مفيد العلوم ومبيد الهموم/خطبة الكتاب


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي ما للعالم سواه خالق وصانع ولا له عما يريد مانع ودافع وكل عزيز على بابه بالذل خاشع وكل سلطان لسلطنته خاضع متواضع لا وضيع إلا وهو له واضع ولا رفيع إلا وهو له رافع ولا متبوع إلا وهو في حكمه تابع وما سواه للبلاء عن الخلق دافع ولا شريك له ولا منازع الخير والشر بتقديره لا بتدبير الطوالع والنفع والضر بقضائه لا باقتضاء الطبائع الجماد والحيوان له مطيع وسامع والسلطان والرعية له ساجد وراكع وهو للكل بالموت قامع ثم ليوم الحشر حاشر وجامع وحقًا ثم حقًا إنما توعدون لصادق وإن الدين لواقع وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سراجه لامع وسيفه قاطع ودينه جامع وهو لأمته شافع فصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أبي بكر الطائع وعمر القانع وعثمان الساجد والراكع وعليّ الذي بيده باب خيبر قالع وسلم تسليمًا كثيرًا

(هذا) وقد شهد سلطان العقل وقضى به حاكم الشرع أن العالم من العرش إلى الثرى مرآة مجلوة للناظرين وآية كاشفة للمتبصرين وكل من ينظر فيها يرى أن الصانع رب العالمين وفي أنفسكم أفلا تبصرون فجواهر العالم تناجي وأجسامه تنادي بلسان الحال فهو أفصح من لسان المقال هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه فجوهر يقول هل من خالق غير الله وجوهر ينادي صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ولقد أصاب لعمر الله صاحبنا المطلبي في المعنى رضي الله عنه حيث قرأ صبغة وجوهر ينطق ويقول رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلًا وذوات العالم تنادي أنفسها وذواتها شهدت شهادة لا شك فيها بأن الله تعالى ليس له شريك أشهد لو نظر واستبصر أهل التلحيد لوصلوا الى حقيقة التوحيد.

فيا عجبا كيف يعصي الاله
أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية
تدل على أنه واحد

فالدلائل الصامتة والناطقة شاهدة بوحدانيته ولكن الارادة الأزلية فرقت بين المؤمنين والكافرين أنعمت على قوم بالمعرفة والايمان وخصصت قومًا بالخذلان والحرمان وأخبر القرآن القديم فقال: ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ.

أتاك المرجفون برجم غيب
على دهش وجئتك باليقين

ولقد وفق الله أهل الحق من بين البرية وخصهم بهذه الهدية وأكرمهم وعظمهم بالاسلام والسنة والتوفيق والعصمة فعرفوه وعظموه وقالوا جهلوك فجحدوك ولو عرفوك لعبدوك فنادوا هلموا فلله الحجة البالغة حجة العقل فانظروا في وجود الحوادث أولًا ثم انظروا في حدوثها ثانيًا واستدلوا بحدوثها على قدم محدثها ثالثًا واذكروا من الدلائل قليلًا كفى بذلك جملة وتفصيلًا استدلوا بالتغيرات على المغير وبالحركة والسكون على حدوث العالم واعلموا أن لنا ربًّا قوام الأشباح بنعمته وبقاء الأرواح والأجسام برحمته ونحن حيرى في كنه عظمته فأصبحوا وغايتهم العجز والاذعان وجهرهم الأمان الأمان يا مزيل الدول والزمان يا من كل يوم هو في شان يا مقلب القلوب والأبصار احفظ علينا نعمة الايمان واعصمنا من البدع والكفر والطغيان فاعتقادنا ومكنون فؤادنا هذه الكلمة ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.

ما شئت لا ما شاءت الأقدار
فاحكم فأنت الواحد القهار
غيره أبا هند فلا تعجل علينا
وأنظرنا نخبرك اليقينا

يا هذا عميت عين لا تفوز بالنظر الى صنع الله وخاس عقل لم يحتط من حكمة الله وخذل عبد لم ينظر في صنع الله وخاب امرؤ لم يتذكر بأيام الله وخاب الكافرون وخسر المبطلون وضل المتفلسفون وهلك الملحدون فبأي حديث بعده يؤمنون. فالأرواح نوازع والنفوس جوازع والأسرار ضوائع فبم التعلل وحتام التمهل وما هذه لدعوى وعند الصباح يحمد القوم السرى فطوبى لعبد جعل التوحيد سمير فكره ونجّي قلبه ومطية سيره الى ربه فان قدر الآدمي بالدين القويم والهدي المستقيم والنجاة في التوحيد لمن يعتقده وقيمة كل امرىء ما يحسنه ومن ألبس سربال الاسلام فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر الا أولو الألباب فيا لها نعمة على جسد فهو ملك أعطى النعمة الكبرى والفضيلة العظمى فله عز في عز ودولة في دولة فالأمر أمره ولله دره فما أعظم قدره تذكر.

هنيئا لأرباب النعيم نعيمهم
وللمفلس المسكين ما يتجرع

ومن سلب ثوب ايمانه واتهم في نبيّ زمانه فحق له البكاء فقد بطل وجوده ورب السماء فيعيش بين الورى كما قال تعالى: ﴿ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ فالنعمة نعمة الدين والدولة للمسلمين والعاقبة للمتقين قال مالك بن برهة بن نهشل المجاشعي سيد وفد بني تميم يا رسول الله ألست أشرف قومي فقال إن كان لك عقل فلك فضل وإن كان لك خلق فلك مروءة وإن كان لك دين فلك شرف، وإن كان لك مال فلك حسب وإلا فأنت والحمار سواء فالمعاصي في جنب التوحيد تتلاشى وكل الصيد في جوف الفرى هذا وقد علم كل عاقل منصف وفاضل متصف أن الدنيا دار قلعة والحال حال خدعة والعمر كما ترى مار بسرعة فالدنيا حلم والآخرة يقظة والمتوسط بينهما الموت ونحن في أضغاث أحلام فما هي لعمر الله إلا أنفاس معدودة وآجال محدودة وآمال ممدودة فكل نفس خطوة وكل خطوة ميل وكل شهر منزلة فرسخ وكل سنة منزلة فإذا بلغ الأجل فقد بلغ المنزل فإذا خطيب ينادي:

فألقت عصاها واستقر بها النوى
كما قر عينًا بالاياب المسافر

فالعاقل يأخذ من نفسه لنفسه ويقيس يومه بأمسه فأن مدة العمر قليلة وصحة الجسم مستحيلة والدهر خائن والمرء لا محالة حائن وكل ما هو آت فكائن وكل يوم يسوق إلى غده وكل امرء مأخوذ بجناية لسانه ويده مسكين ابن آدم انقطعت مسرته يوم قطعت سرته فؤاده طالب وهو مطلوب وجميع ما له مسلوب شبابه إلى هرم وسلطانه إلى اتضاع وماله إلى ذهاب وصحته إلى سقم وحياته إلى ممات متصل ذلك بعضه إلى بعض اتصال الليل والنهار والشتاء والصيف أحسن بامرء غرته الدنيا هل يبلغن مغرور منها إلا خرقة وكسرة أن كسرى لم يزد على أن تشاغل بما أوتي عن إخوته فجمع لزوج امرأته أو زوج ابنته أو امرأة إبنه أو لعدو خارق إن في ذلك لآيات فهل من مدكر وهل من عاقل معتبر ينظر إلى حوادث الزمان وعواقب السلطان فالعقل يدعو إلى الاعتبار والحكمة تحث على الاستبصار الساعات تهدم الأعمار ومنادي الشرع ينادي الاعتبار الاعتبار فاعتبروا يا أولي الأبصار.

نسير إلى الآجال في كل ساعة
وأيامنا تطوى وهن مراحل
ولم أر مثل الموت حقًا كأنه
إذا ما تخطته الأماني باطل
وما أقبح التفريط في زمن الصبى
فكيف به والشيب في الرأس شامل
ترحل من الدنيا بزاد من التقى
فعمرك أيام تعد قلائل

ونقل أن بعض الملوك نظر إلى ملكه فأعجبه ذلك فقال: إنه الملك لولا أنه هالك وإنه لسرور لولا أنه غرور وأنه ليوم لو كان يوثق بغده فأبلغ العظات النظر إلى محل الأموات فعواقب الأمور فوات وكلنا يا صدر الرؤساء أسراء العبر والممات والمنزل الذي يستوي فيه العبيد والسادات انظروا يمنة ثم اعطفوا يسرة هل ترون أحدًا من الرجال والنساء أخذ قبالة البقاء بخطوط مسابح السماء.

عجبًا عجبت لغفلة الانسان
قطع الحياة بغرة وتوان
فكرت في الدنيا فكانت منزلًا
عندي كبعض منازل الركبان
مجرى جميع الخلق فيها واحد
وكثيرها وقليلها سيان
أبقي الكثير إلى الكثير مضاعفًا
ولو اقتصرت على القليل كفاني
لله در الوارثين كأنني
بأخصهم متبرم بمكان

(هذا) وقد ساقني تقدير الله إلى جمع كتاب وتهذيب علم وترتيب قواعد وترصيع عبارات وإيراد إشارات هو ذخيرة السلطان ويتيمة الزمان ونزهة الاخوان من قال جامع سفيان فقد صدق ومن قال نادرة الزمان فما أغرب فلا غرو وللشمس أن تشرق وللبدر أن يتألق يغازل فيه الشاميون العراقيين وينافس به العراقيين الخراسانيون وكل به متنافسون ولذلك فليتنافس المتنافسون عمري من كان له هذا الكتاب لا يضيق صدره أبدًا ويعرف به قواعد الشرع وقانون الممالك ونصرة المذهب ورد الخصم وتذكر الآخرة وقاعدة العدل وعاقبة الأمور ونذير العدو إلى غير ذلك وأنفقت فيه شطرًا من صالح عمري (وسميته) مفيد العلوم ومبيد الهموم ورتبته على اثنين وثلاثين كتابًا وهي: