مقدمة ابن خلدون/الفصل السادس و العشرون في أن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب

ملاحظات:


الفصل السادس و العشرون في أن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب عدل

والسّبب في ذلك أنّهم أمّة وحشيّة باستحكام عوائد التّوحّش وأسبابه فيهم فصار لهم خلقا وجبلّة وكان عندهم ملذوذا لما فيه من الخروج عن ربقة الحكم وعدم الانقياد للسّياسة وهذه الطّبيعة منافية للعمران ومناقضة له فغاية الأحوال العاديّة كلها عندهم الرّحلة والتّغلب 1 وذلك مناقض للسّكون الّذي به العمران ومناف له فالحجر مثلا إنّما حاجتهم إليه لنصبه أثافيّ القدر فينقلونه من المباني ويخرّبونها عليه ويعدّونه لذلك والخشب أيضا إنّما حاجتهم إليه ليعمّدوا 2 به خيامهم ويتّخذوا الأوتاد منه لبيوتهم فيخرّبون السّقف عليه لذلك فصارت طبيعة وجودهم منافية للبناء الّذي هو أصل العمران هذا في حالهم على العموم وأيضا فطبيعتهم انتهاب ما في أيدي النّاس وأنّ رزقهم في ظلال رماحهم وليس عندهم في أخذ أموال النّاس حدّ ينتهون إليه بل كلّما امتدّت أعينهم إلى مال أو متاع أو ماعون انتهبوه فإذا تمّ اقتدارهم على ذلك بالتّغلب والملك بطلت السّياسة في حفظ أموال النّاس وخرب العمران وأيضا فلأنّهم يكلّفون على أهل الأعمال من الصّنائع والحرف أعمالهم لا يرون لها قيمة ولا قسطا من الأجر والثّمن والأعمال كما سنذكره هي أصل المكاسب وحقيقتها وإذا فسدت الأعمال وصارت مجّانا ضعفت الآمال في المكاسب وانقبضت الأيدي عن العمل وابذعرّ السّاكن وفسد العمران وأيضا فإنّهم ليست لهم عناية بالأحكام وزجر النّاس عن المفاسد ودفاع بعضهم عن بعض إنّما همّهم ما يأخذونه من أموال النّاس نهبا أو غرامة فإذا توصّلوا إلى ذلك وحصلوا عليه أعرضوا عمّا بعده من تسديد أحوالهم والنّظر في مصالحهم وقهر بعضهم عن أغراض المفاسد وربّما فرضوا العقوبات في الأموال حرصا على تحصيل الفائدة والجباية والاستكثار منها كما هو شأنهم وذلك ليس بمغن في دفع المفاسد وزجر المتعرّض لها بل يكون ذلك زائدا فيها لاستسهال الغرم في جانب حصول الغرض فتبقى الرّعايا في ملكتهم كأنّها فوضى 3 دون حكم والفوضى مهلكة للبشر مفسدة للعمران بما ذكرناه من أنّ وجود الملك خاصّة طبيعيّة للإنسان لا يستقيم وجودهم واجتماعهم إلّا بها وتقدّم ذلك أوّل الفصل وأيضا فهم متنافسون في الرّئاسة وقلّ أن يسلّم أحد منهم الأمر لغيره ولو كان أباه أو أخاه أو كبير عشيرته إلّا في الأقلّ وعلى كره من أجل الحياء فيتعدّد الحكّام منهم والأمراء وتختلف الأيدي على الرّعيّة في الجباية والأحكام فيفسد العمران وينتقض. قال الأعرابيّ الوافد على عبد الملك لمّا سأله عن الحجّاج وأراد الثّناء عليه عنده بحسن السّياسة والعمران فقال: «تركته يظلم وحده» وانظر إلى ما ملكوه وتغلّبوا عليه من الأوطان من لدن الخليقة كيف تقوّض عمرانه وأقفر ساكنه وبدّلت الأرض فيه غير الأرض فاليمن قرارهم خراب إلّا قليلا من الأمصار وعراق العرب كذلك قد خرب عمرانه الّذي كان للفرس أجمع والشّام لهذا العهد كذلك وإفريقية والمغرب لمّا جاز إليها بنو هلال وبنو سليم منذ أوّل المائة الخامسة وتمرّسوا بها لثلاثمائة وخمسين من السّنين قد لحق بها وعادت بسائطه خرابا كلّها بعد أن كان ما بين السّودان والبحر الرّوميّ كلّه عمرانا تشهد بذلك آثار العمران فيه من المعالم وتماثيل البناء وشواهد القرى والمدر والله يرث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.


حواش عدل

  1. بمعنى التنقل.
  2. عمد السقف: دعائمه وركائزه.
  3. ومما يعزى آلى سيدنا علي: لا تصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا