مقدمة ابن خلدون/الفصل الثامن و العشرون في أن العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك

ملاحظات:


الفصل الثامن و العشرون في أن العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك عدل

والسّبب في ذلك أنّهم أكثر بداوة من سائر الأمم وأبعد مجالا في القفر وأغنى عن حاجات التّلول وحبوبها لاعتيادهم الشّظف وخشونة العيش فاستغنوا عن غيرهم فصعب انقياد بعضهم لبعض لإيلافهم ذلك وللتّوحّش ورئيسهم محتاج إليهمغالبا للعصبيّة الّتي بها المدافعة فكان مضطرّا إلى إحسان ملكتهم وترك مراغمتهم 1 لئلّا يختلّ عليه شأن عصبيّته فيكون فيها هلاكه وهلاكهم وسياسة الملك والسّلطان تقتضي أن يكون السّائس وازعا بالقهر وإلّا لم تستقم سياسته وأيضا فإنّ من طبيعتهم كما قدّمناه أخذ ما في أيدي النّاس خاصّة والتّجافي عمّا سوى ذلك من الأحكام بينهم ودفاع بعضهم عن بعض فإذا ملكوا أمّة من الأمم جعلوا غاية ملكهم الانتفاع بأخذ ما في أيديهم وتركوا ما سوى ذلك من الأحكام بينهم وربّما جعلوا العقوبات على المفاسد في الأموال حرصا على تكثير الجبايات وتحصيل الفوائد فلا يكون ذلك وازعا وربّما يكون باعثا بحسب الأغراض الباعثة على المفاسد واستهانة ما يعطي من ماله في جانب غرضه فتنمو المفاسد بذلك ويقع تخريب العمران فتبقى تلك الأمّة كأنّها فوضى مستطيلة أيدي بعضها على بعض فلا يستقيم لها عمران وتخرب سريعا شأن الفوضى كما قدّمناه فبعدت طباع العرب لذلك كلّه عن سياسة الملك وإنّما يصيرون إليها بعد انقلاب طباعهم وتبدّلها بصبغة دينيّة تمحو ذلك منهم وتجعل الوازع لهم من أنفسهم وتحملهم على دفاع النّاس بعضهم عن بعض كما ذكرناه واعتبر ذلك بدولتهم في الملّة لمّا شيّد لهم الدّين أمر السّياسة بالشّريعة وأحكامها المراعية لمصالح العمران ظاهرا وباطنا وتتابع فيها الخلفاء عظم حينئذ ملكهم وقوي سلطانهم. كان رستم 2 إذا رأى المسلمين يجتمعون للصّلاة يقول أكل عمر كبدي يعلّم الكلاب الآداب ثمّ إنّهم بعد ذلك انقطعت منهم عن الدّولة أجيال نبذوا الدّين فنسوا السّياسة ورجعوا إلى قفرهم وجهلوا شأن عصبيّتهم مع أهل الدّولة ببعدهم عن الانقياد وإعطاء النّصفة فتوحّشوا كما كانوا ولم يبق لهم من اسم الملك إلّا أنّهم من جنس الخلفاء ومن جيلهم ولمّا ذهب أمر الخلافة وامّحي رسمها انقطع الأمر جملة من أيديهم وغلب عليهم العجم دونهم وأقاموا في بادية قفارهم لا يعرفون الملك ولا سياسته بل قد يجهل الكثير منهم أنّهم قد كان لهم ملك في القديم وما كان في القديم لأحد من الأمم في الخليقة ما كان لأجيالهم من الملك ودول عاد وثمود والعمالقة وحمير والتّبابعة شاهدة بذلك ثمّ دولة مضر في الإسلام بني أميّة وبني العبّاس لكن بعد عهدهم بالسّياسة لمّا نسوا الدّين فرجعوا إلى أصلهم من البداوة وقد يحصل لهم في بعض الأحيان غلب على الدّول المستضعفة كما في المغرب لهذا العهد فلا يكون ماله وغايته إلّا تخريب ما يستولون عليه من العمران كما قدّمناه وَالله يُؤْتِي مُلْكَهُ من يَشاءُ 2: 247.

حواش عدل

  1. عدائهم وهجرانهم.
  2. رستم هو قائد جيوش الفرس في معركة القادسية.