مقالة فيما بعد الطبيعة

​مقالة فيما بعد الطبيعة​ المؤلف أبو بكر الرازي


Wikipedia logo اقرأ عن مقالة فيما بعد الطبيعة في ويكيبيديا، الموسوعة الحرة
بسم الله الرحمن الرحيم

قال: زعم ارسطو طاليس ومَن فّسر كتبه في المقالة الثانية من السماع الطبيعي أنّ الطبيعة لا تحتاج دليل لظهورها واعتراف الناس بها وإقرارهم بوجودها. وزعم مَن شاهدنا من الفلاسفة أنّ الدليل على وجودها أفعالُها وقواها المنبثَّة في العالم الموجِبة للأفعال. كذهاب النار والهواء من المركز وذهاب الماء والأرض إليه، فيُعلم أنه لولا قُوى فيها أوجبت تلك الحركات وكانت مبدأ لها توجد فيها. وكذلك قالوا فيما يوجد في النبات والحيوان من قوة الغذاء وقوة النموّ فأما قولهم انهم لم يدلوا على وجود الطبيعة لإقرار الناس بها، فالشيء لا يصحّ لإقرار الناس به كما لا يفسد لاختلافهم فيه. ولو كان حقّاً لإقرار مَن أقرّ به لكان فاسدا باطلا لامتناع مَن امتنع منه، فيكون الشيء فاسداً صحيحا في حالٍ وباطلًا حقاً في حال وهذا محالٌ. ويقال لهم لِمَ زعمتم أنّ الطبيعة لا تحتاج إلى دليل وقد خالفكم في وجودها قوم من الفلاسفة القدماء وما وما رأيتم إن قال خصماؤكم انهم لا يحتاجون على قولهم انه لا طبيعة إلى دليل؟ وإنما لا تحتاج إلى دليل الأشياءُ المشاهَدة وأوائل البرهان العقليّة وليس الطبيعة بمحسوسة ولا العلم بها أوّل في العقل.

وأمّا استدلالهم بالقُوى التي ادّعوها فيُقال لهم ما أنكرتم أن يكون الله جلّ وعزّ هو الموجِب بذاته لقوى سائر الأفعال ولطبائع الأشياء؟ وإن لم نَقُلْ بنسق قولكم في الطبيعة فتكون له لا لها. ويقال لهم إن كانت حركة الأشياء وسكونها بطبيعة واحدة كحركة الحجر وسكونه ونمو الإنسان ووقوفه فقد صارت الواحدة توجب شيئين متضادين وهذا محال. وإن قالوا إن تحرُّك الأشياء بقوة أخرى، قيل فيجب أن تكون هذه الحركة قد بطلت من الساكن، وإذا جاز أن تبطل جاز أن تبطل أيضا قوة السكون وجاز أن تبطل الطبيعة من الأشياء. وإذا جاز أن يتحرك الحجر ويسكن بقوتين فما أنكرتم أن تبرد النار وتسخن بقوتين تردان عليها؟. فإن قالوا إنّ قوةً في الأرض بها تحركت نحو المركز لم تكن أولى بذلك من النار، قيل لهم فانفصلوا ممن زعم أنه لولا أن قوةً في جرم الأرض بها قبلت القوة التي فيها جاز أن تحلها القوة الذاهبة بالنار عن المركز وقد أدخل يحيى النحوي على نفسه في حد الطبيعة إدخالات وأجاب عنها جواباً فاسدا وهو أنه لما زعم أن الطبيعة ابتداءُ حركةٍ والفلك متحرك وليس بساكن فزعم أن جملة الفلك ساكنة لأنه لا يتغير عن حركته وأنه لا يتنقل عن جملة موضعه. يقال له فقد صار الفلك متحركا وهذا محال، فإن لم يكن قول القائل إن جسما واحدا أسود أبيض في حال محال. ويقال له إذا كانت أجزاء الفلك كلها دائمة الحركة والكل ليس غير الأجزاء فالفلك متحرك غير ساكن. وكذلك السؤال عليه في قوله إن الأجرام السماوية في نهاياتها فلذلك هي ساكنة، وليس في عودتها إلى نهاياتها مع دوام حركاتها ما يدل على سكونها، ولو كانت واقفةً في نهاياتها لجاز هذا القول فأما زعمهم أن الطبيعة جوهر إلا أنها غير قائمة بنفسها، فيقال لهم لِمَ لا زعمتم أن الأعراض جواهر وهي لا تقوم بأنفسها؟

فأما قول يحيى النحوي أن الطبيعة قوة تنفذ في الأجسام وتدبرها، فيقال له هل تخلو الطبيعية إذا كانت جوهرا من أن تكون تنفذ في كل الجسم فيشيع جوهر في كل الجسم؟ وإذا جاز هذا فما تنكر من كون جسمين في حال؟ فإن قال ليست في كله، أبطل قوله ووجب أن بعض الجسم لا طبيعة فيه. وهذا خلاف قولهم.

ومما يسألون عنه أن يقال لهم: إنا وجدناكم تصفون الطبيعة بما تصفون به الحي المختار العالم الحكيم فتقولون إنها لا تفعل إلا حكمة وصوابا وإنها تقصد غرضا وتفعل شيئا لشيء يكون، كفعلها للجنين العين للنظر واليد للبطش والأضراس للطحن وإنها تضع جميع الأشياء مواضعها وترتبها على ما يجب أن ترتبها عليه وإنها تصور الجنين في الرحم وتدبِّره ألطف تدبير حتى يكمل ثم تدبر الإنسان وتجلب له الصحة وتنفي عنه الأسقام حتى قال بقراط الطبائع أطباء الأمراض. ثم زعمتم مع ذلك أنها موات غير حية ولا حساسة ولا قادرة ولا مختارة ولا عالمة. وهذه مناقضة بينة وإحالة ظاهرة لأن ما وصفتموها به لا يكون إلا من الحي المختار. ولو أن قائلا قال آخذ حجرا فقال هذا الحجر ليس بحساس ولا متحرك من نفسه ولا يجوز منه تعقل ولا تعلم ولا قدرة ولا إرادة وهو مع ذلك حي، لعلمنا أنه قد ناقض في قوله ووصف الشيء بغير صفته. فكذلك حكمكم في وصفكم الطبيعة بما وصفتموها به مما لا يكون إلا للحي المختار، ثم زعمتم أنها موات غير مختارة. ويقال لهم إذا جاز أن تفعل الطبيعة ما وصفتم ويكون عنها ما ذكرتم وهي موات فلم لا يجوز أن تختارها وتقصدها مع العلم بها وتريدها وهي موات؟. ويقال لهم كيف يكون الموات حكيما ولا يكون مميزا وناطقا ومحسا، وكيف يأتي الترتيب والنظر من غير المميز الحي؟

ويقال لهم أخبرونا عن الغضب والرضى والكراهية والإرادة والحب والبغض هل تقولون إنها من أفعال النفس؟ لا وجعلوها للطبيعة فقد أبطلوا أفعال النفس وجعلوا الطبيعة علة الأفعال التي لا تقع إلا من الحي المختار كما جعلوها علة ما يقع عليه الطبع. وإن قالوا نعم قيل لهم وكذلك ما وصفتم من الأفعال لا يجوز أن يكون للطبيعة ويقال لهم ما أنكرتم من أن تكون الأعراض تفعل حكمة وصوابا وتكون قاصة لغرض؟ فإن مضوا على ذلك ازدادوا تجاهلا، وإن امتنعوا منه قيل لأي علة امتنعتم من ذلك فإنا نجد مثلها في المؤلف لا يفعل ذلك ويقال لهم أيجوز أن يكون بناء دار وتأليف مدينة بطبيعة لا من حي قادر؟ فإن قالوا لا قيل لهم وكذلك تركيب بدن الإنسان لا يكون إلا من حي قادر. ويقال لهم ما أنكرتم من أن يكون الإنسان للنفس المنطقية دون الطبيعة وتكون القوى المنمية والمغذية لها دون الطبيعة؟ ونعكس قولكم فنعطي النفس ما للطبيعة كما أعطيتم الطبيعة ما للنفس المنطقية ويقال لهم إن أكثركم أنكر علينا أن الله جل وتعالى ركب الإنسان والله حي قادر - لأنهم زعموا لم يشاهدوا ولا يعقلوا حيا ركب حيوانا - وزعمتم أنتم أن الذي ركبه موات عاجز ويقال ما أنكرتم من أن تخترع الطبيعة الأجسام؟ فإن قالوا اختراع الأجسام غير معقول، قيل لهم فانفصلوا ممن زعم أن تركيب شئ من الأجسام لهذا الإنسان غير معقول فقد قال بذلك جماعة ممن جحد البارئ عزَّ وجلّ والطبيعة التي تزعمون فإن قالوا فما وجدناه في المؤلف والحيوان من المنافع التي ما تخيلناها ولا عرفنا شيئا منها يدل على أن الطبيعة فعلت ذلك، قيل لهم وما تنكرون من أن يكون البارئ فعل ذلك؟ على أنكم قد وصفتم الطبيعة بكثير من وصف البارئ، لأنكم زعمتم أنها جوهر لم يزل ليس بجسم وأنها لا تستحيل ولا تتغير ولا يلحقها كون ولا فساد وأنها تدبر الكل وأن أفعالها حكمة وصواب، وإنما خالفتم بينها وبينه بتصييركم إياها في الأشياء المطبوعة غير مفردة ولا قائمة بنفسها ويقال لهم قد وجدنا الإنسان الشخصي عندكم يفسد، فمن المحال أن لا تفسد الطبيعة التي فيه والاسطقسات التي عنها يكون الحسد، والفلك كذلك وسندل على أنه يكون ويفسد في غير هذا الموضع وأما قول أرسطوطاليس أن الطبيعة ألهمت بالحكمة من قبل النفس وهي مبثوثة في العالم فإنه كلام خرافي، ونحن ننقضه في باب وأقاويل الفلاسفة فيها. ومن زعم أن في الموات نفسا فقد جحد الضرورة ويقال لجالينوس إنك وصفت الطبيعة بوصفين متضادين فقلت وإنما فعلت الطبيعة ذلك - يعني الأسنان والفم - تعمدا، ثم قلت إن الحركة الإرادية من أعمال النفس، والعمد لا يكون إلا للنفس كما أن الإرادة لا تكون إلا للنفس. وقلت إن الطبيعة تدُبِّر الحيوان، وهذا معكوس وإنما الحي هو الذي يدبر الطبيعة فيحمى مرة ويأخذ ما يراه من الأدوية مرة. ولو جاز أن يدبر الموات الحي لجاز أن يأمره وينهاه.

وأما زعم الاسكندر أن أفعال الطبيعة فوق الأفعال التي تكون بالصناعات، فيقال له وكيف تكون الأفعال العجيبة العالية الشأن للموات العاجز وتكون الأفعال التي هي دونها للحي القادر المختار؟.

وناقض فرفوريوس في قوله أن الطبيعة تفعل بغير عقل ولا فكر ولا إرادة وليس تفعل بالاتفاق وقد تفعل شيئا من أجل شيء. لأن هذا لا يكون إلا من العاقل المميز المريد.

ولم أر أحدا منهم أطلق عليها لفظ الاختيار إلا ما حكاه يحيى النحوي عن فلوطينس. فإن كان هذا قد جعلها مختارة وهي مواتٌ فقد بلغ الغاية في المناقضة وقد استدل فرفوريوس وغيره في المقالة الثانية من سمع الكيان على أن الطبيعة إنما تفعل ما تفعل لغرض ومن أجل شيء من الأشياء. فإن قال إن الطبيعة أجل من المهنة وأعظم قدراً كما أن الإنسان الحي الذي هو طبيعي أجل قدراً من الإنسان المصور، قال وإذا كان كذلك وكان صاحب المهنة يفعل ما يفعل من أجل شيء ما فكذلك الطبيعة إنما تفعل ما تفعل من أجل شيء ما لا تجئ بالحبط والاتفاق، فيقال له أليس صاحب المهنة إنما يفعل من أجل شيء ما وهو حي قادر مريد مفكر عالم لما في الشيء الذي يقصده ويفعل من أجله من المنفعة؟ فلا بد من نعم، يقال له أفكذلك الطبيعة؟ فإن قال نعم نقض قوله، وإن قال لا فقد خالف موضوعه مثله. وقيل له ما تنكر من أن تكون المهنة يفعل ما يفعل بها لغرض ما ومن أجل شيءٍ ما ولا تكون الطبيعة كذلك؟ ويقال لهم إن المهنة عندنا لا تفعل شيئا ولكن ذا المهنة هو الذي يفعل لأن الفاعل هو النجار والبناء لا البناء والنجارة، والنجار والبناء حيّان وهما أعلى من الطبيعة الموات. وإذا كان الإنسان الحي هو الفاعل فهو الطبيعي عندكم فكأنكم قستم الشيء على نفسه واحتجوا أيضا ببناء الخُطّاف لوكره والزنابير لبيوتها وبآثار الحكمة في ذلك وأنها فعلت ذلك لغرض ما وأن فعلَها ذلك بالطبع. فيقال لهم إنكم تخالفون في ذلك لأن فعل هذا الحيوان ليس هو بالطبع لأن الحي لا يفعل بالطبع، وإنما المطبوعات كالنار وما جرى مجراها، فكيف يكون أمثال هذه بالطبع ولها أفعال مختلفة كالطيران إذا احتاجت إليه والسكون إذا تعنت واستغنت عن الطيران وكاختيارها كل شئ مما يغذيها دون غيره وتخيرها لأوكارها المواضع العالية الكنينة. ولكن الحيوان وإن كان غير مطبوع فله اختيار ما وتمييز وإن لم يكن له كل التمييز ولا يبلغ منزلة العقلاء بعد. فهذه حية فاجعل الطبيعة حية وإلا فقد خالفت حكم ما استشهدت به، فأرنا في الطبيعة وقصدها مثالا من الأشياء الموات كحرارة النار وهوى الحجر وإلا فدع التلبيس. فإن قالوا إن الطبيعة تدبر تدبيرا طبيعيا وتقصد وتفعل قصدا وفعلا طبيعيا، قيل لهم انفصلوا ممن زعم أنها تختار اختيارا طبيعيا وتؤثر شيئا على شئ إيثارا طبيعيا وأن النار تحرق إحراقا اختياريا. وهذا يتم وليس يجوز أن يفعل ويقصد ويريد ويؤثر إلا المختار الحي، والمطبوع الموات لا يوصف بذلك وأما زعم من زعم أن الطبيعة لا تفعل ولا تقصد وأنها ابتداء حركةٍ فيقال له ما تريد بابتداء حركةٍ وسكون؟ أتريدُ أنها إذا كانت حدثت الحركة والسكون والنمو والغذاء وترتبت الأشياء ووضعتها مواضعها ووضع شيء لشيء بها ومن أجلها؟ فقد وافقت القوم في المعنى وخالفتهم في الاسم. وإن أردت أن ما يحدث ليس بها ومن أجلها تركت القول بالطبيعة وأما ما حكي عن أنطيفن أن العنصر وحده هو الطبيعة فإن الكلام عليه في فعله كالكلام على من أثبت الطبيعة، لأنه مواتٌ تحدث فيه ومنه الأشياء لا بمحدث حي ولا بفاعل حكمةٍ واستدل مَن زعم أن الطبيعة غير حكيمة ورام بذلك إبطالها وأنها تفعل لا بقصدٍ ولا ترتيب بأنها موات وبما نشاهد من العاهات في أبدان الحيوان ومن نقصان أعضائهم وحواسهم، ومن قرون الأياييل الطوال التي تضر بها وربما نطحتها في أغصان الشجر حتى تُصاد وتتلف، وما يحدث من طول مناقير بعض الجوارح حتى تمنعها من تناول ما تغتدي به، وما في الإنسان من الثديين اللذين لا ينتفع بهما، ومن مجيء المطر في غير أبانه ومجيء البرد والحر في غير أوقاتهما حتى يُفسدان الشجر وسائر النباتات. وهذا داخل على الصنف الذين أثبتوا الحكمة للطبيعة. وقد زعم بعضهم أن ذلك لغلطٍ يعرض للطبيعة واعتذروا لذلك بأن قال يحيى النحوي في المقالة الثانية من تفسيره لسمع الكيان ان هذه الأمور طبيعية وليست بخارجةٍ عن الطبيعة، لأن الذي أوجبته الطبيعة الكلية التي أوجبت الكون والفساد بحركات الكواكب وتغيير العناصر مما توجبه بنية العالم. ولم تغلط الطبيعة الشخصية التي هي لكل واحد من هذه الأنواع، وإنما منزلتها منزلة الصانع الذي إذا فسدت عليه الأشياء التي يعملها فصنعها على أحكم ما يمكنه ووقع فيها فساد لم ينسب إلى غير الحكمة، كالخشبة ذات العقد والفساد الذي لا يمكن النجار الحاذق من صنعتها كرسياً جيداً وسريراً مستوياً. قلنا فلن يخلو ذلك من أن يكون بغلط من الطبيعة الكلية أو ليس بغلط. فإن كان بالغلط منها فقد صارت الطبيعة الكلية تغلط وتفعل الفساد لعلةٍ من العلل وهذا خلاف قولهم.

وإن جاز أن تغلط الطبيعة الكلية جاز أن تغلط الطبيعة الشخصية ويؤول الأمر إلى ما قال هؤلاء. وقال بعضهم إنما حدث لشيء في الهيولي يعوق الطبيعة عن تصويره على ما يحب فيقال لهم إنما زدتمونا دعوى أكدتم بها دعوى. ويقال لمن زعم أن الطبيعة تفعل بغير قصد فكيف زعمتم أن تركيب الإنسان من فعلها، وكيف يقع مثل هذا من غير قصد؟ بل يجب على حسب ما أعتللتم به أن تكون الطبيعة تُخطئ وتصيب وقد سألنا الجميع في الطبيعة بما فيه كفاية. فأما ما حكينا عنهم في الطبيعة وقول بعضهم إنها فوق الفلك وقول الأُخر إنها دونه فهو خلاف فيما بينهم وقد بيّنا في قوليهما حجتيهما ويقال إنّ الجنين يتصور - زعمتم - بطبيعته، وطبيعته هي صورته التي بها يتكون وينمى. فإذا كانت طبيعته هي التي تصوره فقد صار المصور هو المصور. ولو جاز ذلك جاز أن يكون المؤلف هو المؤلف وقد كان أبو هلال الحمصي المترجم لكتب اليونانيين زعم أن هذا العرض إنما هو في الرحم ولكنه يخرج من الرحم فيداخل النطفة ويصورها كما تخرج من حجر المغناطيس قوةٌ تجذب الحديد. وإنما قال ذلك هرباً من أن يقول إن المصور هو المصور. قيل أفليس حجر المغناطيس قد يفعل ذلك عندكم وبينه وبين الحديد فُرجة وحاجز؟ فلا بد من نعم. يقال له فكذلك يجوز أن يكون الرحم والنطفة؟ فإن قالوا نعم تركوا قولهم، وإن قالوا لا خالفوا بين موضوعهم ومثله. ويقال إن تصور الفرخ في البيضة بمنزلة تصور الإنسان في الرحم، فأي قوةٌ فيكون عنها أشياء مختلفة كالسمع والبصر وغيرهما وجوهر الرحم جوهر واحد؟ ويقال له لِمَ لا تقول أن قوةً تخرج من الأُم دون الرحم ومن الهواء ومن الزمان أو من غير ذلك؟

وأما مَن زعم من أهل الدهر أنّ في المني قوةً تصور الجنين إما منه وإما من دم الطمث فإنهم استدلوا على صحة ذلك بأن المني إذا لم يكن في الرحم لم يكن جنين، فيقال لهم ولو كان بكون المني يكون الجنين فقد يكون في الرحم وتتم له الشهور ولا تجد المرأة علةً ولا يكون الجنين، فلسنا نرى وجود المني إلاّ بمنزلة عدمه. ويقال لهم ما يدريكم لعل في الرحم تصور الجنين في المني؟ وهذه ظنون الاستدلالات وأما زعم من زعم منهم أن في الرحم قالبا يتصور فيه الجنين فإنهم قالوا: لا بد للمصور من مصور يلامسه يعانيه أو تقذف النطفة في قالب تتصور فيه، فلما لم يكن في الرحم من يعاني ويلامس ولا يتهيأ ذلك لو أراده مريد في ظلمة الرحم وامتناع التي هي النطفة ثبت أن النطفة تقذف في قالب. فيقال لهم فهل شاهدتم طينة تقذف في قالب فتأتي بعد قذفها مدة طويلة؟ فإن قالوا نعم أكذبهم الوجود، وإن قالوا لا قيل لهم فما أنكرتم من أن تكونوا لم تشاهدوا مصورا إلا بمؤاتاة، وقد يجوز أن يصور مصور لا بمؤاتاة. ويقال لهم نرى النطفة جوهرا متشابه الأجزاء كالذهب والفضة والنحاس إذا صب في قالب اختلفت صورتها لأن جوهرها وجوهر الإنسان مختلف ففيه عظم ومخ رطب وعين دراكة وجلد يمنع من الإدراك. ويقال لهم وكيف ذهبت العين إلى موقعها دون أن تنزل عن موضعها ويكون في مكانها بعض جسد الإنسان؟ وكذلك السؤال عليهم في سائر الأعضاء المرتبة في موضعها. ويقال لهم اعملوا على أن في الرحم قالبا فيه يتصور الجنين، فهل في البيضة قالب يتصور فيه الفرخ؟ فإن قالوا نعم أكذبهم الوجود، وإن قالوا لا فكيف يتصور؟ ويقال في تصور النبات والشجر مثل ذلك. ويسألون عن الحيوان الموجود في الأرض من الحشرة ما السبب في تصورها؟ وبعد فإن جالينوس قد عني بأمر التشريح وكان يدعي فيه دعاوى ولكن مؤكدا للقول بالدهر. ويقال لهم هبنا لا يمكننا تشريح أرحام النساء، قد نشاهد أرحام الغنم وأجوافها فلسنا نرى من ذلك شيئا وكيف تصورت الأجنة فيها فإما ما حكاه جالينوس عن بقراط من أن مقام المني مقام الفاعل والمفعول وقول أرسطوطالس إنه يعطي الدم منه الحركة ويستحيل وقول جالينوس إنه يكون من المني، فما رأيته في كتاب المني حكى عن بقراط ولا عن نفسه فيه حجة بل ادعى وتحكم وهذى وخرف، وأكثر ما رأيته قال في ذلك إن المني إذا خرج من الرحم لم يكن الجنين وإن المني جوهر مبني ملتئم الأجزاء يصلح للتمدد. وهذه دعوى ادعاها وقد خالفه فيها أرسطوطالس. والذي نجده أن المني قد يكون في الرحم فلا يتكون منه ولا بحركته جنين. وفي ذلك إكذاب قولهم إنه عنه أو كان الجنين. وأما صلاحه للتمدد فما هو إلا بمنزلة البصاق والمخاط والدم وليس في هذا دلالة. وأما ما قاله بعد ذلك من أن العروق تمدد بالدم والشريانات بالروح، فيقال له ما الدليل على ما ادعيته في الظلمات التي لا تقع عليها المشاهدات؟ وأما قوله إن الجنين بمنزلة النبات فإنه أراد أن يقربه عند نفسه مما يدعيه بعض الناس أن النبات من الطبيعة، فالدلالة على أن الجنين والنبات جميعا ليسا من الطبيعة دلالة واحدة. وشئ آخر وهو أن النبات لا يفارق بطبعه عندهم الموضع الذي نشأ فيه حتى يقطعه قاطع أو يقلعه قالع، والجنين ليس كذلك لأنه يفارق موضعه من غير مزعج أزعجه. ووجه آخر وهو أن النبات منذ يكون إلى أن يفسد لا بد له من مكان متصل به وكائن فيه ومستقى منه ولا يجوز أن يكون كاملا قائما إلا كما وصفنا، والحيوان أجمعه يكون تام الصورة كامل المعنى وإن فارق الرحم التي كان فيها. وأكثر النبات إذا قطعت رؤوسه نمى وكمل ومنه ما تقطع أغصانه وأطرافه فينفعه ذلك ولا يضر به، وليس كذلك الإنسان. فإن كان نباتا لأنه فيه حالا تشبه النبات فمحال أن يكون غيره لأن فيه خلالا كثيرة لا تشبه النبات فأما ما حكاه جالينوس عن أنباذ قلس من أن أجزاء الإنسان منقسمة في مني الذكر والأنثى فلا فصل بين هذا القول وبين من قال إن أجزاء الولد من أحدهما أو منهما منبثة في رحم المرأة وإن مني الرجل يجمعها وإنها منقسمة في الأغذية أو الهواء، وهذه كلها دعاوى لا برهان عليها. وأما من زعم أنه يخرج من أعضاء الإنسان أجزاء لطيفة فيها من جنس كل عضو من أعضاء بدن الإنسان فيقال لهم لو كان هذا على ما يزعم هؤلاء لوجب أن يكون ولد الأعمى أعمى وولد الأعور أعور وولد المقطوع اليد لا يد له وليس الأمر كذلك.

واستدل من زعم أن لا نهاية لأجسام العالم من أقطاره بأن قالوا إنا لم نشاهد جسما إلا وبعده ذراع من أي ناحية قصدنا إليه. فيقال لهم أخبرونا عن السودان الذين ينشأون في بلادهم هل يجب عليهم أن يقضوا أن لا إنسان إلا أسود؟ فإن قالوا نعم أبطلوا ما نشاهده، وإن قالوا لا أبطلوا استدلالهم. ويقال لهم هل يجب على من نشأ في القرية أن يحكم أنه لا بر إلا ومن ورائه بر؟ ويلزمهم نظير ما ألزمناهم واستدل أرسطوطالس على أنه لا نهاية لحركات العالم بأدلة أحدها أنه قدم فيه أن العالم قديم، وهو قوله إن الحركة إن الحركة إن كانت مبتدئة في زمان فقد بقي الجسم زمانا لا نهاية له غير متحرك ثم تحرك، وإذا كان له محرك قديم حركة فقد استحال أو استحال الجسم الذي حركه، وأيهما استحال فقد كانت حركة قبل أن تكون حركة. ولو أعطينا أن الجسم لم يزل لوجب أن يتحرك ويسكن ولكن هذا مما نمنعه إياه. وقولنا إن الجسم والحركة جميعا حادثان، وقد أفسدنا قبل هذا الموضع أن يكون البارئ جل وعز ذا فعل أن لم يفعل فقد استحال. وهذا الدليل ذكره في سمع الكيان في المقال الثامنة منه.

واستدل أيضا على أن الحركة لم تزل بأن الزمان عدد حركة الفلك أو حادث عنها، ولو حدث الزمان لكان قبل حدوثه زمان لأنه لا بد لمن أثبت حدثه من أن يقول كان بعد أن لم يكن، والقبل والبعد وكان بعد أن لم يكن أدلة على الزمان. فإذا قال قائل كان الزمان بعد أن لم يكن فقد أثبت زمانا قبل حدوثه، وإذا ثبت أن الزمان قديم والحركة قديمة. وهذا دليل استدل به في مقالة اللام من كتاب ما بعد الطبيعة. وهذا شبيه بدليل قد استدل به برقلس، وقد قلنا في مناقضته فيه بما نكتفي به غير أنا نقول أيضا إنا نجيب بغير ما قدرته جوابا ونقول إن الزمان متناه، وقول من قال إنه لا أول له محال وهذا إنما هو تعلق بالشغب في الألفاظ. وقد نقول يوم السبت قبل يوم الأحد، فإن قالوا إن بينهما آنا قيل لهم أو ليس يوم السبت قبل الآن الذي بينه وبين الزمان؟ فلا بد من نعم. يقال لهم فعلى قياس ما استدل به أرسطوطالس يجب أن يكون زمانا معا في حال. ويقال لهم أليس أجزاء الزمان تحدث وتبطل؟ فلا بد على قوله من نعم وإلا كان يوم السبت لم يزل فيجب أن يكون لا يزال. يقال له أفحدوثه وبطلانه في زمان؟ فإن قال لا وهو قوله، قيل له فقد صار الزمان يحدث ويبطل لا في زمان، وهذا نقض قولك. ويقال له إذا زعمت أن الزمن إن كان حادثا فلا بد من أن يكون قبل حدوثه زمان فبأي شئ تنفصل ممن زعم أن المكان إن إن كان موجودا في العالم فلا بد من أن يكون في مكان، فيبطل هذا القائل المكان أو يكون كل مكان لا إلى نهاية؟ ومما يستدل به أيضا على قدم الحركة بأن زعم أن حركة الفلك دورية، وإذا كانت دورية فلا ابتداء لها ولا انتهاء. وقد نقضنا هذا فيما أتى به ابرقلس وأذكر ما به هاهنا وقد زعم ثابت بن قرة أن حركة الفلك حركة واحدة لم تزل ولا تزال وأنها إنما تكون حركات على قدر ما نتوهمه ونعلمه فيها. وإنما قال هذا هربا من أن يلزمها العدد فيكون إما زوجا وإما فردا ويلزمه فيها مسائل توجب التناهي، فزعم أنها تحدث دائما وسماها حركة تجري - قال - لأنها حركة دائمة، وكيف تكون حركات وليس يفصلها سكون؟ يقال فيجب أن تكون حركته في زمان أرسطوطالس هي حركته في زماننا هذا، ولو جاز هذا لجاز أن يكون زمان أرسطوطالس هو زماننا وهذا تجاهل. بل يجب أن تكون موجودة معدومة. لأن ما مضى منها فليس هو الساعة وما منها الساعة الفلك متحرك به فموجودة، فهي موجودة معدومة وباقية مستأنفة إذ كان منها ما قد مضى ومنها ما يستأنف. ويقال له لِمَ زعمت أن حركة الفلك حركة واحدة؟ فإن قال لأنه لا سكون بينها وكل حركة لا يفصلها سكون فهي واحدة، قيل له أليس هي واحدة وإن منها ما قد مضى ومنها ما لم يمض؟ فلا بد من نعم.

يقال له فما تنكر من أن تكون حركةً واحدةً وإن فصلها سكونٌ؟ فإن قال إن قولك ماضٍ وأتى ومضى ولم يمض إنما هو على حسب ما نتوهمه، قلنا لم نسأل عن توهمنا وإنما سألنا عن الحركة وحكمها في أنها واقفة وماضية ومستأنفة لا غير ذلك. ويقال لهم أفر أيتم إن توهمنا في حركة الفلك سكوناً تكون حركتين؟ فإن قالوا نعم قيل لهم وكذلك لو توهمناها جسماً لكانت جسماً؟ فإن قالوا لا قلنا ولا يجب إذا توهمناها ماضيةً أن تكون ماضيةً وإذا توهمناها مستأنفة أن تكون مستأنفة، فأجيبوا عنها في نفسها واتركوا التعلق بالتوهم. فإنا لم نسأل عنه ولا فَرَجَ لكم فيه. ويقال له أخبرنا عنا لو توهمنا الجوهر غير قائم بنفسه والعرض قائما بنفسه والفلك مربعا أو مثلثا أو من الطبائع الأربع أو كائنا فاسدا كان يجب أن يكون ما توهمناه على ما توهمناه؟ فإن قالوا نعم تركوا قولهم، وإن قالوا لا قلنا وكذلك إذا توهمنا حركة الفلك التي هي واحدة في نفسها حركات كثيرة لم يجب أن تكون حركات كثيرة وزعم ثابت بن قرة أن مالا نهاية له قد يكون موجودا بالفعل. وزعم أن له نصفا لأنه - زعم - لا ثلاثة منه مضت إلا وهي نصف لستة ولا خمسة إلا وهي نصف لعشرة، وزعم أنه يزيد وينقص. وزعم أن له نصفا لأن ما يمضي عشرات ولا عشرة إلا وفيها خمسة أزواج، فأما الأفراد فالواحد والثلاثة والخمسة والسبعة والتسعة وأما الأزواج فالاثنان والأربعة والستة والثمانية والعشرة. فيقال له إذا زعم أن مالا نهاية له أو ليس إنما زاد على نهاية يجاوزها ما زاد؟ فإن قالوا لا كابروا، وإن قالوا نعم أقروا بتناهيه. فإن قال الحركات متناهية من إحدى جهتيها وهي الجهة التي تلقى منها، قيل له فتناهيها من إحدى جهتيها من إحدى جهتيها أليس هو تناهي ما لا نهاية له؟ فلا بد من نعم. وإذا جاز أن يتناهى ما لا نهاية له من جهة فلم لا يجوز أن يتناهى من جهتين؟ ويقال له إذا جاز أن يكون ما لا نهاية له يزيد وينقص فلم لا يكون ما يتناهى لا يزيد ولا ينقص؟ ويقال له إن كان لما لا نهاية له نصف على الوجه الذي وصفت فازعم أن له طرفين لأن ما مضى منه عشرات ومئون وألوف وهذه كلها أول وآخر وزعم أنه لا حركة بعينها إلا محدثة وجميعها قديم - قال - كما أنه لا حبة من حبات الحنطة إلا ولها شكل وصورة وللكر منها صورة شكل وصورة ليس لكل واحدة منها. فيقال له فأخبرنا عن إنسان لو أثبت كل إنسان بعينه أسود هل يجب عليه أن يقول كل إنسان أسود؟ فإن قال لا تجاهل وقد سألناه عن هذا، فقال نعم قلنا فلم لا يجوز له أن يقول إن كل إنسان بعينه أسود والجميع بيض، ونجعل هذا قياسا بحبات الحنطة والكر؟ فلم يكن عنده في هذا فصل وحكى عن أبي يوسف بن إسحق الكندي أنه كان يزعم أن حركة الفلك واحدة والزمان واحد لم يزل وأن غدا موجود غدا معدوم اليوم وأن اليوم موجود اليوم معدوم غدا وأنهما غير منفصلين في وجود ولا وهم. فيقال له فقد كنا نحن إذن بما نحن أشخاص في زمن بطليموس بل نحن كائنون في الزمان الذي يأتي بعد، وهذا تجاهل. ويقال كيف ندخل نحن في الزمان الذي يأتي أو يأتي هو إلينا حتى نكون فيه والأشياء على مراتبها وليس حدوث؟ ويقال له فيجب على هذا القول أن تكون حركة اليوم هي حركة غدا، وإذا جاز هذا فلم لا يجوز أن تكون حركة الإنسان اليوم حركته غدا؟ وهذا محال كله وتجاهل إلا أن يفهم منه القول بالدهر ويقال لأرسطوطالس ومن يذهب مذهبه في تناهي أجسام العالم وارتفاع النهاية عما مضى من حركاته: إذا كانت لا حركة إلا وقبلها حركة فلم لا تزعمون أنه لا ذراع إلا وبعده ذراع واستدل بعضهم على أنه لا حركة إلا وقبلها حركة بأنهم لم يشاهدوا حركة إلا وقبلها حركة. فيقال لهم أخبرونا عن إنسان دخل على قوم وهم مجتمعون في دار هل كان يجوز له أن يقول إنه لا واحد منهم إلا وهو مجتمع مع صاحبه في تلك الدار لأنه لم يشاهدهم إلا كذلك؟ فإن قالوا نعم تجاهلوا، وإن قالوا لانقضوا علتهم، وكذلك إن قال إن قبل كل حركةٍ حركة.

فأما ما حكاه فلوطرخس عمن زعم من الفلاسفة أن العوالم بلا نهاية فأنه حكى عن مطرود منهم أنه احتج لذلك بأن قال إنه محال أن تنبت سنبلة في صحراء واسعة وكذلك لا يكون عالم واحد فيما لا نهاية. وهذا إنما هي حجة - إن صحت - على من يزعم أن الأشياء لا نهاية لها وأن العوالم واحدة منها عالم واحد. وبعد فقد تكون؟ صحراء فيها سنبل وغير سنبل، فهل يجوز أن تكون عوالم وغير عوالم؟ فإن قال نعم ترك قوله إن الأشياء عوالم لا نهاية لها، وإن قال لا خالف موضوعه وقد سألهم اسطوطالس في المقالة الأولى من كتابه في السماءفي ذلك فقال: ليس يخلو عناصر هذا العالم من أن تكون موافقة لتلك العناصر في المعنى أو في الاسم فتلك النار ليست بمحرقة وكذلك سائر العناصر ليست كهذه، وإنما علق هذا القائل أسماء العناصر على غيرها. وغن كانت في المعنى وكانت نار هذا العالم تذهب عن مركزه فلو توهمنا عالما فوق هذا العالم لكانت النار تذهب إلى مركزه، وهذا خطأ وهو داخل في القسم الأول. فإن قالوا أن كل عالم يذهب عن مركزه يفسد، قيل لهم إن النيران ليس تختلف حركاتها لاختلاف أماكنها فالنار التي في المشرق تذهب عن المركز والنار التي في المغرب أيضا تذهب عنه. ويقال لهم إذا جاز أن يكون في نار هذا العالم مذهب عن مركزه فقد اختلف حكمها، فما ينكر قائل هذا القول من أن تكون نار هذا العالم محرقة ونار ذلك العالم ليست محرقة؟ فأما ما حكاه عن سالوقس فإنه احتج لقوله في أن هذا العالم لا نهاية له بأن قال: إذا تناهى العالم فهل يتناهى إلى شئ أو لا إلى شئ؟ فإن كان إلى شئ فهذا قولي، وإن كان لا إلى شئ فيجوز أن يطابق لا شيئا ويماس لا شيئا كما تناهي لا إلى شئ. فيقال له ما تنكر أن يكون التناهي إنما يكون للشيء نهاية حالة فيه وليس يحتاج إلى غيره؟ والمماسة تقتضي مماسين كما أن المشاركة تقتضي مشاركين قالوا ولو أن واقفا وقف في آخر حد من حدود العالم هل كان يرى شيئا أم لا يرى شيئا؟ فإن كان يرى شيئا فهو قولي، وإن كان لا يرى شيئا فهل يجوز أن يخرج يديه أم لا؟ فإن قال لا قيل فما الذي يمنعه؟ وإن قال نعم قيل فإذا تحركت يده فهل تتحرك في شئ؟ فإن قالوا نعم قيل هذا قولي، وإن قالوا لا قيل لهم فإذا تحركت يده لا في شئ فلم لا يماس شيئا؟ ويقال لمن اعتل بهذا ما تنكرون من أن يكون الرائي إذا توهمنا واقفا على حد العالم لا يرى شيئا إذا كان لا يترائى له؟ وأما ليخرج يده فقد قال قوم أنه لا يجوز ليس لأن مانعا يمنعه ولكن لأنه محال تحركه لا في شئ لأن الحركة قطع لمكان فإذا لم يكن مكان فلا قطع، وقال آخرون إن جاز أن تتحرك يده لا في مكان فجائز أن يبطل المكان وتتحرك اليد وأما من زعم أن العالم واحد وبعد ذلك عنصر لا نهاية له فلم أقف لهم على علة، ولكن يقال لهم ما تنكرون من أن يكون عوالم لا نهاية لها وراء ذلك العنصر وذلك الخلاء؟