منحة القريب المجيب في الرد على عباد الصليب/المقام الأول

  ►المقدمة المقام الأول المقام الثاني ◄  


المقام الأول


قال النصراني: "فصل في ابتداء ظهور دين الإسلام: معلوم مشهور مما وجد مسطورا في كتب التواريخ، وأخبار أحوال الزمان أن التقوى الصحيحة الخالصة التي شهرت أولا في المسيحيين حين كانوا مبتلين بأشد البلايا، ومظلومين في غاية الظلم، قد أخذت أن تنقص أولا فأول بعد أن كان بواسطة قسطنطين ومن بعده من الملوك، وصار ذلك الاعتقاد ليس أمنا فقط بل ومكرا".

ثم ذكر أن سبب ذلك هو الاختلاف والفتن بين الأساقفة من أجل الرئاسة وعلو المرتبة، إذ قدموا الافتخار بالعلم على تقوى الله، وجعلوا الدين حيلة، وأن ذلك صار سبب اختلاف الأقوال والآراء.

قال: "وإذا رأى عامة الناس ذلك لم يدروا ما يختارون لأنفسهم، يلومون الكتب المقدسة كأنها سبب تلك الفتنة، وينفرون عنها كأنها سم زعاف. وأما فغالب الأمر قد بدا الدين أن يجعل ليس في طهارة النفس بل في ظاهر السنن، كما صار في اليهودية وفي حفظ الأشياء التي مقصودها تهذيب الأبدان أكثر من صلاح الأنفس بها، وفي السعي في إثبات الدعاوى التي اختاروها. والذي آل الأمر إليه أنه قد وجد في جميع البلاد عدة من المسيحيين اسما، وأقل من القليل حقا وفعلا" إلى آخر كلامه الآتي.

ونقول، وبالله التوفيق:

حقيقة ما ذكره هو الاعتراف بتبديل النصارى دين المسيح عليه السلام وتغييرهم له وتفرقهم فيه في تلك الأزمان القريبة من زمن المسيح عليه السلام، فهو من الحجج على صحة نبوة محمد ، لأنها قد مضت سنة الله في خلقه ببعثة الرسل عند خفاء الحق وظهور الضلال إعذارا وإنذارا: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}.

فأرسل تبارك وتعالى الرسل في بني آدم جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن، كلما درست رسالة رسول وخفيت آثارها بعث رسولا بتجديد الرسالة وإقامة الحجة، إلى أن وصلت النبوة إلى بني إسرائيل، فبعث الله فيهم عبده ورسوله الكريم ونجيه المقرب الكليم موسى بن عمران -عليه الصلاة والتسليم-، وأنزل عليه التوراة فيها هدى ونور، يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار، فساسهم موسى عليه السلام بسياسة النبوة، وشرع لهم شرائع الدين، وحد لهم حدوده.

ثم كانت فيهم الأنبياء بعده تسوسهم بأحكام التوراة وشريعة موسى، ثم حدثت فيهم الأحداث، وتفرقوا في الدين، واتبعوا الأهواء، وتقطعوا أمرهم بينهم زبرا، وأفسدوا في الأرض، وتعدوا حدود الله، وغيروا دينه، وقتلوا أنبياءه، فسلط عليهم الأعداء مرة بعد أخرى، فجاسوا خلال ديارهم، وتبروا ما علوا تتبيرا.

وفي كل ذلك يبعث الله فيهم الأنبياء ويجدون لهم ما درس من الدين ويقيمون ما غيروا، إلى أن كان آخر أنبيائهم عبد الله ورسوله وكلمته عيسى ابن مريم عليهما السلام، فجدد لهم الدين، وبين معالمه، ودعاهم إلى عبادة الله وحده والتبري من الأحداث والآراء الباطلة، فعادوه، وكذبوه، ورموه بالعظائم، وراموا قتله وصلبه فطهره الله، ورفعه، فلم يصلوا إليه بسوء. كما سيأتي تفصيل القصة فيما بعد إن شاء الله تعالى.

فلما رفع تفرق أتباعه شيعا، فمنهم من آمن بما بعثه الله به، وأنه عبد الله ورسوله، وابن أمته، ومنهم من غلا فيه وتجاوز به حد العبودية إلى منزلة الربوبية والإلهية، وقد حكى الله عنهم في كتابه ثلاث مقالات من الكفر، فقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} وقال تعالى: {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ}.

وقد اختلف العلماء في هذه المقالات الثلاث التي ذكرها الله عن النصارى: هل هي مقالات لثلاث طوائف منهم أو أنها مقالة لجميعهم؛ أعني: كفرت النصارى على قولين. والتحقيق الثاني كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى.

واعلم أن النصارى من أجهل الناس بالعلم الصحيح، وأضلهم في أصول دينهم وفروعه، وهم وإن ادعوا أنهم على دين عيسى عليه السلام، وأنهم أتباعه، وعلى شريعته، فقد كذبوا وضلوا ضلالا بعيدا، بل بدلوا دين عيسى وغيروه، ولم يبق بأيديهم منه شيء، وإنما اتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل.

وسنذكر -بعون الله- ما ذكر علماؤنا الذين هم أهل العلم الصحيح، والعقل الرجيح، والتمييز بين صحيح النقل وسقيمه ومقبوله ومردوده. ما نقل إليهم من أمر هذه الأمة الضالة في ابتداء أمرها، ووصل إليهم علمه من ثقات المخبرين من مؤرخي أهل الكتاب وغيرهم ممن له تمام المعرفة بأيامهم واجتماعهم وافتراقهم.

ونبدأ بذكر حديث في ذلك عن النبي تيمنا وتبركا، قال الإمام الحافظ عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي: حدثنا إسحاق ابن أبي حمزة أبو يعقوب الرازي قال: حدثنا السري بن عبد ربه، حدثنا بكير بن معروف، عن مقاتل بن حيان، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «قال لي رسول الله : يا ابن مسعود. قلت: لبيك يا رسول الله، قال: علمت أن بني إسرائيل تفرقوا على اثنتين وسبعين فرقة لم ينج منها إلا ثلاث فرق، قامت بين الملوك والجبابرة بعد عيسى ابن مريم عليه السلام، فدعت إلى دين الله، ودين عيسى ابن مريم، فقاتلت الجبابرة، فقتلت وصبرت ونجت، ثم قامت طائفة أخرى لم تكن لها قوة بالقتال، فقامت بين الملوك والجبابرة تدعو إلى دين الله، ودين عيسى ابن مريم، فقتلت، وقطعت بالمناشير، وحرقت بالنيران، فصبرت ونجت. ثم قامت طائفة أخرى لم تكن لها قوة بالقتال، ولم تطق القيام بالقسط، فلحقت بالجبال، فتعبدت، وترهبت، وهم الذين ذكرهم الله عز وجل بقوله: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} ». ورواه ابن جرير وأبو يعلى من طريق أخرى.

وقال ابن كثير: روي عن قتادة قال: "اجتمع بنو إسرائيل، فأخرجوا أربعة نفر، أخرج كل قوم عالمهم، فامتروا في عيسى حين رفع. فقال بعضهم: هو الله هبط إلى الأرض، فأحيا من أحيا، وأمات من أمات، ثم صعد إلى السماء، وهم اليعقوبية. فقال الثلاثة: كذبت، ثم قال الاثنان منهم للثالث: قل أنت، قال: هو ابن الله، وهم النسطورية. فقال الاثنان: كذبت. ثم قال أحد الاثنين للآخر: قل فيه، قال: هو ثالث ثلاثة: الله إله، وهو إله، وأمه إله، وهم الإسرائيلية ملوك النصارى. فقال الرابع: كذبت. هو عبد الله ورسوله، وروحه، وكلمته، وهم المسلمون. فكان لكل رجل منهم أتباع على ما قالوا، فاقتتلوا، فظهروا على المسلمين، وذلك قوله تعالى: {وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ}. قال قتادة: وهم الذين قال الله فيهم: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ}. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن عروة بن الزبير عن بعض أهل العلم قريبا من ذلك. 1

قال ابن كثير بعد أن ذكر مقالاتهم الثلاث: فاستمروا كذلك قريبا من ثلاثمائة سنة. ثم نبغ فيهم ملك من ملوك اليونان يقال له: قسطنطين، فدخل في دين النصرانية، قيل: حيلة؛ ليفسده، فإنه كان فيلسوفا، وقيل: جهلا منه. إلا أنه بدل دين المسيح، وحرفه، وزاد فيه ونقص، ووضعت له القوانين والأمانة الكبيرة، بل هي الخيانة الحقيرة، وصلوا له إلى المشرق، وصور لهم الصور، وبنى لهم الكنائس والمعابد والصوامع، وزاد في صيامهم عشرة أيام من أجل ذنب ارتكبه فيما يزعمون، وصار دين المسيح دين قسطنطين، لأنه بنى لهم من الكنائس والمعابد والصوامع والديارات ما يزيد على اثني عشر ألف معبد، وبنى المدينة المنسوبة إليه، وتبعته طائفته الملكية منهم. 2

وأخرج النسائي في سننه وابن جرير في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت ملوك بعد عيسى عليه السلام بدلوا التوراة والإنجيل، وكان بينهم مؤمنون يقرؤون التوراة والإنجيل، فقيل لملوكهم: ما نجد شتما أشد من شتم يشتمونا هؤلاء، إنهم يقرؤون: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} مع ما يعيبونا به في أعمالنا في قراءتهم، فادعهم، فليقرؤوا كما نقرأ، وليؤمنوا كما نؤمن. فدعاهم، فعرض عليهم القتل، أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل إلا ما بدلوا فيها، فقالوا: ما تريدون إلى ذلك، دعونا. فقالت طائفة منهم: ابنوا لنا أسطوانا، ثم ارفعونا إليها، ثم أعطونا شيئا نرفع به طعامنا وشرابنا، ولا نرد عليكم. وقالت طائفة منهم: دعونا نسيح في الأرض، ونهيم ونشرب كما يشرب الوحش، فإن قدرتم علينا في أرضكم فاقتلونا. وقالت طائفة: ابنوا لنا دورا في الفيافي، ونحتفر الآبار، ونحترث البقول، ولا نرد عليكم، ولا نمر بكم، وليس أحد من القبائل إلا وله فيهم حميم. ففعلوا ذلك، فأنزل الله: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا}. وآخرون قالوا: نتعبد كما تعبد فلان ونسيح كما ساح فلان، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم، فلما بعث النبي ولم يبق منهم إلا القليل انحط رجل من صومعته، وجاء رجل من سياحته، وصاحب الدير من ديره، فآمنوا به وصدقوه، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ}، يعني: أجرين بإيمانهم بعيسى عليه السلام وبالتوراة والإنجيل، وبإيمانهم بمحمد وتصديقهم {وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} القرآن واتباعهم النبي قال: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} الذين يتشبهون بكم: {أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.


وقد ذكر الإمام العلامة أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن القيم طرفا من شرح هذه الجملة، وأن دين المسيح تناسخ واضمحل. قال:

ولم يبق بأيدي النصارى منه شيء، بل ركبوا دينا بين دين المسيح ودين الفلاسفة عباد الأصنام، وراموا بذلك أن يتلطفوا للأمم حتى يدخلوا في النصرانية. فنقلوهم من عبادة الأصنام المجسدة إلى الصور التي لا أصل لها، ونقلوهم من السجود للشمس إلى السجود إلى جهة المشرق، ونقلوهم من القول باتحاد العاقل والمعقول والعقل إلى القول باتحاد الأب والابن وروح القدس. هذا ومعهم بقايا من دين المسيح كالختان والاغتسال من الجنابة وتعظيم السبت وتحريم الخنزير وتحريم ما حرمته التوراة إلا ما أحل لهم بنص الإنجيل، ثم تناسخت الشريعة إلى أن استحلوا الخنزير، وأحلوا السبت وعوضوا منه يوم الأحد، وتركوا الختان والاغتسال من الجنابة. وكان المسيح يصلي إلى بيت المقدس فصلوا هم إلى المشرق، ولم يعظم المسيح صليبا قط فعظموا هم الصليب وعبدوه، ولم يصم المسيح صومهم هذا أبدا ولا شرعه ولا أمر به البتة، بل هم وضعوه على العدد ونقلوه إلى زمن الربيع، فجعلوا ما زادوا فيه من العدد عوضا عن نقله من الشهور الهلالية إلى الشهور الرومية؛ وتعبدوا بالنجاسات وكان المسيح في غاية الطهارة والطيب والنظافة وأبعد الخلق عن النجاسة، فقصدوا بذلك تغيير دين اليهود ومراغمتهم، فغيروا دين المسي وتقربوا إلى الفلاسفة عباد الأصنام بأن وافقوهم في بعض الأمر ليرضوهم به وليستنصروا بذلك على اليهود.


ولما أخذ دين المسيح في التغير والفساد اجتمعت النصارى عدة مجامع تزيد على ثمانين مجمعا. ثم تفرقوا على الاختلاف والتلاعن يلعن بعضهم بعضا، حتى قال فيهم بعض العقلاء: لو اجتمع عشرة من النصارى يتكلمون في حقيقة ما هم عليه لتفرقوا عن أحد عشر مذهبا.

حتى جمعهم قسطنطين الملك آخر ذلك من الجزائر والبلاد وسائر الأقطار. فجمع كل بترك وأسقف وعالم، فاختار منهم ثلاثمائة وثمانية عشر. فقال: أنتم اليوم علماء النصرانية وأكابر النصارى، فاتفقوا على أمر تجتمع عليه كلمة النصرانية، ومن خالفه لعنتموه وحرمتموه. فقاموا وقعدوا وفكروا وقدروا، واتفقوا على وضع الأمانة التي بأيديهم اليوم، وذلك سنة خمس عشرة من ملك قسطنطين.

وكان سبب ذلك أن بطريق الإسكندرية منع أريوس من دخول الكنيسة ولعنه. فخرج أريوس إلى قسطنطين الملك مستعديا عليه ومعه أسقفان، فشكوه إليه، وطلبوا منه مناظرته بين يدي الملك. فاستحضر الملك، وقال لأريوس: اشرح مقالتك.

فقال أريوس: أقر أن الأب كان إذ لم يكن الابن، فكان له إلا أنه محدث مخلوق، ثم فوض الأمر إلى ذلك الابن المسمى كلمة. فكان هو خالق السماوات والأرض وما بينهما، كما قال في إنجيله إذ يقول: (وهب لي سلطانا على السماء والأرض) فكان هو الخالق لهما بما أعطي من ذلك. ثم إن تلك الكلمة بعد اتحدت من مريم العذراء ومن روح القدس، فصار ذلك مسيحا واحدا. فالمسيح إذن معنيان: كلمة وجسد، إلا أنهما جميعا مخلوقان.

فقال بطريق الإسكندرية: خبرنا أيما أوجب علينا عندك: عبادة من خلقنا، أو عبادة من لم يخلقنا؟

فقال أريوس: بل عبادة من خلقنا.

فقال: فعبادة الابن الذي خلقنا وهو مخلوق أوجب من عبادة الأب الذي هو ليس بمخلوق، بل تصير عبادة الأب الخالق كفرا، وعبادة الابن إيمانا.

فاستحسن الملك والحاضرون مقالته، وأمرهم الملك أن يلعنوا أريوس ومن يقول بمقالته.

فلما انتصر البطريق، قال للملك: استحضر البطارقة والأساقفة حتى يكون لنا مجمع، ونضع قصة نشرح فيها الدين، ونوضحه للناس، فحشرهم قسطنطين من سائر الآفاق، فاجتمع عنده بعد سنة وشهرين ألفان وثمانية وأربعون أسقفا، وكانوا مختلفي الآراء متباينين في أديانهم.

فلما اجتمعوا كثر اللغط بينهم، وارتفعت الأصوات، وعظم الاختلاف، فتعجب الملك من شدة اختلافهم، فأجرى عليهم الأنزال، وأمرهم أن يتناظروا حتى يعلم الدين الصحيح مع من منهم، فطالت المناظرة بينهم، فاتفق منهم ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا على رأي واحد، فناظروا بقية الأساقفة، وظهروا عليهم.

فعقد الملك لهؤلاء الثلاثمائة مجلسا خاصا، وجلس في وسطه، وأخذ خاتمه وسيفه وقضيبه، ودفعه إليهم، وقال لهم: (قد سلطتكم على المملكة، فاصنعوا ما بدا لكم مما فيه قوام دينكم، وصلاح أمتكم).

فباركوا عليه، وقلدوه سيفه، وقالوا له: أظهر دين النصرانية وذد عنه. ودفعوا إليه الأمانة التي اتفقوا على وضعها، فلا يكون عندهم نصرانيا من لم يقر بها، ولا يتم له قربان إلا بها.

وهي هذه: (نؤمن بالله الواحد الأب، خالق كل شيء، صانع ما يرى وما لا يرى، وبالرب الواحد يسوع المسيح ابنه الأحد بكر الخلائق كلها، الذي ولد من أبيه قبل العوالم كلها، وليس بمصنوع، إله حق من إله حق من جوهر أبيه. وهو الذي بيده أتقنت العوالم، وخلق كل شيء، الذي من أجلنا -معشر الناس- ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسد من روح القدس، وصار إنسانا، وحمل به، ثم ولد من مريم البتول، وألم وشج، وقتل وصلب ودفن، وقام في اليوم الثالث، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء. ونؤمن بروح القدس الواحد، روح الحق الصادر من الأب والابن، الذي يتكلم على ألسنة الأنبياء، وبمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا، وبكنيسة واحدة جامعة رسولية، وبقيامة أبداننا والحياة الدائمة إلى أبد الآبدين).

فهذا هو العقد الذي أجمع عليه الملكية والنسطورية واليعقوبية، وهذه الأمانة هي الأمانة التي ألفها أولئك البتاركة والأساقفة والعلماء وجعلوها شعار النصرانية.

وكان رؤساء هذا المجمع: بترك الإسكندرية وبترك أنطاكية وبترك بيت المقدس، فافترقوا عليها وعلى لعن من خالفها والتبري منه وتكفيره.

ثم ذهب أريوس يدعو إلى مقالته وينفر النصارى عن أولئك الثلاثمائة، فجمع جمعا عظيما وصار إلى بيت المقدس، وخالف بكثير من النصارى لأولئك المجمع، فلما اجتمعوا قال أريوس: إن أولئك النفر تعدوا علي وظلموني ولم ينصفوني في الحجاج وحرموني ظلما وعدوانا. فوافقه كثير من الذين معه، وقالوا: صدق. فوثبوا عليه، فضربوه حتى كاد أن يقتل لولا أن ابن أخت الملك خلصه. وافترقوا على هذه الحال.

ثم كان لهم مجمع ثالث بعد ثمان وخمسين سنة من المجمع الأول اجتمع الوزراء والقواد إلى الملك، وقالوا: إن مقالة الناس قد فسدت، وغلب عليهم مقالة أريوس، فاكتب إلى جميع البتاركة والأساقفة أن يجتمعوا، ويوضحوا دين النصرانية، فكتب الملك إلى سائر بلاده، فاجتمع بقسطنطينية خمسمائة وخمسون أسقفا.

وكان مقدموهم بترك الإسكندرية وبترك أنطاكية وبترك بيت المقدس، فنظروا في مقالة أريوس، وكان من مقالته: (إن روح القدس مخلوق مصنوع ليس بإله وليس روح الله).

فقال بترك الإسكندرية: ليس لروح القدس عندنا معنى غير روح الله، وليس روح الله شيئا غير حياته، فإن قلنا: إن روح الله مخلوقة، فقد قلنا: إن حياته مخلوقة، فقد جعلناه غير حي، ومن جعله غير حي فقد كفر، ومن كفر فقد وجب عليه اللعن.

فلعنوا بأجمعهم أريوس وأشياخه، وأتباعه، والبتاركة الذين قالوا بمقالته، وبينوا أن روح القدس خالق غير مخلوق، إله حق من طبيعية الأب والابن، جوهر واحد وطبيعة واحدة، وزادوا في الأمانة التي وضعتها الثلاثمائة وثمانية عشر: (ونؤمن بروح القدس الرب المحيي الصادر من الأب والابن الذي يمجد ويعبد مع الابن والآب).

وكان في الأمانة الأولى: (بروح القدس) فقط.

وبينوا أن الأب والابن وروح القدس ثلاثة أقانيم وثلاثة وجوه وثلاثة خواص، وحدة في تثليث وتثليث في وحدة. وزادوا ونقصوا في الشريعة، وأطلق بترك الإسكندرية للرهبان والأساقفة والبتاركة أكل اللحم. وكانوا على مذهب ماني لا يرون أكل ذوات الأرواح. فانفض هذا المجمع وقد لعنوا فيه أكثر أساقفهم وبتاركتهم، ومضوا على تلك الأمانة.

ثم كان لهم مجمع رابع، بعد إحدى وخمسين سنة من هذا المجمع على نسطورس، وكان مذهبه: (أن مريم ليست بوالدة الإله على الحقيقة، ولكن ثمة اثنان: الإله الذي هو موجود من الأب، والآخر الإنسان الذي هو موجود من مريم، وأن هذا الإنسان الذي نقول: إنه المسيح متوحد مع أب الإله، وابن الإله ليس ابنا على الحقيقة، ولكن على سبيل الموهبة، والكرامة واتفاق الاسمين).

فبلغ ذلك بتاركة سائر البلاد، فجرت بينهم مراسلات، واتفقوا على تخطئته، واجتمع منهم مائتا أسقف في مدينة أفسس، وأرسلوا إلى نسطورس للمناظرة، فامتنع ثلاث مرات، فأوجبوا عليه الكفر، ولعنوه، ونفوه، وحرموه، وثبتوا: أن مريم ولدت إلها، وأن المسيح إله حق، وإنسان معروف بطبيعتين، متوحد في الأقنوم.

فلما لعنوا نسطورس غضب له بترك أنطاكية، فجمع أساقفته الذين قدموا معه، وناظرهم، فقطعهم، فتقاتلوا، ووقع الحرب والشر بينهم، وتفاقم أمرهم، فلم يزل الملك حتى أصلح بينهم، فكتب أولئك صحيفة بـ (أن مريم القديسة ولدت إلها، هو ربنا يسوع المسيح الذي هو مع أبيه في الطبيعة، ومع الناس في الناسوت). وأنفذوا لعن نسطورس.

فلما نفي نسطورس سار إلى أرض مصر، وأقام بأخميم سبع سنين، ومات بها، ودرست مقالته، إلى أن أحياها ابن صرما مطران نصيبين، وبثها في بلاد المشرق، فأكثر نصارى العراق والمشرق نسطورية.

وانفض ذلك المجمع أيضا على لعن نسطورس ومن قال بقوله.

وكل مجامعهم كانت تجتمع على الضلال وتفترق على اللعن، فلا ينفض المجمع إلا وهم بين لاعن وملعون.

ثم كان لهم مجمع خامس. وذلك أنه كان بقسطنطينية طبيب راهب يقال له: أوطيوس، يقول: (إن جسد المسيح ليس هو مع أجسادنا في الطبيعة، وإن للمسيح قبل التجسد طبيعتين، وبعد التجسد طبيعة واحدة).

وهذه مقالة اليعقوبية، فرحل إليه أسقف دولته، فناظره، فقطعه، ودحض حجته.

ثم صار إلى قسطنطينية، فأخبر بتركها بالمناظرة، وبانقطاعه، فأرسل بترك الإسكندرية إليه، فاستحضره، وجمع جمعا عظيما، وسأله عن قوله، فقال: إن قلنا: إن المسيح طبيعتان فقد قلنا بقول نسطورس، ولكنا نقول: إن المسيح طبيعة واحدة، وأقنوم واحد، لأنه من طبيعتين كانتا قبل التجسد، لما تجسد زالت الاثنينية، وصار طبيعة واحدة، وأقنوما واحدا. فقال له بترك القسطنطنية: إن كان المسيح طبيعة واحدة فالطبيعة القديمة هي الطبيعة المحدثة، وإن كان القديم هو المحدث، فالذي لم يزل هو الذي لم يكن، ولو جاز أن يكون القديم هو المحدث، لكان القائم هو القاعد، والحار هو البارد.

فأبى أن يرجع عن مقالته فلعنوه، فاستعدى إلى الملك، وزعم أنهم ظلموه، وسأله أن يكتب إلى جميع البتاركة للمناظرة، فاستحضر الملك البتاركة والأساقفة من سائر البلاد إلى مدينة "أفسس"، فثبت بطريق الإسكندرية مقالة أوطيوس، وقطع بتاركة الإسكندرية، وأنطاكية، وبيت المقدس، وسائر البتاركة والأساقفة.

وكتب إلى بترك رومية، وإلى جميع البتاركة والأساقفة، فحرمهم ومنعهم من القربان إن لم يقبلوا مقالة أوطيسوس، ففسدت الأمانة، وصارت المقالة مقالة أوطيسوس، وخاصة في مصر والإسكندرية، وهو مذهب اليعقوبية.

فافترق هذا المجمع الخامس وهو بين لاعن وملعون، وضال ومضل، وقائل يقول: الصواب مع اللاعنين، وقائل يقول: الحق مع الملعونين.

ثم كان لهم بعد ذلك مجمع سادس، في دولة مرقيون، فإنه اجتمع إليه الأساقفة من سائر البلاد، فأعلموه ما كان من ظلم ذلك المجمع، وقلة الإنصاف، وأن مقالة أوطيسوس قد غلبت على الناس، وأفسدت دين النصرانية، فأمر الملك باستحضار سائر البطارقة والأساقفة إلى حضرته، فاجتمع عنده ست مائة وثلاثون أسقفا، فنظروا في مقالة أوطيسوس وبترك الإسكندرية، التي قطعا بها جميع البتاركة، فأفسدوا مقالتيهما، ولعنوهما، وأثبتوا (أن المسيح إله وإنسان، فهو مع الله في اللاهوت، ومعنا في الناسوت، له طبيعتان تامتان، فهو تام باللاهوت، تام بالناسوت، وهو مسيح واحد). وثبتوا أقوال الثلاث مائة وثمانية عشر أسقفا، وقبلوا قولهم بأن الابن مع الله في المكان وأنه إله حق من إله حق، ولعنوا أريوس، وقالوا: إن روح القدس إله، وقالوا: (إن الأب والابن وروح القدس واحد بطبيعة واحدة، وأقانيم ثلاثة). وثبتوا أقوال أهل المجمع الثالث.

وقالوا: (إن مريم العذراء ولدت إلها ربنا يسوع المسيح الذي هو مع الله في الطبيعة، ومعنا في الناسوت). وقالوا: (إن المسيح طبيعتان وأقنوم واحد).

ولعنوا نسطورس وبترك الإسكندرية، فانفض هذا المجمع بين لاعن وملعون.

ثم كان لهم بعد هذا مجمع سابع في أيام أنسطاس الملك، ذلك أن سورس القسطنطيني جاء إلى الملك فقال: إن أصحاب ذلك المجمع الست مائة والثلاثين أخطؤوا. والصواب ما قاله أوطيسوس وبترك الإسكندرية، فلا تقبل ممن سواهما، واكتب إلى جميع بلادك أن يلعنوا الست مائة والثلاثين، وأن يأخذوا الناس بطبيعة واحدة ومشيئة واحدة وأقنوم واحد.

فأجاب الملك إلى ذلك. فلما بلغ ذلك بترك بيت المقدس جمع الرهبان، فلعنوا أنسطاس الملك، وسورس، ومن يقول بمقالتهما.

فبلغ ذلك الملك، فغضب، وبعث، فنفى البترك إلى أيلة، وبعث يوحنا بتركا على بيت المقدس، لأنه كان قد ضمن للملك أن يلعن الستمائة والثلاثين.

فلما قدم إلى بيت المقدس اجتمع الرهبان، وقالوا: إياك أن تقبل من سورس، ولكن اقبل من الستمائة والثلاثين، ونحن معك. ففعل وخالف الملك، فلما بلغه أرسل قائدا، وأمره أن يأخذ يوحنا بلعنة أولئك. فإن لم يفعل أنزله عن الكرسي، ونفاه.

فقدم القائد، وطرح يوحنا في الحبس، فصار إليه الرهبان في الحبس، وأشاروا عليه بأن يضمن للقائد أن يفعل ذلك، فإذا حضر فليقر بلعنة كل من لعنه الرهبان.

فاجتمع الرهبان فكانوا عشرة آلاف راهب، فلعنوا أوطيسوس، ونسطورس وسورس ومن لا يقبل من أولئك الستمائة والثلاثين، ففزع رسول الملك من الرهبان.

وبلغ ذلك الملك فهمّ بنفي يوحنا، فاجتمع الرهبان والأساقفة، فكتبوا إلى الملك أنهم لا يقبلون مقالة سورس ولو أريقت دماؤهم، وسألوه أن يكف أذاه عنهم.

وكتب بترك رومية بقبح فعله وبلعنه، فانفض هذا المجمع على اللعنة أيضا.

وكان لسورس تلميذ يقال له يعقوب البراذعي، لأنه كان يلبس من قطع براذع الدواب ويرقع بعضها ببعض، وإليه تنسب اليعاقبة. فأفسد أمانة القوم.

ثم هلك أنسطاس. فولي بعده قسطنطين، فرد كل من نفاه أنسطاس إلى موضعه، وكتب إلى بيت المقدس بأمانته، فاجتمع الرهبان، وأظهروا كتابه، وفرحوا به، وأثبتوا قول الستمائة وثلاثين أسقفا، وغلبت اليعقوبية على الإسكندرية، وقتلوا بتركا لهم -يقال له: بولس -، وكان ملكانيا، فولي الملك أسطيانوس، فأرسل قائدا، ومعه عسكر عظيم إلى الإسكندرية، فدخل الكنيسة في ثياب البترك، وتقدم وقدس، فرموه بالحجارة حتى كادوا يقتلونه، فانصرف وتوارى عنهم، ثم ظهر لهم بعد ثلاثة أيام، وأظهر لهم أنه أتاه كتاب الملك، وأمر الحراس أن يجمعوا الناس لسماعه، فلم يبق أحد بالإسكندرية إلا حضر لسماعه.

وكان قد جعل بينه وبين جنده علامة إذا هو فعلها وضعوا السيوف في الناس، فصعد المنبر، وقال: يا أهل الإسكندرية، إن رجعتم إلى الحق، وتركتم مقالة اليعاقبة، وإلا لم تأمنوا أن تأمنوا أن يوجه الملك إليكم من يسفك دماءكم.

فرموه بالحجارة حتى خاف على نفسه، فأظهر العلامة، فوضعوا السيوف على من بالكنيسة، فقتل خلق لا يحصيهم إلا الله، حتى خاض الجند في الدماء، وظهرت مقالة الملكانية بالإسكندرية.

ثم كان لهم بعد ذلك مجمع ثامن.

وذلك أن أسقف منبج كان يقول بالتناسخ، وأنه ليس ثم قيامة، ولا بعث، وكان أسقف الرهاء وأسقف المصيصة وأسقف ثالث يقولون: إن جسد المسيح خيال غير حقيقة.

فحشرهم الملك إلى قسطنطينية، فقال لهم بتركها: إن كان جسده خيالا فيجب أن يكون فعله خيالا وقوله خيالا، وكل جسد نعاينه لأحد من الناس أو فعل أو قول فهو كذلك.

وقال له: إن المسيح قد قام من الأموات، وعلمنا أنه كذلك يقوم الناس يوم الدين، واحتج بنصوص من الإنجيل كقوله: (إن كل من في القبور إذا سمعوا الله سبحانه يحيون).

فأوجب عليه اللعن، وأمر الملك أن يكون لهم مجمع يلعنون فيه، واستحضر بتاركة البلاد، فاجتمع عنده مائة وأربعة وستون أسقفا، فلعنوا أسقف منبج، وأسقف المصيصة، وأثبتوا على (أن جسد المسيح حقيقة لا خيال، وأنه إله تام وإنسان تام، معروف بطبيعتين ومشيئتين وفعلين، أقنوم واحد، وأن الدنيا زائلة، وأن القيامة كائنة، وأن المسيح يأتي بمجد عظيم، فيدين الأحياء والأموات). كما قال الثلاثمائة وثمانية عشر الأوائل، فتفرقوا على ذلك.

ثم كان لهم مجمع تاسع على عهد معاوية بن أبي سفيان تلاعنوا فيه.

وذلك أنه كان برومية راهب له تلميذان، فجاء إلى قسطا الوالي، فوبخه على قبح مذهبه وشناعة كفره، فأمر به قسطا؛ فقطعت يداه ورجلاه، ونزع لسانه، وفعل بأحد التلميذين كذلك، وضرب الآخر بالسياط، ونفاه.

فبلغ ذلك ملك قسطنطينية، فأرسل إليه أن يوجه إليه من أفاضل الأساقفة، ليعلم وجه هذه الشبهة، وما كان ابتداؤها، ويعلم من يستحق اللعن.

فبعث إليه مائة وأربعين أسقفا وثلاثمائة شماسا، فلما وصلوا إليه جمع الملك مائة وثمانية وخمسين أسقفا، فصادروا مائتين وثمانية وتسعين، وأسقطوا الشماسة.

وكان رئيس هذا المجمع بترك قسطنطينية وبترك أنطاكية. فلعنوا من تقدم من القسيسين والبتاركة واحدا واحدا، وجلسوا، فلخصوا الأمانة، وزادوا فيها ونقصوا.

فقالوا: (نؤمن أن الواحد من الناسوت الابن الوحيد الذي هو الكلمة الأزلية الدائم المستوي مع الأب الإله في الجوهر، الذي هو ربنا يسوع المسيح بطبيعتين تامتين وفعلين ومشيئتين، في أقنوم واحد ووجه واحد، تاما بلاهوته تاما بناسوته، وشهدت بأن الإله الابن في آخر الأيام اتخذ من العذراء السيدة مريم القديسة جسدا إنسانا بنفس ناطقة عقلية وذلك برحمة الله تعالى محب البشر، ولم يلحقه اختلاط ولا فساد ولا فرقة ولا فصل، ولكن هو واحد يعمل بما يشبه الإنسان أن يعمله في طبيعته، وما يشبه الإله أن يعمله في طبيعته الذي هو الابن الوحيد والكلمة الأزلية المتجسدة، التي صارت في الحقيقة لحما كما يقول الإنجيل المقدس من غير أن ينتقل من مجده الأزلي، وليست بمتغيرة، ولكنها بفعلين ومشيئتين وطبيعتين: إلهي وإنسي، الذي بهما يكمل قول الحق، وكل واحدة من الطبيعتين تعمل مع شركة صاحبها مشيئتين غير مضادتين ولا متصارعتين، ولكن مع المشيئة الإنسية المشيئة الإلهية القادرة على كل شيء).

هذه أمانة هذا المجمع، فوضعوها ولعنوا من لعنوه. وبين المجمع الخامس الذي اجتمع فيه الستمائة والثلاثون وبين هذا المجمع مائة سنة.

ثم كان لهم بعد ذلك مجمع عاشر.

وذلك لما مات الملك، وولي ابنه بعده، اجتمع أهل المجمع السادس، وزعموا أن اجتماعهم كان على الباطل، فجمع الملك مائة وثلاثين أسقفا، فثبتوا قول أهل المجامع الخمسة، ولعنوا من لعنهم وخالفهم، وانصرفوا بين لاعن وملعون.

فهذه عشرة مجامع كبار من مجامعهم مشهورة، اشتملت على أكثر من أربعة عشر ألفا من البتاركة والأساقفة والرهبان كلهم ما بين لاعن وملعون.


فهذه حال المتقدمين مع قرب زمانهم من أيام المسيح ووجود أخباره فيهم، والدولة دولتهم، والكلمة كلمتهم، وعلماؤهم إذ ذاك أوفر ما كانوا، واهتمامهم بأمر دينهم واحتفالهم به كما ترى.

وهم حيارى تائهون ضالون مضلون، لا يثبت لهم قدم، ولا يستقر لهم قول في إلههم، بل كل منهم قد اتخذ إلهه هواه، وصرح بالكفر والتبري ممن اتبع سواه، قد تفرقت بهم في نبيهم وإلههم الأقاويل، وهم كما قال الله تعالى: {قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}.

فلو سألت أهل البيت عن دينهم ومعتقدهم في ربهم ونبيهم لأجابك الرجل بجواب وامرأته بجواب وابنه بجواب والخادم بجواب، فما ظنك بمن في عصرنا هذا؟ وهم نخالة الماضين، وزبالة الغابرين، وثفالة المتحيرين، وقد طال عليهم الأمد، وبعد عهدهم بالمسيح ودينه.

وهؤلاء هم الذين أوجبوا لأعداء الرسل من الفلاسفة والملاحدة أن يتمسكوا بما هم عليه، فإنهم شرحوا لهم دينهم الذي جاء به المسيح على هذا الوجه. ولا ريب أن هذا دين لا يقبله عاقل.

فتواصى أولئك بينهم أن يتمسكوا بما هم عليه، وساءت ظنونهم بالكتب والرسل، ورأوا أن ما هم عليه من آراء أقرب إلى العقول من هذا الدين.

وقال لهم هؤلاء الحيارى الضلال: إن هذا هو الحق الذي جاء به المسيح، فتركب من هذين الظنين الفاسدين إساءة الظن بالرسل، وإحسان الظن بما هم عليه. 3

قلت: وهذا القدر قد اعترف به النصراني في هذا الفصل الذي نتكلم عليه، حيث ذكر ما وقع من الاختلاف بين الأساقفة، وأن ذلك صار سبب وقوع عامة الناس في الحيرة حتى لا يدرون ما يختارون لأنفسهم، وينفرون عن الكتب المقدسة كأنها سم زعاف.

ومعلوم أنه لا يمكن أن يدعي أن النصارى صلحوا بعد أولئك الذين وصفهم من أسلافهم الضلال التائهين، بل دينهم الذي هم عليه الآن هو دين أولئك الحيارى، بل إنهم زادوا عليهم بالضلال الكثير، واتبعوا أهواءهم، وجادلوا في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. فقد سجلوا على أنفسهم بمخالفة كتب الله، واعترفوا بذنبهم، فسحقا لأصحاب السعير.

والمقصود أنهم كما خالفوا في دينهم منهج الرسل، فقد عاندوا أيضا صريح العقل.

قال ابن القيم:

ولهذا قال بعض ملوك الهند وقد ذكرت له الملل الثلاث، فقال: أما النصارى فإن كان محاربوهم من أهل الملل يحاربونهم بحكم شرعي، فإني أرى ذلك بحكم عقلي، وإن كنا لا نرى بحكم عقولنا قتالا. ولكن أستثني هؤلاء القوم من بين جميع العوالم، لأنهم قصدوا مضادة العقل، وناصبوه العداوة، وحلوا ببيت الاستحالات، وحادوا عن المسلك الذي انتهجه غيرهم من أهل الشرائع، فشذوا عن جميع مناهج العالم الصالحة العقلية والشرعية، واعتقدوا كل مستحيل ممكنا، وبنوا على ذلك شريعة لا تؤدي البتة إلى صلاح نوع من أنواع العالم، إلا أنها تصير العاقل إذا تشرع بها أخرقا، والرشيد سفيها، والمحسن مسيئا، لأن من كان أصل عقيدته التي نشأ عليها الإساءة إلى الخالق والنيل منه، ووصفه بضد صفاته الحسنى، فأخلق به أن يستسهل الإساءة إلى المخلوق، مع ما بلغنا عنهم من الجهل وضعف العقل وقلة الحياء وخساسة المهمة. هذا وقد ظهر له من باطلهم وضلالهم غيض من فيض، وكانوا إذ ذاك أقرب عهدا بالنبوة.

قال أفلاطون رئيس سدنة الهياكل بمصر، وليس بأفلاطون تلميذ سقراط؛ ذاك أقدم من هذا: لما ظهر محمد بتهامة، ورأينا أمره يعلو على الأمم المجاورة له، رأينا أن نقصد أسقطر البابلي، لنعلم ما عنده، ونأخذ برأيه فلما اجتمعنا على الخروج من مصر رأينا أن نصير إلى أقراطيس معلمنا وحكيمنا لنودعه، فلما دخلنا عليه ورأى جمعنا أيقن أن الهياكل قد خلت منا فغشي عليه حينا غشية ظننا أنه فارق الحياة فيها، فبكينا، فأومأ إلينا أن كفوا عن البكاء، فتصبرنا جهدنا حتى هدأ وفتح عينيه، فقال: هذا ما كنت أنهاكم عنه وأحذركم منه، إنكم قوم غيرتم فغير بكم، أطعتم جهالا من ملوككم فخلطوا عليكم في الأدعية، فقصدتكم البشر من التعظيم بما هو للخالق وحده، فكنتم في ذلك كمن أعطى القلم مدح الكاتب، وإنما حركة القلم بالكاتب.

ومن المعلوم أن هذه الأمة ارتكبت محذورين عظيمين لا يرضى بهما ذو عقل ولا معرفة:

أحدهما: الغلو في المخلوق حتى جعلوه شريكا للخالق وجزءا منه، إلها آخر معه، ونفوا أن يكون عبدا له.

والثاني: تنقص الخالق وسبه ورميه بالعظائم، حيث زعموا أن الله -سبحانه وتعالى عن قولهم علوا كبيرا- نزل من العرش وكرسي عظمته، ودخل في فرج امرأة، وأقام هناك تسعة أشهر، يتخبط بين البول والدم والنجو قد علته أطباق المشيمة والرحم والبطن، ثم خرج من حيث دخل رضيعا صغيرا يمص الثدي، ولف في القمط، وأودع السرير يبكي، ويجوع، ويعطش، ويبول، ويتغوط، ويحمل على الأيدي والعواتق. ثم صار إلى أن لطمت اليهود خديه، وربطوا يديه، وبصقوا في وجهه، وصفعوا قفاه، وصلبوه جهرا بين لصين، وألبسوه إكليلا من الشوك، وسمروا يديه ورجليه، وجرعوه أعظم الآلام!.

هذا هو الإله الحق الذي بيده أتقنت العوالم، وهو المعبود المسجود له! ولعمر الله، إن هذه مسبة لله سبحانه ما سبه بها أحد من البشر قبلهم ولا بعدهم، كما قال تعالى فيما حكاه عنه رسوله الذي نزهه، ونزه أخاه المسيح عن هذا الباطل الذي تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض، وتخر الجبال هدا، فقال: «شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك: أما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد. وأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون من إعادته».

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذه الأمة: "أهينوهم ولا تظلموهم، فقد سبوا الله مسبة ما سبه إياها أحد من البشر".

ولعمر الله، إن عباد الأصنام -مع أنهم أعداء الله على الحقيقة وأعداء رسله وأشد الكفار كفرا- يأنفون أن يصفوا آلهتهم التي يعبدونها من دون الله، وهي من الحجارة والحديد والخشب، بمثل ما وصفت هذه الأمة رب العالمين وإله السماوات والأرضين، وكان الله في قلوبهم أجل وأعظم من أن يصفوه بذلك بما يقاربه، وإنما شرك القوم أنهم عبدوا من دونه آلهة مخلوقة مربوبة محدثة، زعموا أنها تقربهم إليه زلفى، لم يجعلوا شيئا من آلهتهم كفوا له ولا نظيرا ولا ولدا، ولم ينالوا من الرب تعالى ما نالت منه هذه الأمة.

وعذرهم في ذلك أقبح من قولهم، فإن أصل معتقدهم أن أرواح الأنبياء كانت في الجحيم في سجن إبليس من عهد آدم إلى زمن المسيح، فكان إبراهيم وموسى ونوح وصالح وهود معذبين مسجونين في النار بسبب خطيئة آدم وأكله من الشجرة، وكان كلما مات واحد من بني آدم أخذه إبليس، وسجنه بذنب أبيه، ثم إن الله سبحانه لما أراد رحمتهم وخلاصهم من العذاب تحيل على إبليس بحيلة، فنزل عن كرسي عظمته، والتحم ببطن مريم حتى ولد، وكبر، وصار رجلا، فمكن أعداءه اليهود من نفسه، حتى صلبوه، وسمروه، وتوجوه بالشوك على رأسه، فخلص أنبياءه ورسله، وفداهم بنفسه ودمه، فهرق دمه في مرضاة جميع ولد آدم، إذ كان ذنبه باقيا في أعناق جميعهم، فخلصهم منه بأن مكن أعداءه من صلبه وتسميره وصفعه إلا من أنكر صلبه أو شك فيه.

وقال: إن الإله يجل عن ذلك، فهو في سجن إبليس معذب حتى يقر بذلك، وأن إلهه صلب وصفع وسمر، فنسبوا الإله الحق سبحانه إلى ما يأنف أسقط الناس أن ينسبه إليه مملوكه وعبده، وإلى ما يأنف عباد الأصنام أن تنسب إليه أوثانهم.

وكذّبوا الله سبحانه في كونه تاب على آدم وغفر له خطيئته، ونسبوه إلى أقبح الظلم، حيث زعموا أنه سجن أنبياءه ورسله وأولياءه في الجحيم بسبب خطيئة أبيهم، ونسبوه إلى غاية النقص، حيث سلط أعداءه على نفسه وابنه، ففعلوا ما فعلوا.

وبالجملة، فلا نعلم أمة من الأمم سبت ربها ومعبودها وإلهها بما سبه به هذه الأمة، كما قال عمر: "إنهم سبوا الله مسبة ما سبه إياها أحد من البشر".

وكان بعض أئمة الإسلام إذا رأى نصرانيا أغمض عينه عنه، وقال: "لا أستطيع أملأ عيني ممن سب إلهه ومعبوده أقبح السب".

ولهذا قال عقلاء الملوك: "إن جهاد هؤلاء واجب شرعا وعقلا، فإنهم عار على بني آدم مفسدون للعقول والشرائع". انتهى. 4

وسيأتي شرح مذهبهم في التثليث فيما بعد إن شاء الله تعالى.


فصل

قال النصراني: "والذي آل إليه أنه قد وجد في جميع البلاد عدة من المسيحيين اسما وأقل من القليل حقا وفعلا، ولكن الله لم يكن يتغافل عن هذه الخطايا في قومه بل من أقصى أطراف أفاض كالطوفان جنودا لا تحصى عددا إلى بلاد النصارى. وإذا لم يتعظ الباقون بما لقوا من هؤلاء من القتل والشدائد، ولم يعودوا للحق أذن بعدله أن يظهر محمد، ويدعو الناس إلى الشريعة الجديدة، التي مع أنها مخالفة لدين المسيح، مضادة له، لكنها في ظاهر الألفاظ كانت تحاكي سيرة كثيرين من النصارى. وكان أول المدعوين إلى هذه الشريعة العرب الذين على أيديهم فتحت -في مدة يسيرة من الزمان- بلاد العرب والشام ومصر وبلاد الفرس، ثم ملكت المغرب والأندلس أيضا. وأما دولة العرب فقد انتقلت إلى غيرهم من الأمم، وبالخصوص إلى الأتراك الذين هم أمة ذات بأس وقوة في الحرب، وهم بعد طول محاربة المسلمين دعوا إلى العهد، وقبلوا الشريعة الموافقة لأخلاقهم بغير امتناع، ونقلوا حكم الدولة لأنفسهم. ثم فتحت على أيديهم بلاد الروم وبإقبال سعادتهم في الحروب وصلوا إلى حدود بلاد النمسا أيضا".

ونقول وبالله التوفيق:

إن ما ذكره من قلة الدين قبل ظهور محمد دليل ظاهر، وحجة واضحة، وبرهان قاطع على نبوته، وصحة رسالته كما أشرنا إليه فيما تقدم، وذلك أن سنة الله في أوقات فترات الرسالة، وإعراض الناس عما جاءت به الرسل إعذارا منه تعالى إلى الخلق، ورحمة بمن أراد به خيرا.

فلما كانت الشرائع قد اندرست قبل مبعث محمد ، لتقادم عهدها، وطول زمانها، واختلط بسبب ذلك الحق بالباطل والهدى بالضلال، والصدق بالكذب، وصار ذلك سببا لإعراض الخلق عن العبادات، وأن يقولوا: يا إلهنا قد عرفنا أنه لا بد من عبادتك، ولكنا لا نعرف كيف عبادتك. فلا بد أن يزيح الله عذرهم ببعثة الرسل إليهم.

ولهذا قال تعالى في كتابه العزيز: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

فخاطب سبحانه أهل الكتاب من اليهود والنصارى في هذه الآية بأنه بعث إليهم رسوله محمدا على حين فترة من الرسل، ودروس من السبل، وتغير الأديان، وكثرة عبادة الأوثان والنيران والصلبان، فكانت النعمة به أتم، والحاجة إليه أعم.

فإن الفساد قد عم البلاد، والطغيان والجهل قد ظهر في سائر العباد، إلا قليلا من المتمسكين ببقايا من دين الأنبياء الأقدمين من بعض أحبار اليهود، وعباد النصارى والصابئين.

وقد أخرج الإمام أحمد في مسنده ومسلم في صحيحه والنسائي في سننه من غير وجه عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، عن عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه: أن رسول الله خطب ذات يوم، فقال في خطبته:

«إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني في يومي هذا، كل مال أنحلته عبادي حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فأضلتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا، وإن الله سبحانه نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من بني إسرائيل، وقال: إنما بعثتك لأبتليك، وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء، تقرؤه نائما ويقظانا. ثم إن الله أمرني أن أحرق قريشا، فقلت: يا رب، إذا يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة، فقال: استخرجهم كما استخرجوك، واغزهم نغزك، وأنفق فسننفق عليك، وابعث جندا نبعث خمسة أمثاله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك.

وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب بكل ذي قربى ومسلم، ورجل عفيف فقير ذو عيال.

وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زبر له الذين هم فيكم تبع لا يبتغون أهلا ولا مالا، والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه، والرجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعكم عن أهلك ومالك» وذكر البخل والكذب والشنظير الفاحش.

والمقصود من إيراد هذا الحديث قوله: «إن الله نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من بني إسرائيل». وفي لفظ مسلم: «إلا بقايا من أهل الكتاب» فكان الدين قد التبس على أهل الأرض كلهم حتى بعث الله رسوله محمدا، خاتم النبيين الذي لا نبي بعده، بل هو المعقب لجميعهم، فهدى الخلائق، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، وتركهم على المحجة البيضاء والشريعة الغراء. ولهذا قال تعالى: {أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ} أي: بشير بالخير ونذير عن الشر {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} يعني: محمدا {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

فثبت بمقتضى هذه المقدمة التي قررناها، واعترف الخصم بصحة معناها، وهو حصول غربة الدين قبل ظهور محمد حتى عند النصارى، الذين هم أقرب الناس عهدا بالكتب والرسل، أن بعثة محمد كانت رحمة من الله لخلقه، هداهم الله بها بعد الضلالة، وبصرهم بها بعد العمى، وأرشدهم بها بعد الغي، وأخرجهم بها من الظلمات إلى النور.

وهذا هو اللائق بحكمته، ورحمته، وما مضى في خلقه من سابق سنته، لا ما يقول أعداؤه الكاذبون عليه، المكذبون رسوله، الزاعمون أنه كاذب عليه متقول على الله ما لم ينزل إليه، فإنه لا يليق بحكمة الرب الحكيم، ورحمة الملك القادر الرحيم، أن يؤيد من هذا شأنه أعظم التأييد، ويمكن له في الأرض غاية التمكين، بل كان اللائق به أن يأخذه ويجعله نكالا وعبرة للمعتبرين، كما قال -سبحانه وتعالى-: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} فأقام سبحانه في هذه الآية البرهان القاطع على صدق رسوله، وأنه لم يتقول عليه فيما قاله، وأنه لو تقول عليه لما أقره، ولعاجله بالإهلاك، فإن كمال علمه وقدرته وحكمته تأبى أن يقر من تقول عليه، وافترى، وأضل عباده، واستباح دماء من كذبه وحريمهم وأموالهم، وأظهر في الأرض الفساد والجور والكذب وخلاف الحق.

فكيف يليق بأحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، وأقدر القادرين أن يقدره على ذلك؟!. بل كيف يليق به أن يؤيده وينصره ويعليه ويظهره، ويظفره، بأهل الحق يسفك دماءهم ويستبيح أموالهم وأولادهم ونساءهم قائلا: إن الله أمرني بذلك، وأباحه لي؟ بل كيف يليق به أن يصدقه بأنواع التصديق كلها، فيصدقه بإقراره، وبالآيات المستلزمة لصدقه التي دلالتها على التصديق كدلالة التصديق بالقول أو أظهر، ثم يصدقه بأنواعها كلها على اختلافها، فكل آية على انفرادها مصدقة له، ثم يحصل باجتماع تلك الآيات تصديق فوق كل آية على انفرادها، ثم يعجز الخلق عن معارضته، ثم يصدقه بكلامه وقوله، ثم يقيم الدلالة القاطعة على أن هذا قوله وكلامه، فيشهد له بإقراره وفعله وقوله؟. فمن أعظم المحال وأبطل الباطل وأبين البهتان أن يجوز على أحكم الحاكمين ورب العالمين أن يفعل ذلك بالكاذب المفتري عليه الذي هو شر الخلق على الإطلاق. فمن جوز ذلك، على الله أن يفعل هذا بشر خلقه وأكذبهم عليه فما آمن بالله قطعا، ولا عرف الله وأنه رب العالمين، ولا يحسن نسبة ذلك إلى من له مسكة من عقل وحكمة وحجا. ومن فعل ذلك فقد أزرى على نفسه، ونادى على جهله.

وقد ذكر الإمام أبو عبد الله ابن القيم مناظرة جرت له مع بعض علماء أهل الكتاب تتعلق بهذا المقام، قال:

قلت له بعد أن أفضى في نبوة النبي إلى أن قلت له: إنكار نبوته يتضمن القدح في رب العالمين وتنقصه بأقبح التنقص، فكان الكلام معكم في الرسول والكلام الآن في تنزيه الرب تعالى. فقال: كيف تقول مثال هذا الكلام؟ فقلت له: بيانه علي فاسمع الآن، أنتم تزعمون أنه لم يكن رسولا، وإنما كان ملكا قاهرا قهر الناس بسيفه حتى دانوا له، ومكث ثلاثا وعشرين سنة يكذب على الله، ويقول: أوحي إلي، ولم يوح إليه، وأمرني، ولم يأمره، ونهاني، ولم ينهه، وقال الله كذا، ولم يقل ذلك، وأحل كذا وحرم كذا وأوجب كذا وكره كذا، ولم يحل ذلك ولا حرمه ولا أوجبه ولا كرهه، بل هو فعل ذلك من تلقاء نفسه كاذبا مفتريا على الله وعلى أنبيائه وعلى رسله وملائكته. ثم مكث على ذلك عشر سنين يستعرض عباده، يسفك دماءهم، ويأخذ أموالهم، ويسترق نساءهم وأبناءهم، ولا ذنب لهم إلا الرد عليه ومخالفته، وهو في ذلك كله يقول: الله أمرني بذلك ولم يأمره، ومع ذلك فهو ساع في تبديل أديان الرسل، ونسخ شرائعهم، وحل نواميسهم، فهذه حاله عندكم. فلا يخلو: إما أن يكون الرب تعالى عالما بذلك مطلعا عليه من حالة يراه ويشاهده أو لا. فإن قلتم: إن ذلك جميعه غائب عن الله لم يعلمه قدحتم في الرب تعالى، ونسبتموه إلى الجهل المفرط، إذ لم يطلع على هذا الحادث العظيم، ولا علمه، ولا رآه. وإن قلتم: بل كان بعلمه واطلاعه ومشاهدته، قيل لكم: فهل كان قادرا على أن يغير ذلك، ويأخذ على يده ويحول بينه وبينه أم لا؟ فإن قلتم: ليس قادرا على ذلك، نسبتموه إلى العجز المنافي للربوبية، وكان هذا الإنسان هو وأتباعه أقدر منه على تنفيذ إرادتهم. وإن قلتم: بل كان قادرا، ولكن مكنه ونصره وسلطه على الخلق، ولم ينصر أولياءه وأتباع رسله نسبتموه إلى أعظم السفه والظلم والإخلال بالحكمة. هذا لو كان مخليا بينه وبين ما فعله، فكيف وهو في ذلك كله ناصره ومؤيده، ومجيب دعواته ومهلك من خالفه وكذبه، ومصدقه بأنواع التصديق كلها، ومظهر الآيات على يديه التي لو اجتمع أهل الأرض كلهم على أن يأتوا بواحدة منها لما أمكنهم، ولعجزوا عن ذلك، وكل وقت من الأوقات يحدث له من أسباب النصر والتمكين والظهور والعلو وكثرة الأتباع أمرا خارجا عن العادة؟ فظهر أن من أنكر كونه رسولا نبيا فقد سب الله تعالى وقدح فيه ونسبه إلى الجهل والعجز والسفه.

قلت له: ولا ينتقض هذا بالملوك الظلمة الذين مكنهم في الأرض وقتا ما ثم قطع دابرهم وأبطل سنتهم ومحا آثارهم ووجودهم، فإن أولئك لم يدعوا شيئا من هذا ولا أيدوا ونُصروا وظهرت على أيديهم الآيات، ولا صدقهم الرب تعالى بإقراره ولا بفعله ولا بقوله. بل كان أمرهم بالضد من دين الرسول كفرعون ونمرود وأضرابهما. ولا ينتقض هذا بمن ادعى النبوة من الكذابين، فإن حاله كانت بضد حال الرسول. ومن حكمة الله سبحانه أن أخرج مثل هؤلاء في الوجود ليعلم حال الكذابين، وحال الصادقين، فكان ظهورهم من أبين الأدلة على صدق الرسل والفرق بين هؤلاء وبينهم (فبضدها تتبين الأشياء)، (والضد يظهر حسنه الضد). فمعرفة أدلة الباطل وشبهه من أنواع أدلة الحق وبراهينه.

فلما سمع مني ذلك قال: معاذ الله، لا نقول: إنه ملك ظالم، بل نبي كريم، من اتبعه فهو من السعداء، وكذلك من اتبع موسى فهو كمن اتبع محمدا.

قلت له: بطل كل ما تموهون به بعد هذا، فإنكم إذا أقررتم بأنه نبي صادق فلا بد من تصديقه في جميع ما أخبر به، وقد علم أتباعه وأعداؤه بالضرورة أنه دعا الناس كلهم إلى الإيمان به، وأخبر أن من لم يؤمن به فهو مخلد في النار، وقاتل من لم يؤمن به من أهل الكتاب، واستباح دماءهم ونساءهم وأبناءهم. فإن كان ذلك عدوانا منه وجورا لم يكن نبيا، وعاد الأمر إلى القدح في الرب تعالى، وإن كان ذلك بأمر الله ووحيه لم يسع مخالفته وترك اتباعه، ولزم تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر. انتهى. 5


وأما قول النصراني: " إنها -يعني شريعة محمد - مخالفة لدين المسيح مضادة له"

فهذا الإطلاق والعموم باطل، فإن دين المسيح، بل وجميع أديان الرسل من أولهم إلى آخرهم خاتمهم محمد ، متفقة في قواعد الدين وأصول الإيمان: من توحيد الله تعالى، ونفي الشريك له، وتنزيهه عن النقائص المتضمن لنفي الصاحبة والولد، وعلى إفراده سبحانه بالعبادة، وتصديق جميع رسله، والإيمان بملائكته وكتبه والإيمان باليوم الآخر والجنة والنار، وغير ذلك من أصول الإيمان وقواعد الدين.

كما قال تعالى في كتابه: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}.

وفي صحيح البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : «نحن معشر الأنبياء إخوة العلات، ديننا واحد» يعني ذلك التوحيد الذي بعث الله به كل رسول أرسله، وضمنه كل كتاب أنزله.

وأما الشرائع فمختلفة في الأوامر والنواهي، فقد يكون الشيء في هذه الشريعة حراما، ثم يحل في الشريعة الأخرى وبالعكس، وخفيفا فيزاد بالشدة في هذه دون هذه، وذلك لما لله تعالى في ذلك من الحكمة البالغة والحجة الدامغة.

قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قول الله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} يقول: "السنن مختلفة: في التوراة شريعة، وفي الإنجيل شريعة، وفي القرآن شريعة، يحل فيها ما يشاء، ويحرم ما يشاء، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه. والدين الذي لا يقبل غيره: التوحيد والإخلاص الذي جاءت به الرسل".

والمقصود أن شريعة محمد موافقة لدين المسيح في التوحيد وأصول الديانات، وإن خالفته في بعض ما دون ذلك من الشرائع، لكنها مخالفة لما ابتدعه ضلال النصارى، واخترعوه من قبل أنفسهم، وبدلوا به دين المسيح، من الغلو في المخلوق حتى أنزلوه منزلة الخالق، وادعوا أنه الله، وأنه ابن الله -تعالى الله وتقدس وتنزه عن قولهم علوا كبيرا- وكذا ما بدلوه من فروع دين المسيح عليه السلام كاستحلال الميتة والخنزير، وإحداث البدع في العبادات مما نسخوا به دين المسيح عليه السلام، فبعث الله رسوله محمدا يدعوهم إلى عبادة الله من عبادة العباد، وإلى متابعة عبده ورسوله المسيح عيسى ابن مريم وتصديقه في بشارته بخاتم الرسل، وسيدهم في الدنيا والآخرة - الذي هو أولى الناس به، كما ثبت عن رسول الله أنه قال: «أنا أولى الناس بابن مريم في الدنيا والآخرة، ليس بيني وبينه نبي، والأنبياء إخوة أبناء علات، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد». أخرجه البخاري ومسلم.

وإخوة العلات: أبناء أمهات شتى من رجل واحد.


أما ما ذكره النصراني من وقوع الفتوحات على أيدي العرب، ثم انتقال الدولة إلى غيرهم، ففي ضمنه دليلان من أدلة الرسالة المحمدية وعلمان من أعلامها:

الأول: أن النبي أخبر بتلك الفتوحات وبلوغ دينه إلى المشارق والمغارب، وظهور أمته على فارس والروم، فوقع ذلك على وفق ما أخبر، كما سيأتي ذكر الأحاديث بذلك إن شاء الله تعالى، فكان ذلك دليلا على صدقه.

الثاني: أنه أنذر بانتقال الأمر من قريش الذين هم السادة العرب وقادتها إذا وقع منهم الخلل في إقامة الدين، كما أخرج البخاري في صحيحه وغيره عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أن رسول الله قال: «إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه في النار ما أقاموا الدين».

وهذا يدل على أنهم إذا لم يقيموا الدين يخرج الأمر عنهم.

وأخرج الطبراني عن علي رضي الله عنه أن النبي قال: «ألا إن الأمراء من قريش ما أقاموا ثلاثا».... الحديث.

وأخرج الطيالسي والبزار والبخاري في التاريخ من طريق سعد بن إبراهيم عن أنس بلفظ: «ما إذا حكموا فعدلوا» الحديث، وله طرق متعددة.

وأخرج الإمام أحمد بن حنبل وأبو يعلى الموصلي من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي أنه قال: «يا معشر قريش، إنكم أهل هذا الأمر ما لم تحدثوا، فإذا غيرتم بعث الله عليكم من يلحاكم كما يلحى القضيب».

قال الحافظ ابن حجر: "ورجاله ثقات".

وأخرج الشافعي والبيهقي من طريقه بسند صحيح إلى عطاء بن يسار يرفعه إلى النبي أنه قال لقريش: «أنتم أولى الناس بهذا الأمر ما كنتم على الحق إلا أن تعدلوا عنه فتلحون كما تلحى هذه الجريدة».

فقد دلت هذه الأحاديث وما ورد في معناها من منطوق أو مفهوم على خروج الأمر عن قريش الذين هم أئمة العرب والعرب لهم تبع، وأن ذلك إنما يكون إذا وقع منهم التغيير، ولم يستقيموا على السنن القويم، وأنه يتقدم ذلك ما هددوا به من تسليط من يؤذيهم عليهم.

قال ابن حجر: "فوجد ذلك في الدولة العباسية، بغلبة مواليهم بحيث صاروا معهم كالصبي المحجور عليه، يتمتع بلذاته ويباشر الأمور غيره. ثم اشتد الخطب، فغلب عليهم الديلم، فضايقوهم في كل شيء حتى لم يبق للخليفة إلا الخطبة، واقتسم المتغلبون الممالك في جميع الأقاليم، ثم طرأ عليهم طائفة بعد طائفة حتى انتزع الأمر منهم في جميع الأقطار، ولم يبق للخليفة إلا مجرد الاسم في بعض الأمصار". انتهى. 6

وهذا، لأن الذي نالته العرب من العز والظهور والغلبة إنما حصل لهم ببركة اتباع الرسول ، وطاعتهم له كما قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.

وقال النبي فيما صح عنه: «إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون».

فلما كانت الخلفاء على الاستقامة والسداد في أمر الدين كان لهم في الأرض غاية التمكين تصديقا لما أخبر به الصادق الأمين.

فلما غيروا بمخالفته بعض أمر النبي وقع بهم ما هددوا به، حيث كانت نعم الله عليهم أعظم منها على غيرهم، وكان الواجب عليهم من شكرها بحسب ما خصوا به منها.

فكان في أول الأمر وآخره براهين ساطعة وأدلة قاطعة على أن محمدا رسول الله من جهة وقوع ما أخبر به مطابقا لخبره، ومن جهة اقتران العز والظهور والسعادة باتباع سنته، واقتران الذل والخذلان بترك أمره ومخالفته، فقد تضافرت حجج الله وبيناته على صدق هذا الرسول الكريم في كل عصر على ممر الدهور والأزمان.

ثم إن الفتوحات التي حصلت على أيدي غير العرب من الأمم الذين دخلوا في الإسلام، وانتموا إلى الملة وقاموا بجهاد الأعداء المضادين لها هي من آثار الوعد الصادق من التمكين لهذه الأمة الإسلامية في الأرض، وظهور دينهم على غيره من الأديان، وانتصارهم على عبدة الأوثان والصلبان، فليس في خروج الأمر عن العرب في بعض الأزمان وبعض الأقطار إلى غيرهم من هذه الأمة ما يقتضي نقصا في الدين ووهنا في الملة، فإن كل خير حصل لهذه الأمة من العرب وغير العرب، فهو من بركة اتباع النبي والانتماء إلى ملته.


فصل

وأما قول النصراني: "وهم -يعني الأتراك- بعد طول محاربة للمسلمين، دعوا إلى العهد وقبلوا الشريعة الموافقة لأخلاقهم بغير امتناع، ونقلوا حكم الدولة لأنفسهم" إلى آخره.

فهذا فيه نوعان من الخطأ:

الأول منهما: ما دل عليه كلامه من أن الأتراك الذين حاربوا المسلمين أولا هم الذين كانت لهم الدولة آخرا. وهذا باطل وجهل بالدول وأخبارها، فإن الأتراك الذين حاربوا المسلمين في الحوادث المشهورة هم التتار الذين خرجوا من أطراف بادية الصين، فأفسدوا في الأرض، وأبادوا البلاد والعباد، وكانت منهم الحادثة العظمى على بغداد سنة 654 هـ، وبها زالت دولة بني العباس من بغداد وكان رئيسهم جنكيزخان، ثم هولاكو بعده، ووصلوا إلى حلب وأطراف الشام، فالتقوا هناك بالعسكر المصري، فهزمهم الله تعالى شر هزيمة في سنة ثمان وخمسين وستمائة، قال السخاوي المؤرخ: "ثم لم يزل لهم بقايا يخرجون إلى أن كان آخرهم تيمور لنك الأعرج، الذي خرج سنة ثلاث وسبعين وسبع مائة. وبالجملة فلم يبق لهم على المسلمين سلطنة، ولم تستقر لهم دولة".

وأما الأتراك الذين كانت لهم سلطنة على المسلمين فهم طوائف، وأول حدوثهم في دول الإسلام أيام المعتصم العباسي لكون السبي كثر فيهم إذ ذاك، فاستكثر المعتصم منهم المماليك، حتى كان أكثر عسكره منهم. ثم غلبوا على الملك -كما أشرنا إليه قريبا- حتى قتلوا ابن سيدهم المتوكل ابن المعتصم، ثم خالطت المملكة بنو بويه ملوك الديلم، ثم كانت الملوك السامانية من الترك أيضا، ثم غلب على الممالك آل سبكتكين غلام معز الدولة ابن بويه الديلمي، ثم آل سلجوق، فامتدت مملكتهم من خراسان إلى العراق والشام والروم، ثم كانت حادثة التتار التي زالت بها الخلافة من بغداد. ثم كانت بقايا أتباع آل سلجوق بالشام، ثم كان أتباع آل زنكي - بنو أيوب اكراد -، فاستكثر بنو أيوب من المماليك الأتراك، فغلبوهم بالديار المصرية والشامية. وكان من هؤلاء الأتراك السلطان الملك المظفر قطز الذي خرج بالعساكر المصرية إلى ملاقاة التتار بالشام في الواقعة التي أشرنا إليها، ثم كانت بعدهم الدولة الجاركسية، وكانوا مماليك للأتراك المذكورين، استكثروا منهم، ثم غلبوهم على المملكة، وهم الذين أخرجهم السلطان الغوري، وكانوا أيضا من الأتراك.

فهذه دولة الأتراك المشهورة في الإسلام، لم يكن ملكهم ودولتهم إلا بالطريق الذي ذكرناها.

وأما التتار فهم -وإن كان قد دخل في الإسلام منهم من شاء الله- فلم يبق لهم على المسلمين دولة، ولم يستقر لهم سلطنة، بل كان آخر أمرهم الدمار والبوار.

ومنشأ غلط النصراني هو من جهة ما يقال: إن سلاطين بني عثمان كانوا في الأصل من التتار، كما هو أحد الأقوال في نسبهم، وهذا وإن كان هو الأصح في نسبهم عند البعض، لكن دولتهم لم تنشأ من جهة التتار ولا كان لهم بها تعلق، وإنما كان ابتداؤها في أطراف الروم مما يلي الشام.

وسبب ذلك أن السلطان عثمان -وهو الذي ينسبون إليه- كان هو وأبوه في خدمة السلطان علاء الدين السلجوقي -ملك تلك الناحية- فترقت بهم الأحوال في خدمته، فتوفي السلطان السلجوقي -وعثمان في خدمته، ومن أعيان دولته- ولم يكن بعد السلطان من أهل بيته من يقوم مقامه، فاتفق العسكر على تولية عثمان وتقديمه، فتم له الأمر ولأولاده من بعده، فافتتحوا الديار الرومية، واستقرت بها سلطنتهم، ثم أخذوا ممالك الشام ومصر والحرمين من الجراكسة فيما بعد العشرين وتسعمائة.

النوع الثاني: قوله: "وقبلوا الشريعة الموافقة لأخلاقهم بغير امتناع".

فتحت هذا الكلام تمويه باطل، وهو خطأ ظاهر، ثم هو مناقض لما يأتي من كلامه: "أن الشريعة الإسلامية متعلقة بالكلية بالسيف والقتال". ولكنه لما سمع بدخول من دخل في الإسلام من التتار بغير إكراه ولا قتال، حاول أن يجعل ذلك ليس من باب الاختيار الذي دعاهم إليه ما عرفوه بعقولهم من صحة دين الإسلام وشرفه، حتى اختاروه على دينهم، وعلى اليهودية والنصرانية، فأحال ذلك على موافقة أخلاقهم.

ومن المعلوم أن من نشأ على دين وجد عليه آباءه وأسلافه والمعظمين عنده، فإنه لا يدعه ويؤثر غيره عليه إلا أن يحمله على ذلك رغبة أو رهبة، أو يدله العقل على فضيلة ما اختاره، فأما خلقه الموافق لهواه فإنه لا يدعوه إلى اختيار دين غير آبائه لا سيما والدين الذي اختاره يتضمن من التكاليف الشاقة على الأنفس ما هو مضاد لهوى النفس.

ولا ريب أن الذين دخلوا في الإسلام من أولئك التتار -وقد كانوا أهل شوكة ودولة- لم يكن لهم داع إلى ذلك من رغبة ولا رهبة، وإنما دخلوا في الإسلام لما رأوا من شرفه وفضله بعد مخالطة المسلمين.

وهذا يدل على معنى ما أشرنا إليه فيما تقدم، ويأتي إيضاحه فيما بعد إن شاء الله من أن من الحكمة في شرع الجهاد ليس إجبار الناس على الدخول في الإسلام بالظاهر دون الباطن، وإنما سيف الجهاد منفذ للشريعة موصل لها إلى أسماع المكلفين؛ حتى يصغوا إليها، فيعلموا أنها الحق، فيعملوا بها باطنا وظاهرا.

ولما كان هؤلاء القوم خالطوا المسلمين، وسمعوا القرآن، ورأوا محاسن الإسلام دعتهم عقولهم إلى استحسانه من غير داع آخر، ولا رغبة ولا رهبة، مع أن إسلام أكثرهم ضعيف من جهة تساهلهم في فعل المأمورات، وترك المحظورات، كما ذكر العلماء بأحوالهم.

واعلم أن السنة النبوية قد أشارت إلى قتال الترك وفتنتهم، فهو من الأعلام الظاهرة على نبوة محمد فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : «لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما نعالهم الشعر، وحتى تقاتلوا قوما كأن وجوههم المجان المطرقة، صغار الأعين، ذلف الأنوف». أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.

وفي رواية: «حتى تقاتلوا الترك صغار الأعين، حمر الوجوه، فطس الأنوف، كأن وجوههم المجان المطرقة».

وفي رواية للبخاري: «لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا خوزا وكرمان من الأعاجم، حمر الوجوه، فطس الأنوف، صغار الأعين، وجوههم كالمجان المطرقة، نعالهم الشعر». وفي لفظ: عراض الوجوه.

وجاء عنه أنه أخبر: «بأن الترك ستغلب على العرب حتى تلحقها بمنابت الشيح والقيصوم»، وورد عنه في حديثه: «اتركوا الترك ما تركوكم، فإن أول من يسلب أمتي ملكها بنو قنطوراء». 7

فقد ظهر مصداق ما أخبر به في هذه الواقعة كغيرها من الغيوب التي أطلعه الله عليها فوقعت على وفق ما أخبر.


هامش

منحة القريب المجيب في الرد على عباد الصليب
المقدمة | المقام الأول | المقام الثاني | المقام الثالث | المقام الرابع | المقام الخامس