل هو لازم لوجودهِ، ويسمَّى هذا لازم الوجود (وَهُوَ الْعَرَضُ الَّلاَزِمُ أَوْ لَا يَمْتَنِعَ) انفكاكهُ عنها بل تمكن مفارقتهُ لها (وَهُوَ الْعَرَضُ المَفَارِقُ).

وهو على قسمين:

الأول: ما تكون مفارقتهُ بالفعل، إِمَّا يسيرة كمفارقة القيام عن القائِم، أو عسيرة كمفارقة العشق عن العاشق.

والثاني: ما تكون مفارقتهُ بالإمكان لا بالفعل، كمفارقة حركة الأفلاك، فإنها لا تنفكُّ عن الفلك بالفعل مع أنها ممكنة الانفكاك عنهُ.

(وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا) أي من العرض اللازم والعرض المفارق (إِمَّا أَنْ يَخْتَصَّ بِحَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ الخَاصَّةُ) وهي ثلاثة أقسام:

أحدها: ما يُوجَد في جميع أفراد ذي الخاصَّة، مع امتناع انفكاكهِ عنها، ويسمَّى هذا خاصَّةً شاملة لازمة (كَالضَّاحِكِ بِالْقُوَّةِ) بالنسبة إلى جميع أفراد الإنسان، فأن الضحك بالقوَّة يوجد في جميع أفراد الإنسان مع امتناع انفكاكه عنها.

(وَ) ثانيها: ما يوجد في جميع أفراد ذي الخاصَّة، لكن يجوز انفكاكهُ عن كل واحدٍ، ويسمَّى هذا خاصَّة شاملة غير لازمة كالضاحك (بِالْفِعْلِ لْلإِنْسَانِ) فإنهُ يوجد فيهِ في وقتٍ دون وقت.

وثالثها: ما لا يوجد في جميع أفراد ذي الخاصَّة، بل يوجد في بعضها، ويسمَّى هذا خاصَّةً غير شاملة، كالكاتب بالفعل بالنسبة إلى أفراد الإنسان، فإنهُ يوجد في بعض أفراد الإنسان دون بعضها.

(وَتُرْسَمُ) أي الخاصَّة (بِأَنَّهَا كُلِّيَةٌ تُقًالُ عَلَى مَا تَحْتَ حَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَطْ) يخرج الجنس والعرض العام (قَوْلاً عَرَضِيًا) يخرج النوع والفصل.

(وَإِمَّا أَنْ يَعُمَّ) كلُّ واحدٍ من اللازم والمفارق (حَقَائِقَ فَوْقَ) حقيقةٍ (وَاحِدَةٍ وَهْوَ الْعَرَضُ الْعَامُّ).

فاللازم منهُ، (كَالمُتَنَفِّسِ بِالْقُوَّةِ) فإنهُ عرض لازم لا ينفكُّ عن ماهية الحيوان غير مختصٍّ بحقيقة واحدة.

(وَ) المفارق منهُ كالمتنفس (بالْفِعْلِ) فإنهُ عرضٌ مفارق ينفكُّ عن ماهية الحيوان غير مختصٍّ بحقيقةٍ واحدة.

وقولهُ: (لْلإِنْسَانَ وَغَيْرِهِ مِنَ الحَيَوانَ) متعلّقٌ بالمثالين وبيانٌ لعمومهما.

(وَيُرسَمُ) أي العرض العام (بِأَنَّهُ كُلَّيٌّ يُقَالُ عَلَى مَا تَحْتَ حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةٍ) خرج غير الجنس والفصل البعيد وخرجا بقولهِ: (قَوْلاً عَرَضِيًا).

وإنما كانت تعريفات هذه الكليات رسومًا، لأن المقولية عارضة فيها والتعريف بالعارض لا يكون إلا رسمًا.

ولما فرغ من مبادئ التصورات، وهي الكليات الخمس، شرع في مقاصدها، فقال: (الْقَوْلُ الشَّارِحُ) أي مما يجب استحضارهُ القول الشارح، ويرادفهُ المعرِّف.

يسمَّى بالقول لكونهِ مركَّبًا.

ويسمَّى شارحًا لشرحهِ الماهيَّة، إِمَّا بأن يكون تصوُّرهُ سببًا لاكتساب تصوُّر الماهية بكُنهها، وهو الحدُّ أو بأن يكون تصوُّرهُ سببًا لاكتساب تصوُّرها بوجهٍ يميزها عما عداها، وهو الرسم.

وبهذا عُلِم أن القول الشارح إمَّا حدٌّ أو رسم، فعرَّف الحدَّ بقولهِ: (الحَدُّ قَوْلٌ دَالٌّ عَلَى مَاهِيَّةِ الشَّيْءِ) أي حقيقتهِ الذاتيَّة.

قيل: لم يَجُزْ تعريف المعرِّف لئلا يتسلسل.

وأُجيب بأَنَّ التسلسل غير لازم، لأن المعرِّف من حيث هو غير محتاج إلى معرِّفٍ آخر، إمَّا لبداهة أجزائهِ، أو لكونهِ معلومًا بالكسب، وبأن التسلسل ههنا في الأمور الاعتبارية، والتسلسل فيها ليس بمحال، لأنهُ ينقطع بانقطاع اعتبار المعتبر.

(وَ) المعرّف منحصر في أربعة أَقسام: لإنهُ إِمَّا بمجرَّد الذاتيات أو لا، فإن كان بمجرَّد الذاتيات فإمَّا أن يكون بجميعها وهو الحدُّ التامُّ، أو ببعضها وهو الحدُّ الناقص.

وإن لم يكن بمجرد الذاتيات فإِمَّا أن يكون ببعضها مقيدًا بخاصَّةٍ لازمة وهو الرسم التامُّ، أو بغير ذلك وهو الرسم الناقص.

فالحدُّ التام: (وَهْوَ الَّذِي يَتَرَكَّبُ مِنْ جِنْسِ الشَّيْءِ وَفَصْلِهِ الْقَرِيبَيْنَ) فالجنس القريب للشيءِ: هو الذي لا يكون بينهُ وبينهُ جنسٌ آخر، والفصل القريب للشيء: هو الذي لا يكون بينهُ وبينهُ فصلٌ آخر (كَالحَيَوانِ النَّاطِقِ بِالنِّسْبةِ إِلَى الْإِنْسَانِ) فإنك إذا قلت: ما الإنسان؟ يقال: هو الحيوان الناطق (وَهْوَ الحَدُّ التَّامُّ) أمَّا تسميتهُ حدًّا: فلأَنَّ الحدَّ في اللغة المنع، وهو لاشتمالهِ على جميع الذاتيات مانعٌ من دخول الأغيار الأجنبية فيهِ.

وإمَّا تسميتهُ تامًّا: فلكون الذاتيات مذكورةً بتمامها فيهِ، ويُعتَبر في الحدّ التام تقديم الجنس على الفصل، لأنهُ مفسّرٌ للجنس، ومفسّر الشيءِ متأخّرٌ عنهُ.

(وَالحَدُّ النَّاقِصُ وَهْوَ الَّذِي يَتَرَكَّبُ مِنْ جِنْسِ الشَّيْءِ الْبَعِيدِ وَفَصْلِهِ الْقَرِيبِ) فالجنس البعيد للشيءِ، هو الذي يكون بينهُ وبينهُ أجناسٌ أُخَر (َكَالْجِسْمِ النَّاطِقِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ.) أَمَّا كونهُ حدًّا فلمِا مرَّ، وأَمَّا كونهُ ناقصًا فلعدم ذكر جميع الذاتيات فيه.

(وَالرَّسْمُ التَّامُّ وَهْوَ الَّذِي يَتَرَكَّبُ مِنْ جِنْسِ الشَّيْءِ الْقَرِيبِ وخاصَّةٍ من وَخَوَاصِّهِ الَّلاَزِمَةِ لَهُ كَالحَيَوانِ الضَّاحِكِ فِي تَعْرِيْفِ الْإِنْسَانِ.) أمَّا كونهُ رسمًا، فِلأَنَّ رسم الدار أَثَرها، ولمَّا كان هذا التعريف تعريفًا بالخاصَّة اللازمة الخارجة - التي هي من آثار الشيءِ - كان تعريفًا بالأثر.

وأمَّا كونهُ تامًّا فلكونهِ مشابهًا للحدّ التام، من جهة إنهُ وُضع في كل واحدٍ منهما الجنس القريب المقيَّد بأمرٍ مخصِّص.

وإنما قيَّد الخواصَّ باللازمة، لامتناع التعريف بالخاصَّة المفارقة، لكونها أخصَّ من ذي الخاصَّة، والتعريف بالأخصّ غير جائز.

(وَالرَّسْمُ النَّاقِصُ وَهَوَ الَّذِي يَتَرَكَّبُ مِنْ عَرَضِيَّاتٍ تَخْتَصُّ جُمْلَتُهَا بِحَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ كَقَوْلِنَا: فِي تَعْرِيفِ الْإِنْسَانِ إِنَّهُ مَاشٍ عَلَى قَدَمَيْهِ) يخرج الماشي على الأقدام الأربع كالفرس والبقر.

عِرِيضُ الْأَظْفَارِ) يخرج ما ليس بعريض الأظفار كالطير.

(بَادِي الْبَشَرَةِ) يخرج ما هو مستور البشرة بالشعر.

(مُسْتَقِيمُ الْقَامَةِ) يخرج ما هو منحني القامة كالأبل والبقر.

فلما قال: (ضَحَّاكٌ بِالطَّبْعِ) اختصَّ الجميع بالإنسان وخرج غيرهُ، لأن جملة هذه الأمور العرضية لا تجتمع إلَّا فيهِ، بخلاف كل واحدٍ منها، لوجود البعض منها في غيرهِ أيضًا، فإن الماشي على القدمان يوجد أيضًا في الطير، وعريض الأظفار يوجد في نحو الفرس، وبادي البشرة يوجد في نحو الحيَّة والسمك، ومستقيم القامة يوجد في الأشجار، وأمَّا الضحَّاك بالطبع ففي وجودهِ في غير الإنسان خلافٌ، لكن الأَولى أنهُ لا يوجد.

أَمَّا كونهُ رسمًا فلِما مرَّ، وأما كونهُ ناقصًا فلعدم ذكر بعض أجزاءِ الرسم التام فيهِ، حتى تتحقق مشابهتهُ للحدّ التام، كتحققها بين الرسم التامّ والحدّ التامّ.

ولما فرغ من التصوُّرات ومبادئها ومقاصدها، شرع في التصديقات فقدَّم مبادئَها، وهي مباحث القضايا وأحكامها فقال: (الْقَضَايَا) أي مما يجب استحضارهُ القضايا، وهي جمع قضيَّة، ويعبَّر عنها بالخبر.

(الْقَضِيَّةُ قَوْلٌ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِقَائِلهِ إِنَّهُ صَادِقٌ فِيهِ أَوْ كَاذِبٌ) والقول هو المركَّب ملفوظًا أو معقولاً، فهو جنس، وباقي القيود فصلٌ، يُخرِج المركَّبات الإنشائية سواءٌ كانت طلبيَّةً كالأمر والنهي والنداءِ، أو غير طلبيَّةٍ كالقَسَم وأفعال المدح والذم وصِيَغ العقود كبعت واشتريت فإنها ليست بقضايا بل هي من قبيل التصوُّرات الساذجة عند أرباب هذا الفن.

وكذا يُخرج المركَّبات التقييدية مثل الحيوان الناطق، والإضافيَّة مثل: غلام زيدٍ، وغيرهما من نحو: خمسة عشر لأن صدق القول مطابقة حكمهِ للواقع، وإن لم يكن مطابقًا للاعتقاد على مذهب الجمهور، أو لاعتقاد المُخبِر، وإن كان غير مطابق للواقع مذهب النظام، أو لهما جميعًا على مذهب الجاحظ، وكَذِبهُ عدم مطابقتهِ للواقع أو للاعتقاد أو لهما معًا.

ولا حكم في الإنشائيات والتقييديات والاضافيَّات، لأن الحكم هو أداءٌ للواقع في نفس الأمر من طَرَفَي النسبة، وهما الثبوت والوقوع كما في الموجبة، والانتفاءُ واللاوقوع كما في السالبة، ولا أَداءَ في الإنشائيات والتقييديات والإضافيات.

ولما فرغ من تعريف القضيَّة شرع في تقسيماتها فقال: (وَهِيَ) أي القضيَّة تنقسم اولاً باعتبار الطرفين إلى قسمين فهي:

(إِمَّا حَمْلِيَّهٌ) وهي التي يكون طَرَفاها - أعني المحكوم عليهِ والمحكوم بهِ - مُفرَدَين بالفعل أو بالقوَّة، مُوجِبةً كانت (كَقَوْلِنَا: زَيْدٌ كَاتِبٌ)، أو سالبةً كقولنا: زيدٌ ليس بكاتبٍ.

وتسميتها حمليَّة باعتبار طَرَفها الأخير، إلَّا أن الموجبة هي الحملية في الحقيقة لتحقق معنى الحمل فيها، وإمَّا السالبة فلا حمل فيها، لكن كثيرًا ما تسمَّى الأَعدام باسم الملكات اتساعًا.

(وَإِمَّا شَرطِيَّةٌ) وهي التي لا يكون طرفاها مُفردَين.

وهي إمَّا (مُتَّصِلَةٌ) وهي التي يُحكَم فيها بصدق قضيَّةٍ، أو لا صدقها على تقدير صدق قضيَّةٍ أخرى.

فإن كان الأول فالقضيَّة شرطية متصلة موجبة، (كَقَوْلِنَا: إِنْ كَانَتِ الشَّمْسُ طَالِعَةً فَالنَّهَارُ مَوْجُودٌ) فإنهُ حُكِم فيها بصدق قضيَّة النهارُ موجودٌ، على تقدير صدق قضية الشمسُ طالعةٌ.

وإن كان الثاني، فالقضية شرطيَّة متصلة سالبة، كقولنا: ليس إن كانت الشمس طالعةً فالليل موجودٌ، فإنهُ حُكم فيها بسلب صدق قضية الليلُ موجودٌ، على تقدير صدق قضية الشمس طالعةٌ.

(وَإِمَّا شَرْطِيَّةٌ مُنْفَصِلَةٌ) وهي التي يُحكَم فيها بالتنافي بين القضيتين.

فإن كان الحكم بالتنافي بينهما إيجابًا، فمنفصلةٌ مُوجِبة، (كَقَوْلِنَا: الْعَدَدُ إِمَّا زَوْجٌ وإِمَّا فَرْدٌ) فإنهُ حُكِم فيها بأن كون العدد زوجًا ينافي كونهُ فردًا، وإن كان سلبًا فمنفصلةٌ سالبة، كقولنا: ليس إِمَّا أن يكون هذا أسود أو كاتبًا، فإنهُ حُكِم فيها بسلب المنافاة بين كونه أسود وكونه كاتبًا.

وتسمية المتَّصلة بالشرطيَّة ظاهرة، لاشتمالها على أَداة الشرط.

وأمَّا تسمية المنفصلة بها، فلمشابهتها المتَّصلة من حيث إنها مركَّبة من القضيتين، فيكون معنى الشرطيَّة في المتَّصلة حقيقةً، وفي المنفصلة مجازًا.

(وَالجُزْءُ الْأَوَّلُ) أي المحكوم عليه (مَنَ) القضية (الحَمْلِيَّةِ يُسَمَّى مَوْضُوعًا) لأنهُ إنما وُضع لأَن يُحكَم عليهِ بشيءٍ، وهو المحكوم بهِ، (وَ) الجزءُ (الثَّانِي) أي المحكوم بهِ يسمَّى (مَحْمُولاً) لأنهُ إنما وُضِعَ لأَن يُحمل به على شيءٍ، وهو الموضوع.

وللحملية جزءٌ آخر، وهو النسبة التي يرتبط بها المحمول بالموضوع، وتسمَّى نسبةً حكميَّة، ولم يذكرها المصنِّف لأنهُ يريد أن يبين اسم ما سبق ذكرهُ في تقسيم القضية إلى الحملية والشرطية، والمذكور فيما سبق ليس إلا الطرفين.

(وَالجُزْءُ الْأَوَّلُ مِنَ) القضية (الشَّرْطِيَّةِ) سواءٌ كانت متصلة أو منفصلة (يُسَمَّى مُقَدَّمًا) لتقدُّمهِ في الذكر طبعًا، وإن تأَخَّر وضعًا، في نحو قولنا: النهار موجودٌ كلما كانت الشمس طالعةً، (وَ) الجزءُ (الثَّانِي) منها يسمَّي (تَاليًا) أي تابعًا، لوقوعهِ بعد الأول.

(وَالْقَضِيَّةُ) تنقسم ثانيًا إلى قسمين:

لإنها (إِمَّا مُوجَبَةٌ) إن كان الحكم فيها بالإيقاع (كَقَوْلِنَا: زَيْدٌ كَاتِبٌ وَإِمَّا سَالِبَةٌ) إن كان الحكم فيها بالانتزاع (كَقَوْلِنَا: زَيْدٌ لَيْسَ بِكاتِبٍ)، ثم أن الموجبة إمَّا محصَّلةٌ أو معدولة، لأن القضية الموجبة لا تخلو إمَّا أن يكون فيها حرف السلب، وهي المحصَّلة، وتسمَّى وجودية أيضًا، مثل زيدٌ كاتبٌ، أو يكون فيها حرف السلب الذي يكون جزءًا من أحد طَرَفَها، وهي المعدولة.

وإنما سُمّيت معدولة، لأن حرف السلب عُدِل بهِ عن أصل مدلولهِ، وهو السلب وجُعِلَ حكمهُ حكم ما بعدهُ.

فإن كان حرف السلب جزءًا من الموضوع تسمَّى معدولة الموضوع، مثل قولنا: اللّاحيُّ جمادٌ.

وإن كان جزءًا من المحمول تسمَّى معدولة المحمول، مثل قولنا: الحيُّ لا جمادٌ.

وإن كان جزءًا من كلٍّ منهما معًا تسمَّى معدولة الطرفين، مثل قولنا: اللاّحيُّ لا عالمٌ.

فالمحصَّلة هي ما لا عدول فيها اصلاً، ولا تكون إلَّا محصَّلة الطرفين، والمعدولة هي ما فيها عدولٌ سواءٌ كان في طَرَفَيها أو في أحدهما.

والسالبة هي ما يكون فيها حرف السلب، ولا يكون جزءًا منهما أصلاً، مثل: زيدٌ ليس بكاتب.

(وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا) أي من الموجبة والسالبة، (إِمَّا مَخْصُوصَةٌ) وهي التي كان الموضوع فيها شخصاً معيَّنًا.

وهي إمَّا موجبة أو سالبة (كَمَا ذَكَرْنَا) في مثاليهما، من قولنا زيدٌ كاتبٌ، وزيدٌ ليس بكاتبٍ.

أَمَّا تسميتها مخصوصة فلخصوص موضوعها، ويقال: لها شخصيَّةٌ أيضًا، لكون موضوعها شخصًا معيَّنًا.

(وَ) إن لم يكن الموضوع فيها شخصًا معيَّنًا، فالقضية تسمَّى محصورة ومسوَّرة.

وهي: (إِمَّا كُلِّيَّةٌ مُسَوَّرَةٌ) وهي التي يكون الحكم فيها على كل الأفراد.

وهو إِمَّا بالإيجاب أو بالسلب.

فإن كان بالإيجاب، فهي موجبة كليَّة مسوَّرة، (كَقَوْلِنَا: كُلُّ إِنْسَانٍ كَاتِبٌ) وسورها كلُّ.

(وَ) إن كان بالسلب في سالبة كليَّة مسوَّرة كقولنا: (لاَ شَيْءَ مِنَ الْإِنْسَانِ بِكاتِبٍ) وسورها لا شيءَ ولا واحد.

(وَإِمَّا جُزْئِيَةٌ مُسَوَّرَةٌ) وهي التي يكون الحكم فيها على بعض الأفراد، وهو أيضًا إمَّا بالإيجاب أو بالسلب.

فإن كان بالإيجاب فهي موجبةٌ جزئيَّة مسوَّرة، (كَقَوْلِنَا: كُلُّ إِنْسَانٍ كَاتِبٌ) وسورها بعض وواحد.

(وَ) إن كان بالسلب فهي سالبة جزئيَّة مسوَّرة، كقولنا: (وَبَعْضُ الْإِنْسَانِ لَيْسَ بِكاتِبٍ) وسورها ليس كل، وليس بعض، وبعض ليس.

والسور مأْخوذٌ من سور البلد، لإنهُ يحصر أفراد الموضوع، ويحيط بها كما يحيط السور بالبلد.

هذا في الحمليات، وإمَّا في الشرطيات فخصوصها وحصرها وإهمالها بتعين الأزمان والأَوضاع وبحصرها وإهمالها، لأن الأزمنة والأوضاع في الشرطيات بمنزلة الأَفراد في الحمليات، فكما أن الحكم فيها إن كان على فردٍ معيَّن، فهي مخصوصة، فكذلك الشرطيات، إن كان الحكم فيها بالاتصال والانفصال على الوضع المعيَّن، فهي مخصوصة، كقولنا: إن جئتني اليوم أكرمتك.

وإلَّا فإن بيَّن كميَّة الحكم بإنهُ على جميع الأوضاع أو على بعضها، فهي مسورة وإلَّا فمهملة.

فسور الموجبة الكليَّة في المتَّصلة كلما ومهما ومتي، كقولنا: كلما كانت الشمس طالعةً فالنهار موجودٌ.

وفي المنفصلة دائمًا. كقولنا: دائمًا إِمَّا أّن يكون العدد زوجًا أو فردًا.

وسور السالبة الكليَّة فيهما ليس البتة، كقولنا: ليس البتة إن كانت الشمس طالعةً فالليل موجودٌ، وليس البتة إِمَّا أن يكون العدد زوجًا أو فردًا.

وسور الموجبة الجزئيَّة فيهما قد يكون، كقولنا: قد يكون إذا كانت الشمس طالعةً كان النهار موجودًا، وقد يكون إِمَّا أن يكون العدد زوجًا أو فردًا.

وسور السالبة الجزئية فيهما قد لا يكون، كقولنا: قد لا يكون إذا كانت الشمس طالعةً كان الليل موجودًا، وقد لا يكون إمَّا أن يكون العدد زوجًا أو فردًا.

ويكون بإدخال حرف السلب على سور الإيجاب الكلّي، نحو ليس كلما، وليس مهما، وليس متى في المتَّصلة، وليس دائمًا في المنفصلة.

وأمَّا المهملة: فيُطلَق فيها لفظ (لو - وإذا - وإِن) في المتصلة، نحو إذا كانت أو لو كانت أو لو كانت أو إِن الشمس طالعةً كان النهار موجودًا.

ويُطلَق لفظ إِمَّا في المنفصلة، نحو إِمَّا أن يكون العدد زوجًا أو فردًا.

(وَإِمَّا أَنْ لا يَكُونَ) كلٌّ من الموجبة والسالبة، (كَذلِكَ) أي لا مخصوصة ولا كليَّة ولا جزئيَّة، (وَتُسَمَّى مُهْمَلَةً) لإهمال بيان كميَّة الأفراد التي حُكِم عليها بترك أَداة السور، (كَقَوْلِنَا:) في الموجبة (الْإِنْسَانُ كَاتِبٌ وَ) في السالبة (الْإِنْسَانِ لَيْس بِكاتِبٍ.)، وهاتان القضيتان إنما تكونان مهملتين عند من لا يجعل لام الاستغراق في حكم أَداة السور، أو حيث لا تكون للاستغراق.

واعلم أن المهملة في قوة الجزئية، لأنها تصلح لأن تكون كليَّة وجزئيَّة، وعلى التقديرين الجزئية متحققة.

والشخصيَّة في حكم الكليَّة، ولهذا اعُتبِرَت في كُبرَى الشكل الأول، نحو هذا زيدٌ، وزيدٌ إنسان.

فعُلِم مما سبق أن في القضايا مخصوصتين، موجبةً وسالبة.

ومحصوراتٍ أربع، موجبةً وسالبة كليَّةً وجزئيَّة.

ومهملتين موجبة وسالبة.

ولمَّا فرغ من تقسيمات الحمليَّة، شرع في تقسيمات الشرطية فقال: (وَالمُتَّصِلَةُ إِمَّا لُزُومِيَّةٌ) وهي التي حُكِم فيها بصدق التالي على تقدير صدق المقدَّم، لعلاقة بينهما توجب ذلك، وهي ما بسببهِ يستلزم المقدَّمُ التاليَ كالعِلّيَّة والتضايُف.

أَمَّا العِلّيَّة فبأَن يكون المقدَّم علَّةً للتالي، (كَقَوْلِنَا: إِنْ كَانَت الشَّمْسُ طَالِعةً فالنَّهَارُ مَوْجُودٌ) فإن طلوع الشمس علَّةٌ لوجود النهار.

أو بأن يكون التالي علَّةً للمقدَّم، كقولنا: إن كان النهار موجودًا فالشمس طالعةٌ، فإن المقدَّم في هذه الشرطية معلول للتالي.

أو بأن يكونا معلولَي علَّةٍ واحدة، كقولنا: إن كان النهار موجودًا فالعالَم مُضِيءٌ، فإن كان واحدٍ من وجود النهار وإضاءَة العالم معلولٌ لطلوع الشمس.

وإمَّا التضايُف فبأَن يكون المقدَّم والتالي، بحيث يكون تعقُّل أحدهما بالقياس إلى الآخر، كقولنا: إن كان زيدٌا ابًا لعمرٍو فعمرٌو وابنهُ، فإن تعقُّل كل واحدةٍ من الأُبوَّة والبنوَّة بالقياس إلى تعقل الأخرى.

(وَإِمَّا اتَّفَاقِيَّةٌ) وهي التي حُكِم فيها بصدق التالي على تقدير صدق المقدَّم لا لعلاقةٍ تُوجِب ذلك بل بمجرَّد صدقهما، (كَقَوْلِنَا: إِنْ كَانَ الْإِنْسَانُ نَاطِقًا فَالْحِمَارُ نَاهِقٌ) فإنهُ لا علاقة بين ناطقيَّة الإنسان وناهقيَّة الحمار، لتجويز العقل كلَّ واحدةٍ منهما بدون الأخرى، بل إنما توافقتا على الصدق.

فتكون تسمية المَّتصلة الأولى باللزومية، لاشتمالها على علاقة اللزوم، وتسمية الثانية بالاتفاقية، لعدم اشتمالها على تلك العلاقة، بل على مجرَّد الاتفاق.

هذا تقسيم الشرطيَّة المتَّصلة، (وَ) أمَّا الشرطية (المُنْفَصِلَةُ) فهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام: (حقيقَّية، ومانعة الجمع فقط، ومانعة الخلوّ فقط).

لأن الحكم في القضية بالتنافي بين جزئيها، (إِمَّا) في الصدق والكذب معًا، فالقضيَّة حينئذٍ منفصلة، (حَقِيقَّةٌ كَقَوْلِنَا: الْعَدَدُ إِمَّا زَوْجٌ وَإِمَّا فَرْدٌ.) فإنهما لا يصدقان معًا، لامتناع اجتماع الزوج والفرد على عددٍ واحد، ولا يكذبان معًا، لامتناع ارتفاعهما عنهُ معًا. هذه موجبتها.

وسالبتها برفع التنافي في الصدق والكذب معًا، كقولنا: ليس البتة إِمَّا أن يكون هذا الإنسان كاتبًا أو تركيًّا، فإنهما يصدقان ويكذبان معًا.

(وَهِيَ) أي المنفصلة الحقيقية، (إِمَّا مَانِعَةُ الجَمْعِ وَ) مانعة (الْخَلَوِّ مَعًا) أي مركبةٌ منهما.

وإنما سُمّيت حقيقية، لأن التنافي بين جزءَيها أشدُّ من التنافي بين جزءَي مانعة الجمع ومانعة الخلوّ، لأنهُ يوجد التنافي بين جزءَيها في الصدق والكذب معًا، وهذا ليس إلَّا حقيقة الانفصال.

(وَإِمَّا) في الصدق فقط فيقال: للقضيَّة (مَانِعَةُ الجَمْعِ فَقَطْ) أي دون الخلوّ، (كَقَولِنَا: هذَا الشَّيْءُ إِمَّا حَجَرٌ أَوْ شَجَرٌ)، فإنهما لا يصدقان، لأن بينهما معاندةً، وقد يكذبان بأن يكون انسانًا. هذه موجبتها.

وسالبتها برفع العناد في الصدق فقط، نحو ليس البتة إِمَّا أن يكون هذا الشيءُ لا شجرًا ولا حجرًا، فإنهما يصدقان ولا يكذبان، وإلا لكان حجرًا وشجرًا معًا.

وإنما سُمّيت مانعة الجمع، لاشتمالها على منع الجمع بين جزءَيها في الصدق.

(وَإِمَّا) في الكذب فقط فيقال: للقضية (مَانِعَةُ الْخُلُوَّ فَقَطْ) أي دون الجمع، (كَقَوْلِنَا: زَيْدٌ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْبَحْر، وَإِمَّا أَنْ لاَ يَغْرَقَ) فإنهُ حُكِم في هذه القضية بالتنافي بين أن لا يكون في البحر وبين أن يغرق، لا بين أن يكون في البحر وبين أن لا يغرق لأن هذا جائزٌ، فالكون في البحر مع عدم الغرق يصدقان ولا يكذبان، وإلَّا لغرق في البر. هذه موجبتها.

وسالبتها برفع العناد في الكذب فقط، نحو ليس البتة إمَّا أن لا يكون زيدٌ في البحر وإمّا أن يغرق، فإن عدم الكون في البحر مع الغرق يكذبان ولا يصدقان.

ومرادهم بالبحر ما يمكن الغرق فيهِ عادةً لا البحر نفسهُ، فلا يُتوهَّم اجتماع الطرفين في الكذب، بأن يكون في البئر أو الحوض ويغرق.

(وَقَدْ تَكُونُ المُنْفَصِلاَتُ) الثلاث، أي كل واحدة منها، كما تكون ذات جزءَين، كما مرَّ من الأمثلة تكون (ذَاتِ أَجْزَاءٍ) ثلاثة أو أكثر.

وأشار بتصدير لفظة قد إلى تقليل هذا الحكم.

فالمنفصلة الحقيقيَّة التي هي ذات أجزاءٍ ثلاثة (كَقَوْلِنَا: الْعَدَدُ إِمَّا زَائِدٌ أَوْ نَاقِصٌ أَوْ مُسَاوٍ) فإن هذه الأجزاء الثلاثة لا تجتمع على عددٍ واحد، لا في الصدق ولا في الكذب.

والراد بكون العدد زائدًا أو ناقصًا أو مساويًا كونُ كسورهِ زائدة أو ناقصة أو مساوية، فإنهُ إذا اجتمعت كسورهُ التي تحتهُ، فإن زادت عليهِ يسمَّى زائدًا كالاثني عشر، فإن كسورهُ وهي النصف، والثُلث والربع والسدس زائدة لأن مجموعها خمسة عشر.

وإن نقصت عنهُ يسمَّى ناقصًا كالثمانية، فإن كسورها وهي النصف والربع والثمن ناقصةٌ عنها لأنها سبعة.

وإن ساوتهُ يسمَّى مساويًا كالستة، فإن كسورها وهي النصف والثلث والسدس مساوية لها لأنها ستةٌ أيضًا.

وأَمَّا مانعة الجمع، التي هي ذات أجزاءٍ ثلاثة، فكقولنا: إِمَّا أن يكون هذا الشيءُ شجرًا أو حجرًا أو حيوانًا، فإن هذه الأجزاءَ تجتمع كذبًا، لجواز أن يكون شيئًا آخر.

وإمَّا مانعة الخلوّ، التي هي ذات أجزاءٍ ثلاثة فكقولنا: إِمَّا أن يكون هذا الشيءُ لا حجرًا ولا شجرًا ولا حيوانًا.

والحقُّ أن المنفصلات لا تتركَّب من أكثر من جزءَين، لأنها متحقّقة بانفصالٍ واحد، وهو لا يكون إلًّا بين شيئَين، فعند زيادة الأجزاءِ يلزم تعدُّد المنفصلة.

وذلك أمَّا في الحقيقيَّة فلأَنَّ نحو قولنا: العدد إمَّا زائدٌ أو ناقصٌ أو أو مساوٍ في تقدير العدد، إمَّا زائدٌ أو غيرهُ وغير الزائد، إمَّا ناقصٌ أو غيرهُ وهو المساوي فهي مؤَلفة من حقيقيَّتين.

وإمَّا في غيرها فلأَنَّ الانفصال يكون قد وقع بين جزءَين، ثمَّ تكرَّر بين كلٍّ من هذين الجزءَين، والجزءِ المزيد.

فقولنا: إمَّا أن يكون هذا الشيءُ شجرًا أو حجرًا أو حيوانًا في تقدير، إمَّا أن يكون شجرًا أو حيوانًا، وإمَّا أن يكون حجرًا أو حيوانًا، وإمَّا أن يكون حجرًا أو حيوانًا، وقس على ذلك في مانعة الخلوّ.

فتكون كلُّ واحدةٍ من مانعة الجمع، ومانعة الخلو مؤَلَّفةً من ثلاث منفصلات.

ولما فرغ من بيان القضايا وأقسامها شرع في أحكامها فقال: (التَّنَاقُضُ.) أي ممَّا يجب استحضارهُ التناقص و(هُوَ اخْتِلاَفُ الْقَضِيَّتَينِ) يخرج اختلاف المفردين كالسماءِ والأرض، واختلاف مفرد وقضية، كعمرٌو وزيدٌ قائمٌ، (بِالْإِيجَابِ وَالسَّلْبِ) يخرج الاختلاف بالاتصال والانفصال، وبالكليَّة والجزئيَّة، وبالعدول والتحصيل، وبالحمليَّة والشرطيَّة.

(بِحَيْثُ يَقْتَضِي) ذلك الاختلاف (لِذَاتِهِ) يخرج الاختلاف الذي يكون بالإيجاب والسلب، لكن لا يكون لذاتهِ بل، إِمَّا بالواسطة كقولنا: زيدٌ إنسان، زيدٌ ليس بناطق، فإن هذا الاختلاف بواسطة إن قولنا: زيدٌ ليس بناطقٍ في قوَّة قولنا: زيدٌ ليس بإنسان، أو بأن قولنا: زيدٌ إنسان في قوَّة قولنا: زيدٌ ناطقٌ.

وإِمَّا بخصوص المادَّة كما في قولنا: كلُّ فرسٍ حيوانٌ، ولا شيءَ من الفرس بحيوان، فهذا الاختلاف ليس لذاتهِ وصورتهِ، بل بخصوص مادَّتهِ، لأنَّا لو جعلنا الموضوع فيهما محمولاً لكذبتا جميعًا.

(أَنْ تَكُونَ إِحْدَاهُمَا) أي احدى القضيتين (صَادِقَةً وَالْأَخْرَى كاذِبَةً. كَقَوْلِنَا: زَيْدٌ كَاتِبٌ. زَيْدٌ لَيْسَ بِكَاتِبٍ. وَلاَ يَتَحَقَّقُ ذلِكَ) أي التناقض، (إِلاَّ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمَا) أي اتفاق القضيتين اللتين يقع بينهما التناقض، سواءٌ كانتا مخصوصتين أو محصورتين، (فِي) ثماني وَحَدات:

الأُولى: وَحْدة (المَوْضُوعِ) إذ لو اختلفتا في هذه الوَحْدة، نحو زيدٌ قائِمٌ، عمرٌو ليس بقائِم، لم لتناقضا، لجواز صدقهما أو كذبهما معًا.

(وَ) الثانية: وَحْدة (َالمَحْمُولَ) إذ لو اختلفتا فيها، نحو زيدٌ قائِمٌ، زيدٌ ليس بقاعدٍ، لم تتناقضا.

(وَ) الثالثة: وَحْدة (الزَّمَانِ) إذ لو اختلفتا فيها، نحو زيدٌ قائِمٌ أي ليلاً، زيدٌ ليس بقائِمٍ أي نهارًا، لم تتناقضا.

(وَ) الرابعة: وَحْدة (المَكانِ) إذ لو اختلفتا فيها، نحو زيدٌ قائِمٌ أي في الدار، زيدٌ ليس بقائِمٍ أي في السوق، لم تتناقضا.

(وَ) الخامسة: وَحْدة (الْإِضَافَة) إذ لو اختلفتا فيها، نحو زيدٌ أبٌ أي لعمرٍو، زيدٌ ليس بأَبٍ أي لبكرٍ، لم تتناقضا.

(وَ) السادسة: وحدة (الْقُوَةِ وَالْفِعْلِ) إذ لو اختلفتا فيهما، بأن تكون النسبة في أحداهما بالقوَّة وفي الأخرى بالفعل، نحو الخمر في الدَنّ مُسكِرٌ - أي بالقوَّة، الخمر في الدَنّ ليس بمُسكِرٍ - أي بالفعل، لم تتناقضا.

(وَ) السابعة: وحدة (الْكُلِّ وَالجُزْءِ) إذ لو اختلفتا في الكل والجزءِ، نحو الزنجيُّ أَسوَد - أي بعضهُ، الزنجيُّ ليس بأَسوَد - أي كلهُ، لم تتناقضا.

(وَ) الثامنة: وحدة (الشَّرْطِ) إذ لو اختلفتا فيهِ، نحو الجسم مفرّقٌ للبصر - أي بشرط كونهِ أبيض الجسم ليس بمفرّقٍ للبصر - أي بشرط كونهِ أسود، لم يتحقَّق التناقض.

اعلم أن اشتراط هذه الوحدات للتناقض، إنما هو مذهب قُدَماءِ المنطقيين، وإمَّا المتأَخّرون: فقد اكتفوا بوحدتين وحدة الموضوع ووحدة المحمول، بناءً على أن سائر الوحدات مندرجٌ تحتهما،

واقتصر المحقّقون على وحدة واحدة، وهي وحدة النسبة الحكمية، حتى يكون السلب واردًا على ما ورد عليهِ الإيجاب، لأنهُ متى اختلفت تلك الأمور اختلفت النسبة الحكمية، ومتى اتحدت اتحدت.

فهذا المذهب أخصر وأشمل، وإلَّا فلا حصر فيما ذكروهُ من الوحدات الثماني بل لابُدَّ لتحقُّق التناقض أيضًا من وحدة العلَّة: نحو النجار عاملٌ - أي للسلطان، النجَّار ليس بعاملٍ - أي لغيرهِ.

والآلة: نحو زيدٌ كاتبٌ - أي بالقلم الواسطيّ، زيدٌ ليس بكاتبٍ - أي بالقلم التركي.

والمفعول بهِ: نحو زيدٌ ضاربٌ - أي عمرًا، زيدٌ ليس بضاربٍ - أي بكرًا.

والمميز: نحو عندي عشرون - أي درهمًا، ليس عندي عشرون - أي دينارًا، إلى غير ذلك.

ولما كانت الشروط المقدَّم ذكرها تعمُّ المخصوصات والمحصورات، وكان للتناقض بين المحصورات شرطٌ آخر، وهو الاختلاف في الكميَّة، أراد أن يبيّنهُ فقال: (فَنَقِيضُ المُوجَبَةِ الْكُلِّيَّةِ إِنَمَا هِيَ السَّالِبَةُ الجُزْئِيَّةُ. كَقَوْلِنَا: كُلُّ إِنْسَانٍ حَيَوانٌ، وَبَعْضُ الْإِنْسَانِ لَيْسَ بِحَيَوانٍ. وَنَقِيضُ السَّالِبَةِ الْكُلِّيَّةِ إِنَّمَا هِيَ المُوجَبَةُ. كَقَوْلِنَا: لاَ شَيْءَ مِنَ الْإِنْسَانِ بِحَيَوانٍ، وَبَعْضُ الْإِنْسَانِ حَيَوانٌ فالمَحْصُورات) والمراد المحصورتان أي إذا كانت القضيتان المتناقضتان محصورتين (لاَ يَتَحَقَّقُ التَّنَاقُضُ بَيْنَهُمَا إِلاَّ بَعْدَ اخْتِلاَفهِمَا فِي الْكَمِّيَّةِ) أي الكليَّة والجزئيَّة، بأن تكون الواحدة كليَّة، والأخرى جزئيَّة.

فإن قلت: لا اتحاد في الموضوع في الكليَّة والجزئيَّة، لأن الموضوع في الكليَّة جميع الأفراد، وفي الجزئيَّة بعض الأفراد، وحينئذٍ فلا يرد الإيجاب والسلب على شيءٍ واحد، فكيف يتحقَّق التناقض؟

قلت: المراد بالموضوع ههنا الموضوع المذكور في القضيَّة، لا ذات الموضوع، وذلك أن الموضوعُ يطلَق تارةً على ذات الموضوع، والمحمول يُطلَق تارةً على مفهوم المحمول، وهما الموضوع والمحمول حقيقةً، وتارةً يُطلَقان على اللفظين الدالَّين عليهما، وهما الموضوع والحمول في الذكر، وهو المراد ههنا.

وإنما لم يتحقَّق التناقض في المحصورات إلا بعد اختلافها في الكميَّة، (لِأَنَّ الْكُلِّيَّتيْنِ قَدْ تَكْذِبَانِ) في مادَّةٍ يكون الموضوع فيها أعمَّ من المحمول، (كَقَوْلِنَا: كُلُّ إِنْسَانٍ كَاتِبٌ، وَلاَ شَيْءَ مِنَ الْإِنْسَانِ بِكَاتِبٌ وَالجُزْئِيَّتَيْنِ قَدْ تَصْدُقانِ) فيما يكون الموضوع فيهِ أعمَّ من المحمول أيضاً، (كَقَوْلِنَا: بَعْضُ الْإِنْسَانِ كَاتِبٌ، وَبَعْضُ الْإِنْسَانِ لَيْسَ بِكَاتِبٍ) وإنما قيَّد الحكم بلفظ قد المفيدة لجزئيَّة الحكم، لأن الكلّيتين والجزئيتين قد تخلفان صدقًا وكذبًا، كقولنا: كلُّ إنسانٍ حيوانٌ، ولا شيءَ من الإنسان بحيوان، وكقولنا: بعض الإنسان ناطقٌ، وبعض الإنسان ليس بناطقٍ، فإنّ صدق كل واحدةٍ منهما، يستلزم كذب الأخرى.

واعلم أن المُهملَة في قوَّة الجزئيَّة كما عرفت، فحكمها في التناقض حكمها: فنتقيض المُهملَة المُوجِبة إنما هو السالبة الكليَّة، كقولنا: الإنسان كاتبٌ، ولا شيءَ من الإنسان بكاتبٍ، ونقيض المُهملَة السالبة إنما هو الموجبة الكليَّة، كقولنا: الإنسان ليس بكاتب، وكل إنسانٍ كاتب.

(الْعَكْسُ) أي مما يجب استحضارهُ من أحكام القضايا، العكس و(هُوَ أَنْ يَصِيرَ) بتشديد الياءِ، أي يُجعَل (المَوْضُوعَ) في الذكر (َمَحْمُولاً وََ) يُجعَل (المَحْمُولُ) في الذكر (مَوَضُوعًا) وإنما قيَّدنا الموضوع والحمول بقولنا: في الذكر، لئلا يَرِد ما قيل: أن المعتبر في جانب الموضوع هو الذات، وفي جانب المحمول هو الوصف، وظاهرٌ أن الذات لا تصير وصفًا، والوصف لا يصير ذاتًا.

فإن قيل: هذا التعريف غير جامع لعكس الشرطيات، فإن عُنوانَي الموضوع والمحمول لا يُطلَقان على جزءَيها، قلنا: إن المصنّف لم يقصد أن يبحث عن عكس الشرطيات، إِمَّا للاختصار، أو للعلم بهِ بالقياس إلى عكس الحمليات، فعرَّف العكس بحيث يوافق قصدهُ.

(مَعَ بَقَاءِ السَّلْبِ وَالْإِيجَابِ بِحَالِهِ) أي مع بقاءِ حكمهما على حالهِ، يعني إن كان الأصل موجبًا كان العكس أيضًا موجبًا، وإن كان الأصل سالبًا كان العكس أيضًا سالبًا.

وإنما اعتُبِر بقاؤُها، لأنهم تتبَّعوا القضايا، فلم يجدوها في الأكثر بعد الجعل المذكور صادقةً لازمةً للأصل، إلَّا حيث تكون موافقةً لهُ في الإيجاب والسلب.

(وَ) مع بقاءِ (التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ بِحَالهِ) أي إن كان الأصل صادقًا بأَيّ وجهٍ، كان كان العكس أيضًا صادقًا، لأنهُ لو لم يصدق عند صدق الأصل، نحو قولنا: كل حيوانٍ إنسانٌ بالنسبة إلى قولنا: كل إنسانٍ حيوانٌ، أو صَدَقَ لكن لا بطريق اللزوم بل بطريق الإتفاق، أو بخصوص المادَّة كقولنا: كلُّ ناطقٍ إنسان بالنسبة إلى قولنا: كلُّ إنسانٍ ناطقٌ لا يُعَدُّ عكسًا، وإنما اعتُبِر بقاءُ الصدق، لأن العكس لازمٌ للقضية، فإذا فُرِض صدقها يلزم صدق العكس، وإلَّا لزم صدق الملزوم بدون صدق اللازم وهو محال.

ولم يُعتبَر بقاءُ الكذب، لأنهُ لا يلزم من كذب الملزوم كذب اللازم، فإن قولنا: كلُّ حيوانٍ إنسانٌ كاذب، مع صدق عكسهِ الذي هو قولنا: بعض الإنسان حيوان، ولهذا قيل قولهُ: والتكذيب لا يكون إلا خطأً.

وقد أجيبَ عنهُ بأن معنى قولهِ والتصديق والتكذيب بحالهِ: أنهُ إن صدق الأصل صدق العكس، وإن كذب العكس كذب الأصل، كما هي شأْن اللزوم لا إن كذب الأصل كذب العكس كما فُهِم، وفيه تأمُّل.

واعلم أن لهم في العكس ثلاث طرق:

أحدها ما ذكر وهو المشهور في الاستعمال ويسمَّى (العكس المستوي).

والثاني أن يُبدَّل كلٌُ من الطرفين بنقيض الآخر مع بقاءِ الكيف والصدق كقولنا: كلُّ إنسانٍ حيوانٌ كلُّ ما ليس بحيوانٍ ليس بإنسانٍ، ويسمَّى (عكس النقيض الموافق).

والثالث أن يبدَّل الطرف الأول بنقيض الثاني، والثاني بعين الأول مع بقاءِ الصدق دون الكيف كقولنا: كلُّ إنسانٍ حيوان لا شيءَ مما ليس حيوانٍ بإنسان، ويسمَّى (عكس النقيض المخالف).

ولما ثبت أن العكس عبارةٌ عن تصيير قضيَّةٍ، بحيث يلزم منها قضيةٌ أخرى، وكانت القضيَّة إِمَّا مُوجِبةً أو سالبة، ابتدأَ بعكس الموجبات، لأن الإيجاب أشرف من السلب فقال: (وَالمُوجَبَةُ الْكُلِّيَّةُ لاَ تَنْعَكِسُ كُلِّيَّةً) لئلا ينتقض بمادَّةٍ يكون المحمول فيها أعمَّ من الموضوع، بحيث إذا جُعِل ذلك المحمول الأعمُّ موضوعًا، والموضوع الأخصُّ محمولاً، يكون الحمل فيها بالأَخَصّ على الأعمّ، وذلك لا يصدق كليًّا، (إِذْ يَصْدُقُ قَوْلُنَا: كُلُّ إِنْسَانٍ حَيْوَانٌ. وَلاَ يَصْدُقُ: كُلُّ حَيَوانٌ إنْسَانٌ) لعدم جواز حمل الأخصّ على كل أفراد الأعمّ، وإلَّا يلزم أن لا يكون الأخصُّ أخصَّ، ولا الأعمُّ أعمَّ، (بَل تَنْعَكِسُ جُزْئِيَّةً) لوجوب ملاقاة عُنوانَي الموضوع والمحمول في الموجبة، كليَّةً كانت أو جزئيَّة، وبالملاقاة تصدق الجزئية من الطرفين، أي الأصل والعكس.

(لِأَنَّا إِذَا قُلْنَا: كُلُّ إِنْسَانٍ حَيَوَانٌ) أي إذا قلنا: هذه الموجبة الكلية، (يَصْدُقُ بَعْضُ الحَيَوَانِ إِنْسَانٌ. فَإِنَّا نَجِدُ شَيْئًا مَوْصُوفًا بِالْإِنْسَانِ وَالحَيَوَانِ) وهو ذات الإنسان أعني أَفرادهُ، (فَيَكُونُ بَعْضُ الحَيَوَانِ إِنْسَانًا).

لأَنَّا إذا وجدنا ذاتًا موصوفة بوصفين، فلنا أن نجعل تلك الذات الموصوفة بأحد الوصفين موضوعًا، والوصف الآخر محمولاً عليها.

أو نقول: إذا صدق كلُّ إنسانٍ حيوانٌ لزم أن يصدق بعض الحيوان إنسانٌ، وإن تصدق هذه الجزئية يصدق نقيضها وهو لا شيءَ من الحيوان بإنسان، فتلزم المنافاة بين الإنسان والحيوان، فيصدق نقيض الأصل وهو ليس بعض الإنسان بحيوان، وقد كان الأصل كلُّ إنسانٍ حيوانٌ، فيلزم اجتماع النقيضين وهو محال.

أو نقول: إذا صدق كلُّ إنسانٍ حيون، لزم أن يصدق بعض الحيوان إنسان، وإلَّا لصدق نقيضهُ وهو لا شيء من الحيوان بإنسان، فنضمُّ ذلك النقيض إلى الأصل بأن نجعلهُ صغرى، لكون إيجاب الصغرى شرطًا في الشكل الأول، والنقيض كُبَرى لكونهِ كليًّا لينتج من الشكل الأول سلب الشيءِ عن نفسهِ هكذا كلُّ إنسانٍ حيوانٌ ولا شيءَ من الحيوان بإنسانٍ ينتج لا شيءَ من الإنسان بإنسان وهو محال.

(وَالمُوجَبَةُ الجُزْئِيَّةُ أَيْضًا) أي كالموجبة الكلية لا تنعكس كليَّةً بل (تَنْعَكِسُ جُزْئِيَّةً بِهذِهِ الحُجَّةِ) وهي أنهُ إذا صدق بعض الحيوان إنسانٌ، يلزم أن يصدق بعض الإنسان حيوانٌ، لأَنَّا نجد ههنا شيئًا معيَّنًا موصوفًا بالحيوان والإنسان، فيكون بعض الإنسان حيوانًا.

أو نقول: إذا صدق بعض الحيوان إنسانٌ، يلزم أن يصدق بعض الإنسان حيوانٌ، وإلَّا لصدق نقيضهُ وهو شيءَ من الإنسان بحيوان، فيلزم من صدق هذا النقيض صدق عكسهِ، وهو لا شيءَ من الحيوان بإنسان، وقد كان الأصل بعض الحيوان إنسان. هذا خُلف.

أو نضمُّ هذا النقيض إلى الأصل، لينتج من الشكل الأول سلب الشيءِ عن نفسهِ هكذا: بعض الحيوان إنسانٌ، ولا شيءَ من الإنسان بحيوان، ينتج: بعض الحيوان ليس بحيوان، وهو محال.

ولقائلٍ أن يمنع انعكاس الموجبة الجزئية إلى الجزئية مطلقًا، إذ يصدق قولنا: بعض الانسان زيدٌ، ولا ينعكس إلى بعضُ زيدٍ إنسانٌ لكذبهِ، بل عكسهُ زيدٌ إنسان، أو زيدٌ بعض الإنسان.

أجيب بأن المراد بزيد ههنا ليس معناهُ الجزئيَّ، إذ المعنى الجزئيُّ لا يقع محمولاً، بل المراد منهُ المفهوم الكليُّ، وهو المسمَّى بزيد، فقولنا: بعض الإنسان زيد، معناهُ بعض الإنسان مسمَّى بزيد، فينعكس إلى قولنا: بعض المسمَّى بزيدٍ إنسانٌ، فلا نقض.

(وَالسَّالِبَةُ الْكُلِّيَّةُ تَنْعَكِسُ سَالِبَةً كُلِّيَّةً وَذلِكَ) أي انعكاس السالبة الكلية إلى سالبةٍ كليَّة، (بَيِّنٌ بِنَفْسِهِ فأَنَّهُ إِذَا صَدَقَ) قولنا: (لاَ شَيْءَ مِنَ الْإِنْسَانِ بِحَجَرٍ صَدَقَ) قولنا: (لاَ شَيْءَ مِنَ الحَجَرِ بِإِنْسَانٍ) وإلَّا لصدق نقيضهُ، وهو بعض الإنسان حجر، فينعكس إلى قولنا: بعض الحجر إنسان، وقد كان الأصل لا شيءَ من الحجر بإنسانٍ، هذا خُلْفٌ.

أو نضمُّ هذا النقيض: وهو بعض الإنسان حجر، إلى الأصل بأن نجعلهُ صُغَرى، هكذا: بعض الإنسان حجرٌ، ولا شيءَ من الحجر بإنسانٍ، ينتج من الشكل الأول: بعض الإنسان ليس بإنسان، وهو محال.

(وَالٍسَّالِبَةُ الجُزْئِيَّةُ لاَ عَكْسَ لَهَا لُزُومًا) إذ لو لزم لها عكسٌ لا نتقض بمادَّةٍ يكون الموضوع فيها أعمَّ من المحمول، وذلك (لإِنَّهُ يَصْدُقُ بَعْضُ الحَيَوَانِ لَيْسَ بِإِنْسَانٍ) لجواز سلب الخاصّ عن بعض أفراد العامّ (وَلاَ يَصْدُقُ عَكْسُهُ) وهو بعض الإنسان ليس بحيوان، لعدم جواز سلب العامّ عن بعض أفراد الخاص، لامتناع وجود الخاصّ بدون العامّ.

أو نقول لو صدق هذا العكس وهو: بعض الإنسان ليس بحيوانٍ، مع صدق نقيضهِ، وهو كلُّ إنسانٍ حيوان، يلزم اجتماع النقيضين وهو محال.

وإنما قال لزومًا: لأنهُ قد يصدق العكس أحيانًا لخصوص المادَّة. مثلاً يصدق بعض الإنسان ليس بحجرٍ، ويصدق عكسهُ أيضًا وهو بعض الحجر ليس بإنسان.

واعلم أن المصنّف لم يذكر عكوس المُهملات والشخصيَّات، لِمَا مرَّ من أن المهملات بمنزلة المحصورات، ولإن الشخصيَّات لا يعتدُّ بها في العلوم.

وإن أردت أن تعرف عكس الشرطيات بطريق الإجمال، فاعلم أن الشرطية المتَّصلة إن كانت موجبة كليَّة أو جزئيَّة فتنعكس موجبة جزئية، لأنهُ إذا صدق كلما كان أو قد يكون إذا كان الشيءُ إنسانًا كان حيوانًا، وجب أن يصدق قد يكون إذا كان الشيءُ حيوانًا كان انسانًا، وإلَّا لصدق نقيضهُ وهو قولنا: ليس البتة إذا كان الشيءُ حيوانًا كان انسانًا.

نضم هذا النقيض إلى الأصل لينتج سلب الشيءِ عن نفسهِ هكذا: قد يكون إذا كان الشيءُ إنسانًا كان حيوانًا، وليس البتَّة إذا كان الشيءُ حيوانًا كان إنسانًا، ينتج من الشكل الأول: قد لا يكون إذا كان الشيءُ إنسانًا كان إنسانًا، وهو محالٌ. ضرورة صدق قولنا: كلما كان الشيءُ إنسانًا كان إنسانًا.

وإن كانت سالبةً كلية فتنعكس سالبةً كلية: لأنهُ إذا صدق ليس البتة إذا كان الشيءُ إنسانًا كان فرسًا، وجب أن يصدق ليس البتة إذا كان الشيءُ فَرَسًا كان إنسانًا، وإلا لصدق نقيضهُ وهو قولنا: قد يكون إذا كان الشيءُ فرسًا كان إنسانًا، وهو مع الأصل ينتج سلب الشيءِ عن نفسهِ، هكذا قد يكون إذا كان الشيءُ فرسًا كان إنسانًا، وليس البتة إذا كان الشيءُ إنسانًا كان فرسًا، ينتج من الشكل الأول: قد لا يكون إذا كان الشيءُ فرسًا كان فرسًا، وهو محال.

وأمَّا السالبة الجزئية فلا تنعكس، لصدق قولنا: قد لا يكون إذا كان هذا حيوانًا فهو إنسان، مع كذب قولنا قد لا يكون إذا كان هذا إنسانًا فهو حيوانٌ، لأنهُ كلما كان هذا إنسانًا كان حيوانًا.

هذا إذا كانت الشرطية متَّصلة لزومية، وإمَّا إذا كانت منفصلة أو متَّصلة اتفاقية فلا يُعتَبَر انعكاسها، لعدم فائدتهِ.

وإن أردت أن تعرف العكس المستوي للشرطيات بكمالهِ، وعكس النقيض للحمليات والشرطيات، فارجع إلى المطولات.

ولما فرغ مما يتوقَّف عليهِ القياس من القضايا، وما يعرض لها من التناقض والعكس، شرع في بيان القياس الذي هو المقصود الأهمُّ، لأنهُ العمدة في تحصيل المطالب اليقينيَّة، ولهذا قيل: هو المطلب الأعلى والمقصد الأقصى من الاصطلاحات المنطقيَّة، بالنسبة إلى سائر الاصطلاحات فقال: (الْقِياسُ) أي مما يجب استحضارهُ، القياس وهو لغةً: تقدير شيءٍ على مثالٍ آخر، واصطلاحًا (هُوَ قَوْلٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ أَقْوَالٍ مَتَى سُلِّمَتْ لَزِمَ عَنْهَا لِذَاتِهَا قَوْلٌ آخَرُ.) اعلم أن القياس قسمان: معقولٌ وملفوظٌ، والمعقول: هو الذي يتركَّب من القضايا المعقولة، والملفوظ: هو الذي يتركَّب من القضايا الملفوظة، والأول هو القياس حقيقةً، والثاني مجازٌ لدلالتهِ عل القياس المعقول.

فقوله: قولٌ جنسٌ معقولاً أو ملفوظًا شاملٌ لجميع الأقوال - أي المركَّبات.

وقولهُ: مؤَلَّفٌ ذكرهُ ليتعلَّق بهِ قولهُ من أقوال، والمراد بالأقوال ما فوق الواحد، ليتناول القياس المؤَلَّف من القولين، كقولنا: العالَم متغيّرٌ، وكل متغيّرٍ حادث.

والمؤَلف مما فوق القولين كقولنا: النبَّاش آخذٌ للمال خُفيةً، وكل آخذٍ للمال خفيةً فهو سارق، وكل سارقٍ تُقطَع يدهُ، فهذا مؤَلَّفٌ من ثلاثة أقوال، يلزم عنها قولٌ آخر وهو: النبَّاش تُقطَع يدهُ.

ويسمَّى الأول قياسًا بسيطًا، والثاني مركَّبًا، لتركُّبه من قياسين.

فيخرج بهِ القول الواحد: لأنهُ لا يسمَّى قياسًا، وإن لزم عنهُ لذاتهِ قولٌ آخر، كما في عكس القضايا، فإن عكس كل قضيَّةٍ لازمها كما عرفت.

وقولهُ متى سُلِّمت: صفة أقوال، إشارةً إلى أن تلك الأقوال لا يلزم أن تكون مسلمةً - أي مقبولة في نفسها - بل يلزم أن تكون بحيث لو سُلِّمت، لزم عنها لذاتها قولٌ آخر، ليدخل في التعريف القياس الذي مقدّماتهُ صادقة، والذي مقدّماتهُ كاذبة، كقولنا: كلُّ إنسانٍ جمادٌ، وكلُّ جمادٍ فرس، فأن هذين القولين كاذبان، إلا إنهما لو سُلِّما لزم عنهما قولٌ آخر وهو: كلُّ إنسانٍ فرس.

وقولهُ لَزِمَ: يُخرِج الاستقراءَ الغير التامّ والتمثيل، فإنهما وإن سُلِّمت مقدّماتهما، لا يلزم عنهما شيءٌ آخر، لإِمكان التخلُّف في مدلولَيهما، ولهذا لا يفيدان اليقين.

اعلم أن الاستقراءَ هو اثبات الحكم على كلّيٍّ، لوجودهِ في أكثر جزئياتهِ.

وهو إِمَّا تامٌّ أو ناقصٌ، لأن الحكم إن كان موجودًا في جميع جزئياتهِ، فهو استقراءٌ تامٌّ، ويسمَّى قياسًا مقسَّمًا، كقولنا: كلُّ جسمٍ إِمَّا جمادٌ أو حيوانٌ أو نباتٌ، وكل واحدٍ منها متحيزٌ، فكل جسمٍ متحيز.

فإنهُ حُكِم بثبوت التحيز في عامَّة الجسم لثبوتهِ في كل واحدٍ من أفراده.

وإذا لم يوجد ذلك الحكم في جميع جزئياتهِ بل في أكثرها فهو استقراءٌ ناقص، كقولنا: كل حيوانٍ يحرّك فكَّهُ الأسفل عند المضغ، فالحيوان كلّيٌّ، حُكِم عليه بثبوت تحرُّك الفك الأسفل عند المضغ، وذلك لأنَّا استقرينا أكثر جزئيات الحيوان من الإنسان والفرس والبقر وغيرها، فوجدناها تحرّك فكَّها الأسفل عند المضغ، فحكمنا بأن كل حيوانٍ يحرّك فكَّهُ الأسفل عند المضغ، مع أنهُ غير ثابت لبعض أفراد الحيوان، فإن التمساح نوعٌ منهُ مع أنهُ لا يحرّك فكَّهُ الأسفل عند المضغ، بل بتحرَّك فكُّهُ الأعلى.

والتمثيل هو الاستدلال بثبوت الحكم في جزئيٍّ، لثبوت ذلك الحكم في جزئيٍّ آخر، لمعنى مشترك بينهما، ويسمّيهِ الفقهاءُ قياسًا، كما يقال: النبيذ مسكرٌ كالخمر، وكلُّ مُسكرٍ حرامٌ، فالنبيذ حرام.

فإنهُ يُستدَلُّ فيهِ على ثبوت الحرمة للنبيذ بثبوتها للخمر، لاشتراكهما في سبب الحرمة وهو الإسكار.

وقولهُ لذاتها: يُخرج مثل القياس، الذي يلزم عنهُ بعد التسليم قولٌ آخر، لكن لا لذاتهِ، بل بواسطة مقدّمةٍ أجنبية، كما في قياس المساواة، وهو ما يتركَّب من قولين، يكون متعلّق محمول أوَّلهما موضوعًا للآخر، كقولنا: (أ) مساوٍ لـ (ب)، و(ب) مساوٍ لـ (جـ)، فيلزم من هذين القولين إن (أ) مساوٍ لـ (جـ)، لكن لا لذاتهما، بل بواسطة مقدّمةٍ أجنبية، وهي أن كلَّ مساوٍ للمساوي للشيءِ مساوٍ لذلك الشيءِ.

فإن لم تصدق تلك المقدّمة لم يلزم منها قولٌ آخر، كما في قولنا: (أ) مباين لـ (ب)، و(ب) مباين لـ (جـ)، فلا يلزم منهُ أن (أ) مباين لـ (جـ)، لأن مباين المباين للشيءِ لا يلزم أن يكون مباينًا لهُ.

وكذا إذا قلنا: (أ) نصف (ب)، و(ب) نصف (جـ)، فلا يلزم منهُ أن (أ) نصف (جـ) إذ لا يصدق أن نصف النصف نصف.

وقولهُ قولٌ آخر: هو النتيجة، ومعنى آخريتها، أن لا تكون عين المقدمتين أو عين أحدهما، لأنها إن كانت عين المقدمتين، كما إذا قلنا: العالم متغيّر، وكل متغيّر حادث لأن العالم متغيّر، وكل متغيّر حادث، يلزم التكلُّم بالهَذَيان، أي الكلام الغير المفيد.

وإن كانت عين أحداهما، كما إذا قلنا: العالم حادث لأنهُ متغيّر، والمتغيّر حادث، فالعالَم حادث، يلزم المصادرة: وهي كون المدَّعَى جزءًا من الدليل، وهذا لا يفيد المطلوب، لاشتمالهِ على الدور المهروب منهُ.

(وَهُوَ) أي القياس (إِمَّا اقْتِرَانِيٌ) وهو الذي لم تكن النتيجة أو نقيضها مذكورةً فيهِ بالفعل.

وهو إِمَّا مركَّبٌ من حمليتين، (كَقَوْلِنَا: كُلُّ جِسْمٍ مُؤَلَّفٌ، وَكُلُّ مُؤَلَّفٍ مُحْدَثٌ، فَكُلُّ جِسْمٍ مُحْدَثٌ) فالنتيجة ليست بمذكورةٍ في القياس بالفعل، لا نفسها ولا نقيضها، بل بالقوَّة، لذكر مادَّتها دون صورتها.

وإمَّا مركَّبٌ من شرطيتين كقولنا: كُلَّهما كانت الشمس طالعةً فالنهار موجودٌ، وكُلَّما كان النهار موجودًا فالأرض مضيئَةٌ، ينتج كلما كانت الشمس طالعةً فالأرض مضيئَةٌ.

وإنما سُمّي هذا اقترانيًّا، لكون الحدود - أعني الحدَّ الأصغر والحدَّ الأكبر والحدَّ الأوسط - مقترنةً فيهِ غير مستثناة.

(وَإِمَّا اسْتِثْنَائِيٌ) وهو الذي تكون النتيجة أو نقيضها مذكورةً فيهِ بالفعل، وإنما سُمّي استثنائيًّا لاشتمالهِ على أداة الاستثناءِ، وهي لكنَّ، التي هي بمعنى إلَّا في الاستثناءِ المنقطع.

فمثال ما تكون النتيجة مذكورةً فيهِ بالفعل، (كَقَوْلِنَا: إِنْ كَانَتِ الشَّمْسُ طَالِعَةً فَالنَّهَارُ مَوْجُودٌ) لكن الشمس طالعة فالنهار موجود.

ومثال ما يكون نقيض النتيجة مذكورًا فيهِ بالفعل، كقولنا: إن كانت الشمس طالعةً فالنهار موجودٌ، (لكِنِ النَّهَارُ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فَالشَّمْسُ لَيْسَتْ بِطَالِعَةٍ)، فنقيض النتيجة وهو الشمس طالعةٌ مذكورٌ فيه بالفعل.

لا يُقال ذكرا النتيجة بالفعل في الاستثنائي، ينافي وجوب مُغايَرة النتيجة لكلٍّ من الأقوال على ما ذُكِر في تعريف القياس، لأنَّا نقول: المراد بذكر النتيجة هنا ذكر أجزائها على الترتيب الذي في النتيجة، لأن المقدّمة الأولى من القياس، هي مجموع الشرطيَّة المركَّبة من المقدَّم والتالي، فتكون النتيجة جزءَ هذه المقدّمة والجزءُ يغاير الكلَّ، والمقدّمة الثانية هي المشتملة على حرف الاستثناءِ، ولا إشكال في مغايرة النتيجة لهذه المقدمة.

ولمَّا فرغ من تعريف القياس وتقسيمهِ، شرع في تقسيم كلٍّ من قسميهِ وبيان أحكامهِ، وقدَّم الاقترانيَّ على الاستثنائيّ، لأنهُ هو الأكثر الشائع في الاستعمالات، وبهِ تحصل المجهولات، ولأنهُ يتركَّب من الحمليات والشرطيات، بخلاف الاستثنائي.

إذا عرفت هذا فاعلم أن القياس الاقترانيَّ الحمليَّ الساذج، يشتمل على حدودٍ ثلاثة: موضوع المطلوب، ومحمولهِ، والمكرَّر بينهما في المقدّمتين كما رأيت.

(وَالمُكَرَّرُ بَيْنَ مُقَدِّمَتَيِ القِيَاسِ) وهما القضيتان اللتان جُعِلَتا جزءَي القياس، فالمكرَّر بينهما سواءٌ كان موضوعًا أو محمولاً أو مقدًمًا أو تاليًا، (يُسَمَّى حَدًّا أَوْسَطَ) لتوسطهِ بين طَرَفي المطلوب، كالمؤَلَّف في المثال المذكور.

والغَرَض من إتيان هذا المكرَّر في القياس، هو إثبات محمول المطلوب على موضوعهِ، الذي ثبوت المحمول عليهِ غير معلوم، فبسبب هذا المكرَّر، يحصل العلم بثبوت محمول المطلوب على موضوعهِ، ولذا قيل: إن الموصل إلى المطلوب هو الحدُّ الأوسط فقط.

(وَمَوْضُوعُ المَطْلُوبِ) في الحمليَّة ومقدَّمهُ في الشرطيَّة، (يُسَمَّى حًدًّا أَصْغَرَ) لأنهُ أخصُّ في الأغلب، والأخصُّ أقلُّ أفرادًا، فيكون أصغر، (وَمَحْمُولُهُ) في الحمليَّة وتاليهِ في الشرطية، (يَسَمَّى حَدًّا أَكْبَرَ) لأنهُ أعمُّ في الأغلب، والأعمُّ أكثر أفرادًا، فيكون أكبر.

وإنما سُمّيت هذه الثلاثة حدودًا لأن الحدَّ في اللغة الطَرَف وهذه الثلاثة أطرافٌ للقضيَّة لانها تنحلُّ إليها.

(وَالمُقَدِّمَةُ الَّتِي فِيهَا الْأَصْغَرُ، تُسَمَّى صُغْرَى)، لاشتمالها على الأصغر، (وَالمُقَدِّمَةُ الَّتِي فِيهَا الْأَكْبَرُ، تُسَمَّى كُبْرَى)، لاشتمالها على الاكبر.

وتسمَّى كلٌّ من الصُغرَى والكُبرَى بالمقدّمة، لتقدُّمها على القول اللازم.

والقول اللازم باعتبار حصولهِ من القياس يسمَّى نتيجةً، وباعتبار استحصالهِ منهُ يسمَّى مطلوبًا.

واقتران الصُغرَى والكُبرَى في الإيجاب والسلب، وفي الكليَّة والجزئيَّة يسمَّى قرينةً وضربًا، لكون الصُغرَى مقترنةً بالكبرى ومضروبةً فيها.

(وَهَيْئَةُ التَّألِيفِ) أي الهيئة الحاصلة من اقتران الصُغرَى بالكُبرَى، (تُسَمَّى شَكْلاً) تشبيهًا لها بالهيئَة العارضة للجسم، لأن الشكل عندهم إنما يُطلَق على الهيئة الجسمية الحاصلة من إحاطة الحدّ الواحد - أي النهاية الواحدة - كما في الكُريّات، أو الحدود - أي النهايات - كما في المضلَّعات بالمقدار الذي هو عبارةٌ عن الامتداد الطوليّ والعَرْضيّ والعمقيّ.

ثم أُطلِق الشَكْل على الهيئة المعنوية تشبيهًا للهيئَة المعنويَّة بالهيئَة الجسمية، فهو من قبيل تشبيه المعقول بالمحسوس.

(وَالْأَشْكالُ أَرْبَعَةٌ لِأَنَّ الحَدَّ الْأَوْسَطَ إِنْ كَانَ مْحمُولاً فِي الصُّغْرَى مَوْضُوعًا فِي الْكُبْرَى فَهُوَ الشَّكْلُ الْأَوَّلُ) كقولنا: كلُّ جسمٍ مؤَلَّفٌ، وكلُّ مؤَلَّفٍ مُحدَثٌ، فكلُّ جسمٍ مُحدَث.

وإنما سُمّي بالشكل الأول، لأنهُ بديهيُّ الإنتاج، واردٌ على حكم الطبع للحكم فيهِ على الموضوع، بالحدّ الأوسط ثم على الأوسط بالمحمول، حتى يلزم منهُ الحكم على الموضوع بالمحمول، بما أنهُ فردٌ من أفراد الأوسط.

(وَإِنْ كَانَ بِالْعَكْسِ) أي إن كان الحدُّ الأوسط موضوعًا في الصُغرَى حمولاً في الكُبرَى (فَهُوَ) الشكل (الرَّابِعُ) كقولنا: كلُّ إنسانٍ حيوانٌ، وكلُّ ناطقٍ إنسانٌ، فبعض الحيوان ناطقٌ.

(وَإِنْ كَانَ) الحدُّ الأوسط، (مَوْضُوعًا فِيهِمَا) أي في الصغرى والكبرى، (فَهُوَ) الشكل (الثَّالِثُ) كقولنا: كلُّ إنسانٍ حيوانٌ، وكل إنسانٍ ناطقٌ، فبعض الحيوان ناطقٌ.

(وَإِنْ كَانَ) الحدُّ الأوسط (مَحْمُولاً فِيهِمَا فَهُوَ) الشكل (الثَّانِي) كقولنا: كلُّ إنسانٍ حيوانٌ، ولا شيءَ من الفرس بحيوان، فلا شيءَ من الإنسان بفرس.

وإنما كان هذا الشكل ثانيًا وما قبلهُ ثالثًا، لأن الثاني يشارك الأول في أشرف مقدّمتيهِ وهي الصغرى، من حيث اشتمالها على موضوع المطلوب، الذي هو أشرف من المحمول، لأنهُ الذي لأجله تُطلَب الكبرى، والثالث يشارك الأول في أخسّ مقدّمتيهِ، وهي الكبرى من حيث اشتمالها على محمول المطلوب، الذي هو أخسُّ من الموضوع، لأنهُ ربما يُطلَب لأجل الموضوع، بخلاف الرابع، فإنهُ لا شركة لهُ مع الأول أصلاً.

(فَهَذه هِيَ الأَشْكَال الأرْبَعَة المَذكُورة فِي الَمنطِقِ) والفرق بينها بحسب الماهية والشرف ما ذكرناهُ آنفًا، وإمَّا الفرق بحسب الإنتاج: فالأول يُنتج المطالب الأربعة، الكلّيتين والجزئيتين.

والثاني ينتج السالبتين.

والثالث والرابع ينتجان الجزئيتين.

وأَمَّا بحسب الاشتراط:

  • فالأول: بحسب الكيف إيجاب الصغرى، وبحسب الكمّ كليَّة الكبرى.
  • والثاني: بحسب الكيف اختلاف المقدّمتين بالإيجاب والسلب، وبحسب الكمّ كليَّة الكبرى.
  • والثالث: بحسب الكيف إيجاب الصغرى، وبحسب الكمّ كليَّة إحدى المقدّمتين.
  • والرابع: بحسب الكمّ والكيف، إِمَّا إيجاب المقدّمتين مع كليَّة الصغرى، أو اختلافهما بالإيجاب والسلب مع كليَّة أحداهما. والبراهين في المطولات.

ولما كانت الأشكال الأربعة غير مستوية في استنتاج المطالب، لكونهِ في بعضها أظهر من بعض أشار إليهِ بقولهِ: (وَالشَّكْلُ الرَّابِعُ مِنْهَا) أي من هذه الأشكال (بَعِيدٌ عَنِ الطَّبْعِ جِدًّا)، لأنهُ لا يُستنتَج منهُ المطلوب إلا بعنايةٍ، لشدَّة مباينتهِ للأول - القريب من الطبع الوارد على النظم الطبيعي - في كلتا مقدّمتيهِ، ولهذا وُضعِ في المرتبة الرابعة.

فإن قلت: إذا كان الحدُّ الأوسط موضوعًا في الصغرى، محمولاً في الكبرى في الشكل الرابع، يكون أحد المكرَّرَين واقعًا في أول القياس، والآخر في آخره، فيكون طرفا المطلوب فيهِ مجتمعَين بين المكرَّرين، فينبغي أن يكون إنتاج الرابع أوضح الإنتاجات، فلماذا عدُّوهُ بعيدًا عن الطبع؟

قلت: لما وقع في الشكل الرابع موضوع المطلوب محمولاً في الصُغرَى، ومحمولهُ موضوعًا في الكُبرَى، احتيج عند تركيب النتيجة إلى أن يُجعَل المحمول موضوعًا والموضوع محمولاً، فاحتيج فيهِ إلى تغييرين، ولهذا عُدَّ بعيدًا عن الطبع لكثرة الأعمال عند استنتاج المطلوب، بخلاف الأشكال الباقية.

(والَّذِي لَهُ عَقْلٌ سَلِيمٌ وَطَبْعٌ مُسْتَقِيمٌ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى رَدِّ) الشكل (الثَّانِي إِلَى) الشكل (الْأَوَّلِ) في استنتاجهِ، لأنهُ لغاية قربهِ من الأول - لمشاركتهِ إياهُ في صغراهُ التي هي عدة المقدمتين - ينقاد باستقامة الطبع للنتيجة، من غير طلب ردّهِ إلى الأول، بخلاف الثالث والرابع، فإنهما بعيدان عن الأول بالنسبة إلى الثاني.

فإذا رُدَّ الثاني إلى الأول يرتدُّ بعكس الكبرى، لأنهُ موافق للأول في صغراهُ مخالفٌ لهُ في كبراهِ، فإذا عكستَ كبراهُ بجعل الموضوع محمولاً، والمحمول موضوعًا، يصير عين الأول، كما في قولنا: كلُّ إنسانٍ حيوانٌ، ولا شيءَ من الفرس بحيوان: فنقول في كبراهِ: لا شيءَ من الحيوان بفرس.

والثالث يرتدُّ إلى الأول بعكس الصغرى، لأنهُ موافق لهُ في كبراهِ كقولنا: كلُّ إنسانٍ حيوانٌ، وكلُّ إنسانٍ ناطقٌ، فإذا عكست صغراهُ قلتَ: بعض الحيوان إنسانٌ، فيصير عين الأول.

والرابع يرتدُّ إلى الأول بعكس الترتيب أي بجعل الصغرى كبرى والكبرى صغرى كقولنا: كلُّ إنسانٍ حيوانٌ وكلُّ ناطقٍ إنسان فإذا عكست الترتيب قلت: كلُّ ناطقٍ إنسان وكلُّ إنسانٍ حيوان.

أو بعكس المقدّمتين جميعًا بأن تقول في صغراهُ بعض الحيوان إنسانٌ وفي كبراهُ بعض الإنسان ناطقٌ ولكنَّ هذا غير منتجِ لعدم كلية الكبرى.

ومثالهُ مما يُنتجِ كلُّ إنسانٍ حيوانٌ ولا شيءَ من الفرس بإنسان فيرتدُّ بالعكس إلى قولنا بعض الحيوان إنسانٌ ولا شيءَ من الإنسان بفرس فينتج بعض الحيوان ليس بفرس.

(وَإِنَّمَا يُنْتِجُ) الشكل (الثَّانِي عِنْدَ اخْتِلاَفِ مُقَدِّمَتَيْهِ بِالْإِيجَابِ وَالسَّلْبِ) بأن تكون إحداهما موجبة، والأخرى سالبة، لأنهما لو اتفقتا في الإيجاب والسلب، لزم الاختلاف بأَن يصدق القياس تارةً مع الإيجاب وتارةً مع السلب، وذلك موجبٌ لعدم الإنتاج، لأن معنى الإنتاج أن تستلزم ذاتُ القياس النتيجةَ، فلو انتفى هذا الشرط، لصدق القياس الوارد على صورة واحدة، تارةً مع النتيجة الموجبة، وأخرى مع النتيجة السالبة، وهو يدلُّ على أن النتيجة ليست لازمةً لذات القياس.

أَمَّا إذا كانتا موجبتين، فلأَنَّهُ يَصدُق كلُّ فرسٍ حيوانٌ، وكلُّ صاهلٍ حيوان، فالحقُّ الإيجاب وهو كلُّ فرسٍ صاهل.

ولو بدَّلنا الكبرَى بقولنا: وكلُّ إنسانٍ حيوان، كان الحقُّ السلب وهو لا شيءَ من الفرس بإنسان.

وإمَّا إذا كانتا سالبتين، فلأَنَّهُ يصدق لا شيءَ من الإنسان بفرسٍ، ولا شيءَ من الحمار بفرس، فالحقُّ السلب وهو لا شيءَ من الإنسان بحمار.

ولو بدَّلنا الكبرى بقولنا: لا شيءَ من الناطق بفرس، كان الحقُّ الإيجاب وهو كلُّ إنسانٍ ناطق.

ومع هذا الشرط يُشترَط في هذا الشكل كليَّة الكبرى، وإلَّا لاختلفت النتيجة أيضًا.

أَمَّا إذا كانت موجبةً جزئيَّة، فلأَنَّهُ يصدق قولنا: لا شيءَ من الفرس بإنسان، وبعض الناطق إنسان، فالحقُّ السلب، وهو بعض الفرس ليس بناطق.

ولو بدَّلنا بقولنا: بعض الحيوان إنسان، كان الحقُّ الإيجاب، وهو كلُّ فرسٍ حيوان.

وإمَّا إذا كانت سالبة جزئيَّة، فلأَنهُ يصدق قولنا: كلُّ إنسانٍ ناطقٌ، وبعض الفرس ليس بناطق، فالحقُّ السلب وهو بعض الإنسان ليس بفرس.

ولو بدَّلنا بقولنا: بعض الحيوان ليس بناطق، كان الحقُّ الإيجاب وهو كلُّ إنسانٍ حيوانٌ.

(وَالشَّكْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي جُعِلَ مِعَيَارًا) أي ميزانًا (لِلْعُلُومِ) لأنهُ هو الأصل من بين الأشكال، والباقية مرتدَّةٌ إليهِ عند الاحتياج (فَنَورِدُهُ هَهُنَا) مع ضروبهِ

(لِيُجْعَلَ دُسْتُورًا) أي قانونًا ومرجعًا يُكتفى به، وتوطئَةً لتفهيم الباقي

(وَتُسْتَنْتَجَ) أي تُستحصل

(مِنْهُ المَطَالِبُ كُلُّهَا. وَشَرْطُ إِنْتَاجِهِ إِيجَابُ الصُّغْرَى وَكُلِّيَّةُ الْكُبْرَى) وقد مر الكلام على ذلك.

(وَضُرُوبُهُ المُنْتِجَةُ أَرْبَعَةٌ) والقياس العقليُّ يقتضي ستة عشر ضربًا، لأن كلاًّ من مقدّمتيهِ إمَّا موجبة أو سالبة، وكلٌّ من هاتين إمَّا كليَّة أو جزئيَّة، فتلك أربع قضايا يدور تأليف القياس عليها، وهي كلها معتبرة في الصغرى والكبرى، فكلٌّ منهما تكون إمَّا كليَّة موجبة أو كليَّة سالبة أو جزئيَّة موجبة أو جزئيَّة سالبة، فإذا قُرنَت إحدى الصغريات الأربع بإحدى الكبريات الأربع، يحصل ستة عشر ضربًا وهو ظاهر.

وإمَّا الشخصيَّة والمُهملَة فداخلتان تحت المحصورات، لأن الشخصيَّة في حكم الكليَّة، والمهملة في قوة الجزئيَّة.

ولمَّا اشتُرِط في هذا الشكل إيجاب الصغرى، بناءً على إنها لو كانت سالبةً لم يندرج الأصغر تحت الأوسط، فلم يتعدَّ الحكم من الأوسط إلى الأصغر، لأن الحكم في الكبرى على ما ثبت لهُ الأوسط والأصغر، ليس مما ثبت لهُ الأوسط، فلا يلزم من الحكم على الأوسط الحكم على الأصغر سقط ثمانية أضرب وهي:
الصغرى السالبة الكليَّة مع الكُبرَيات الأربع.

والصغرى السالبة الجزئيّة مع الكُبرَيات الأربع.

وكذلك لمَّا اشتُرِط فيهِ كليَّة الكبرى، بناءً على أنها لو كانت جزئيَّة لم يندرج الأصغر تحت الأوسط، لأن الحكم في الكبرى على بعض الأوسط، ويجوز أن يكون الأصغر غير ذلك البعض، فالحكم على بعض الأوسط لا يتعدَّى إلى الأصغر، سقط أربعةٌ أخرى وهي: الصُغرَى الموجبة الكليَّة، مع الموجبة الجزئيَّة، أو السالبة الجزئيَّة كُبرَى، والصُغرَى الموجبة الجزئيَّة، مع الموجبة الجزئية أو السالبة الجزئيَّة كُبرَى، فبقي بعد الإِسقاط أربعة أَضرُب:

(الضَّرْبُ الْأَوَّلُ) من موجبتين كلّيَّتين يُنتج موجبةً كليَّة،

(كَقَوْلِنَا: كَلُّ جِسْمِ مُؤَلَّفٌ، وَكُلٌ مُؤَلَّفٍ مُحْدَثٌ، فَكُلُّ جِسْمٍ مُحْدَثٌ.)

(وَ)الضرب (الثَّانِي) من موجبة كليَّة صُغرَى وسالبة كليَّة كُبرَى يُنتج سالبة كليَّة،

(كَقَوْلِنَا: كُلُّ جِسْمٍ مُؤَلَّفٌ، وَلاَ شَيْء مِنَ المُؤَلَّفِ بِقَدِيمٍ، فَلاَ شَيْءَ مِنَ الْجِسْمِ بِقَديمٍ.)

(وَ) الضرب (الثَّالِثُ) من مُوجِبةٍ جزئيَّةٍ صُغرَى وموجبةٍ كليَّةٍ كُبرَى يُنتج موجبة جزئيَّة،

(كَقَوْلِنَا: بَعْضُ الْجِسْمِ مُؤَلَّفٌ، وَكُلُّ مُؤّلِفٍ حَادِثٌ، فَبَعْضُ الْجِسْمِ حَادِثٌ.)

(وَ) الضرب (الرَّابِعُ) من موجبةٍ جزئيَّةٍ صغرى وسالبةٍ كليَّةٍ كبرى ينتج سالبةً جزئية،

(كَقَوْلِنَا: بَعْضُ الْجِسْمِ مُؤَلَّفٌ، وَلاَ شَيْءَ مِنَ المُؤَلَّفِ بِقَدِيمٍ، فَبَعْضُ الْجِسْمِ لَيْسَ بِقَدِيمٍ.)

وترتيب هذه الضروب باعتبار النتيجة:

  • فالضرب الأول ينتج أشرف المحصورات، وهي الموجبة الكليَّة، لاشتمالها على الشَرَفَين، الإيجاب والكليَّة.
  • والثاني ينتج السالبة الكليَّة، وهي أشرف من الموجبة الجزئيَّة، لأن الكلّي أشرف من الجزئي، لكونهِ شاملاً ومضبوطًا ونافعًا في العلوم.
  • والثالث ينتج الموجبة الجزئية، وهي أشرف من السالبة، لأن فيها شرفًا واحدًا وهو الإيجاب.
  • وليس في نتيجة الرابع شيءٌ الشَرَف، ولهذا وُضعِ في المرتبة الرابعة.

فعُلِم من هذ أن الشك الأول، ينتج المطالب الأربعة الموجبتين والسالبتين كما مرَّ.

ونحن نورد هنا الضروب المنتجة لبقيَّة الأشكال، حتى نحيط بالفائدة وباستقراءِ ما شُرِط لصحة انتاج كلٍّ منها مع ما تقدَّم من الكلام على ضروب الشكل الأول غنىً عن الاسهاب، ببيان كيفية إسقاط ما سقط من هذه الضروب، وتحصيل ما حصل منها، وإنما الفائدة في الحاصل فنقول: والضروب المنتجة للشكل الثاني أربعةٌ أيضًا:

  • الضرب الأول من موجبة كليَّة، فسالبةٍ كليَّة ينتج سالبةً كليَّة،
كقولنا: كلُّ إنسانٍ حيوان، ولا شيءَ من الجماد بحيوان، فلا شيءَ من الإنسان بجماد.
  • والضرب الثاني من سالبةٍ كليَّة، فموجبةٍ كليَّة عكس الأول ينتج سالبةً كلية ايضًا،
كقولنا: لا شيءَ من الجماد بحيوان، وكل إنسان حيوان، فلا شيء من الجماد بإنسان.
  • والضرب الثالث من موجبةٍ جزئية، فسالبةٍ كلية ينتج سالبةً جزئيَّة،
كقولنا: بعض الحيوان إنسانٌ، ولا شيءَ من الجماد بإنسان، فبعض الحيوان ليس بجماد.
  • والضرب الرابع من سالبةٍ جزئية، فُموجِبةٍ كلية ينتج سالبةً جزئيَّة أيضًا،
كقولنا: بعض الجماد ليس بإنسان، وكل ناطقٍ إنسان، فبعض الجماد ليس بناطق.

والضروب المنتجة للشكل الثالث ستَّةٌ، وضروب هذا الشكل لا ينتج إلَّا جزئيَّة:

  • الضرب الأول من موجبةٍ كليَّة، فمثلها ينتج موجبةً جزئيَّة،
كقولنا: كل حيوانٍ جسمٌ، وكل حيوانٍ نامٍ، فبعض الجسم نامٍ.
  • والضرب الثاني من موجبةٍ كليَّة، فسالبةٍ كليَّة ينتج سالبةً جزئيَّة،
كقولنا: كل إنسانٍ حيوانٌ، ولا شيءَ من الإنسان بفرس، فبعض الحيوان ليس بفرس.
  • والضرب الثالث من موجبة جزئيَّة، فموجبةٍ كليَّة ينتج موجبةً جزئيَّة،
كقولنا: بعض الحيوان إنسانٌ، وكل حيوانٍ جسمٌ، فبعض الإنسان جسمٌ.
  • والضرب الرابع من موجبةٍ جزئية، فسالبةٍ كليَّة ينتج سالبةً جزئية،
كقولنا: بعض الحيوان إنسانٌ، ولا شيءَ من الحيوان بجماد، فبعض الإنسان ليس بجماد.
  • والضرب الخامس من موجبةٍ كليَّة، فموجبةٍ جزئية عكس الضرب الثالث ينتج موجبةً جزئية،
كقولنا: كلُّ إنسانٍ حيوانٌ، وبعض الإنسان جسمٌ، فبعض الحيوان جسم.
  • والضرب السادس موجبةٍ من كليَّة، فسالبةٍ جزئية ينتج سالبةً جزئية،
كقولنا: كلُّ نامٍ حَيٌّ، وبعض النامي ليس بمتحركٍ بالإرادة، فبعض الحيّ ليس بمتحركٍ بالإرادة.

والضروب المنتجة للشكل الرابع ثمانية:

  • الضرب الأول من موجبةٍ كلية، فمثلها ينتج موجبةً جزئية،
كقولنا: كل إنسانٍ حيوانٌ، وكلُّ ناطقٍ إنسان، فبعض الحيوان ناطق.
  • والضرب الثاني من موجبةٍ كلية، فموجبةٍ جزئية ينتج موجبةً جزئية أيضًا،
كقولنا: كلُّ إنسانٍ حيوانٌ، وبعض الناطق إنسان، فبعض الحيوان ناطق.
  • والضرب الثالث من سالبةٍ كلية، فموجبةٍ كلية ينتج سالبةً كلية،
كقولنا: لا شيءَ من الإنسان بفرس، وكل ناطقٍ إنسان، فلا شيءَ من الفرس بناطق.
  • والضرب الرابع من موجبةٍ كلية، فسالبةٍ كلية عكس الثالث ينتج سالبهً جزئية،
كقولنا: كلُّ إنسان حيوانٌ، ولا شيءَ من الفرس بإنسان، فبعض الحيوان ليس بفرس.
  • والضرب الخامس من موجبةٍ جزئية، فسالبةٍ كلية ينتج سالبةً جزئية أيضًا،
كقولنا: بعض الإنسان حيوانٌ، ولا شيءَ من الفرس بإنسان، فبعض الحيوان ليس بفرس.
  • والضرب السادس من سالبةٍ جزئية، فموجبةٍ كلية ينتج سالبةً جزئية،
كقولنا: بعض المستيقظ ليس بنائِم، وكل كاتبٍ مستيقظ، فبعض النائِم ليس بكاتب.
  • والضرب السابع من موجبةٍ كلية، فسالبةٍ جزئية عكس ما قبلهُ ينتج سالبة جزئية،
كقولنا: كل كاتبٍ متحرّك الأصابع، وبعض ساكن الأصابع ليس بكاتب، فبعض متحرك الأصابع ليس بساكن الأصابع.
  • والضرب الثامن من سالبةٍ كلية، فموجبةٍ جزئية ينتج سالبةً جزئية
كقولنا: لا شيءَ من المتحرّك بساكن، وبعض المنتقل متحرّك، فبعض الساكن ليس بمنتقل.

واقتصر المتقدمون من هذا الشكل على الخمسة الأضرب الأولى، لاطّرادها في الصدق، وجعلوا الشرط في هذا الشكل عدم اجتماع الخِسَّتين أي الجزئية والسلب إلَّا في صورة واحدة، وهي ما إذا كانت الصغرى موجبة جزئية والكبرى موجبة كلية، فإنهم التزموا تبديل الكيف في الكبرى كما رأيت، وإن أًدَّى إلى اجتماع الخِسَّتين وإلَّا فليس بمنتج.

واعلم أن النتيجة تتبع أخسَّ المقدّمتين، أعني أنهُ إذا كان القياس مركبًا من موجبة وسالبة ينتج سالبة، وإذا كان مركَّبًا من جزئية وكلية ينتج جزئية، كما يتبيَّن لك ذلك، باستقراءِ ما ذُكِر من الامثلة.

ولمَّا قَسمَ القياسَ من قبل إلى الاقتراني والاستثنائي، أراد أن يبين كل واحدٍ منهما من أي شيءٍ يتركَّب فقال:

(وَالْقِيَاسُ الاِقْتِرَانِيُّ) بحسب التركيب ستة أقسام لأنهُ:

(إِمَّا أَنْ يَتَرَكَّبَ مِنْ) مقدّمتين (حَمْلِيَّتَيْنِ) ويسمَّى هذا اقترانيَّا حمليًّا (كَمَا مَرَّ) في قولنا: كل جسمٍ مُؤَلّف وكل مُؤَلّف مُحدَث.

( وَإِمَّا مِنْ) متقدّمتين شرطيَّتين (مُتَّصِلَتَيْنِ كَقَوْلِنَا: إِنْ كَانَتِ الشَّمْسُ طَالِعَةً فَالنَّهَارُ مَوْجُودٌ، وَكُلَّمَا كَانَ النَّهَارُ مَوْجُودًا فالْأَرْضُ مُضِيئَةٌ يَنْتُجُ) من اقتران هاتين القدّمتين (إِنْ كَانَتِ الشَّمْسُ طَالِعَةً فَالْأَرْضُ مُضِيئَةٌ.) والمراد من المتَّصلتين أن تكونا لزوميتين لا اتفاقيتين، لأنهُ لا فائدة في إنتاج الأشكال المركَّبة من الاتفاقيات، إذا العلم بصدق الاتفاقيَّة موقوف على العلم بصدق الأصغر والأكبر في نفس الأمر، فيكونان معلومَي الاجتماع، من غير التفاتٍ إلى الأوسط، فلا يكون الأوسط محتاجًا إليه.

(وَإِمَّا) مركَّبٌ (مِنْ) مقدمتين شرطيتين (مُنْفَصِلَتَيْنِ كَقَوْلِنَا: كُلُّ عَدَدٍ فَهُوَ إِمَّا زَوْجٌ أَوْ فَرْدٌ، وَكُلُّ زَوْجٍ فَهُوَ إِمَّا زَوْجِ الزَّوْجِ أَوْ زَوْجُ الْفَرْدِ يَنْتُجُ) من هاتين المقدمتين (كُلُّ عَدَدٍ فَهُوَ إِمَّا فَرْدٌ أَوْ زَوْجُ الزَّوْجُ أَوْ زَوْجُ الْفَرْدِ) لأن الصادق من المنفصلة الأولى إن كان الفردية فهي أحد أقسام النتيجة، وإن كان الزوجية وهي منحصرة في قسمين كان الصادق أحد قسميها المذكورين في النتيجة أيضًا، فتصدق النتيجة المركَّبة من الأقسام الثلاثة قطعًا.

واعلم أن العدد إمَّا أن يكون منقسمًا إلى متساويين أو لا، فإن انقسم إلى متساويين فهو الزوج كالاثنين مثلاً، وإن لم ينقسم إلى متساويين بأن لا ينقسم أصلاً كالواحد، أو ينقسم إلى غير المتساويين كالثلاثة فهو الفرد.

ثم الزوج أن انقسم إلى ما ينقسم إلى متساويين فهو زوج الزوج، كالأربعة، وإلا فهو زوج الفرد كالستة.

(وَإِمَّا) مركَّبٌ (مِنْ) مقدّمةٍ (حَمْلِيَّةٍ وَ) مقدمةٍ (مُتَّصِلَةٍ) سواءٌ كانت المتصلة صغرى والحملية كبرى، (كَقَوْلِنَا: كُلَّمَا كَانَ هذَا) الشَّيءُ (إِنْسَانًا فَهُوَ حَيَوَانٌ كُلُّ حَيَوَانٍ جِسْمٌ يُنْتِجُ) من هاتين المقدمتين (كُلَّمَا كَانَ هذَا) الشَّيءُ (إِنْسَانًا فَهُوَ جِسْمٌ)

أو كانت الحملية صغرى والمتصلة كبرى، كقولنا: كلُّ إنسانٍ جسمٌ، وكلَّما كان هذ الجسم ماشيًا، فهو حيوانٌ ينتج من الشكل الأول: كلُّ إنسانٍ حيوان.

(وإِمَّا) مركبٌ (مِنْ) مقدمةٍ (حملية و) مقدمةٍ (منفصلة) سواء كانت المنفصلة صغرى والحملية كبرى.

(كَقَوْلِنَا: كُلُّ عَدَدٍ إِمَّا زَوْجٌ إِمَّا فَرْدٌ، كُلُّ زَوْجٍ فَهُوَ منقسم بِمُتَسَاوِيَيْنِ يُنْتِجُ كُلُّ عَدَدٍ، فهو إِمَّا فردٌ أو منقسمٌ بِمُتَسَاوِيَيْنِ).

أو كانت الحملية صغرى والمنفصلة كبرى، كقولنا: كلُّ إنسانٍ حيوانٌ، وكل حيوانٍ إِمَّا أبيض وإمَّا أسود، ينتج كلُّ إنسانٍ إِمَّا أبيض وإِمَّا أسود.

(وإِمَّا) مركَّبٌ (مِنْ) مقدمةٍ (مُتَّصِلَة وَ) مقدمةٍ (مُنْفَصِلَة) سواءٌ كانت المتصلة صغرى والمنفصلة كبرى، (كَقَوْلِنَا: كُلَّمَا كَانَ هَذَا إِنْسَانًا فَهُوَ حَيَوَانٌ، وَكُلُّ حَيَوانٍ إِمَّا أًبْيَضُ وَإِمَّا أَسْوَدُ، يُنْتِجُ كُلَّمَا كَانَ هَذَا إِنْسَانًا فَهُوَ إِمَّا أَبْيَضُ وإِمَّا أَسْوَدُ) أو كانت المنفصلة صغرى والمتصلة كبرى، كقولنا: كلُّ إنسانٍ إمَّا أبيض أو أَسود، وكلما كان هذا أبيض أو أسود فهو حيوان، ينتج كلما كان هذا إنسانًا فهو حيوان.

واعلم أن الأشكال الأربعة تنعقد في كل واحدٍ من أقسام الشرطية، وشرائطُها وحال نتائجها في الكمية والكيفية، كما في الحمليات من غير فرق، إلَّا أن المصنّف لم يذكر ههنا غير الشكل الأول، فإن أردت الاستقصاءَ فيها فارجع إلى المطولات.

ولمَّا فرغ من بيان الاقتراني، شرع في بيان الاستثنائي، فقال (وَأَمَّا الْقِيَاسُ الاسْتِثْنَائِيُّ) فهو مركبٌ دائمًا من مقدمتين: أحدهما شرطية وتسمَّى كُبرَى والأخرى استثنائية، يُحكَم فيها بوضح أحد جزءَي الشرطية أو رفعهِ ليلزم وضع جزئها الآخر أو رفعهُ وتسمَّى صغرى.

والوضع والرفع هنا بعنى الايجاب والسلب.

وأقسامهُ بحسب التركيب ستة عشر، وذلك لأن الشرطية الموضوعة فيهِ لا تخلو من أن تكون متصلةً أو منفصلة حقيقيةً، أو مانعة الجمع أو مانعة الخلو.

وشرط إنتاجهِ أمورٌ ثلاثة:

أحدها: كون الشرطية موجبة.

وثانيها: كونها لزومية إذا كانت متصلة. وعنادية إذا كانت منفصلة.

وثالثها: أحد أمرين: في المتصلة إِمَّا كلية الشرطية أو كلية الاستثنائية.

إذا عرفت هذا (فَالشَّرْطِيَّةُ الْمَوْضُوعَةُ فِيهِ) أي في القياس الاستثنائي (إِذَا كَانَتْ مُتَّصِلَةً) موجبةً لزومية، وكانت كلية هي أو الاستثنائية، فالاستثناءُ فيها يُتصوَّر على أربعة أوجه، لأنهُ إِمَّا أن يكون بعين المقدَّم، أو بنقيضهِ، أو بعين التالي، أو بنقيضهِ.

فالأول والرابع ينتجان، والثاني والثالث عقيمان.

فأشار إلى المنتجين بقولهِ: (فَاسْتِثْنَاءُ عَيْنِ الْمُقَدَّمِ يُنْتِجُ عَيْنَ التَّالِي) لأن المقدَّم ملزوم، والتالي لازمٌ لهُ، ووجود الملزوم يستلزم وجود اللازم، وإلَّا لزم انفكاك اللازم عن الملزوم، فتبطل الملازمة، (كَقَوْلِنَا: إِنْ كَانَ هَذَا إِنْسَاناً فَهُوَ حَيَوَانٌ، لَكِنَّهُ إِنْسَانٌ فَهُوَ حَيَوَانٌ.) ولا ينتج استثناءُ عين التالي عينَ المقدَّم، لأن وجود اللازم لا يستلزم وجود المزوم، لجواز أن يكون اللازم أعمّ، ووجود الأعمّ لا يستلزم وجود الأخصّ.

(وَاسْتِثْنَاءُ نَقِيضِ التَّالِي يُنْتِجُ نَقِيضَ الْمُقَدَّمِ) لأن انتفاءَ اللازم يستلزم انتفاءَ الملزوم، وإلَّا لزم وجود الملزوم بدون اللازم، فتبطل الملازمة أيضًا، (كَقَوْلِنَا: إِنْ كَانَ هَذَا إِنْسَانًا فَهُوَ حَيَوَانٌ، لَكِنَّهُ لَيْسَ بِحَيَوَانٍ فَلَا يَكُونُ إِنْسَانًا.) ولا ينتج استثناءُ نقيض المقدَّم نقيضَ التالي، لأنهُ لا يلزم من انتفاءِ الملزوم انتفاءُ اللازم، لجواز كون الملزوم أخصَّ من اللازم، وانتفاءُ الأخص لا يستلزم انتفاءَ الأعمّ.

فإن قلت: عدم الإنتاج فيما إذا كانت الملازمة عامَّة، أَمَّا إذا كانت متساوية فالإنتاج ضروري، كما في قولنا: كما كانت الشمس طالعةً فالنهار موجودٌ، لكنَّ النهار موجودٌ، ينتج أن الشمس طالعةٌ، ولو قلنا: لكنَّ الشمس ليست بطالعةٍ، ينتج أن النهار ليس بموجود.

قلت: الإنتاج ههنا لخصوص المادَّة لا لذات المقدّمات، والمراد بالإنتاج فيما ذكر ما يكون لذات المقدّمات.

(وَإِنْ كَانَتْ) أي الشرطية الموضوعة في القياس الاستثنائي (مُنْفَصِلَةً) لزم أن تكون موجبةً عناديَّة، سواءٌ كانت حقيقية أو مانعة الجمع أو مانعة الخلو.

فإن كانت حقيقية: فالاستثناءُ فيها يُتصوَّر على أربعة أوجه كلها منتجة، اثنان باعتبار الوضع، واثنان باعتبار الرفع، لأن وضع كلٍّ من الجزءَين ينتج رفع الآخر، ورفع كلٍّ منهما ينتج وضع الآخر، إشار إليه بقوله: (فَاسْتِثْنَاءُ عَيْنِ أَحَدِ الْجُزْأَيْنِ) مقدَّمًا كان أو تاليًا، (يُنْتِجُ نَقِيضَ الْآخَرِ) لأن ثبوت أحد المعاندَين، يستلزم انتفاءَ الآخر، لامتناع الجمع بينهما، كقولنا: العدد إِمَّا زوجٌ أو فردٌ، لكنهُ زوج، ينتج أنهُ ليس بفرد.

أو لكنهُ فرد ينتج أنهُ ليس بزوج.

(وَاسْتِثْنَاءُ نَقِيضِ أَحَدِهِمَا) أي أحد الجزءَين (يُنْتِجُ عَيْنَ الْآخَرِ) لامتناع الخلوّ بينهما. كقولنا: العدد إِمَّا زوجٌ أو فردٌ، لكنهُ ليس بزوج، ينتج أنهُ فرد.

أو لكنهُ ليس بفرد ينتج أنه زوج.

وإن كانت الشرطية مانعة الجمع: وهي المركَّبة من قضيَّتين كلٌّ منهما أخصُّ من نقيض الأخرى، فالاستثناءُ فيها يُتصوَّر أيضًا على أربعة أوجه:

اثنان منتجان: وهما استثناءُ عين أحد الجزءَين ينتج نقيض الآخر، لامتناع اجتماعهما في الصدق، كقولنا: هذا الشيءُ إِمَّا شجرٌ أو حجرٌ، لكنهُ شجرٌ، فهو لا حجر.

أو لكنهُ حجرٌ فهو لا شجر.

واثنان عقيمان: وهما استثناءُ نقيض أحد الجزءَين لا ينتج عين الآخر، لجواز الخلو بينهما، كقولنا: هذا الشيءُ إمَّا شجرٌ أو حجر، لكنهُ لا حجر، لا ينتج أنهُ حجر.

أو لكنهُ لا حجر، لا ينتج إنهُ شجر.

وإن كانت مانعة الخلو: وهي المركَّبة من قضيَّتين كلٌّ منهما أعمُّ من نقيض الأخرى، فالاستثناءُ فيها أيضًا يُتصوَّر على أربعة أوجه:

اثنان منتجان: وهما استثناءُ نقيض أحد الجزءَين ينتج عين الآخر، كقولنا: هذا الشيءُ إِمَّا لا شجرٌ أو لا حجرٌ، لكنه شجرٌ، ينتج أنهُ لا حجرٌ.

أو لكنهُ حجرٌ ينتج إنهُ لا شجر.

واثنان عقيمان: وهما استثناءُ عين أحد الجزءَين لا ينتج نقيض الآخر، لجواز الجمع بينهما، كقولنا: هذ الشيءُ إِمَّا لا شجر أو لا حجر، لكنهُ لا شجر لا ينتج أنهُ حجر.

أو لكنه لا حجر لا ينتج أنهُ شجر.

فصار مجموع المنتجات في القياس الاستثنائيّ عشرة، والعقيمات ستة.

ولمَّا فرغ من بيان القياس باعتبار الصورة، شرع في بيان أقسامهِ بحسب المادَّة، لأن المنطقيَّ كما يبحث عن الصورة يبحث عن المادَّة.

والقياس بحسب المادَّة خمسة أقسام يسمونها بالصناعات الخمس.

ووجه الضبط أنهُ إن تركَّب من المقدّمات اليقينيَّة يسمَّى برهانًا.

وإن تركب من المظنونات أو المقبولات يسمَّي خَطابةً.

وإن تركَّب من المشهورات يسمَّى جَدَلاً.

وإن تركَّب من المخيِّلات يسمَّى شعرًا.

وإن تركَّب من الشبيهة باليقينيَّات أو من الظَنّيات يسمَّى مغالطةً.

ولمَّا كان البرهان مركَّبًا من اليقينيَّات، قدَّمهُ على ما لا يكون مركَّبًا منها. فقال: (الْبُرْهَانُ) أي من جملة الصناعات خمس البرهان، و(هُوَ قِيَاسٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ يَقِينِيةٍ لِإِنْتَاجِ الْيَقِينِ.) قوله: قياسٌ جنسٌ يشمل الأَقْيِسة الخمسة.

وقولهُ مؤَلَّفٌ: ذكِر ليتعلَّق بهِ قولهُ من مقدّمات.

وقولهُ مقدّمات جاءَ بهِ ليُوصَف بقولهِ بقينيَّة وهو يُخرِج غير البرهان.

وقولهُ لإنتاج اليقين: ليس للاحتراز، بل تكميل لأجزاءِ الحدّ، لأنهُ علَّةٌ غائيةٌ لهُ، ذكرهُ ليشتمل التعريف على العِلَل الأربع، وفي المادّية والصُوريَّة والفاعليَّة والغائيَّة.

فأَشار إلى الصُوريَّة بالمطابقة، فإن صورة البرهان هي الهيئة الاجتماعية للمقدّمات.

وإلى الفاعلية بالالتزام، إذ لابدَّ لكل تأليفٍ من مُؤَلّف، وهو ههنا القُوَّة العاقلة. وإلى المادّية بالمقدّمات.

وإلى الغائية بإنتاج اليقين الواقع في حيز اللام المعلِّلة، لأن المقصود من البرهان إنتاج المطلوب اليقيني، واليقين: هو اعتقاد الشيءِ إِنَّهُ لا يمكن أن يكون إلا كذا، اعتقادًا مطابقًا للمواقع غير ممكن الزوال.

فإن اعتقاد المعتقِد بكون الشيءِ كذا، إِمَّا أن يكون مع احتمال نقيضهِ أو لا فإن كان الأول، فلا يخلو إِمَّا أن يكون طَرَفاهُ متساويَين أو يكون أحدهما راجحًا على الآخر.

فإن كان الأول فهو الشكُّ.

وإن كان الثاني فالراجح هو الظَنُّ، والمرجوح هو الوَهْم.

وإن كان الثاني وهو ما ليس معهُ احتمال نقيضهِ، فلا يخلو إِمَّا أن يكون مطابقًا لنفس الأمر أو لا.

الثاني هو الجهل المركَّب.

والأول لا يخلو إما أن يكون ممكن الزوال أو لا.

الأول هو التقليد، والثاني هو اليقين.

فالقيد الأول في تعريف اليقين - أعني اعتقاد الشيءِ - جنسٌ شاملٌ للأقسام الستة المذكورة. وقولنا: لا يمكن أن يكون إلا كذا يُخرِج الشكَّ والظنَّ والوهم.

وقولنا: مطابقًا للواقع يُخرِج الجهل.

وقولنا: غير ممكن الزوال يُخرِج التقليد.

وبقي التعريف صادقًا على اليقين وحدهُ.

ثم اعلم أن البرهان قسمان:

أحدهما لمِّيٌّ: وهو ما كان الحدُّ الأوسط فيهِ علةً لنسبة الأكبر إلى الأصغر، في الذهن والخارج، كقولنا: زيدٌ متعفّن الأَخلاط، وكل متعفن الأخلاط محموم، فزيدٌ محموم.

فتعفُّن الأَخلاط علةٌ لثبوت الحُمَّى لزيد في الذهن والخارج.

وإنما سُمِّي لمِّيًا، لإفادته اللِمِّيَّة - أي العلة - إذ يجاب بهِ السؤَال بِلَم كان كذا فهو منسوبٌ للِم.

وثانيهما إِنّيٌّ: وهو ما كان الحدُّ الأوسط فيهِ علَّةً للنسبة المذكورة في الذهن لا في الخارج كقولنا: زيدٌ محموم، وكل محموم متعفّن الأَخلاط، فزيدٌ متعفن الأخلاط.

فالحمَّى علَّةٌ لثبوت تعفن الأخلاط لزيد في الذهن لا في الخارج، بل الأمر بالعكس في الخارج، إذا لتعفن علَّةٌ للحمَّى. وإنما سُمِّي إِنّيّاً: الاقتصارهِ على إِنّيَّة الحكم أي ثبوتهِ من قولهم: إِنَّ الأمر كذا فهو منسوبٌ لإِنَّ.

ولمَّا كانت المقدّمات اليقينية المذكورة في تعريف البرهان أعمَّ من الضَرُورية، وهي التي لا تحتاج في حصولها إلى نظر وفكر، والنظَرَية وهي التي تحتاج في حصولها إليهما أراد أن يبين الضروريات منها، فقال: (وَالْيَقِينِيَّاتُ) أي المقدّمات اليقينية الضرورية (سِتَّةُ أَقْسَامٌ) أي منحصرة فيها، لأن الحاكم بصدق النسبة، إِمَّا العقل أو الحِسُّ أو كلاهما معًا، لأن الادراك منحصر فيهما.

فإن كان العقلَ فهو إِمَّا أن يحكم في الشيءِ بمجرَّد تصوُّر طَرَفيهِ بلا توقف على وسطٍ حاضر في الذهن، وذلك هو الأَوَّليات، أو أن يتوقف عليهِ وهو قضايا قياساتها معها.

وإن كان الحسَّ فهو المشاهدات.

وإن كان كليهما معًا فعلى ثلاثة أقسام، لأن الحِسَّ الذي يكون مع العقل إما أن يكون حسَّ السمع أو غيرهُ.

فإن كان حسَّ السمع فالمتواترات.

وإن كان غيرهُ فإمَّا أن يحتاج العقل في الجزم إلى تكرار المشاهدة أو لا يحتاج.

فأن احتاج فالمجرَّبات وإن لم يحتج فالحَدْسيَّات.

وإلى ما ذكِر أشار المصنّف بقولهِ: (أَحَدُهَا أَوَّلِيَّاتٌ كَقَوْلِنَا: الوَاحِدُ نِصْفُ الاِثْنَيْنِ وَالْكُلُّ أَعْظَمُ مِنَ الجُزْءِ) والسواد والبياض لا يجتمعان فإن العقل في هذه الأحكام يحكم بمجرَّد تصوُّر الطَرَفين.

(وَ) ثانيها (مُشَاهَدَاتٌ) وتسمَّى حِدسِّيّات (كَقَوْلِنَا: الشَّمْسُ مُشْرِقَةٌ) في المُدرَك بالبصر، (وَالنَّارُ مُحْرِقَةٌ) في المُدرَك باللمس، فالعقل في هذين الحكمين يحتاج إلى المشاهدة بالحسّ.

هذا إذا كان الحسّ من الحواسّ الظاهرة، وإن كان من الحواسّ الباطنة تسمَّى تلك المقدّمات وِجْدانيات، كقولنا: إِنَّ لنا جوعًا وعطشًا.

(وَ) ثالثها (كَقَوْلِنَا: السَّقَمُونِيَاءُ مُسَهِّلَةٌ لِلصَّفْرَاءِ)، فإن العقل في هذا الحكم يحتاج إلى تكرار المشاهدات.

(وَ) رابعها (حَدْسِيَّاتٌَ كَقَوْلِنَا: نُورُ القَمَرِ مُسْتَفَادٌ مِنْ نُورِ الشَّمْسِ) لاختلاف تشكلات نورهِ بحسب قربهِ وبعدهِ عن الشمس، وخسوفهِ عند تعرُّض الأرض بينهما، فالعقل يحكم فيهِ بمجرَّد الحدس المفيد للعلم، وهو سرعة انتقال الذهن من المبادئ إلى المطالب.

والفرق بينهُ وبين الفكر، أن الفكر لا بدّ فيهِ من حركتين:

حركةٍ لتحصيل المبادئ: وهي حركةٌ من المطالب إلى المبادئ.

وحركةٍ لتحصيل الصورة: وهي حركةٌ من المبادئ إلى المطالب، بخلاف الحدس فإنه لا حركة فيهِ أصلاً.

لا يُقال: الانتقال في الحدس حركة، فكيف لا حركة فيهِ؟ لانَّا نقول الانتقال فيهِ دَفْعيٌّ، ولا شيءَ من الحركة بدَفعيّ، لوجوب كون الحركة تدريجية، إذ الحركة هي الخروج من القوَّة إلى الفعل على سبيل التدريج.

ولهذا قد يكون اختلاف الناس في الفكر بالسرعة والبُطءِ، أمَّا في الحدس فليس إلا بالقلة والكثرة.

واعلم أن المجرَّبات والحدسيات لا يصلح أن تكونا حُجَّةً على الغير، لجواز أن لا يحصل لذلك الغير الحدس أو التجربة المفيدان للعلم، والفرق بينهما أن الحدسيَّات واقعة بغير اختيار، بخلاف المجرَّبات.

(وَ) خامسها (مُتَوَاتِرَاتٌ، كَقَوْلِنَا: مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَوَة وَالسَّلام ادَّعى النُّبُوَّةَ، وَأظَهَرَ المُعْجِزَةُ) فإن العقل يحكم بذلك بواسطة السماع من جمعٍ استحال تواطؤُهم على الكذب.

والضابطة في حصول التواتر هي حصول العلم اليقين للسامع من خَبَر المخبرين، ولا يُعتَبر فيهِ عَدَدٌ معيَّن، مثل عشرين وثلاثين وتسعين وغيرها.

(وَ) سادسها (قَضَايَا قِيَاسَاتُهَا مَعَهَا، كَقَوْلِنَا: الْأَرْبَعَةُ زَوْجٌ) فالعقل يحكم بزوجية الأربعة (بِسَبَبِ وَسَطٍ حَاضِرٍ) مرتَّب ( فِي الذِّهْنِ، وَهُوَ الاِنْقِسَامُ بِمُتَسَاوِيَيْنِ.) والمراد بالوَسَط، هو الحدُّ الأوسط المقارَن بقولنا: لأنهُ كقولنا: بعد الأربعةُ زوجٌ، لأنها منقسمة بمتساويَين، وكل منقسمٍ بمتساويين زوج، فهذا الوسط مُتصوَّر في الذهن عند تصوُّر الأربعة زوجًا.

ولمَّا فرغ من القياس البرهاني ومقدّماتهِ اليقينية شرع في غير اليقينيَّات فقال: (وَالجَدَلُ) أي من جملة الصناعات الخمس الجَدَل (وَهُوَ قِيَاسٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ مَشْهُورَةٍ) والمراد من المقدّمات المشهورة القضايا التي يحكم العقل بها، بواسطة اعتراف عموم الناس بها، إِمَّا لمصلحة عامة (كَقَوْلِنَا: الْعَدْلُ حَسَنٌ، وَالظُّلُمُ قَبِيحٌ).

وإِمَّا للرقة كقولنا: مؤَاساة الفقراءِ محمودة وإكرام الضعفاءِ واجب، لقولهِ عليه السلام: « أكرموا الضعيف ولو كان كافرًا ».

أو للحميَّة، مثل قولنا: كشف العورة مذموم في المحافل، ومحافظة أهل البيت لازمة.

أو للعادة: كقبح ذبح الحيوان عند أهل الهند، وعدم قبحهِ عند غيرهم.

والمقدّمات المشهورة، قد تبلغ في الشهرة مرتبة الأوليات، والفرق بينهما أنهُ في الأوليات يكفي تصوُّر الطرَفين لحكم العقل، بخلاف المشهورات، فإنها تحتاج إلى شيءِ من هذه المذكورات.

وأيضًا أن المشهورات قد تكون صادقة، وقد تكون كاذبة، بخلاف الأوليات فإنها لا تكون إلا صادقة.

والغرض من ترتيب الجَدَل: إِلزام الخصم وإقناع من هو قاصر عن إدراك مقدمات البرهان.

(وَالخَطَابَةُ) أي من جملة الصناعات الخمس الخطابة، (وَهِيَ قِيَاسٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ مَقْبُولَةٍ مِنْ شَخْصٍ مُعْتَقَدٍ فِيهِ) إِمَّا لأمرٍ سماعيّ: كمعجزات الأنبياءِ، وكرامات الأولياء، وإِمَّا لاختصاصهِ بمزيد عقلهِ: كالعلماءِ، أو بمزيد دينهِ: كالصلحاءِ.

(أَوْ) قياسٌ مُؤَلَّفٌ من مقدّماتٍ (مَظْنُونَةٍ) وهي القضايا التي يحكم بها العقل حكمًا راجحًا، مع تجويز تقيضهِ تجويزًا مرجوحًا، كقولنا: هذا الحائط ينتثر منهُ التراب فينهدم، وكقولنا: فلانٌ يطوف بالليل فهو سارق.

والغرض من الخطابة: ترغيب الناس في فعل الخير، وتنفيرهم عن فعل الشرّ، كما يفعلهُ الخطباءُ والوُعَّاظ.

(وَالشِّعْرُ) أي من جملة الصناعات الخمس الشعر (وَهُوَ قِيَاسٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ تَنْبسِطُ مِنْهَا النَّفْسُ أَوْ تَنْقَبِضُ) ومثل هذه القدّمات تسمَّى مخيّلات، وهي القضايا التي يُتخيَّل بها، فتتأَثر النفس منها قبضًا أو بسطًا، كما لو قيل: الخمر ياقوتةٌ سيَّالة، فتنبسط بها النفس، وترغب في شربها، وكما لو قيل: العسل مِرَّةٌ مُهَوِّعَةٌ، فتنقبض النفس منهُ وتنفر.

والغرض من الشعر: انفعال النفس بالترغيب أو الترهيب، ولهذا يفيد في بعض الحروب، وعند الاستماحة والاستعطاف ما لا يفيدهُ غيرهُ، فإن الناس أَطوَع للتخييل منهم للتصديق، لكونهِ أعذب وألذَّ.

(وَالمُغَالَطَةُ) أي من جملة الصناعات الخمس المغالطة (وَهِيَ قِيَاسٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ مَقَدِّمَاتٍ كَاذِبَةٍ شَبِيهَةٍ بِالْحَقِّ) تُستعمَل بمنزلة الصادقة لمشابهتها لها إِمَّا من جهة الصورة، كما إذا اشرنا إلى صورة الفرس المنقوشة على الجدار وقلنا: هذا فرسٌ، وكلُّ فرسٍ صهَّال، ينتج: أن تلك الصورة صهَّالة.

أو من جهة المعنى، كما إذا قيل الاسم كلمةٌ، والكلمة إِمَّا اسمٌ أو فعلٌ أو حرف، ينتج: أن الاسم إِمَّا اسمٌ أو فعلٌ أو حرف، وهو انقسام الشيءِ إلى نفسهِ وإلى غيره.

وإنما نشأَ هذا الفساد من وضع القضية الطبيعيَّة في مقام القضيَّة الكليَّة.

(أَوْ) من مقدّماتٍ شبيهة (بِالْمَشْهُورَةِ) وليست بها، كقولنا: في شخصٍ يخبط في البحث هذا يكلّم العلماءَ بألفاظ العلم، وكلُّ من كان كذلك فهو عالم ينتج هذا عالم. وتسمَّى مشاغبةً.

(أَوْ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ وَهْمِيَّةٍ كَاذِبَةٍ) وهي القضايا التي يحكم بها الوهم الانساني في أمورٍ غير محسوسة، كقولنا: هذا ميتٌ، وكلُّ ميتٍ جمادٌ، ينتج: هذا جماد. وتسمَّى سَفْسَطة.

والغرض من تأليف المغالطة: تغليط الخصم ودفعهُ، والفائدة العظيمة فيها معرفتها للاحتراز عنها.

(وَالْعُمْدَةُ) أي ما يُعتَمد عليهِ من هذه الصناعات الخمس (هُوَ الْبُرْهَانُ لاَ غَيْرُ) قيل في قوله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ الآية، أن الحكمة اشارةٌ إلى البرهان، والموعظة الحسنة إلى الخطابة، وجادلهم إلى الجَدَل، فيكون كلٌّ من هذه الثلاثة مُعتَمدًا عليهِ في الدعوة إلى سبيل الحقّ، لكن بالنسبة إلى نفس المستدلّ العمدة هي البرهان فقط، إذ بهِ يُتَوصَّل إلى تحقيق الحقائق، وتدقيق الدقائق، وبهِ يُتَوسَّل إلى إدراك الصُوَر القدسيَّة، والأحكام النبويَّة، ولهذا خصَّ المصنّف العمدة بالبرهان فقط.

(وليكن هذا آخر الرسالة) الاثيرية في المنطق.

قال جامعهُ - الفقير إلى رحمة ربّهِ القدير - محمود بن حافظ حسن المغنيسي، عاملهما الله تعالى بلطفهِ الخفيّ والجليّ: وليكن هذا آخر ما أردنا جمعهُ من الشروح والحواشي إعانةً للطالبين، وصيانةً للراغبين، جعلنا لله تعالى وإياكم من الطالبين الصادقين، وحشرنا وإياكم في زمرة السعداءِ والصالحين، والحمد لله ربّ العالين وصلَّى الله تعالى على رسولنا محمد وآلهِ الطيّبين الطاهرين.
انتهى.