مقدمة ابن خلدون - الجزء الخامس
الفصل الحادي و الثلاثون في صناعة الوراقة
كانت العناية قديماً بالدواوين العلمية و السجلات في نسخها و تجليدها و تصحيحها بالرواية و الضبط. و كان سبب ذلك ما وقع من ضخامة الدولة و توابع الحضارة. و قد ذهب ذلك لهذا العهد بذهاب الدولة و تناقص العمران بعد أن كان منه في الملة الإسلامية بحر زاخر بالعراق و الأندلس إذ هو كله من توابع العمران و اتساع نطاق الدولة و نفاق أسواق ذلك لديهما. فكثرت التآليف العلمية و الدواوين و حرص الناس على تناقلهما في الآفاق و الأعصار فانتسخت و جلدت. و جاءت صناعة الوراقين المعانين للانتساخ و التصحيح و التجليد و سائر الأمور الكتبية. و الدواوين و اختصت بالأمصار العظيمة العمران. و كانت السجلات أولاً: لانتساخ العلوم و كتب الرسائل السلطانية و الإقطاعات، و الصكوك في الرقوق المهيأة بالصناعة من الجلد لكثرة الرفه و قلة التآليف صدر الملة كما نذكره. و قلة الرسائل السلطانية و الصكوك مع ذلك فاقتصروا على الكتاب في الرق تشريفاً للمكتوبات و ميلاً بها إلى الصحة و الإتقان. ثم طما بحر التآليف و التدوين و كثر ترسيل السلطان و صكوكه و ضاق الرق عن ذلك. فأشار الفضل بن يحيى صناعة الكاغد و صنعه و كتب فبه رسائل السلطان و صكوكه. و اتخذه الناس من بعده صحفاً لمكتوباتهم السلطانية و العلمية. و بلغت الإجادة في صناعته ما شاءت. ثم وقفت عناية أهل العلوم و همم أهل الدول على ضبط الدواوين العلمية و تصحيحها بالرواية المسندة إلى مؤلفيها و واضعيها لأنه الشأن الأهم من التصحيح و الضبط فبذلك تسند الأقوال إلى قائلها و الفتيا إلى الحاكم بها المجتهد في طريق استنباطها. و ما لم يكن تصحيح المتون بإسنادها إلى مدونها فلا يصح إسناد قول لهم و لا فتيا. و هكذا كان شأن أهل العلم و حملته في العصور و الأجيال و الآفاق. حتى لقد قصرت فائدة الصناعة الحديثية في الرواية على هذه فقط إذ ثمرتها الكبرى من معرفة صحيح الأحاديث و حسنها و مسندها و مرسلها و مقطوعها و موقوفها من موضوعها قد ذهبت و تمخضت زبدةً في ذلك الأمهات المتلقاة بالقبول عند الأمة. و صار القصد إلى ذلك لغواً من العمل. و لم تبق ثمرة الرواية و الاشتغال بها إلا في تصحيح تلك الأمهات الحديثية و سواها من كتب الفقه للفتيا، و غير ذلك من الدواوين و التآلبف العلمية. و اتصال سندها بمؤلفيها ليصح النقل عنهم، و الإسناد إليهم. و كانت هذه الرسوم بالمشرق و الأندلس معبدة الطرق واضحة المسالك. و لهذا نجد الدواوين المنتسخة لذلك العهد في أقطارهم على غاية من الإتقان و الإحكام و الصحة. و منها لهذا العهد بأيدي الناس في العالم أصول عتيقة تشهد ببلوغ الغاية لهم في ذلك. و أهل الآفاق يتناقلونها إلى الآن و يشدون عليها يد الضنانة و لقد ذهبت هذه الرسوم لهذا العهد جملة بالمغرب و أهله لانقطاع صناعة الخط و الضبط و الرواية منه بانتقاص عمرانه و بداوة أهله و صارت الأمهات و الدواوين تنسخ بالخطوط اليدوية تنسخها طلبة البربر صحائف مستعجمة برداءة الخط و كثرة الفساد و التصحيف فتستغلق على متصفحها و لا يحصل منها فائدة إلا في الأمل النادر. و أيضاً فقد دخل الخلل من ذلك في الفتيا فإن غالب الأقوال المعزوة غير مروية عن أئمة المذهب و إنما تتلقى من تلك الدواوين على ما هي عليه. و تبع ذلك أيضاً ما يتصدى إليه بعض أئمتهم من التأليف لقلة بصرهم بصناعته و عدم الصنائع الوافية بمقاصده. و لم ينق من هذا الرسم بالأندلس إلا إثارة خفية بالإمحاء و هي الاضمحلال فقد كاد العلم ينقطع بالكلية من المغرب. و الله غالب على أمره. و يبلغنا لهذا العهد أن صناعة الرواية قائمة بالمشرق و تصحيح الدواوين لمن يرومه بذلك سهل على مبتغيه لنفاق أسواق العلوم و الصنائع كما نذكره بعد. إلا أن الخط الذي بقي من الإجادة في الانتساخ هنالك إنما هو للعجم و في خطوطهم. و أما النسخ بمصر ففسد كما فسد بالمغرب و أشد. و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق.
الفصل الثاني و الثلاثون في صناعة الغناء
هذه الصناعة هي تلحين الأشعار الموزونة بتقطيع الأصوات على نسب منتظمة معروفة يوقع كل صوت منها توقيعاً عند قطعه فيكون نغمة. ثم تؤلف تلك النغم بعضها إلى بعض على نسب متعارفة فيلذ سماعها لأجل ذلك التناسب و ما يحدث عنه من الكيفيه في تلك الأصوات. و ذلك أنه تبين في علم الموسيقى أن الأصوات تتناسب، فيكون صوت نصف صوت و ربع آخر و خمس آخر و جزء من أحد عشر من آخر و اختلاف هذه النسب عند تأديتها إلى السمع بخروجها من البساطة إلى التركيب و ليس كل تركيب منها ملذوذاً عند السماع بل للمنذور تراكيب خاصة و هي التي حصرها أهل علم الموسيقى و تكلموا عليها كما هو مذكور في موضعه و قد يساوق ذلك التلحين في النغمات الغنائية بتقطيع أصوات أخرى من الجمادات إما بالقرع أو بالنفخ في الآلات تتخذ لذلك فترى لها لذة عند السماع. فمنها لهذا العهد بالمغرب أصناف منها المزمار و يسمونه الشبابة و هي قصبة جوفاء بأبخاش في جوانبها معدودة ينفخ فيها فتصوت. فيخرج الصوت من جوفها على سداده من تلك الأبخاش و يقطع الصوت بوضع الأصابع من اليدين جميعاً على تلك الأبخاش وضعا متعارفاً حتى تحدث النسب بين الأصوات فيه و تتصل كذلك متناسبة فيلتذ السمع بإدراكها للتناسب الذي ذكرناه. و من جنس هذه الآلة المزمار الذي يسمى الزلامي و هو شكل القصبة منحوتة الجانبين من الخشب جوفاء من غير تدوير لأجل ائتلافها في قطعتين منفردتين كذلك بأبخاش معدودة ينفخ فيها بقصبة صغيرة توصل فينفذ النفخ بواسطتها إليها و تصوت بنغمة حادة يجرى فيها من تقطيع الأصوات من تلك الأبخاش بالأصابع مثل ما يجري في الشبابة. و من أحسن آلات الزمر لهذا العهد البوق و هو بوق من نحاس أجوف في مقدار الذراع. يتسع إلى أن يكون انفراج مخرجه في مقدار دون الكف في شكل بري القلم. و ينفخ فيه بقصبة صغيرة تؤدي الريح من الفم إليه فيخرج الصوت ثخيناً دوياً و فيه أبخاش أيضاً معدودة. و تقطع نغمة منها كذلك بالأصابع على التناسب فيكون ملذوذاً. و منها آلات الأوتار و هي جوفاء كلها إما على شكل قطعة من الكرة مثل المربط و الرباب أو على شكل مربع كالقانون توضع الأوتار على بسائطها مشدودة في رأسها إلى دسر جائلة ليأتي شد الأوتار و رخوها عند الحاجة إليه بإدارتها. ثم تقرع الأوتار إما بعود آخر أو بوتر مشدود بين طرفي قوس يمر عليها بعد أن يطلى بالشمع و الكندر. و يقطع الصوت فيه بتخفيف اليد في إمراره أو نقله من وتر إلى وتر. و اليد اليسرى مع ذلك في جميع آلات الأوتار توقع بأصابعها على أطراف الأوتار فيما يقرع أو يحك بالوتر فتحدث الأصوات متناسبة ملذوذة. و قد يكون القرع في الطسوت بالقضبان أو في الأعواد بعضها ببعض على توقيع مناسب يحدث عنه التذاذ بالمسموع. و لنبين لك السبب في اللذة الناشئة عن الغناء. و ذلك أن اللذة كما تقرر في موضعه هي إدراك الملائم و المحسوس إنما تدرك منه كيفية. فإذا كانت مناسبة للمدرك و ملائمة كانت ملذوذة، و إذا كانت منافية له منافرة كانت مؤلمة. فالملائم من الطعوم ما ناسبت كيفيته حاسة الذوق في مزاجها و كذا الملائم من الملموسات و في الروائح ما ناسب مزاج الروح القلبي البخاري لأنه المدرك و إليه تؤديه الحاسة. و لهذا كانت الرياحين و الأزهار العطريات أحسن رائحة و أشد ملاءمة للروح لغلبة الحرارة فيها التي هي مزاج الروح القلبي. و أما المرئيات و المسموعات فالملائم فيها تناسب الأوضاع في أشكالها و كيفياتها فهو أنسب عند النفس و أشد ملاءمة لها. فإذا كان المربي متناسباً في أشكاله و تخاطيطه التي له بحسب مادته بحيث لا يخرج عما تقتضيه مادته الخاصة من كمال المناسبة و الوضع و ذلك هو معنى الجمال و الحسن في كل مدرك. كان ذلك حينئذ مناسباً للنفس المدركة فتلتذ بإدراك ملائمها، و لهذا تجد العاشقين المستهترين في المحبة يعبرون عن غاية محبتهم و عشقهم بامتزاج أرواحهم بروح المحبوب. و في هذا سر تفهمه إن كنت من أهله و هو اتحاد المبدأ و إن كان ما سواك إذا نظرته و تأملته رأيت بينك و بينه اتحاداً في البداءة. يشهد لك به اتحاد كما في الكون و معناه من وجه آخر أن الوجود يشرك بين الموجودات كما تقوله الحكماء. فتود أن يمتزج بمشاهدات فيه الكمال لتتحد به بل تروم النفس حينئذ الخروج عن الوهم إلى الحقيقة التي هي اتحاد المبدإ و الكون. و لما كان أنسب الأشياء إلى الإنسان و أقربها إلى أن يدرك الكمال في تناسب موضوعها هو شكله الإنساني فكان إدراكه للجمال و الحسن في تخاطيطه و أصواته من المدارك التي هي أقرب إلى فطرته، فيلهج كل إنسان بالحسن من المرئي أو المسموع بمقتضى الفطرة. و الحسن في المسموع أن تكون الأصوات متناسبة لا متنافرة. و ذلك أن الأصوات لها كيفيات من الهمس و الجهر و الرخاوة و الشدة و القلقلة و الضغط و غير ذلك. و التناسب فيها هو الذي يوجب لها الحسن. فأولاً: أن لا يخرج من الصوت إلى مده دفعة بل بتدريج. ثم يرجع كذلك، و هكذا إلى المثل، بل لا بد من توسط المغاير بين الصوتين. و تأمل هذا من افتتاح أهل اللسان التراكيب من الحروف المتنافرة أو المتقاربة المخارج فإنه من بابه. و ثانياً: تناسبها في الأجزاء كما مر أول الباب فيخرج من الصوت إلى نصفه أو ثلثه أو جزء من كذا منه، على حسب ما يكون التنقل متناسباً على ما حصره أهل الصناعة. فإذا كانت الأصوات على تناسب في الكيفيات كما ذكره أهل تلك الصناعة كانت ملائمة ملذوذة. و من هذا التناسب ما يكون بسيطاً و يكون الكثير من الناس مطبوعاً عليه لا يحتاجون فيه إلى تعليم و لا صناعة كما نجد المطبوعين على الموازين الشعرية و توقيع الرقص و أمثال ذلك. و تسمي العامة هذه القابلية بالمضمار. و كثير من القراء بهذه المثابة يقرأون القرآن فيجيدون في تلاحين أصواتهم كأنها المزامير فيطربون بحسن مساقهم و تناسب نغماتهم. و من هذا التناسب ما يحدث بالتركيب و ليس كل الناس يستوي في معرفته و لا كل الطباع توافق صاحبها في العمل به إذا علم. و هذا هو التلحين الذي يتكفل به علم الموسيقى كما نشرحة بعد عند ذكر العلوم. و قد أنكر مالك رحمه الله تعالى القراءة بالتلحين و أجازها الشافعي رضي الله تعالى عنه. و ليس المراد تلحين الموسيقى الصناعي فإنه لا ينبغي أن يختلف في حظره إذ صناعة الغناء مباينة للقرآن بكل وجه لأن القراءة و الأداء تحتاج إلى مقدار من الصوت لتعين أداء الحروف لا من حيث اتباع الحركات في مواضعها و يقدار المد عند من يطلقه أو يقصره، و أمثال ذلك. و التلحين أيضاً يتعين له مقدار من الصوت لا تتم إلا به من أجل التناسب الذي قلناه في حقيقة التلحين و اعتبار أحدهما قد يخل بالآخر إذا تعارضا. و تقديم الرواية، متعين فراراً من تغيير الرواية المنقولة في القرآن، فلا يمكن اجتماع التلحين و الأداء المعتبر في القرآن بوجه و إنما مرادهم التلحين البسيط الذي يهتدي إليه صاحب المضمار بطبعه كما قدمناه فيردد أصواته ترديداً على نسب يدركها العالم بالغناء و غيره و لا ينبغي ذلك بوجه و إنما المراد من اختلافهم التلحين البسيط الذي يهتدي إليه صاحب المضمار بطبعه كما قدمناه، فيردد أصواته ترديداً على نسب يدركها العالم بالغناء و غيره، و لا ينبغي ذلك بوجه كما قاله مالك. هذا هو محل الخلاف. و الظاهر تنزيه القرآن عن هذا كله كما ذهب إليه الإمام رحمة الله تعالى لأن القرآن محل خشوع بذكر الموت و ما بعده و ليس مقام التذاذ بإدراك الحسن من الأصوات. و هكذا كانت قراءة الصحابة رضي الله عنهم كما في أخبارهم. و أما قوله صلى الله عليه و سلم: لقد أوتي مزماراً من مزامير آل داود فليس المراد به الترديد و التلحين إنما معناه حسن الصوت و أداء القراءة و الإبانة في مخارج الحروف و النطق بها. و إذ قد ذكرنا معنى الغناء فاعلم أنه يحدث في العمران إذا توفر و تجاوز حد الضروري إلى الحاجي، ثم إلى الكمالي، و تفننوا فيه، فتحدث هذه الصناعة، لأنه لا يستدعيها إلا من فرغ من جميع حاجاته الضرورية و المهمة من المعاش و المنزل و غيره فلا يطلبها إلا الفارغون عن سائر أحوالهم تفنناً في مذاهب الملذوذات. و كان في سلطان العجم قبل الملة منها بحر زاخر في أمصارهم و مدنهم. و كان ملوكهم يتخذون ذلك و يولعون به، حتى لقد كان لملوك الفرس اهتمام بأهل هذه الصناعة، و لهم مكان في دولتهم، و كانوا يحضرون مشاهدهم و مجامعهم و يغنون فيها. و هذا شأن العجم لهذا العهد في كل أفق من آفاقهم. و مملكة من ممالكهم. و أما العرب فكان لهم أولاً فن الشعر يؤلفون فيه الكلام أجزاء متساوية على تناسب بينها في عدة حروفها المتحركة و الساكنة. و يفصلون الكلام في تلك الأجزاء تفصيلاً يكون كل جزء منها مستقلاً بالإفادة، لا ينعطف على الآخر. و يسمونه البيت. فتلائم الطبع بالتجزئة أولاً ثم يتناسب الأجزاء في المقاطع و المبادئ، ثم بتأدية المعنى المقصود و تطبيق الكلام عليها. فلهجوا به فامتاز من بين كلامهم بخط من الشرف ليس لغيره لأجل اختصاصه. بهذا التناسب. و جعلوه ديواناً لأخبارهم و حكمهم و شرفهم و محكاً لقرائحهم في إصابة المعاني و إجادة الأساليب. و استمروا على ذلك. و هذا التناسب الذي من أجل الأجزاء و المتحرك و الساكن من الحروف قطرة من بحر من تناسب الأصوات كما هو معروف في كتب الموسيقى. إلا أنهم لم يشعروا بما سواه لأنهم حينئذ لم ينتحلوا علماً و لا عرفوا صناعةً. و كانت البداوة أغلب نحلهم. ثم تغنى الحداة منهم في حداء إبلهم و الفتيان في فضاء خلواتهم فرجعوا الأصوات و ترنموا. و كانوا يسمون الترنم إذا كان بالشعر غناء و إذا كان بالتهليل أو نوع القراءة تغييراً بالغين المعجمة و الباء الموحدة. و عللها أبو إسحاق الزجاج بأنها تذكر بالغابر و هو الباقي أي بأحوال الآخرة. و ربما ناسبوا في غنائهم بين النغمات مناسبة بسيطة كما ذكره ابن رشيق آخر كتاب العمدة و غيره. و كانوا يسمونه السناد. و كان أكثر ما يكون منهم، في الخفيف الذي يرقص عليه و يمشى بالدف و المزمار فيضطرب و يستخف الحلوم. و كانوا يسمون هذا الهرج و هذا البسيط كله من التلاحين هو من أوائلها و لا يبعد أن تتفطن له الطباع من غير تعليم شأن البسائط كلها من الصنائع. و لم يزل هذا شأن العرب في بداوتهم و جاهليتهم. فلما جاء الإسلام و استولوا على ممالك الدنيا و حازوا سلطان العجم و غلبوهم عليه و كانوا من البداوة و الغضاضة على الحال التي عرفت لهم مع غضارة الدين و شدته في ترك أحوال الفراغ و ما ليس بنافع في دين و لا معاش فهجروا ذلك شيئاً ما. و لم يكن الملذوذ عندهم إلا ترجيع القراءة و الترنم بالشعر الذي هو ديدنهم و مذهبهم. فلما جاءهم الترف و غلب عليهم الرفه بما حصل لهم من غنائم الأمم صاروا إلى نصارة العيش و رقة الحاشية و استحلاء الفراغ. و افترق المغنون من الفرس و الروم فوقعوا إلى الحجاز و صاروا موالي للعرب و غنوا جميعاً بالعيدان و الطنابير و المعازف و المزامير و سمع العرب تلحينهم للأصوات فلحنوا عليها أشعارهم. و ظهر بالمدينة نشيط الفارسي و طويس و سائب بن جابر مولى عبيد الله بن جعفر فسمعوا شعر العرب و لحنوه و أجادوا فيه و طار لهم ذكر. ثم أخذ عنهم معبد و طبقته و ابن شربح و أنظاره. و ما زالت صناعة الغناء تتدرج إلى أن كملت أيام بني العباس عند إبراهيم بن المهدي و إبراهيم الموصلي و ابنه إسحاق و ابنه حماد. و كان من ذلك في دولتهم ببغداد ما تبعه الحديث بعده به و بمجالسه بهذا العهد و أمعنوا في اللهو و اللعب و اتخذت آلات الرقص في الملبس و القضبان و الأشعار التي يترنم بها عليه. و جعل صنفاً وحده و اتخذت آلات أخرى للرقص تسمى بالكرج و هي تماثيل خيل مسرجة من الخشب معلقة بأطراف أقبية يلبسها النسوان و يحاكين بها امتطاء الخيل فيكرون و يفرون و يتثاقفون و أمثال ذلك من اللعب المعد للولائم و الأعراس و أيام الأعياد و مجالس الفراغ و اللهو. و كثر ذلك ببغداد و أمصار العراق و انتشر منها إلى غيرها. و كان للموصليين غلام اسمه زرياب أخذ عنهم الغناء فأجاد فصرفوه إلى المغرب غيرة منه فلحق بالحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل أمير الأندلس. فبالغ في تكرمته و ركب للقائه و أسنى له الجوائز و الإقطاعات و الجرايات و أحله من دولته و ندمائه بمكان. فأورث بالأندلس من صناعة الغناء ما تناقلوه إلى أزمان الطوائف. و طما منها بإشبيلية بحر زاخز و تناقل منها بعد ذهاب غضارتها إلى بلاد العدوة بإفريقية و المغرب. و انقسم على أمصارها و بها الآن منها صبابة على تراجع عمرانها و تناقص دولها. و هذه الصناعة آخر ما يحصل في العمران من الصنائع لأنها كمالية في غير وظيفة من الوظائف إلا وظيفة الفراغ و الفرح. و هو أيضاً أول ما ينقطع من العمران عند اختلاله و تراجعه. و الله أعلم.
الفصل الثالث و الثلاثون في أن الصنائع تكسب صاحبها عقلاً و خصوصاً الكتابة و الحساب
قد ذكرنا في الكتاب أن النفس الناطقة للإنسان إنما توجد فيه بالقوة. و أن خروجها من القوة إلى الفعل إنما هو بتجدد العلوم و الإدراكات عن المحسوسات أولاً، ثم ما يكتسب بعدها بالقوة النظرية إلى أن يصير إدراكاً بالفعل و عقلاً محضاً فتكون ذاتاً روحانيةً و يستكمل حينئذ وجودها. فوجب لذلك أن يكون كل نوع من العلم و النظر يفيدها عقلاً فريداً و الصنائع أبداً يحصل عنها و عن ملكتها قانون علمي مستفاد من تلك الملكة. فلهذا كانت الحنكة في التجربة تفيد عقلاً و الحضارة الكاملة تفيد عقلاً لأنها مجتمعة من صنائع في شأن تدبير المنزل و معاشرة أبناء الجنس و تحصيل الآداب في مخالطتهم ثم القيام بأمور الدين و اعتبار آدابها و شرائطها. و هذه كلها قوانين تنتظم علوماً فيحصل منها زيادة عقل. و الكتابة من بين الصنائع أكثر إفادة لذلك لأنها تشتمل على العلوم و الأنظار بخلاف الصنائع. و بيانه أن في الكتابة انتقالاً من الحروف الخطية إلى الكلمات اللفظية في الخيال و من الكلمات اللفظية في الخيال إلى المعاني التي في النفس فهو ينتقل أبداً من دليل إلى دليل، ما دام ملتبساً بالكتابة و تتعود النفس ذلك دائماً. فيحصل لها ملكة الانتقال من الأدلة إلى المدلولات و هو معنى النظر العقلي الذي يكسب العلوم المجهولة فيكسب بذلك ملكة من التعقل تكون زيادة عقل و يحصل به قوة فطنة و كيس في الأمور لما تعودوه من ذلك الانتقال. و لذلك قال كسرى في كتابه لما رآهم بتلك الفطنة و الكيس فقال: ديوانه أي شياطين و جنون. قالوا: و ذلك أصل اشتقاق الديوان لأهل الكتابة و يلحق بذلك الحساب فإن في صناعة الحساب نوع تصرف في المدد بالضم و التفريق يحتاج فيه إلى استدلال كثير فيبقى متعوداً للاستدلال و النظر و هو معنى العقل. و الله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً، و جعل لكم السمع و الأبصار و الأفئدة، قليلاً ما تشكرون.
الباب السادس من الكتاب الأول
في العلوم و أصنافها و التعليم و طرقه و سائر وجوهه و ما يعرض في ذلك كله من الأحوال و فيه مقدمة و لواحق فالمقدمة في الفكر الإنساني الذي تميز به البشر عن الحيوانات و اهتدى به لتحصيل معاشه و التعاون عليه بأبناء جنسه و النظر في معبوده. و ما جاءت به الرسل من عنده، فصار جميع الحيوانات في طاعته و ملك قدرته و فضله به على كثير خلقه.
الفصل الأول في أن العلم و التعليم طبيعي في العمران البشري
و ذلك أن الإنسان قد شاركته جميع الحيوانات في حيوانيته من الحس و الحركة و الغذاء و الكن و غير ذلك. و إنما تميز عنها بالفكر الذي يهتدي به لتحصيل معاشه و التعاون عليه بأبناء جنسه و الاجتماع المهيء لذلك التعاون و قبول ما جاءت به الأنبياء عن الله تعالى و العمل به و اتباع صلاح أخراه. فهو منكر في ذلك كله دائماً لا يفترعن الفكر فيه طرفة عين بل اختلاج الفكر أسرع من لمح البصر. و عن هذا الفكر تنشأ العلوم و ما قدمناه من الصنائع. ثم لأجل هذا الفكر و ما جبل عليه الإنسان بل الحيوان من تحصيل ما تستدعيه الطباع فيكون الفكر راغباً في تحصيل ما ليس عنده من الإدراكات فيرجع إلى من سبقه بعلم أو زاد عليه بمعرفة أو إدراك أو أخذه ممن تقدمه من الأنبياء الذين يبلغونه لمن تلقاه فيلقن ذلك عنهم و يحرص على أخذه و علمه. ثم أن فكره و نظره يتوجه إلى واحد واحد من الحقائق و ينظر ما يعرض له لذاته واحداً بعد آخر و يتمرن على ذلك حتى يصير إلحاق العوارض بتلك الحقيقة ملكة له فيكون حينئذ علمه بما يعرض لتلك الحقيقة علماً مخصوصاً. و تتشوف نفوس أهل الجيل الناشىء إلى تحصيل ذلك فيفرغون إلى أهل معرفته و يجيء التعليم من هذا. فقد تبين بذلك أن العلم و التعليم طبيعي في البشر. و الله أعلم.
الفصل الثاني في أن التعليم للعلم من جملة الصنائع
و ذلك أن الحذق في العلم و التفنن فيه و الاستيلاء عليه إنما هو بحصول ملكة في الإحاطة بمبادئه و قواعده و الوقوف على مسائله و استنباط فروعه من أصوله. و ما لم تحصل هذه الملكة لم يكن الحذق في ذلك الفن المتناول حاصلاً. و هذه الملكة هي في غير الفهم و الوعي. لأنا نجد فهم المسألة الواحدة من الفن الواحد و وعيها مشتركاً بين من شدا في ذلك الفن و بين من هو مبتدئ فيه و بين العامي الذي لم يعرف علماً و بين العالم النحرير. و الملكة إنما هي للعالم أو الشادي في. الفنون دون من سواهما فدل على أن هذه الملكة غير الفهم و الوعي. و الملكات كلها جسمانية سواء كانت في البدن أو في الدماغ من الفكر و غيره كالحساب. و الجسمانيات كلها محسوسة فتفتقر إلى التعليم. و لهذا كان السند في التعليم في كل علم أو صناعة يفتقر إلى مشاهير المعلمين فيها معتبراً عند كل أهل أفق و جيل. و يدل أيضاً على أن تعليم العلم صناعة اختلاف الاصطلاحات فيه. فلكل إمام من الأئمة المشاهير اصطلاح في التعليم يختص به شأن الصنائع كلها فدل على أن ذلك الاصطلاح ليس من العلم، و إذ لو كان من العلم لكان واحداً عند جميعهم. ألا ترى إلى علم الكلام كيف تخالف في تعليمه اصطلاح المتقدمين و المتأخرين و كذا أصول الفقه و كذا العربية و كذا كل علم يتوجه إلى مطالعته تجد الاصطلاحات في تعليمه متخالفة فدل على أنها صناعات في التعليم. و العلم واحد في نفسه. و إذا تقرر ذلك فاعلم أن سند تعليم العلم لهذا العهد قد كاد ينقطع عمن أهل المغرب باختلال عمرانه و تناقص الدول فيه. و ما يحدث عن ذلك من نقص الصنائع و فقدانها كما مر. و ذلك أن القيروان و قرطبة كانتا حاضرتي المغرب و الأندلس و استبحر عمرانهما و كان فيهما للعلوم و الصنائع أسواق نافقة و بحور زاخرة. و رسخ فيهما التعليم لامتداد عصورهما و ما كان فيهما من الحضارة. فلما خربتا انقطع التعليم من المغرب إلا قليلاً كان في دولة الموحدين بمراكش مستفاداً منها. و لم ترسخ الحضارة بمراكش لبداوة الدولة الموحدية في أولها و قرب عهد انقراضها بمبدئها فلم تتصل أحوال الحضارة فيها إلا في الأقل. و بعد انقراض الدولة بمراكش ارتحل إلى المشرق من أفريقية القاضي أبو القاسم بن زيتون لعهد أواسط المائة السابعة فأدرك تلميذ الإمام ابن الخطيب فأخذ عنهم و لقن تعليمهم. و حذق في العقليات و النقليات و رجع إلى تونس بعلم كثير و تعليم حسن. و جاء على أثره من المشرق أبو عبد الله بن شعيب الدكالي. كان ارتحل إليه من المغرب فأخذ عن مشيخة مصر و رجع إلى تونس و استقر بها و كان تعليمه مفيداً فأخذ عنهما أهل تونس. و اتصل سند تعليمهما في تلاميذهما جيلاً بعد جيل حتى انتهى إلى القاضي محمد بن عبد السلام. شارح بن الحاجب و تلميذه و انتقل من تونس إلى تلمسان في ابن الإمام و تلميذه. فإنه قرأ مع ابن عبد السلام على مشيخة واحدة في مجالس بأعيانها و تلميذ ابن عبد السلام بتونس و ابن الإمام بتلمسان لهذا العهد إلا أنهم من القلة بحيث يخشى انقطاع سندهم. ثم ارتحل من زواوة في آخر المائة السابعة أبو علي ناصر الدين المشدالي و أدرك تلميذ أبي عمرو بن الحاجب و أخذ عنهم و لقن تعليمهم. و قرأ مع شهاب الدين القرافي في مجالس واحدة و حذق في العقليات و النقليات. و رجع إلى المغرب بعلم كثير و تعليم مفيد. و نزل ببجاية و اتصل سند تعليمه في طلبتها. و ربما انتقل إلى تلمسان عمران المشدالي من تلميذه و أوطنها و بث طريقته فيها. و تلميذه لهذا العهد ببجاية و تلمسان قليل أو أقل من القليل. و بقيت فاس و سائر أقطار المغرب خلواً من حسن التعليم من لدن انقراض تعليم قرطبة و القيروان و لم يتصل سند التعليم فيهم فعصر عليهم حصول الملكة و الحذق في العلوم. و أيسر طرق هذه الملكة فتق اللسان بالمحاورة و المناظرة في المسائل العلمية فهو الذي يقرب شأنها و يحصل مرامها. فتجد طالب العلم منهم بعد ذهاب الكثير من أعمارهم في ملازمة المجالس العلمية سكوتاً لا ينطقون و لا يفاوضون و عنايتهم بالحفظ أكثر من الحاجة. فلا يحصلون على طائل من ملكة التصرف في العلم و التعليم ثم بعد تحصيل من يرى منهم أنه قد حصل تجد ملكته قاصرة في علمه إن فاوض أو ناظر أو علم و ما أتاهم القصور إلا قبل التعليم و انقطاع سنده. و إلا فحفظهم أبلغ من حفظ سواهم لشدة عنايتهم به، و ظنهم أنه المقصود من الملكة العلمية و ليس كذلك. و مما يشهد بذلك في المغرب أن المدة المعينة لسكنى طلبة العلم بالمدارس عندهم ست عشرة سنة و هي بتونس خمس سنين. و هذه المدة بالمدارس على المتعارف هي أقل ما يتأتى فيها لطالب العلم حصول مبتغاه من الملكة العلمية أو اليأس من تحصيلها فطال أمدها في المغرب لهذه المدة لأجل عسرها من قلة الجودة في التعليم خاصة لا مما سوى ذلك. و أما أهل الأندلس فذهب رسم التعليم من بينهم و ذهبت عنايتهم بالعلوم لتناقص عمران المسلمين بها منذ مئين من السنين. و لم يبق من رسم العلم فيهم إلا فن العربية و الأدب. اقتصروا عليه و الحفظ سند تعليمه بينهم فانحفظ بحفظه. و أما الفقه بينهم فرسم خلو و أثر بعد عين. و أما العقليات فلا أثر و لا عين. و ما ذاك إلا لانقطاع سند التعليم فيها بتناقص العمران و تغلب العدو على عامتها إلا قليلاً بسيف البحر شغلهم بمعايشهم أكثر من شغلهم بما بعدها. و الله غالب على أمره. و أما المشرق فلم ينقطع سند التعليم فيه بل أسواقه نافقة و بحوره زاخرة لاتصال العمران الموفور و اتصال السند فيه. و إن كانت الأمصار العظيمة التي كانت معادن العلم قد خربت مثل بغداد و البصرة و الكوفة إلا أن الله تعالى قد أدال منها بأمصار أعظم من تلك. و انتقل العلم منها إلى عراق العجم بخراسان، و ما وراء النهر من المشرق، ثم إلى القاهرة و ما إليها من المغرب، فلم تزل موفورة و عمرانها متصلاً و سند التعليم بها قائماً. فأهل المشرق على الجملة أرسخ في صناعة تعليم العلم بل و في سائر الصنائع. حتى أنه ليظن كثير من رحالة أهل المغرب إلى المشرق في طلب العلم أن عقولهم على الجملة أكمل من عقول أهل المغرب و أنهم أشد نباهة و أعظم كيساً بفطرتهم الأولى. و أن نفوسهم الناطقة أكمل بفطرتها من نفوس أهل المغرب. و يعتقدون التفاوت بيننا و بينهم في حقيقة الإنسانية و يتشيعون لذلك و يولعون به لما يرون من كيسهم في العلوم و الصنائع و ليس كذلك. و ليس بين قطر المشرق و المغرب تفاوت بهذا المقدار الذي هو تفاوت في الحقيقة الواحدة اللهم إلا الأقاليم المنحرفة مثل الأول و السابع فإن الأمزجة فيها منحرفة و النفوس على نسبتها كما مر و إنما الذي فضل به أهل المشرق أهل المغرب هو ما يحصل في النفس من آثار الحضارة من العقل المزيد كما تقدم في الصنائع، و نزيده الآن شرحاً و تحقيقاً. و ذلك أن الحضر لهم آداب في أحوالهم في المعاش و المسكن و البناء و أمور الدين و الدنيا و كذا سائر أعمالهم و عاداتهم. و معاملاتهم و جميع تصرفاتهم. فلهم في ذلك كله آداب يوقف عندها في جميع ما يتناولونه و يتلبسون به من أخذ و ترك حتى كأنها حدود لا تتعدى. و هي مع ذلك صنائع يتلقاها الآخر عن الأول منهم. و لا شك أن كل صناعة مرتبة يرجع منها إلى النفس أثر يكسبها عقلاً جديداً تستعد به لقبول صناعة أخرى و يتهيأ بها العقل بسرعة الإدراك للمعارف. و لقد بلغنا في تعليم الصنائع عن أهل مصر غايات لا تدرك مثل أنهم يعلمون الحمر الأنسية و الحيوانات العجم من الماشي، و الطائر مفردات من الكلام و الأفعال يستغرب ندورها و يعجز أهل المغرب عن فهمها فضلاً عن تعليمها و حسن الملكات في التعليم و الصنائع و سائر الأحوال العادية يزيد الإنسان ذكاء في عقله و إضاءة في فكره بكثرة الملكات الحاصلة للنفس. إذ قدمنا أن النفس إنما تنشأ بالإدراكات. و ما يرجع إليها من الملكات فيزدادون بذلك كيساً لما يرجع إلى النفس من الآثار العلمية فيظنه العامي تفاوتاً في الحقيقة الإنسانية و ليس كذلك. ألا ترى إلى أهل الحضر مع أهل البدو كيف تجد الحضري متحلياً بالذكاء ممتلئاً من الكيس حتى أن البدوي ليظنه أنه قد فاته في حقيقة إنسانيته و عقله و ليس كذلك. و ما ذاك إلا لإجادته في ملكات الصنائع و الآداب في العوائد و الأحوال الحضرية مالا يعرفه البدوي. فلما امتلأ الحضري من الصنائع و ملكاتها و حسن تعليمها ظن كل من قصر عن تلك الملكات أنها لكمال في عقله و أن نفوس أهل البدو قاصرة بفطرتها و جبلتها عن فطرته و ليس كذلك. فإنا نجد من أهل البدو من هو في أعلى رتبة من الفهم و الكمال في عقله و فطرته إنما الذي ظهر على أهل الحضر من ذلك هو رونق الصنائع و التعليم فإن لهما آثاراً ترجع إلى النفس كما قدمناه. و كذا أهل المشرق لما كانوا في التعليم و الصنائع أرسخ رتبة و أعلى قدماً و كان أهل المغرب أقرب إلى البداوة لما قدمناه في الفصل قبل هذا ظن المغفلون في بادئ الرأي أنه لكمال في حقيقة الإنسانية اختصوا به عن أهل المغرب و ليس ذلك بصحيح فتفهمه و الله يزيد في الخلق ما يشاء و هو إله السموات و الأرض.
الفصل الثالث في أن العلوم إنما تكثر حيث يكثر العمران و تعظم الحضارة
و السبب في ذلك أن تعليم العلم كما قدمناه من جملة الصنائع. و قد كنا قدمنا أن الصنائع إنما تكثر في الأمصار. و على نسبة عمرانها في الكثرة و القلة و الحضارة و الترف تكون نسبة الصنائع في الجودة و الكثرة لأنه أمر زائد على المعاش. فمتى فضلت أعمال أهل العمران عن معاشهم انصرفت إلى ما وراء المعاش من التصرف في خاصية الإنسان و هي العلوم و الصنائع. و من تشوف بفطرته إلى العلم ممن نشأ في القرى و الأمصار غير المتمدنة فلا يجد فيها التعليم الذي هو صناعي لفقدان الصنائع في أهل البدو. كما قدمناه و لا بد له من الرحلة في طلبه إلى الأمصار المستبحرة شأن الصنائع كلها. و اعتبر ما قررناه بحال بغداد و قرطبة و القيروان و البصرة و الكوفة لما كثر عمرانها صدر الإسلام و استوت فيها الحضارة. كيف زخرت فيها بحار العلم و تفننوا في اصطلاحات التعليم و أصناف العلوم و استنباط المسائل و الفنون حتى أربوا على المتقدمين و فاتوا المتأخرين. و لما تناقص عمرانها و ابذعر سكانها انطوى ذلك البساط بما عليه جملة، و فقد العلم بها و التعليم. و انتقل إلى غيرها من أمصار الإسلام. و نحن لهذا العهد نرى أن العلم و التعليم إنما هو بالقاهرة من بلاد مصر لما أن عمرانها مستبحر و حضارتها مستحكمة منذ آلاف من السنين، فاستحكمت فيها الصنائع و تفننت و من جملتها تعليم العلم. و أكد ذلك فيها و حفظه ما وقع لهذه العصور بها منذ مائتين من السنين في دولة الترك من أيام صلاح الدين بن أيوب و هلم جرا. و ذلك أن أمراء الترك في دولتهم يخشون عادية سلطانهم على من يتخلفونه من ذريتهم لما له عليهم من الرق أو الولاء و لما يخشى من معاطب الملك و نكباته. فاستكثروا من بناء المدارس و الزوايا و الربط و وقفوا عليها الأوقاف المغلة يجعلون فيها شركاً لولدهم ينظر عليها أو يصيب منها مع ما فيهم غالباً من الجنوح إلى الخير و التماس الأجور في المقاصد و الأفعال. فكثرت الأوقاف لذلك و عظمت الغلات و الفوائد و كثر طالب العلم و معلمه بكثرة جرايتهم منها و ارتحل إليها الناس في طلب العلم من العراق و المغرب و نفقت بها أسواق العلوم و زخرت بحارها. و الله يخلق ما يشاء.
الفصل الرابع في أصناف العلوم الواقعة في العمران لهذا العهد
اعلم أن العلوم التي يخوض فيها البشر و يتداولونها في الأمصار تحصيلاً و تعليماً هي على صنفين: صنف طبيعي للإنسان يهتدي إليه بفكره، و صنف نقلي يأخذه عمن وضعه. و الأول هي العلوم الحكمية الفلسفية و هي التي يمكن أن يقف عليها الإنسان بطبيعة فكره و يهتدي بمداركه البشرية إلى موضوعاتها و مسائلها و أنحاء براهينها و وجوه تعليمها حتى يقفه نظره و يحثه على الصواب من الخطأ فيها من حيث هو إنسان ذو فكر. و الثاني هي العلوم النقلية الوضعية و هي كلها مستندة إلى الخبر عن الواضع الشرعي. و لا مجال فيها للعقل إلا في إلحاق الفروع من مسائلها بالأصول لأن الجزئيات الحادثة المتعاقبة لا تندرج تحت النقل الكلي بمجرد وضعه فتحتاج إلى الإلحاق بوجه قياسي. إلا أن هذا القياس يتفرع عن الخبر بثبوت الحكم في الأصل و هو نقلي فرجع هذا القياس إلى النقل لتفرعه عنه. و أصل هذه العلوم النقلية كلها هي الشرعيات من الكتاب و السنة التي هي مشروعة لنا من الله و رسوله و ما يتعلق بذلك من العلوم التي تهيئوها للإفادة. ثم يستتبع ذلك علوم اللسان العربي الذي هو لسان الملة و به نزل القرآن. و أصناف هذه العلوم النقلية كثيرة لأن المكلف يجب عليه أن يعرف أحكام الله تعالى المفروضة عليه و على أبناء جنسه و هي مأخوذة من الكتاب و السنه بالنص أو بالإجماع أو بالإلحاق فلا بد من النظر بالكتاب ببيان ألفاظه أولاً و هذا هو علم التفسير ثم بإسناد نقله و روايته إلى النبي صلى الله عليه و سلم الذي جاء به من عند الله و اختلاف روايات القراء في قراءته و هذا هو علم القراءات ثم بإسناد السنة إلى صاحبها و الكلام في الرواة الناقلين لها و معرفة أحوالهم وعدالتهم ليقع الوثوق بأخبارهم بعلم ما يجب العمل بمقتضاه من ذلك، و هذه هي علوم الحديث. ثم لا بد في استنباط هذه الأحكام من أصولها من وجه قانوني يفيد العلم بكيفية هذا الاستنباط و هذا هو أصول الفقه. و بعد هذا تحصل الثمرة بمعرفة أحكام الله تعالى في أفعال المكلفين و هذا هو الفقه. ثم أن التكاليف منها بدني، و منها قلبي، و هو المختص بالإيمان و ما يجب أن يعتقد مما لا يعتقد. و هذه هي العقائد الإيمانية في الذات و الصفات و أمور الحشر و النعيم و العذاب و القدر. و الحجاج عن هذه بالأدلة العقلية هو علم الكلام. ثم النظر في القرآن و الحديث لا بد أن تتقدمه العلوم اللسانية لأنه متوقف عليها و هي أصناف. فمنها علم اللغة و علم النحو و علم البيان و علم الآداب حسبما نتكلم عليها. و هذه العلوم النقلية كلها مختصة بالملة الإسلامية و أهلها و إن كانت كل ملة على الجملة لا بد فيها من مثل ذلك فهي مشاركة لها في الجنس البعيد من حيث أنها العلوم الشرعية المنزلة من عند الله تعالى على صاحب الشريعة المبلغ لها. و أما على الخصوص فمباينة لجميع الملل لأنها ناسخة لها. و كل ما قبلها من علوم الملل فمهجورة و النظر فيها محظور. فقد نهى الشرع عن النظر في الكتب المنزلة غير القرآن. قال صلى الله عليه و سلم: لا تصدقوا أهل الكتاب و لا تكذبوهم و قولوا آمنا بالذي أنزل علينا و أنزل إليكم و إلهنا و إلهكم واحد و رأى النبي صلى الله عليه و سلم في يد عمر رضي الله عنه ورقة من التوراة فغضب حتى تبين الغضب في وجهه ثم قال: ألم آتكم بها بيضاء نقية ؟ و الله لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أتباعي. ثم إن هذه العلوم الشرعية قد نفقت أسواقها في هذه الملة بما لا مزيد عليه و انتهت فيها مدارك الناظرين إلى الغاية التي لا شيء فوقها و هذبت الاصطلاحات و رتبت الفنون فجاءت من وراء الغاية في الحسن و التنميق. و كان لكل فن رجال يرجع إليهم فيه و أوضاع يستفاد منها التعليم. و اختص المشرق من ذلك و المغرب بما هو مشهور منها حسبما نذكره الآن عند تعديد هذه الفنون. و قد كسدت لهذا العهد أسواق العلم بالمغرب لتناقص العمران فيه و انقطاع سند العلم و التعليم كما قدمناه في الفصل قبله. و ما أدري ما فعل الله بالمشرق و الظن به نفاق العلم فيه و اتصال التعليم في العلوم و في سائر الصنائع الضرورية و الكمالية لكثرة عمرانه و الحضارة و وجود الإعانة لطالب العلم بالجراية من الأوقاف التي اتسعت بها أرزاقهم. و الله سبحانه و تعالى هو الفعال لما يريد و بيده التوفيق و الإعانة.
الفصل الخامس في علوم القرآن من التفسير و القراءات
القرآن هو كلام الله المنزل على نبيه المكتوب بين دفتي المصحف. و هو متواتر بين الأمة إلا أن الصحابة رووه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم على طرق مختلفين في بعض ألفاظه و كيفيات الحروف في أدائها. و تنوقل ذلك و اشتهر إلى أن استقرت منها سبع طرق معينة تواتر نقلها أيضاً بأدائها و اختصت بالانتساب إلى من اشتهر بروايتها من الجم الغفير فصارت هذه القراءات السبع أصولاً للقراءة. و ربما زيد بعد ذلك قراءات أخر لحقت بالسبع إلا أنها عند أئمة القراءة لا تقوى قوتها في النقل. و هذه القراءات السبع معروفة في كتبها. و قد خالف بعض الناس في تواتر طرقها لأنها عندهم كيفيات للأداء و هو غير منضبط. و ليس ذلك عندهم بقادح في تواتر القرآن. و أباه الأكثر و قالوا بتواترها و قال آخرون بتواتر غير الأداء منها كالمد و التسهيل لعدم الوقوف على كيفيته بالسمع و هو الصحيح. و لم يزل القراء يتداولون هذه القراءات و روايتها إلى أن كتبت العلوم و دونت فكتبت فيما كتب من العلوم و صارت صناعة مخصوصة و علماً منفرداً و تناقله الناس بالمشرق و الأندلس في جيل بعد جيل. إلى أن ملك بشرق الأندلس مجاهد من موالي العامريين و كان معتنياً بهذا الفن من بين فنون القرآن لما أخذه به مولاه المنصور بن أبي العامر و اجتهد في تعليمه و عرضه على من كان من أئمة القراء بحضرته فكان سهمه في ذلك وافراً. و اختص مجاهد بعد ذلك بإمارة دانية و الجزائر الشرقية فنفقت بها سوق القراءة لما كان هو من أئمتها و بما كان له من العناية بسائر العلوم عموماً و بالقراءات خصوصاً. فظهر لعهده أبو عمرو الداني و بلغ الغاية فيها و وقفت عليه معرفتها. و انتهت إلى روايته أسانيدها و تعددت تآليفه فيها. و عول الناس عليها و عدلوا عن غيرها و اعتمدوا من بينها كتاب التيسير له. ثم ظهر بعد ذلك فبما يليه من العصور و الأجيال أبو القاسم بن فيره من أهل شاطبة فعمد إلى تهذيب ما دونه أ بو عمرو و تلخيصه فنظم ذلك كله في قصيدة لغز فيها أسماء القراء بحروف ا ب ج د ترتيباً أحكمه ليتيسر عليه ما قصده من الاختصار و ليكون أسهل للحفظ لأجل نظمها. فاستوعب فيها الفن استيعاباً حسناً و غني الناس بحفظها و تلقينها للولدان المتعلمين و جرى العمل على ذلك في أمصار المغرب و الأندلس. و ربما أضيف إلى فن القراءات فن الرسم أيضاً و هي أوضاع حروف القرآن في المصحف و رسومه الخطية لأن فيه حروفاً كثيرة وقع رسمها على غير المعروف من قياس الخط كزيادة الياء في بأييد و زيادة الألف في لا أذبحنه و لا أوضعوا و الواو في جزاؤ الظالمين و حذف الألفات في مواضع دون أخرى و ما رسم فيه من التاءات ممدوداً. و الأصل فيه مربوط على شكل الهاء و غير ذلك و قد مر تعليل هذا الرسم المصحفي عند الكلام في الخط. فلما جاءت هذه المخالفة لأوضاع الخط و قانونه احتيج إلى حصرها، فكتب الناس فيها أيضاً عند كتبهم في العلوم. و انتهت بالمغرب إلى أبي عمر الداني المذكور فكتب فيها كتباً من أشهرها: كتاب المقنع و أخذ به الناس و عولوا عليه. و نظمه أبو القاسم الشاطبي في قصيدته المشهورة على روي الراء و ولع الناس بحفظها. ثم كثر الخلاف في الرسم في كلمات و حروف أخرى، ذكرها أبو داود سليمان بن نجاح من موالي مجاهد في كتبه و هو من تلاميذ أبي عمرو الداني و المشتهر بحمل علومه و رواية كتبه ثم نقل بعده خلاف آخر فنظم الرزاز من المتأخرين بالمغرب أرجوزة أخرى زاد فيها على المقنع خلافاً كثيراً، و عزاه لناقليه. و اشتهرت بالمغرب، و اقتصر الناس على حفظها. و هجروا بها كتب أبي داود و أبي عمرو و الشاطبي في الرسم. و أما التفسير: فاعلم أن القرآن نزل بلغة العرب و على أساليب بلاغتهم فكانوا كلهم يفهمونه و يعلمون معانيه في مفرداته و تراكيبه. و كان ينزل جملاً جملاً و آيات آيات لبيان التوحيد و الفروض الدينية بحسب الوقائع. و منها ما هو في العقائد الإيمانية، و منها ما هو في أحكام الجوارح، و منها ما يتقدم و منها ما يتأخر و يكون ناسخاً له. و كان النبي صلى الله عليه و سلم هو المبين لذلك كما قال تعالى: لتبين للناس ما نزل إليهم فكان النبي صلى الله عليه و سلم يبين المجمل و يميز الناسخ من المنسوخ و يعرفه أصحابه فعرفوه و عرفوا سبب نزول الآيات و مقتضى الحال منها منقولاً عنه. كما علم من قوله تعالى: إذا جاء نصر الله و الفتح إنها نعي النبي صلى الله عليه و سلم و أمثال ذلك و نقل ذلك عن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. و تداول ذلك التابعون من بعدهم و نقل ذلك عنهم. و لم يزل متناقلاً بين الصدر الأول و السلف حتى صارت المعارف علوماً و دونت الكتب فكتب الكثير من ذلك و نقلت الآثار الواردة فيه عن الصحابة و التابعين و انتهى ذلك إلى الطبري و الواقدي و الثعالبي و أمثال ذلك من المفسرين فكتبوا فيه ما شاء الله أن يكتبوه من الآثار. ثم صارت علوم اللسان صناعية من الكلام في موضوعات اللغة و أحكام الإعراب و البلاغة في التراكيب فوضعت الدواوين في ذلك بعد أن كانت ملكات للعرب لا يرجع فيها إلى نقل و لا كتاب فتنوسي ذلك و صارت تتلقى من كتب أهل اللسان. فاحتيج إلى ذلك في تفسير القرآن لأنه بلسان العرب و على منهاج بلاغتهم. و صار التفسير على صنفين: تفسير نقلي مسند إلى الآثار المنقولة عن السلف و هي معرفة الناسخ و المنسوخ و أسباب النزول و مقاصد الآي. و كل ذلك لا يعرف إلا بالنقل عن الصحابة. و التابعين. و قد جمع المتقدمون في ذلك و أوعوا، إلا أن كتبهم و منقولاتهم تشتمل على الغث و السمين و المقبول و المردود. و السبب في ذلك أن العرب لم يكونوا أهل كتاب و لا علم و إنما غلبت عليهم البداوة و الأمية. و إذا تشوقوا إلى معرفة شيء مما تتشوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات و بدء الخليقة و أسرار الوجود فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم و يستفيدونه منهم و هم أهل التوراة من اليهود و من تبع دينهم من النصارى. و أهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم و لا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب و معظمهم من حمير الذين أخذوا بدين اليهودية. فلما أسلموا بقوا على ما كان عندهم مما لا تعلق له بالأحكام الشرعية التي يحتاطون لها مثل أخبار بدء الخليقة و ما يرجع إلى الحدثان و الملاحم و أمثال ذلك. و هؤلاء مثل كعب الأحبار و وهب بن منبه و عبد الله بن سلام و أمثالهم. فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم في أمثال هذه الأغراض أخبار موقوفة عليهم و ليست مما يرجع إلى الأحكام فيتحرى في الصحة التي يجب بها العمل. و تساهل المفسرون في مثل ذلك و ملأوا كتب التفسير بهذه المنقولات. و أصلها كما قلناه عن أهل التوراة الذين يسكنون البادية، و لا تحقيق عندهم بمعرفة ما ينقلونه من ذلك إلا أنهم بعد صيتهم و عظمت أقدارهم. لما كانوا عليه من المقامات في الدين و الملة، فتلقيت بالقبول من يومئذ. فلما رجع الناس إلى التحقيق و التمحيص و جاء أبو محمد بن عطية من المتأخرين بالمغرب فلخص تلك التفاسير كلها و تحرى ما هو أقرب إلى الصحة منها و وضع ذلك في كتاب متداول بين أهل المغرب و الأندلس حسن المنحى. و تبعه القرطبي في تلك الطريقة على منهاج و أحد في كتاب آخر مشهور بالمشرق. و الصنف الآخر من التفسير و هو ما يرجع إلى اللسان من معرفة اللغة و الإعراب و البلاغة في تأدية المعنى بحسب المقاصد و الأساليب. و هذا الصنف من التفسير قل أن ينفرد عن الأول إذ الأول هو المقصود بالذات. و إنما جاء هذا بعد أن صار اللسان و علومه صناعة. نعم قد يكون في بعض التفاسير غالباً و من أحسن ما اشتمل عليه هذا الفن من التفاسير كتاب الكشاف للزمخشري من أهل خوارزم العراق إلا أن مؤلفه من أهل الاعتزال في العقائد فيأتي بالحجاج على مذاهبهم الفاسدة حيث تعرض له في آي القرآن من طرق البلاغة. فصار ذلك للمحققين من أهل السنة انحراف عنه و تحذير للجمهور من مكامنه مع إقرارهم برسوخ قدمه فيما يتعلق باللسان و البلاغة و إذا كان الناظر فيه واقفاً مع ذلك على المذاهب السنية محسناً للحجاج عنها فلا جرم إنه مأمون من غوائله فلتغتنم مطالعته لغرابة فنونه في اللسان. و لقد وصل إلينا في هذه العصور تأليف لبعض العراقيين و هو شرف الدين الطيببي من أهل توريز من عراق العجم شرح فيه كتاب الزمخشري هذا و تتبع ألفاظه و تعرض لمذاهبه في الاعتزال بأدلة تزيفها و يبين أن البلاغة إنما تقع في الآية على ما يراه أهل السنة لا على ما يراه المعتزلة فأحسن في ذلك ما شاء مع إمتاعه في سائر فنون البلاغة و فوق كل ذي علم عليم.
الفصل السادس في علوم الحديث
و أما علوم الحديث فهي كثيرة و متنوعة لأن منها ما ينظر في ناسخه و منسوخه و ذلك بما ثبت في شريعتنا من جواز النسخ و وقوعه لطفاً من الله بعباده و تخفيفاً عنهم باعتبار مصالحهم التي تكفل الله لهم بها. قال تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها و معرفة الناسخ و المنسوخ و إن كان عاقاً للقرآن و الحديث إلا إن الذي في القرآن منه اندرج في تفاسيره و بقي ما كان خاصاً بالحديث راجعاً إلى علومه. فإذا تعارض الخبران بالنفي و الإثبات و تعذر الجمع بينهما ببعض التأويل و علم تقدم أحدهما تعين إن المتأخر ناسخ. و معرفة الناسخ و المنسوخ من أهم علوم الحديث و أصعبها. قال الزهري: أعيا الفقهاء و أعجزهم إن يعرفوا ناسخ حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم من منسوخه. و كان للشافعي رضي الله عنه فيه قدم راسخة. و من علوم الأحاديث النظر في الأسانيد و معرفة ما يجب العمل به من الأحاديث بوقوعه على السند الكامل الشروط لأن العمل إنما وجب بما يغلب على الظن صدقه من أخبار رسول الله صلى الله عليه و سلم فيجتهد في الطريق التي تحصل ذلك الظن و هو بمعرفة رواة الحديث بالعدالة و الضبط. و إنما يثبت ذلك بالعقل عن أعلام الدين لتعديلهم و براءتهم من الجرح و الغفلة و يكون لنا ذلك دليلاً على القبول و الترك. و كذلك مراتب هؤلاء النقلة من الصحابة و التابعين و تفاوتهم في ذلك و تميزهم فيه واحداً واحداً. و كذلك الأسانيد تتفاوت باتصالها و انقطاعها بأن يكون الراوي لم يلق الراوي الذي نقل عنه و بسلامتها من العلل الموهنة لها و تنتهي بالتفاوت إلى طرفين فحكم بقبول الأعلى و رد الأسفل. و يختلف في المتوسط بحسب المنقول عن أئمة الشأن. و لهم في ذلك، ألفاظ اصطلحوا على وضعها لهذه المراتب المرتبة. مثل الصحيح و الحسن و الضعيف و المرسل و المنقطع و المعضل و الشاذ و الغريب، و غير ذلك من ألقابه المتداولة بينهم. و بوبوا على كل واحد منها و نقلوا ما فيه من الخلاف لأئمة اللسان أو الوفاق. ثم النظر في كيفية أخذ الرواية بعضهم عن بعض بقراءة أو كتابة أو مناولة أو إجازة و تفاوت رتبها و ما للعلماء في ذلك من الخلاف بالقبول و الرد. ثم اتبعوا ذلك بكلام في ألفاظ تقع في متون الحديث من غريب أو مشكل أو تصحيف أو مفترق منها أو مختلف و ما يناسب ذلك. هذا معظم ما ينظر فيه أهل الحديث و غالبه و كانت أحوال نقلة الحديث في عصور السلف من الصحابة و التابعين معروفة عند أهل بلده فمنهم بالحجاز و منهم بالبصرة و الكوفة من العراق و منهم بالشام و مصر و الجميع معروفون مشهورون في أعصارهم و كانت طريقة أهل الحجاز في أعصارهم في الأسانيد أعلى ممن سواهم و امتن في الصحة لاستبدادهم في شروط النقل من العدالة و الضبط و تجافيهم عن قبول المجهول الحال في ذلك و سند الطريقة الحجازية بعد السلف الإمام مالك عالم المدينة رضي الله تعالى عنه ثم أصحابه مثل الإمام محمد بن إدريس الشافعي رضي الله تعالى عنه، و ابن وهب و ابن بكير و القصنبي و محمد بن الحسن و من بعدهم الإمام أحمد بن حنبل و في آخرين من أمثا لهم. و كان علم الشريعة في مبدإ هذا الأمر نقلاً صرفاً شمر لها السلف و تحروا الصحيح حتى أكملوها. و كتب مالك رحمه الله كتاب الموطأ أودعه أصول الأحكام من الصحيح المتفق عليه و رتبه على أبواب الفقه. ثم عني الحافظ بمعرفة طرق الأحاديث و أسانيدها المختلفة. و ربما يقع إسناد الحديث من طرق متعددة عن رواة مختلفين و قد يقع الحديث أيضاً في أبواب متعددة باختلاف المعاني التي اشتمل عليها. و جاء محمد بن إسماعيل البخاري إمام المحدثين في عصره فخرج أحاديث السنة على أبوابها في مسنده الصحيح بجميع الطرق التي للحجازيين و العراقيين و الشاميين. و اعتمد منها ما أجمعوا عليه دون ما اختلفوا فيه و كرر الأحاديث يسوقها في كل باب بمعنى ذلك الباب الذي تضمنه الحديث فتكررت لذلك أحاديثه حتى يقال: إنه اشتمل على تسعة آلاف حديث و مائتين. منها ثلاثة آلاف متكررة و فرق الطرق و الأسانيد عليها مختلفة في كل باب. ثم جاء الإمام مسلم بن الحجاج القشيري رحمه الله تعالى فألف مسنده الصحيح. حذا فيه حذو البخاري. في نقل المجمع عليه و حذف المتكرر منها و جمع الطرق و الأسانيد و بوبه على أبواب الفقه و تراجمه. و مع ذلك فلم يستوعبا الصحيح كله. و قد استدرك الناس عليهما في ذلك. ثم كتب أبو داود السجستاني و أبو عيسى الترمذي و أبو عبد الرحمن النسائي في السنن بأوسع من الصحيح و قصدوا ما توفرت فيه شروط العمل إما من الرتبة العالية في الأسانيد و هو الصحيح كما هو معرف و إما من الذي دونه من الحسن و غيره ليكون ذلك إماماً للسنة و العمل. و هذه هي المسانيد المشهورة في الملة و هي أمهات كتب الحديث في السنة فإنها و إن تعددت ترجع إلى هذه في الأغلب. و معرفة هذه الشروط و الاصطلاحات كلها هي علم الحديث و ربما يفرد عنها الناسخ و المنسوخ فيجعل فناً برأسه و كذا الغريب. و للناس فيه تآليف مشهورة ثم المؤتلف و المختلف. و قد ألف الناس في علوم الحديث و أكثروا. و من فحول علمائه و أئمتهم أبو عبد الله الحاكم و تآليفه فيه مشهورة و هو الذي هذبه و أظهر محاسنه. و أشهر كتاب للمتأخرين فيه كتاب أبي عمرو بن الصلاح كان لعهد أوائل المائة السابعة و تلاه محيي الدين النووي بمثل ذلك. و الفن شريف في مغزاه لأنه معرفة ما يحفظ به السنن المنقولة عن صاحب الشريعة. و قد انقطع لهذا العهد تخريج شيء من الأحاديث و استدراكها على المتقدمين إذ العادة تشهد بأن هؤلاء الأئمة على تعددهم و تلاحق عصورهم و كفايتهم و اجتهادهم لم يكونوا ليغفلوا شيئاً من السنة أو يتركوه حتى يعثر عليه المتأخر هذا بعيد عنهم و إنما تنصرف العناية لهذا العهد إلى تصحيح الأمهات المكتوبة و ضبطها بالزواية عن مصنفيها و النظر في أسانيدها إلى مؤلفها و عرض ذلك على ما تقرر في علم الحديث من الشروط و الأحكام لتتصل الأسانيد محكمة إلى منتهاها. و لم يزيدوا في ذلك على العناية بأكثر من هذه الأمهات الخمس إلا في القليل. فأما البخاري و هو أعلاها رتبة فاستصعب الناس شرحه و استغلقوا منحاه من أجل ما يحتاج إليه من معرفة الطرق المتعددة و رجالها من أهل الحجاز و الشام و العراق و معرفة أحوالهم و اختلاف الناس فيهم. و لذلك يحتاج إلى إمعان النظر في التفقه في تراجمه لأنه يترجم الترجمة و يورد فيها الحديث بسند أو طريق ثم يترجم أخرى و يورد فيها ذلك الحديث بعينه لما تضمنه من المعنى الذي ترجم به الباب. و كذلك في ترجمة و ترجمة إلى أن يتكرر الحديث في أبواب كثيرة بحسب معانيه و اختلافها و من شرحه و لم يستوف هذا فيه فلم يوف حق الشرح كابن بطال و ابن المهلب و ابن التين و نحوهم. و لقد سمعت كثيراً من شيوخنا رحمهم الله يقولون: شرح كتاب البخاري دين على الأمة يعنون أن أحداً من علماء الأمة لم يوف ما يجب له من الشرح بهذا الاعتبار. و أما صحيح مسلم فكثرت عناية علماء المغرب به و أكبوا عليه و أجمعوا على تفصيله على كتاب البخاري من غير الصحيح مما لم يكن على شرطه و أكثر ما وقع له في التراجم. و أملى الإمام المارزي من فقهاء المالكية عليه شرحاً و سماه المعلم بفوائد مسلم اشتمل على عيون من علم الحديث و فنون من الفقه ثم أكمله القاضي عياض من بعده و تممه و سماه إكمال المعلم و تلاهما محيي الدين النووي بشرع استوفى ما في الكتابين و زاد عليهما فجاء شرحاً وافياً. و أما كتب السنن الأخرى و فيها معظم مآخذ الفقهاء فأكثر شرحها في كتب الفقه إلا ما يختص بعلم الحديث فكتب الناس عليها و استوفوا من ذلك ما يحتاج إليه من علم الحديث و موضوعاتها و الأسانيد التي اشتملت على الأحاديث المعمول بها من السنة. و اعلم أن الأحاديث قد تميزت مراتبها لهذا العهد بين صحيح و حسن و ضعيف و معلول و غيرها تنزلها أئمة الحديث و جهابذته و عرفوها. و لم يغب طريق في تصحيح ما يصح من قبل. و لقد كان الأئمة في الحديث يعرفون الأحاديث بطرقها و أسانيدها بحيث لو روي حديث بغير سنده و طريقه يفطنون إلى أنه قلب عن وضعه و لقد وقع مثل ذلك للإمام محمد بن إسماعيل البخاري حين ورد على بغداد و قصد المحدثون امتحانه فسألوه عن أحاديث قبلوا أسانيدها فقال: لا أعرف هذه و لكن حدثني فلان. ثم أتى بجميع تلك الأحاديث على الوضع الصحيح و رد كل متن إلى سنده و أقروا له بالإمامة. و اعلم أيضاً أن الأئمة المجتهدين تفاوتوا في الإكثار من هذه الصناعة و الإقلال فأبو حنيفة رضي الله تعالى عنه يقال بلغت روايته إلى سنة عشر حديثاً أو نحوها و مالك رحمه الله إنما صح عنده ما في كتاب الموطأ و غايتها ثلثمائة حديثاً أو نحوها. و أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى في مسنده خمسون ألف حديث و لكل ما أداه إليه اجتهاده في ذلك. و قد تقول بعض المبغضين المتعسفين إلى أن منهم من كان قليل البضاعة في الحديث فلهذا قلت روايته. و لا سبيل إلى هذا المعتقد في كبار الأئمة لأن الشريعة إنما تؤخذ من الكتاب و السنة. و من كان قليل البضاعة من الحديث فيتعين عليه طلبه و روايته و الجد و التشمير في ذلك ليأخذ الدين عن أصول صحيحة و يتلقى الأحكام عن صاحبها المبلغ لها. و إنما قلل منهم من قلل الرواية لأجل المطاعن التي تعترضه فيها و العلل التي تعرض في طرقها سيما و الجرح مقدم عند الأكثر فيؤديه الاجتهاد إلى ترك الأخذ بما يعرض مثل ذلك فيه من الأحاديث و طرق الأسانيد و يكثر ذلك فتقل روايته لضعف في الطرق. هذا مع أن أهل الحجاز أكثر رواية للحديث من أهل العراق لأن المدينة دار الهجرة و مأوى الصحابة و من انتقل منهم إلى العراق كان شغلهم بالجهاد أكثر. و الإمام أبو حنيفة إنما قلت روايته لما شدد في شروط الرواية و التحمل و ضعف رواية الحديث اليقيني إذا عارضها الفعل النفسي. و قلت من أجلها رواية فقل حديثه. لأنه ترك رواية الحديث متعمداً فحاشاه من ذلك. و يدل على أنه من كبار المجتهدين في علم الحديث اعتماد مذهبه بينهم و التعويل عليه و اعتباره رداً و قبولاً. و أما غيره من المحدثين و هم الجمهور فتوسعوا في الشروط و كثر حديثهم و الكل عن اجتهاد و قد توسع أصحابه من بعده في الشروط و كثرت روايتهم. و روى الطحطاوي فأكثر و كتب مسنده و هو جليل القدر إلا أنه لا يعدل الصحيحين لأن الشروط التي اعتمدها البخاري و مسلم في كتابيهما مجمع عليها بين الأمة كما قالوه. و شروط الطحطاوي غير متفق عليها كالرواية عن المستور الحال و غيره فلهذا قدم الصحيحان بل و كتب السنن المعروفة عليه لتأخر شروطه عن شروطهم. و من أجل هذا قيل في الصحيحين بالإجماع على قبولهما من جهة الإجماع على صحة ما فيهما من الشروط المتفق عليها. فلا تأخذك ريبة في ذلك فالقوم أحق الناس بالفن الجميل بهم و التماس المخارج الصحيحة لهم. و الله سبحانه و تعالى أعلم بما في حقائق الأمور.
الفصل السابع في علم الفقه و ما يتبعه من الفرائض
الفقه معرفة أحكام الله تعالى في أفعال المكلفين بالوجوب و الحذر و الندب و الكراهة و الإباحة و هي متلقاة من الكتاب و السنة و ما نصبه الشارع لمعرفتها من الأدلة فإذا استخرجت الأحكام من تلك الأدلة قيل لها فقه. و كان السلف يستخرجونها من تلك الأدلة على اختلاف فيما بينهم. و لا بد من وقوعه ضرورة. فإن الأدلة غالبها من النصوص و هي بلغة العرب و في اقتضاءات ألفاظها لكثير من معانيها و خصوصاً الأحكام الشرعية اختلاف بينهم معروف. و أيضاً فالسنة مختلفة الطرق في الثبوت و تتعارض في الأكثر أحكامها فتحتاج إلى الترجيح و هو مختلف أيضاً. فالأدلة من غير النصوص مختلف فيها و أيضاً فالوقائع المتجددة لا توفى بها النصوص. و ما كان منها غير ظاهر في النصوص فيحكم على المنصوص لمشابهة بينهما و هذه كلها إشارات للخلاف ضرورية الوقائع. و من هنا وقع الخلاف بين السلف و الأئمة من بعدهم. ثم إن الصحابة كلهم لم يكونوا أهل فتيا و لا كان الدين يؤخذ عن جميعهم. و إنما كان ذلك مختصاً بالحاملين للقرآن العارفين بناسخه و منسوخه و متشابهه و محكمه و سائر دلالته بما تلقوه من النبي صلى الله عليه و سلم أو ممن سمعه منهم و من عليتهم. و كانوا يسمون لذلك القراء أي الذين يقرأون الكتاب لأن العرب كانوا أمة أمية. فاختص من كان منهم قارئاً للكتاب بهذا الاسم لغرابته يومئذ. و بقي الأمر كذلك صدر الملة. ثم عظمت أمصار الإسلام و ذهبت الأمية من العرب بممارسة الكتاب و تمكن الاستنباط و كمل الفقه و أصبح صناعة و علماً فبدلوا باسم الفقهاء و العلماء من القراء. و انقسم الفقه فيهم إلى طريقتين: طريقة أهل الرأي و القياس و هم أهل العراق و طريقة أهل الحديث و هم أهل الحجاز. و كان الحديث قليلاً في أهل العراق لما قدمناه فاستكثروا من القياس و مهروا فيه فلذلك قيل أهل الرأي. و مقدم جماعتهم الذي استقر المذهب فيه و في أصحابه أبو حنيفة و إمام أهل الحجاز مالك بن أنس و الشافعي من بعده. ثم أنكر القياس طائفة من العلماء و أبطلوا العمل به و هم الظاهرية. و جعلوا المدارك كلها منحصرة في النصوص و الإجماع و ردوا القياس الجلي و العلة المنصوصة إلى النص، لأن النص على العلة نص على الحكيم في جميع محالها. و كان إمام هذا المذهب داود بن علي و ابنه و أصحابهما. و كانت هذه المذاهب الثلاثة هي مذاهب الجمهور المشتهرة بين الأمة. و شذ أهل البيت بمذاهب ابتدعوها و فقه انفردوا به و بنوه على مذهبهم في تناول بعض الصحابة بالقدح، و على قولهم بعصمة الأئمة و رفع الخلاف عن أقوالهم و هي كلها أصول واهية و شذ بمثل ذلك الخوارج و لم يحتفل الجمهور بمذاهبهم بل أوسعها جانب الإنكار و القدح. فلا نعرف شيئاً من مذاهبهم و لا نروي كتبهم و لا أثر بشيء منها إلا في مواطنهم. فكتب الشيعة في بلادهم و حيث كانت دولتهم قائمة في المغرب و المشرق و اليمن و الخوارج كذلك. و لكل منهم كتب و تآليف و آراء في الفقه غريبة. ثم درس مذهب أهل الظاهر اليوم بدروس أئمته و إنكار الجمهور على منتحله و لم يبق إلا الكتب المجلدة و ربما يعكف كثير من الطالبين ممن تكلف بانتحال مذهبهم على تلك الكتب يروم أخذ فقههم منها و مذهيهم فلا يخلو بطائل و يصير إلى مخالفة الجمهور و إنكارهم عليه و ربما عد بهذه النحلة من أهل البدع بنقله العلم من الكتب من غير مفتاح المعلمين. و قد فعل ذلك ابن حزم بالأندلس على علو رتبته في حفظ الحديث و صار إلى مذهب أهل الظاهر و مهر فيه باجتهاد زعمه في أقوالهم. و خالف إمامهم داود و تعرض للكثير من الأئمة المسلمين فنقم الناس ذلك عليه و أوسعوا مذهبه استهجاناً و إنكاراً، و تلقوا كتبه بالإغفال و الترك حتى إنها ليحصر بيعها بالأسواق و ربما تمزق في بعض الأحيان. و لم يبق إلا مذهب أهل الرأي من العراق و أهل الحديث من الحجاز. فأما أهل العراق فإمامهم الذي استقرت عنده مذاهبهم أبو حنيفة النعمان بن ثابت و مقامه في الفقه لا يلحق شهد له بذلك أهل جلده و خصوصاً مالك و الشافعي. و أما أهل الحجاز فكال إمامهم مالك ابن أنس الأصبحي إمام دار الهجرة رحمه الله تعالى و اختص بزيادة مدرك آخر للأحكام غير المدارك المعتبرة عند غيره و هو عمل أهل المدينة لأنه رأى أنهم فيما ينفسون عليه من فعل أو ترك متابعون لمن قبلهم ضرورة لدينهم و اقتدائهم. و هكذا إلى الجبل المباشرين لفعل النبي صلى الله عليه و سلم الآخذين ذلك عنه و صار ذلك عنده من أصول الأدلة الشرعية. و ظن كثير أن ذلك من مسائل الإجماع فأنكره لأن دليل الإجماع لا يخص أهل المدينة من سواهم بل هو شامل للأمة. و اعلم أن الإجماع إنما هو الإتفاق على الأمر الديني عن اجتهاد. و مالك رحمه الله تعالى لم يعتير عمل أهل المدينة من هذا المعنى و إنما اعتبره من حيث اتباع الجيل بالمشاهدة للجيل إلى أن ينتهي إلى الشارع صلوات الله و سلامه عليه. و ضرورة اقتدائهم بعين ذلك يعم الملة ذكرت في باب الإجماع و الأبواب بها من حيث ما فيها من الاتفاق الجامع بينها و بين الإجماع. إلا أن اتفاق أهل الإجماع عن نظر و اجتهاد في الأدلة و اتفاق هؤلاء في فعل أو ترك مستندين إلى مشاهدة من قبلهم. و لو ذكرت المسألة في باب فعل النبي صلى الله عليه و سلم و تقريره أو مع الأدلة المختلف فيها مثل مذهب الصحابي و شرع من قبلنا و الاستصحاب لكان أليق بها ثم كان من بعد مالك بن أنس محمد بن إدريس المطلبي الشافعي رحمهم االله تعالى. رحل إلى العراق من بعد مالك و له أصحاب الإمام أبي حنيفة و أخذ عنهم و مزج طريقة أهل الحجاز بطريقة أهل العراق و اختص بمذهب، و خالف مالكاً رحمه الله تعالى في كثير من مذهبه. و جاء من بعدهما أحمد بن حنبل رحمه الله. و كان من علية المحدثين و قرأ أصحابه على أصحاب الإمام أبي حنيفة مع وفور بضاعتهم من الحديث فاختصوا بمذهب آخر. و وقف التقليد في الأمصار عند هؤلاء الأربعة و درس المقلدون لمن سواهم. و سد الناس باب الخلاف و طرقه لما كثر تشعب الاصطلاحات في العلوم. و لما عاق عن الوصول إلى رتبة الاجتهاد و لما خشي من إسناد ذلك إلى غير أهله و من لا يوثق برأيه و لا بدينه فصرحوا بالعجز و الإعواز و ردوا الناس إلى تقليد هؤلاء كل من اختص به من المقلدين. و حظروا أن يتداول تقليدهم لما فيه من التلاعب و لم يبق إلا نقل مذاهبهم. و عمل كل فقلد بمذهب من قلده منهم بعد تصحيح الأصول و اتصال سندها بالرواية لا محصول اليوم للفقه غير هذا. و مدعي الاجتهاد لهذا العهد مردود على عقبه مهجور تقليده و قد صار أهل الإسلام اليوم على تقليد هؤلاء الأئمة الأربعة. فأما أحمد بن حنبل فمقلده قليل لبعد مذهبه عن الاجتهاد و أصالته في معاضدة الرواية و للأخبار بعضها ببعض. و أكثرهم بالشام و العراق من بغداد و نواحيها و هم أكثر الناس حفظاً للسنة و رواية الحديث و ميلاً بالإستنباط إليه عن القياس ما أمكن. و كان لهم ببغداد صولة و كثرة حتى كانوا يتواقعون مع الشيعة في نواحيها. و عظمت الفتنة من أجل ذلك ثم انقطع ذلك عند استيلاء التتر عليها. و لم يراجع و صارت كثرتهم بالشام. و أما أبو حنيفة فقلده اليوم أهل العراق و مسلمة الهند و الصين و ما وراء النهر و بلاد العجم كلها.. و لما كان مذهبه أخص بالعراق و دار السلام و كان تلميذه صحابة الخلفاء من بني العباس فكثرت تآليفه و مناظراتهم مع الشافعية و حسنت مباحثهم في الخلافيات. و جاءوا منها بعلم مستظرف و أنظار غريبة و هبى بين أيدي الناس. و بالمغرب منها شيء قليل نقله إليه القاضي بن العربي و أبو الوليد الباجي في رحلتهما. و أما الشافعي فمقلدوه بمصر أكثر مما سواها و قد كان انتشر مذهبه بالعراق و خراسان و ما وراء النهر و قاسموا الحنفية في الفتوى و التدريس في جميع الأمصار. و عظمت مجالس المناظرات بينهم و شحنت كتب الخلافيات بأنواع استدلالاتهم. ثم درس ذلك كله بدروس المشرق و أقطاره. و كان الإمام محمد بن إدريس الشافعي لما نزل على بني عبد الحكم بمصر أخذ عنه جماعة منهم. و كان من تلميذه بها: البويطي و المزني و غيرهم، و كان بها من المالكية جماعة من بني عبد الحكم و أشهب و ابن القاسم و ابن المواز و غيرهم ثم الحارس بن مسكين و بنوه ثم القاضي أبو إسحق بن شعبان و أو لاده. ثم انقرض فقه أهل السنة من مصر بظهور دولة الرافضة و تداول بها فقه أهل البيت و تلاشى من سواهم و ارتحل إليها القاضي عبد الوهاب من بغداد. آخر المائة الرابعة على ما أعلم، من الحاجة و التقليب في المعاش. فتأذن خلفاء العبيديين بإكرامه، و إظهار فضله نعياً على بني العباس في إطراح مثل هذا الإمام، و الإغتباط به. فنفقت سوق المالكية بمصر قليلاً، إلى أن ذهبت دولة العبيديين من الرافضة على يد صلاح الدين يوسف بن أيوب فذهب منها فقه أهل البيت و عاد فقه الجماعة إلى الظهور بينهم و رجع إليهم فقه الشافعي و أصحابه من أهل العراق و الشام فعاد إلى أحسن ما كان و نفقت سوقه و اشتهر منهم محيي الدين النووي من الحلبة التي ربيت في ظل الدولة الأيوبية بالشام و عز الدين بن عبد السلام أيضاً. ثم ابن الرقعة بمصر و تقي الدين بن دقيق العيد ثم تقي الدين السبكي بعدهما إلى أن انتهى ذلك إلى شيخ الإسلام بمصر لهذا العهد و هو سراج الدين البلقيني فهو اليوم أكبر الشافعية بمصر كبير العلماء بل أكبر العلماء من أهل العصر. و أما مالك رحمه الله تعالى فاختص بمذهبه أهل المغرب و الأندلس. و إن كان يوجد في غيرهم إلا أنهم لم يقلدوا غيره إلا في القليل لما أن رحلتهم كانت غالباً إلى الحجاز و هو منتهى سفرهم. و المدينة يومئذ دار العلم و منها خرج إلى العراق و لم يكن العراق في طريقهم فاقتصروا عن الأخذ عن علماء المدينة. و شيخهم يومئذ و إمامهم مالك و شيوخه من قبله و تلميذه من بعده. فرجع إليه أهل المغرب و الأندلس و قلدوه دون غير ممن لم تصل إليهم طريقته. و أيضاً فالبداوة كانت غالبة على أهل المغرب و الأندلس و لم يكونوا يعانون الحضارة التي لأهل العراق فكانوا إلى أهل الحجاز أميل لمناسبة البداوة، و لهذا لم يزل المذهب المالكي غضاً عندهم، و لم يأخذه تنقيح الحضارة و تهذيبها كما وقع في غيره من المذاهب. و لما صار مذهب كل إمام علماً مخصوصاً عند أهل مذهبه و لم يكن لهم سبيل إلى الاجتهاد و القياس فاحتاجوا إلى تنظير المسائل في الالحاق و تفريقها عند الاشتباه بعد الاستناد إلى الأصول المقررة من مذاهب إمامهم. و صار ذلك كله يحتاج إلى ملكة راسخة يقتدر بها على ذلك النوع من التنظير أو التفرقة و اتباع مذهب إمامهم فيهما ما استطاعوا. و هذه الملكة هي علم الفقه لهذا العهد. و أهل المغرب جميعاً مقلدون لمالك رحمه الله. و قد كان تلاميذه افترقوا بمصر و العراق. فكان بالعراق منهم القاضي إسماعيل و طبقته مثل ابن خويز منداد و ابن اللبان و القاضي و أبي بكر الأبهري و القاضي أبي حسين بن القصار و القاضي عبد الوهاب و من بعدهم. و كان بمصر ابن القاسم و أشهب و ابن عبد الحكم و الحارث بن مسكين و طبقتهم و رحل من الأندلس يحيى بن يحيى الليثي، و لقي مالكاً. و روى عنه كتاب الموطأ، و كان من جملة أصحابه. و رحل بعده عبد الملك بن حبيب فأخذ عن ابن القاسم و طبقته و بث مذهب مالك في الأندلس و دون فيه كتاب الواضحة. ثم دون العتبي من تلامذته كتاب العتبية. و رحل من أفريقية أسد بن الفرات فكتب عن أصحاب أبي حنيفة أولاً. ثم انتقل إلى مذهب مالك. و كتب على ابن القاسم في سائر أبواب الفقه و جاء إلى القيروان بكتابه و سمي الأسدية نسبة إلى أسد بن الفرات، فقرأ بها سحنون على أسد ثم ارتحل إلى المشرق و لقي ابن القاسم و أخذ عنه و عارضه بمسائل الأسدية فرجع عن كثير منها. و كتب سحنون مسائلها و دونها و أثبت ما رجع عنه منها و كتب لأسد و أن يأخذ بكتاب سحنون فأنف من ذلك فترك الناس كتابه و اتبعوا مدونة سحنون على ما كان فيها من اختلاط المسائل في الأبواب فكانت تسمى المدونة و المختلطة. و عكف أهل القيروان على هذه المدونة و أهل الأندلس على الواضحة و العتبية. ثم اختصر ابن أبي زيد المدونة و المختلطة في كتابه المسمى بالمختصر و لخصه أيضاً أبو سعيد البرادعي من فقهاء القيروان في كتابه المسمى بالتهذيب و اعتمده المشيخة من أهل أفريقية و أخذوا به و تركوا ما سواه. و كذلك اعتمد أهل الأندلس كتاب العتبية و هجروا الواضحة و ما سواها. و لم تزل علماء المذهب يتعاهدون هذه الأمهات بالشرح و الإيضاح و الجمع فكتب أهل أفريقية على المدونة ما شاء الله أن يكتبوا مثل ابن يونس و اللخمي و ابن محرز التونسي و ابن بشير و أمثالهم. و كتب أهل الأندلس على العتبية ما شاء الله أن يكتبوا مثل ابن رشد و أمثاله. و جمع ابن أ بي زيد جميع ما في الأمهات من المسائل و الخلاف و الأقوال في كتاب النوادر فاشتمل على جميع أقوال المذاهب و فرع الأمهات كلها في هذا الكتاب و نقل ابن يونس معظمه في كتابه على المدونة و زخرت بحار المذهب المالكي في الأفقين إلى انقراض دولة قرطبة و القيروان. ثم تمسك بهما أهل المغرب بعد ذلك إلى أن جاء كتاب أبي عمرو بن الحاجب لخص فيه طرق أهل المذهب في كل باب و تعديد أقوالهم في كل مسئلة فجاء كالبرنامج للمذهب. و كانت الطريقة المالكية بقيت في مصر من لدن الحارث بن مسكين و ابن المبشر و ابن اللهيث و ابن الرشيق و ابن شاس. و كانت بالإسكندرية في بني عوف و بني سند و ابن عطاء الله. و لم أدر عمن أخذها أبو عمرو بن الحاجب لكنه جاء بعد انقراض دولة العبيديين و ذهاب فقه أهل البيت و ظهور فقهاء السنة من الشافعية و المالكية و لما جاء كتابه إلى المغرب آخر المائة السابعة عكف عليه الكثير من طلبة المغرب و خصوصاً أهل بجاية لما كان كبير مشيختهم أبو علي ناصر الدين الزواوي هو الذي جلبه إلى المغرب. فإنه كان قرأ على أصحابه بمصر و نسخ مختصره ذلك فجاء به و انتشر بقطر بجاية في تلميذه، و منهم انتقل إلى سائر الأمصار المغربية و طلبة الفقه بالمغرب لهذا العهد يتداولون قراءته و يتدارسونه لما يؤثر عن الشيخ ناصر الدين من الترغيب فيه. و قد شرحه جماعة من شيوخهم: كابن عبد السلام و ابن رشد و أبي هارون و كلهم من مشيخة أهل تونس و سابق حلبتهم في الإجادة في ذلك ابن عبد السلام و هم مع ذلك يتعاهدون كتاب التهذيب في دروسهم. و الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
الفصل الثامن في علم الفرائض
و هو معرفة فروض الوراثة و تصحيح سهام الفريضة مما تصح، باعتباره فروضها الأصول أو مناسختها. و ذلك إذا هلك أحد الورثة و انكسرت سهامه على فروض ورثته فإنه حينئذ يحتاج إلى حسب تصحيح الفريضة الأولى حتى يصل أهل الفروض جميعاً في الفريضتين إلى فروضهم من غير تجزئة. و قد تكون هذه المناسخات أكثر من واحد و اثنين و تتعدد لذلك بعدد أكثر. و يقدر ما تحتاج إلى الحسبان و كذلك إذا كانت فريضة ذات وجهين مثل أن يقر بعض الورثة بوارث و ينكره الآخر فتصحح على الوجهين حينئذ. و ينظر مبلغ السهام ثم تقسم التركة على نسب سهام الورثة من أصل الفريضة. و كل ذلك يحتاج إلى الحسبان و كان غالباً فيه و جعلوه فناً مفرداً. و للناس فيه تآليف كثيرة أشهرها عند المالكية من متأخري الأندلس كتاب ابن ثابت و مختصر القاضي أبي القاسم الحوفي ثم الجعدي و من متأخري أفريقية ابن النمر الطرابلسي و أمثالهم. و أما الشافعية و الحنفية و الحنابلة فلهم فيه تآليف كثيرة و أعمال عظيمة صعبة شاهدة لهم باتساع الباع في الفقه و الحساب و خصوصاً أبا المعالي رضي الله تعالى عنه و أمثاله من أهل المذاهب و هو فن شريف لجمعه بين المعقول و المنقول و الوصول به إلى الحقوق في الوراثات بوجوه صحيحة يقينية عندما تجهل الحظوظ و تشكل على القاسمين. و للعلماء من أهل الأمصار بها عناية. و من المصنفين من يحتاج فيها إلى الغلو في الحساب و فرض المسائل التي تحتاج إلى استخراج المجهولات من فنون الحساب كالجبر و المقابلة و التصرف في الجذور و أمثال ذلك فيملأون بها تآليفهم. و هو و إن لم يكن متداولاً بين الناس و لا يفيد فيما يتداولونه من وراثتهم لغرابته و قلة وقوعه فهو يفيد المران و تحصيل الملكة في المتداول على أكمل الوجوه. و قد يحتج الأكثر من أهل هذا الفن على فضله بالحديث المنقول عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الفرائض ثلث العلم و أنها أول ما ينسى و في رواية نصف العلم خرجه أبو نعيم الحافظ و احتج به أهل الفرائض بناء على أن المراد بالفرائض فروض الوراثة. و الذي يظهر أن هذا المحل بعيد و أن المراد بالفرائض إنما هي الفرائض التكليفية في العبادات و العادات و المواريث و غيرها و بهذا المعنى يصح فيها النصفية و الثلثية. و إما فروض الوراثة فهي أقل من ذلك كله بالنسبة إلى علم الشريعة كلها يعني هذا المراد أن حمل لفظ الفرائض على هذا الفن المخصوص أو تخصيصه بفروض الوراثة إنما هو اصطلاح ناشئ للفقهاء عند حدوث الفنون و الاصطلاحات. و لما يكن صدر الإسلام يطلق على هذا إلا على علومه مشتقاً من الفرض الذي هو لغة التقدير أو القطع. و ما كان المراد به في إطلاقه إلا جميع الفروض كما قلناه و هي حقيقته الشرعية فلا ينبغي. أن يحمل إلا على ما كان يحمل في عصرهم فهو أليق بمرادهم منه. و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق.
الفصل التاسع في أصول الفقه و ما يتعلق به من الجدل و الخلافيات
إعلم أن أصول الفقه من أعظم العلوم الشرعية و أجلها قدراً و أكثرها فائدة و هو النظر في الأدلة الشرعية من حيث تؤخذ منها الأحكام و التآليف. و أصول الأدلة الشرعية هي الكتاب الذي هو القرآن ثم السنة المبينة له. فعلى عهد النبي صلى الله عليه و سلم كانت الأحكام تتلقى منه بما يوحى إليه من القرآن و بينه بقوله و فعله بخطاب شفاهي لا يحتاج إلى نقل و لا إلى نظر و قياس. و من بعده صلوات الله و سلامه عليه تعذر الخطاب الشفاهي و انحفظ القرآن بالتواتر. و أما السنة فأجمع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم على وجوب العمل بما يصل إلينا منها قولاً أو فعلاً بالنقل الصحيح الذي يغلب على الظن صدقه. و تعينت دلالة الشرع في الكتاب و السنة بهذا الإعتبار ثم ينزل الإجماع منزلتهما لإجماع الصحابة على النكير على مخالفيهم. و لا يكون ذلك إلا عن مستند لأن مثلهم لا يتفقون من غير دليل ثابت مع شهادة الأدلة بعصمة الجماعة فصار الإجماع دليلاً ثابتاً في الشرعيات. ثم نظرنا في طرق استدلال الصحابة و السلف بالكتاب و السنة فإذا هم يقيسون الأشباه بالأشباه منهما. و يناظرون الأمثال بالأمثال بإجماع منهم و تسليم بعضهم لبعض في ذلك. فإن كثيراً من الواقعات بعده صلوات الله و سلامه عليه لم تندرج في النصوص الثابتة فقاسوها بما ثبت و ألحقوها بما نص عليه بشروط في ذلك الإلحاق. تصحح تلك المساواة بين الشبيهين أو المثلين. حتى يغلب على الظن أن حكم الله تعالى فيهما واحد و صار ذلك دليلاً شرعياً بإجماعهم عليه. و هو القياس و هو رابع الأدلة و اتفق جمهور العلماء على أن هذه هي أصول الأدلة و إن خالف بعضهم في الإجماع و القياس إلا أنه شذوذ في و ألحق بعضهم بهذه الأدلة الأربعة أدلة أخرى لا حاجة بنا إلى ذكرها. لضعف مداركها و شذوذ القول فيها. فكان من أول مباحث هذا الفن النظر في كون هذه أدلة. فأما الكتاب فدليله المعجزة القاطعة في متنه و التواتر في نقله. فلم يبق فيه مجال للاحتمال و أما السنة و ما نقل إلينا منها فالإجماع على وجوب العمل بما يصح منها كما قلناه. معتضداً بما كان عليه العمل في حياته صلوات الله و سلمه عليه من إنفاذ الكتب و الرسل إلى النواحي بالأحكام و الشرائع آمراً و ناهياً. و أما الإجماع فلاتفاقهم رضوان الله تعالى عليهم على إنكار مخالفتهم مع العصمة الثابتة للأمة و أما القياس فبإجماع الصحابة رضي الله عنهم عليه كما قدمناه. هذه أصول الأدلة ثم إن المنقول من السنة محتاج إلى تصحيح الخبر بالنظر في طرق النقل و عدالة الناقلين لتتميز الحالة المحصلة للظن بصدقه الذي هو مناط وجوب العمل بالخير. و هذه أيضاً من قواعد الفن. و يلحق بذلك عند التعارض بين الخبرين و طلب المتقدم منهما معرفة الناسخ و المنسوخ و هي من فصوله أيضاً و أبوابه. ثم بعد ذلك يتعين النظر في دلالة الألفاظ و ذلك أن استفادة المعاني على الإطلاق من تراكيب الكلام على الإطلاق يتوقف على معرفة الدلالات الوضعية مفردة و مركبة. و القوانين اللسانية في ذلك هي علوم النحو و التصريف و البيان و حين كان الكلام ملكة لأهله لم تكن هذه علوماً و لا قوانين و لم يكن الفقه حينئذ يحتاج إليها لأنها جبلة و ملكة. فلما فسدت الملكة في لسان العرب قيدها الجهابذة المتجردون لذلك بنقل صحيح و مقاييس مستنبطة صحيحة و صارت علوماً يحتاج إليها الفقيه في معرفة أحكام الله تعالى. ثم إن هناك استفادات أخرى خاصة من تراكيب الكلام و هي استفادة الأحكام الشرعية بين المعاني من أدلتها الخاصة من تراكيب الكلام و هو الفقه. و لا يكفي فيه معرفة الدلالات الوضعية على الإطلاق بل لا بد من معرفة أمور أخرى تتوقف عليها تلك الدلالات الخاصة و بها تستفاد الأحكام بحسب ما أصل أهل الشرع و جهابذة العلم من ذلك و جعلوه قوانين لهذه الاستفادة. مثل أن اللغة لا تثبت قياساً و المشترك لا يراد به معناه معاً و الواو لا تقتضي الترتيب و العام إذا أخرجت أفراد الخاص منة هل يبقى حجة فيما عداها و الأمر للوجوب أو الندب و للفور أو التراخي و النهي يقتضي الفساد أو الصحة و المطلق هل يحمل على المقيد و النص على العلة كاف في التعدد أم لا و أمثال هذه. فكانت كلها من قواعد هذا الفن. و لكونها من مباحث الدلالة كانت لغوية. ثم إن النظر في القياس من أعظم قواعد هذا الفن لأن فيه تحقيق الأصل و الفرع فيما يقاس و يماثل من الأحكام و ينفتح الوصف الذي يغلب على الظن أن الحكم علق به في الأصل من تبين أوصاف ذلك المحل أو وجود ذلك الوصف في الفرع من غير معارض يمنع من ترتيب الحكم عليه في مسائل أخرى من توابع ذلك كلها قواعد لهذا الفن. و اعلم أن هذا الفن من الفنون المستحدثة في الملة و كان السلف في غنية عنه بما أن استفادة المعاني من الألفاظ لا يحتاج فيها إلى أزيد مما عندهم من الملكة اللسانية. و أما القوانين التي يحتاج إليها في استفادة الأحكام خصوصاً فمنهم أخذ معظمها. و أما الأسانيد فلم يكونوا يحتاجون إلى النظر فيها لقرب العصر وممارسة النقلة و خبرتهم بهم. فلما انقرض السلف و ذهب الصدر الأول و انقلبت العلوم كلها صناعة كما قررناه من قبل احتاج الفقهاء و المجتهدون إلى تحصيل هذه القوانين و القواعد لاستفادة الأحكام من الأدلة فكتبوها فنا قائما برأسه سموه أصول الفقه. و كان أول من كتب فيه الشافعي رضي الله تعالى عنه. أملى فيه رسالته المشهورة تكلم فيها في الأوامر والنواهي و البيان و الخبر و النسخ و حكم العلة المنصوصة من القياس. ثم كتب فقهاء الحنفية فيه و حققوا تلك القواعد و أوسعوا القول فيها. و كتب المتكلمون أيضا كذلك إلا أن كتابة الفقهاء فيها أمس بالفقه و أليق بالفروع لكثرة الأمثلة منها و الشواهد و بناء المسائل فيها على النكت الفقهية. و المتكلمون يجردون صور تلك المسائل عن الفقه و يميلون إلى الاستدلال العقلي ما أمكن لأنه غالب فنونهم و مقتضى طريقتهم فكان لفقهاء الحنفية فيها اليد الطولى من الغوص على النكت الفقهية و التقاط هذه القوانين من مسائل الفقه ما أمكن. و جاء أبو زيد الدبوسي من أئمتهم فكتب في القياس بأوسع من جميعهم و تمم الأبحاث و الشروط التي يحتاج إليها فيه و كملت صناعة أصول الفقه بكماله و تهذبت مسائله وتمهدت قواعده و عني الناس بطريقة المتكلمين فيه. و كان من أحسن ما كتب فيه التكلمون كتابه البرهان لأمام الحرمين و المستصفى للغزالي و هما من الأشعرية و كتاب العهد لعبد الجبار و شرحه المعتمد لأبي الحسين البصري وهما من المعتزلة. و كانت الأربعة قواعد هذا الفن و أركانه. ثم لخص هذه الكتب الأربعة فحلان من التكلمين المتأخرين و هما الإمام فخز الدين بن الخطيب في كتاب المحصول و سيف الدين الآمدي في كتاب الأحكام. و اختلفت طرائقهما في الفن بين التحقيق و الحجاج. فابن الخطيب أميل إلى الاستكثار من الأدلة والاحتجاج و الآمدي مولع بتحقيق المذاهب و تفريع المسائل. و أما كتاب المحصول فاختصره تلميذ الإمام سراج الدين الأرموي في كتاب التحصيل و تاج الدين الأرموي في كتاب الحاصل و اقتطف شهاب الدين القرافي منهما فقدمات و قواعد في كتاب صغير سماه التنقيحات. و كذلك فعل البيضاوي في كتاب المنهاج. و عني المبتدئون يهذين الكتابين و شرحهما كثير من الناس. و أما كتاب الإحكام للآمدي و هو أكثر تحقيقا في المسائل فلخصة أبو عمر بن الحاجب في كتابي المعروف بالمختصر الكبير. ثم أختصره في كتاب آخر تداوله طلبة العلم و عني أهل المشرق و المغرب به و بمطالعته و شرحه و حصلت زبدة طريقة المتكلمين في هذا الفن في هذه المختصرات. و أما طريقة الخنفية فكتبوا فيها كثيرا و كان من أحسن كتابة فيها. للمتقدمين تأليف أبي زيد الدبوسي و أحسن كتابة المتأخرين فيها تأليف سيف الإسلام البزدوي من أئمتهم و هو مستوعب و جاء ابن الساعاتي من فقهاء الخنفية فجمع بين كتاب الإحكام و كتاب البزدوني في الطريقتين و سمي كتابه بالبدائع فجاء من أحسن الأوضاع و أبدعها و أئمة العلماء لهذا العهد يتداولونه قراءة و بحثا. و أولع كثير من علماء العجم بشرحه. و الحال على ذلك لهذا العهد. هذه حقيقة هذا الفن و تعيين موضوعاته و تعديد التأليف المشهورة لهذا العهد فيه. و الله ينفعنا بالعلم و يجعلنا من أهله بمنه و كرمه إنه على كل شيء قدير. و أما الخلافات فاعلم أن هذا الفقة المستنبط من الأدلة الشرعية كثر فيه الخلاف بين المجتهدين ياختلاف مداركهم و أنظارهم خلافا لا بد من وقوعه لما قدمناه. و اتسع ذلك في الملة اتساعا غظيما و كان للمقلدين أن يقلدوا من شاؤوا منهم ثم لما انتهى ذلك إلى الأئمة الأربعة من علماء الأمصار و كانوا بمكان من حسن الظن بهم اقتصر الناس على تقليدهم و منعوا من تقليد سواهم لذهاب الاجتهاد لصعوبته و تشعب العلوم التي هي موادة باتصال الزمان و افتقاد من يقوم على سوى هذه المذاهب الأربعة. فاقيمت هذه المذاهب الأربعة أصول الملة و أجري الخلاف بين المتمسكين بها و الآخذين بأحكامها مجرى الخلاف في النصوص الشرعية و الأصول الفقهية. و جرت بينهم المناظرات في تصحيح كل منهم مذهب إمامه تجري على أصول صحيحة و طرائق قويمة يحتج بها كل على صحة مذهبه الذي قلده و تمسك به و أجريت في مسائل الشريعة كلها و في كل باب من أبواب الفقه فتارة يكون الخلاف بين الشافعي و مالك و أبو حنيفة يوافق أحدهما و تارة بين مالك و أبي حنيفة و الشافعي يوافق أحدهما و تارة بين الشافعي و أبي حنيفة و مالك يوافق أحدهما و كان في هذه المناظرات بيان مآخذ هؤلاء الأئمة و مثارات اختلافهم و مواقع اجتهادهم. كان هذا الصنف من العلم يسمى بالخلافيات. و لابد لصاحبه من معرفة القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام كما يحتاج إليها المجتهد إلا أن المجتهد يحتاج إليها للاستنباط و صاحب الخلافيات يحتاج إليها لحفظ تلك المسائل المستنبطة من أن يهدمها المخالف بأدلته. و هو لعمري علم جليل الفائدة في معرفة مآخذ الأئمة و أدلتهم و مران المطالعين له على الاستدلال فيما يرومون الإستدلال عليه. وتآليف الحنفية و الشافعية فيه أكثر من تآليف المالكية لأن القياس عند الحنفية أصل للكثير من فروع مذهبهم كما عرفت فهم لذلك أهل النظر و البحث. و أما المالكية فالأثر أكثر معتمدهم و ليسوا بأهل نظر و أ يضا فأكثرهم أهل الغرب و هم بادية غفل من الصنائع إلا في الأقل. و للغزالي رحمه الله تعالى فيه كتاب المآخذ و لأبي بكر العربي من المالكية كتاب التلخيص جلبه من المشرق. و لأبي زيد الدبوسي كتاب التعليقة و لابن القصار من شيوخ المالكية عيون الأدلة و قد جمع ابن الساعاتي في مختصره في أصول الفقه جميع ما ينبني عليها من الفقه الخلافي مدرجا، في كل مسألة ما ينبني عليها من الخلافيات. و أما الجدال و هو معرفة آداب المناظرة التي تجري بين أهل المذاهب الفقهية و غيرهم فإنة لما كان باب المناظرة في الرد و القبول متسعا و كل واحد من المتناظرين في الاستدلال و الجواب يرسل عنانة في الاحتجاج. و منة ما يكون صوابا و منة ما يكون خطأ فاحتاج الأئمة إلى أن يضعوا آدابا و أحكاما يقف المتناظران عند حدودها في الرد و القبول و كيف يكون حال المستدل و المجيب و حيث يسوغ له أن يكون فستدلا و كيف يكون مخصوصا فنقطعا و محل اعتراضه أو معارضته و أين يجب عليه السكوت و لخصمه الكلام و الإستدلال. و لذلك قيل فيه إنه معرفة بالقواعد من الحدود و الآداب في الاستدلال التي يتوصل بها إلى حفظ رأي و هدمه سواء كان ذلك الرأي من الفقه أو غيره. و هي طريقتان طريقة البزدوي و هي خاصة بالأدلة الشرعية من النص و الإجماع و الإستدلال و طريقة العميدي و هي عامة في كل دليل يستدل به من أي علم كان و أكثره استدلال. و هو من المناحي الحسنة و المغالطات فيه في نفس الأمر كثيرة. و إذا اعتبرنا النظر المنطقي كان في الغالب أشبه بالقياس المغالطي و السوفسطائي. إلا أن صور الأدلة و الأقيسة فيه محفوظة مراعاة يتحرى فيها طرق الاستدلال كما ينبغي. و هذا العميدي هو أول من كتب فيها و نسبت الطريقة إليه. وضع الكتاب المسمى يالإرشاد مختصرا و تبعه من بعده من المتأخرين كالنسفي و غيره جاؤوا على أثره و سلكوا مسلكه و كثرت في الطريقة التآليف. و هي لهذا العهد مهجورة لنقص العلم و التعليم في الأمصار الإسلامية. و هي مع ذلك كمالية و ليست ضرورية و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق.
الفصل العاشر: في علم الكلام
هو علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية و الرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف و أهل السنة. و سر هذه العقائد الإيمانية هو التوحيد. فلنقدم هنا لطيفة في برهان عقلي يكشف لنا عن التوحيد على أقرب الطرق و المآخذ ثم نرجع إلى تحقيق علمه و فيما ينظر و يشير إلى حدوثه في الملة و ما دعا إلى وضعه فنقول: إعلم أن الحوادث في عالم الكائنات سواء كانت من الذوات أو من الأفعال البشرية أو الحيوانية فلابد لها من أسباب متقدمة عليها بها تقع في مستقر العادة و عنها يتم كونة. و كل واحد من هذه الأسباب حادث أيضا فلابد له من أسباب أخرى و لا تزال تلك الأسباب مرتقية حتى تنتهي إلى مسبب الأسباب و موجدها و خالقها سبحانه لا إله إلا هو. و تلك الأسباب في ارتقائها تتفسح و تتضاعف طولا و عرضا و يحار العقل في إدراكها و تعديدها. فإذا لا يحصرها إلا العلم المحيط سيما الأفعال البشرية و الحيوانية فإن من جملة أسبابها في الشاهد القصود و الإرادات إذ لا يتم كون الفعل إلا بإرادته و القصد إليه. و القصود و الإرادات أمور نفسانية ناشئة في الغالب عن تصورات سابقة يتلو بعضها بعضا. و تلك التصورات هي أسباب قصد الفعل و قد تكون أسباب تلك التصورات تصورات أخرى و كل ما يقع في النفس من التصورات مجهول سببه. إذ لا يطلع أحد على مبادئ الأمور النفسانية و لا على ترتيبها. إنما هي أشياء يلقيها الله في الفكر يتبع بعضها بعضا و الإنسان عاجز عن معرفة مبادئها و غاياتها. و إنما يحيط علما في الغالب بالأسباب التي هي طبيعة ظاهرة و يقع في مداركها على نظام و ترتيب لأن الطبيعة محصورة للنفس و تحت طورها. و أما التصورات فنطاقها أوسع من النفس لأنها للعقل الذي هو فوق طور النفس فلا تدرك الكثير منها فضلا عن الإحاطة. و تأمل من ذلك حكمة الشارع في نهيه عن النظر إلى الأسباب و الوقوف معها فإنه واد يهيم فيه الفكر و لا يحلو منة يطائل و لا يظفز بحقيقة. قال الله: ثم ذرهم في خوضهم يلعبون. و ربما انقطع في وقوفه عن الارتقاء إلى ما فوقه فزلت قدمة و أصبح من الضابين الهالكين نغوذ بالله من الحرمان و الخسران المبين. و لا تحسبن أن هذا الوقوف أو الرجوع عنة في قدرتك و اختيارك بل هو لون يحصل للنفس و صبغة تستحكم من الخوض في الأسباب على نسبة لا نعلمها. إذ لو علمناها لتحررنا منها. فلنتحرر من ذلك بقطع النظر عنها جملة. و أيضا فوجه تأثير هذه الأسباب في الكثير من مسبباتها مجهول لأنها إنما يوقف عليها بالعادة لاقتران الشاهد يالاستناد إلى الظاهر. وحقيقة التأثير و كيفيته مجهولة. و ما أوتيتم من العلم إلا قليلا. فلذلك أمرنا بقطع النظر عنها و إلغائها جملة و التوجه إلى مسبب الأسباب كلها و فاعلها و موجدها لترسخ صفة التوحيد في النفس على ما علمنا الشارع الذي هو أعرف بمصالح ديننا و طرق سعادتنا لاطلاعه على ما وراء الحسن. قال صلى الله عليه و سلم: من مات يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة. فإن وقف عند تلك الأسباب فقد انقطع و حقت عليه كلمة الكفر و أن سبح في بحر النظر و البحث عنها و عن أسبابها وتأثيراتها واحدا بعد واحد فإنا الضامن له أن لا يعود إلا بالخيبة. فيذلك نهانا الشارع عن النظر في الأسباب و أمرنا بالتوجيد المطلق قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد و لم يولد * ولم يكن له كفوا أحد و لا تثقن بما يزعم لك الفكر من أنه مقتدر على الإحاطة بالكائنات و أسبابها و الوقوف على تفصيل الوجود كله و سفه رأيه في ذلك. و اعلم أن الوجود عند كل مدرك في بادئ رأيه منحصر في مداركه لا يعدوها و الأمر في نفسه بخلاف ذلك و الحق من ورائه. ألا ترى الأصم كيف ينحصر الوجود عنده في المحسوسات الأربع و المعقولات و يسقط من الوجود عنده صنف المسموعات. و كذلك الأعمى أيضا يسقط عنده صنف المرئيات و لولا ما يردهم إلى ذلك تقليد الآباء و المشيخة من أهل عصرهم و الكافة لما أقروا به لكنهم يتبعون الكافة في إثبات هذه الأصناف لا بمقتضى فطرتهم و طبيعة إدراكهم و لو سئل الحيوان الأعجم و نطق لوجدناه منكرا للمعقولات و ساقطة لديه بالكلية فإذا علمت هذا فلعل هناك ضربا من الإدراك غير مدركاتنا لأن إدراكاتنا مخلوقة محدثة و خلق الله أكبر من خلق الناس. و الحصر مجهول و الوجود أوسع نطاقا من ذلك و الله من ورائهم محيط. فاتهم إدراكك و مدركاتك في الحصر و اتبع ما أمرك الشارع به من اعتقادك و عملك فهو أحرص على سعادتك و أعلم يما ينفغك لأنه من طور فوق إدراكك و من نطاق أوسع من نطاق عقلك و ليس ذلك بقادح في العقل و مداركه بل العقل ميزان صحيح فأحكامه يقينية لا كذب فيها. غير أنك لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد و الآخرة و حقيقة النبوة و حقائق الصفات الإلهية و كل ما وراء طوره فإن ذلك طمع في محال. و مثال ذلك مثال رجل رأى الميزان الذي يوزن به الذهب فطمع أن يزن يه الجبال و هذا لا يدرك. على أن الميزان في أحكامه غير صادق لكن العقل قد يقف عنده و لا يتعدى طوره حتى يكون له أن يحيط بالله و يصفاته فإنة ذرة من ذرات الوجود الحاصل منة. و تفطن في هذا الغلط و من يقدم العقل على السمع في أمثال هذه القضايا و قصور فهمه و اضمحلال رأيه فقد تبين لك الحق من ذلك و إذ تبين ذلك فلعل الأسباب إذا تجاوزت في الإرتقاء نطاق إدراكنا و وجودنا خرجت عن أن تكون مدركة فيضل العقل في بيداء الأوهام و يحار و ينقطع. فإذا التوحيد هو العجز عن إدراك الأسباب و كيفيات تأثيرها و تفويض ذلك إلى خالقها المحيط بها إذ لا فاعل غيرة و كلها ترتقي إليه و ترجع إلى قدرته و علمنا به إنما هو من حيث صدورنا عنة لا غير و هذا هو معنى ما نقل عن بعض الصديقين: العجز عن الإدراك إدراك. ثم إن المعتبر في هذا التوحيد ليس هو الإيمان فقط الذي هو تصديق حكمي فإن ذلك من حديث النفس و إنما الكمال فيه حصول صفة منه تتكيف بها النفس كما أن المطلوب من الأعمال و العبادات أيضا حصول ملكة الطاعة و الانقياد و تفريغ القلب عن شواغل ما سوى المعبود حتى ينقلب المريد السالك ربانيا. و الفرق بين الحال و العلم في العقائد فرق ما بين القول و الاتصاف. و شرحه أن كثيرا من الناس يعلم أن رحمة اليتيم و المسكين قربة إلى الله تعالى مندوب إليها و يقول بذلك و يعترف به و يذكر مأخذه من الشريعة و هو لو رأى يتيما أو مسكينا من أبناء المستضعفين لفرعنه و استنكف أن يباشره فضلا عن التمسح عليه للرحمة و ما بعد ذلك من مقامات العطف و الحنو و الصدقة. فهذا إنما حصل له من رحمة اليتيم مقام العلم و لم يحصل له مقام الحال و الاتصاف. ومن الناس من يحصل له مع مقام العلم و الاعتراف بأن رحمة المسكين قربة إلى الله تعالى مقام آخر أعلى من الأول و هو الاتصاف بالرحمة و حصول ملكتها. فمتى رأى يتيما أو مسكينا بادر إليه و مسح عليه و التمس الثواب في الشفقة عليه لا يكاد يصبر عن ذلك و لو دفع عنه. ثم يتصدق عليه بما حضره من ذات يده و كذا علمك بالتوحيد مع اتصافك به و العلم حاصل عن الاتصاف ضرورة و هو أوثق مبنى من العلم الحاصل قبل الاتصاف. و ليس الاتصاف بحاصل عن مجرد العلم حتى يقع العمل و يتكرر مرارا غير منحصرة فترسخ الملكة و يحصل الاتصاف و التحقيق و يجيء العلم الثاني النافع في الآخرة. فإن العلم الأول المجرد عن الاتصاف قليل الجدوى و النفع و هذا علم أكثر النظار و المطلوب إنما هو العلم الحالي الناشئ عن العادة. و اعلم أن الكمال عند الشارع في كل ما كلف به إنما هو في هذا فما طلب اعتقاده فالكمال فيه في العلم الثاني الحاصل عن الاتصاف و ما طلب عمله من العبادات فالكمال فيها في حصول الاتصاف و التحقق بها. ثم إن الإقبال على العبادات و المواظبة عليها هو المحصل لهذه الثمرة الشريفة. قال صلى الله عليه و سلم: في رأس العبادات جعلت قرة عيني في الصلاة فإن الصلاة صارت له صفة و حالا يجد فيها منتهى لذاته و قرة عينه و أين هذا من صلاة الناس و من لهم بها ؟ فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون اللهم وفقنا اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم و لا الضالين فقد تبين لك من جميع ما قررناه أن المطلوب في التكاليف كلها حصول ملكة راسخة في النفس يحصل عنها علم اضطراري للنفس هو التوحيد و هو العقيدة الإيمانية و هو الذي تحصل به السعادة و أن ذلك سواء في التكاليف القلبية و البدنية. و يتفهم منه أن الإيمان الذي هو أصل التكاليف و ينبوعها هو بهذه المثابة ذو مراتب. أولها التصديق القلبي الموافق للسان و أعلاها حصول كيفية من ذلك الاعتقاد القلبي و ما يتبعه من العمل مستولية على القلب فيستتبع الجوارح. و تندرج في طاعتها جميع التصرفات حتى تنخرط الأفعال كلها في طاعة ذلك التصديق الإيماني. و هذا أرفع مراتب الإيمان و هو الإيمان الكامل الذي لا يقارف المؤمن معه صغيرة و لا كبيرة إذ حصول الملكة و رسوخها مانع من الانحراف عن مناهجه طرفة غين قال صلى الله عليه و سلم: لا يزني الزاني حين يزني و هو مؤمن و في حديث هرقل لما سأل أبا سفيان بن حرب عن النبي صلى الله عليه و سلم و أحواله فقال في أصحابه: هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه ؟ قال: لا ! قال: و كذلك الإيمان حين تخالط بشاشتة القلوب. و معناه أن ملكة الإيمان إذا استقرت عسر على النفس مخالفتها شأن الملكات إذا استقرت فإنها تحصل بمثابة الجبلة و الفطرة و هذه هي المرتبة العالية من الإيمان و هي في المرتبة الثانية من العصمة. لأن العصمة واجبة للأنبياء وجوبا سابقا و هذه حاصلة للمؤمنية حصولا تابعا لأعمالهم و تصديقهم. و بهذه الملكة و رسوخها يقع التفاوت في الإيمان كالذي يتلى عليك من أقاويل السلف. و في تراجم البخاري رضي الله عنه في باب الإيمان كثير منه. مثل أن الإيمان قول و عمل و يزيد و ينقص و أن الصلاة و الصيام من الإيمان و أن تطوع رمضان من الإيمان و الحياء من الإيمان. و المراد بهذا كله الإيمان الكامل الذي أشرنا إليه و إلى ملكته و هو فعلي. و أما التصديق الذي هو أول مراتبه فلا تفاوت فيه. فمن اعتبر أوائل الأسماء و حمله على التصديق منع من التفاوت كما قال أئمة المتكلمين و من اعتبر أواخر الأسماء و حمله على هذه الملكة التي هي الإيمان الكامل ظهر له التفاوت. و ليس ذلك بقادح في اتحاد حقيقته الأولى التي هي التصديق إذ التصديق موجود في جميع رتبه لأنة أقل ما يطلق عليه اسم الإيمان و هو المخلص من عهدة الكفر و الفيصل بين الكافر و المسلم فلا يجزي أقل منه. و هو في نفسه حقيقة واحدة لا تتفاوت و إنما التفاوت في الحال الحاصلة عن الأعمال كما قلناه فافهم. و اعلم أن الشارع وصف لنا هذاالإيمان الذي في المرتبة الأولى الذي هو تصديق و عين أمورا مخصوصة كلفنا التصديق بها بقلوبنا و اعتقادها في أنفسنا مع الإقرار بها بألسنتنا و هي العقائد التي تقررت في الدين. قال صلى الله عليه و سلم حين سئل عن الإيمان فقال: أن تؤمن بالله و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر و تؤمن بالقدر خيره و شره و هذه هي العقائد الإيمانية المقررة في عليم الكلام. و لنشر إليها مجملة لتتبين في حقيقة هذا الفن و كيفية حدوثه فنقول. اعلم أن الشارع لقد أمرنا بالإيمان بهذا الخالق الذي رد الأفعال كلها إليه و أفرده به كما قدمناه و عرفنا أن في هذا الإيمان نجاتنا عند الموت إذا حضرنا لم يعرفنا بكنه حقيقة هذا الخالق المعبود و هو إذ ذاك يتعذر على إدراكنا و من فوق طورنا. فكلنا أولا: اعتقاد تنزيهه في ذاته عن مشابهة المخلوقين و إلا لما صح أنة خالق لهم لعدم الفارق على هذا التقدير ثم تنزيهه غن صفات النقص و إلا لشابة المخلوقين ثم توحيده با لاتحاد و إلا لم يتم الخلق للتمانع ثم اعتقاد أنه عالم قادر فبذلك تتم الأفعال شاهد قضيته لكمال الاتحاد و الخلق و مريد و إلا لم يخصص شيء من المخلوقات و مقدر لكل كائن و إلا فالإرادة حادثة. و أنة يعيدنا بعد الموت تكميلا لعنايته، بالإيجاد و لو كان لأمر فإن كان عبثا فهو للبقاء السرمدي بعد الموت. ثم اعتقاد بعثة الرسل للنجاة من شقاء هذا المعاد لاختلاف أحوله بالشقاء و السعادة و عدم معرفتنا بذلك و تمام لطفه بنا في الإيتاء بذلك و بيان الطريقين. و أن الجنة للنعيم و جهنم للعذاب. هذه أمهات العقائد الإيمانية معللة بأدلتها العقلية و أدلتها من الكتاب و السنة كثيرة. و عن تلك الأدلة أخذها السلف و أرشد إليها العلماء و حققها الأئمة إلا أنة عرض بعد ذلك خلاف في تفاصيل هذه العقائد أكثر مثارها من الآي المتشابهة فدعا ذلك إلى الخصام و التناظر و الاستدلال يالعقل و زيادة إلى النقل. فحدث بذلك علم الكلام. و لنبين لك تفصيل هذا المجمل. و ذلك أن القرآن ورد فيه وصف المعبود بالتنزيه المطلق الظاهر الدلالة من غير تأويل في آي كثيرة و هي سلوب كلها و صريحة في بابها فوجب الإيمان بها. و وقع في كلام الشارع صلوات الله عليه و كلام الصحابة و التابعين تفسيرها على ظاهرها. ثم وردت في القرآن آي أخرى قليلة توهم التشبيه مرة في الذات و أخرى في الصفات. فأما السلف فغلبوا أدلة التنزيه لكثرتها و وضوح دلالتها، و علموا استحالة التشبيه. و قضوا بأن الآيات من كلام الله فآمنوا بها و لم يتعرضوا لمعناها ببحث و لا تأويل. و هذا معنى قول الكثير منهم: إقرأوها كما جاءت أي آمنوا بأنها من عند الله. و لا تتعرضوا لتأويلها و لا تفسيرها لجواز أن تكون ابتلاء. فيجب الوقف و الإذعان له. و شذ لعصرهم مبتدعة أتبعوا ما تشابه من الآيات و توغلوا في التشبيه. ففريق أشبهوا، في الذات باعتقاد اليد و القدم و الوجه عملا بظواهر وردت بذلك فوقعوا في التجسيم الصريح و مخالفة آي التنزيه المطلق التس هي أكثر موارد و أوضح دلالة لأن معقولية الجسم تقتضي النقص و الافتقار. و تغليب آيات السلوب في التنزيه المطلق التي هي أكثر موارد و أوضح دلالة أولى من التعلق بظواهر هذه التي لنا عنها غنية و جمع بين الدليلين بتأويلها ثم يفرون من شناعة ذلك بقولهم جسم لا كالأجسام. و ليس ذلك بدافع عنهم لأنه قول متناقض و جمع بين نفي و إثبات إن كانا بالمعقولية واحدة من الجسم، و إن خالفوا بينهما و نفوا المعقولية المتعارفة فقد وافقونا في التنزيه و لم يبق إلا جعلهم لفظ الجسم اسما من أسمائه. ويتوقف مثلة على الأذن. و فريق منهم ذهبوا إلى التشبيه في الصفات كإثبات الجهة و الاستواء و النزول و الصوت و الحرف و أمثال ذلك. و آل قولهم إلى التجسيم فنزعوا مثل الأولين إلى قولهم صوت لا كالأصوات جهة لا كالجهات نزول لا كالنزول يعنون من الأجسام. و اندفع ذلك بما اندفع به الأول، و لم يبق في هذه الظواهر إلا اعتقادات السلف و مذاهبهم و الإيمان بها كما هي لئلا يكر النفي على معانيها بنفيها مع أنها صحيحة ثابتة من القرآن. و لهذا تنظر ما تراه في عقيدة الرسالة لابن أبى زيد و كتاب المختصر له و في كتاب الحافظ ابن عبد البر و غيرهم فإنهم يحومون على هذا المعنى. و لا تغمض عينك عن القرائن الدالة على ذلك في غضون كلامهم. ثم لما كثرت العلوم و الصنائع و ولى الناس بالتدوين و البحث في سائر الأنحاء و ألف المتكلمون في التنزيه حدثت بدعة المعتزلة في تعميم هذا التنزيه في آي السلوب فقضوا بنفي صفات المعاني من العلم و القدرة و الإرادة و الحياة زائدة على أحكامها لما يلزم على ذلك من تعدد القديم بزعمهم و هو مردود بأن الصفات ليست عين الذات و لا غيرها و قضوا بنفي صفة الإرادة فلزمهم نفي القدر لأن معناه سبق الإرادة للكائنات و قضوا بنفي السمع و البصر لكونهما من عوارض الأجسام. و هو مردود لعدم اشتراط البنية في مدلول هذا اللفظ و إنما هو إدراك المسموع أو المبصر. و قضوا بنفي الكلام لشبه ما في السمع و البصر و لم يعقلوا صفة الكلام التي تقوم بالنفس فقضوا بأن القرآن مخلوق و ذلك بدعة صرح السلف بخلافها. و عظم ضرر هذه البدعة و لقنها بعض الخلفاء عن أئمتهم فحمل الناس عليها و خالفهم أئمة السلف فاستحل لخلافهم إيسار كثير منهم ودماؤهم، و كان ذلك سببا لانتهاض أهل السنة بالأدلة العقلية على هذه العقائد دفعا في صدور هذه البدع و قام بذلك الشيخ أبو الحسن الأشعري إمام المتكلمين فتوسط بين الطرق و نفى التشبيه و أثبت الصفات المعنويه و قصر التنزيه على ما قصره عليه السلف. و شهدت له الأدلة المخصصة لعمومه فأثبت الصفات الأربع المعنوية و السمع و البصر و الكلام القائم بالنفس بطريق النقل و العقل. و رد على المبتدعة في ذلك كله و تكلم معهم فيما مهدوه لهذه البدع من القول بالصلاح و الأصلح و التحسين و التقبيح و كمل العقائد في البعثة و أحوال المعاد و الجنة و النار و الثواب و العقاب. و ألحق بذلك الكلام في الإمامة لما ظهر حينئذ من بدعة الإمامية من قولهم إنها من عقائد الإيمان و إنه يجب على النبي تعيينها و الخروج عن العهدة في ذلك لمن هي له، و كذلك على الأمة. و قصارى أمر الإمامة أنها قضية مصلحية إجماعية و لا تلحق بالعقائد فلذلك ألحقوها بمسائل هذا الفن و سموا مجموعة علم الكلام: إما لما فيه من المناظرة على البدع و هي كلام صرف و ليست براجعة إلى عمل، و إما لأن سبب وضعه و الخوض فيه هو تنازعهم في إثبات الكلام النفسي. و كثر أتباع الشيخ أبي الحسن الأشعري و اقتفى طريقتة من بعده تلميذه كابن مجاهد و غيره. و أخذ عنهم القاضي أبو بكر الباقلاني فتصدر للإمامة في طريقتهم و هذبها و وضع المقدمات العقلية التى تتوقف عليها الأدلة و الأنظار و ذلك مثل إثبات الجوهر الفرد و الخلاء. و أن العرض لا يقوم بالعرض و أنه لا يبقى زمانين. و أمثال ذلك مما تتوقف عليه أدلتهم. و جعل هذه القواعد تبعا للعقائد الإيمانية في وجوب اعتقادها لتوقف تلك الأدلة عليها و أن بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول. و جملت هذه الطريقة و جاءت من أحسن الفنون النظرية و العلوم الدينية. إلا أن صور الأدلة فيها بعض الأحيان. على غير الوجه الصناعي لسذاجة القوم و لأن صناعة المنطق التي تسير بها الأدلة و تعتبر بها الأقيسة و لم تكن حينئذ ظاهرة في المئلة، و لو ظهر منها بعض الشيء فلم يأخذ به المتكلمون لملابستها للعلوم الفلسفية المباينة للعقائد الشرعية بالجملة فكانت مهجورة عندهم لذلك. ثم جاء بعد القاضي أبي بكر الباقلاني من أئمة الأشعرية إمام الحرمين أبو المعالي فأملى في الطريقة كتاب الشامل و أوسع القول فيه. ثم لخصه في كتاب الإرشاد و اتخذه الناس إماما لعقائدهم. ثم انتشرت من بعد ذلك علوم المنطق في الملة و قرأه الناس و فرقوا بينه و بين العلوم الفلسفية بأنة قانون و معيار للأدلة فقط يسبر به الأدلة منها كما تسبر من سواها. ثم نظروا في تلك القواعد و المقدمات في فن الكلام للأقدمين فخالفوا الكثير منها بالبراهين التي أدلت إلى ذلك و بما أن كثيرا منها مقتبس من كلام الفلاسفة في الطبيعيات و الإلهيات. فلما سبروها بمعيار المنطق ردهم إلى ذلك فيها و لم يعتقدوا بطلان المدلول من بطلان دليله كما صار إليه القاضي فصارت هذه الطريقة في مصطلحهم مباينة للطريقة الأولى و تسمى طريقة المتأخرين و ربما أدخلوا فيها الرد على الفلاسفة فيما خالفوا فيه من العقائد الإيمانية و جعلوهم من خصوم العقائد لتناسب الكثير من مذاهب المبتدعة و مذاهبهم. و أول من كتب في طريقة الكلام على هذا المنحى الغزالي رحمه الله و تبعه الإمام ابن الخطيب و جماعة قفوا أثرهم و اعتمدوا تقليدهم ثم توغل المتأخرون من بعدهم في مخالطة كتب الفلسفة و التبس عليهم شان الموضح في العلمين فحسبوه فيهما واحدا من اشتباه المسائل فيهما. و اعلم أن المتكلمين لما كانوا يستدلون في أكثر أحوالهم بالكائنات و أحوالها على وجود البارئ و صفاته و هو نوع استدلالهم غالبا. و الجسم الطبيعي الذي ينظر فيه الفيلسوف في الطبيعيات و هو بعض من هذه الكائنات. إلا أن نظره فيها مخالف لنظر المتكلم و هو ينظر في الجسم من حيث يتحرك و يسكن و المتكلم ينظر فيه من حيث يدل على الفاعل. و كذا نظر الفيلسوف في الإلهيات إنما هو نظر في الوجود المطلق و ما يقتضيه لذاته و نظر المتكلم في الوجود من حيث إنه يدل على الموجد. و بالجملة فموضوع علم الكلام عند أهله إنما هو العقائد الإيمانية بعد فرضها صحيحة من الشرع من حيث يمكن أن ستدل عليها بالأدلة العقلية فترفع البدع و تزول الشكوك و الشبيه عن تلك العقائد و إذا تأملت حال الفن قي حدوثه و كيف تدرج كلام الناس فيه صدرا بعد صدر و كلهم يفرض العقائد صحيحة و يستنهض الحجج و الأدلة علمت حينئذ ما قررناه لك في موضوع الفن و أنه لا يعدوه. و لقد اختلطت الطريقتان عند هؤلاء المتأخرين و التبست مسائل الكلام بمسائل الفلسفة بحيث لا يتميز أحد الفنين من الآخر. و لا يحصل عليه طالبه من كتبهم كما فعله البيضاوي في الطوالع و من جاء بعدة من علماء العجم في جميع تآليفهم. إلا أن هذه الطريقة قد يعنى بها بعض طلبة العلم للاطلاع على المذاهب و الإغراق في معرفة الحجاج لوفور ذلك فيها. و أما محاذاة طريقة السلف بعقائد علم الكلام فإنما هو في الطريقة القديمة للمتكلمين و أصلها كتاب الإرشاد و ما حذا حذوة. و من أراد إدخال الرد على الفلاسفة في عقائده فعليه بكتب الغزالي و الإمام ابن الخطيب فإنها و إن وقع فيها مخالفة للإصطلاح القديم فليس فيها من الاختلاط في المسائل و الالتباس في الموضوع ما في طريقة هؤلاء المتأخرين من بعدهم و على الجملة فينبغي أن يعلم أن هذا العلم الذي هو علم الكلام غير ضروري لهذا العهد على طالب العلم إذ الملحدة و المبتدعة قد انقرضوا و الأئمة. من أهل السنة كفونا شأنهم فيما كتبوا و دونوا و الأدلة العقلية إنما احتاجوا إليها حين دافعوا و نصروا. و أما الآن فلم يبق منها إلا كلام تنزه الباري عن كثير إيهاماته و إطلاقه و لقد سئل الجنيد رحمه الله عن قوم مر بهم بعض المتكلمين يفيضون فيه فقال: ما هؤلاء ؟ فقيل: قوم ينزهون الله بالأدلة عن صفات الحدوث و سمات النقص. فقال: نفي العيب حيث يستحيل العيب عيب لكن فائدته في آحاد الناس و طلبة العلم فائدة معتبرة إذ لا يحسن بحامل السنة الجهل بالحجج النظرية على عقائدها. و الله ولي المؤمنين.
الفصل الحادي عشر: في أن عالم الحوادث الفعلية إنما يتم بالفكر
اعلم أن عالم الكائنات يشتمل على ذوات محضة، كالعناصر و آثارها و المكونات الثلاثة عنها. التي هي المعدن و النبات و الحيوان. و هذه كلها متعلقات القدرة الإلهية و على أفعال صادرة عن الحيوانات، واقعة بمقصودها، متعلقة بالقدرة التي جعل الله لها عليها: فمنها منتظم مرتب، و هي الأفعال البشرية، و منها غير منتظم و لا مرتب، و هي أفعال الحيوانات غير البشر. و ذلك الفكر يدرك الترتيب بين الحوادث بالطبع أو بالوضع، فإذا قصد إيجاد شيء من الأشياء، فلأجل الترتيب بين الحوادث لابد من التفطن بسببه أو علته أو شرطه، و هي على الجملة مبادئه، إذ لا يوجد إلا ثانيا عنها و لا يمكن إيقاع المتقدم متأخرا، و لا المتأخر متقدما. و ذلك المبدأ قد يكون له مبدأ آخر من تلك المبادئ لا يوجد إلا متأخرا عنه، و قد يرتقي ذلك أو ينتهي. فإذا انتهى إلى آخر المبادىء في مرتبتين أو ثلاث أو أزيد، و شرع في العمل الذي يوجد به ذلك الشيء بدأ بالمبدأ الأخير الذي انتهى إليه الفكر، فكان أول عمله. ثم تابع ما بعده إلى آخر المسببات التي كانت أول فكرته. مثلا: لو فكر في إيجاد سقف يكنه انتقل بذهنه إلى لحائط الذي يدعمه، ثم إلى الأساس الذي يقف عليه الحائط فهو آخر الفكر. ثم يبدأ في العمل بالأساس، ثم بالحائط، ثم بالسقف، و هو آخر العمل. و هذا معنى قولهم: أول العمل آخر الفكرة، و أول الفكرة آخر العمل فلا يتم فعل الإنسان في الخارج إلا بالفكر في هذه المرتبات لتوقف بعضها على بعض. ثم يشرع في فعلها. و أول هذا الفكر هو المسبب الأخير، و هو آخرها في العمل. و أولها في العمل هو المسبب الأول و هو آخرها في الفكر. و لأجل العثور على هذا الترتيب يحصل الإنتظام في الأفعال البشرية. و أما الأفعال الحيوانية لغير البشر فليس فيها انتظام لعدم الفكر الذي يعثر به الفاعل علي الترتيب فيما يفعل. إذ الحيوانات إنما تدرك بالحواس و مدركاتها متفرقة خلية من الربط لأنة لا يكون إلا بالفكر. و لما كانت الحواس المعتبرة في عالم الكائنات هي المنتظمة، و غير المنتظمة إنما هيى تبع لها. اندرجت حينئذ أفعال الحيوانات فيها، فكانت مسخرة للبشر. و استولت أفعال البشر على عالم الحوادث. بما فيه، فكان كله في طاعته و تسخره. و هذا معنى الاستحلاف المشار إليه في قوله تعالى: إني جاعل في الأرض خليفة فهذا الفكر هو الخاصة البشرية التي تميز بها البشر عن غيره من الحيوان. و على قدر حصول الأسباب و المسببات في الفكر مرتبة تكون إنسانيتة. فمن الناس من تتوالى له السببية في مرتبتين أو ثلاث، و منهم من لا يتجاوزها، و منهم من ينتهي إلى خمس أو ست فتكون إنسانيته أعلى. و اعتبر ذلك بلاعب الشطرنج: فإن في اللاعبين من يتصور الثلاث حركات و الخمس الذي ترتيبها وضعي، و منهم من يقصر عن ذلك لقصور ذهنه. و إن كان هذا المثال غير مطابق. لأن لعب الشطرنج بالملكة، و معرفة الأسباب و المسببات بالطبع. لكنه مثال يحتذي به الناظر في تعقل ما يورد عليه من القواعد. و الله خلق الإنسان و فضله على كثير ممن خلق تفضيلا.
الفصل الثاني عشر في العقل التجريبي و كيفية حدوثه
إنك تسمع في كتب الحكماء قولهم أن الإنسان هو مدني الطبع، يذكرونه في إثبات النبوات و غيرها. و النسبة فيه إلى المدينة، و هي عندهم كناية عن الاجتماع البشري. و معنى هذا القول، أنة لا تمكن حياة المنفرد من البشر، و لا يتم وجوده إلا مع أبناء جنسه. و ذلك لما هو عليه من العجز عن استكمال وجوده و حياته، فهو محتاج إلى المعاونة في جميع حاجاته أبدا بطبعه. و تلك المعاونة لابد فيها من المفاوضة أولا، ثم المشاركة و ما بعدها. و ربما تفضي المعاملة عند اتحاد الأعراض إلى المنازعة و المشاجرة فتنشأ المنافرة و المؤالفة. و الصداقة و العداوة. و يؤول إلى الحرب و السلم بين الأمم و القبائل. و ليس ذلك على أي وجه اتفق، كما بين الهمل من الحيوانات، بل للبشر يما جعل الله فيهم من انتظام الأفعال و ترتيبها بالفكر كما تقدم. جعل منتظما فيهم و يسرهم لإيقاعه على وجوه سياسية و قوانين حكمية. ينكبون فيها عن المفاسد إلى المصالح، و عن الحسن إلى القبيح، بعد أن يميزوا القبائح و المفسدة. بما ينشأ عن الفعل من ذلك عن تجربة صحيحة، و عوائد معروفة بينهم، فيفارقون الهمل من الحيوان. و تظهر عليهم نتيجة الفكر في انتظام الأفعال و بعدها عن المفاسد. هذه المعاني التي يحصل بها ذلك لا تبعد عن الحس كل البعد و لا يتعمق فيها الناظر، بل كلها تدرك بالتجربة و بها يستفاد. لأنها معان جزئية تتعلق بالمحسوسات و صدقها و كذبها، يظهر قريبا في الواقع، فيستفيد طالبها حصول العلم بها من ذلك. و يستفيد كل واحد من البشر القدر الذي يسر له منها مقتنصا له بالتجربة بين الواقع في معاملة أبناء جنسه. حتى يتعين له ما يجب و ينبغي، فعلا و تركا. و تحصل في ملابسة الملكة في معاملة أبناء جنسه. و من تتبع ذلك سائر عمره حصل له العثور على كل قضية. و لابد بما تسعه التجربة من الزمن. و قد يسهل الله على كثير من البشر تحصيل ذلك في أقرب زمن التجربة، إذ قلد فيها الآباء و المشيخة و الأكابر، و لقن عنهم و وعى تعليمهم، فيستغني عن طول المعانات في تتبع الوقائع و اقتناص هذا المعنى من بينها. و من فقد العلم في ذلك و التقليد فيه أو أعرض عن حسن استماعه و اتباعه، طال عناؤة في التأديب بذلك، فيجري في غير مألوف و يدركها على غير نسبة، فتوجد آدابه و فعاملاته سيئة الأوضاع بادية الخلل، و يفسد حاله في معاشه بين أبناء جنسه. و هذا معنى القول المشهور: من لم يؤدبه والده أدبه الزمان. أي من لم يلقن الآداب في معاملة البشر من والديه و في معناهما المشيخة و الأكابر و يتعلم ذلك منهم رجع إلى تعلمه بالطبع من الواقعات على توالي الأيام، فيكون الزمان معلمه و مؤدبة لضرورة ذلك بضرورة المعاونة التي في طبعه. و هذا هو العقل التجريبي، و هو يحصل بعد العقل التمييزي الذي تقع به الأفعال كما بيناه. و بعد هذين مرتبة العقل النظري الذي تكفل يتفسيره أهل العلوم، فلا تحتاج إلى تفسيره في هذا الكتاب. و الله وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون.
الفصل الثالث عشر: في علوم البشر و علوم الملائكة
إنا نشهد في أنفسنا بالوجدان الصحيح وجود ثلاثة عوالم: أولها: عالم الحس و نعتبره بمدارك الحس الذي شاركنا فيه الحيوانات بالإدراك. ثم نعتبره الفكر الذي اختص به البشر فنعلم منه وجود النفس الإنسانية علما ضروريا بما بين جنبينا من مدارك العلمية التي هي فوق مدارك الحس، فتراه عالما آخر فوق عالم الحس. ثم نستدل على عالم ثالث فوقنا بما نجد فينا من آثاره التي تلقى في أفئدتنا كالإرادات و الوجهات، نحو الحركات الفعلية، فنعلم أن هناك فاعلا يبعثنا عليها من عالم فوق عالمنا و هو عالم الأرواح و الملائكة. و فيه ذوات مدركة لوجود آثارها فينا مع ما بيننا و بينها من المغايرة. و ربما يستدل على هذا العالم الأعلى الروحاني و ذواته بالرؤيا و ما نجد في النوم، و يلقى إلينا فيه من الأمور التي نحن في غفلة عنها في اليقظة، و تطابق الواقع في الصحيحة منها، فنعلم أنها حق و من عالم الحق. و أما أضغاث الأحلام فصور خيالية يخزنها الإدراك في الباطن و يجول فيها الفكر بعد الغيبة عن الحس. و لا نجد على هذا العالم الروحاني برهانا أوضح من هذا، فنعلمه كذلك على الجملة و لا ندرك له تفصيلا. و ما يزعمه الحكماء الإلهيون في تفصيل ذواته و ترتيبها، المسماة عندهم بالعقول فليس شيء من ذلك بيقيني لاختلال شرط البرهان النظري فيه. كما هو مقرر في كلامهم في المنطق. لأن من شرطه أن تكون قضاياه أولية ذاتية. و هذه الذوات الروحانية مجهولة الذاتيات فلا سبيل للبرهان فيها. و لا يبقى لنا مدرك في تفاصيل هذه العوالم إلا ما نقتبسه من الشرعيات التي يوضحها الإيمان و يحكمها. و أعقد هذه العوالم في مدركنا عالم البشر، لأنه وجداني مشهود في مداركنا الجسمانية و الروحانية. و يشترك في عالم الحس مع الحيوانات و في عالم العقل و الأرواح مع الملائكة الذين ذواتهم من جنس ذواته، و هي ذوات مجردة عن الجسمانية و المادة، و عقل صرف يتحد فيه العقل و العاقل و المعقول، و كأنه ذات حقيقتها الإدراك و العقل، فعلومهم حاصلة دائما مطابقة بالطبع لمعلوماتهم لا يقع فيها خلل البتة. و علم البشر هو حصول صورة المعلوم في ذواتهم بعد أن لا تكون حاصلة. فهو كله مكتسب، و الذات التي يحصل فيها صور المعلومات و هي النفس مادة هيولانية تلبس صور الوجود بصور المعلومات الحاصلة فيها شيئا فشيئا، حتى تستكمل، و يصح وجودها بالموت في مادتها و صورتها. فالمطلوبات فيها مترددة بين النفي و الإثبات دائما، بطلب أحدهما بالوسط الرابط بين الطرفين. فإذا حصل و صار معلوما افتقر إلى بيان المطابقة، و ربما أوضحها البرهان الصناعي، لكنه من وراء الحجاب. و ليس كالمعاينة التي في علوم الملائكة. و قد ينكشف ذلك الحجاب فيصير إلى المطابقة بالعيان الإدراكي. فقد تبين أن البشر جاهل بالطبع للتردد في علمه، و عالم بالكسب و الصناعة لتحصيله المطلوب بفكرة الشروط الصناعية. و كشف الحجاب الذي أشرنا إليه إنما هو بالرياضة بالإذكار التي أفضلها صلاة تنتهي عن الفحشاء و المنكر. و بالتنزه عن المتناولات المهمة و رأسها الصوم، و بالوجهة إلى الله بجميع قواه. و الله علم الإنسان ما لم يعلم.
الفصل الرابع عشر في علوم الأنبياء عليهم الصلاة و السلام
إنا نجد هذا الصنف من البشر تعتريهم حالة إلهية خارجة عن منازع البشر و أحوالهم فتغلب الوجهة الربانية فيهم على البشرية في القوى الإدراكية و النزوعية من الشهوة و الغضب و سائر الأحوال البدنية. فتجدهم متنزهين عن الأحوال الربانية، من العبادة و الذكر لله بما يقتضي معرفتهم به، فخبرين عنة بما يوحي إليهم في تلك الحالة، من هداية الأمة على طريقة واحدة و سنن معهود منهم لا يتبدل فيهم كأنة جبلة فطرهم الله عليها. و قد تقدم لنا الكلام في الوحي أول الكتاب في فصل المدركين للغيب. و بينا هنالك أن الوجود كله في عوالمه البسيطة و المركبة على تركيب طبيعي من أعلاها و أسفلها متصلة كلها اتصالا لا ينخرم. و أن الذوات التي في آخر كل أفق من العوالم مستعدة لأن تنقلب إلى الذات التي تجاوزها من الأسفل و الأعلى. استعدادا طبيعيا. كما في العناصر الجسمانية البسيطة. و كما في النخل و الكرم من آخر أفق النبات مع الحلزون و الصدف من أفق الحيوان و كما في القردة التي استجمع فيها الكيس و الإدراك مع الإنسان صاحب الفكر و الروية. و هذا الاستعداد الذي في جانب كل أفق من العوالم هو معنى الاتصال فيها. و فوق العالم البشري عالم روحاني، شهدت لنا به الآثار التي فينا منه، بما يعطينا من قوى الإدراك و الإرادة فذوات العلم العالم إدراك صرف و تعقل محض، و هو عالم الملائكة، فوجب من ذلك كله أن يكون للنفس الإنسانية استعداد للانسلاخ من البشرية إلى الملكية. لتصير بالفعل من جنس الملائكة وقتا من الأوقات. و في لمحة من اللمحات. ثم تراجع بشريتها و قد تلقت في عالم الملكية ما كفلت بتبليغه إلى أبناء جنسها من البشر. و هذا هو معنى الوحي و خطاب الملائكة. و الأنبياء كلهم مفطورون عليه. كأنه جبلة لهم و يعالجون في ذلك الانسلاخ من الشدة و الغطيط ما هو معروف عنهم. و علومهم في تلك الحالة علم شهادة و عيان، لا يلحقه الخطأ و الزلل، و لا يقع فيه الغلط و الوهم، بل المطابقة فيه ذاتية لزوال حجاب الغيب و حصول الشهادة الواضحة، عند مفارقة هذه الحالة إلى البشرية، لا تفارق علمهم الوضوح. استصحابا له من تلك الحالة الأولى، و لما هم عليه من الذكاء المفضي بهم إليها، يتردد ذلك فيهم دائما إلى أن تكمل هداية الأمة التي بعثوا لها كما في قوله تعالى: إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه. فافهم ذلك و راجع ما قدمناه لك أول الكتاب، في أصناف المدركين للغيب، يتضح لك شرحه و بيانه، فقد بسطناه هنالك بسطا شافيا. و الله الموفق.
الفصل الخامس عشر في أن الإنسان جاهل بالذات عالم بالكسب
قد بينا أول هذه الفصول أن الإنسان من جنس الحيوانات، و أن الله تعالى ميزه عنها بالفكر الذي جعل له، يوقع به أفعاله على انتظام و هو العقل التمييزي أو يقتنص به العلم بالآراء و المصلح و المفاسد من أبناء جنسه، و هو العقل التجريبي، أو يحصل به في تصور الموجودات غائبا و شاهدا، على ما هي عليه، و هو العقل النظري، و هذا الفكر إنما يحصل له بعد كمال الحيوانية فيه. و يبدأ من التمييز، فهو قبل التمييز خلو من العلم بالجملة، معدود من الحيوانات، لاحق بمبدئه في التكوين، من النطفة و العلقة و المضغة. و ما حصل له بعد ذلك فهو بما جعل الله له من مدارك الحس و الأفئدة التي هي الفكر. قال تعالى في الامتنان علينا: و جعل لكم السمع و الأبصار و الأفئدة فهو في الحالة الأولى قبل التمييز هيولا فقط. لجهله بجميع المعارف. ثم تستكمل صورته بالع لم الذي يكتسبه بآلاته، فكمل ذاته الإنسانية في وجودها. و انظر إلى قوله تعالى مبدأ الوحي على نبيه اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم أي أكسبه من العلم ما لم يكن حاصلا له بعد أن كان علقة و مضغة فقد كشفت لنا طبيعته و ذاته ما هو عليه من الجهل الذاتي و العلم الكسبي و أشارت إليه الآية الكريمة تقرر فيه الامتنان عليه بأول مراتب وجوده. و هي الإنسانية. و حالتاه الفطرية و الكسبية في أول التنزيل و مبدأ الوحي. و كان الله عليما حكيما.
الفصل السادس عشر: في كشف الغطاء عن المتشابه من الكتاب و السنة و ما حدث لأجل ذلك من طوائف السنية و المبتدعة في الاعتقادات
اعلم أن الله سبحانه بعث إلينا نبينا محمدا صلى الله عليه و سلم يدعونا إلى النجاة و الفوز بالنعيم و أنزل عليه الكتاب الكريم باللسان العربي المبين. يخاطبنا فيه بالتكاليف المفضية بنا إلى ذلك. و كان في خلال هذا الخطاب، و من ضروراته، ذكر صفاته سبحانه و أسمائه، ليعرفنا بذاته، و ذكر الروح المتعلقة بنا، و ذكر الوحي و الملائكة، الوسائط بينه و بين رسله إلينا. و ذكر لنا يوم البعث و إنذاراته و لم يعين لنا الوقت في شيء منه. و ثبت في هذا القرآن الكريم حروفا من الهجاء مقطعة في أوائل بعض سوره، لا سبيل لنا إلى فهم المراد بها. و سمى هذه الأنواع كلها من الكتاب متشابها. و ذم على اتباعها فقال تعالى: هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب، و حمل العلماء من سلف الصحابة و التابعين هذه الآية على أن المحكمات هي المبينات الثابتة الأحكام. و لذا قال الفقهاء في اصطلاحهم: المحكم المتضح المعنى. و أما المتشابهات فلهم فيها عبارات. فقيل هي التي تفتقر إلى نظر و تفسير تصحح معناها، لتعارضها مع آية أخرى أو مع العقل، فتخفى دلالتها و تشتبه. و على هذا قال ابن عباس: المتشابه يؤمن به و لا يعمل به و قال مجاهد و عكرمة: كلما سوى آيات الأحكام و القصص متشابه و عليه القاضي أبو بكر و إمام الحرمين. و قال الثوري و الشعبي و جماعة من علماء السلف: المتشابه، ما لم يكن سبيل إلى علمه، كشروط الساعة و أوقات الإنذارات و حروف الهجاء في أوائل السور، و قوله في الآية هن أم الكتاب أي معظمة و غالبة و المتشابه أقله، و قد يرد إلى المحكم. ثم ذم المتبعين للمتشابه بالتأويل أو بحملها على معان لا تفهم منها في لسان العرب الذي خوطبنا به. وسماهم أهل زيغ، أي ميل عن الحق من الكفار و الزنادقة و جهلة أهل البدع. و أن فعلهم ذلك قصد الفتنة التي هي الشرك أو اللبس على المؤمنين أو قصدا لتأويلها بما يشتهونه فيقتدون به في بدعتهم. ثم أخبر سبحانه بأنه استأثر بتأويلها و لا يعلمه إلا هو فقال: و ما يعلم تأويله إلا الله. ثم أثنى على العلماء بالإيمان بها فقط. فقال: و الراسخون في العلم يقولون آمنا به. و لهذا جعل السلف و الراسخون مستأنفا و رجحوه على العطف لأن الإيمان بالغيب أبلغ في الثناء و مع عطفه إنما يكون إيمانا بالشاهد. لأنهم يعلمون التأويل حينئذ فلا يكون غيبا. و يعضد ذلك قوله كل من عند ربنا و يدل على أن التأويل فيها غير معلوم للبشر. إن الألفاظ اللغوية إنما يفهم. منها المعاني التي وضعها العرب لها، فإذا استحال إسناد الخبر إلى مخبر عنه جهلنا مدلول الكلام حينئذ، و إن جاءنا من عند الله فوضنا علمه إليه و لا نشغل أنفسنا بمدلول نلتمسه، فلا سبيل لنا إلى ذلك. و قد قالت عائشة رضي الله عنها: إذا رأيتم الذين يجادلون في القرآن، فهم الذين عنى الله، فاحذروهم. هذا مذهب السلف في الآيات المتشابهة. و جاء في السنة ألفاظ مثل ذلك محملها عندهم محمل الآيات لأن المنبع واحد. و إذا تقررت أصناف المتشابهات على ما قلناه، فلنرجع إلى اختلاف الناس فيها. فأما ما يرجع منها على ما ذكروه إلى الساعة و أشراطها و أوقات الإنذارات و عدد الزبانية وأمثال ذلك، فليس هذا و الله أعلم من المتشابه، لأنه لم يرد فيه لفظ مجمل و لا غيره و إنما هي أزمنة لحادثات استأثر الله بعلمها بنصه في كتابه و على لسان نبيه. و قال: إنما علمها عند الله. و العجب ممن عدها من التشابه. و أما الحروف المقطعة في أوائل السور فحقيقتها حروف الهجاء و ليس ببعيد أن تكون مرادة. و قد قال الزمخشري: فيها إشارة إلى بعد الغاية في الإعجاز، لأن القرآن المنزل مؤلف منها، و البشر فيها سواء، و التفاوت موجود في دلالتها بعد التأليف. و إن عدل عن هذا الوجه الذي يتضمن الدلالة على الحقيقة فإنما يكون بنقل صحيح، كقولهم في طه، إنه نداء من طاهر و هادي و أمثال ذلك. و النقل الصحيح متعذر، فيجيء المتشابه فيها من هذا الوجه. و أما الوحي والملائكة و الروح و الجن، فاشتباهها من حاء دلالتها الحقيقية لأنها غير متعارفة، فجاء التشابه فيها من أجل ذلك. و قد ألحق بعض الناس بها كل ما في معناها من أحوال القيامة و الجنة والدجال و الفتن و الشروط، و ما هو بخلاف العوائد المألوفة، و هو غير بعيد، إلا أن الجمهور لا يوافقونهم عليه. و سيما المتكلمون فقد عينوا محاملها على ما تراه في كتبهم، و لم يبق من المتشابه إلا الصفات التي وصف الله بها نفسه في كتابه و على لسان نبيه، مما يوهم ظاهره نقصا أو تعجيزا. و قد اختلف الناس في هذه الظواهر من بعد السلف الذين قررنا مذهبهم. و تنازعوا و تطرقت البدع إلى العقائد. فلنشر إلى بيان مذاهبهم و إيثار الصحيح منه على الفاسد فنقول، و ما توفيقي إلا بالله: اعلم أن الله سبحانه وصف نفسه في كتابه بأنه عالم، قادر، شديد، حي، سميع، بصير. متكلم، جليل، كريم، جواد، منعم، عزيز، عظيم. و كذا أثبت لنفسه اليدين و العينين و الوجه و القدم واللسان، إلى غير ذلك من الصفات: فمنها ما يقتضي صحة ألوهية. مثل العلم والقدرة و الإرادة. ثم الحياة التي هي شرط جميعها، و منها ما هي صفة كمال، كالسمع و البصر و الكلام، و منها ما يوهم النقص كالاستواء و النزول و المجيء، و كالوجه و اليدين و العينين التي هي صفات المحدثات. ثم أخبر الشارع أنا نرى ربنا يوم القيامة كالقمر ليلة البدر، لا نضام في رؤيته كما ثبت في الصحيح. فأما السلف من الصحابة و التابعين فأثبتوا له صفات الألوهية و الكمال و فوضوا إليه ما يوهم النقص ساكتين عن مدلوله. ثم اختلف الناس من بعدهم و جاء المعتزلة فأثبتوا هذه الصفات أحكاما ذهنية مجردة، و لم يثبتوا صفة تقوم بذاته. و سموا ذلك توحيدا، و جعلوا الإنسان خالقا لأفعاله. و لا تتعلق بها قدرة الله تعالى، سيما الشرور و المعاصي منها، إذ يمتنع على الحكيم فعلها. و جعلوا مراعاة الأصلح للعباد واجبة عليه. و سموا ذلك عدلا، بعد أن كانوا أولا يقولون بنفي القدر، و أن الأمر كله فستأنف بعلم حادث و قدرة و إرادة كذلك، كما ورد في الصحيح. و أن عبد الله بن عمر تبرأ من معبد الجهني و أصحابه القائلين بذلك. و انتهى نفي القدر إلى واصل بن عطاء الغزالي، منهم، تلميذ الحسن البصري، لعهد عبد الملك بن مروان. ثم آخرا إلى معمر السلمي و رجعوا عن القول به. و كان منهم أبو الهذيل العلاف، و هو شيخ المعتزلة. أخذ الطريقة عن عثمان بن خالد الطويل عن واصل. و كان من صفات القدر، و اتبع رأي الفلاسفة في نفي الصفات الوجودية لظهور مذاهبهم يومئذ. ثم جاء إبراهيم النظام، و قال بالقدر، و اتبعوه. و طالع كتب الفلاسفة و شدد في نفي الصفات و قرر قواعد الاعتزال. ثم جاء الجاحظ و الكعبي و الجبائي. و كانت طريقتهم تسمى علم الكلام: إما لما فيها من الحجاج و الجدال. و هو الذي يسمى كلاما، و إما أن أصل طريقتهم نفي صفة الكلام. فلهذا كأنما الشافعي يقول: حقهم أن يضربوا بالجريد و يطاف بهم. و قرر هؤلاء طريقتهم أثبتوا منها و ردوا، إلى أن ظهر الشيخ أبو الحسن الأشعري و ناظر بعض مشيختهم في مسائل الصلاح و الأصلح، فرفض طريقتهم، و كان على رأي عبد الله بن سعيد بن كلاب و أبي العباس القلانسي و الحرث ابن أسد المحاسبي من أتباع السلف و على طريقة السنة. فأيد مقالاتهم بالحجج الكلامية و أثبت الصفات لى قائمة بذات الله تعالى، من العلم و القدرة و الإرادة التي يتم بها دليل التمانع وتصح المعجزات للأنبياء. و كان من مذهبهم إثبات الكلام و السمع و البصر لأنها وإن أوهم ظاهرا النقص بالصوت و الحرف الجسمانيين، فقد وجد للكلام عند العرب مدلول آخر غير الحروف و الصوت، و هو ما يدور في الخلد. و الكلام حقيقة فيه دون الأول، فأثبتوها لله تعالى و انتفى إيهام النقص. و أثبتوا هذه الضفة قديمة عامة التعلق بشأن الصفات الأخرى. و صار القرآن اسما مشتركا بين القديم بذات الله تعالى. و هو الكلام النفسي و المحدث الذي هو الحروف المؤلفة المقروءة بالأصوات. فإذا قيل قديم، فالمراد الأول، و إذا قيل مقروء، مسموع، فلدلالة القراءة و الكتابة عليه. و تورع الإمام أحمد بن حنبل من إطلاق لفظ الحدوث عليه، لأنه لم يسمع من السلف قبله: لا إنه يقول أن المصاحف المكتوبة قديمة، و لا أن القراءة الجارية على السنة قديمة. و هو شاهدها فحدثه. و إنما منعه من ذلك الورع الذي كان عليه. و أما غير ذلك فإنكار للضروريات، و حاشاة منه. و أما السمع و البصر، و إن كان يوهم إدراك الجارحة. فهو يدل أيضا لغة على إدراك المسموع و المبصر و ينتفي إيهام النقص حينئذ لأنه حقيقة لغوية فيهما. و أما لفظ الاستواء و المجيء و النزول و الوجه و اليدين و العينين و أمثال ذلك، فعدلوا عن حقائقها اللغوية لما فيها من إيهام النقص بالتشبيه إلى مجازاتها، على طريقة العرب، حيث تتعذر حقائق الألفاظ، فيرجعون إلى المجاز. كما في قوله تعالى: يريد أن ينقض و أمثاله، طريقة معروفة. لهم غير منكرة و لا مبتدعة. وحملهم على هذا التأويل، و إن كان مخالفا لمذهب السلف في التفويض أن جماعة من أتباع السلف و هم المحدثون و المتأخرون من الحنابلة ارتكبوا في محمل هذه الصفات فحملوها على صفات ثابتة لله تعالى، مجهولة الكيفية. فيقولون في استوى على العرش تثبت له استواء، بحيث مدلول اللفظة. فرارا من تعطيله. و لا نقول بكيفيته فرارا من القول بالتشبيه الذي تنفيه آيات السلوب، من قوله ليس كمثله شيء سبحان الله عما يصفون تعالى الله عما يقول الظالمون لم يلد و لم يولد و لم يعلمون مع ذلك أنهم ولجوا من باب التشبيه في قولهم بإثبات استواء، و الاستواء عند أهل اللغة إنما موضوعه الاستقرار و التمكن. و هو جسماني. و أما التعطيل الذي يشنعون بإلزامه، و هو تعطيل اللفظ، فلا محذور فيه. و إنما المحذور في تعطيل الآلة. و كذلك يشنعون بإلزام التكليف بما لا يطاق و هو تمويه. لأن التشابه لم يقع في التكاليف، ثم يدعون أن هذا مذهب السلف، و حاشا لله من ذلك. و إنما مذهب السلف ما قررناه أولا من تفويض المراد بها إلى الله، و السكوت عن فهمها. و قد يحتجون لإثبات الاستواء لله بقول مالك: إن الاستواء معلوم الثبوت لله و حاشاه من ذلك، لأنة يعلم مدلول الاستواء. و إنما أراد أن الاستواء معلوم من الله، و هو الجسماني. و كيفيته أي حقيقته. لأن حقائق الصفات كلها كيفيات، و هي مجهولة الثبوت لله. و كذلك يحتجون على إثبات المكان بحديث السوداء. و أنها لما قال لها النبي صلى الله عليه و سلم: أين الله ؟ و قالت في السماء، فقال أعتقها فإنها مؤمنة. والنبي صلى الله عليه و سلم لم يثبت لها الإيمان بإثباتها المكان لله، بل لأنها آمنت بما جاء به من ظواهر، أن الله في السماء، فدخلت في جملة الراسخين الذين يؤمنون بالمتشابه من غير كشف عن معناه. و القطع بنفي المكان حاصل من دليل العقل النافي للافتقار. و من أدلة السلوب المؤذنة بالتنزيه مثل ليس كمثله شيء، وأشباهه. و من قوله: و هو الله في السموات و في الأرض، إذ الموجود لا يكون في مكانين، فليست في هذا للمكان قطعا، و المراد غيره. ثم طردوا ذلك المحمل الذي ابتدعوه في ظواهر الوجه و العينين و اليدين، و النزول و الكلام بالحرف والصوت يجعلون لها مدلولات أعم من الجسمانية و ينزهونه عن مدلول الجسماني منها. و هذا شيء لا يعرف في اللغة. و قد درج على ذلك الأول و الآخر منهم و نافرهم أهل السنة من المتكلمين الأشعرية و الحنفية. و رفضوا عقائدهم في ذلك، و وقع بين متكلمي الحنفية ببخارى و بين الإمام محمد بن إسماعيل البخاري ما هو معروف. و أما المجسمة ففعلوا مثل ذلك في إثبات الجسمية. و أنها لا كالأجسام. و لفظ الجسم له يثبت في منقول الشرعيات. و إنما جرأهم عليه إثبات هذه الظواهر، فلم يقتصروا عليه، بل توغلوا و أثبتوا الجسمية. يزعمون فيها مثل ذلك و ينزهونه بقول متناقض سفساف، و هو قولهم: جسم لا كالأجسام. و الجسم في لغة العرب هو العميق المحدود و غير هذا التفسير من أنه القائم بالذات أو المركب من الجواهر و غير ذلك، فاصطلاحات للمتكلمين يريدون بها غير المدلول اللغوي. فلهذا كان المجسمة أوغل في البدعة بل والكفر. حيث أثبتوا لله وصفا موهما يوهم النقص لم يرد في كلامه. و لا كلام نبيه. فقد تبين لك الفرق بين مذاهب السلف و المتكلمين السنية و المحدثين والمبتدعة من المعتزلة و المجسمة بما أطلعناك عليه. و في المحدثين غلاة يسمون المشبه لتصريحهم بالتشبيه، حتى إنه يحكى عن بعضهم أنه قال: أعفوني من اللحية و الفرج و سلوا عما بدا لكم من سواهما. و إن لم يتأول ذلك لهم، بأنهم يريدون حصر ما ورد من هذه الظواهر الموهمة. و حملها على ذلك المحمل الذي لأئمتهم، و إلا فهو كفر صريح و العياذ بالله. و كتب أهل السنة مشحونة بالحجاج على هذه البدع. و بسط الرد عليهم بالأدلة الصحيحة. و إنما أومأنا إلى ذلك إيماء يتميز به فصول المقالات و جملها. و الحمد لله الذي هدانا لهذا و ما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. و أما الظواهر الخفية الأدلة و الدلالة، كالوحي و الملائكة و الروح و الجن والبرزخ و أحوال القيامة والدجال و الفتن و الشروط. و سائر ما هو متعذر على الفهم أو مخالف للعادات، فإن حملناه على ما يذهب إليه الأشعرية في تفاصيله، و هم أهل السنة. فلا تشابه، و إن قلنا فيه بالتشابه، فلنوضح القول فيه بكشف الحجاب عنه فنقول: اعلم أن العالم البشري أشرف العوالم من الموجودات، و أرفعها. و هو و إن اتحدت حقيقة الإنسانية فيه فله أطوار يخالف كل واحد منها الآخر بأحوال تختص به حتى، كأن الحقائق فيها مختلفة. فالطور الأول: عالمه الجسماني بحسه الظاهر و فكره المعاشي و سائر تصرفاته التي أعطاه إياها وجوده الحاضر. الطور الثاني: عالم النوم، و هو تصور الخيال بانفاذ تصوراته جائلة في باطنه فيدرك منها بحواسه الظاهرة مجردة عن الأزمنة و الأمكنة و سائر الأحوال الجسمانية، و يشاهدها في إمكان ليس هو فيه. و يحدث للصالح منها البشرى بما يترقب من مسراته الدنيوية و الأخروية، كما وعد به الصادق صلوات الله عليه. و هذان الطوران عامان في جميع أشخاص البشر، و هما مختلفان في المدارك كما تراه. الطور الثالث: طور النبوة، و هو خاص بإشراف صنف البشر بما خصهم الله به من معرفته و توحيده. و تنزل ملائكته عليهم بوحيه. و تكليفهم بإصلاح البشر في أحوال كلها مغايرة للأحوال البشرية الظاهرة. الطور الرابع: طور الموت الذي تفارق أشخاص البشر فيه حياتهم الظاهرة إلى وجود قبل القيامة يسمى البرزخ يتنعمون فيه و يعذبون على حسب أعمالهم ثم يفضون إلى يوم القيامة الكبرى، و هي دار الجزاء الأكبر نعيما و عذابا في الجنة أو في النار. و الطوران الأولان شاهدهما وجداني. و الطور الثالث النبوي شاهده المعجزة و الأحوال المختصة بالأنبياء، و الطور الرابع شاهده ما تنزل على الأنبياء من وحي الله تعالى في المعاد و أحوال البرزخ و القيامة، مع أن العقل يقتضي به، كما نبهنا الله عليه، في كثير من آيات البعثة. و من أوضح الدلالة على صحتها أن أشخاص الإنسان لو لم يكن لهم وجود آخر بعد الموت غير هذه المشاهد يتلقى فيه أحوالا تليق به. لكان إيجاده الأول عبثا. إذ الموت إذا كان عدما كان مآل الشخص إلى العدم. فلا يكون لوجوده الأول حكمة. و العبث على الحكيم محال. وإذا تقررت هذه الأحوال الأربعة، فلنأخذ في بيان مدارك الإنسان فيها كيف تختلف اختلافا بينا يكشف لك غور المتشابه. فأما مداركه في الطور الأول فواضحة جلية. قال الله تعالى: والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة. فبهذه المدارك يستولي على ملكات المعارف و يستكمل حقيقة إنسانية و يوفي حق العبادة المفضية به إلى النجاة. و أما مداركه في الطور الثاني. و هو طور النوم. فهي المدارك التي في الحس الظاهر بعينها. لكن ليست في الجوارح كما هي في اليقظة. لكن الرأي يتيقن كل شيء أدركه في نومه لا يشك فيه و لا يرتاب. مع خلو الجوارح عن الاستعمال العادي لها. و الناس في حقيقة هذه الحال فريقان: الحكماء، يزعمون أن الصور الخيالية يدفعها الخيال بحركة الفكر إلى الحس المشترك الذي هو الفصل المشترك بين الحس الظاهر و الحس الباطن. فتصور محسوسة بالظاهر في الحواس كلها. و يشكل عليهم هذا بأن المرائي الصادقة التي هي من الله تعالى أو من الملك أثبت و أرسخ في الإدراك من المرائي الخيالية الشيطانية، مع أن الخيال فيها على ما قرروه واحد. الفريق الثاني: المتكلمون. أجملوا فيها القول. و قالوا: هو إدراك يخلقه الله في الحاسة فيقع كما يقع في اليقظة. و هذا أليق و إن كنا لا نتصور كيفيته. و هذا الإدراك النومي أوضح شاهد على ما يقع بعده من المدارك الحسية في الأطوار. و أما الطور الثالث، و هو طور الأنبياء. فالمدارك الحسية فيها مجهولة الكيفية. عند وجدانيته عندهم بأوضح من اليقين. فيرى النبي الله و الملائكة. و يسمع كلام الله منه أو من الملائكة. و يرى الجنة و النار، و العرش و الكرسي، و يخترق السموات السبع في إسرائه و يركب البراق فيها، و يلقى النبيين هنالك. و يصلى بهم، و يدرك أنواع المدارك الحسية كما يدرك في طوره الجسماني و النومي، بعلم ضروري يخلقه الله له، لا بالإدراك العادي للبشر في الجوارح. و لا يلتفت في ذلك إلى ما يقوله ابن سينا من تنزيله أمر النبوة على أمر النوم في دفع الخيال صورة إلى الحس المشترك. فإن الكلام عليهم هنا أشد من الكلام في النوم، لأن هذا التنزيل طبيعة واحدة كما قررناه، فيكون على هذا حقيقة الوحي و الرؤيا من النبي واحدة في يقينها و حقيقتها. و ليست كذلك على ما علمت من رؤيا النبي صلى الله عليه و سلم قبل الوحي ستة أشهر و أنها كانت بمدة الوحي و مقدمته. و يشعر ذلك بأنه رؤية في الحقيقة. و كذلك حال الوحي في نفسه فقد كان يصعب عليه و يقاسي منه شدة كما هي في الصحيح. حتى كان القرآن يتنزل عليه آيات مقطعات. و بعد ذلك نزل عليه براءة في غزوة تبوك جملة واحدة، و هو يسير على ناقته. فلو كان ذلك من تنزل الفكر إلى الخيال فقط، و من الخيال إلى الحس المشترك، لم يكن بين هذه الحالات فرق. و أما الطور الرابع، و هو طور الأموات في برزخهم الذي أوله القبر. و هم مجردون عن البدن. أو في بعثتهم عندما يرجعون إلى الأجسام. فمداركهم الحسية موجودة، فيرى الميت في قبره الملكان يسألانه. و يرى مقعده من الجنة أو النار بعيني رأسه، و يرى شهود الجنازة و يسمع كلامهم و خفق نعالهم في الانصراف عنه، و يسمع ما يذكرونه به من التوحيد أو من تقرير الشهادتين، و غير ذلك. و في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم وقف على قليب بدر و فيه قتلى المشركين من قريش، و ناداهم بأسمائهم، فقال عمر: يا رسول الله ! أتكلم هؤلاء الجيف ؟ فقال صلى الله عليه و سلم: و الذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع منهم لما أقول. ثم في البعثة يوم القيامة يعاينون بأسمائهم و أبصارهم كما كانوا يعاينون في الحياة من نعيم الجنة على مراتبه و عذاب النار على مراتبه، و يرون الملائكة و يرون ربهم، كما ورد في الصحيح: إنكم ترون ربكم يوم القيامة، كالقمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته. و هذه المدارك لم تكن لهم في. الحياة الدنيا و هي حسية مثلها. و تقع في الجوارح بالعلم الضروري الذي يخلقه الله كما قلناه. و سر هذا أن تعلم أن النفس الإنسانية هي تنشأ بالبدن و بمداركه، فإذا فارقت البدن بنوم أو بموت أو صار النبي حالة الوحي من المدارك البشرية إلى المدارك الملكية، فقد استصبحت ما كان معها من المدارك البشرية مجردة عن الجوارح، فيدرك بها في ذلك الطور أي إدراك شاءت منها، أرفع من إدراكها، و هي في الجسد. قاله الغزالي رحمه الله، و زاد على ذلك أن النفس الإنسانية صورة تبقى لها. بعد المفارقة فيها العينان و الأذنان و سائر الجوارح المدركة أمثالا لها، كان في البدن و صورا. و أنا أقول: إنما يشير بذلك إلى الملكات الحاصلة من تصريف هذه الجوارح في بدنها زيادة على الإدراك. فإذا تفطنت لهذا كله علمت أن هذه المدارك موجودة في الأطوار الأربعة لكن ليس على ما كانت في الحياة الدنيا، و إنما هي تختلف بالقوة و الضعف بحسب ما يعرض لها من الأحوال. و يشير المتكلمون إلى ذلك إشارة مجملة بأن الله يخلق فيها علما ضروريا بتلك المدارك. أي مدرك كان، و يعنون به هذا القدر الذي أوضحناه. و هذه نبذة أومأنا بها إلى ما يوضح القول في المتشابه. و لو أوسعنا الكلام فيه لقصرت المدارك عنه. فلنفرع إلى الله سبحانه في الهداية و الفهم عن أنبيائه و كتابه، بما يحصل به الحق في توحيدنا. و الظفر بنجاتنا و الله يهدي من يشاء.
الفصل السابع عشر: في علم التصوف
هذا العلم من العلوم الشرعية الحادثة في الملة و أصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة و كبارها من الصحابة و التابعين و من بعدهم طريقة الحق والهداية و أصلها العكوف على العبادة و الانقطاع إلى الله تعالى و الإعراض عن زخرف الدنيا و زينتها، و الزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة و مال و جاه والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة و كان ذلك عاما في الصحابة و السلف. فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني و ما بعده و جنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية و المتصوفة. و قال القشيري رحمه الله: ولا يشهد لهذا الاسم اشتقاق من جهة العربة و لا قياس. و الظاهر أنه لقب. و من قال اشتقاقه من الصفاء أو من الصفة فبعيد من جهة القياس اللغوي، قال: و كذلك من الصوف لأنهم لم يختصوا بلبسه. قلت: و الأظهر إن قيل بالاشتقاق أنه من الصوف و هم في الغالب مختصون بلبسه لما كانوا عليه من فخالفه الناس في لبس فاخر الثياب إلى لبس الصوف فلما اختص هؤلاء بمذهب الزهد و الانفراد عن الخلق و الإقبال على العبادة اختصوا بمآخذ مدركة لهم و ذلك أن الإنسان بما هو إنسان إنما يتميز عن سائر الحيوان بالإدراك و إدراكه نوعان: إدراك للعلوم و المعارف من اليقين و الفن و الشك و الوهم و إدراك للأحوال القائمة من الفرح و الحزن و القبض و البسط و الرضى و الغضب و الصبر و الشكر و أمثال ذلك. فالروح العاقل والمتصرف في البدن تنشأ من إدراكات و إرادات و أحوال و هي التي يميز بها الإنسان. و بعضها ينشأ من بعض كما ينشأ العلم من الأدلة و الفرح و الحزن عن إدراك المؤلم أو المتلذذ به و النشاط عن الحمام و الكسل عن الإعياء. و كذلك المريد في مجاهدته و عبادته لابد و أن ينشأ له عن في مجاهدة حال نتيجة تلك المجاهدة. و تلك الحال إما أن تكون نوع عبادة فترسخ و تصير مقاما للمريد و إما أن لا تكون عبادة و إنما تكون صفة حاصلة للنفس من حزن أو سرور أو نشاط أو كسل أو غير ذلك من المقامات. و لا يزال المريد يترقى من مقام إلى مقام إلى أن ينتهي إلى التوحيد و المعرفة التي هي الغاية المطلوبة للسعادة. قال صلى الله عليه و سلم: من مات يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة فالمريد لابد له من الترقي في هذه الأطوار و أصلها كلها الطاعة و الإخلاص و يتقدمها الإيمان و يصاحبها، و تنشأ عنها الأحوال و الصفات نتائج و ثمرات. ثم تنشأ عنها أخرى و أخرى إلى مقام التوحيد و العرفان. و إذا وقع، تقصير في النتيجة أو خلل فنعلم أنه إنما أتى من قبل التقصير في الذي قبله. و كذلك في الخواطر النفسانية و الواردات القلبية. فلهذا يحتاج المريد إلى محاسبة نفسه في سائر أعماله و ينظر في حقائقها لأن حصول النتائج عن الأعمال ضروري و تصورها من الخلل فيها كذلك. و المريد يجد ذلك بذوقه و يحاسب نفسه على أسبابه. و لا يشاركهم في ذلك إلا القليل من الناس لأن الغفلة عن هذا كأنها شاملة. و غاية أهل العبادات إذا لم ينتهوا إلى هذا النوع أنهم يأتون بالطاعات مخلصة من نظر الفقه في الأجزاء و الامتثال. و هؤلاء يبحثون عن نتائجها بالأذواق و المواجد ليطلعوا على أنها خالصة من التقصير أو لا، فظهر أن أصل طريقتهم كلها محاسبة النفس على الأفعال و التروك و الكلام في هذه الأذواق و المواجد التي تحصل عن المجاهدات ثم تستقر للمريد مقاما يترقى منها إلى غيرها ثم لهم مع ذلك آداب مخصوصة بهم و اصطلاحات في ألفاظ تدور بينهم إذ الأوضاع اللغوية إنما هي للمعاني المتعارفة. فإذا عرض من المعاني ما هو غير متعارف اصطلحنا عن التعبير عنه بلفظ يتيسر فهمة منه. فلهذا اختص هؤلاء بهذا النوع من العلم الذي ليس لواحد غيرهم من أهل الشريعة الكلام فيه. و صار علم الشريعة على صنفين: صنف مخصوص بالفقهاء و أهل الفتيا و هي الأحكام العامة في العبادات و العادات و المعاملات. و صنف مخصوص بالقوم في القيام بهذه المجاهدة و محاسبة النفس عليها و الكلام في الأذواق و المواجد العارضة في طريقها و كيفية الترقي منها من ذوق إلى ذوق و شرح الاصطلاحات التي تدور بينهم في ذلك. فلما كتبت العلوم و دونت و ألف الفقهاء في الفقه و أصوله و الكلام و التفسير وغير ذلك. كتب رجال من أهل هذه الطرقة في طريقهم فمنهم من كتب في الورع و محاسبة النفس على الاقتداء في الأخذ و الترك كما فعله القشيري في كتاب الرسالة و السهرودي في كتاب عوارف المعارف و أمثالهم. و جمع الغزالي رحمه الله بين الأمرين في كتاب الإحياء فدون فيه أحكام الورع و الاقتداء ثم بين آداب القوم وسننهم و شرح اصطلاحاتهم في عباراتهم و صار علم التصوف في الملة علما مدونا بعد أن كانت الطريقة عبادة فقط و كانت أحكامها إنما تتلقى من صدور الرجال كما وقع في سائر العلوم التي دونت بالكتاب من التفسير و الحديث و الفقه والأصول و غير ذلك. ثم إن هذه المجاهدة و الخلوة و الذكر يتبعها غالبا كشف حجاب الحس و الاطلاع على عوالم من أمر الله ليس لصاحب الحس إدراك شيء منها. و الروح من تلك العوالم. و سبب هذا الكشف أن. الروح إذا رجع في الحس الظاهر إلى الباطن ضعفت أحوال الحس و قويت أحوال الروح و غلب سلطانه و تجدد نشؤه أعان على ذلك الذكر فإنه كالغذاء لتنمية الروح و لا يزال في نمو و تزيد إلى أن يصير شهودا بعد أن كان علما. و يكشف حجاب الحس، و يتم وجود النفس التي لها من ذاتها. و هو عين الإدراك. فيتعرض حينئذ للمواهب الربانية و العلوم اللدنية و الفتح الإلهي و تقرب ذاته في تحقيق حقيقتها من الأفق الأعلى أفق الملائكة. و هذا الكشف كثيرا ما يعرض لأهل المجاهدة فيدركون من حقائق الوجود مالا يدرك سواهم و كذلك يدركون كثيرا من الواقعات قبل وقوعها و يتصرفون بهممهم و قوى نفوسهم في الموجودات السفلية و تصير طوع إرادتهم. فالعظماء منهم لا يعتبرون هذا الكشف و لا يتصرفون و لا يخبرون عن حقيقة شيء لم يؤمروا بالتكلم فيه بل يعدون ما يقع لهم من ذلك محنة و يتعوذون منة إذا هاجمهم. و قد كان الصحابة رضي الله عنهم على مثل هذه المجاهدة و كان حظهم من هذه الكرامات أوفر الحظوظ لكنهم لم يقع لهم بها عناية. و في فضائل أبي بكر و عمر و عثمان و علي رضي الله عنهم كثير منها. و تبعهم في ذلك أهل الطريقة ممن اشتملت رسالة القشيري على ذكرهم و من تبع طريقتهم من بعدهم. ثم إن قوما من المتأخرين انصرفت عنايتهم إلى كشف الحجاب و الكلام في المدارك التي وراءه و اختلفت طرق الرياضة عنهم في ذلك باختلاف تعليمهم في إماتة القوى الحسية و تغذية الروح العاقل بالذكر حتى يحصل للنفس إدراكها الذي لها من ذاتها بتمام نشوتها و تغذيتها فإذا حصل ذلك زعموا أن الوجود قد انحصر في مداركها حينئذ و أنهم كشفوا ذوات الوجود و تصوروا حقائقها كلها من العرش ثم إلى الطش. هكذا قال الغزالي رحمه الله في كتاب الإحياء بعد أن ذكر صورة الرياضة. ثم إن هذا الكشف لا يكون صحيحا كاملا عندهم إلا إذا كان ناشئا عن الاستقامة لأن الكشف قد يحصل لصاحب الجوع و الخلوة و إن لم يكن هناك استقامة كالسحرة و غيرهم من المرتاضين. و ليس مرادنا إلا الكشف الناشئ عن الاستقامة و مثاله أن المرآة الصقيلة إذا كانت محدبة أو مقعرة و حوذي بها جهة المرئي فإنه يتشكل فيه معوجا على غير صورته. و إن كانت مسطحة تشكل فيها المرئي صحيحا. فالاستقامة للنفس كالانبساط للمرآة فيما ينطبع فيها من الأحوال. و لما عني المتأخرون بهذا النوع من الكشف تكلموا في حقائق الموجودات العلوية و السفلية و حقائق الملك و الروح و العرش و الكرسي و أمثال ذلك. و قصرت مدارك من لم يشاركهم في طريقهم عن فهم أذواقهم و مواجدهم في ذلك. و أهل الفتيا بين فنكر عليهم و مسلم لهم. و ليس البرهان و الدليل بنافع في هذا الطريق ردا و قبولا إذ هي من قبيل الوجدانيات. تفصيل و تحقيق: يقع كثيرا في كلام أهل العقائد من علماء الحديث و الفقه أن الله تعالى مباين لمخلوقاته. و يقع للمتكلمين أنة لا مباين و لا متصل. و يقع للفلاسفة أنة لا داخل العالم و لا خارجه. و يقع للمتأخرين من المتصوفة أنه متحد بالمخلوقات: إما بمعنى الحلول فيها، أو بمعنى إنه هو عينها. و ليس هناك غيره جملة و لا تفصيلا. فلنبين تفصيل هذه المذاهب و نشرح حقيقة كل واحد منها، حتى تتضح معانيها فنقول، إن المباينة تقال لمعنيين: أحدهما المباينة في الحيز و الجهة، و يقابله الاتصال. و نشعر هذه المقابلة على هذه التقيد. بالمكان إما صريحا و هو تجسيم، أو لزوما و هو تشبيه من قبيل القول بالجهة. و قد نقل مثله عن بعض علماء السلف من التصريح بهذه المباينة، فيحتمل غير هذا المعنى. و من أجل ذلك أنكر المتكلمون هذه المباينة وقالوا: لا يقال في البارئ أنة مباين مخلوقاته، و لا متصل بها، لأن ذلك إنما يكون للمتحيزات. و ما يقال من أن المحل لا يخلو عي الاتصاف بالمعنى و ضده. فهو مشروط بصحة الاتصاف أولا، و أما مع امتناعه فلا، بل يجوز الخلو عن المعنى و ضده. كما يقال في الجماد، لا عالم و لا جاهل، و لا قادر و لا عاجز ولا كاتب و لا أمي. و صحة الاتصاف بهذه المباينة مشروط بالحصول في الجهة على ما تقرر من مدلولها. و البارئ سبحانه منزه عن ذلك. ذكره ابن التلمساني في شرح اللمع لإمام الحرمين و قال: و لا يقال في البارئ مباين للعالم و لا متصل به، و لا داخل فيه و لا خارج عنة. و هو معنى ما يقول الفلاسفة أنة لا داخل العالم و لا خارجه، يناء على وجود الجواهر غير المتحيزة. و أنكرها المتكلمون لما يلزم من مساواتها للبارئ في أخص الصفات. و هو مبسوط في علم الكلام. وأما المعنى الآخر للمباينة، فهو المغايرة و المخالفة فيقال: البارئ مباين لمخلوقاته في ذاته و هويته و وجوده و صفاته. و يقابله الاتحاد و الامتزاج والاختلاط. و هذه المباينة هي مذهب أهل الحق كلهم من جمهور السلف و علماء الشرائع و المتكلمين و المتصوفة الأقدمين أهل الرسالة و من نحا منحاهم. و ذهب جماعة من المتصوفة المتأخرين الذين صيروا المدارك الوجدانية علمية نظرية، إلى أن البارئ تعالى متحد بمخلوقاته في هويته و وجوده و صفاته. و ربما زعموا أنة مذهب الفلاسفة قبل أرسطو، مثل أفلاطون و سقراط، و هو الذي يقينه المتكلمون حيث ينقلونه في علم الكلام عن المتصوفة و يحاولون الرد عليه لأنه ذاتان، تنتفي إحداهما، أو تندرج اندراج الجزء. فإن تلك مغايرة صريحة. و لا يقولون بذلك. و هذا الاتحاد هو الحلول الذي تدعيه النصارى في المسيح عليه السلام و هو أغرب لأنه حلول قديم في محدث أو اتحاده به. و هو أيضا عين ما تقوله الإمامية من الشيعة في الأئمة. و تقرير هذا الاتحاد في كلامهم على طريقين: الأولى: أن ذات القديم كائنة في المحدثات محسوسها و معقولها، متحدة بها في المتصورين، و هي كلها مظاهر له، و هو القائم عليها، أي المقدم لوجودها بمعنى لولاه كانت عدما و هو رأي أهل الحلول. الثانية: طريق أهل الوحدة المطلقة و كأنهم استشعروا من تقرير أهل الحلول الغيرية المنافية لمعقول الاتحاد، فنفوها بين القديم و بين المخلوقات في الذات و الوجود و الصفات. و غالطوا في غيرية المظاهر المدركة بالحس و العقل بأن ذلك من المدارك البشرية، و هي أوهام. و لا يريدون الوهم الذي هو قسيم العلم و الفن و الشك، إنما يريدون أنها كلها عدم في الحقيقة، و وجود في المدرك البشري فقط. و لا وجود بالحقيقة إلا للقديم، لا في الظاهر و لا في الباطن كما نقرره بعد، بحسب الإمكان. و التعويل في تعقل ذلك على النظر و الاستدلال، كما في المدارك البشرية، غير مفيد، لأن ذلك إنما نقل من المدارك الملكية، وإنما هي حاصلة للأنبياء بالفطرة و من بعدهم للأولياء بهدايتهم. و قصد من يقصد الحصول عليها بالطريقة العلمية ضلال. و ربما قصد بعض المصنفين ذلك في كشف الموجودات و ترتيب حقائقه على طريق أهل المظاهر فأتى يالأغمض فالأغمض. و ربما قصد بعض المصنفين بيان مذهبهم في كشف الوجود و ترتيب حقائقه فأتى بالأغمض فالأغمض بالنسبة إلى أهل النظر و الاصطلاحات و العلوم كما فعل الفرغاني شارح قصيدة ابن الفارض في الديباجة التي كتبها في صدر ذلك الشرح فإنه ذكر في صدور الوجود عن الفاعل و ترتيبه أن الوجود كله صادر عن صفة الوحدانية التي هي مظهر الأحدية و هما معا صادران عن الذات الكريمة التي هي عين الوحدة لا غير. و يسمون هذا الصدور بالتجلي. و أول مراتب التجليات عندهم تجلي الذات على نفسه و هو يتضمن الكمال بإفاضة الإيجاد و الظهور لقوله في الحديث الذي يتناقلونه: كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق ليعرفوني و هذا الكمال في الإيجاد المتنزل في الوجود و تفصيل الحقائق و هو عندهم عالم المعاني و الحضرة الكمالية و الحقيقة المحمدية و فيها حقائق الصفات و اللوح و القلم و حقائق الأنبياء و الرسل أجمعين و الكمل من أهل الملة المحمدية. و هذا كله تفصيل الحقيقة المحمدية. و يصدر عن هذه الحقائق حقائق أخرى في الحضرة الهبائية و هي مرتبة المثال ثم عنها العرش ثم الكرسي ثم الأفلاك، ثم عالم العناصر، ثم عالم التركيب. هذا في عالم الرتق فإذا تجلت فهي في عالم الفتق. و يسمى هذا المذهب مذهب أهل التجلي و المظاهر و الحضرات و هو كلام لا يقتدر أهل النظر إلى تحصيل مقتضاه لغموضه و انغلاقه و بعد ما بين كلام صاحب المشاهدة و الوجدان و صاحب الدليل. و ربما أنكر بظاهر الشرع. هذا الترتيب و كذلك ذهب آخرون منهم إلى القول بالوحدة المطلقة و هو رأي أغرب من الأول في تعقله و تفاريعه. يزعمون فيه أن الوجود له قوى في تفاصيله بها كانت حقائق الموجودات و صورها و موادها. و العناصر إنما كانت بما فيها من القوى و كذلك مادتها لها في نفسها قوة بها كان وجودها. ثم إن المركبات فيها تلك القوى متضمنة في القوة التي كان بها التركيب، كالقوة المعدنية فيها قوى العناصر بهيولاها و زيادة القوة المعدنية ثم القوة الحيوانية تتضمن القوة المعدنية و زيادة قوتها في نفسها و كذا القوة الإنسانية مع الحيوانية ثم الفلك يتضمن القوة الإنسانية و زيادة. و كذا الذوات الروحانية و القوة الجامعة للكل من غير تفصيل هي القوة الإلهية التي انبثت في جميع الموجودات كلية و جزئية و جمعتها و أحاطت بها من كل وجه. لا من جهة الظهور و لا من جهة الخفاء و لا من جهة الصورة و لا من جهة المادة فالكل واحد و هو نفس الذات الإلهية و هي في الحقيقة واحدة بسيطة و الاعتبار هو المفصل لها كالإنسانية مع الحيوانية. ألا ترى أنها مندرجة فيها و كائنة بكونها. فتارة يمثلونها بالجنس مع النوع، في كل موجود كما ذكرناه و تارة بالكل مع الجزء على طريقة المثال. و هم في هذا كله يفرون من التركيب و الكثرة بوجه من الوجوه و إنما أوجبها عندهم الوهم و الخيال. و الذي يظهر من كلام ابن دهقان في تقرير هذا المذهب أن حقيقة ما يقولونه في الوحدة شبيه بما تقوله الحكماء في الألوان من أن وجودها مشروط بالضوء فإذا عدم الضوء لم تكن الألوان موجودة بوجه. و كذا عندهم الموجودات المحسوسة كلها مشروطة بوجود المدرك الحسي، بل و الموجودات المعقولة و المتوهمة أيضا مشروطة بوجود المدرك العقلي فإذا الوجود المفصل كله مشروط بوجود المدرك البشري. فلو فرضنا عدم المدرك البشري جملة لم يكن هناك تفصيل الوجود بل هو بسيط واحد فالحر و البرد و الصلابة و اللين بل والأرض و الماء و النار و السماء و الكواكب، إنما وجدت لوجود الحواس المدركة لها لما جعل في المدرك من التفصيل الذي ليس في الموجود و إنما هو في المدارك فقط فإذا فقدت المدارك المفصلة فلا تفصيل إنما هو إدراك واحد و هو أنا لا غيره. و يعتبرون ذلك بحال النائم فإنه إذا نام و فقد الحس الظاهر فقد كل محسوس و هو في تلك الحال إلا ما يفصله له الخيال. قالوا: فكذا اليقظان إنما يعتبر تلك المدركات كلها على التفصيل بنوع مدركه البشري ولو قدر فقد مدركه فقد التفصيل و هذا هو معنى قولهم الموهم لا الوهم الذي هو من جملة المدارك البشرية. هذا ملخص رأيهم على ما يفهم من كلام ابن دهقان و هو في غاية السقوط لأنا نقطع بوجود البلد الذي نحن مسافرون عنه و إليه يقينا مع غيبته عن أعيننا و بوجود السماء المظلة و الكواكب و سائر الأشياء الغائبة عنا. و الإنسان قاطع بذلك و لا يكابر أحد نفسه في اليقين مع أن المحققين من المتصوفة المتأخرين يقولون إن المريد عند الكشف ربما يعرض له توهم هذه الوحدة و يسمى ذلك عندهم مقام الجمع ثم يترقى عنه إلى التمييز بين الموجودات و يعبرون عن ذلك بمقام الفرق و هو مقام العارف المحقق و لابد للمريد عندهم من عقبة الجمع و هي عقبة صعبة لأنه يخشى على المريد من وقوفه عندها فتخسر صفقته فقد تبينت مراتب أهل هذه الطريقة ثم إن كل هؤلاء المتأخرين من المتصوفة المتكلمين في الكشف و فيما وراء الحس توغلوا في ذلك فذهب الكثير منهم إلى الحلول و الوحدة كما أشرنا إليه و ملئوا الصحف منه مثل الهروي في كتاب المقامات له و غيره. و تبعهم ابن العربي و ابن سبعين و تلميذهما ابن العفيف وابن الفارض و النجم الإسرائيلي في قصائدهم. و كان سلفهم مخالطين للإسماعيلية المتأخرين من الرافضة الدائنين أيضا بالحلول و إلهية الأئمة مذهبا لم يعرف لأولهم فأشرب كل واحد من الفريقين مذهب الآخر. و اختلط كلامهم و تشابهت عقائدهم. و ظهر في كلام المتصوفة القول بالقطب و معناه رأس العارفين. يزعمون أنه لا يمكن أن يساويه أحد في مقامه في المعرفة حتى يقبضه الله. ثم يورث مقامه لآخر من أهل العرفان. و قد أشار إلى ذلك ابن سينا في كتاب الإشارات في فضول التصوف منها فقال: جل جناب الحق أن يكون شرعة لكل وارد أو يطلع عليه إلا الواحد بعد الواحد. و هذا كلام لا تقوم عليه حجة عقلية، و لا دليل شرعي و إنما هو من أنواع الخطابة و هو بعينه ما تقوله الرافضة و دانوا به. ثم قالوا بترتيب وجود الإبدال بعد هذا القطب كما قاله الشيعة في النقباء. حتى إنهم لما أسندوا لباس خرقة التصوف ليجعلوه أصلا لطريقتهم و نحلتهم رفعوه إلى علي رضي الله عنه و هو من هذا المعنى أيضا. و إلا فعلي رضي الله عنه لم يختص من بين الصحابة بتخليه و لا طريقة في لباس و لا حال. بل كان أبو بكر و عمر رضي الله عنهما أزهد الناس بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم و أكثرهم عبادة. و لم يختص أحد منهم في الدين بشيء يؤثر عنه في الخصوص بل كان الصحابة كلهم أسوة في الدين و الزهد و المجاهدة. تشهد بذلك سيرهم و أخبارهم، نعم إن الشيعة يخيلون بما ينعلون من ذلك اختصاص علي رضي الله عنه بالفضائل دون من سواه من الصحابة ذهابا مع عقائد التشيع المعروفة لهم. و الذي يظهر أني المتصوفة بالعراق، لما ظهرت الإسماعيلية من الشيعة، و ظهر كلامهم في الإمامة و ما يرجع إليها ما هو معروف، فاقتبسوا من ذلك الموزانة بين الظاهر و الباطن و جعلوا الإمامة لسياسة الخلف في الانقياد إلى الشرع، و أفردوه بذلك أن لا يقع اختلاف كما تقرر في الشرع. ثم جعلوا القطب لتعليم المعرفة بالله لأنه رأس العارفين، و أفردوه بذلك تشبيها بالإمام في الظاهر و أن يكون على وزانه في الباطن و سموه قطبا لمدار المعرفة عليه، و جعلوا الأبدال كالنقباء مبالغة في التشبيه فتأمل ذلك. يشهد لذلك من كلام هؤلاء المتصوفة في أمر الفاطمي و ما شحنوا كتبهم في ذلك مما ليس لسلف المتصوفة فيه كلام بنفي أو إثبات و إنما هو مأخوذ من كلام الشيعة و الرافضة و مذاهبهم في كتبهم. و الله يهدي إلى الحق. تذييل: و قد رأيت أن أجلب هنا فصلا من كلام شيخنا العارف كبير الأولياء بالأندلس، أبي مهدي عيسى بن الزيات كان يقع له أكثر الأوقات على أ بيات الهروي التي وقعت له في كتاب المقامات توهم القول بالوحدة المطلقة أو يكاد يصرح بها و بقوله: ما وحد الواحد من واحد إذ كل من وحده جاحد توحيد من ينطق عن نعته تثنيه أبطلها الواحد توحيده إياه توحيده و نعت من ينعته لاحد فيقول رحمه الله على سبيل العذر عنه: استشكل الناس إطلاق لفظ الجمود على كل من وحد الواحد و لفظ الإلحاد على من نعته و وصفه. و استبشعوا هذه الأبيات و حملوا قائلها على الكفر و استخفوه. و نحن نقول على رأي هذه الطائفة أن معنى التوحيد عندهم انتقاء عين الحدوث بثبوت عين القدم و أن الوجود كله حقيقة واحدة وانية واحدة. و قد قال أبو سعيد الجزار من كبار القوم: الحق عين ما ظهر و عين ما بطن. و يرون أن وقوع التعدد في تلك الحقيقة وجود الاثنينية. و هم باعتبار حضرات الحس بمنزلة صور الضلال و الصدا و المرأى. و أن كل ما سوى عين القدم، إذا استتبع فهو عدم. و هذا معنى: كان الله، و لا شيء معه، و هو الآن على ما هو عليه كان عندهم. و معنى قول كبير الذي صدقه رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله: ألا كل شيء، ما خلا الله باطل. قالوا: فمن وحد و نعت، فقد قال بموجد محدث. هو نفسه، و توحيد محدث هو فعله، موجود قدير، هو معبود. و قد تقدم معنى التوحيد انتقاء عين الحدوث، و عين الحدوث، الآن ثابتة بل متعددة، و التوحيد مجحود والدعوى كاذبة. كمن يقول لغيره، و هما معا في بيت واحد: ليس في البيت غيرك، فيقول الآخر بلسان حاله: لا يصح هذا إلا لو عدمت أنت ! و قد قال بعض المحققين في قولهم: خلق الله الزمان، هذه ألفاظ تناقض أصولها لأن خلق الزمان متقدم على الزمان و هو فعل لابد من وقوعه في الزمان. و إنما حمل ذلك ضيق العبارة عن الحقائق و عجز اللغات عن تأدية الحق فيها و بها. فإذا تحقق أن الموحد هو الموحد، و عدم ما سواه جملة. صح التوحيد حقيقة. و هذا معنى قولهم لا يعرف الله إلا الله و لا حرج على من وحد الحق مع بقاء الرسوم و الآثار، و إنما هو من باب: حسنات الأبرار سيئات المقربين. لأن ذلك لازم التقييد و العبودية و الشفعية. و من ترقى إلى مقام الجمع كان في حقه نقصا، مع علمه بمرتبته، و أنه تلبيس تستلزمه العبودية و يرمعه الشهود و يطهر من دنس حدوثه عين الجمع. و أعرق الأصناف في هذا الزعم القائلون بالوحدة المطلقة. و مدار المعرفة بكل اعتبار على الانتهاء إلى الواحد، و إنما صدر هذا القول من الناظم على سبيل التحريض و التنبيه و التفطين لمقام أعلى ترتفع فيه الشفعية و يحصل التوحيد المطلق عينا لا خطابا. و عبارة: فمن سلم استراح و من نازعته حقيقة أنس بقوله: كنت سمعه و بصره. و إذا عرفت المعاني لا مشاحة في الألفاظ. و الذي يفيده هذا كله تحقق أمر فوق هذا الطور، لا نطق فيه و لا خبر عنه. و هذا المقدار من الإشارة كاف. و التعمق في مثل هذا حجاب. و هو الذي أوقع في المقالات المعروفة. انتهى كلام الشيخ أبي مهدي الزيات، و نقلته من كتاب الوزير أبي الخطيب الذي ألفه في المحبة. و سماه التعريف بالحب الشريف. و قد سمعته من شيخنا أبى مهدي مرارا. إلا أني رأيت رسوم الكتاب أوعى له. لطول عهدي به. و الله الموفق. ثم إن كثيرا من الفقهاء و أهل الفتيا انتدبوا للرد على هؤلاء المتأخرين في هذه المقالات و أمثالها و شملوا بالنكير سائر ما وقع لهم في الطريقة. و الحق أن كلامهم معهم فيه تفصيل فإن كلامهم في أربعة مواضع: أحدها الكلام على المجاهدات و ما يحصل من الأذواق و المواجد و محاسبة النفس على أعمالها لتحصل تلك الأذواق التي تصير مقاما و يترقى منة إلى غيره كما قلناه و ثانيها الكلام في الكشف والحقيقة المدركة من عالم الغيب مثل الصفات الربانية و العرش و الكرسي والملائكة و الوحي و النبؤة و الروح و حقائق كل موجود غائب أو شاهد و تركيب الألوان في صدورها عن موجودها و تكونها كما مر، و ثالثها التصرفات في العوالم والأكوان بأنواع الكرامات، و رابعها ألفاظ موهمة الظاهر صدرت من الكثير من أئمة القوم يعبرون عنها في اصطلاحهم بالشطحات تستشكل ظواهرها فمنكر و محسن و متأول. فأما الكلام في المجاهدات و المقامات و ما يحصل من الأذواق والمواجد في نتائجها و محاسبة النفس على التقصير في أسبابها فأمر لا مدفع فيه لأحد و أذواقهم فيه صحيحة و التحقق بها هو عين السعادة. و أما الكلام في كرامات القوم و أخبارهم بالمغيبات و تصرفهم في الكائنات. فأمر صحيح غير منكر. و إن مآل بعض العلماء إلى إنكارها فليس ذلك من الحق. و ما احتج به الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائني من أئمة الأشعرية على إنكارها لالتباسها بالمعجزة فقد فرق المحققون من أهل السنة بينهما بالتحدي و هو دعوى وقوع المعجزة على وفق ما جاء به. قالوا: ثم إن وقوعها على وفق دعوى الكاذب غير مقدور لأن دلالة المعجزة على الصدق عقلية فإن صفة نفسها التصديق. فلو وقعت مع الكاذب لتبدلت صفة نفسها و هو محال. هذا مع أن الوجود شاهد بوقوع الكثير من هذه الكرامات و إنكارها نوع مكابرة. و قد وقع للصحابة و أكابر السلف كثير من ذلك و هو معلوم مشهور. و أما الكلام في الكشف و إعطاء حقائق العلويات و ترتيب صدور الكائنات فأكثر كلامهم فيه نوع من المتشابه لما أنه وجداني عندهم و فاقد الوجدان عندهم بمعزل عن أذواقهم فيه. و اللغات لا تعطى له دلالة على مرادهم منه لأنها لم توضع إلا للتعارف و أكثره من المحسوسات. فينبغي أن لا نتعرض لكلامهم في ذلك و نتركه فيما تركناه من المتشابه و من رزقه الله فهم شيء من هذه الكلمات على الوجه الموافق لظاهر الشريعة فأكرم بها سعادة. و أما الألفاظ الموهمة التي يعبرون عنها بالشطحات و يوآخذهم بها أهل الشرع فاعلم أن الإنصاف في شأن القوم أنهم أهل غيبة عن الحس و الواردات تملكهم حتى ينطقوا عنها بما لا يقصدونه و صاحب الغيبة غير مخاطب و المجبور معذور. فمن علم منهم فضله و اقتداؤه حمل على القصد الجميل من هذا و أمثاله و أن العبارة عن المواجد صعبة لفقدان الوضع لها كما وقع لأبي يزيد البسطامي و أمثاله. و من لم يعلم فضله و لا اشتهر فموآخذ بما صدر عنه من ذلك إذا لم يتبين لنا ما يحملنا على تأويل كلامه. و أما من تكلم بمثلها و هو حاضر في حسه و لم يملكه الحال فموآخذ أيضا. و لهذا أفتى الفقهاء و أكابر المتصوفة بقتل الحلاج لأنه تكلم في حضور و هو مالك لحاله. و الله أعلم. و سلف المتصوفة من أهل الرسالة أعلام الملة الذين أشرنا إليهم من قبل لم يكن لهم حرص على كشف الحجاب و لا هذا النوع من الإدراك إنما همهم الاتباع و الاقتداء ما استطاعوا. و من عرض له شيء من ذلك أعرض عنه و لم يحفل به بل يفرون منه و يرون أنة من العوائق و المحن و أنه إدراك من إدراكات النفس مخلوق حادث و أن الموجودات لا تنحصر في مدارك الإنسان. و علم الله أوسع و خلقه أكبر و شريعته بالهداية أملك فلا ينطقون بشيء مما يدركون. بل حظروا الخوض في ذلك و منعوا من يكشف له الحجاب من أصحابهم من الخوض فيه و الوقوف عنده بل يلتزمون طريقتهم كما كانوا في عالم الحس قبل الكشف من الاتباع و الاقتداء و يأمرون أصحابهم بالتزامها. و هكذا ينبغي أن يكون حال المريد و الله الموفق للصواب.
الفصل الثامن عشر: في علم تعبير الرؤيا
هذا العلم من العلوم الشرعية و هو حادث في الملة عندما صارت العلوم صنائع و كتب الناس فيها. و أما الرؤيا و التعبير لها فقد كان موجودا في السلف كما هو في الخلف. و ربما كان في الملوك و الأمم من قبل إلا أنه لم يصل إلينا للاكتفاء فيه بكلام المعبرين من أهل الإسلام. و إلا فالرؤيا موجودة في صنف البشر على الإطلاق و لابد من تعبيرها. فلقد كان يوسف الصديق صلوات الله عليه يعبر الرؤيا كما وقع في القرآن. و كذلك ثبت عن الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم و عن أبي بكر رضي الله عنه و الرؤيا مدرك من مدارك الغيب. و قال صلى الله عليه و سلم: الرؤيا الصالحة جزء من ستة و أربعين جزءا من النبؤة. و قال: لم يبق من المبشرات إلا الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له و أول ما بدأ به النبي صلى الله عليه و سلم من الوحي الرؤيا فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. و كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا انفتل من صلاة الغداة يقول لأصحابه: هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا ؟ يسألهم عن ذلك ليستبشر بما وقع من ذلك مما فيه ظهور الدين و إعزازه. و أما السبب في كون الرؤيا مدركا للغيب فهو أن الروح القلبي و هو البخار اللطيف المنبعث من تجويف القلب اللحمي ينتشر في الشريانات و مع الدم في سائر البدن و به تكمل أفعال القوى الحيوانية و إحساسها. فإذا أدركه الملال بكثرة التصرف في الإحساس بالحواس الخمس و تصريف القوى الظاهرة و غشي سطح البدن ما يغشاه من برد الليل انحبس الروح من سائر أقطار البدن إلى مركزه القلبي فيستجم بذلك لمعاودة فعله فتعطلت الحواس الظاهرة كلها و ذلك هو معنى النوم كما تقدم في أول الكتاب. ثم إن هذا الروح القلبي هو مطية للروح العاقل من الإنسان و الروح العاقل مدرك لجميع ما في عالم الأمر بذاته إذ حقيقته و ذاته عين الإدراك. و إنما يمنع من تعلقه للمدارك الغيبية ما هو فيه من حجاب الاشتغال بالبدن و قواه و حواشه. فلو قد خلا من هذا الحجاب و تجرد عنه لرجع إلى حقيقته و هو عين الإدراك فيعقل كل مدرك. فإذا تجرد عن بعضها خفت شواغله فلابد له من إدراك لمحة من عالمه بقدر ما تجرد له و هو في هذه الحالة قد خفت شواغل الحس الظاهر كلها و هي الشاغل الأعظم فاستعد لقبول ما هنالك من المدارك اللائقة من عالمه. و إذا أدرك ما يدرك من عوالمه رجع به إلى بدنه. إذ هو ما دام في بدنه جسماني لا يمكنه التصرف إلا بالمدارك الجسمانية. و المدارك الجسمانية للعلم إنما هي الدماغية و المتصرف منها هو الخيال. فإنه ينتزع من الصور المحسوسة صورا خيالية ثم يدفعها إلى الحافظة تحفظها له إلى وقت الحاجة إليها عند النظر و الاستدلال. و كذلك تجرد النفس منها صورا أخرى نفسانية عقلية فيترقى التجريد من المحسوس إلى المعقول و الخيال واسطة بينهما. و لذلك إذا أدركت النفس من عالمها ما تدركه ألقته إلى الخيال فيصوره بالصورة المناسبة و يدفعه إلى الحس المشترك فيراه النائم كأنة محسوس فيتنزل المدرك من الروح العقلي إلى الحسي. و الخيال أيضا واسطة. هذه حقيقة الرؤيا. و من هذا التقرير يظهر لك الفرق بين الرؤيا الصالحة وأضغاث الأحلام الكاذبة فإنها كلها صور في الخيال حالة النوم. و لكن إن كانت تلك الصور متتزلة من الروح العقلي المدرك فهو رؤيا. و إن كانت مأخوذة من الصور التي في الحافظة التي كان الخيال أودعها إياها منذ اليقظة فهي أضغاث أحلام. و اعلم أن للرؤيا الصادقة علامات تؤذن بصدقها و تشهد بصحتها فيستشعر الرائي البشارة من الله مما ألقى إليه في نومه: فمنها سرعة انتباه الرائي عندما يدرك الرؤيا، كأنة يعاجل الرجوع إلى الحس باليقظة و لو كان مستغرقا في نومه، لتقل ما ألقي عليه من ذلك الإدراك فيفر من تلك الحالة إلى حالة الحس التي تبقى النفس فيها منغمسة بالبدن و عوارضه، و منها ثبوت ذلك الإدراك و دوامه بانطباع تلك الرؤيا بتفاصيلها في حفظه فلا يتخيلها سهو و لا نسيان. و لا يحتاج إلى إحضارها بالفكر و التذكير، بل تبقى متصورة في ذهنه إذا انتبه. و لا يغرب عنه شيء منها، لأن الإدراك النفساني ليس بزماني و لا يلحقه ترتبت، بل يدركه دفعة في زمن فرد. و أضغاث الأحلام زمانية. لأنها في القوى الدماغية يستخرجها الخيال من الحافظة إلى الحس المشترك كما قلناه. و أفعال البدن كلها زمانية فيلحقها الترتيب في الإدراك و المتقدم و المتأخر. و يعرض النسيان العارض للقوى الدماغية. و ليس كذلك مدارك النفس الناطقة إذ ليست بزمانية، و لا ترتيب فيها. و ما ينطبع فيها من الإدراكات فينطبع دفعة واحدة في أقرب من لمح البصر. و قد تبقى الرؤيا بعد الانتباه. حاضرة في الحفظ أياما من العمر. لا تشذ بالغفلة عن الفكر بوجه إذا كان الإدراك الأول قويا، و إذا كان إنما يتذكر الرؤيا بعد الانتباه من النوم بإعمال الفكر و الوجهة إليها، و ينسى الكثير من تفاصيلها حتى يتذكرها فليست الرؤيا بصادقة، و إنما هي من أضغاث الأحلام. و هذه العلامات من خواص الوحي. قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم: لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه و الرؤيا لها نسبة من النبوة و الوحي كما في الصحيح. قال صلى الله عليه و سلم: الرؤيا جزء من ستة و أربعين جزءا من النبوة فلخواصها أيضا نسبة إلى خواص النبوة. بذلك القدر، فلا تستبعد ذلك، فهذا وجه الحق. و الله الخالق لما يشاء. و أما معنى التعبير فاعلم أن الروح العقلي إذا أدرك مدركة و ألقاه إلى الخيال فصوره فإنما يصوره في الصور المناسبة لذلك المعنى بعض الشيء كما يدرك معنى السلطان الأعظم فيصوره الخيال بصورة البحر أو يدرك العداوة فيصورها الخيال في صورة الحية. فإذا استيقظ و هو لم يعلم من أمره إلا أنه رأى البحر أو الحية فينظر المعبر بقوة التشبيه بعد أن يتيقن أن البحر صورة محسوسة و أن المدرك وراءها و هو يهتدي بقرائن أخرى تعين له المدرك فيقول مثلا: هو السلطان لأن البحر خلق عظيم يناسب أن يشبه بها السلطان و كذلك الحية يناسب أن تشبه بالعدو لعظم ضررها و كذا الأواني تشبه بالنساء لأنهن أوعية وأمثال ذلك. و من المرئي ما يكون صريحا لا يفتقر إلى تعبير لجلائها و وضوحها أو لقرب الشبه فيها بين المدرك و شبهه. و لهذا وقع في الصحيح الرؤيا ثلاث: رؤيا من الله و رؤيا من الملك و رؤيا من الشيطان. فالرؤيا التي من الله هي الصريحة التي لا تفتقر إلى تأويل و التي من الملك هي الرؤيا الصادقة تفتقر إلى التعبير و الرؤيا التي من الشيطان هي الأضغاث. و اعلم أن الخيال إذا ألقى إليه الروح مدركه. فإنما يصوره في القوالب المعتادة للحس و ما لم يكن الحس أدركه قط من القوالب فلا يصور فيه شيئا فلا يمكن من ولد أعمى أن يصور له السلطان بالبحر و لا العدو بالحية و لا النساء بالأواني لأنه لم يدرك شيئا من هذه و إنما يصور له الخيال أمثال هذه في شبهها و مناسبها من جنس مداركه التي هي المسموعات و المشمومات. و ليتحفظ المعبر من مثل هذا فربما اختلط به التعبير و فسد قانونه. ثم إن علم التعبير علم بقوانين كلية يبني عليها المعبر عبارة ما يقص عليه. و تأويله كما يقولون: البحر يدل على السلطان، و في موضع آخر يقولون: البحر يدل على الغيظ، و في موضع آخر يقولون: البحر يدل على الهم والأمر الفادح. و مثل ما يقولون: الحية تدل على العدو، و في موضع آخر يقولون: هي كاتم سر، و في موضع آخر يقولون: تدل على الحياة و أمثال ذلك. فيحفظ المعبر هذه القوانين الكلية، و يعبر في كل موضع بما تقتضيه القرائن التي تعين من هذه القوانين ما هو أليق بالرؤيا. و تلك القرائن منها في اليقظة و منها في النوم و منها ما ينقدح في نفس المعبر بالخاصية التي خلقت فيه و كل ميسر لما خلق له. و لم يزل هذا العلم فتناقلا بين السلف. و كان محمد بن سيرين فيه من أشهر العلماء و كتب عنه في ذلك القوانين و تناقلها الناس لهذا العهد. و ألف الكرماني فيه من بعده. ثم ألف المتكلمون المتأخرون و أكثروا. و المتداول بين أهل المغرب لهذا العهد كتب ابن أبي طالب القيرواني من علماء القيروان مثل الممتع و غيره و كتاب الإشارة للسالمي من أنفع الكتب فيه و أحضرها. و كذلك كتاب المرقبة العليا لابن راشد من مشيختنا بتونس. و هو علم مضيء ينور النبؤة للمناسبة التي بينهما و لكونها كانت من مدارك الوحي كما وقع في الصحيح و الله علام الغيوب.
الفصل التاسع عشر: في العلوم العقلية و أصنافها
و أما العلوم العقلية التي هي طبيعية للإنسان من حيث إنه ذو فكر فهي غير مختصة بملة بل بوجه النظر فيها إلى أهل الملل كلهم و يستوون في مداركها و مباحثها. و هي موجودة في النوع الإنساني منذ كان عمران الخليقة. و تسمى هذه العلوم علوم الفلسفة و الحكمة و هي مشتملة على أربعة علوم: الأول علم المنطق و هو علم يعصم الذهن عن الخطأ في اقتناص المطالب المجهولة من الأمور الحاصلة المعلومة و فائدته تمييز الخطأ من الصواب. فيما يلتمسه الناظر في الموجودات و عوارضها ليقف على تحقيق الحق في الكائنات نفيا و ثبوتا بمنتهى فكره. ثم النظر بعد ذلك عندهم إما في المحسوسات من الأجسام العنصرية و المكونة عنها من المعدن و النبات و الحيوان و الأجسام الفلكية والحركات الطبيعية. و النفس التي تنبعث عنها الحركات و غير ذلك. و يسمى هذا الفن بالعلم الطبيعي و هو العلم الثاني منها. و إما أن يكون النظر في الأمور التي وراء الطبيعة من الروحانيات و يسمونه العلم الإلهي و هو الثالث منها. و العلم الرابع و هو الناظر في المقادير و يشتمل على أربعة علوم و تسمى التعاليم. أولها: علم الهندسة و هو النظر في المقادير على الإطلاق. إما المنفصلة من حيث كونها معدودة أو المتصلة و هي إما ذو بعد واحد و هو الخط أو ذو بعدين و في السطح، أو ذو أبعاد ثلاثة و هو الجسم التعليمي. ينظر في هذه المقادير و ما يعرض لها إما من حيث ذاتها أو من حيث نسبة بعضها إلى بعض. و ثانيها علم الأرتماطيقي و هو معرفة ما يعرض للكم المنفصل الذي هو العدد و يؤخذ له من الخواص و العوارض اللاحقة. و ثالثها علم الموسيقى و هو معرفة نسب الأصوات و النغم بعضها من بعض و تقديرها بالعدد و ثمرته معرفة تلاحين الغناء. و رابعها علم الهيئة و هو تعيين الأشكال للأفلاك و حصر أوضاعها و تعددها لكل كوكب من السيارة و الثابتة والقيام على معرفة ذلك من قبل الحركات السماوية المشاهدة الموجودة لكل واحد منها و من رجوعها و استقامتها و إقبالها و إدبارها. فهذه أصول العلوم الفلسفية و هي سبعة: المنطق و هو المقدم منها و بعده التعاليم فالأرتماطيقي أولا ثم الهندسة ثم الهيئة ثم الموسيقى ثم الطبيعيات ثم الإلهيات و لكل واحد منها فروع تتفرع عنه. فمن فروع الطبيعيات الطب و من فروع علم العدد علم الحساب والفرائض و المعاملات و من فروع الهيئة الأزياج و هي قوانين لحساب حركات الكواكب و تعديلها للوقوف على مواضعها متى قصد ذلك و من فروعها النظر في النجوم على الأحكام النجومية و نحن نتكلم عليها واحدا بعد واحد إلى آخرها. و اعلم أن أكثر من عني بها في الأجيال الذين عرفنا أخبارهم الأمتان العظيمتان في الدولة قبل الإسلام و هما فارس و الروم فكانت أسواق العلوم نافقة لديهم على ما بلغنا لما كان العمران موفورا فيهم والدولة و السلطان قبل الإسلام و عصره لهم فكان لهذه العلوم بحور زاخرة في آفاقهم و أمصارهم. و كان للكلدانيين و من قبلهم من السريانيين و من عاصرهم من القبط عناية بالسحر و النجامة و ما يتبعها من الطلاسم و أخذ ذلك عنهم الأمم من فارس و يونان فاختص بها القبط و طمى بحرها فيهم كما وقع في المتلو من خبر هاروت و ماروت و شأن السحرة و ما نقله أهل العلم من شأن البراري بصعيد مصر. ثم تتابعت الملل بحظر ذلك و تحريمه فدرست علومه و بطلت كأن لم تكن إلا بقايا يتناقلها منتحلو هذه الصنائع. و الله أعلم بصحتها. مع أن سيوف الشرع قائمة على ظهورها مانعة من اختبارها. و أما الفرس فكان شأن هذه العلوم العقلية عندهم عظيما و نطاقها متسعا لما كانت عليه دولتهم من الضخامة و اتصال الملك. و لقد يقال إن هذه العلوم إنما وصلت إلى يونان منهم حين قتل الإسكندر دارا و غلب على مملكة الكينية فاستولى على كتبهم و علومهم. إلا أن المسلمين لما افتتحوا بلاد فارس، و أصابوا من كتبهم وصحائف علومهم مما لا يأخذه الحصر و لما فتحت أرض فارس و وجدوا فيها كتبا كثيرة كتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب ليستأذنه في شأنها و تنقيلها للمسلمين. فكتب إليه عمر أن اطرحوها في الماء. فإن يكن ما فيها هدى فقد هدانا الله بأهدى منه و إن يكن ضلالا فقد كفانا الله. فطرحوها في الماء أو في النار و ذهبت علوم الفرس فيها عن أن تصل إلينا. و أما الروم فكانت الدولة منهم ليونان أولا و كان لهذه العلوم بينهم مجال رحب و حملها مشاهير من رجالهم مثل أساطين الحكمة و غيرهم. و اختص فيها المشاءون منهم أصحاب الرواق بطريقة حسنة في التعليم كانوا يقرؤون في رواق يظلم من الشمس و البرد على ما زعموا. و اتصل فيها سند تعليمهم على ما يزعمون من لدن لقمان الحكيم في تلميذه بقراط الدن، ثم إلى تلميذه أفلاطون ثم إلى تلميذه أرسطو ثم إلى تلميذه الإسكندر الأفرودسي، و تامسطيون و غيرهم. و كان أرسطو معلما للأسكندر ملكهم الذي غلب الفرس على ملكهم و انتزع الملك من أيديهم. و كان أرسخهم في هذه العلوم قدما و أبعدهم فيه صيتا و شهرة. و كان يسمى المعلم الأول فطار له في العالم ذكر. ولما انقرض أمر اليونان و صار الأمر للقياصرة و أخذوا بدين النصرانية هجروا تلك العلوم كما تقتضيه الملل و الشرائع فيها. و بقيت في صحفها و دواوينها مخلدة باقية في خزائنهم ثم ملكوا الشام و كتب هذه العلوم باقية فيهم. ثم جاء الله بالإسلام و كان لأهله الظهور الذي لا كفاء له و ابتزوا الروم ملكهم فيما ابتزوه للأمم. و ابتدأ أمرهم بالسذاجة و الغفلة عن الصنائع حتى إذا تبحبح من السلطان و الدولة و أخذ الحضارة بالحظ الذي لم يكن لغيرهم من الأمم و تفننوا في الصنائع و العلوم. تشوقوا إلى الاطلاع على هذه العلوم الحكمية بما سمعوا من الأساقفة و الأقسة المعاهدين بعض ذكر منها و بما تسمو إليه أفكار الإنسان فيها. فبغث أبو جعفر المنصور إلى ملك الروم أن يبعث إليه بكتب التعاليم مترجمة فبعث إليه بكتاب أوقليدس و بعض كتب الطبيعيات. فقرأها المسلمون و اطلعوا على ما فيها و ازدادوا حرصا على الظفر بما بقي منها. و جاء المأمون بعد ذلك و كانت له في العلم رغبة بما كان ينتحله فانبعث لهذه العلوم حرصا و أوفد الرسل على ملوك الروم في استخراج علوم اليونانيين و انتساخها بالخط العربي و بعث المترجمين لذلك فأوعى منه و استوعب. و عكف عليها النظار من أهل الإسلام و حذقوا في فنونها و انتهت إلى الغاية أنظارهم فيها. و خالفوا كثيرا من آراء المعلم الأول و اختصوه بالرد و القبول لوقوف الشهرة عنده. و دونوا في ذلك الدواوين وأربوا على من تقدمهم في هذه العلوم و كان من أكابرهم في الملة أبو نصر الفارابي و أبو علي بن سينا بالمشرق و القاضي أبو الوليد بن رشد و الوزير أبو بكر بن الصائغ بالأندلس إلى آخرين بلغوا الغاية في هذه العلوم. و اختص هؤلاء بالشهرة والذكر و اقتصر كثيرون على انتحال التعاليم و ما ينضاف إليها من علوم النجامة والسحر و الطلسمات. و وقفت الشهرة في هذا المنتحل على جابر بن حيان من أهل المشرق و مسلمة بن أحمد المجريطي من أهل الأندلس و تلميذه. و دخل على الملة من هذه العلوم و أهلها داخلة و استهوت الكثير من الناس بما جنحوا إليها وقلدوا آراءها و الذنب في ذلك لمن ارتكبه. و لو شاء الله ما فعلوه. ثم إن المغرب والأندلس لما ركدت ريح العمران بهما و تناقصت العلوم بتناقصه اضمحل ذلك منهما إلا قليلا من رسومه تجدها في تفاريق من الناس و تحت رقبة من علماء السنة. و يبلغنا عن أهل المشرق أن بضائع هذه العلوم لم تزل عندهم موفورة و خصوصا في عراق العجم و ما بعده فيما وراء النهر و أنهم على بح من العلوم العقلية لتوفر عمرانهم و استحكام الحضارة فيهم. و لقد وقفت بمصر على تآليف في المعقول متعددة لرجل من عظماء هراة من بلاد خراسان يشتهر بسعد الدين التفتازاني منها في علم الكلام و أصول الفقه و البيان تشهد بأن له ملكة راسخة في هذه العلوم. و في أثنائها ما يدل على أن له اطلاعا على العلوم الحكمية و قدما عالية في سائر الفنون العقلية و الله يؤيد بنصره من يشاء. كذلك بلغنا لهذا العهد أن هذه العلوم الفلسفية ببلاد الإفرنجة من أرض رومة و ما إليها من العدوة الشمالية نافقة الأسواق و أن رسومها هناك. متجددة و مجالس تعليمها متعددة و دواوينها جامعة متوفرة و طلبتها متكثرة و الله أعلم بما هنالك و هو يخلق ما يشاء و يختار.
الفصل العشرون: في العلوم العددية
و أولها الأرتماطيقي و هو معرفة خواص الأعداد من حيث التأليف إما على التوالي أو بالتضعيف مثل أن الأعداد إذا توالت متفاضلة بعدد واحد فإن جمع الطرفين منها مساو لجمع كل عددين بعدهما من الطرفين بعدد واحد و مثل ضعف الواسطة إن كانت عدة تلك الأعداد فردا مثل الأفراد على تواليها و الأزواج على تواليها و مثل أن الأعداد إذا توالت على نسبة واحدة يكون أولها نصف ثانيها وثانيها نصف ثالثها الخ، أو يكون أولها ثلث ثانيها و ثانيها ثلث ثالثها الخ فإن ضرب الطرفين أحدهما في الآخر كضرب كل عددين بعدهما من الطرفين بعدد واحد أحدهما في الآخر. و مثل مربع الواسطة إن كانت العدة فردا و ذلك مثل أعداد زوج الزوج المتوالية من اثنين فأربعة فثمانية فستة عشر و مثل ما يحدث من الخواص العددية في وضع المثلثات العددية و المربعات و المخمسات والمسدسات إذا وضعت متتالية في سطورها بأن تجمع من الواحد إلى العدد الأخير فتكون مثلثة. و تتوالى المثلثات هكذا في سطر تحت الأضلاع ثم تزيد على كل مثلث ثلث الضلع الذي قبله فتكون مربعة. و تزيد على كل مربع مثلث الضلع الذي قبلة فتكون مخمسة و هلم جرا. و تتوالى الأشكال على توالى الأضلاع و يحدث جدول ذو طول و عرض. ففي عرضه الأعداد على تواليها ثم المثلثات على تواليها ثم المربعات ثم المخمسات الخ و في طوله كل عدد و أشكاله بالغا ما بلغ و تحدث في جمعها و قسمة بعضها على بعض طولا و عرضا خواص غريبة استقرت منها و تقررت في دواوينهم مسائلها كذلك ما يحدث للزوج و الفرد و زوج الزوج و زوج الفرد و زوج الزوج و الفرد فإن لكل منها خواص مختصة به تضمنها هذا الفن و ليست في غيره. و هذا الفن أول أجزاء التعاليم و أثبتها و يدخل في براهين الحساب. و للحكماء المتقدمين و المتأخرين فيه تآليف، و أكثرهم يدرجونه في التعاليم و لا يفردونه بالتآليف. فعل ذلك ابن سينا في كتاب الشفاء و النجاة و غيره من المتقدمين. و أما المتأخرون فهو عندهم مهجور إذ هو غير متداول و منفعته في البراهين لا في الحساب فهجروه لذلك بعد أن استخلصوا زبدته في البراهين الحسابية كما فعله ابن البناء في كتاب رفع الحجاب و غيره و الله سبحانه و تعالى أعلم. و من فروع علم العدد صناعة الحساب. و هي صناعة علمية في حساب الأعداد بالضم و التفريق. فالضم يكون في الأعداد بالأفراد و هو الجمع. و بالتضعيف تضاعف عددا بآحاد عدد آخر و هذا هو الضرب و التفريق أيضا يكون في الأعداد إما بالإفراد مثل إزالة عدد من عدد و صرفه الباقي و هو الطرح أو تفصيل عدد بأجزاء متساوية تكون عدتها محصلة و هو القسمة. و سواء كان هذا الضم و التفريق في الصحيح من العب أو الكسر. و معنى الكسر نسبة عدد إلى عدد و تلك النسبة تسمى كسرا. و كذلك يكون بالضم و التفريق في الجذور و معناها العد الذي يضرب في مثله فيكون منه العدد المربع. فإن تلك الجذور أيضا يدخلها الضم و التفريق و هذه الصناعة حادثة احتيج إليها للحساب في المعاملات ألف الناس فيها كثيرا و تداولوها في الأمصار بالتعليم للولدان. و من أحسن التعليم عندهم الابتداء بها لأنها معارف متضحة و براهين منتظمة فينشأ عنها في الغالب عقل مضيء درب على الصواب. و قد قال من أخذ نفسه بتعليم الحساب أول أمره إنه يغلب عليه الصدق لما في الحساب من صحة المباني و مناقشة النفس فيصير ذلك خلقا و يتعود الصدق و يلازمه مذهبا. و من أحسن التآليف المبسوطة فيها لهذا العهد بالمغرب كتاب الحصار الصغير. و لابن البناء المراكشي فيه تلخيص ضابط لقوانين أعماله مفيد ثم شرحه بكتاب سماه رفع الحجاب و هو مستغلق على المبتدئ بما فيه من البراهين الوثيقة المباني. و هو كتاب جليل القدر أدركنا المشيخة تعظمه و هو كتاب جدير بذلك. و ساوق فيه المؤلف رحمه الله كتاب فقه الحساب، لابن منعم و الكامل للأحدب، و لخص براهينها و غيرها عن اصطلاح الحروف فيها إلى علل معنوية ظاهرة، هي سر الإشارة بالحروف و زبدتها. و هي كلها مستغلقة و إنما جاءه الاستغلاق من طريق البرهان ببيان علوم التعاليم لأن مسائلها و أعمالها واضحة كلها. و إذا قصد شرحها فإنما هو إعطاء العلل في تلك الأعمال. و في ذلك من العسر على الفهم ما لا يوجد في أعمال المسائل فتأمله. و الله يهدي بنوره من يشاء و هو القوي المتين. و من فروعه الجبر و المقابلة. و هي صناعة تستخرج بها العدد المجهول من قبل المعلوم المفروض إذا كان بينهما نسبة تقتضي ذلك. فاصطلحوا فيها على أن جعلوا للمجهولات مراتب من طريق التضعيف بالضرب. أولها العدد لأنه به يتعين المطلوب المجهول باستخراجه من نسبة المجهول إليه و ثانيها الشيء لأن كل مجهول فهو من جهة إبهامه شيء و هو أيضا جذر لما يلزم من تضعيفه في المرتبة الثانية و ثالثها المال و هو أمر مبهم و ما بعد ذلك فعلى نسبة الأس في المضروبين. ثم يقع العمل المفروض في المسألة فتخرج إلى معادلة بين مختلفين أو أكثر من هذه الأجناس فيقابلون بعضها ببعض و يجبرون ما فيها من الكسر حتى يصير صحيحا. و يحطون المراتب إلى أقل الأسوس إن أمكن حتى يصير إلى الثلاثة التي عليها مدار الجبر عندهم و هي العدد و الشيء و المال. فإن كانت المعادلة بين، واحد و واحد تعين فالمال و الجذر يزول إبهامه بمعادلة العدد و يتعين. و المال و إن عادل الجذور فيتعين بعدتها. و إن كانت المعادلة بين واحد و اثنين أخرجه العمل الهندسي من طريق تفصيل الضرب في الاثنين و هي مبهمة فيعنيها ذلك الضرب المفصل. و لا يمكن المعادلة بين اثنين و اثنين. و أكثر ما انتهت المعادلة بينهم إلى ست مسائل لأن المعادلة بين عدد و جذر و مال مفردة أو مركبة تجيء ستة. و أول من كتب في هذا الفن أبو عبد الله الخوارزمي و بعده أبو كامل شجاع بن أسلم، و جاء الناس على أثره فيه. و كتابه في مسائله الست من أحسن الكتب الموضوعة فيه. و شرحه كثير من أهل الأندلس فأجادوا و من أحسن شروحاته كتاب القرشي. و قد بلغنا أن بعض أئمة التعاليم من أهل المشرق أنهى المعاملات إلى أكثر من هذه الستة الأجناس، و بلغها إلى فوق العشرين و استخرج لها كلها أعمالا و أتبعه ببراهين هندسية. و الله يزيد في الخلق ما يشاء سبحانه و تعالى. و من فروعه أيضا العاملات. و هو تصريف الحساب في معاملات المدن في البياعات و المساحات و الزكوات و سائر ما يغرض فيه العدد من المعاملات يصرف في صناعتنا ذلك الحساب في المجهول و المعلوم و الكسر والصحيح و الجذور و غيرها. و الغرض من تكثير المسائل المفروضة فيها حصول المران و الدربة بتكرار العمل حتى ترسخ الملكة في صناعة الحساب. و لأهل الصناعة الحسابية من أهل الأندلس تآليف فيها متعددة من أشهرها معاملات الزهراوي و ابن السمح و أبي مسلم بن خلدون من تلميذ مسلمة المجريطي وأمثالهم. و من فروعه أيضا الفرائض. و هي صناعة حسابية في تصحيح السهام لذوي الفروض في الوراثات إذا تعددت و هلك بعض الوارثين و انكسرت سهامه على ورثته أو زادت الفروض عند اجتماعها و تزاحمها على المال كله أو كان في الفريضة إقرار و إنكار من بعض الورثة فتحتاج في ذلك كله إلى عمل يعين به سهام الفريضة من كم تصح و سهام الورثة من كل بطن مصححا حتى تكون حظوظ الوارثين من المال على نسبة سهامهم من جملة سهام الفريضة. فيدخلها من صناعة الحساب جزء كبير من صحيحه و كسرة و جذره و معلومه و مجهوله و ترتب على ترتيب أبواب الفرائض الفقهية و مسائلها. فتشتمل حينئذ هذه الصناعة على جزء من الفقه و هو أحكام الوراثة من الفروض و العول و الإقرار و الإنكار و الوصايا و التدبير و غير ذلك من مسائلها و على جزء من الحساب و هو تصحيح السهمان باعتبار الحكم الفقهي و هي من أجل العلوم. و قد يورد أهلها أحاديث نبوية تشهد بفضلها مثل الفرائض ثلث العلم و أنها أول ما يرفع من العلوم و غير ذلك. و عندي أن ظواهر تلك الأحاديث كلها إنما هي في الفرائض العينية كما تقدم لا فرائض الوراثات فإنها أقل من أن تكون في كميتها ثلث العلم. و أما الفرائض العينية فكثيرة و قد ألف الناس في هذا الفن قديما و حديثا و أوعبوا و من أحسن التآليف فيه على مذهب مالك رحمه الله كتاب ابن ثابت و مختصر القاضي أبي القاسم الحوفي و كتاب ابن المنمر و الجعدي و الصردي و غيرهم. لكن الفضل للحوفي فكتابه مقدم على جميعها. و قد شرحه من شيوخنا أبو عبد الله محمد بن سليمان الشطي كبير مشيخة فاس فأوضح و أوعب. و لإمام الحرمين فيها تآليف على مذهب الشافعي تشهد باتساع باعه في العلوم، و رسوخ قدمه، و كذا للحنفية والحنابلة. و مقامات الناس في العلوم مختلفة. و الله يهدي من يشاء بمنه و كرمه لا رب سواه.
الفصل الحادي و العشرون: في العلوم الهندسية
هذا العلم هو النظر في المقادير إما المتصلة كالخط و السطح و الجسم و إما المنفصلة كالأعداد و فيما يعرض لها من العوارض الذاتية. مثل أن كل مثلث فزواياه مثل قائمتين. و مثل أن كل خطين متوازيين لا يلتقيان في وجه و لو خرجا إذ غير نهاية. و مثل أن كل خطين متقاطعين فالزاويتان المتقابلتان منهما متساويتان. و مثل أن الأربعة مقادير المتناسبة ضرب الأول منها في الثالث كضرب الثاني في الرابع و أمثال ذلك. و الكتاب المترجم لليونانيين في هذه الصناعة كتاب أوقليدس و يسمى كتاب الأصول و كتاب الأركان و هو أبسط ما وضع فيها للمتعلمين و أول ما ترجم من كتاب اليونانيين في الملة أيام أبي جعفر المنصور و نسخه مختلفة باختلاف المترجمين. فمنها لحنين بن إسحاق ولثابت بن قرة و ليوسف بن الحجاج و يشتمل على خمس عشرة مقالة. أربع في السطوح و واحدة في الأقدار المتناسبة و أخرى في نسب السطوح بعضها إلى بعض و ثلاث في العدد و العاشرة في المنطقات و القوى على المنطقات و معناه الجذور و خمس في المجسمات. و قد اختصره الناس اختصارات كثيرة كما فعله ابن سينا في تعاليم الشفاء. أفرد له جزءا منها اختصه به. و كذلك ابن الصلت في كتاب الاقتصار و غيرهم. و شرحه آخرون شروحا كثيرة و هو مبدأ العلوم الهندسية بإطلاق. و اعلم أن الهندسة تفيد صاحبها إضاءة في عقله، استقامة في فكره لأن براهينها كلها بينة الانتظام جلية الترتيب لا يكاد الغلط يدخل أقيستها لترتيبها و انتظامها فيبعد الفكر بممارستها عن الخطأ و ينشأ لصاحبها عقل على ذلك المهيع و قد زعموا أنة كان مكتوبا على باب أفلاطون: من لم يكن مهندسا فلا يدخلن منزلنا و كان شيوخنا رحمهم الله يقولون ممارسة الهندسة للفكر بمثابة الصابون للثوب الذي يغسل منه الأقذار و ينقيه من الأوضار والأدران، و إنما ذلك لما أشرنا إليه من ترتيبه و انتظامه. و من فروع هذا الفن الهندسة المخصوصة بالأشكال الكروية و المخروطات أما الأشكال الكروية ففيها كتابان من كتب اليونانيين لثاوذوسيوس و ميلاوش في سطوحها و قطوعها وكتاب ثاوذوسيوس مقدم في التعليم على كتاب ميلاوش لتوقف كثير من براهينه عليه. و لابد منهما لمن يريد الخوض في علم الهيئة لأن براهينها متوقفة عليه. فالكلام في الهيئة كله كلام في الكرات السماوية و ما يعرض فيها من القطوع والدوائر بأسباب الحركات كما نذكره فقد يتوقف على معرفة أحكام الأشكال الكروية سطوحها و قطوعها. و أما المخروطات فهو من فروع الهندسة أيضا. و هو علم ينظر فيما يقع في الأجسام المخروطة من الأشكال و القطوع و يبرهن على ما يعرض لذلك من العوارض ببراهين هندسية متوقفة على التعليم الأول. و فائدتها تظهر في الصنائع العملية التي موادها الأجسام مثل التجارة و البناء و كيف تصنع التماثيل الغريبة و الهياكل النادرة و كيف يتخيل على جر الأثقال و نقل الهياكل بالهندام و الميخال و أمثال ذلك. و قد أفرد بعض المؤلفين في هذا الفن كتابا في الحيل العلمية يتضمن من الصناعات الغريبة و الحيل المستظرفة كل عجيبة. و ربما استغلق على الفهوم لصعوبة براهينه الهندسية و هو موجود بأيدي الناس ينسبونه إلى بني شاكر. و الله تعالى أعلم. و من فروع الهندسة المساحة و هو فن يحتاج إليه في مسح الأرض و معناه استخراج مقدار الأرض المعلومة بنسبة شبر أو ذراع أو غيرهما و نسبة أرض من أرض إذ قويست بمثل ذلك. و يحتاج إلى ذلك في توظيف الخراج على المزارع و الفدن و بساتين الغراسة و في قسمة الحوائط والأراضي بين الشركاء و الورثة و أمثال ذلك. و للناس فيها موضوعات حسنة و كثيرة و الله الموفق للصواب بمنه و كرمه. المناظرة من فروع الهندسة و هو علم يتبين به أسباب الغلط في الإدراك البصري بمعرفة كيفية وقوعها بناء على أن إدراك البصر يكون بمخروط شعاعي رأسه نقطة الباصر و قاعدته المرئي. ثم يقع الغلط كثيرا في رؤية القريب كبيرا و البعيد صغيرا. و كذا رؤية الأشباح الصغيرة تحت الماء و وراء الأجسام الشفافة كبيرة و رؤية النقطة النازلة من المطر خطا مستقيما و السلقة دائرة و أمثال ذلك. فيتبين في هذا العلم أسباب ذلك و كيفياته بالبراهين الهندسية و يتبين به أيضا اختلاف المنظر في القمر باختلاف العروض الذي ينبني عليه معرفة رؤية الأهلة و حصول الكسوفات و كثير من أمثال هذا. و قد ألف في هذا الفن كثير من اليونانيين. و أشهر من ألف فيه من الإسلاميين ابن الهيثم. و لغيره أيضا تآليف و هو من هذه الرياضة و تفاريعها.
الفصل الثاني و العشرون: في علم الهيئة
و هو علم ينظر في حركات الكواكب الثابتة و المحركة و المتحيرة. و يستدل بكيفيات تلك الحركات على أشكال و أوضاع للأفلاك لزمت عنها لهذه الحركات المحسوسة بطرق هندسية. كما يبرهن على أن مركز الأرض مباين لمركز فلك الشمس بوجود حركة الإقبال و الإدبار و كما يستدل بالرجوع و الاستقامة للكواكب على وجود أفلاك صغيرة حاملة لها متحركة داخل فلكها الأعظم و كما يبرهن على وجود الفلك الثامن بحركة الكواكب الثابتة و كما يبرهن على تعدد الأفلاك للكوكب الواحد بتعداد الميول له و أمثال ذلك. و إدراك الموجود من الحركات و كيفياتها و أجناسها إنما هو بالرصد فإنا إنما علمنا حركة الإقبال و الإدبار به. و كذا تركيب الأفلاك في طبقاتها و كذا الرجوع و الاستقامة و أمثال ذلك. و كان اليونانيون يعتنون بالرصد كثيرا و يتخذون له الآلات التي توضع ليرصد بها حركة الكوكب المعين. و كانت تسمى عندهم ذات الحلق و صناعة عملها و البراهين عليه في مطابقة حركتها بحركة الفلك منقول بأيدي الناس. و أما في الإسلام فلم تقع به عناية إلا في القليل. و كان في أيام المأمون شيء منه و صنع هذه الآلة المعروفة للرصد المسماة ذات الحلق. و شرع في ذلك فلم يتم. و لما مات ذهب رسمه و أغفل و اعتمد من بعده على الأرصاد القديمة و ليست بمغنية لاختلاف الحركات باتصال الأحقاب. و أن مطابقة حركة الآلة للرصد بحركة الأفلاك و الكواكب إنما هو بالتقريب. و هذه الهيئة صناعة شريفة و ليست على ما يفهم في المشهور أنها تعطى صورة السماوات و ترتيب الأفلاك والكواكب بالحقيقة بل إنما تعطي أن هذه الصور و الهيئات للأفلاك لزمت عن هذه الحركات. و أنت تعلم أنه لا يبعد أن يكون الشيء الواحد لازما لمختلفين و إن قلنا إن الحركات لازمة فهو استدلال باللازم على وجود الملزوم و لا يعطي الحقيقة بوجه على أنه علم جليل و هو أحد أركان التعاليم. و من أحسن التآليف فيه كتاب المجسطي منسوب لبطليموس. و ليس من ملوك اليونان الذين أسماؤهم بطليموس على ما حققه شراح الكتاب. و قد اختصره الأئمة من حكماء الإسلام كما فعله ابن سينا و أدرجه في تعاليم الشفاء. و لخصه ابن رشد أيضا من حكماء الأندلس و ابن السمح و ابن أبي الصلت في كتاب الاقتصار. و لابن الفرغاني هيئة ملخصة قربها و حذف براهينها الهندسية. و الله علم الإنسان ما لم يعلم. سبحانه لا إله إلا هو رب العالمين. و من فروعه علم الأزياج. و هي صناعة حسابية على قوانين عددية فيما يخص كل كوكب من طريق حركته و ما أدى إليه برهان الهيئة في وضعه من سرعة و بطء و استقامة و رجوع و غير ذلك يعرف به مواضع الكواكب في أفلاكها لأي وقت فرض من قبل حسبان حركاتها على تلك القوانين المستخرجة من كتب الهيئة. و لهذه الصناعة قوانين كالمقدمات و الأصول لها في معرفة الشهور و الأيام و التواريخ الماضية و أصول متقررة من معرفة الأوج والحضيض و الميول و أصناف الحركات و استخراج بعضها من بعض، يضعونها في جدول مرتبة تسهيلا على المتعلمين و تسمى الأزياج. و يسمى استخراج مواضع الكواكب للوقت المفروض لهذه الصناعة تعديلا و تقويما. و للناس فيه تآليف كثيرة للمتقدمين و المتأخرين مثل البتاني و ابن الكماد. و قد عول المتأخرون لهذا العهد بالمغرب على زيج منسوب لابن إسحاق من منجمي تونس في أول المائة السابعة. و يزعمون أن ابن إسحاق عول فيه على الرصد. و أن يهوديا كان بصقلية ماهرا في الهيئة و التعاليم و كان قد عني بالرصد و كان يبعث إليه بما يقع في ذلك من أحوال الكواكب و حركه لها فكان أهل المغرب لذلك عنوا به لوثاقة مبناه على ما يزعمون. و لخصه ابن البناء في آخر سماه المنهاج فولع به الناس لما سهل من الأعمال فيه و إنما يحتاج إلى مواضع الكواكب من الفلك لتنبني عليها الأحكام النجومية و هو معرفة الآثار التي تحدث عنها بأوضاعها في عالم الإنسان من الملك و الدول و المواليد البشرية و الكوائن الحادثة كما نبينه بعد و نوضح فيه أدلتهم إن شاء الله تعالى. و الله الموفق لما يحبه و يرضاه لا معبود سواه.
الفصل الثالث و العشرون: في علم المنطق
و هو قوانين يعرف بها الصحيح من الفاسد في الحدود المعرفة للماهيات و الحجج المفيدة للتصديقات و ذلك لأن الأصل في الإدراك إنما هو المحسوسات بالحواس الخمس. و جميع الحيوانات مشتركة في هذا الإدراك من الناطق و غيره و إنما يتميز الإنسان عنها بإدراك الكليات و هي مجردة من المحسوسات. و ذلك بأن يحصل في الخيال من الأشخاص المتفقة صورة منطبقة على جميع تلك الأشخاص المحسوسة و هي الكلي. ثم ينظر الذهن بين تلك الأشخاص المتفقة وأشخاص أخرى توافقها في بعض. فيحصل له صورة تنطبق أيضا عليهما باعتبار ما اتفقا فيه. و لا يزال يرتقي في التجريد إلى الكل الذي لا يجد كليا آخر معه يوافقه فيكون لأجل ذلك بسيطا. و هذا مثل ما يجرد من أشخاص الإنسان صورة النوع المنطبقة عليها. ثم ينظر بينه و بين الحيوان و يجرد صورة الجنس المنطبقة عليهما. ثم ينظر بينهما و بين النبات إلى أن ينتهي إلى الجنس العالي و هو الجوهر فلا يجد كليا يوافقه في شيء فيقف العقل هنالك عن التجريد. ثم إن الإنسان لما خلق الله له الفكر الذي به يدرك العلوم و الصنائع و كان العلم: إما تصورا للماهيات و يعنى به إدراك ساذج من غير حكم معه و إما تصديقا أي حكما بثبوت أمر لأمر فصار سعي الفكر في تحصيل المطلوبات إما بأن تجمع تلك الكليات بعضها إلى بعض على جهة التأليف فتحصل صورة في الذهن كلية منطبقة على أفراد في الخارج فتكون تلك الصورة الذهنية مفيدة لمعرفة ماهية تلك الأشخاص و إما بأن يحكم بأمر على أمر فيثبت له و يكون ذلك تصديقا. و غايته في الحقيقة راجعة إلى التصور لأن فائدة ذلك إذا حصل إنما هي معرفة حقائق الأشياء التي هي مقتضى العلم الحكمي. و هذا السعي من الفكر قد يكون بطريق صحيح و قد يكون بطريق فاسد فاقتضى ذلك تمييز الطريق الذي يسعى به الفكر في تحصيل المطالب العلمية ليتميز الصحيح من الفاسد فكان ذلك قانون المنطق. و تكلم فيه المتقدمون أول ما تكلموا به جملا جملا و مفترقا مفترقا. و لم تهذب طرقه و لم تجمع مسائله حتى ظهر في يونان أرسطو فهذب مباحثه و رتب مسائله و فصوله و جعله أول العلوم الحكمية و فاتحتها. و لذلك يسمى بالمعلم الأول و كتابة المخصوص بالمنطق يسمى النص و هو يشتمل على ثمانية كتب أربعة منها في صور القياس و أربعة في مادته. و ذلك أن المطالب التصديقية على أنحاء. فمنها ما يكون المطلوب فيه اليقين بطبعه و منها ما يكون المطلوب فيه الفن و هو على مراتب فيظهر في القياس من حيث المطلوب الذي يفيده و ما ينبغي أن تكون مقدماته بذلك الاعتبار و من أي جنس يكون من العلم أو من الفن. و قد ينظر في القياس لا باعتبار مطلوب مخصوص بل من جهة إنتاجه خاصة. و يقال للنظر الأول إنه من حيث المادة و نعني به المادة المنتجة للمطلوب المخصوص من يقين أو ظن و يقال للنظر الثاني إنه من حيث الصورة و إنتاج القياس على الإطلاق فكانت لذلك كتب المنطق ثمانية: الأول في الأجناس العالية التي ينتهي إليها تجريد المحسوسات و هي التي ليس فوقها جنس و يسمى كتاب المقولات. و الثاني في القضايا التصديقية و أصنافها و يسمى كتاب العبارة. و الثالث في القياس و صورة إنتاجه على الإطلاق و يسمى كتاب القياس و هذا آخر النظر من حيث الصورة. ثم الرابع كتاب البرهان و هو النظر في القياس المنتج لليقين و كيف يجب أن تكون مقدماته يقينية. و يختص بشروط أخرى لإفادة اليقين مذكورة فيه مثل كونها ذاتية و أولية و غير ذلك. و في هذا الكتاب الكلام في المعرفات و الحدود إذ المطلوب فيها إنما هو اليقين لوجوب المطابقة بين الحد و المحدود لا تحتمل غيرها فلذلك اختصت عند المتقدمين بهذا الكتاب. و الخامس: كتاب الجدل و هو القياس المفيد قطع المشاغب و إفحام الخصم و ما يجب أن يستعمل فيه من المشهورات و يختص أيضا من جهة إفادته لهذا الغرض بشروط أخرى من حيث إفادته لهذا الغرض و هي مذكورة هناك. و في هذا الكتاب يذكر المواضع التي يستنبط منها صاحب القياس قياسه و فيه عكوس القضايا. و السادس: كتاب السفسطة و هو القياس الذي يفيد غلاف الحق و يغالط به المناظر صاحبه و هو فاسد و هذا إنما كتب ليعرف به القياس المغالطي فيحذر منه. و السابع: كتاب الخطابة و هو القياس المفيد ترغيب الجمهور و حملهم على المراد منهم و ما يجب أن يستعمل في ذلك من المقالات. و الثامن: كتاب الشعر و هو القياس الذي يفيد التمثيل و التشبيه خاصة للإقبال على الشيء أو النفرة عنه و ما يجب أن يستعمل فيه من القضايا التخيلية. هذه هي كتب المنطق الثمانية عند المتقدمين. ثم إن حكماء اليونانيين بعد أن تهذبت الصناعة و رتبت رأوا أنة لابد من الكلام في الكليات الخمس المفيدة للتصور المطابق للماهيات في الخارج، أو لأجزائها أو عوارضها و هي الجنس و الفصل و النوع و الخاص و العرض العام، فاستدركوا فيها مقالة تختص بها مقدمة بين يدي الفن فصارت تسعا و ترجمت كلها في الملة الإسلامية. و كتبها و تداولها فلاسفة الإسلام بالشرح و التلخيص كما فعله الفارابي و ابن سينا ثم ابن رشد من فلاسفة الأندلس. و لابن سينا كتاب الشفاء استوعب فيه علوم الفلسفة السبعة كلها. ثم جاء المتأخرون فغيروا اصطلاح المنطق و ألحقوا بالنظر في الكليات الخمس ثمرته و هي الكلام في الحدود و الرسوم نقلوها من كتاب البرهان. و حذفوا كتاب المقولات لأن نظر المنطقي فيه بالعرض لا بالذات. و ألحقوا في كتاب العبارة الكلام في العكس. و إن كان من كتاب الجدل في كتب المتقدمين لكنة من توابع الكلام في القضايا ببعض الوجوه ثم تكلموا في القياس من حيث إنتاجه للمطالب على العموم لا بحسب مادة و حدقوا النظر فيه بحسب المادة و هي الكتب الخمسة: البرهان و الجدل و الخطابة و الشعر و السفسطة. و ربما يلم بعضهم باليسير منها إلماما و أغفلوها كأن لم تكن هي المهم المعتمد في الفن. ثم تكلموا فيما وضعوه من ذلك كلاما مستبحرا و نظروا فيه من حيث إنه فن برأسه لا من حيث إنه آلة للعلوم فطال الكلام فيه و اتسع. و أول من فعل ذلك الإمام فخر الدين بن الخطيب و من بعده أفضل الدين الخونجي و على كتبه معتمد المشارقة لهذا العهد. و له في هذه الصناعة كتاب كشف الأسرار و هو طويل و اختصر فيها مختصر الموجز و هو حسن في التعليم ثم مختصر الجمل في قدر أربعة أوراق أخذ بمجامع الفن و أصوله متداولة المتعلمون لهذا العهد فينتفعون به. و هجرت كتب المتقدمين و طرقهم كأن لم تكن و هي ممتلئة من ثمرة المنطق و فائدته كما قلناه. و الله الهادي للصواب. اعلم أن هذا الفن قد اشتد النكير على انتحاله من متقدمي السلف و المتكلمين. و بالغوا في الطعن عليه و التحذير منه و حظروا تعلمه و تعليمه. وجاء المتأخرون من بعدهم من لدن الغزالي و الإمام ابن الخطيب فسامحوا في ذلك بعض الشيء. و أكب الناس على انتحاله من يومئذ إلا قليلا، يجنحون فيه إلى رأي المتقدمين. فينفرون عنه و يبالغون في إنكاره. فلنبين لك نكتة القول و الرد في ذلك، لتعلم مقاصد العلماء في مذاهبهم، و ذلك أن المتكلمين لما وضعوا علم الكلام لنصر العقائد الإيمانية بالحجج العقلية، كانت طريقتهم في ذلك بأدلة خاصة و ذكروها في كتبهم كالدليل على حدث العالم بإثبات الأغراض و حدوثها. و امتناع خلو الأجسام عنها، و ما لا يخلو عن الحوادث حادث. و كإثبات التوحيد بدليل التمانع. و إثبات الصفات القديمة بالجوامع الأربعة إلحاقا للغائب بالشاهد. و غير ذلك من أدلتهم المذكورة في كتبهم. ثم مرروا تلك الأدلة بتمهيد قواعد و أصول هي كالمقدمات لها مثل إثبات الجوهر الفرد و الزمن الفرد و الخلاء بين الأجسام و نفي الطبيعة و التركيب العقلي للماهيات. و أن العرض لا يبقى زمنين و إثبات الحال و هي صفة الموجود، لا موجودة و لا معدومة و غير ذلك من قواعدهم التي بنوا عليها أدلتهم الخاصة. ثم ذهب الشيخ أبو الحسن، و القاضي أبو بكر و الأستاذ أبو إسحاق إلا أن أدلة العقائد منعكسة بمعنى أنها إذا بطلت بطل مدلولها. و لهذا رأى القاضي أبو بكر أنها بمثابة العقائد و القدح فيها قدح في العقائد لابتنائها عليها. و إذا تأملت المنطق وجدته كله يدور على التركيب العقلي، و إثبات الكلي الطبيعي في الخارج لينطبق عليه الكلي الذهني المنقسم إلى الكليات الخمس، التي هي الجنس و النوع و الفصل والخاصة و العرض العام، و هذا باطل عند المتكلمين. و الكلي و الذاتي عندهم إنما اعتبار ذهني ليس في الخارج ما يطابقه. أو حال عند من يقول بها فتبطل الكليات الخمس و التعريف المبني عليها. و المقولات العشر، و يبطل العرض الذاتي، فتبطل ببطلانه القضايا الضرورية الذاتية المشروطة في البرهان و تبطل المواضع التي هي لباب كتاب الجدل. و هي التي يؤخذ منها الوسط الجامع بين الطرفين في القياس، و لا يبقى إلا القياس الصوري، و من التعريفات المساوئ في الصادقية على أفراد المحمود، لا يكون أعلم منها، فيدخل غيرها، و لا أخص فيخرج بعضها، و هو الذي يعبر عنه النحاة بالجمع و المنع و المتكلمون بالطرد و العكس، و تنهدم أركان المنطق جملة. و إن أثبتنا هذه كما في علم المنطق أبطلنا كثيرا من مقدمات المتكلمين فيؤدي إلى إبطال أدلتهم على العقائد كما مر. فلهذا بالغ المتقدمون من المتكلمين في النكير على انتحال المنطق و عده بدعة أو كفرا على نسبة الدليل الذي يبطل. و المتأخرون من لدن الغزالي لما أنكروا انعكاس الأدلة، و لم يلزم عندهم من بطلان الدليل بطلان مدلوله، و صح عندهم رأي أهل المنطق في التركيب العقلي و وجوب الماهيات الطبيعية و كلياتها في الخارج، قضوا بأن المنطق غير مناف للعقائد الإيمانية. و إن كان منافيا لبعض أدلتها، بل قد يستدلون على إبطال كثير من تلك المقدمات الكلامية، كنفي الجوهر الفرد و الخلاء و بقاء الأعراض و غيرها، و يستبدلون من أدلة المتكلمين على العقائد بأدلة أخرى يصححونها بالنظر و القياس العقلي. و لم يقدح ذلك عندهم في العقائد السنية بوجه. و هذا رأي الإمام و الغزالي و تابعهما لهذا العهد، فتأمل ذلك و اعرف مدارك العلماء و مآخذهم فيما يذهبون إليه. و الله الهادي و الموفق للصواب.
الفصل الرابع و العشرون: في الطبيعيات
و هو علم يبحث في الجسم من جهة ما يلحقه من الحركة و السكون فينظر في الأجسام السماوية و العنصرية و ما يتولد عنها من حيوان و إنسان و نبات و معدن و ما يتكون في الأرض من العيون و الزلازل و في الجو من السحاب و البخار و الرعد والبرق و الصواعق و غير ذلك. و في مبدأ الحركة للأجسام و هو النفس على تنوعها في الإنسان و الحيوان و النبات. و كتب أرسطو فيه موجودة بين أيدي الناس ترجمت مع ما ترجم من علوم الفلسفة أيام المأمون و ألف الناس على حذوها مستتبعين لها بالبيان و الشرح و أوعب من ألف في ذلك ابن سينا في كتاب الشفاء جمع فيه العلوم السبعة للفلاسفة كما قدمنا ثم لخصه في كتاب النجا و في كتاب الإشارات و كأنه يخالف أرسطو في الكثير من مسائلها و يقول برأيه فيها. و أما ابن رشد فلخص كتب أرسطو و شرحها متبعا له غير مخالف. و ألف الناس في ذلك كثيرا لكن هذه هي المشهورة لهذا العهد و المعتبرة في الصناعة. و لأهل المشرق عناية بكتاب الإشارات لا بن سينا و للإمام ابن الخطيب عليه شرح حسن و كذا الآمدي و شرحه أيضا نصير الدين الطوسي المعروف بخواجه من أهل المشرق و بحث مع الإمام في كثير من مسائله فأوفى على أنظاره و بحوثه و فوق كل ذي علم عليم و الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
الفصل الخامس و العشرون: في علم الطب
و من فروع الطبيعيات صناعة الطب و هي صناعة تنظر في بدن الإنسان من حيث يمرض و يصح فيحاول صاحبها حفظ الصحة و برء المرض بالأدوية والأغذية بعد أن يتبين المرض الذي يخص كل عضو من أعضاء البدن و أسباب تلك الأمراض التي تنشأ عنها و ما لكل مرض من الأدوية مستدلين على ذلك بأمزجة الأدوية و قواها و على المرض بالعلامات المؤذن بنضجه و قبوله الدواء أولا: في السجية و الفضلات و النبض محاذين لذلك قوة الطبيعة فإنها المدبرة في حالتي الصحة و المرض. و إنما الطبيب يحاذيها و يعينها بعض الشيء بحسب ما تقتضيه طبيعة المادة و الفصل و السن و يسمى العلم الجامع لهذا كله علم الطب. و ربما أفردوا بعض الأعضاء بالكلام و جعلوه علما خاصا، كالعين و عللها وأكحالها. كذلك ألحقوا بالفن من مناخ الأعضاء و معناها المنفعة التي لأجلها خلق كل عضو من أعضاء البدن الحيواني. و إن لم يكن ذلك من موضوع علم الطب إلا أنهم جعلوه من لواحقه و توابعه. و إمام هذه الصناعة التي ترجمت كتبه فيها من الأقدمين جالينوس يقال إنه كان معاصرا لعيسى عليه السلام و يقال إنه مات بصقلية في سبيل تغلب و مطاوعة اغتراب. و تآليفه فيها هي الأمهات التي اقتدى بها جميع الأطباء بعده. و كان في الإسلام في هذه الصناعة أئمة جاءوا من وراء الغاية مثل الرازي و المجوسي و ابن سينا و من أهل الأندلس أيضا كثير وأشهرهم ابن زهر. و هي لهذا العهد في المدن الإسلامية كأنها نقصت لوقوف العمران و تناقصه و هي من الصنائع التي لا تستدعيها إلا الحضارة و الترف كما نبينه بعد. و للبادية من أهل العمران طب يبنونه في غالب الأمر على تجربة قاصرة على بعض الأشخاص متوارثا عن مشايخ الحي و عجائزه، و ربما يصح منه البعض إلا أنة ليس على قانون طبيعي و لا على موافقة المزاج. و كان عند العرب من هذا الطب كثير و كان فيهم أطباء معروفون كالحارث بن كلدة و غيره. و الطب المنقول في الشرعيات من هذا القبيل و ليس من الوحي في شيء و إنما هو أمر كان عاديا للعرب. و وقع في ذكر أحوال النبي صلى الله عليه و سلم من نوع ذكر أحواله التي هي عادة و جبلة لا من جهة أن ذلك مشروع على ذلك النحو من العمل. فإنه صلى الله عليه و سلم إنما بعث ليعلمنا الشرائع و لم يبعث لتعريف الطب و لا غيره من العاديات. و قد وقع له في شأن تلقيح النخل ما وقع فقال: أنتم أعلم بأمور دنياكم. فلا ينبغي أن يحمل شيء من الطب الذي وقع في الأحاديث الصحيحة المنقولة على أنة مشروع فليس هناك ما يدل عليه اللهم إلا إذا استعمل على جهة التبرك و صدق العقد الإيماني فيكون له أثر عظيم في النفع. و ليس ذلك في الطب المزاجي و إنما هو من آثار الكلمة الإيمانية كما وقع في مداواة المبطون بالعسل و نحوه و الله الهادي إلى الصواب لا رب سواه.
الفصل السادس و العشرون: في الفلاحة
هذه الصناعة من فروع الطبيعيات و هي النظر في النبات من حيث تنميته و نشؤه بالسقي و العلاج و تعهده بمثل ذلك و كان للمتقدمين بها عناية كثيرة و كان النظر فيها عندهم عاما في النبات من جهة غرسه و تنميته و من جهة خواصه و روحانيته و مشاكلتها لروحانيات الكواكب و الهياكل المستعمل ذلك كله في باب السحر فعظمت عنايتهم به لأجل ذلك. و ترجم من كتب اليونانيين كتاب الفلاحة النبطية منسوبة لعلماء النبط مشتملة من ذلك على علم كبير. و لما نظر أهل الملة فيما اشتمل عليه هذا الكتاب و كان باب السحر مسدودا و النظر فيه محظورا فاقتصروا منه على الكلام في النبات من جهة غرسه و علاجه و ما يعرض له في ذلك و حذفوا الكلام في الفن الآخر منه جملة. و اختصر ابن العوام كتاب الفلاحة النبطية على هذا المنهاج و بقي الفن الآخر منه مغفلا، نقل منة مسلمة في كتبه السحرية أمهات من مسائله كما نذكره عند الكلام على السحر إن شاء الله تعالى. و كتب المتأخرين في الفلاحة كثيرة و لا يعدون فيها الكلام في الغراس و العلاج و حفظ النبات من حوائجه و عوائقه و ما يعرض في ذلك كله و هي موجودة.
الفصل السابع و العشرون: في علم الإلهيات
و هو علم ينظر في الوجود المطلق فأولا في الأمور العامة للجسمانيات و الروحانيات من الماهيات و الوحدة و الكثرة و الوجوب و الإمكان و غير ذلك ثم ينظر في مبادئ الموجودات و أنها روحانيات ثم في كيفية صدور الموجودات عنها و مراتبها ثم في أحوال النفس بعد مفارقة الأجسام و عودها إلى المبدأ. و هو عندهم علم شريف يزعمون أنة يوقفهم على معرفة الوجود على ما هو عليه و أن ذلك عين السعادة في زعمهم. و سيأتي الرد عليهم بعد. و هو تال للطبيعيات في ترتيبهم ولذلك يسمونه علم ما وراء الطبيعة. و كتب المعلم الأول فيه موجودة بين أيدي الناس. و لخصه ابن سينا في كتاب الشفاء و النجاة و كذلك لخصه ابن رشد من حكماء الأندلس. و لما وضع المتأخرون في علوم القوم و دونوا فيها و رد عليهم الغزالي ما رد منها ثم خلط المتأخرون من المتكلمين مسائل علم الكلام بمسائل الفلسفة لاشتراكهما في المباحث، و تشابه موضوع علم الكلام بموضوع الإلهيات و مسائله بمسائلها فصارت كأنها فن واحد ثم غيروا ترتيب الحكماء في مسائل الطبيعيات و الإلهيات و خلطوهما فنا واحدا قدموا الكلام في الأمور العامة ثم أتبعوه بالجسمانيات و توابعها ثم بالروحانيات و توابعها إلى آخر العلم كما فعله الإمام ابن الخطيب في المباحث المشرقية و جميع من بعده من علماء الكلام. و صار علم الكلام مختلطا بمسائل الحكمة و كتبه محشوة بها كأن الغرض مم موضوعهما و مسائلهما واحد. و التبس ذلك على الناس و هو صواب لأن مسائل علم الكلام إنما هي عقائد متلقاة من الشريعة كما نقلها السلف من غير رجوع فيها إلى العقل و لا تعويل عليه بمعنى أنها لا تثبت إلا به فإن العقل معزول عن الشرع و أنظاره و ما تحدث فيه المتكلمون من إقامة الحجج فليس بحثا عن الحق فيها فالتعليل بالدليل بعد أن لم يكن معلوما هو شأن الفلسفة بل إنما هو التماس حجة عقلية تعضد عقائد الإيمان و مذاهب السلف فيها و تدفع شبه أهل البدع عنها الذين زعموا أن مداركهم فيها عقلية. و ذلك بعد أن تفرض صحيحة بالأدلة النقلية كما تلقاها السلف و اعتقدوها و كثير ما بين المقامين. و ذلك أن مدارك صاحب الشريعة أوسع لاتساع نطاقها عن مدارك الأنظار العقلية فهي فوقها و محيطة بها لاستمدادها من الأنوار الإلهية فلا تدخل تحت قانون النظر الضعيف و المدارك المحاط بها. فإذا هدانا الشارع إلى مدرك فينبغي أن نقدمه على مداركنا و نثق به دونها و لا ننظر في تصحيحه بمدارك العقل و لو عارضه بل نعتمد ما أمرنا به اعتقادا و علما و نسكت عما لم نفهم من ذلك و نفوضه إلى الشارع و نعزل العقل عنه و المتكلمون إنما دعاهم إلى ذلك كلام أهل الإلحاد في معارضات العقائد السلفية بالبدع النظرية فاحتاجوا إلى الرد عليهم من جنس معارضاتهم و استدعى ذلك الحجج النظرية و محاذاة العقائد السلفية بها و أما النظر في مسائل الطبيعيات والإلهيات بالتصحيح و البطلان فليس من موضوع علم الكلام و لا من جنس أنظار المتكلمين. فاعلم ذلك لتميز به بين الفنين فإنهما مختلطان عند المتأخرين في الوضع و التأليف و الحق مغايرة كل منهما لصاحبه بالموضوع و المسائل و إنما جاء الالتباس من اتحاد المطالب عند الاستدلال و صار احتجاج أهل الكلام كأنه إنشاء لطلب الاعتداد بالدليل و ليس كذلك بل إنما هو رد على الملحدين و المطلوب مفروض الصدق معلومة. و كذا جاء المتأخرون من غلاة المتصوفة المتكلمين بالمواجد أيضا فخلطوا مسائل الفنين بفنهم و جعلوا الكلام واحدا فيها كلها مثل كلامهم في النبؤات و الاتحاد و الحلول و الوحدة و غير ذلك. و المدارك في هذه الفنون الثلاثة متغايرة مختلفة و أبعدها من جنس الفنون و العلوم مدارك المتصوفة لأنهم يدعون فيها الوجدان و يفرون عن الدليل و الوجدان بعيد عن المدارك العلمية و أبحاثها و توابعها كما بيناه و نبينه. و الله يهدي من يشاء إلى طريق مستقيم و الله أعلم بالصواب.
الفصل الثامن و العشرون: في علوم السحر و الطلسمات
و هي علوم بكيفية استعدادات تقتدر النفوس البشرية بها على التأثيرات في عالم العناصر إما بغير معين أو بمعين من الأمور السماوية و الأول هو السحر و الثاني هو الطلسمات و لما كانت هذه العلوم مهجورة عند الشرائع لما فيها من الضرر و لما يشترط فيها من الوجهة إلى غير الله من كوكب أو غيره كانت كتبها كالمفقودة بين الناس. إلا ما وجد في كتب الأمم الأقدمين فيما قبل نبؤة موسى عليه السلام مثل النبط و الكلدانيين فإن جميع من تقدمه من الأنبياء لم يشرعوا الشرائع و لا جاءوا بالأحكام إنما كانت كتبهم مواعظ و توحيدا لله و تذكيرا بالجنة والنار و كانت هذه العلوم في أهل بابل من السريانيين و الكلدانيين و في أهل مصر من القبط و غيرهم. و كان لهم فيها التآليف و الآثار و لم يترجم لنا من كتبهم فيها إلا القليل مثل الفلاحة النبطية من أوضاع أهل بابل فأخذ الناس منها هذا العلم و تفننوا فيه و وضعت بعد ذلك الأوضاع مثل مصاحف الكواكب السبعة و كتاب طمطم الهندي في صور الدرج و الكواكب و غيرها. ثم ظهر بالمشرق جابر بن حيان كبير السحرة في هذه الملة فتصفح كتب القوم و استخرج الصناعة و غاص في زبدتها و استخرجها و وضع فيها غيرها من التآليف و أكثر الكلام فيها و في صناعة السيمياء لأنها من توابعها لأن إحالة الأجسام النوعية من صورة إلى أخرى إنما يكون بالقوة النفسية لا بالصناعة العملية فهو من قبيل السحر كما نذكره في موضعه. ثم جاء مسلمة بن أحمد المجريطي إمام أهل الأندلس في التعاليم والسحريات فلخص جميع تلك الكتب و هذبها و جمع طرقها في كتابه الذي سماه غاية الحكيم و لم يكتب أحد في هذا العلم بعده. و لتقدم هنا مقدمة يتبين بها حقيقة السحر و ذلك أن النفوس البشرية و إن كانت واحدة بالنوع فهي مختلفة بالخواص و هي أصناف كل صنف مختص بخاصية واحدة بالنوع لا توجد في الصنف الآخر. و صارت تلك الخواص فطرة و جبلة لصنفها فنفوس الأنبياء عليهم الصلاة و السلام لها خاصية تستعد بها للانسلاخ من الروحانية البشرية إلى الروحانية الملكية حتى يصير ملكا في تلك اللمحة التي انسلخت فيها، و هذا هو معنى الوحي كما مر في موضعه، و هي في تلك الحالة محصلة للمعرفة الربانية و مخاطبة الملائكة عليهم السلام عن الله سبحانه و تعالى كما مر. و ما يتسع في ذلك من التأثير في الأكوان و نفوس السحرة لها خاصة التأثير في الأكوان و استجلاب روحانية الكواكب للتصرف فيها و التأثير بقوة نفسانية أو شيطانية. فأما تأثير الأنبياء فمدد إلهي و خاصية ربانية و نفوس الكهنة لها خاصية الاطلاع على المغيبات بقوى شيطانية. و هكذا كل صنف مختص بخاصية لا توجد في الآخر. و النفوس الساحرة على مراتب ثلاث يأتي شرحها فأولها المؤثرة بالهمة فقط من غير آلة و لا معين و هذا هو الذي تسميه الفلاسفة السحر و الثاني بمعين من مزاج الأفلاك أو العناصر أو خواص الأعداد و يسمونه الطلسمات و هو أضعف رتبة من الأول و الثالث تأثير في القوى المتخيلة. يعمد صاحب هذا التأثير إلى القوى المتخيلة فيتصرف فيها بنوع من التصرف و يلقي فيها أنواعا من الخيالات و المحاكاة و صورا مما يقصده من ذلك ثم ينزلها إلى الحس من الرائين بقوة نفسه المؤثرة فيه فينظر الراؤن كأنها في الخارج و ليس هناك شيء من ذلك، كما يحكى عن بعضهم أنه يري البساتين و الأنهار و القصور و ليس هناك شيء من ذلك ويسمى هذا عند الفلاسفة الشعوذة أو الشعبذة. هذا تفصيل مراتبه ثم هذه الخاصية تكون في الساحر بالقوة شأن القوى البشرية كلها و إنما تخرج إلى الفعل بالرياضة و رياضة السحر كلها إنما تكون بالتوجه إلى الأفلاك و الكواكب و العوالم العلوية والشياطين بأنواع التعظيم و العبادة و الخضوع و التذلل فهي لذلك وجهة إلى غير الله و سجود له. و الوجهة إلى غير الله كفر فلهذا كان السحر كفرا و الكفر من مواده و أسبابه كما رأيت. و لهذا اختلف الفقهاء في قتل الساحر هل هو لكفره السابق على فعله أو لتصرفه بالإفساد و ما ينشأ عنه من الفساد في الأكوان و الكل حاصل منه. و لما كانت المرتبتان الأوليان من السحر لها حقيقة في الخارج و المرتبة الأخيرة الثالثة لا حقيقة لها اختلف العلماء في السحر هل هو حقيقة أو إنما هو تخييل فالقائلون بأن له حقيقة نظروا إلى المرتبتين الأوليين و القائلون بأن لا حقيقة له نظروا إلى المرتبة الثالثة الأخيرة. فليس بينهم اختلاف في نفس الأمر بل إنما جاء من قبل اشتباه هذه المراتب و الله أعلم. و اعلم أن وجود السحر لا مرية فيه بين العقلاء من أجل التأثير الذي ذكرناه و قد نطق به القرآن. قال الله تعالى: و لكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر و ما أنزل على الملكين ببابل هاروت و ماروت و ما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء و زوجه و ما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله. و سحر رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى كان يخيل إليه أنة يفعله و جعل سحره في مشط و مشاقة و جف طلعة و دفن في بئر ذروان فأنزل الله عز و جل عليه في المعوذتين: و من شر النفاثات في العقد قالت عائشة رضي الله عنها: كان لا يقرأ على عقدة من تلك العقد التي سحر فيها إلا انحلت. و أما وجود السحر في أهل بابل و هم الكلدانيون من النبط و السريانيين فكثير و نطق به القرآن و جاءت به الأخبار و كان للسحر في بابل و مصر أزمان بعثة موسى عليه السلام أسواق نافقة. و لهذا كانت معجزة موسى من جنس ما يدعون و يتاناغون فيه و بقي من آثار ذلك في البراري بصعيد مصر شواهد دالة على ذلك و رأينا بالعيان من يصور صورة الشخص المسحور بخواص أشياء مقابلة لما نواه و حاوله موجودة بالمسحور و أمثال تلك المعاني من أسماء و صفات في التأليف و التفريق. ثم يتكلم على تلك الصورة التي أقامها مقام الشخص المسحور عينا أو معنى ثم ينفث من ريقه بعد اجتماعه في فيه بتكرير مخارج تلك الحروف من الكلام السوء و يعقد على ذلك المعنى في سبب أعده لذلك تفاؤلا بالعقد و اللزام و أخذ العهد على من أشرك به من الجن في نفثه في فعله ذلك استشعارا للعزيمة بالعزم. و لتلك البنية و الأسماء السيئة روح خبيثة تخرج منه مع النفخ متعلقة يريقه الخارج من فيه بالنفث فتنزل عنها أرواح خبيثة و يقع عن ذلك بالمسحور ما يحاوله الساحر. و شاهدنا أيضا من المنتحلين للسحر و عمله من يشير إلى كساء أو جلد و يتكلم عليه في سره فإذا هو مقطوع متخرق. و يشير إلى بطون الغنم كذلك في مراعيها بالبعج فإذا أمعاؤها ساقطة من بطونها إلى الأرض. و سمعنا أن بأرض الهند لهذا العهد من يشير إلى إنسان فيتحتت قلبه و يقع ميتا و ينقلب عن قلبه فلا يوجد في حشاه و يشير إلى الرمانة و تفتح فلا يوجد من حبوبها شيء. و كذلك سمعنا أن بأرض السودان و أرض الترك من يسحر السحاب فيمطر الأرض المخصوصة. و كذلك رأينا من عمل الطلسمات عجائب في الأعداد المتحابة و هي ر ك ر ف د أحد العددين مائتان و عشرون و الآخر مائتان و أربعة و ثمانون و معنى المتحابة أن أجزاء كل واحد التي فيه من نصف و ثلث و ربع و سدس و خمس و أمثالها إذا جمع كان متساويا للعدد الآخر صاحبه فتسمى لأجل ذلك المتحابة. و نقل أصحاب الطلسمات أن لتلك الأعداد أثرا في الإلفة بين المتحابين و اجتماعهما إذا وضع لهما مثالان أحدهما بطالع الزهرة و هي في بيتها أو شرفها ناظرة إلى القمر نظر مودة و قبول و يجعل طالع الثاني سابع الأول و يضع على أحد التمثالين أحد العددين و الآخر على الآخر. و يقصد بالأكثر الذي يراد ائتلافه أعني المحبوب ما أدري الأكثر كمية أو الأكثر أجزاء فيكون لذلك من التألف العظيم بين المتحابين مالا يكاد ينفك أحدهما عن الآخر. قاله صاحب الغاية و غيره من أئمة هذا الشأن و شهدت له التجربة. و كذا طابع الأسد و يسمى أيضا طابع الحصى و هو أن يرسم في قالب هند إصبع صورة أسد سائلا ذنبه عاضا على حصاة قد قسمها بنصفين و بين يديه صورة حية منسابة من رجليه إلى قبالة وجهه فاغرة فاها فيه و على ظهره صورة عقرب تدب. و يتحين برسمه حلول الشمس بالوجه الأول أو الثالث من الأسد بشرط صلاح النيرين و سلامتهما من النحوس. فإذا وجد ذلك و عثر عليه طبع في ذلك الوقت في مقدار المثقال فما دونه من الذهب و غمس بعد في الزعفران محلولا بماء الورد و رفع في خرقة حرير صفراء فإنهم يزعمون أن لممسكه من العز على السلاطين في مباشرتهم و خدمتهم و تسخيرهم له مالا يعبر عنه. و كذلك للسلاطين فيه من القوة و العز على من تحت أيديهم. ذكر ذلك أيضا أهل هذا الشأن في الغاية و غيرها و شهدت له التجربة. و كذلك وفق المسدس المختص بالشمس ذكروا أنه. يوضع عند حلول الشمس في شرفها و سلامتها من النحوس و سلامة القمر بطالع ملوكي يعتبر فيه نظر صاحب العاشر لصاحب الطالع نظر مودة و قبول و يصلح فيه ما يكون من مواليد الملوك من الأدلة الشريفة و يرفع في خرقة حرير صفراء بعد أن يغمس في الطيب. فزعموا أن له أثرا في صحابة الملوك و خدمتهم و معاشرتهم. و أمثال ذلك كثير. و كتاب الغاية لمسلمة بن أحمد المجريطي هو مدونة هذه الصناعة و فيه استيفاؤها و كمال مسائلها و ذكر لنا أن الإمام الفخر بن الخطيب وضع كتابا في ذلك و سماه بالسر المكتوم و أنه بالمشرق يتداوله أهله و نحن لم نقف عليه. و الإمام لم يكن من أئمة هذا الشأن فيما نظن و لعل الأمر بخلاف ذلك. و بالمغرب صنف من هؤلاء المنتحلين لهذه الأعمال السحرية يعرفون بالبعاجين و هم الذين ذكرت أولا أنهم يشيرون إلى الكساء أو الجلد فيتخرق و يشيرون إلى بطون الغنم بالبعج فتنبعج. و يسمى أحدهم لهذا العهد باسم البعاج لأن أكثر ما ينتحل من السحر بعج الأنعام يرهب بذلك أهلها ليعطوه من فضلها و هم مستترون بذلك في الغاية خوفا على أنفسهم من الحكام، لقيت منهم جماعة و شاهدت من أفعالهم هذه بذلك و أخبروني أن لهم وجهة و رياضة خاصة بدعوات كفرية و إشراك لروحانيات الجن و الكواكب، شطرت فيها صحيفة عندهم تسمى الخزيرية يتدارسونها و أنهم بهذه الرياضة و الوجهة يصلون إلى حصول هذه الأفعال لهم و أن التأثير الذي لهم إنما هو فيما سوى الإنسان الحر من المتاع و الحيوان و الرفيق و يعبرون عن ذلك يقولهم إنما نفعل فيما تمشي فيه الدراهم أي ما يملك و يباع و يشترى من سائر المتملكات هذا ما زعموه. و سألت بعضهم فأخبرني به و أما أفعالهم فظاهرة موجودة وقفنا على الكثير منها و عاينتها من غير ريبة في ذلك. هذا شأن السحر والطلسمات و أثارهما في العالم فأما الفلاسفة ففرقوا بين السحر و الطلسمات بعد أن أثبتوا أنهما جميعا أثر للنفس الإنسانية و استدلوا على وجود الأثر للنفس الإنسانية بأن لها آثارا في بدنها على غير المجرى الطبيعي و أسبابه الجسمانية بل آثار عارضة من كيفيات الأرواح تارة كالسخونة الحادثة عن الفرح و السرور و من جهة التصورات النفسانية أخرى كالذي يقع من قبل التوهم. فإن الماشي على حرف حائط أو حبل منتصب إذا قوي عنده توهم السقوط سقط بلا شك. و لهذا تجد كثيرا من الناس يعودون أنفسهم ذلك بالدربة عليه حتى يذهب عنهم هذا الوهم فتجدهم يمشون على حرف الحائط و الحبل المنتصب و لا يخافون السقوط. فثبت أن ذلك من آثار النفس الإنسانية و تصورها للسقوط من أجل الوهم. و إذا كان ذلك أثرا للنفس في بدنها من غير الأسباب الجسمانية الطبيعية فجائز أن يكون لها مثل هذا الأثر في غير بدنها إذ نسبتها إلى الأبدان في ذلك النوع من التأثير واحدة لأنها غير حالة في البدن و لا منطبعة فيه فثبت أنها مؤثرة في سائر الأجسام. و أما التفرقة عندهم بين السحر و الطلسمات فهو أن السحر لا يحتاج الساحر فيه إلى معين و صاحب الطلسمات يستعين بروحانيات الكواكب و أسرار الأعداد و خواص الموجودات و أوضاع الفلك المؤثرة في عالم العناصر كما يقول المنجمون و يقولون: السحر اتحاد روح بروح و الطلسم اتحاد روح يجسم و معناه عندهم ربط الطبائع العلوية السماوية بالطبائع السفلية، و الطبائع العلوية هي روحانيات الكواكب و لذلك يستعين صاحبه في غالب الأمر بالنجامة. و الساحر عندهم غير مكتسب لسحره بل هو مفطور عندهم على تلك الجبلة المختصة بذلك النوع من التأثير. و الفرق عندهم بين المعجزة و السحر أن المعجزة قوة إلهية تبعث على النفس ذلك التأثير فهو مؤيد بروح الله على فعله ذلك. و الساحر إنما يفعل ذلك من لدن نفسه و بقوته النفسانية و بإمداد الشياطين في بعض الأحوال فبينهما الفرق في المعقولية و الحقيقة و الذات في نفس الأمر و إنما نستدل نحن على التفرقة بالعلامات الظاهرة و هي وجود المعجزة لصاحب الخير و في مقاصد الخير و للنفوس المتمحصة للخير و التحدي بها على دعوى النبؤة. و السحر إنما يوجد لصاحب الشر و في أفعال الشر في الغالب من التفريق بين الزوجين و ضرر الأعداء و أمثال ذلك. و للنفوس المتمحصة للشر. هذا هو الفرق بينهما عند الحكماء الإلهيين: و قد يوجد لبعض المتصوفة و أصحاب الكرامات تأثير أيضا في أحوال العالم و ليس معدودا من جنس السحر و إنما هو بالإمداد الإلهي لأن طريقتهم و نحلتهم من آثار النبؤة و توابعها و لهم في المدد، الإلهي حفظ على قدر حالهم و إيمانهم و تمسكهم بكلمة الله و إذا اقتدر أحد منهم على أفعال الشر لا يأتيها لأنة متقيد فيما يأتيه بذرة للأمر الإلهي. فما لا يقع لهم فيه الإذن لا يأتونه بوجه و من أتاه منهم فقد عدل عن طريق الحق و ربما سلب حاله. و لما كانت المعجزة بإمداد روح الله و القوى الإلهية فلذلك لا يعارضها شيء من السحر. و انظر شأن سحرة فرعون مع موسى في معجزة العصا كيف تلقفت ما كانوا به يأفكون و ذهب سحرهم و اضمحل كأن لم يكن. و كذلك لما أنزل على النبي صلى الله عليه و سلم في المعوذتين و من شر النفاثات في العقد. قالت عائشة رضي الله عنها: فكان لا يقرأها على عقد في من العقد التي سحر فيها إلا انحلت. فالسحر لا يثبت مع اسم الله و ذكره بالهمة الإيمانية و قد نقل المؤرخون أن زركش كاويان و هي راية كسرى كان فيها الوفق المئيني العددي منسوجا بالذهب في أوضاع فلكية رصدت لذلك الوفق. و وجدت الراية يوم قتل رستم بالقادسية واقعة على الأرض بعد انهزام أهل فارس و شتاتهم. و هو فيما يزعم أهل الطلسمات و الأوفاق مخصوص بالغلب في الحروب و أن الراية التي يكون فيها أو معها لا تنهزم أصلا. إلا أن هذه عارضها المدد الإلهي من إيمان أصحاب رسول الله صلى الله علية و سلم و تمسكهم بكلمة الله فانحل معها كل عقد سحري و لم يثبت و يطل ما كانوا يعملون. و أما الشريعة فلم تفرق بين السحر و الطلسمات و جعلته كله بابا واحدا محظورا. لأن الأفعال إنما أباح لنا الشارع منها ما يهمنا في ديننا الذي فيه صلاح آخرتنا أو في معاشنا الذي فيه صلاح دنيانا و ما لا يهمنا في شيء منهما فإن كان فيه ضرر أو نوع ضرر كالسحر الحاصل ضرره بالوقوع و يلحق به الطلسمات لأن أثرهما واحد و كالنجامة التي فيها نوع ضرر باعتقاد التأثير فتفسد العقيدة الإيمانية برد الأمور إلى غير الله فيكون حينئذ ذلك الفعل محظورا على نسبته في الضرر. و إن لم يكن مهما علينا و لا فيه ضرر فلا أقل من تركه قربة إلى الله فإن من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه. فجعلت الشريعة باب السحر والطلسمات و الشعوذة بابا واحدا لما فيها من الضرر و خصته بالحظر و التحريم. و أما الفرق عندهم بين المعجزة و السحر فالذي ذكره المتكلمون أنة راجع إلى التحدي و هو دعوى وقوعها على وفق ما ادعاه. قالوا: و الساحر مصروف عن مثل هذا التحدي فلا يقع منه. و وقوع المعجزة على وفق دعوى الكاذب غير مقدور لأن دلالة المعجزة على الصدق عقلية لأن صفة نفسها التصديق فلو وقعت مع الكذب لاستحال الصادق كاذبا و هو محال فإذا لا تقع المعجزة مع الكاذب بإطلاق. و أما الحكماء فالفرق بينهما عندهم كما ذكرناه فرق ما بين الخير و الشر في نهاية الطرفين. فالساحر لا يصدر منه الخير و لا يستعمل في أسباب الخير و صاحب المعجزة لا يصدر منه الشر و لا يستعمل في أسباب الشر و كأنهما على طرفي النقيض في أصل فطرتهما. و الله يهدي من يشاء و هو القوي العزيز لا رب سواه و من قبيل هذه التأثيرات النفسية الإصابة بالعين و هو تأثير من نفس المعيان عندما يستحسن بعينه مدركا من الذوات أو الأحوال و يفرط في استحسانه و ينشأ عن ذلك الاستحسان حسد يروم معه سلب ذلك الشيء عمن اتصف به فيؤثر فساده. و هو جبلة فطرية أعني هذه الإصابة بالعين. و الفرق بينها و بين التأثيرات النفسانية أن صدورة فطري جبلي لا يتخلف و لا يرجع اختيار صاحبه و لا يكتسبه. و سائر التأثيرات و إن كان منها مالا يكتسب فصدورها راجع إلى اختيار فاعلها و الفطري منها قوة صدورها و لهذا قالوا: القاتل بالسحر أو بالكرامة يقتل و القاتل بالعين لا يقتل. و ما ذلك إلا أنه ليس مما يريده و يقصده أو يتركه و إنما هو مجبور في صدوره عنه. و الله أعلم بما في الغيوب و مطلع على ما في السرائر.
القسم الأول من الفصل التاسع و العشرون: علم أسرار الحروف و هو المسمى لهذا العهد بالسيميا. نقل وضعه من الطلسمات إليه في اصطلاح أهل التصرف من المتصوفة، فاستعمل استعمال العام في الخاص. و حدث هذا العلم في الملة بعد صدر منها، و عند ظهور الغلاة من المتصوفة و جنوحهم إلى كشف حجاب الحس، و ظهور الخوارق على أيديهم و التصرفات في عالم العناصر، و تدوين الكتب و الاصطلاحات، و مزاعمهم في تنزل الوجود عن الواحد و ترتيبه. و زعموا أن الكمال الإسمائي مظاهره أرواح الأفلاك و الكواكب، و أن طبائع الحروف و أسرارها سارية في الأسماء، فهي سارية في الأكوان على هذا النظام. و الأكوان من لدن الإبداع الأول تتنقل في أطواره و تعرب عن أسراره، فحدث لذلك علم أسرار الحروف، و هو من تفاريع علم السيمياء لا يوقف على موضوعه و لا تحاط بالعدد مسائله. تعددت فيه تآليف البوني و ابن العربي و غيرهما ممن اتبع آثارهما. و حاصلة عندهم و ثمرته تصرف النفوس الربانية في عالم الطبيعة بالأسماء الحسنى و الكلمات الإلهية الناشئة عن الحروف المحيطة بالأسرار السارية في الأكوان. ثم اختلفوا في سر التصرف الذي في الحروف بما هو: فمنهم من جعله للمزاج الذي فيه، و قسم الحروف بقسمة الطبائع إلى أربعة أصناف كما للعناصر. و اختصت كل طبيعة بصنف من الحروف يقع التصرف في طبيعتها فعلا و انفعالا بذلك الصنف، فتنوعت الحروف بقانون صناعي يسمونه التكسير إلى نارية و هوائية و مائية و ترابية على حسب تنوع العناصر، فالألف للنار و الباء للهواء والجيم للماء والدال للتراب. ثم ترجع كذلك على التوالي من الحروف و العناصر إلى أن تنفذ. فتعين لعنصر النار حروف سبعة: الألف و الهاء و الطاء و الميم و الفاء والسين و الذال، و تعين لعنصر الهواء سبعة أيضا: الباء و الواو و الياء و النون و الضاد والتاء و الظاء، و تعين لعنصر الماء أيضا سبعة: الجيم و الزاي و الكاف و الصاد والقاف و الثاء و الغين، و تعين لعنصر التراب أيضا سبعة: الدال و الحاء و اللام و العين و الراء و الخاء و الشين. و الحروف النارية لدفع الأمراض الباردة و لمضاعفة قوة الحرارة حيث تطلب مضاعفتها، إما حسا أو حكما. كما في تضيف قوى المريخ في الحروب في القتل و الفتك. و المائية أيضا لدفع الأمراض الحارة من حميات و غيرها و لتضعيف القوى الباردة حيث تطلب مضاعفتها حسا أو حكما، كتضعيف قوى القمر و أمثال ذلك. و منهم من جعل سر التصرف الذي في الحروف للنسبة العددية: فإن حروف أبجد دالة على أعدادها المتعارفة وضعا و طبعا فبينها من أجل تناسب الأعداد تناسب في نفسها أيضا، كما بين الباء و الكاف و الراء لدلالتها كلها على الاثنين كل في مرتبته، فالباء على اثنين في مرتبة الآحاد، و الكاف على اثنين في مرتبة العشرات، و الراء على اثنين في مرتبة المئين. و كالذي بينها و بين الدال و الميم والتاء لدلالتها على الأربعة، و بين الأربعة و الاثنين نسبة الضعف. و خرج للأسماء أوفاق كما للأعداد يختص كل صنف من الحروف بصنف من الأوفاق الذي يناسبه من حيث عدد الشكل أو عدد الحروف، و امتزج التصرف من السر الحرفي و السر العددي لأجل التناسب الذي بينهما. فأما سر التناسب الذي بين هذه الحروف و أمزجة الطبائع، أو بين الحروف و الأعداد، فأمر عسير على الفهم، إذ ليس من قبيل العلوم و القياسات، و إنما مستندهم فيه الذوق و الكشف. قال البوني: و لا تظن أن سر الحروف مما يتوصل إليه بالقياس العقلي، و إنما هو بطريق المشاهدة و التوفيق الإلهي. و أما التصرف في عالم الطبيعة بهذه الحروف و الأسماء المركبة فيها و تأثر الأكوان عن ذلك فأمر لا ينكر لثبوته عن كثير منهم تواترا. و قد يظن أن تصرف هؤلاء و تصرف أصحاب الطلسمات واحد، و ليس كذلك، فإن حقيقة الطلسم و تأثيره على ما حققه أهله أنة قوى روحانية من جوهر القهر، تفعل فيما له ركب فعل غلبة و قهر. بأسرار فلكية و نسب عددية و بخورات جالبات لروحانية ذلك الطلسم، مشدودة فيه بالهمة، فائدتها ربط الطبائع العلوية بالطبائع السفلية، و هو عندهم كالخميرة المركبة من هوائية و أرضية و مائية و نارية حاصلة في جملتها، تخيل و تصرف ما حصلت فيه إلى ذاتها و تقلبه إلى صورتها. و كذلك الإكسير للأجسام المعدنية كالخميرة تقلب المعدن الذي تسري فيه إلى نفسها بالإحالة. و لذلك يقولون: موضوع الكمياء جسد في جسد لأن الإكسير أجزاؤه كلها جسدانية. و يقولون: موضوع الطلسم روح في جسد لأنه ربط الطبائع العلوية بالطبائع السفلية. و الطبائع السفلية جسد و الطبائع العلوية روحانية. و تحقيق الفرق بين تصرف أهل الطلسمات و أهل الأسماء، بعد أن تعلم أن التصرف في عالم الطبيعة كله إنما هو للنفس الإنسانية والهمم البشرية أن النفس الإنسانية محيطة بالطبيعة و حاكمة عليها با الذات، إلا أن تصرف أهل الطلسمات إنما هو في استنزال روحانية الأفلاك و ربطها بالصور أو بالنسب العددية. حتى يحصل من ذلك نوع مزاج يفعل الإحالة و القلب بطبيعته، فعل الخميرة فيما حصلت فيه. و تصرف أصحاب الأسماء إنما هو بما حصل لهم بالمجاهدة و الكشف من النور الإلهي و الإمداد الرباني، فيسخر الطبيعة لذلك طائعة غير مستعصية، و لا يحتاج إلى مدد من القوى الفلكية و لا غيرها، لأن مدده أعلى منها. و يحتاج أهل الطلسمات إلى قليل من الرياضة تفيد النفس قوة على استنزال روحانية الأفلاك. و أهون بها وجهة و رياضة. بخلاف أهل الأسماء فإن رياضتهم هي الرياضة الكبرى، و ليست لقصد التصرف في الأكوان إذ هو حجاب. و إنما التصرف حاصل لهم بالعرض، كرامة من كرامات الله لهم. فإن خلا صاحب الأسماء عن معرفة أسرار الله و حقائق الملكوت، الذي هو نتيجة المشاهدة والكشف، و اقتصر على مناسبات الأسماء و طبائع الحروف و الكلمات. و تصرف بها من هذه الحيثية و هؤلاء هم أهل السيياء في المشهور كأن إذا لا فرق بينه و بين صاحب الطلسمات، بل صاحب الطلسمات أوثق منه لأنه يرجع إلى أصول طبيعية علمية و قوانين مرتبة. و أما صاحب أسرار الأسماء إذا فاته الكشف الذي يطلع به على حقائق الكلمات و آثار المناسبات بفوات الخلوص في الوجهة، و ليس له في العلوم الاصطلاحية قانون برهاني يعول عليه يكون حاله أضعف رتبة. و قد يمزج صاحب الأسماء قوى الكلمات و الأسماء بقوى الكواكب، فيعين لذكر الأسماء الحسنى، أو ما يرسم من أوفاقها، بل و لسائر الأسماء، أوقاتا تكون من حظوظ الكواكب الذي يناسب ذلك الاسم، كما فعله البوني في كتايه الذي سماه الأنماط. و هذه المناسبة عندهم هي من لدن الحضرة العمائية. و هي برزخية الكمال الأسماني. و إنما تنزل تفصيلها في الحقائق على ما هي عليه من المناسبة. و إثبات هذه المناسبة عندهم إنما هو بحكم المشاهدة. فإذا خلا صاحب الأسماء عن تلك المشاهدة، و تلقى تلك المناسبة تقليدا، كان عمله بمثابة عمل صاجب الطلسم، بل هوأوثق منه كما قلناه. و كذلك قد يمزج أيضا صاحب الطلسمات عمله و قوى كواكبه بقوى الدعوات المؤلفة من الكلمات المخصوصة لمناسبة بين الكلمات و الكواكب، إلا أن مناسبة الكلمات عندهم ليست كما هي عند أصحاب الأسماء من الاطلاع في حال المشاهدة، و إنما يرجع إلى ما اقتضته أصول طريقتهم السحرية. من اقتسام الكواكب لجميع ما في عالم المكونات، من جواهر و أعراض و ذوات و معان، و الحروف و الأسماء من جملة ما فيه. فلكل واحد من الكواكب قسم منها يخصه، و يبنون على ذلك مباني غريبة منكرة من تقسيم سورالقرآن و آيه على هذا النحو، كما فعله مسلمة المجريطي في الغاية. و الظاهر من حال البوني في أنماطه أنه اعتبر طريقتهم. فإن تلك الأنماط إذا تصفحتها، و تصفحت الدعوات التي تضمنتها. و تقسيمها على ساعات الكواكب السبعة، ثم وقفت على الغاية، و تصفحت قيامات الكواكب التي فيها، و هي الدعوات التي تختص بكل كوكب، و يسمونها قيامات الكواكب، أي الدعوة التي يقام له بها، شهد له ذلك: إما بأنه من مادتها، أو بأن التناسب الذي كان في أصل الإبداع و برزخ العلم قضى بذلك كله. و ما أوتيتم من العلم إلا قليلا. و ليس كل ما حرمه الشارع من العلوم بمنكر الثبوت، فقد ثبت أن السحر حق مع حظره. لكن حسبنا من العلم ما علمنا. و من فروع علم السيمياء عندهم استخراج الأجوبة من الأسئلة، بارتباطات ش بين الكلمات حرفية، يوهمون أنها أصل في معرفة ما يحاولون علمه من الكائنات الاستقبالية، و إنما هي شبه المعاياة و المسائل السيالة. و لهم في ذلك كلام كثير من أدعية و أوراد. و أعجبه زايرجة العالم للسبتي و قد تقدم ذكرها. و نبين هنا ما ذكروه في كيفية العمل بتلك الزايرجة بدائرتها و جدولها المكتوب حولها، ثم نكشف عن الحق فيها و أنها ليست من الغيب. و إنما هي مطابقة بين مسئلة و جوابها في الإفادة فقط، و قد أشرنا إلى ذلك من قبل. و ليس عندنا رواية يعول عليها في صحة هذه القصيدة إلا أننا تحرينا أصح النسخ منها في ظاهر الأمر. و الله الموفق بمنه. و هي هذه: يقول سبيتي و يحمد ربه مصل على هاد إلى الناس أرسلا محمد المبعوث خاتم الأنبيا و يرضى عن الصحب و من لهم تلا ألا هذه زايرجة العالم الذي تراه بحيكم و بالعقل قد خلا فمن أحكم الوضع فيحكم جسمه و يدرك أحكاما تدبرها العلا و من أحكم الربط فيدرك قوة و يدرك للتقوى و للكل حاصل ومن أحكم التصريف يحكم سره و يعقل نفسه و صح له الولا و في عالم الأمر تراه محققا و هذا مقام من بالأذكار كملا فهذي سرائر عليكم بكتمها أقمها دوائر وللحاء عدلا فطاء لها عرش و فيظ نقوشنا بنظم و نثر قبد تراه مجدولا و نسب دوائر كنسبة فلكها و ارسم كواكبا لأدراجها العلا و أخرج لأوتار و ارسم حروفها و كور بمثله على حد من خلا أقم شكل زيرهم و سو بيوته و حقق بهامهم و نورهم جلا و حصل علوما للطباع مهندسا و علما لموسيقى و الأرباع مثلا و سو لموسيقى و علم حروفهم و علم بآلات فحقق و حصلا و سو دوائرها و نسب حروفها و عالمها أطلق و الأقليم جدولا أمير لنا فهو نهاية دولة زناتية آبت و حكم لها خلا و قطر لأندلس فابن لهودهم و جاء بنو نصر و ظفرهم تلا ملوك و فرسان و أهل لحكمة فإن شئت نصبتهم و قطرهم حلا و مهدي توحيد بتونس حكمهم ملوك بالمشرق بالأوفاق نزلا و اقسم على القطر و كن متفقدا فإن شئت للروم فبالحر شكلا ففنش و برشنون الراء حرفهم و إفرنسهم دال و بالطاء كملا ملوك كناوة دلوا لقافهم و إعرب قومنا بترقيق أعملا فهند حباشي و سند فهرمس و فرس ططاري و ما بعدهم طلا فقيصرهم جاء و يزدجردهم لكاف و قبطهم بلامه طولا و عباس كلهم شريف معظم و لكن تركي بذا الفعل عطلا فإن شئت تدقيق الملوك و كلهم فختم بيوتا ثم نسب و جدولا على حكم قانون الحروف و علمها و علم طبائعها و كله مثلا فمن علم العلوم تعلم علمنا و يعلم أسرار الوجود و أكملا فيرسخ علمه و يعرف ربه و علم ملاحيم بحاميم فصلا و حيث أتى اسم و العروض يشقه فحكم الحكيم فيه قطهعا ليقتلا و تأتيك أحرف فسو لضربها و أحرف سيبويه تأتيك فيصلا فمكن بتنكير و قابل و عوضن بترنيمك الغالي للأجزاء خلخلا و في العقد و المجزور يعرف غالبا و زد لمح وصفيه في العقل فعلا و اختر لمطلع و سويه رتبة و اعكس بجذبيه و بالدور عدلا ؟ و يدركها المرء فيبلغ قصده و تعطي حروفها و في نظمها انجلا إذا كان سعد و الكواكب اسعدت فحسبك في الملك و نيل اسمه العلا و إيقاع دالهم بمرموز ثممة فنسب دنادينا تجد فيه منهلا و أوتار زيرهم فللحاء بمهم و مثناهم المثلث بجيمه قد جلا و أدخل بأفلاك و عدل بجدول و أرسم أباجاد و باقيه جملا و جوز شذوذ النو تجري و مثله أتى في عروض الشعر عن جملة ملا فأصل لديننا و أصل لفقهنا و علم لنحونا فاحفظ و حصلا فادخل لفسطاط على الوفق جذره و سبح باسمه و كبر و هللا فتخرج أبياتا و في كل مطلب بنظم طبيعي و سر من العلا و تفنى بحصرها كذا حكم عدهم فعلم الفواتيح ترى فيه منهلا فتخرج أبياتا و عشرون ضعفت من الألف طبعيا فيا صاح جدولا تريك صنائعا من الضرب أكملت فصح لك المنى و صح لك العلا و سجع بزيرهم و أثني بنقرة أقمها دوائر الزير و حصلا أقمها بأوفاق و أصل لعدها من أسرار أحرفهم فعذبه سلسلا 43 ك 1 ك و ك ح و ا ه عم له ر لا سع كط 1 ل م ن ح ع ف و ل
الفصل التاسع و العشرون: علم أسرار الحروف القسم الثاني
الكلام على استخراج نسبة الأوزان و كيفياتها و مقادير المقابل منها و قوة الدرجة المتميزة بالنسبة إلى موضع المعلق من امتزاج طبائع و علم طب أو صناعة الكيميا أيا طالبا للطب مع علم جابر و عالم مقدار المقادير بالولا إذا شئت علم الطب لابد نسبة لأحكام ميزان تصادف منهلا فيشفي عليكم و الأكسير محكم و أمزاج وضعكم بتصحيح أنجلا الطب الروحاني و شئت إيلاوش 565 ـهـ و دهنه بحلا لبهرام برجيس و سبعة أكملا لتحليل أوجاع البوارد صححوا كذلك و التركيب حيث تنقلا كد منع مهم 355 و هح 6 صح لهاى و لمح 1 آ 1 و هح وى سكره لا ل ح مههت مهههـ ع ع مى مرح حـ 2242 ل ك عا عر. مطاريح الشعاعات في مواليد الملوك و بنيهم و علم مطاريح الشعاعات مشكل و ضلع قسيها بمنطقة جلا و لكن قي حج مقام إمامنا و يبدو إذا عرض الكواكب عدلا بدال مراكز بين طول و عرضها فمن أدرك المعنى علا ثم فوضلا مواقع تربيع و سه مسقط لتسديسهم تثليث بيت التي تلا يزاد لتربيع و هذا قياسه يقينا و جذره و بالعين أعملا و من نسبة الربعين ركب شعاعك بصاد و ضعفه و تربيعه أنجلا اختص صح صحـ عـ 8 سع وى هذا العمل هنا للملوك و القانون مطرد عمله و لم ير أعجب منه. مقامات الملوك المقام الأول 5 المقام الثاني ع ع و المقام الرا بع للح المقام الخامس لاى المقام السادس بير المقام السابع عره خط الاتصال و الانفصال خط الاتصال خط الانفصال الوتر للجميع و تابع الجرر التام الاتصال و الانفصال الواجب التام في الاتصالات إقامة الأنوار الجزر المجيب في العمل إقامة السوال عن الملوك مقام الأولا نورعه ي مقام بها 5 حج لا الانفعال الروحاني و الا نقياد الرباني أيا طالب السر لتهليل ربه لدى أسمائه الحسنى تصادف منهلا تطيعك أخيار الأنام بقلبهم كذلك ريسهم و في الشمس أعملا ترى عامة الناس إليك تقيدوا و ما قلته حقا و في الغير أهملا طريقك هذا السيل و السبل الذي أقوله غيركم و نصركموا اجتلى إذا شئت تحيا في الوجود مع التقى و دينا متينا أو تكن متوصلا كذي النون و الجنيد مع سر صنعة و في سر بسطام أراك مسربلا و في العالم العلوي تكون محدثا كذا قالت الهند و صوفية الملا طريق رسول الله بالحق ساطع و ما حكم صنع مثل جبريل أنزلا فبطشك تهليل و قوسك مطلع و يوم الخميس البدء و الأحدانجلى و في جمعة أيضا بالأسماء مثله و في اثنين للحسنى تكون مكملا و في طائه سر في هائه إذا أراك بها مع نسبة الكل أعطلا و ساعة سعد شرطهم في نقوشها و عود و مصطكى بخور تحصلا و تتلو عليها آخر الحشر دعوة و الاخلاص و السبع المثاني مرتلا اتصال أنوار الكواكب بلعاني لا هي ى لا ظ غ لدسع ق صح مـ ف و ى و في يدك اليمنى حديد و خاتم و كل برأسك و في دعوة فلا و آية حشر فاجعل القلب وجهها و اتلو إذا نام الأنام و رتلا هي السر في الأكوان لا شيء غيرها هي الآية الغظمى فحقق و حصلا تكون بها قطبا إذا جدت خدمة و تدرك أسرارا من العالم العلا سري بها ناجي و معروف قبله و باح بها الحلاج جهرا فأعقلا ؟ و كان بها الشبلي يدأب دائما إلى أن رقى فوق المريدين و اعتلى فصف من الأدناس قلبك جاهدا و لازم لاذكار و صم و تنقلا فما نال سر القوم إلا محقق عليم بأسرار العلوم محصلا مقامات المحبة و ميل النفوس و المجاهدة و الطاعة و العبادة و حب و تعشق و فناء الفناء و توجه و مراقبة و خلة و أئمة الانفعال الطبيعي لبرجيس في المحبة الوفق صرفوا بقزدير أو نحاس الخلط أكملا و قيل بفضة صحيحا رأيته فجعلك طالعا خطوطه ما علا توخ به زيادة النور للقمر و جعلك للقبول شمسه أصلا و يومه و البخور عود لهندهم و وقت لساعة و دعوته ألا و دعوته بغاية فهي أعملت و عن طسيمان دعوة و لها جلا و قيل بدعوة حروف لوضعها بحر هواء أو مطالب أهلا فتنقش أحرفا بدال و لامها و ذلك وفق للمربع حصلا إذا لم يكن يهوى هواك دلالها فدال ليبدو واو زينب معطلا فحسن لبائه و بائهم إذا هواك و باقيهم قليلة جملا و نقش مشاكل بشرط لوضعهم و ما زدت أنسبه لفعلك عدلا و مفتاح مريم ففعلهما سوا فبوري و بسطامي بسورتها تلا و جعلك بالقصد و كن متفقدا أدلة و حشي لقبضة ميلا فاعكس بيوتها بألف و نيف فباطنها سر و في سرها انجلا فصل في المقامات للنهاية لك الغيب صورة من العالم العلا و توجدها دار أو ملبسها الحلا و يوسف في الحسن و هذا شبيهه بنثر و ترتيل حقيقة أنزلا و في يده طول و في الغيب ناطق فيحكى إلى عود يجاوب بلبلا و قد جن بهلول بعشق جمالها و عند تجليها لبسطام أخذلا و مات أجليه و أشرب حبها جنيد و بصرى و الجسم أهملا فتطلب في التهليل غايته و من بأسمائه الحسنى بلا نسبة خلا و من صاحب الحسنى له الفوز بالمنى و يسهم بالزلفى لدى جيرة العلا و تخبر بالغيب إذا جدت خدمة تريك عجائبا بمن كان موئلا فهذا هو الفوز و حسن تناله و منها زيادات لتفسيرها تلا الوصية و التختم و الإيمان و الإسلام و التحريم و الأهلية فهذا قصيدنا و تسعون عده و ما زاد خطبة و ختما و جدولا عجبت لأبيات و تسعون عدها تولد أبياتا و ما حصرها انجلا فمن فهم السر فيفهم نفسه و يفهم تفسيرا تشابه أشكلا حرام و شرعي لاظهار سرنا لناس و إن خصوا و كان التأهلا فإن شئت أهليه فغلظ يمينهم و تفهم برحلة و دين تطولا لعلك أن تنجو و سامع سرهم من القطع و الافشا فترأس بالعلا فنجل لعباس لسره كاتم فنال سعادات و تابعه علا و قام رسول الله في الناس خاطبا فمن يرأس عرشا فذلك أكملا و قد ركب الأرواح أجساد مظهر فآلت لقتلهم بدق تطولا إلى العالم العلوي يفنى فناؤنا و يلبس أثواب الوجود على الولا فقد تم نظما و صلى إلهنا على خاتم الرسل صلاة بها العلا و صلى إله العرش ذو المجد و العلا على سيد ساد الأنام و كملا محمد الهادي الشفيع إمامنا و أصحابه أهل المكارم و العلا