مقدمة في التفسير

(حولت الصفحة من مقدمة أصول التفسير)
مقدمة في التفسير المؤلف ابن تيمية


رب يسر وأعن برحمتك

الحمد لله ونستغفره ونعود بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله تسليما

أما بعد :

فقد سألني بعض الإخوان أن أكتب له مقدمة تتضمن قواعد كلية تعين على فهم القرآن ومعرفة تفسيره ومعانيه والتميز - في منقول ذلك ومعقوله - بين الحق وأنواع الأباطيل والتنبيه على الدليل الفاصل بين الأقاويل فإن الكتب المصنفة في التفسير مشحونة بالغث والسمين والباطل الواضح والحق المبين والعلم أما نقل مصدق عن معصوم وأما قول عليه دليل معلوم وما سوى هذا فإما مزيف مردود وأما موقوف لا يعلم أنه بهرج ولا منقود وحاجة الأمة ماسة إلى فهم القرآن الذي هو حبل الله المتين والذكر الحكيم والصراط المستقيم الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلبس به الألسن ولا يخلق عن كثرة الترديد ولا تنقضي عجائبه ولا يشبع منه العلماء من قال به صدق ومن عمل به أجر ومن عمل به عدل ومن دعا أليه هدي إلى صراط المستقيم ومن تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله قال تعالى { فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى } وقال تعالى { قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم } وقول تعالى { الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد * الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض } وقال تعالى { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم * صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور }

وقد كتبت هذه ( المقدمة ) مختصرة بحسب تيسير الله تعالى من إملاء الفؤاد والله الهادي إلى سبيل الرشاد

في أهمية فهم وتعلُّم معاني القرآن واهتمام الصحابة والتابعين بها

يجب أن تعلم أن النبي بين لأصحابه معاني القرآن كما بين لهم ألفاظه فقوله تعالى { لتبين للناس ما نزل إليهم } يتناول هذا وهذا

وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي : حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن - كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما - أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي عشرات آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل قالوا : فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة

وقال أنس : كان الرجل إذا قرا البقرة وأل عمران جل في أعيننا وأقام ابن عمر على حفظ البقرة سنين - قبل ثمان سنين - ذكره وذلك أن الله تعالى قال { كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته } وقال { أفلا يتدبرون القرآن } وقال { أفلم يدبروا القول } وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن كذلك قال تعالى { إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون } وعقل الكلام متضمن لفهمه

ومن المعلوم أن كل كلام المقصود منه فهم معانيه دون مجرد ألفاظه فالقرآن أولى بذلك

وأيضا فالعادة تمنع أن يقرآ قوم كتابا في فن من العلم كالطب والحساب ولا يستشرحوه فكيف بكلام الله الذي هو عصمتهم وبه نجاتهم وسعادتهم وقيام دينهم ودنياهم ؟

ولهذا كان النزاع بين الصحابة في تفسير القرآن قليلا جدا وهو وإن كان من التابعين أكثر منه في الصحابة فهو قليل بالنسبة إلى من بعدهم وكلما كان العصر أشرف كان الاجتماع والائتلاف والعلم والبيان فيه أكثر

ومن التابعين من تلقى جمع التفسير عن الصحابة كما قال مجاهد : عرضت الصحف على ابن عباس وأوقفه عند كل آية وأسأله عنها ولهذا قال الثوري : إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به ولهذا يعتمد على تفسيره الشافعي و البخاري وغيرهما من أهل العلم وكذلك الإمام أحمد وغيره ممن صنف في التفسير يكرر الطرق عن مجاهد أكثر من غيره

والمقصود أن التابعين تلقوا التفسير عن الصحابة كما تلقوا عنهم علم السنة وإن كانوا يتكلمون في بعض ذلك بالاستنباط والاستدلال كما يتكلمون في السنن بالاستنباط والاستدلال

في أن الخلاف بين السلف في التفسير أكثره اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد

الخلاف بين السلف في التفسير قليل وخلافهم في الأحكام أكثر من خلافهم في التفسير وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد وذلك صنفان :

أحدهما أن يعبر كل واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه تدل على معنى في المسمى غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمى بمنزلة الأسماء المتكافئة التي بين المترادفة والمتباينة كما قيل في اسم السيف : الصارم والمهند وذلك مثل أسماء الله الحسنى أسماء رسوله وأسماء القرآن فإن أسماء الله كلها مسمى واحد فليس دعاؤه باسم من أسمائه مضادا لدعائه باسم آخر بل الأمر كما قال تعالى { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى } وكل اسم من أسمائه يدل على الذات المسماة وعلى الصفة التي تضمنها الاسم كالعليم يدل على الذات والرحمة ومن أنكر دلالة أسمائه على صفاته ممن يدعي الظاهر فقوله من جنس قول غلاة الباطنية القرامطة الذين يقولون : لا يقال هو حي ولا ليس بحي بل ينفون عنه النقيضين فإن أولئك القرامطة الباطنية لا ينكرون اسما هو علم محض كالمضمرات وإنما ينكرون ما في أسمائه الحسنى من صفات الإثبات فمن وافقهم على مقصدهم كان - مع دعواه الغلو في الظاهر - موافقا لغلاة الباطنية في ذلك وليس هذا موضع بسط ذلك

وإنما المقصود أن كل اسم من أسمائه يدل على ذاته وعلى ما الاسم من صفاته ويدل أيضا على الصفة التي في الاسم الآخر بطرق اللزوم

وكذلك أسماء النبي مثل محمد وأحمد والماحي والحاشر والعاقب وكذلك أسماء القرآن مثل القرآن والفرقان والهدى والشفاء والبيان والكتاب وأمثال ذلك

فإن كان مقصود السائل تعين المسمى عبرنا عنه بأي اسم كان إذا عرف مسمى هذا الاسم وقد يكون الاسم علما وقد يكون صفة كمن يسأل عن قوله { ومن أعرض عن ذكري } : ما ذكره ؟ فيقال له هو القرآن مثلا أو ما أنزله من الكتب فإن الذكر مصدر والمصدر تارة يضاف إلى الفاعل وتارة إلى المفعول فإن قيل ذكر الله بالمعني الثاني كان ما يذكر به مثل قول العبد سبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر

وإذا قيل بالمعنى الأول كان ما يذكره هو وهو كلامه وهذا هو المراد في قوله { ومن أعرض عن ذكري } لأنه قال قبل ذلك { فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى } وهداه هو ما أنزله من الذكر وقال بعد ذلك { قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها }

والمقصود أن يعرف أن لذكر هو كلامه المنزل أو هو ذكر العبد له فسؤال قيل ذكري كتابي أو كلامي أو هداي أو نحو ذلك فإن المسمى واحد

وإن كان مقصود السائل معرفة ما في الاسم من الصفة المختصة به فلا بد من قدر زائد على تعين المسمى مثل أن يسأل عن القدوس السلام المؤمن وقد علم أنه الله ولكن مراده ما معنى كونه قدوسا سلاما مؤمنا ونحو ذلك

وإذا عرف هذا فالسلف كثيرا ما يعبرون عن المسمى بعبارة تدل على عينه وإن كان فيها من الصفة ما ليس في الاسم الآخر كمن يقول : أحمد هو الحاشر والماحي والعاقب

والقدوس هو الغفور والرحيم أي أن المسمى واحد لا أن هذه الصفة هي هذه

ومعلوم أن هذا ليس اختلاف تضاد كما يظنه بعض الناس مثال تفسيرهم للصراط المستقيم فقال بعضهم : هو القرآن - أي أتباعه - لقول النبي في حديث علي الذي رواه الترمذي ورواه أبو نعيم من طرق متعددة هو حبل الله المتين والذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم وقال بعضهم هو الإسلام لقوله في حديث النواس بن سمعان الذي رواه الترمذي وغيره [ ضرب الله مثلا صراطا مستقيما وعلى جنبتي الصراط سوران وفي السورين أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وداع يدعو من فوق الصراط وداع يدعو على رأس الصراط قال : فالصراط المستقيم هو الإسلام والسوران حدود الله والأبواب المفتحة محارم الله والداعي على رأس الصراط كتاب الله والداعي فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مؤمن ]

فهذان القولان متفقان لأن دين الإسلام هو إتباع القرآن ولكن كل منهما نبه على وصف غير الوصف الآخر كما أن لفظ صراط يشعر بوصف ثالث وكذلك قول من قال : هو السنة والجماعة وقول من قال هو طريق العبودية وقول من قال : هو طاعة الله والرسول وأمثال ذلك فهؤلاء كلهم أشاروا إلى ذات واحدة لكن وصفها كل بصفة من صفاتها

الصنف الثاني أن يذكر كل منهم من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثل وتنبيه المستمع على النوع لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه مثال سائل أعجمي عن مسمى لفظ الخبز فأري وقيل له : هذا فالإشارة إلى نوع هذا لا إلى هذا الرغيف وحده مثال ذلك ما نقل في قوله { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات }

فمعلوم أن الظالم لنفسه يتناول المضيع للواجبات والمنتهك للمحرمات والسابق يدخل فيه من سبق فتقرب بالحسنات مع الواجبات فالمقتصدون هم أصحاب اليمين والسابقون أولئك المقربون

ثم إن كلا منهم يذكر هذا في نوع من أنواع الطاعات كقول القائل : السابق الذي يصلي في أول الوقت والمقتصد الذي يصلي في أثنائه والظالم الذي يؤخر العصر إلى الاصفرار أو يقول : السابق والمقتصد والظالم قد ذكرهم في آخر سورة البقرة فإنه ذكر المحسن بالصدقة والظالم بأكل الربا والعادل بالبيع والناس في الأموال أما محسن وأما عادل وإما ظالم فالسابق المحسن بأداء المستحبات مع الواجبات والظالم آكل الربا أو مانع الزكاة والمقتصد الذي يؤدي الزكاة المفروضة ولا يأكل الربا وأمثال هذه الأقاويل

فكل قول فيه ذكر نوع داخل في الآية وإنما ذكر لتعرف المستمع بتناول آية له وتنبهه به على نظيره فإن التعرف بالمثال قد سهل أكثر من التعريف بالحد المطابق والعقل السليم يتفطن للنوع كما يتفطن إذا أشير له إلى رغيف فقيل له هذا هو الخبز

وقد يجيء كثيرا من هذا الباب قولهم : هذه الآية نزلت في كذا لا سيما إن كان المذكور شخصا كأسباب النزول المذكورة في التفسير كقولهم : إن آية الظهار نزلت في امرأة اوس بن الصامت وإن آية اللعان نزلت في عويمر العجلاني أو هلال بن أمية وإن آية الكلالة نزلت في جابر بن عبد الله وإن قوله { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } نزلت في بني قريظة وإن قوله { ومن يولهم يومئذ دبره } نزلت في بدر وإما قوله { شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت } نزلت في قضية تميم الداري وعدي بن بداء وقول أبي أيوب إن قوله { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } نزلت فينا معشر الأنصار الحديث ونظائر هذا كثير مما يذكرون أنه نزل في قوم من المشركين بمكة أو في قوم من أهل الكتاب اليهود والنصارى أو في قوم من المؤمنين فالذين قالوا ذلك لم يقصدوا أن حكم الآية مختص بأولئك الأعيان دون غيرهم فإن هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل على الإطلاق

والناس وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب هل يختص بسببه أم لا فلم يقل أحد من علماء المسلمين إن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين وإنما غاية ما يقال : إنها تختص بنوع ذلك الشخص ما يشبهه ولا يكون العموم فيها بحسب اللفظ والآية التي لها سبب معين إن كانت أمرا ونهيا فهي متناولة لذلك الشخص ولمن كان بمنزلته أيضا

ومعرفة سبب النزول تعين على فهم الآية فإن العالم بالسبب يورث العلم بالمسبب ولهذا كان أصح قول الفقهاء أنه إذا لم يعرف ما نواه الحالف رجع إلى سبب يمينه وما هيجها وأثارها وقولهم نزلت هذه الآية في كذا يراد به تارة أنه سبب النزول ويراد به تارة أن هذا داخل في الآية وإن لم يكن السبب كما تقول عني بهذه الآية كذا

وقد تنازع العلماء في قول الصاحب نزلت هذه الآية في كذا هل يجري مجرى المسند كما يذكر السبب الذي نزلت أنزلت لأجله أو يجري مجرى التفسير منه الذي ليس بمسند و البخاري يدخله في المسند وأكثر المساند على هذا الاصطلاح كمسند أحمد وغيره بخلاف ما ذكر سببا نزلت عقبه فإنهم كلهم يدخلون مثل هذا في المسند وإذا عرف هذا فقول أحدهم : نزلت في كذا لا ينافي قول الآخر : نزلت في كذا وإذا كان اللفظ يتناولهم كما ذكرناه في التفسير بالمثال وإذا ذكر أحدهم لها سببا نزلت لأجله وذكر الآخر سببا فقد يمكن صدقهما بأن تكون نزلت عقب تلك الأسباب أو تكون نزلت مرتين : مرة لهذا السبب ومرة لهذا السبب

وهذان الصنفان اللذان ذكرهما في تنوع التفسير - تارة لتنوع الأسماء والصفات وتارة لذكر بعض أنواع المسمى وأقسامه كالتمثيلات هما الغالب في تفسير سلف الأمة الذي يظن أنه مختلف

ومن التنازع الموجود عنهم ما يكون اللفظ فيه محتملا للأمرين إما لكونه مشتركا في اللغة كلفظ قسورة الذي يراد به الرامي ويراد به الأسد ولفظ عسعس الذي يراد إقبال الليل وإدباره وإما لكونه متواطئا في الأصل لكن المراد به أحد النوعين أو أحد الشيئين كالضمائر في قوله { ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى } وكلفظ { والفجر * وليال عشر * والشفع والوتر } وما أشبه ذلك فمثل هذا قد يجوز أن يراد به كل المعاني التي قالها السلف وقد لا يجوز ذلك

فالأول إما لكون الآية نزلت مرتين فأريد بها هذا تارة وهذا تارة وإما لكون اللفظ المشترك يجوز أن يراد به معنياه إذ قد جوز ذلك أكثر الفقهاء المالكية والشافعية والحنبلية وكثير من أهل الكلام وإما لكون اللفظ متواطئا فيكون عاما إذا لم يكن لتخصيصه موجب فهذا النوع إذا صح فيه القولان كان من الصنف الثاني

ومن الأقوال الموجودة عنهم ويجعلها بعض الناس اختلافا أن يعبروا عن المعاني بألفاظ متقاربة لا مترادفة فإن الترادف في اللغة قليل وأما في ألفاظ القرآن فإما نادر وإما معدوم وقل أن يعبر عن لفظ واحد يؤدي جميع معناه بل يكون فيه تقريب لمعناه وهذا من أسباب إعجاز القرآن فإذا قال القائل { يوم تمور السماء مورا } : إن المور هو الحركة كان تقريبا إذ المور حركة خفيفة سريعة وكذلك إذا قال الوحي الإعلام أو قيل : أوحينا إليك أنزلنا إليك أو قيل { وقضينا إلى بني إسرائيل } أي أعلمنا وأمثال ذلك فهذا كله تقريب لا تحقيق فإن الوحي هو إعلام سريع خفي والقضاء إليهم أخص من الإعلام فإن فيه إنزالا إليهم وإيحاء إليهم

والعرب تضمن الفعل معنى الفعل وتعديه تعديته ومن هنا غلط من جعل بعض الحروف تقوم مقام بعض كما يقولون في قوله { لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه } أي مع نعاجه و { من أنصاري إلى الله } أي مع الله ونحو ذلك

والتحقيق ما قاله نحاة البصرة من التضمين فسؤال ل النعجة يتضمن جميعها إلى نعاجه وكذلك قوله { وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك } ضمن معنى يزيغونك ويصدونك وكذلك قوله { ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا } ضمن نجيناه وخلصناه وكذلك قوله { يشرب بها عباد الله } ضمن بها ونظائر كثيرة ومن قال : لا ريب لا شك فهذا تقريب وإلا فالريب فيه اضطرب وحركة كما قال ودع ما يريبك إلى ما لا يريبك وفي الحديث : أنه مر بظبي حاقف فقال لا يريبه أحد فكما أن اليقين ضمن السكون والطمأنينة فالريب ضده [ ضمن الاضطراب والحركة ] ولفظ الشك وإن قيل أنه { ذلك الكتاب } هذا القرآن فهذا تقريب لأن المشار أليه وإن كان واحدا فالإشارة بجهة الحضور غير الإشارة بجهة البعد والغيبة ولفظ الكتاب يتضمن من كونه مكتوبا مضمونا ما لا يتضمنه لفظ القرآن من كونه مقروءا مظهرا باديا فهذه الفروق موجودة في القرآن فإذا قال أحدهم { أن تبسل } أي تحبس وقال الآخر : ترتهن ونحو ذلك لم يكن من اختلاف التضاد وإن كان المحبوس قد يكون مرتهنا وقد لا يكون إذ هذا تقريب للمعنى كما تقدم

وجمع عبارات السلف في مثل هذا نافع جدا لأن مجموع عبارتهم أدل على المقصود من عبارة أو عبارتين ومع هذا فلا بد من اختلاف نحقق بينهم كما يوجد مثل ذلك في الأحكام

ونحن نعلم أن عامة ما يضطر إليه عموم الناس من الاختلاف معلوم بل متواتر عند العامة أو الخاصة كما في عدد الصلوات ومقادير ركوعها ومواقيتها وفرائض الزكاة ونصبها وتعين شهر رمضان والطواف والوقوف وروي الجمار والمواقيت وغير ذلك

ثم اختلاف الصحابة في الجد والإخوة وفي المشركة ونحو ذلك لا يوجب ريبا في جمهور وسائل الفرائض بل ما يحتاج إليه عامة الناس هو عموم النسب من الآباء والأبناء والكلالة من الأخوة والأخوات ومن نسائهم كالأزواج فإن الله أنزل في الفرائض ثلاث آيات مفصلة ذكر في الأولى الأصول والفروع وذكر في الثانية الحاشية التي بالفرض كالزوجين وولد الأم وفي الثالثة الحاشية الوارثة بالتعصب وهم الأخوة لأبوين أو لأب واجتماع الجد والأخوة نادر ولهذا لم يقع في الإسلام إلا بعد موت النبي

واختلاف قد يكون لخفاء الدليل أو الذهول عنه وقد يكون لاعتقاد معارض راجح فالمقصود هنا التعريف بمجمل الأمر دون تفاصيله

في النوع الأول من الاختلاف في التفسير: ما مستنده النقل فقط

الاختلاف في التفسير على نوعين : منه ما مستنده النقل فقط ومنه ما يعلم بغير ذلك إذ العلم إما نقل مصدق وإما استدلال محقق والمنقول إما المعصوم وإما غير المعصوم

والمقصود بأن جنس المنقول سوار كان المعصوم أو غير المعصوم - وهذا هو النوع الأول - فمنه ما يمكن كعرفة الصحيح والضعيف ومنه ما لا يمكن معرفة ذلك فيه

وهذا القسم الثاني من المنقول - وهو مالا طريق لنا إلى الجزم بالصدق منه فالبحث عنه مما لا فائدة فيه والكلام فيه من فضول الكلام وأما ما يحتاج المسلمون إلى معرفته فإن الله نصب على الحق فيه دليلا فمثال ما لا يفيد ولا دليل على الصحيح منه اختلافهم في أحوال أصحاب الكهف وفي البعض الذي ضرب به موسى من البقرة وفي مقدار سفينة نوح وما كان خشبها وفي اسم الغلام الذي قتله الخضر ونحو ذلك فهذه الأمور طريق العلم بها النقل فما كان من هذا منقولا عن نقلا صحيحا عن النبي - كاسم صاحب موسى أنه الخضر - فهذه معلوم وما لم يكن كذلك بل لم كان مما يؤخذ عن أهل الكتاب - كالمنقول عن كعب و وهب و محمد بن أسحق وغيرهم ممن يأخذ عن أهل الكتاب - فهذا لا يجوز تصديقه ولا تكذيبه إلا بحجة

كما ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال [ إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم فإما أن يحدثكم بحق فتكذبوه وإما يحدثكم بباطل فتصدقوه ]

وكذلك ما نقل عن بعض التابعين وإن لم يذكر أنه أخذ عن أهل الكتاب فمتى اختلف التابعون لم يكن بعض أقوالهم حجة على بعض وما نقل في ذلك عن بعض الصحابة نقلا صحيحا فالنفس إليه أسكن مما نقل عن بعض التابعين لأن احتمال أن يكون سمعه من النبي أو من بعض من سمعه أقوى ولأن نقل الصحابة عن أهل الكتاب أقل من نقل التابعين ومع جزم الصحابي بما يقوله كيف يقال أنه أخذ عن أهل الكتاب وقد نهوا عن تصديقهم

والمقصود أن الاختلاف الذي لا يعلم صحيحه ولا تفيد حكاية الأقوال فيه هو كالمعرفة لما يروي من الحديث الذي لا دليل على صحته وأمثال ذلك

وأما القسم الأول الذي يمكن معرفة الصحيح منه فهذا موجود فيما يحتاج إليه ولله الحمد فكثيرا ما يوجد في التفسير والحديث والمغازي أمور منقولة عن نبينا وغيره من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلم والنقل الصحيح يدفع ذلك بل هذا موجود فيما مستنده النقل وفيما قد يعرف بأمور أخرى غير النقل

فالمقصود أن المنقولات التي يحتاج إليها في الدين قد نصب الله الأدلة على بيان ما فيها من صحيح وغيره ومعلوم أن المنقول في التفسير أكثره كالمنقول في المغازي والملاحم ولهذا قال الإمام أحمد ثلاثة أمور ليس لها إسناد : التفسير والملاحم والمغازي ويروي ليس لها أصل أي إسناد لأن الغالب عليها المراسيل مثل ما يذكره عروة بن الزبير و الشعبي و الزهري و موسى بن عقبة و ابن إسحاق ومن بعدهم كـ يحيى بن سعيد الأموي و الوليد بن مسلم و الواقدي ونحوهم في المغازي فإن أعلم الناس بالمغازي أهل المدينة ثم أهل الشام ثم أهل العراق فأهل المدينة أعلم بها لأنها كانت عندهم وأهل الشام كانوا أهل غزو وجهاد فكان لهم نمن العلم بالجهاد والسير ما ليس لغيرهم ولهذا عظم الناس كتاب أبي لإسحاق الفزاري الذي صنفه في ذلك وجعلوا الأوزاعي أعلم بهذا الباب من غيره من علماء الأمصار

وأما التفسير فإن أعلم الناس به أهل مكة لأنهم أصحاب ابن عباس كـ مجاهد و عطاء بن أبي رباح وعكرمة مولى ابن عباس وغيرهم من أصحاب أبن عباس كطاوس وأبي الشعثاء وسعيد بن جبير وأمثالهم وكذلك أهل الكوفة من أصحاب ابن مسعود ومن ذلك ما تميزوا به على غيرهم وعلماء أهل المدينة في التفسير مثل زيد بن أسلم الذي أخذ عنه مالك التفسير وأخذه عنه أيضا ابنه عبد الرحمن وأخذه عن عبد الرحمن عبد الله بن وهب

والمراسيل إذا تعددت طرقها وخلت عن ألموا طأ قصدا أو الأنفاق بغير قصد كانت صحيحة قطعا فان النقل إما أن يكون صدقا مطابقا للخبر وإما أن يكون كذبا تعمد صاحبه الكذب أو أخطأ فيه سلم من الكذب العمد والخطأ كان صدقا بلا ريب

فإذا كان الحديث جاء من جهتين أو جهات - وقد علم أن المخبرين لم يتواطئوا على اختلافه وعلم أن مثل ذلك لا تقع الموافقة فيه اتفقا بلا قصدا - علم أنه صحيح مثل شخص يحدث عن واقعة جرت ويذكر تفاصيل ما فيها من الأقوال والأفعال ويأتي شخص آخر قد علم أنه لم يواطئ الأول فيذكر مثل ما ذكر الأول من تفاصيل الأقوال والأفعال فيعلم قطعا أن تلك الواقعة حق في الجملة فإنه لم كان منهما كذب بها عمدا أو خطأ لم يتفق في العادة أن يأتي كل منهما بتلك التفاصيل التي تمنع عادة اتفاق الاثنين عليها بلا مواطأة من أحدهما لصاحب فإن الرجل قد يتفق أن ينظم بيتا وينظم الآخر مثله أو يكذب كذا ويكذب الآخر مثلها أما إذا أنشأ قصيدة طويلة ذات فنون على قافية وروى فلم تجر العادة بأن غيره ينشئ مثلها لفظا ومعني مع الطول المفرط بل يعلم بالعادة أنه أخذها منه وكذلك إذا حدث حديثا طويلا فيه فنون وحديث آخر نمثله فإنه إما أن يكون واطأه عليه أو أخذه منه أو يكون الحديث صدقا وبهذه وجه من المنقولات وإن لم يكن أحدهما كافيا إما لإرساله وإما لضعف ناقله وبهذه الطريقة يعلم صدق عامة ما تتعدد جهاته المختلفة على هذا الوجه من المنقولات وإن لم يكن أحدهما كافيا إما لإرساله وإما لضعف ناقله ولكن مثل هذا لا تضبط به الألفاظ والدقائق التي لا تعلم بهذه الطريقة بل يحتاج ذلك إلى طريق يثبت بها مثل تلك الألفاظ والدقائق ولهذا ثبتت بالتواتر غزوة بدر وأنها قبل أحد بل يعلم قطعا أن حمزة وعليا وعبيدة برزوا إلى عتيبة والوليد وأن عليا قتل الوليد وأن حمزة قتل قرنه ثم يشك في قرنه هل هو عتبة أو شيبة

وهذا الأصل ينبغي أن يعرف فإنه أصل نافع في الجزم بكثير من المنقولات في الحديث والتفسير والمغازي وما ينقل من أقوال الناس وأفعالهم وغير ذلك ولهذا إذا روي الحديث الذي يأتي فيه ذلك عن النبي من وجهين مع العلم بأن أحدهما لم يأخذه عن الآخر - جزم بأنه حق لا سيما إذا علم أن نقله ليسوا ممن يعتمد الكذب وإنما يخاف على أحدهم النسيان والغلط فإن من عرف الصحابة كابن مسعود وأبي بن كعب وابن جابر وأبي سعيد وأبي هريرة وغيرهم علم يقينا أن الواحد من هؤلاء لم يكن ممن يعتمد الكذب على رسول الله فضلا عمن هو فوقهم كما يعلم الرجل من حال من جربه وخبره خبره باطنة طويلة أنه ليس ممن يسرق أموال الناس ويقطع الطريق ويشهد بالزور ونحو ذلك

وكذلك التابعون بالمدينة ومكة والشام والبصرة فإن من عرف مثل أبي صالح السمان و الأعرج و سليمان بن يسار و زيد بن أسلم وأمثالهم علم قطعا أنهم لم يكونوا ممن يعتمد الكذب في الحديث فضلا عمن هو فوقهم مثل محمد بن سيرين والقاسم بن محمد أو سعيد بن المسيب أو عبيدة السلماني أو عقلمة أو الأسود أو نحوهم وإنما نخاف على الواحد من الغلط فإن الغلط والنسيان كثيرا ما يعرض للإنسان ومن الحفاظ من قد عرف الناس بعده عن ذلك جدا كما عرفوا حال الشعبي و الزهري و عروة و قتادة و الثوري وأمثالهم لا سيما الزهري في زمانه والثوري في زمانه فإنه قد يقول القائل أن ابن شهاب و الزهري لا يعرف له غلط مع كثرة حديثه وسعة حفظه والمقصود أن الحديث الطويل إذا روي مثلا من وجهين مختلفين من غير مواطأة امتنع أن يكون غلطا كما امتنع أن يكون كذبا فإن الغلط لا يكون في قصة طويلة متنوعة وإنما يكون في بعضها فإذا روى هذا قصة طويلة متنوعة وراوها الآخر مثلما رواها الأول من غير مواطأة امتنع الغلط في جميعها كما امتنع الكذب في جميعها من غير مواطأة ولهذا إنما يقع في مثل ذلك غلط في بعض ما جرى في القصة مثل حديث اشتراء النبي البعير من جابر فإن من تأمل طرقه علم قطعا أن الحديث صحيح وإن كانوا قد اختلفوا في مقدار الثمن وقد بين البخاري و مسلم مما يقطع بأن النبي قاله لأن غالبه من هذا النحو ولأنه تلقاه أهل العلم بالقبول والتصديق

والأمة لا تجتمع على خطأ فلو كان الحديث كذبا في نفس الأمر والأمة مصدقة له كانوا قد أجمعوا على التصديق ما في نفس الأمر كذب وهذا إجماع على الخطأ وذلك ممتنع وإن كنا بدون الإجماع نجوز الخطأ أو الكذب على الخبر فهو كتجويزنا قبل أن قبل أن نعلم الإجماع على العلم الذي ثبت بظاهر أو قياس ظني أن يكون الحق في الباطل بخلاف ما اعتقدناه فإذا أجمعوا على الحكم جزمنا بأن الحكم ثابت باطنا وظاهرا

ولهذا كان جمهور أهل العلم من جميع الطوائف على أن خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول تصديقا له أو عملا به أنه يوجب العلم وهذا هو الذي ذكره المصنفون في أصول الفقه من أصحاب أبي حنيفة و أمالك و الشافعي و أحمد إلا فرقة قليلة من المتأخرين اتبعوا في ذلك طائفة من أهل الكلام أنكروا ذلك ولكن كثيرا من أهل الكلام أو أكثرهم يوافقون الفقهاء وأهل الحديث السلف على ذلك وهو قول أكثر الأشعرية كأبي إسحاق و ابن فورك وأما ابن الباقلاني فهو الذي أنكر ذلك وتبعه مثل أبي المعالي و أبي حامد و ابن عقل و ابن جوزي و ابن الخطيب و الآمدي ونحو هؤلاء والأول هو الذي ذكر القاضي عبد الوهاب وأمثاله من المالكية وهو الذي ذكره شمس الدين السرخسي وأمثاله من الحنفية وهو الذي ذكر أبو يعلي و أبو الخطاب و أبو الحسن بن الزاغوني وأمثالهم من الحنبلة وإذا كان الإجماع على التصديق الخبر موجبا للقطع به فالاعتبار في ذلك بالإجماع أهل العلم بالأمر والنهي والإباحية والمقصود هنا أن تعدد الطرق مع عدم التشاعر أو الاتفاق في العادة يوجب العلم بمضمون المنقول لكن هذا ينتفع به كثيرا في علم أحوال الناقلين

وفي مثل هذا ينتفع برواية المجهول والسيئ الحفظ وبالحديث المرسل ونحو ذلك ولهذا كان أهل العلم يكتبون مثل هذه الأحاديث ويقولون : إنه يصلح للشواهد والاعتبار ما لا يصلح لغيره قال أحمد قد أكتب حديث الرجل لأعتبره ومثل ذلك بعبد الله بن لهيعة قاضي مصر فإنه كان من أكثر الناس حديثا ومن خيار الناس لكن بسبب احتراق كتبه وقع في حديثه المتأخر غلط فصار يعتبر بذلك ويستشهد به كثيرا ما يقترن هو والليث بن سعد والليث حجة ثبت إمام

وكما أنهم يستشهدون ويعتبرون بحديث الذي فيه سوء حفظ فإنهم أيضا يضعفون من حديث الثقة الصدوق الضابط أشياء تبين لهم غلطة فيها بأمور يستدلون بها ويسمون هذا علم علل الحديث وهو من أشرف علومهم بحيث يكون الحديث قد رواه ثقة ضابط وغلطة فيه عرف إما بسبب ظاهر : كما عرفوا أن النبي تزوج ميمونة وهو محرم وأنه صلى في البيت ركعتين وجعلوا رواية ابن عباس لتزوجها حلالا ولكونه لم يصل مما وقع فيه من الغلط وعلموا أنه تمتع وهو آمن في حجة الوداع وأم قول عثمان لعلي كنا يومئذ خائفين مما وقع فيه الغلط وإن ما وقع في بعض طرق البخاري أن النار لا تمتلئ حتى ينشئ الله لها خلقا آخر مما وقع فيه الغلط وهذا كثير

والناس في هذا الباب طرفان : طرف من أهل الكلام ونحوهم ممن هو بعيد عن معرفة الحديث وأهله لا يميز بين الصحيح والضعيف فيشك في صحة أحاديث أو في القطع بها مع كونها معلومة مقطوعا بها عند أهل العلم به وطرف ممن يدعي اتباع الحديث والعمل به كلما وجد لفظا في حديث قد رواه ثقة أو رأي حديثا بإسناد ظاهر الصحة يريد أن يجعل ذلك من جنس ما جزم أهل العلم بصحته حتى إذا عارض الصحيح المعروف أخذ يتكلف له التأويلات الباردة أو يجعله دليلا في مسائل العلم مع أن أهل العلم بالحديث يعرفون أن مثل هذا غلط

وكما أن على الحديث أدلة يعلم بها أنه صدق وقد يقطع بذلك فعليه أدلة يعلم بها أنه كذب ويقطع بذلك مثل ما يقطع يذلك ما يرويه الوضاعون من أهل البدع والغلو في الفضائل مثل حديث يوم عاشوراء وأمثاله مما فيه : أن من صلى ركعتين كان له كأجر كذا وكذا نبيا وفي التفسير من هذه الموضعات قطعة كبيرة مثل الحديث الذي يرويه الثعلبي و الواحدي و الزمخشري في فضائل سور القرآن سورة سورة فإنه موضوع باتفاق أهل العلم

والثعلبي هو نفسه كان فيه خير ودين وكان حاطب ليل ينقل ما وجد في كتب التفسير من صحيح وضعيف وموضوع

والواحدي صاحبه كان أبصر منه بالعربية لكن هو أبعد عن السلامة واتباع السلف

والبغوي تفسيره مختصر من الثعلبي لكنه صان تفسيره عن الأحاديث الموضوعة والآراء المبتدعة

والموضوعات في كتب التفسير كثيرة ومنها الأحاديث الكثيرة الصريحة في الجهر بالبسملة وحديث علي الطويل في تصديقه بخاتمه في الصلاة فإنه موضوع باتفاق أهل العلم ومثل ما روي في قوله { ولكل قوم هاد } أنه علي { وتعيها أذن واعية } أذنك يا علي

في النوع الثاني من الاختلاف في التفسير: ما يُعلم بالاستدلال لا بالنقل

وأما النوع الثاني من سببي الاختلاف وهو ما يعلم بالاستدلال لا بالنقل فهذا أكثر ما فيه الخطأ من جهتين حدثنا بعد تفسير الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان فإن التفاسير التي يذكر فيها كلام هؤلاء صرفا لا يكاد يوجد فيها شيء من هاتين الجهتين مثل تفسير عبد الرزاق و وكيع و عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم ومثل تفسير الإمام الإمام أحمد و إسحاق بن راهويه و بقى بن مخلد و أبي بكر المنذر و سفيان بن عيينة و ( سنيد ) و ابن جرير و ابن أبي حاتم و أبي سعيدالأشنج و أبي عبد الله ابن ماجة و ابن مردويه والقائلون بالجهتين المتقدم ذكرهما قسمان

أحدهما : قوم اعتقدوا معاني ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها

والثاني : قوم فسروا القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده بكلامه من كان من الناطقين بلغة العرب من غير نظر إلى المتكلم بالقرآن والمنزل عليه والمخاطب به

فالأولون : راعوا المعنى الذي رأوه من غير نظر إلى ما تستحقه ألفاظ القرآن من الدلالة والبيان والآخرون راعوا مجرد اللفظ وما يجوز عندهم أن يريد به العربي من غير نظر إلى ما يصلح للمتكلم به وسياق الكلام ثم هؤلاء كثيرا ما يغلطون في احتمال اللفظ لذلك المعنى في اللغة كما يغلط في ذلك الذين قبلهم كما أن الأولين كثيرا ما يغلطون في صحة المعنى الذي فسروا به القرآن كما يغلط بذلك الآخرون وإن كان نظر الأولين إلى المعنى اسبق ونظر الآخرين إلى اللفظ أسبق

والأولون صنفان : تارة يسلبون لفظ القرآن ما دل عليه وأريد به وتارة يحملونه على ما لم يدل به وفي كلا الأمرين قد يكون ما قصدوا نفيه أو إثباته من المعنى باطلا فيكون خطؤهم في الدليل والمدلول وقد يكون حقا فيكون خطؤهم فيه في الدليل لا في المدلول وهذا كما أنه وقع في تفسير القرآن فإنه وقع أيضا في تفسير الحديث

فالذين أخطئوا في الدليل والمدلول مثل طوائف من أهل البدع اعتقدوا مذهبا يخالف الحق الذي عليه الأمة الوسط الذين لا يجتمعون على ضلالة كسلف الأمة وأئمتها

وعمدوا إلى القرآن فتأولوه على آرائهم : تارة يستدلون بآيات على مذهبهم ولا دلالة فيها وتارة يتأولون ما يخالف مذهبهم بما يحرفون به الكلم عن مواضعه

ومن هؤلاء فرق الخوارج والروافض والجهيمية والمعتزلة والقدرية والمرجئة وغيرهم وهذا كالمعتزلة مثلا فإنهم من عظم الناس كلاما وجدالا وقد صنفوا تفاسير على أصول مذهبهم مثل تفسير عبد الرحمن ابن كسيان الأصم شيخ إبراهيم بن إسماعيل بن علية الذي كان يناظر الشافعي ومثل كتاب أبي علي الجبائي والتفسير الكبير للقاضي عبد الجبار بن أحمد الهمداني وكتاب التفسير لعلي بن عيسى الرماني و الكشاف لأبي القاصم الزمخشري فهؤلاء و أمثالهم اعتقدوا مذاهب المعتزلة أصول المعتزلة خمسة يسمونها هم التوحيد والعدل والمنزلة بين المنزلتين وإنقاذ الوعيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

وتوحيدهم هو التوحيد الجهمية الذي مضمونه نفي الصفات وغير ذلك قالوا : أن الله لا يرى وأن القرآن مخلوق وأنه ليس فوق العالم وإنه لا يقوم به علم ولا قدرة ولا حياة ولا سمع ولا تصير ولا كلام ولا مشيئة و ولا صفة من الصفات

وأما عدلهم فمن مضمونه أن الله لم يشأ جميع الكائنات ولا خلقها كلها ولا هو قادر عليها كلها بل عندهم أفعال العباد لم يخلقها الله لا خيرها ولا شرها ولم يرد إلا ما أمر به شرعا وما سوى ذلك فإنه يكون بغير مشيئته وقد وافقهم على ذلك متأخرو الشيعة كالمفيد وأبي جعفر الطوسي وأمثالهما و لأبي جعفر هذا تفسير على هذه الطريقة لكن يضم إلى ذلك قول الإمامية الاثني عشرية فإن المعتزلة ليس فيهم من يقول بذلك ولا من ينكر خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي

ومن أصول المعتزلة مع الخوارج إنفاذ الوعيد في الآخرة وأن الله لا يقبل في أهل الكبائر شفاعة ولا يخرج منهم أحدا من النار ولا ريب أنه قد رد عليهم طوائف من المرجئة الكرامية والكلابية وأتباعهم فأحسنوا تارة وأساءوا أخرى حتى صاروا في طرفي نقيض كما قد بسط في غير هذا الموضع

والمقصود أن مثل هؤلاء اعتقدوا رأيا ثم حملوا ألفاظ القرآن عليه وليس لهم سلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا من أئمة المسلمين لا في رأيهم ولا في تفسيرهم

وما من تفسير من تفاسيرهم الباطلة إلا وبطلانه يظهر من وجوه كثيرة وذلك من جهتين : تارة من العلم بفساد قولهم وتارة من العلم بفساد ما فسروا به القرآن إما دليلا على قولهم أو جوابا على المعارض لهم

ومن هؤلاء من يكون حسن العبارة فصيحا ويدس البدع في كلامه وأكثر الناس لا يعلمون كصاحب الكشاف ونحوه حتى إنه يروج على خلق كثير ومن العلماء المفسرين وغيرهم من يذكر في كتابه وكلامه من تفسيرهم ما يوافق أصولهم التي يعلم أو يعتقد فسادها ولا يهتدي لذلك

ثم إنه لسبب تطرف هؤلاء وضلالهم دخلت الرافضة الإمامية ثم الفلاسفة ثم القرامطة وغيرهم فيما هو أبلغ من ذلك وتفاقم الأمر في الفلاسفة والقرامطة والرافضة كقولهم : { تبت يدا أبي لهب } وهما أبو بكر وعمر و { لئن أشركت ليحبطن عملك } أي بين أبي بكر وعمر وعلي في الخلافة { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } هي عائشة و { قاتلوا أئمة الكفر } طلحة والزبير و { مرج البحرين } علي وفاطمة و { اللؤلؤ والمرجان } الحسن والحسين { وكل شيء أحصيناه في إمام مبين } في علي ين أبي طالب و { عم يتساءلون * عن النبإ العظيم } علي بن أبي طالب و { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون } هو علي و يذكرون الحديث الموضوع بإجماع أهل العلم وهو تصدقه بخاتمه في الصلاة وكذلك قوله { أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة } نزلت في علي لما أصيب بحمزة

وما يقارب هذا - من بعض الوجوه ما يذكره كثير من المفسرين في مثل قوله { الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار } أن الصابرين رسول الله والصادقين أبو بكر والقانتين عمر والمنفقين عثمان والمستغفرين علي وفي مثل قوله { محمد رسول الله والذين معه } أبو بكر { أشداء على الكفار } عمر { رحماء بينهم } عثمان { تراهم ركعا سجدا } علي وأعجب من ذلك قول بعضهم { والتين } أبو بكر { والزيتون } عمر { وطور سينين } عثمان { وهذا البلد الأمين } علي وأمثال هذه الخرافات التي تتضمن تارة تفسير اللفظ بما لا يدل عليه بحال فإن هذه الألفاظ لا تدل على هؤلاء الأشخاص وقوله تعالى { والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا } كل ذلك نعت للذين معه وهي التي يسميها النحاة خبرا بعد خبر والمقصود هنا أنها كلها صفات لموصوف واحد وهم الذين معه ولا يجوز أن يكون كل منها مرادا به شخص واحد و تتضمن تارة جعل اللفظ المطلق العام منحصرا في شخص واحد كقولهم إن قوله { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا } أريد بها علي وحده وقول بعضهم : إن قوله { والذي جاء بالصدق وصدق به } أريد بها أبو بكر وحده

وقوله { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل } أريد بها أبو بكر وحده ونحو ذلك

وتفسير ابن عطية وأمثاله أتبع للسنة والجماعة وأسلم من البدعة من تفسير الزمخشري ولو ذكر كلام السلف الموجود في التفاسير المأثورة عنهم على وجهه لكان أحسن وأجمل فإنه كثيرا ما ينقل من تفسير محمد بن جرير الطبري وهو من أجل التفاسير وأعظمها قدرا ثم إنه يدع ما نقله ابن جرير عن السلف لا يحكيه بحال ويذكر ما يزعم أنه قول المحققين وإنما يعني بهم طائفة من أهل الكلام الذين قرروا أصولهم بطرق من جنس ما قررت به المعتزلة أصولهم وإن كانوا أقرب إلى السنة من المعتزلة لكن ينبغي أن يعطى كل ذي حق حقه ويعرف أن هذا من جملة التفسير على المذهب فإن الصحابة والتابعين والأئمة إذا كان لهم في تفسير الآية وجاء قوم فسروا الآية بقول آخر لأجل مذهب اعتقدوه - وذلك المذهب ليس من مذاهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان - صاروا مشاركين للمعتزلة وغيرهم من أهل البدع في مثل هذا

وفي الجملة من عدل عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم إلى ما يخالف ذلك كان مخطئا في ذلك بل مبتدعا وإن كان مجتهدا مغفورا له خطؤه

فالمقصود بيان طرق العلم وأدلته وطرق الصواب ونحن نعلم أن القرآن قرأة الصحابة والتابعون وتابعوهم وأنهم كانوا أعلم بتفسيره ومعانيه كما أنهم أعلم بالحق الذي بعث الله به رسوله فمن خالف قولهم وفسر القرآن بخلاف تفسيرهم فقد أخطأ في الدليل والمدلول جميعا ومعلوم أن كل من خالف قولهم له شبهة يذكرها إما عقلية وإما سمعية كما هو مبسوط في موضعه

والمقصود هنا التنبيه على مثار الاختلاف في التفسير وأن من أعظم أسبابه البدع الباطلة التي دعت أهلها إلى أن حرفوا الكلم عن مواضيعه وفسروا كلام الله ورسوله بغير ما أريد به و تأولوه على غير تأويله

فمن أصول العلم بذلك أن يعلم الإنسان القول الذي خالفوه وأنه الحق وأن يعرف أن تفسير السلف يخالف تفسيرهم وأن يعرف أن تفسيرهم محدث مبتدع ثم أن يعرف بالطرق المفصلة فساد تفسيرهم بما نصبه الله من الأدلة على بيان الحق

وكذلك وقع من الذين صنفوا في شرح الحديث وتفسيره من المتأخرين من جنس ما وقع فيما صنفوه من شرح القرآن وتفسيره

وأما الذين يخطئون في الدليل لا في المدلول فمثل كثير من الصوفية والوعاظ والفقهاء وغيرهم يفسرون القرآن بمعان صحيحة لكن القرآن لا يدل عليها مثل كثير مما ذكره أبو عبد الرحمن السلمي في حقائق التفسير وإن كان فيما ذكروه ما هو معان باطلة فإن ذلك يدخل في القسم الأول وهو : الخطأ في الدليل والمدلول جميعا حيث يكون المعنى الذي قصدوه فاسدا

في تفسير القرآن بالقرآن وتفسير القرآن بالسنة

فإن قال قائل : فما أحسن طريق التفسير ؟ فالجواب : إن أصح الطرق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن فما أجمل في مكان فإنه قد فسر في موضع آخر وما اختصر في مكان فقد بسط في موضع آخر

فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له بل قد قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي : كل ما حكم به رسول الله فهو مما فهمه من القرآن : قال الله تعالى { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما } وقال تعالى { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون } وقال تعالى { وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } ولهذا [ قال رسول الله ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه ] يعني السنة والسنة أيضا تنزل عليه بالوحي كما ينزل القرآن لأنها تتلى كما يتلى وقد استدل الإمام الشافعي وغيره من الأئمة على ذلك بأدلة كثيرة ليس هذا موضع ذلك

والغرض أنك تطلب تفسير القرآن منه فإن لم تجده فمن السنة كما قال رسول الله لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن : [ بم تحكم ؟ قال بكتاب الله قال : فإن لم تجد ؟ قال بسنة رسول الله قال فإن لم تجد ؟ قال أجتهد رأيي قال : فضرب رسول الله في صدره وقال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي الله ] وهذا الحديث في المساند والسنن بإسناد جيد

في الرجوع إلى أقوال الصحابة إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة

وحينئذ إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة فإنهم أدرى لما شاهدوه من القرآن والأحوال التي اختصموا بها ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح لا سيما علماؤهم وكبراؤهم كالأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين منهم عبد الله بن مسعود قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري : حدثنا أبو كريب قال أنبأنا جابر بن نوح أنبأنا الأعمش عن أبي الضحى مسلم بن صبيح عن مسروق قال عبد الله - يعني ابن مسعود - والذي لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم نزلت وأين ولو أعلم مكان أحدأعلم بكتاب الله مني تناله ( المطايا ) لأتيته وقال الأعمش أيضا عن أبي وائل ( شقيق بن سلمة ) عن ابن مسعود قال : كان الرجل منا إذا تعلم آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن

ومنهم الحبر والبحر عبد الله بن عباس ابن عم رسول الله وترجمان القرآن ببركة دعاء رسول الله له حيث قال [ اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ]

وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار أنبانا وكيع أنبأنا سفيان عن الأعمش عن مسلم ( عن مسروق قال ) قال عبد الله يعني ابن مسعود : نعم ترجمان القرآن ابن عباس ثم رواه عن يحي بن داود عن إسحاق الأزرق عن سفيان عن الأعمش عن مسلم بن صبيح أبي الضحى عن مسروق عن ابن مسعود أنه قال : نعم الترجمان للقرآن ابن عباس ثم رواه عن بندر عن جعفر بن عون الأعمش به كذلك فهذا إسناد صحيح إلى ابن مسعود أنه قال عن ابن عباس هذه العبارة وقد مات ابن مسعود في سنة ثلاث وثلاثين على الصحيح وعمر بعده ابن عباس ستة وثلاثين سنة فما ظنك بما كسبه من العلوم بعد ابن مسعود

وقال الأعمش عن أبي وائل : استخلف علي عبد الله بن عباس على الموسم فخطب الناس فقرأ في خطبته سورة البقرة - وفي رواية سورة النور - ففسرها تفسيرا لو سمعته الروم والترك والديلم لأسلموا

ولهذا فإن غالب ما يرويه إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير في تفسيره عن هذين الرجلين ابن مسعود وابن عباس ولكن في بعض الأحيان ينقل عنهم ما يحكونه من أقاويل أهل الكتاب التي أباحها رسول الله حيث قال [ بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ] رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو

ولهذا كان عبد الله بن عمرو وقد أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب فكان يحدث منهما بما فهمه من هذا الحديث من الإذن في ذلك

ولكن هذه الأحاديث الإسرائيلية تذكر للاستشهاد لا للاعتقاد فإنها على ثلاث أقسام أحدها ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق فذاك صحيح والثاني ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه والثالث ما هو مسكوت عنه لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل فلا نؤمن به ولا نكذبه وتجوز حكايته لما تقدم وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني

ولهذا يختلف علماء أهل الكتاب في مثل هذا كثيرا ويأتي عن المفسرين خلاف بسبب ذلك كما يذكرون في مثل هذا أسماء أصحاب الكهف ولون كلبهم وعدتهم وعصا موسى من أي الشجر كانت وأسماء الطيور التي أحياها الله لإبراهيم وتعين البعض الذي ضرب به المقتول من البقرة ونوع الشجرة التي كلم الله منها موسى إلى غير ذلك مما أبهمه الله في القرآن مما لا فائدة في تعيينه تعود على المكلفين في دنياهم ولا دينهم

ولكن نقل الخلاف عنهم في ذلك جائز كما قال تعالى { سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا } فقد اشتملت هذه الآية الكريمة على الأدب في هذا المقام وتعليم ما ينبغي في مثل هذا فإنه تعالى أخبر عنهم بثلاثة أقوال ضعف القولين الأولين وسكت عن الثالث فدل على صحته إذ لو كان باطلا لرده كما ردهما ثم أرشد إلى أن الاطلاع على عدتهم لا طائل تحته فيقال في مثل هذا { قل ربي أعلم بعدتهم } فإنه ما يعلم بذلك إلا قليل من الناس ممن أطلعه الله عليه فلهذا قال { فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا } أي لا تجهد نفسك فيما لا طائل تحته ولا تسألهم عن ذلك فإنهم لا يعلمون من ذلك إلا رجم الغيب

فهذا أحسن ما يكون في حكاية الخلاف : أن تستوعب الأقوال في ذلك المقام وأن ينبه على الصحيح منها ويبطل الباطل وتذكر فائدة الخلاف وثمرته لئلا يطول النزاع والخلاف فيما لا فائدة تحته فيشتغل به عن الأهم

فأما من حكى خلافا في مسالة ولم يستوعب أقوال الناس فيها فهو ناقص إذ قد يكون الصواب في الذي تركه أو يحكي الخلاف ويطلقه ولا ينبه على الصحيح من الأقوال فهو ناقص أيضا فإن صحح غير الصحيح عامدا فقد تعمد الكذب أو جاهلا فقد أخطأ كذلك من نصب الخلاف فيما لا فائدة تحته أو حكى أقوالا متعددة لفظا ويرجع حاصلها إلى قول أو قولين معنى فقد ضيع الزمان وتكثر مما ليس بصحيح فهو كلابس ثوبي زور والله الموفق للصواب

في الرجوع إلى أقوال التابعين إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة ولا عن الصحابة

إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة ولا وجدته عن الصحابة فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين كمجاهد بن جبر فإنه كان آية في التفسير كما قال محمد بن إسحاق : حدثنا أبان بن صالح عن مجاهد قال : عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها وبه إلى الترمذي قال حدثنا الحسين بن مهدي البصري حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال مجاهد : ما في القرآن آية إلا وقد سمعت فيها شيئا وبه إليه قال : حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان بن عيينة عن الأعمش قال مجاهد : لو كنت قرأت قراءة ابن مسعود لم أحتج أن أسأل ابن عباس عن كثير من القرآن مما سألت وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب قال حدثنا طلق بن غنام عن عثمان المكي عن بن أبي مليكة قال : رأيت مجاهدا سأل ابن عباس عن تفسير القرآن ومعه ألواحه فيقول له ابن عباس اكتب حتى سأله عن التفسير كله

ولهذا كان سفيان الثوري يقول : إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به

و كسعيد بن جبير وعكرمة مولى ابن عباس وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري ومسروق بن الأجدع وسعيد بن مسيب وأبي العالية والربيع وابن أنس وقتادة والضحاك بن مزاحم وغيرهم من التابعين وتابعيهم ومن بعدهم فتذكر أقوالهم في الآية فيقع في عباراتهم تباين في الألفاظ يحسبها من لا علم عنده اختلافا فيحكيها أقوالا وليس كذلك فإن منهم من يعبر عن الشيء بلازمه أو نظيره ومنهم من ينص عن الشيء بعينه والكل بمعنى واحد في كثير من الأماكن فليتفطن اللبيب لذلك والله الهادي

وقال شعبة بن الحجاج وغيره أقوال التابعين في الفروع ليست حجة فكيف تكون حجة في التفسير يعني أنها لا تكون حجة على غيرهم ممن خالفهم وهذا صحيح أما إذا اجتمعوا على الشيء فلا يرتاب في كونه حجة فإن اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حجة على بعض ولا على من بعدهم ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن أو السنة أو عموم لغة العرب أو أقوال الصحابة في ذلك

في تفسير القرآن بمجرد الرأي

فأما تفسير القرآن بمجرد الرأي فحرام حدثنا مؤمل حدثنا سفيان حدثنا عبد الأعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : [ قال رسول الله من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار ]

حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن عبد الأعلى الثعلبي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : [ قال رسول الله من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار ] وبه إلى الترمذي قال حدثنا عبد بن حميد حدثني حبان بن هلال قال حدثنا سهيل أخو حزام القطعي قال حدثنا أبو عمران الجوني عن جندب قال : [ قال رسول الله من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ ] و قال الترمذي هذا حديث غريب وقد تكلم بعض أهل الحديث في سهيل بن أبي حزم وهكذا روى بعض أهل العلم عن أصحاب النبي وغيرهم أنهم شددوا في أن يفسر القرآن بغير علم وأما الذي روي عن مجاهد وقتادة وغيرهما من أهل العلم أنهم فسروا القرآن فليس الظن بهم أ نهم قالوا في القرآن وفسروه بغير علم أو من قبل أنفسهم وقد روي عنهم ما يدل على ما قلنا أنهم لم يقولوا من قبل أنفسهم بغير علم فمن قال في القرآن برأيه فقد تكلف ما لا علم له به وسلك غير ما أمر به فلو أنه أصاب المعنى في نفس الأمر لكان قد أخطأ لأنه لم يأت الأمر من بابه كمن حكم بين الناس عن جهل فهو في النار وإن وافق حكمه الصواب في نفس الأمر لكن يكون أخف جرما ممن أخطأ

والله أعلم وهكذا سمى الله تعالى القذف كاذبين فقال { فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون } فالقاذف كاذب ولو كان قد قذف من زنى في نفس الأمر لأنه أخبر بما لا يحل له الإخبار به وتكلف ما لا علم له به والله أعلم

ولهذا تحرج جماعة من السلف عن تفسير ما لا علم لهم به كما روى شعبة عن سلميان عن عبدالله بن مرة عن أبي معمر قال : قال أبو بكر الصديق أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله ما لم أعلم وقال أبو عبيد القاسم بن سلام : حدثنا محمود بن يزيد عن العوام بن حوشب عن إبراهيم التيمي أن أبا بكر الصديق سئل عن قوله { وفاكهة وأبا } فقال أي سماء تظلني تقلني إن أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم إسناده منقطع

وقال أبو عبيد أيضا حدثنا يزيد عن حميد عن أنس أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر { وفاكهة وأبا } فقال : هذه الفاكهة قد عرفناها فما الأب ثم رجع إلى نفسه فقال إن هذا لهو التكلف يا عمر

وقال عبد بن حميد حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا حماد بن زيد عن ثابت عن أنس قال : كنا عند عمر بن الخطاب وفي ظهر قميصه أربع رقاع فقرأ { وفاكهة وأبا } فقال : ما الأب ثم قال إن هذا لهو التكلف فما عليك أن لا تدريه وهذا كله محمول على أنهما رضي الله عنهما إنما أرادا استكشاف علم كيفية الأب وإلا فكونه نبتا في الأرض ظاهر لا يجهل لقوله تعالى { فأنبتنا فيها حبا * وعنبا وقضبا * وزيتونا ونخلا * وحدائق غلبا }

وقال ابن جرير : حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا ابن علية عن أيوب عن ابن أبي ملكية أن ابن عباس سئل عن آية لو سئل عنها بعضكم لقال فيها فأبى أن يقول فيها إسناده صحيح

وقال أبو عبيد : حدثنا إسمعيل بن إبراهيم عن أيوب عن ابن أبي مليكة قال : سأل رجل ابن عباس عن { يوم كان مقداره ألف سنة } فقال له ابن عباس فما { يوم كان مقداره خمسين ألف سنة } فقال الرجل : إنما سألتك لتحدثني فقال ابن عباس هما يومان ذكرهما الله في كتابه الله أعلم بهما فكره أن يقول في كتاب الله ما لا يعلم

وقال ابن جرير حدثني يعقوب يعني ابن إبراهيم حدثنا ابن علية عن مهدي ين ميمون عن الوليد بن مسلم قال : جاء طلق بن حبيب إلى جندب بن عبد الله فسأله عن آية من القرآن فقال له أحرج عليك إن كنت مسلما لما قمت عني أو قال أن تجالسني

وقال مالك عن يحي بن سعيد بن المسيب أنه كان إذا سئل عن تفسير آية من القرآن قال إنا لا نقول في القرآن شيئا

وقال الليث عن يحي بن سعيد بن مسيب أنه كان لا يتكلم إلا في العلوم من القرآن

وقال شعبة عن عمرو بن مرة قال سأل رجل سعيد بن مسيب عن آية من القرآن : فقال لا تسألني عن آية من القرآن وسل من يزعم أنه لا يخفي عليه شيء منه يعني عكرمة

وقال عبد الله بن شوذب حدثني يزيد بن أبي يزيد قال كنا نسأل سعيد بن مسيب عن الحلال والحرام وكان أعلم الناس فإذا سألناه عن تفسير آية من القرآن سكت كأن لم يسمع

وقال ابن جرير حدثني أحمد قال : لقد أدركت فقهاء المدينة وإنهم ليعظمون القول في التفسير منهم سالم بن عبد الله والقاسم بن محمد وسعيد بن المسيب ونافع

وقال أبو عبيد حدثنا عبد الله بن صالح عن الليث عن هشام بن عروة قال ما سمعت أبي تأول آية من كتاب الله قط

وعن أيوب وابن عون وهشام الدستوائي عن محمد بن سيرين قال سألت عبيدة السلماني عن آية من القرآن فقال : ذهب الذين كانوا يعلمون فيما أنزل من القرآن فاتق الله وعليك بالسداد

وقال أبو عبيد حدثنا معاذ عن ابن عون عن عبيد الله بن مسلم بم يسار عن أبيه قال : إذا حدثت عن الله فقف حتى تنظر ما قبله وما بعده

حدثنا هشيم عن مغيرة عن إبراهيم قال : كان أصحابنا يتقون التفسير ويهابونه

وقال شعبة عن عبد الله بن أبي السفر قال : قال الشعبي : والله ما من آية إلا وقد سألت عنها ولكنها الرواية عن الله

وقال أبو عبيد حدثنا هشيم أنبأنا عمر بن أبى زائدة عن الشعبي عن مسروق قال : اتقوا التفسير فإنما هو الرواية عن الله

فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف محمولة على تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم به فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعا فلا حرج عليه

ولهذا روى عن هؤلاء وغيرهم أقوال في التفسير ولا منافاة لأنهم تكلموا فيما علموه وسكتوا عما جهلوه وهذا هو الواجب على كل أحد فإنه كما يجب السكوت عما لا علم له به فكذلك يجب القول فيما سئل عنه مما يعلمه لقوله تعالى { لتبيننه للناس ولا تكتمونه } و لما جاءفي الحديث المروي من طرق : [ من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار ]

وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار حدثنا مؤمل حدثنا سفيان عن أبى الزناد قال ابن عباس : التفسير على أربعة أوجه : وجه تعرفه العرب من كلامها وتفسير لا يعذر أحد بجهالته وتفسير يعلمه العلماء وتفسير لا يعلمه إلا الله والله سبحانه وتعالى أعلم

سؤال عن أقرب التفاسير إلى الكتاب والسنة وجوابه

سئل شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية رحمه الله عن أي التفاسير أقرب إلى الكتاب والسنة : الزمخشري أم قرطبي أم البغوي أم غير هؤلاء؟

فأجاب تغمده الله برحمته ورضوانه:

الحمد الله أما التفاسير التي في أيدي الناس فأصحها تفسير محمد بن جرير الطبري فإنه يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة وليس فيه بدعة ولا ينقل عن المتهمين كمقاتل بن بكير والكلبي

والتفاسير غير المأثور بالأسانيد كثيرة: كتفسير عبد الرزاق وعبد بن حميد ووكيع وابن أبي قتيبة وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه

وأما التفاسير الثلاثة المسئول عنها فأسلمها من البدعة والأحاديث الضعيفة (البغوي) لكنه مختصر من (تفسير الثعلبي) وحذف منه الأحاديث الموضوعة والبدع التي فيه وحذف أشياء غير ذلك

وأما (الواحدي) فإنه تلميذ الثعلبي وهو أخبر منه بالعربية ولكن الثعلبي فيه سلامة من البدع وإن ذكرها تقليدا لغيره وتفسيره وتفسير الواحدي البسيط والوجيز فيها فوائد جليلة وفيها غث كثير من المنقولات الباطلة وغيرها

وأما الزمخشري فتفسيره محشو بالبدعة وعلى طريقة المعتزلة من إنكار الصفات والرؤية والقول بخلق القرآن وأنكر أن الله مريد للكائنات خالق لأفعال العباد وغير ذلك من أصول المعتزلة

وأصولهم خمسة يسمونها: التوحيد والعدل والمنزلة بين المنزلتين وإنقاذ الوعيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكن معنى ( التوحيد ) عندهم يتضمن نفي الصفات ولهذا سمى ابن التومرت أصحابه الموحدين وهذا إنما هو إلحاد في أسماء الله وآياته

ومعنى (العدل) عندهم يتضمن التكذيب بالقدر وهو خلق أفعال العباد وإرادة الكائنات والقدر على شيء منهم من ينكر تقدم العلم والكتاب لكن هذا قول أئمتهم هؤلاء كنصب الزمخشري فإن مذهبه مذهب االمغيرة بن وعلي وأبي هاشم وأتباعهم ومذهب أبي الحسين والمعتزلة الذين على طريقته نوعان مشايخية وخشبية

وأما (المنزلة بين المنزلتين) فهي عندهم أن الفاسق لا يسمى مؤمنا بوجه من الوجوه كما لا يسمى كافرا فنزلوه بين منزلتين

(وإنفاذ الوعيد) عندهم معناه أن الفاسق الملة مخلدون في النار لا يخرجون منها بشفاعة ولا غير ذلك كما تقول الخوارج

و(الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) يتضمن عندهم جواز الخروج على الأئمة وقتالهم بالسيف

وهذه الأصول حشا بها الزمخشري كتابه بعبارة لا يهتدي أكثر إليها ولا لمقاصده فيها مع ما فيه من الأحاديث الموضوعة ومن النقل عن الصحابة والتابعين

وتفسير القرطبي خير منه بكثير وأقرب إلى طريقة أهل الكتاب والسنة وأبعد عن البدع وإن كان كل من هذه الكتب لا بد أن يشتمل على ما ينقد لكن يجب العدل بينها وإعطاء كل ذي حق حقه

وتفسير ابن عطية خير من تفسير الزمخشري وأصح نقلا وبحثا وأبعد عن البدع وإن اشتمل على بعضها بل هو خير منه بكثير لعله أرجح هذه التفاسير لكن تفسير ابن جرير أصح من هذه كلها

وثم تفاسير أخر كثيرة جدا كتفسير ابن الجوزي والماردي

سؤال عن جمع القراءات السبع وجوابه

وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن ( جمع القراءات السبع ) هل هو سنة أم بدعة وهل جمعت على عهد رسول الله أم لا وهل لجامعها مزية ثواب على من قرأ برواية واحدة أم لا؟

فأجاب رحمه الله:

الحمد لله، أما نفس معرفة القراءة وحفظها فسنة متبعة يأخذها الآخر عن الأول فمعرفة القراءة التي كان الرسول يقرأ بها أو يقرهم على القراءة بها أو يأذن لهم وقد قرأوا بها سنة والعارف في القراءات الحافظ لها له مزية على من لم يعرف ذلك ولا يعرف إلا قراءة واحدة

وأما جمعها في الصلاة أو التلاوة فهو بدعة مكروهة وأما جمعها لأجل الحفظ والدرس فهو من الاجتهاد الذي فعله طوائف في القراءة

تمت بحمد الله ومنه