موافقات الشاطبي - الجزء الثالث2

217 أحدها أنه قد يؤخذ من حيث قصد الشارع فيه وهذا هو الأصل فيتناول على الوجه المشروع وينتفع به كذلك ولا ينسى حق الله فيه لا في سوابقه ولا في لواحقه ولا في قرائنه فإذا أخذ على ذلك الوزان كان مباحا بالجزء مطلوبا بالكل فإن المباحات إنما وضعها الشارع للانتفاع بها على وفق المصالح على الإطلاق بحيث لا تقدح في دنيا ولا في دين وهو الاقتصاد فيها ومن هذه الجهة جعلت نعما وعدت مننا وسميت خيرا وفضلا فإذا خرج المكلف بها عن ذلك الحد بأن تكون ضررا عليه في الدنيا أو في الدين كانت من هذه الجهة مذمومة لأنها صدت عن مراعاة وجوه الحقوق السابقة واللاحقة والمقارنة أو عن بعضها فدخلت المفاسد بدلا عن المصالح في الدنيا وفي الدين وإنما سبب ذلك تحمل المكلف منها ما لا يحتمله فإنه إذا كان يكتفي منها بوجه ما أو بنوع ما أو بقدر ما وكانت مصالحة تجرى على ذلك ثم زاد على نفسه منها فوق ما يطيقه تدبيره وقوته البدنية والقلبية كان مسرفا وضعفت قوته عن حمل الجميع فوقع الاختلال وظهر الفساد كالرجل يكفيه لغذائه مثلا رغيف وكسبه المستقيم إنما يحمل ذلك المقدار لأن تهيئته لا تقوى على غيره فزاد على الرغيف مثله فذلك إسراف منه في جهة اكتسابه أولا من حيث كان يتكلف كلفة ما يكفيه مع التقوى فصار يتكلف كلفة اثنين وهو مما لا يسعه ذلك إلا مع المخالفة وفي جهة تناوله فإنه يحمل نفسه من الغذاء فوق ما تقوى عليه الطباع فصار شاقا عليه وربما ضاق نفسه واشتد كربه وشغله عن التفرغ للعبادة المطلوب فيها الحضور مع الله تعالى وفي جهة

218 عاقبته فإن أصل كل داء البردة وهذا قد عمل على وفق الداء فيوشك أن يقع به وهكذا حكم سائر أحواله الظاهرة والباطنة في حين الإسراف فهو في الحقيقة الجالب على نفسه المفسدة لا نفس الشيء المتناول من حيث هو غذاء تقوم به الحياة فإذا تأملت الحالة وجدت المذموم تصرف المكلف في النعم لا أنفس النعم إلا أنها لما كانت آلة للحالة المذمومة ذمت من تلك الجهة وهو القصد الثاني لأنه مبنى على قصد المكلف المذموم وإلا فالرب تعالى قد تعرف إلى عبده بنعمه وامتن بها قبل النظر في فعل المكلف فيها على الإطلاق وهذا دليل على أنها محمودة بالقصد الأول على الإطلاق وإنما ذمت حين صدت من صدت عن سبيل الله وهو ظاهر لمن تأمله والثاني أن جهة الامتنان لا تزول أصلا وقد يزول الإسراف رأسا وما هو دائم لا يزول على حال هو الظاهر في القصد الأول بخلاف ما قد يزول فإن المكلف إذا أخذ المباح كما حد له لم يكن فيه من وجوه الذم شيء وإذا أخذه من داعي هواه ولم يراع ما حد له صار مذموما في الوجه الذي اتبع فيه هواه وغير مذموم في الوجه الآخر وأيضا فإن وجه الذم قد تضمن النعمة واندرجت تحته لكن غطى عليها هواه ومثاله أنه إذا تناول مباحا على غير الجهة المشروعة قد حصل له في ضمنه جريان مصالحه على الجملة وإن كانت مشوبة فبمتبوع هواه والأصل هو النعمة لكن هواه أكسبها بعض أوصاف الفساد ولم يهدم أصل المصلحة وإلا فلو انهدم أصل المصلحة لانعدم أصل المباح لأن البناء إنما كان عليه فلم يزل أصل المباح وإن كان مغمورا تحت أوصاف

219 الاكتساب والاستعمال المذموم فهذا أيضا مما يدل على أن كون المباح مذموما ومطلوب الترك إنما هو بالقصد الثاني لا بالقصد الأول والثالث أن الشريعة مصرحة بهذا المعنى كقوله تعالى أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون ولكن أكثر الناس لا يشكرون وقوله وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا إلى قوله ولعلكم تشكرون فهذه الآيات وأشباهها تدل على أن ما بث في الأرض من النعم والمنافع على أصل ما بث إلا أن المكلف لما وضع له فيها اختيار به يناط التكليف داخلتها من تلك الجهة الشوائب لا من جهة ما وضعت له أولا فإنها من الوضع الأول خالصة فإذا جرت في التكليف بحسب المشروع فذلك هو الشكر وهو جريها على ما وضعت أولا وإن جرت على غير ذلك فهو الكفران ومن ثم انجرت المفاسد وأحاطت بالمكلف وكل بقضاء الله وقدره والله خلقكم وما تعملون وفي الحديث إن أخوف ما أخاف عليكم ما يفتح الله لكم من زهرة الدنيا فقيل أيأتي الخير بالشر فقال لا يأتي الخير إلا بالخير وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم الحديث وأيضا فباب سد الذرائع من هذا القبيل فإنه راجع إلى طلب ترك ما ثبت طلب فعله لعارض يعرض وهو أصل متفق عليه في الجملة وإن اختلف العلماء في تفاصيله فليس الخلاف في بعض الفروع مما يبطل دعوى الإجماع في الجملة لأنهم اتفقوا على مثل قول الله تعالى يا أيها الذين آمنوا

220 لا تقولوا راعنا وقوله ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله وشبه ذلك والشواهد فيه كثيرة وهكذا الحكم في المطلوب طلب الندب قد يصير بالقصد الثاني مطلوب الترك حسبما تناولته أدلة التعمق والتشديد والنهي عن الوصال وسرد الصيام والتبتل وقد تقدم من ذلك كثير ومثله المطلوب طلب الوجوب عزيمة قد يصير بالقصد الثاني مطلوب الترك إذا كان مقتضى العزيمة فيه مشوشا وعائدا على

221 الواجب بالنقصان كقوله ليس من البر الصيام في السفر وأشباه ذلك فالحاصل أن المطلوب بالقصد الأول على الإطلاق قد يصير مطلوب الترك بالقصد الثاني وهو المطلوب فإن قيل هذا معارض بما يدل على خلافه وأن المدح والذم راجع إلى ما بث في الأرض وعلى ما وضع فيها من المنافع على سواء فإن الله عز وجل قال وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا و قال الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وقوله ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم وقد مر أن التكاليف وضعت للابتلاء والاختبار ليظهر في الشاهد ما سبق العلم به في الغائب وقد سبق العلم بأن هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار لكن بحسب ذلك الابتلاء والابتلاء إنما يكون بما له جهتان لا بما هو ذو جهة واحدة ولذلك ترى النعم المبثوثة في الأرض للعباد لا يتعلق بها من حيث هي مدح ولا ذم ولا أمر ولا نهي وإنما يتعلق بها من حيث تصرفات المكلفين فيها وتصرفات المكلفين بالنسبة إليها على سواء فإذا عدت نعما ومصالح من حيث تصرفات المكلف فهي معدودة فتنا ونقما بالنسبة إلى تصرفاتهم أيضا ويوضح ذلك أن الأمور المبثوثة للانتفاع ممكنة في جهتي المصلحة والمفسدة ومهيأة للتصرفين معا فإذا كانت الأمور المبثوثة في الأرض للتكليف بهذا القصد وعلى

222 هذا الوجه فكيف يترجح أحد الجانبين على الآخر حتى يعد القصد الأول هو بثها نعما فقط وكونها نقما وفتنا إنما هو على القصد الثاني فالجواب أن لا معارضة في ذلك من وجهين أحدهما أن هذه الظواهر التى نصت على أنها نعم مجردة من الشوائب إما أن يكون المراد بها ما هو ظاهرها وهو المطلوب الأول أو يراد بها أنها في الحقيقة على غير ذلك وهذا الثاني لا يصح إذ لا يمكن في العقل ولا يوجد في السمع أن يخبر الله تعالى عن أمر بخلاف ما هو عليه فإنا إن فرضنا أن هذه المبثوثات ليست بنعم خالصة كما أنها ليست بنقم خالصة فإخبار الله عنها بأنها نعم وأنه امتن بها وجعلها حجة على الخلق ومظنة لحصول الشكر مخالف للمعقول ثم إذا نظرنا في تفاصيل النعم كقوله ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا إلى آخر الآيات وقوله هو الذي أنزل من السمآء ماء لكم منه شراب ومنه شجر إلى آخر ما ذكر فيها وفي غيرها أفيصح في واحدة منها أن يقال إنها ليست كذلك بإطلاق أو يقال إنها نعم بالنسبة إلى قوم ونقم بالنسبة إلى قوم آخرين هذا كله خارج عن حكم المعقول والمنقول والشواهد لهذا أن القرآن أنزل هدى ورحمة وشفاء لما في الصدور وأنه النور الأعظم وطريقه هو الطريق المستقيم وأنه لا يصح أن ينسب إليه خلاف ذلك مع أنه قد جاء فيه يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين وأنه هدى للمتقين لا لغيرهم وأنه هدى ورحمة للمحسنين إلى أشباه ذلك ولا يصح أن يقال أنزل القرآن ليكون هدى لقوم وضلالا لآخرين أو هو محتمل لأن يكون هدى أو ضلالا نعوذ بالله من هذا التوهم لا يقال إن ذلك قد يصح بالاعتبارين المذكورين في أن الحياة الدنيا لعب ولهو وأنها سلم إلى السعادة وجد لا هزل وما خلقنا السماء

223 والأرض وما بينهما لاعبين لأنا نقول هذا حق إذا حملنا التعرف بالنعم على ظاهر ما دلت عليه النصوص كما يصح في كون القرآن هدى وشفاء ونورا كما دل عليه الإجماع وما سوى ذلك فمحمول على وجه لا يخل بالقصد الأول في بث النعم والوجه الثاني أن كون النعم تئول بأصحابها إلى النقم إنما ذلك من جهة وضع المكلف لأنها لم تصر نقما في أنفسها بل استعمالها على غير الوجه المقصود فيها هو الذي صيرها كذلك فإن كون الأرض مهادا والجبال أوتادا

224 وجميع ما أشبههه نعم ظاهرة لم تتغير فلما صارت تقابل بالكفران بأخذها على غير مأخذ صارت عليهم وبالا وفعلهم فيها هو الوبال في الحقيقة لا هي لأنهم استعانوا بنعم الله على معاصيه وعلى هذا الترتيب جرى شأن القرآن فإنهم لما مثلت أصنامهم التى اتخذوها من دون الله ببيت العنكبوت في ضعفه تركوا التأمل والاعتبار فيما قيل لهم حتى يتحققوا أن الأمر كذلك وأخذوا في ظاهر التمثيل بالعنكبوت من غير التفات إلى المقصود وقالوا ماذا أراد الله بهذا مثلا فأخبر الله تعالى عن الحقيقة السابقة فيمن شأنه هذا بقوله يضل به كثيرا ويهدى به كثيرا ثم استدرك البيان المنتظر بقوله وما يضل به إلا الفاسقين نفيا لتوهم من يتوهم أنه أنزل بقصد الإضلال لقوم والهداية لقوم أي هو هدى كما قال أولا هدى للمتقين لكن الفاسقين يضلون بنظرهم إلى غير المقصود من إنزال القرآن كذلك هو هدى للمتقين الذين ينظرون إلى صوب الحقيقة فيه وهو الذي أنزل من أجله وهذا المكان يستمد من المسألة الأولى فإذا تقرر هذا صارت النعم نعما بالقصد الأول وكونها بالنسبة إلى قوم آخرين بخلاف ذلك من جهة أخذهم لها على غير الصوب الموضوع فيها وذلك معنى القصد الثاني والله أعلم وأما الثاني وهو أن المطلوب الترك بالكل هو بالقصد الأول فكذلك أيضا لإنه لما تبين أنه خادم لما يضاد المطلوب الفعل صار مطلوب الترك لأنه ليس فيه إلا قطع الزمان في غير فائدة وليس له قصد ينتظر حصوله منه على الخصوص فصار الغناء المباح مثلا ليس بخادم لأمر ضروري ولا حاجي ولا تكميلي بل قطع الزمان به صد عما هو خادم لذلك فصار خادما لضده ووجهه ثان أنه من قبيل اللهو الذي سماه الشارع باطلا كقوله تعالى وإذا رأوا تجارة أو لهوا يعني الطبل أو المزمار أو الغناء وقال

225 في معرض الذم للدنيا إنما الحياة الدنيا لعب ولهو الآية وفي الحديث كل لهو باطل إلا ثلاثة فعده مما لا فائدة فيه إلا الثلاثة فإنها لما كانت تخدم أصلا ضروريا أولا حقا به استثناها ولم يجعلها باطلا ووجه ثالث وهو أن هذا الضرب لم يقع الامتنان به ولا جاء في معرض تقرير النعم كما جاء القسم الأول فلم يقع امتنان باللهو من حيث لهو ولا بالطرب ولا بسببه من جهة ما يسببه بل من جهة ما فيه من الفائدة العائدة لخدمة ما هو مطلوب وهو على وفق ما جرى في محاسن العادات فإن هذا القسم خارج عنها بالجملة ويحقق ذلك أيضا أن وجوه التمتعات هيئت للعباد أسبابها خلقا واختراعا فحصلت المنة بها من تلك الجهة ولا تجد للهو أو اللعب تهيئة تختص به في أصل الخلق وإنما هى مبثوثة لم يحصل من جهتها تعرف بمنة ألا ترى إلى قوله قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده

226 والطيبات من الرزق وقال والأرض وضعها للأنام إلى قوله يخرج منهما اللؤللؤ والمرجان وقوله والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة إلى أشباه ذلك ولا تجد في القرآن ولا في السنة تعرف الله إلينا بشيء خلق للهو واللعب فإن قيل إن حصول اللذة وراحة النفس والنشاط للإنسان مقصود ولذلك كان مبثوثا في القسم الأول كلذة الطعام والشراب والوقاع والركوب وغير ذلك وطلب هذه اللذات بمجردها من موضوعاتها جائز وإن لم يطلب

227 ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون وقال والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة وقال ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا وما كان نحو ذلك وهذا كله في معرض الامتنان بالنعم والتجمل بالأموال والتزين بها واتخاذ السكر راجع إلى معنى اللهو واللعب فينبغي أن يدخل في القسم الأول ومنها أن هذه الأشياء إن كانت خادمة لضد المطلوب بالكل فهي خادمة للمأمور به أيضا لأنها مما فيه تنشيط وعون على العبادة أو الخير كما كان المطلوب بالكل كذلك فالقسمان متحدان فلا ينبغي أن يفرق بينهما فالجواب أن استدعاء النشاط واللذات إن كان مبثوثا في المطلوب بالكل

228 فهو فيه خادم للمطلوب الفعل وأما إذا تجرد عن ذلك فلا نسلم أنه مقصود وهى مسألة النزاع ولكن المقصود أن تكون اللذة والنشاط فيما هو خادم لضروري أو نحوه ومما يدل على ذلك قوله في الحديث كل لهو باطل إلا ثلاثة فاستثنى ما فيه خدمة لمطلوب مؤكد وأبطل البواقي وفي الحديث أن أصحاب رسول الله ملوا ملة فقالوا يا رسول الله حدثنا يعنون بما ينشط النفوس فأنزل الله عز وجل الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها الآية فذلك في معنى أن الرجوع إلى كتاب الله بالجد فيه غاية ما طلبتم وذلك ما بث فيه من الأحكام والحكم والمواعظ والتحذيرات والتبشيرات الحاملة على الاعتبار والأخذ بالاجتهاد فيما فيه النجاة والفوز بالنعيم المقيم وهذا خلاف ما طلبوه قال الراوي ثم ملوا ملة فقالوا حدثنا شيئا فوق الحديث ودون القرآن فنزلت سورة يوسف فيها آيات ومواعظ وتذكيرات وغرائب تحثهم على الجد في طاعة الله وتروح من تعب أعباء التكاليف مع ذلك فدلوا على ما تضمن قصدهم بما هو خادم للضروريات لا ما هو خادم لضد ذلك وفي الحديث أيضا إن

229 لكل عابد شدة ولكل شدة فترة فإما إلى سنة وإما إلى بدعة فمن كانت فترته إلى سنة فقد اهتدى ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك وأما آيات الزينة والجمال والسكر فإنما ذكرت فيها لتبعيتها لأصول تلك

230 النعم لا أنها المقصود الأول في تلك النعم وأيضا فإن الجمال والزينة مما يدخل تحت القسم الأول لأنه خادم له ويدل عليه قوله تعالى قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده وقوله عليه الصلاة والسلام إن الله جميل يحب الجمال إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده وأما السكر فإنه قال فيه تتخذون منه سكرا فنسب إليهم اتخاذ السكر ولم يحسنه وقال ورزقا حسنا فحسنه فالامتنان بالأصل الذي وقع فيه التصرف لا بنفس التصرف كالامتنان بالنعم الأخرى الواقع فيها التصرف فإنهم تصرفوا بمشروع وغير مشروع ولم يؤت بغير المشروع قط على طريق الامتنان به كسائر النعم بل قال تعالى قل أرأيتم ما أنزل الله من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا الآية فتفهم هذا وأما الوجه الثالث فإنها إن فرض كونها خادمة للمأمور به فهي من القسم الأول كملاعبة الزوجة وتأديب الفرس وغيرهما وإلا فخدمتهما للمأمور به بالقصد الثاني لا بالقصد الأول إذا كان ذلك الوقت الذي لعب فيه يمكنه فيه عمل ما ينشطه مما هو مطلوب الفعل بالكل كملاعبة الزوجة ويكفي من ذلك أن يستريح بترك الأشياء كلها والاستراحة من الأعمال بالنوم وغيره ريثما يزول عنه كلال العمل لا دائما كل هذه الأشياء مباحة لأنها خادمة للمطلوب

231 بالقصد الأول أما الاستراحة إلى اللهو واللعب من غير ما تقدم فهو أمر زائد على ذلك كله فإن جاء به من غير مداومة فقد أتى بأمر يتضمن ما هو خادم للمطلوب الفعل فصارت خدمته له بالقصد الثاني لا بالقصد الأول فباين القسم الأول إذ جيء فيه بالخادم له ابتداء وهذا إنما جيء فيه بما هو خادم للمطلوب الترك لكنه تضمن خدمة المطلوب الفعل إذا لم يداوم عليه وهذا ظاهر لمن تأمله فصل فإن قيل هذا البحث كله تدقيق من غير فائدة فقهية تترتب عليه لأن كلا القسمين قد تضمن ضد ما اقتضاه في وضعه الأول فالواجب العمل على ما يقتضيه الحال في الاستعمال للمباح أو ترك الاستعمال وما زاد على ذلك لا فائدة فيه فيما يظهر إلا تعليق الفكر بأمر صناعي وليس هذا من شأن أهل الحزم من العلماء فالجواب أنه ينبني عليه أمور فقهية وأصول عملية منها الفرق بين ما يطلب الخروج عنه من المباحات عند اعتراض العوارض المقتضية للفاسد وما لا يطلب الخروج عنه وإن اعترضت العوارض وذلك أن

232 القواعد المشروعة بالأصل إذا داخلتها المناكر كالبيع والشراء والمخالطة والمساكنة إذا كثر الفساد في الأرض واشتهرت المناكر بحيث صار المكلف عند أخذه في حاجاته وتصرفه في أحواله لا يسلم في الغالب من لقاء المنكر أو ملابسته فالظاهر يقتضي الكف عن كل ما يؤديه إلى هذا ولكن الحق يقتضي أن لا بد له من اقتضاء حاجاته كانت مطلوبة بالجزء أو بالكل وهى إما مطلوب بالأصل وإما خادم للمطلوب بالأصل لأنه إن فرض الكف عن ذلك أدى إلى التضييق والحرج أو تكليف ما لا يطاق وذلك مرفوع عن هذه الأمة فلا بد للإنسان من ذلك لكن مع الكف عما يستطاع الكف عنه وما سواه فمعفو عنه لأنه بحكم التبعية لا بحكم الأصل وقد بسطه الغزالي في كتاب الحلال والحرام من الأحياء على وجه أخص من هذا فإذا أخذ قضية عامة استمر واطرد وقد قال ابن العربي في مسألة دخول الحمام بعد ما ذكر جوازه فإن قيل

233 فالحمام دار يغلب فيها المنكر فدخولها إلى أن يكون حراما أقرب منه إلى أن يكون مكروها فكيف أن يكون جائزا قلنا الحمام موضع تداو وتطهر فصار بمنزلة النهر فإن المنكر قد غلب فيه بكشف العورات وتظاهر المنكرات فإذا احتاج إليه المرء دخله ودفع المنكر عن بصره وسمعه ما أمكنه والمنكر اليوم في المساجد والبلدان فالحمام كالبلد عموما وكالنهر خصوصا هذا ما قاله وهو ظاهر في هذا المعنى وهكذا النظر في الأمور المشروعة بالأصل كلها وهذا إذا أدى الاحتراز من العارض للحرج وأما إذا لم يؤد إليه وكان في الأمر المفروض مع ورود النهي سعة كسد الذرائع ففي المسألة نظر ويتجاذبها طرفان فمن اعتبر العارض سد في بيوع الآجال وأشباهها من الحيل ومن اعتبر الأصل لم يسد ما لم يبد الممنوع صراحا ويدخل أيضا في المسألة النظر في تعارض الأصل والغالب فإن لاعتبار الأصل رسوخا حقيقيا واعتبار غيره تكميلي من باب التعاون وهو ظاهر أما إذا كان المباح مطلوب الترك بالكل فعلى خلاف ذلك لا يجوز لأحد أن يستمع إلى الغناء وإن قلنا إنه مباح إذا حضره منكرا أو كان في طريقه لأنه غير مطلوب الفعل في نفسه ولا هو خادم لمطلوب الفعل فلا يمكن والحالة

234 هذه أن يستوفى المكلف حظه منه فلا بد من تركه جملة وكذلك اللعب وغيره وفي كتاب الأحكام بيان لهذا المعنى في فصل الرخص وإليه يرجع وجه الجمع بين التحذير من فتنة الدنيا مع عدم التحذير من اجتنابها أو اكتسابها فإن قيل فقد حذر السلف من التلبس بما يجر إلى المفاسد وإن كان أصله مطلوبا بالكل أو كان خادما للمطلوب فقد تركوا الجماعات واتباع الجنائز وأشباهها مما هو مطلوب شرعا وحض كثير من الناس على ترك التزوج وكسب العيال لما داخل هذه الأشياء واتبعها من المنكرات والمحرمات وقد ذكر عن مالك أنه ترك الجمعات والجماعات وتعليم العلم واتباع الجنائز وما أشبه ذلك مما هو مطلوب لا يحصل إلا مع مخالطة الناس وهكذا غيره وكانوا علماء وفقهاء وأولياء ومثابرين على تحصيل الخيرات وطلب المثوبات وهذا كله له دليل في الشريعة كقوله عليه الصلاة والسلام يوشك أن يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن وسائر ما جاء في طلب العزلة وهى متضمنة لترك كثير مما هو مطلوب بالكل أو بالجزء ندبا أو وجوبا خادما لمطلوب أو مقصودا لنفسه فكيف بالمباح فالجواب أن هذا المعنى لا يرد من وجهين أحدهما أنا إنما تكلمنا في جواز المخالطة في طلب الحاجات الضرورية وغيرها فمن عمل على أحد الجائزين

235 فلا حرج عليه ولا يرد علينا ما هو مطلوب بالجزء لأنا لم نتعرض في هذه المسألة للنظر فيه والثاني أن ما وقع التحذير فيه وما فعل السلف من ذلك إنما هو بناء على معارض أقوى في اجتهادهم مما تركوه كالفرار من الفتن فإنها في الغالب قادحة في أصول الضروريات كفتن سفك الدماء بين المسلمين في الباطل أو للإشكال الواقع عند التعارض بين المصلحة الحاصلة بالتلبس مع المفسدة المنجرة بسببه أو ترك ورع المتورع يحمل على نفسه مشقة يحتملها والمشقات تختلف كما مر في كتاب الأحكام فكل هذا لا يقدح في مقصودنا على حال فصل ومنها الفرق بين ما ينقلب بالنية من المباحات طاعة وما لا ينقلب وذلك أن ما كان منها خادما لمأمور به تصور فيه أن ينقلب إليه فإن الأكل والشرب والوقاع وغيرها تسبب في إقامة ما هو ضروري لا فرق في ذلك بين كون المتناول في الرتبة العليا من اللذة والطيب وبين ما ليس كذلك وليس بينهما تفاوت يعتد به إلا في أخذه من جهة الحظ أو من جهة الخطاب الشرعي فإذا أخذ من

236 جهة الحظ فهو المباح بعينه وإذا أخذ من جهة الإذن الشرعي فهو المطلوب بالكل لأنه في القصد الشرعي خادم للمطلوب وطلبه بالقصد الأول وهذا التقسيم قد مر بيانه في كتاب الأحكام فإذا ثبت هذا صح في المباح الذي هو خادم المطلوب الفعل انقلابه طاعة إذ ليس بينهما إلا قصد الأخذ من جهة الحظ أو من جهة الإذن وأما ما كان خادما لمطلوب الترك فلما كان مطلوب الترك بالكل لم يصح انصرافه إلى جهة المطلوب الفعل لأنه إنما ينصرف إليه من جهة الإذن وقد فرض عدم الإذن فيه بالقصد الأول وإذا أخذ من جهة الحظ فليس بطاعة فلم يصح فيه أن ينقلب طاعة فاللعب مثلا ليس في خدمة المطلوبات كأكل الطيبات وشربها فإن هذا داخل بالمعنى في جنس الضروريات وما دار بها بخلاف اللعب فإنه داخل بالمعنى في جنس ما هو ضد لها وحاصل هذا المباح أنه مما لا حرج فيه خاصة لا أنه مخير فيه كالمباح حقيقة وقد مر بيان ذلك وعلى هذا الأصل تخرج مسألة السماع المباح

237 فإن من الناس من يقول إنه ينقلب بالقصد طاعة وإذا عرض على هذا الأصل تبين الحق فيه إن شاء الله تعالى فإن قيل إذا سلمنا أن الخادم لمطلوب الترك مطلوب الترك بالقصد الأول فقد مر أنه يصير مطلوب الفعل بالقصد الثاني فاللعب والغناء ونحوهم إذا قصد باستعمالها التنشيط على وظائف الخدمة والقيام بالطاعة فقد صارت على هذا الوجه طاعة فكيف يقال إن مثل هذا لا ينقلب بالنية طاعة فالجواب أن اعتبار وجه النشاط على الطاعة ليس من جهة ما هو لعب أو غناء بل من جهة ما تضمن من ذلك لا بالقصد الأول فإنه استوى مع النوم مثلا والاستلقاء على القفا واللعب مع الزوجة في مطلق الاستراحة وبقي اختيار كونه لعبا على الجملة أو غناء تحت حكم اختيار المستريح فإذا أخذه من اختياره فهو سعي في حظه فلا طلب وإن أخذه من جهة الطلب فلا طلب في هذا القسم كما تبين ولو اعتبر فيه ما تضمنه بالقصد الثاني لم يضر الإكثار منه والدوام عليه ولا كان منهيا عنه بالكل لأنه قد تضمن خدمة المطلوب

238 الفعل فكان يكون مطلوب الفعل بالكل وقد فرضناه على خلاف ذلك هذا خلف وإنما يصير هذا شبيها بفعل المكروه طلبا لتنشيط النفس على الطاعة فكما أن المكروه بهذا القصد لا ينقلب طاعة كذلك ما كان في معناه أو شبيها به فصل ومنها بيان وجه دعاء النبي لأناس بكثرة المال مع علمه بسوء عاقبتهم فيه كقوله لثعلبة بن حاطب قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه ثم دعا له بعد ذلك فيقول القائل لو كان عنده أن كثرة المال يضر به فلم دعا له وجواب هذا راجع إلى ما تقدم من أن دعاءه له إنما كان من جهة أصل الإباحة في الاكتساب أو أصل الطلب فلا إشكال في دعائه عليه الصلاة والسلام له ومثله التحذير من فتنة المال مع أصل مشروعية الاكتساب له كقوله إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض قيل وما بركات الأرض قال زهرة الدنيا فقيل هل يأتي الخير بالشر فقال لا يأتي الخير إلا بالخير وإن هذا المال حلوة خضرة الحديث وقال حكيم ابن حزام سألت النبي فأعطاني ثم سألته فأعطاني ثم سألته فأعطاني ثم سألته فأعطاني ثم قال إن هذا المال خضرة حلوة الحديث وقال المكثرون هم الأقلون يوم القيامة الحديث وما أشبه ذلك مما أشار به إلى التحذير من الفتنة ولم ينه عن أصل الاكتساب المؤدي إلى ذلك ولا عن

239 الزائد على ما فوق الكفاية بناء على أن الأصل المقصود في المال شرعا مطلوب وإنما الاكتساب خادم لذلك المطلوب فلذلك كان الاكتساب من أصله حلالا إذا روعيت فيه شروطه كان صاحبه مليا أو غير ملي فلم يخرجه النهي عن الإسراف فيه عن كونه مطلوبا في الأصل لأن الطلب أصلي والنهي تبعي فلم يتعارضا ولأجل هذا ترك النبي أصحابه يعملون في جميع ما يحتاجون إليه في دنياهم ليستعينوا به وهو ظاهر من هذه القاعدة والفوائد المبنية عليها كثيرة المسألة السادسة عشرة قد تقدم أن الأوامر والنواهي في التأكيد ليست على رتبةواحدة في الطلب الفعلي أو التركي وإنما ذلك بحسب تفاوت المصالح الناشئة عن امتثال الأوامر واجتناب النواهي والمفاسد الناشئة عن مخالفة ذلك وعلى ذلك التقدير يتصور انقسام الاقتضاء إلى أربعة أقسام وهي الوجوب والندب والكراهة والتحريم وثم اعتبار آخر لا ينقسم فيه ذلك الانقسام بل يبقى الحكم تابعا لمجرد الاقتضاء وليس للاقتضاء إلا وجهان أحدهما اقتضاء الفعل والآخر اقتضاء الترك فلا فرق في مقتضى الطلب بين واجب ومندوب ولا بين مكروه ومحرم وهذا الاعتبار جرى عليه أرباب الأحوال من الصوفية ومن حذا حذوهم ممن اطرح مطالب الدنيا جملة وأخذ بالحزم والعزم في سلوك طريق الآخرة إذ لم يفرقوا بين واجب ومندوب في العمل بهما ولا بين مكروه ومحرم في ترك العمل بهما بل ربما أطلق بعضهم على المندوب أنه واجب على السالك وعلى المكروه أنه محرم وهؤلاء هم الذي عدوا المباحات من قبيل الرخص كما مر

240 في أحكام الرخص وإنما أخذوا هذا المأخذ من طريقين أحدهما من جهة الآمر وهو رأي من لم يعتبر في الأوامر والنواهي إلا مجرد الاقتضاء وهو شامل للأقسام كلها والمخالفة فيها كلها مخالفة للآمر والناهي وذلك قبيح شرعا دع القبيح عادة وليس النظر هنا فيما يترتب على المخالفة من ذم أو عقاب بل النظر إلى مواجهة الآمر بالمخالفة ومن هؤلاء من بالغ في الحكم بهذا الاعتبار حتى لم يفرق بين الكبائر والصغائر من المخالفات وعد كل مخالفة كبيرة وهذا رأي أبي المعالي في الإرشاد فإنه لم ير الانقسام إلى الصغائر والكبائر بالنسبة إلى مخالفة الآمر والناهي وإنما صح عنده الانقسام بالنسبة إلى المخالفات في أنفسها مع قطع النظر عن الآمر والناهي وما رآه يصح في الاعتبار والثاني من جهة معنى الأمر والنهي وله اعتبارات أحدها النظر إلى قصد التقرب بمقتضاها فإن امتثال الأوامر واجتناب

241 النواهي من حيث هي تقتضي التقرب من المتوجه إليه كما أن المخالفة تقتضي ضد ذلك فطالب القرب لا فرق عنده بين ما هو واجب وبين ما هو مندوب لأن الجميع يقتضيه حسبما دلت عليه الشريعة كما أنه لا فرق بين المكروه والمحرم عنده لأن الجميع يقتضي نقيض القرب وهو إما البعد وإما الوقوف عن زيادة القرب والتمادي في القرب هو المطلوب فحصل من تلك أن الجميع على وزان واحد في قصد التقرب والهرب عن البعد والثاني النظر إلى ما تضمنته الأوامر والنواهي من جلب المصالح ودرء المفاسد عند الامتثال وضد ذلك عند المخالفة فإنه قد مر أن الشريعة وضعت لجلب المصالح ودرء المفاسد فالباني على مقتضى ذلك لا يفترق عنده طلب من طلب كالأول في القصد إلى التقرب وأيضا فإذا كان التفاوت في مراتب الأوامر والنواهي راجعا إلى مكمل خادم ومكمل مخدوم وما هو كالصفة والموصوف فمتى حصلت المندوبات كملت الواجبات وبالضد فالأمر راجع إلى كون

242 الضروريات آتية على أكمل وجوهها فكان الافتقار إلى المندوبات كالمضطر إليه في أداء الواجبات فزاحمت المندوبات الواجبات في هذا الوجه من الافتقار فحكم عليها بحكم واحد وعلى هذا الترتيب ينظر في المكروهات مع المحرمات من حيث كانت رائدا لها وأنسابها فإن الأنس بمخالفة ما يوجب بمقتضى العادة الأنس بما فوقها حتى قيل المعاصي بريد الكفر ودل على ذلك قوله تعالى كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون وتفسيره في الحديث وحديث الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات الخ فقوله كالراعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه وفي قسم الامتثال قوله وما

243 لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه وقوله الله الذى أنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم إلى قوله وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار وأشباه ذلك فتصريف النعمة في مقتضى الأمر شكران لكل نعمة وصلت إليك أو كانت سببا في وصولها إليك والأسباب الموصلة ذلك إليك لا تختص بسبب دون سبب ولا خادم دون خادم فحصل شكر النعم التى في السموات والأرض وما بينهما وتصريفها في مخالفة الأمر كفران لكل نعمة وصلت إليك أو كانت سببا فيها كذلك أيضا وهذا النظر ذكره الغزالي في الإحياء وهو يقتضي أن لا فرق بين أمر وأمر ولا نهي ونهي فامتثال كل أمر شكران على الإطلاق ومخالفة كل أمر كفران على الإطلاق وثم أوجه أخر يكفي منها ما ذكر وهذا النظر راجع إلى مجرد اصطلاح لا إلى معنى يختلف فيه إذ لا ينكر أصحاب هذا النظر انقسام الأوامر والنواهي كما يقول الجمهور بحسب التصور النظري وإنما أخذوا في نمط آخر وهو أنه لا يليق بمن يقال له وما خلقت الجن والإنس إلا

244 ليعبدون أن يقوم بغير التعبد وبذل المجهود في التوجه إلى الواحد المعبود وإنما النظر في مراتب الأوامر والنواهي يشبه الميل إلى مشاحة العبد لسيده في طلب حقوقه وهذا غير لائق بمن لا يملك لنفسه شيئا لا في الدنيا ولا في الآخرة إذ ليس للعبد حق على السيد من حيث هو عبد بل عليه بذل المجهود والرب يفعل ما يريد فصل ويقتضي هذا النظر التوبة عن كل مخالفة تحصل بترك المأمور به أو فعل المنهي عنه فإنه إذا ثبت أن مخالفة الشارع قبيحة شرعا ثبت أن المخالف مطلوب بالتوبة عن تلك المخالفة من حيث هي مخالفة الأمر أو النهي أو من حيث ناقضت التقرب أو من حيث ناقضت وضع المصالح أو من حيث كانت كفرانا للنعمة ويندرج هنا المباح على طريقة هؤلاء من حيث جرى عندهم مجرى الرخص ومذهبهم الأخذ بالعزائم وقد تقدم أن الأولى ترك الرخص فيما استطاع المكلف فيحصل من ذلك أن العمل بالمباح مرجوح على ذلك الوجه وإذا كان مرجوحا فالراجح الأخذ بما يضاده من المأمورات وترك شيء من المأمورات مع الاستطاعة مخالفة فالنزول إلى المباح على هذا الوجه مخالفة في الجملة وإن لم تكن مخالفة في الحقيقة وبهذا التقرير يتبين معنى قوله عليه الصلاة والسلام يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إلى الله في اليوم سبعين مرة وقوله إنه ليغان على قلبي فاستغفر الله الحديث ويشمله عموم قوله تعالى وتوبوا إلى

245 الله جميعا أيها المؤمنون ولأجله أيضا جعل الصوفية بعض مراتب الكمال إذا اقتصر السالك عليها دون ما فوقها نقصا وحرمانا فإن ما تقتضيه المرتبة العليا فوق ما تقتضيه المرتبة التي دونها والعاقل لا يرضى بالدون ولذلك أمر بالاستباق إلى الخيرات مطلقا وقسم المكلفون إلى أصحاب اليمين وقال تعالى فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنه نعيم وأما إن كان من أصحاب اليمين الآية فكان من شأنهم أن يتجاروا في ميدان الفضائل حتى يعدوا من لم يكن في ازدياد ناقصا ومن لم يعمر أنفاسه بطالا وهذا مجال لا مقال فيه وعليه أيضا نبه حديث الندامة يوم القيامة حيث تعم الخلائق كلهم فيندم المسيء أن لا يكون قد أحسن والمحسن أن لا يكون قد ازداد إحسانا فإن قيل هذا إثبات للنقص في مراتب الكمال وقد تقدم أن مراتب الكمال لا نقص فيها فالجواب أنه ليس بإثبات نقص على الإطلاق وإنما هو إثبات راجح وأرجح وهذا موجود وقد ثبت أن الجنة مائة درجة ولا شك في تفاوتها في الأكملية والأرجحية وقال الله تعالى تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض وقال

246 ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض ومعلوم أن لا نقص في مراتب النبوة إلا أن المسارعة في الخيرات تقتضي المطالبة بأقصى المراتب بحسب الإمكان عادة فلا يليق بصاحبها الاقتصار على مرتبة دون ما فوقها فلذلك قد تستنقص النفوس الإقامة ببعض المراتب مع إمكان الرقي وتتحسر إذا رأت شفوف ما فوقها عليها كما يتحسر أصحاب النقص حقيقة إذا رأوا مراتب الكمال كالكفار وأصحاب الكبائر من المسلمين وما أشبه ذلك ولما فضل رسول الله بين دور الأنصار وقال في كل دور الأنصار خير قال سعد بن عبادة يا رسول الله خير دور الأنصار فجعلنا آخرا فقال أو ليس بحسبكم أن تكونوا من الخيار وفي حديث آخر قد فضلكم على كثير

247 فهذا يشير إلى أن رتب الكمال تجتمع في مطلق الكمال وإن كان لها مراتب أيضا فلا تعارض بينهما والله أعلم وقد يقال إن قول من قال حسنات الأبرار سيئات المقربين راجع إلى هذا المعنى وهو ظاهر فيه والله أعلم المسألة السابعة عشرة تقدم أن من الحقوق المطلوبة ما هو حق لله وما هو حق للعباد وأن ما هو حق للعباد ففيه حق لله كما أن ما هو حق لله فهو راجع إلى العباد وعلى ذلك يقع التفريع هنا بحول الله فنقول الأوامر والنواهي يمكن أخذها امتثالا من جهة ما هى حق لله تعالى مجردا عن النظر في غير ذلك ويمكن أخذها من جهة ما تعلقت بها حقوق العباد ومعنى ذلك أن المكلف إذا سمع مثلا قول الله تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا فلامتثاله هذا الأمر مأخذان أحدهما وهو المشهور المتداول أن ينظر في نفسه بالنسبة إلى قطع الطريق وإلى زاد يبلغه وإلى مركوب يستعين به وإلى الطريق إن كان مخوفا أو مأمونا وإلى استعانته بالرفقة والصحبة لمشقة الوحدة وغرورها وإلى غير ذلك من الأمور

248 التى تعود عليه في قصده بالمصلحة الدنيوية أو بالمفسدة فإذا حصلت له أسباب السفر وشروطه العاديات انتهض للامتثال وإن تعذر عليه ذلك علم أن الخطاب لم ينحتم عليه والثاني أن ينظر في نفس ورود الخطاب عليه من الله تعالى غافلا ومعرضا عما سوى ذلك فينتهض إلى الامتثال كيف أمكنه لا يثنيه عنه إلا العجز الحالي أو الموت آخذا للاستطاعة أنها باقية ما بقي من رمقه بقية وأن الطوارق العارضة والأسباب المخوفة لا توازي عظمة أمر الله فتسقطه أو ليست بطوارق ولا عوارض في محصول العقد الإيماني حسبما تقدم في فصل الأسباب والمسببات من كتاب الأحكام وهكذا سائر الأوامر والنواهي فأما المأخذ الأول فجار على اعتبار حقوق العباد لأن ما يذكره الفقهاء في الاستطاعةالمشروطة راجع إليها

249 وأما الثاني فجار على إسقاط اعتبارها وقد تقدم ما يدل على صحة ذلك الإسقاط ومن الدليل أيضا على صحة هذا المأخذ أشياء أحدها ما جاء في القرآن من الآيات الدالة على أن المطلوب من العبد التعبد بإطلاق وأن على الله ضمان الرزق كان ذلك مع تعاطي الأسباب أولا كقوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون قوله تعالى وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى فهذا واضح في أنه إذا تعارض حق الله وحق العباد فالمقدم حق الله فإن حقوق العباد مضمونة على الله تعالى والرزق من أعظم حقوق العباد فاقتضى الكلام أن من اشتغل بعبادة الله ك

250 فلا راد لفضله وفى الآية الأخرى وإن يمسسك بخير فهو على كل شئ قدير وقال ومن يتوكل على الله فهو حسبه بعد قوله ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب فمن اشتغل بتقوى الله تعالى فالله كافيه والآيات في هذا المعنى كثيرة والثاني ما جاء في السنة من ذلك كقوله احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده أمامك تعرف إليه في الرخاء يعرفك في الشدة إذا سألت فسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله جف القلم بما هو كائن فلو اجتمع الخلق على أن يعطوك شيئا لم يكتبه الله لك لم يقدروا عليه وعلى أن يمنعوك شيئا كتبه الله لك لم يقدروا عليه الحديث فهو كله نص في ترك الاعتماد

251 على الأسباب وفي الاعتماد على الله والأمر بطاعة الله وأحاديث الرزق والأجل كقوله اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطى لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد وقال لعمر بن الخطاب في ابن صياد إن يكنه فلا تطيقه وقال جف القلم بما أنت لاق وقال لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها ولتنكح فإن لها ما قدر لها وقال في العزل ولا عليكم أن لا تفعلوا فإنه ليست نسمة كتب الله أن تخرج إلا هى كائنة وفي الحديث المعصوم من عصم الله وقال إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة إلى سائر ما في هذا المعنى مما

252 هو صريح في أن أصل الأسباب التسبب وأنها لا تملك شيئا ولا ترد شيئا وأن الله هو المعطى والمانع وأن طاعة الله هي العزيمة الأولى والثالث ما ثبت من هذا العمل عن الأنبياء صلوات الله عليهم فقدموا طاعة الله على حقوق أنفسهم فقد قام عليه الصلاة والسلام حتى تفطرت قدماه

253 وقال أفلا أكون عبدا شكورا وبلغ رسالة ربه على ما كان عليه من الخوف من قومه حين تمالئوا على إهلاكه ولكن الله عصمه وقال الله له

254 قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا الآية وقال له ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله فأمره باطراح ما يتوقاه فإن الله حسبه وقال الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وقال قبل ذلك وكان أمر الله قدرا مقدورا وقال هود عليه السلام لقومه وهو يبلغهم الرسالة فكيدونى جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله الآية وقال موسى وهارون عليهما السلام ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى فقال الله لهما لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى وكان عبد الله بن أم مكتوم قد نزل عذره في قوله تعالى غير أولى الضرر ولكنه كان بعد ذلك يقول إنى أعمى لا أستطيع أن أفر فادفعوا إلي اللواء وأقعدونى بين الصفين فيترك ما منح من الرخصة ويقدم حق الله على حق نفسه وروى عن جندع بن ضمرة أنه كان شيخا كبيرا فلما أمروا بالهجرة وشدد عليهم فيها مع علمهم بأن الدين لا حرج فيه ولا تكليف بما لا يطاق قال لبنيه إنى أجد حيلة فلا أعذر احملوني على سرير فحملوه فمات بالتنعيم وهو يصفق يمينه على شماله ويقول هذا لك وهذا لرسولك الحديث وعن بعض الصحابة أنه قال شهدت مع رسول الله أنا وأخ لي أحدا فرجعنا جريحين فلما أذن مؤذن رسول الله بالخروج في طلب العدو قلت لأخي أو قال لي أتفوتنا غزوة مع رسول الله والله ما لنا من دابة نركبها وما منا إلا جريح ثقيل فخرجنا مع رسول الله وكنت أيسرا جرحا منه فكان إذا غلب حملته عقبة ومشى عقبة حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون وفى النقل من هذا النحو كثير وقد مر منه في فصل الرخص والعزائم من كتاب الأحكام ما فيه كفاية فإن قيل إن هذه الأدلة إذا وقف معها حسبما تقرر اقتضت اطراح الأسباب جملة أعنى ما كان منها عائدا إلى مصالح العباد وهذا غير صحيح لأن الشارع

255 وضعها وأمر بها واستعملها رسول الله وأصحابه والتابعون بعده وهى عمدة ما حافظت عليه الشريعة وأيضا فإن حقوق الله تعالى ليست على وزان واحد في الطلب فمنها ما هو مطلوب حتما كالقواعد الخمس وسائر الضروريات المراعاة في كل ملة ومنها ما ليس بحتم كالمندوبات فكيف يقال إن المندوبات مقدمة على غيرها من حقوق العباد وإن كانت واجبة هذا لا يستقيم في النظر وأيضا فالأدلة المعارضة لما تقدم أكثر كقوله تعالى ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وقوله وتزودوا وقوله وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل الآية وقد كان عليه الصلاة والسلام يستعد الأسباب لمعاشه وسائر أعماله من جهاد وغيره ويعمل بمثل ذلك أصحابه والسنة الجارية في الخلق الجريان على العادات وما تقدم لا يقتضيه فلا بد من صحة أحدهما وإن صح بطل الآخر وليس ما دللتم عليه بأولى مما دللنا عليه والترجيح من غير دليل تحكم فالجواب أن ما نقدم لا يدل على اطراح الأسباب بل يدل على تقديم

256 بعض الأسباب خاصة وهى الأسباب التى يقتضيها حق الله تعالى على الأسباب التى تقتضيها حقوق العباد على وجه اجتهادي شرعي قامت الأدلة عليه فليس بين ذلك وبين أمره عليه الصلاة والسلام بالأسباب واستعماله لها تعارض ودليل ذلك إقراره عليه الصلاة والسلام فعل من اطرحها عند التعارض وعمله عليه الصلاة والسلام على اطراحها كذلك في مواطن كثيرة وندبه إلى ذلك كما تبين في الأحاديث المتقدمة وقد مر في فصل الأسباب من كتاب الأحكام وجه الفقه في هذا المكان عند ذكر كيفية الدخول في الأسباب هذا جواب الأول وأما الثاني فإن حقوق الله تعالى على أي وجه فرضت أعظم من حقوق العباد كيف كانت وإنما فسح للمكلف في أخذ حقه وطلبه من باب الرخصة والتوسعة لا من باب عزائم المطالب وبيان ذلك في فصل الرخص والعزائم وإذا كان كذلك فالعزائم أولى بالتقديم ما لم يعارض معارض وأيضا فإن حقوق الله إن كانت ندبا إنما هي من باب التحسينات خادم للضروريات وإنها ربما أدى الإخلال بها إلى الاخلال بالضروريات وإن المندوبات بالجزء واجبات بالكل فلأجل هذا كله قد يسبق إلى النظر تقديمها على واجبات حقوق العباد وهو نظر فقهي صحيح مستقيم في النظر وأما الثالث فلا معارضة فيه فإن أدلته لا تدل على تقديم حقوق العباد على حقوق الله أصلا وإذا لم تدل عليها لم يكن فيها معارضة أصلا وإلى هذا كله فإن تقديم حقوق العباد إنما يكون حيث يعارض في تقديم حق الله معارض يلزم منه تضييع حق الله تعالى فإنه إذا شق عليه الصوم مثلا لمرضه ولكنه صام فشغله ألم المشقة بالصوم عن استيفاء الصلاة على كمالها وإدامة الحضور فيها أو ما أشبه ذلك عادت عليه المحافظة على تقديم حق الله إلى الإخلال بحقه

257 فلم يكن له ذلك فأما إن لم يكن كذلك فليس تقديم حق الله على حق العبد بنكير ألبتة بل هو الأحق على الإطلاق وهذا فقه في المسألة حسن جدا وبالله التوفيق فصل واعلم أن ما تقدم من تأخير حقوق العباد إنما هو فيما يرجع إلى نفس المكلف لا إلى غيره أما ما كان من حق غيره من العباد فهو بالنسبة إليه من حقوق الله تعالى وقد تبين هذا في موضعه المسألة الثامنة عشرة الأمر والنهي يتواردان على الفعل وأحدهما راجع إلى جهة الأصل والآخر راجع إلى جهة التعاون هل يعتبر الأصل أو جهة التعاون أما اعتبارهما معا من جهة واحدة فلا يصح ولا بد من التفصيل فالأمر إما أن يرجع إلى جهة الأصل أو التعاون فإن كان الأول فحاصله راجع إلى قاعدة سد الذرائع فإنه منع الجائز

258 لئلا يتوسل به إلى الممنوع وقد مر ما فيه وحاصل الخلاف فيه أنه يحتمل ثلاثة أوجه أحدها اعتبار الأصل إذ هو الطريق المنضبط والقانون المطرد والثاني اعتبار جهة التعاون فإن اعتبار الأصل مؤد إلى الملال

259 الممنوع والأشياء إنما تحل وتحرم بمآلاتها ولأنه فتح باب الحيل والثالث التفصيل فلا يخلو أن تكون جهة التعاون غالبة أو لا فإن كانت غالبة فاعتبار الأصل واجب إذ لو اعتبر الغالب هنا لأدى إلى انخرام الأصل جملة وهو باطل وإن لم تكن غالبة فالإجتهاد وإن كان الثاني فظاهره شنيع لأنه إلغاء لجهة النهي ليتوصل إلى المأمور به تعاونا وطريق التعاون متأخر في الاعتبار عن طريق إقامة الضروري والحاجي لأنه تكميلي وما هو إلا بمثابة الغاصب والسارق ليتصدق بذلك على المساكين أو يبنى قنطرة ولكنه صحيح إذا نزل منزلته وهو أن يكون من باب الحكم على الخاصة لأجل العامة

260 كالمنع من تلقي الركبان فإن منعه في الأصل ممنوع إذ هو من باب منع الإرتفاق وأصله ضروري أو حاجي لأجل أهل السوق ومنع بيع الحاضر للبادئ لأنه في الأصل منع من النصيحة إلا أنه إرفاق لأهل الحضر وتضمين الصناع قد يكون من هذا القبيل وله نظائر كثيرة فإن جهة التعاون هنا أقوى وقد أشار الصحابة على الصديق إذ قدموه خليفة بترك التجارة والقيام بالتحرف على العيال لأجل ما هو أعم في التعاون وهو القيام بمصالح المسلمين وعوضه من ذلك في بيت المال وهذا النوع صحيح كما تفسر والله أعلم الفصل الرابع في العموم والخصوص ولا بد من مقدمة تبين المقصود من العموم والخصوص ههنا والمراد العموم المعنوي كان له صيغة مخصوصة أولا فإذا قلنا في وجوب الصلاة أو غيرها من الواجبات في تحريم الظلم أو غيره إنه عام فإنما معنى ذلك أن ذلك ثابت على الإطلاق والعموم بدليل فيه صيغة عموم أولا بناء على أن الأدلة المستعملة هنا إنما هي الاستقرائية المحصلة بمجموعها القطع بالحكم حسبما تبين في المقدمات والخصوص بخلاف العموم فإذا ثبت مناط النظر وتحقق فيتعلق به مسائل المسألة الأولى إذا ثبتت قاعدة عامة أو مطلقة فلا تؤثر فيها معارضة قضايا الأعيان ولا

261 حكايات الأحوال والدليل على ذلك أمور أحدها أن القاعدة مقطوع بها بالفرض لأنا إنما نتكلم في الأصول الكلية القطعية وقضايا الأعيان مظنونة أو متوهمة والمظنون لا يقف للقطعي ولا يعارضه والثانى أن القاعدة غير محتملة لاستنادها إلى الأدلة القطعية وقضايا الأعيان محتملة لإمكان أن تكون على غير ظاهرها أو على ظاهرها وهى مقتطعة ومستثناة من ذلك الأصل فلا يمكن والحالة هذه إبطال كلية القاعدة بما هذا شأنه والثالث أن قضايا الأعيان جزئية والقواعد المطردة كليات ولا تنهض الجزئيات أن تنقض الكليات ولذلك تبقى أحكام الكليات جارية في الجزئيات وإن لم يظهر فيها معنى الكليات على الخصوص كما في المسألة السفرية بالنسبة إلى الملك المترف وكما في الغنى بالنسبة إلى مالك النصاب والنصاب لا يغنيه على الخصوص وبالضد في مالك غير النصاب وهو به غني والرابع أنها لو عارضتها فإما أن يعملا معا أو يهملا أو يعمل بأحدهما دون الآخر أعنى في محل المعارضة فإعمالهما معا باطل وكذلك إهمالهما لأنه

262 إعمال للمعارضة فيما بين الظني والقطعي وإعمال الجزئي دون الكلي ترجيح له على الكلي وهو خلاف القاعدة فلم يبق إلا الوجه الرابع وهو إعمال الكلي دون الجزئي وهو المطلوب فإن قيل هذا مشكل على بابي التخصيص والتقييد فإن تخصيص العموم وتقييد المطلق صحيح عند الأصوليين بأخبار الأحاد وغيرها من الأمور المظنونة وما ذكرت جار فيها فيلزم إما بطلان ما قالوه وإما بطلان هذه القاعدة لكن ما قالوه صحيح فلزم إبطال هذه القاعدة فالجواب من وجهين أحدهما أن ما فرض في السؤال ليس من مسألتنا بحال فإن ما نحن فيه من قبيل ما يتوهم فيه الجزئي معارضا وفي الحقيقة ليس بمعارض فإن القاعدة إذا كانت كلية ثم ورد في شيء مخصوص وقضية عينية ما يقتضى بظاهره المعارضة في تلك القضية المخصوصة وحدها مع إمكان أن يكون معناها موافقا لا مخالفا فلا إشكال في أن لا معارضة هنا وهو هنا محل التأويل لمن تأول أو محل عموم

263 الاعتبار إن لاق بالموضع الإطراح والإهمال كما إذا ثبت لنا أصل التنزيه

264 كليا عاما ثم ورد موضع ظاهره التشبيه في أمر خاص يمكن أن يراد به خلاف ظاهره على ما أعطته قاعدة التنزيه فمثل هذا لا يؤثر في صحة الكلية الثابتة وكما إذا ثبت لنا أصل عصمة الأنبياء من الذنوب ثم جاء قوله لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ونحو ذلك فهذا لا يؤثر لإحتمال حمله على وجه لا يخرم ذلك الأصل وأما تخصيص العموم فشيء آخر لأنه إنما يعمل بناء على أن المراد بالمخصص ظاهره من غير تأويل ولا احتمال فيحنئذ يعلم ويعتبر كما قاله الأصوليون وليس ذلك ما نحن فيه فصل وهذا الموضع كثير الفائدة عظيم النفع بالنسبة إلى المتمسك بالكليات إذا عارضتها الجزئيات وقضايا الأعيان فإنه إذا تمسك بالكلي كان له الخيرة في الجزئي في حمله على وجوه كثيرة فإن تمسك بالجزئي لم يمكنه مع التمسك الخيرة في الكلي فثبت في حقه المعارضة ورمت به أيدي الإشكالات في مهاو بعيدة وهذا هو أصل الزيغ والضلال في الدين لأنه اتباع للمتشابهات وتشكك في القواطع المحكمات ولا توفيق إلا بالله ومن فوائد سهولة المتناول في انقطاع الخصام والتشغيب الواقع من المخالفين

265 ومثال هذا ما وقع في بعض المجالس وقد ورد على غرناطة بعض العدوة الأفريقية فأورد على مسألة العصمة الإشكال المورد في قتل موسى للقبطي وأن ظاهر القرآن يقضى بوقوع المعصية منه عليه السلام بقوله هذا من عمل الشيطان وقوله رب إني ظلمت نفسى فاغفر لى فأخذ معه في تفصيل ألفاظ الآية بمجردها وما ذكر فيها من التأويلات إخراج الآيات عن ظواهرها وهذا المأخذ لا يتخلص وربما وقع الانفصال على غير وفاق فكان مما ذاكرت به بعض الأصحاب في ذلك المسألة سهلة في النظر إذا روجع بها الأصل وهي مسألة عصمة الأنبياء عليهم السلام فيقال له الأنبياء معصومون من الكبائر باتفاق أهل السنة وعن الصغائر باختلاف وقد قام البرهان على ذلك في علم الكلام فمحال أن يكون هذا الفعل من موسى كبيرة وإن قيل أنهم معصومون أيضا من الصغائر وهو صحيح فمحال أن يكون ذلك الفعل منه ذنبا فلم يبق إلا أن يقال أنه ليس بذنب ولك في التأويل السعة بكل ما يليق بأهل النبوة ولا ينبو عنه ظاهر الآيات فاستحسن ذلك ورأى ذلك مأخذا علميا في المناظرات وكثيرا ما يبنى عليه النظار وهو حسن والله أعلم المسألة الثانية ولما كان قصد الشارع ضبط الخلق إلى القواعد العامة وكانت العوائد قد جرت بها سنة الله أكثرية لا عامة وكانت الشريعة موضوعة على مقتضى ذلك الوضع كان من الأمر الملتفت إليه إجراء القواعد على العموم العادي لا العموم الكلي التام الذي لا يختلف عنه جزئي ما أما كون الشريعة على ذلك الوضع فظاهر ألا ترى أن وضع التكاليف عام

266 وجعل على ذلك علامة البلوغ وهو مظنة لوجود العقل الذى هو مناط التكليف لأن العقل يكون عنده في الغالب لا على العموم إذ لا يطرد ولا ينعكس كليا على التمام لوجود من يتم عقله قبل البلوغ ومن ينقص وإن كان بالغا إلا أن الغالب الاقتران وكذلك ناط الشارع الفطر والقصر بالسفر لعلة المشقة وإن كانت المشقة قد توجد بدونها وقد تفقد معها ومع ذلك فلم يعتبر الشارع تلك النوادر بل أجرى القاعدة مجراها ومثله حد الغنى بالنصاب وتوجيه الأحكام بالبينات وإعمال أخبار الآحاد والقياسات الظنية إلى غير ذلك من الأمور التى قد تتخلف مقتضياتها في نفس الأمر ولكنه قليل بالنسبة إلى عدم التخلف فاعتبرت هذه القواعد كلية عادية لا حقيقية وعلى هذا الترتيب تجد سائر الفوائد التكليفية وإذا ثبت ذلك ظهر أن لا بد من إجراء العمومات الشرعية على مقتضى الأحكام العادية من حيث هى منضبطة بالمظنات إلا إذا ظهر معارض فيعمل على ما يقتضيه الحكم فيه كما إذا عللنا القصر بالمشقة فلا ينتقض بالملك المترف

267 ولا بالصناعة الشاقة وكما لو علل الربا في الطعام بالكيل فلا ينتقض بما لا يتأتى كيله لقلة أو غيرها كالتافه من البر وكذلك إذا عللناه في النقدين بالثمنية لا ينتقض بما لا يكون ثمنا لقلته أو عللناه في الطعام بالاقتيات فلا ينتقض بما ليس فيه اقتيات كالحبة الواحدة وكذلك إذا اعترضت علة القوت بما يقتات

268 في النادر كاللوز والجوز والقثاء والبقول وشبهها بل الاقتيات إنما اعتبر الشارع منه ما كان معتادا مقيما للصلب على الدوام وعلى العموم ولا يلزم اعتباره في جميع الأقطار وكذلك نقول أن الحد علق في الخمر على نفس التناول حفظا على العقل ثم إنه أجرى الحد في القليل الذى لا يذهب العقل مجرى الكثير اعتبارا بالعادة في تناول الكثير وعلق حد الزنى على الإيلاج وإن كان المقصود حفظ الأنساب فيحد من لم ينزل لأن العادة الغالية مع الإيلاج الإنزال وكثير من هذا فليكن على بال من النظر في المسائل الشرعية أن القواعد العامة إنما تنزل على العموم العادي المسألة الثالثة لا كلام في أن للعموم صيغا وضعية والنظر في هذا مخصوص بأهل العربية وإنما ينظر هنا في أمر آخر وإن كان من مطالب أهل العربية أيضا ولكنه أكيد التقرير ها هنا وذلك أن للعموم الذي تدل عليه الصيغ بحسب الوضع نظرين أحدهما باعتبار ما تدل عليه الصيغة في أهل وضعها على الإطلاق وإلى

269 هذا النظر قصد الأصوليين فلذلك يقع التخصيص عندهم بالعقل والحس وسائر المخصصات المنفصلة والثاني بحسب المقاصد الاستعمالية التى تقضي العوائد بالقصد إليها وإن كان أصل الوضع على خلاف ذلك وهذا الاعتبار استعمالي والأول قياسي والقاعدة في الأصول العربية أن الأصل الاستعمالي إذا عارض الأصل القياسي كان الحكم للاستعمالي وبيان ذلك هنا أن العرب تطلق ألفاظ العموم بحسب ما قصدت تعميمه مما يدل عليه معنى الكلام خاصة دون ما تدل عليه تلك الألفاظ بحسب الوضع الإفرادي كما أنها أيضا تطلقها وتقصد بها تعميم ما تدل عليه في أصل الوضع وكل ذلك مما يدل عليه مقتضى الحال فإن المتكلم قد يأتي بلفظ عموم مما يشمل

270 بحسب الوضع نفسه وغيره وهو لا يريد نفسه ولا يريد أنه داخل في مقتضى العموم وكذلك قد يقصد بالعموم صنفا مما يصلح اللفظ له في أصل الوضع دون غيره من الأصناف كما أنه قد يقصد ذكر البعض في لفظ العموم ومراده من ذكر البعض الجميع كما تقول فلان يملك المشرق والمغرب والمراد جميع الأرض وضرب زيد الظهر والبطن ومنه رب المشرقين ورب المغربين وهو الذى في السماء إله وفي الأرض إله فكذلك إذا قال من دخل داري أكرمته فليس المتكلم بمراد وإذا قال أكرمت الناس أو قاتلت الكفار فإنما المقصود من لقي منهم فاللفظ عام فيهم خاصة وهم المقصودون باللفظ العام دون من لم يخطر بالبال قال ابن خروف ولو حلف رجل بالطلاق والعتق ليضربن جميع من في الدار وهو معهم فيها فضربهم ولم يضرب نفسه لبر ولم يلزمه شيء ولو قال اتهم الأمير كل من في المدينة فضربهم فلا يدخل الأمير في التهمة والضرب قال فكذلك لا يدخل شيء من صفات الباري تعالى تحت الأخبار في نحو قوله تعالى خالق كل شئ لأن العرب لا تقصد ذلك ولا تنويه ومثله والله بكل شيء عليم وإن كان عالما بنفسه وصفاته ولكن الإخبار إنما وقع عن جميع

271 كل شئ بأمر ربها لم يقصد به أنها تدمر السموات والأرض والجبال ولا المياه ولا غيرها مما هو في معناها وإنما المقصود تدمر كل شئ مرت عليه مما شأنها أن تؤثر فيه على الجملة ولذلك قال فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم وقال في الآية الأخرى ما تذر من شىء أتت عليه إلا جعلته كالرميم ومن الدليل على هذا أنه لا يصح استثناء هذه الأشياء بحسب اللسان فلا يقال من دخل داري أكرمته إلا نفسي أو أكرمت الناس إلا نفسي ولا قاتلت الكفار إلا من لم ألق منهم ولا ما كان نحو ذلك وإنما يصح الاستثناء من غير المتكلم ممن دخل الدار أو ممن لقيت من الكفار وهو الذى يتوهم دخوله لو لم يستثن هذا كلام العرب في التعميم فهو إذا الجاري في عمومات الشرع وأيضا فطائفة من أهل الأصول نبهوا على هذا المعنى وأن ما لا يخطر ببال المتكلم عند قصده التعميم إلا بالإخطار لا يحمل لفظه عليه إلا مع الجمود على

272 مجرد اللفظ وأما المعنى فيبعد أن يكون مقصودا للمتكلم كقوله أيما إهاب دبغ فقد طهر قال الغزالي خروج الكلب عن ذهن المتكلم والمستمع عند التعرض للدباغ ليس ببعيد بل هو الغالب الواقع ونقيضه هو الغريب المستبعد وكذا قال غيره أيضا وهو موافق لقاعدة العرب وعليه يحمل كلام الشارع بلا بد فإن قيل إذا ثبت أن اللفظ العام ينطلق على جميع ما وضع له في الأصل

273 حالة الإفراد فإذا حصل التركيب والاستعمال فأما أن تبقى دلالته على ما كانت عليه حالة الافراد أولا فإن كان الأول فهو مقتضى وضع اللفظ فلا إشكال وإن كان الثانى فهو تخصيص للفظ العام وكل تخصيص لا بد له من مخصص عقلي أو نقلي أو غيرهما وهو مراد الأصوليين ووجه آخر وهو أن العرب حملت اللفظ على عمومه في كثير من أدلة الشريعة مع أن معنى الكلام يقتضى على ما تقرر خلاف ما فهموا وإذا كان فهمهم في سياق الاستعمال معتبرا في التعميم حتى يأتي دليل التخصيص دل على أن الاستعمال لم يؤثر في دلالة اللفظ حالة الإفراد عندهم بحيث صار كوضع ثان بل هو باق على أصل وضعه ثم التخصيص آت من وراء ذلك بدليل متصل أو منفصل ومثال ذلك أنه لما نزل قوله تعالى الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم الآية شق ذلك عليهم وقالوا أينا لم يلبس إيمانه بظلم فقال عليه الصلاة والسلام إنه ليس بذاك ألا تسمع إلى قول لقمان إن الشرك لظلم عظيم وفى رواية فنزلت إن الشرك لظلم عظيم ومثل

274 بعض الكفار فقد عبدت الملائكة وعبد المسيح فنزل إن الذين سبقت لهم منا الحسنى الآية إلى أشياء كثيرة سياقها يقتضى بحسب المقصد الشرعي عموما أخص من عموم اللفظ وقد فهموا فيها مقتضى اللفظ وبادرت أفهامهم فيه وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم ولولا أن الاعتبار عندهم ما وضع له اللفظ في الأصل لم يقع منهم فهمه فالجواب عن الأول أنا إذا اعتبرنا الاستعمال العربي فقد تبقى دلالته الأولى وقد لا تبقى فإن بقيت فلا تخصيص وإن لم تبق دلالته فقد صار للاستعمال اعتبار آخر ليس للأصل وكأنه وضع ثان حقيقي لا مجازي وربما أطلق بعض الناس على مثل هذا لفظ الحقيقة اللغوية إذا أرادوا أصل الوضع ولفظ الحقيقة العرفية إذا أراد الوضع الاستعمالي والدليل على صحته ما ثبت في أصول العربية من أن للفظ العربي أصالتين أصالة قياسية وأصالة استعماليه فللاستعمال هنا أصالة أخرى غير ما للفظ في أصل الوضع وهي التى وقع الكلام فيها وقام الدليل عليها في مسألتنا فالعام إذا في الاستعمال لم يدخله تخصيص بحال وعن الثانى أن الفهم في عموم الاستعمال متوقف على فهم المقاصد فيه وللشريعة

275 بهذا النظر مقصدان أحدهما المقصد في الاستعمال العربي الذي أنزل القرآن بحسبه وقد تقدم القول فيه والثاني المقصد في الاستعمال الشرعي الذى تقرر في سور القرآن بحسب تقرير قواعد الشريعة وذلك أن نسبة الوضع الشرعي إلى مطلق الوضع الإستعمالى العربي كنسبه الوضع في الصناعات الخاصة إلى الوضع الجمهوري كما تقول في الصلاة إن أصلها الدعاء لغة ثم خصت في الشرع بدعاء مخصوص على وجه مخصوص وهي فيه حقيقة لا مجاز فكذلك نقول في ألفاظ العموم بحسب الاستعمال الشرعي إنها إنما تعم بحسب مقصد الشارع فيها والدليل على ذلك مثل الدليل على الوضع الإستعمالي المتقدم الذكر واستقراء مقاصد الشارع يبين ذلك مع ما ينضاف إليه في مسألة إثبات الحقيقة الشرعية فأما الأول فالعرب فيه شرع سواء لأن القرآن نزل بلسانهم وأما الثاني فالتفاوت في إدراكه حاصل إذ ليس الطارئ الإسلام من العرب في فهمه كالقديم العهد ولا المشتغل بتفهمه وتحصيله كمن ليس في تلك الدرجة ولا المبتدئ فيه كالمنتهي يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات فلا مانع من توقف بعض الصحابة في بعض ما يشكل أمره ويغمض وجه القصد الشرعي فيه حتى إذا تبحر في إدارك معاني الشريعة نظره واتسع في ميدانها باعه زال عنه ما وقف من الإشكال واتضح له القصد

276 الشرعي على الكمال فإذا تقرر وجه الاستعمال فما ذكر مما توقف فيه بعضهم راجع إلى هذا القبيل ويعضده ما فرضه الأصوليون من وضع الحقيقة الشرعية فإن الموضع يستمد منها وهذا الوضع وإن كان قد جيء به مضمنا في الكلام العربي فله مقاصد تختص به يدل عليها المساق الحكمي أيضا وهذا المساق يختص بمعرفته العارفون بقاصد الشارع كما أن الأول يختص بمعرفته العارفون بمقاصد العرب فكل ما سألوا عنه فمن القبيل إذا تدبرته فصل ويتبين لك صحة ما تقرر في النظر في الأمثلة المعترض بها في السؤال الأول فأما قوله تعالى الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم الآية فإن سياق الكلام يدل على أن المراد بالظلم أنواع الشرك على الخصوص فإن السورة من أولها إلى آخرها مقررة لقواعد التوحيد وهادمة لقواعد الشرك وما يليه والذي تقدم قبل الآية قصة إبراهيم عليه السلام في محاجته لقومه بالأدلة التي أظهرها لهم في الكوكب والقمر والشمس وكان قد تقدم قبل ذلك قوله ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته فبين أنه لا أحد أظلم ممن ارتكب هاتين الخلتين وظهر أنهما المعنى بهما في سورة الأنعام

277 إبطالا بالحجة وتقريرا لمنزلتهما في المخالفة وإيضاحا للحق الذي هو مضاد لهما فكأن السؤال إنما ورد قبل تقرير هذا المعنى وأيضا فإن ذلك لما كان تقريرا لحكم شرعي بلفظ عام كان مظنة لأن يفهم منه العموم في كل ظلم دق أو جل فلأجل هذا سألوا وكان ذلك عند نزول السورة وهى مكية نزلت في أول الإسلام قبل تقرير جميع كليات الأحكام وسبب احتمال النظر ابتداء أن قوله ولم يلبسوا إيمانهم بظلم نفي على نكرة لا قرينة فيها تدل على استغراق أنواع الظلم بل هو كقوله لم يأتني رجل فيحتمل المعاني التي ذكرها سيبويه وهي كلها نفى لموجب مذكور أو مقدر ولا نص في مثل هذا على الاستغراق في جميع الأنواع المحتملة إلا مع الإتيان بمن وما يعطى معناها ذلك مفقود هنا بل في السورة ما يدل على أن ذلك النفي وارد على ظلم معروف وهو ظلم الافتراء على الله والتكذيب بآياته فصارت الآية من جهة إفرادها بالنظر في هذا المساق مع كونها أيضا في مساق تقرير الأحكام

278 مجملة في عمومها فوقع الإشكال فيها ثم بين لهم النبي أن عمومها إنما القصد به نوع أو نوعان من أنواع الظلم وذلك ما دلت عليه السورة وليس فيه تخصيص على هذا بوجه

279 وأما قوله إنكم وما تعبدون الآية فقد أجاب الناس عن اعتراض ابن الزبعري فيها بجهله بموقعها وما روى في الموضع أن النبي قال له ما أجهلك بلغة قومك يا غلام لأنه جاء في الآية إنكم وما تعبدون وما لما لا يعقل فكيف تشمل الملائكة والمسيح والذى يجرى على أصل مسألتنا أن الخطاب ظاهره أنه لكفار قريش ولم يكونوا يعبدون الملائكة ولا المسيح وإنما كانوا يعبدون الأصنام فقوله وما تعبدون عام في الأصنام التى كانوا يعبدون فلم يدخل في العموم الاستعمالى غير ذلك فكان اعتراض المعترض جهلا منه بالمساق وغفلة عما قصد في الآيات وما روى من قوله ما أجهلك بلغة قومك يا غلام دليل على عدم تمكنه في فهم المقاصد العربية وإن كان من العرب لحداثته وغلبة الهوى عليه في الاعتراض أن يتأمل مساق الكلام حتى يتهدى للمعنى المراد ونزل قوله إن الذين سبقت لهم منا الحسنى بيانا لجهله ومثله ما في الصحيح أن مروان قال لبوابه اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل له لئن كان كل امرىء فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون فقال ابن عباس مالكم ولهذه الآية إنما دعا النبي صلى الله

280 كذلك حتى قوله يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فهذا من ذلك المعنى أيضا وبالجملة فجوابهم بيان لعمومات تلك النصوص كيف وقعت في الشريعة وأن ثم قصدا آخر سوى القصد العربي لا بد من تحصيله وبه يحصل فهمها وعلى طريقه يجرى سائر العمومات وإذ ذاك لا يكون ثم تخصيص بمنفصل ألبتة واطردت العمومات قواعد صادقة العموم ولنورد هنا فصلا هو مظنة لورود الإشكال

281 على ما تقرر وبالجواب عنه يتضح المطلوب اتضاحا أكمل فلقائل أن يقول إن السلف الصالح مع معرفتهم بمقاصد الشريعة وكونهم عربا قد أخذوا بعموم اللفظ وإن كان سياق الاستعمال يدل على خلاف ذلك وهو دليل على أن المعتبر عندهم في اللفظ عمومه بحسب اللفظ الإفرادي وإن عارضه السياق وإذا كان كذلك عندهم صار ما يبين لهم خصوصه كالأمثلة المتقدمة مما خص بالمنفصل لا مما وضع في الاستعمال على العموم المدعى ولهذا الموضع من كلامهم أمثلة منها أن عمر بن الخطاب كان يتخذ الخشن من الطعام كما كان يلبس المرقع في خلافته فقيل له لو اتخذت طعاما ألين من هذا فقال أخشى أن تعجل طيباتي يقول الله تعالى أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا الحديث وجاء أنه قال لأصحابه وقد رأى بعضهم قد توسع في الإنفاق شيئا أين تذهب بكم هذه الآية أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا الآية وسياق الآية يقتضى أنها

282 عذاب الهون فالآية غير لائقة بحالة المؤمنين ومع ذلك فقد أخذها عمر مستندا في ترك الإسراف مطلقا وله أصل في الصحيح في حديث المرأتين المتظاهرتين على النبي حيث قال عمر للنبي ادع الله أن يوسع على أمتك فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدونه فاستوى جالسا فقال أو في شك يا بن الخطاب أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا فهذا يشير مأخذ عمر في الآية وإن دل السياق على خلافه وفى حديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة أن معاوية قال صدق الله ورسوله من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها إلى آخر الآيتين فجعل مقتضى الحديث وهو في أهل الإسلام داخلا تحت عموم الآية وهي في الكفار لقوله أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار الخ فدل على الأخذ بعموم من في غير الكفار أيضا وفي البخاري عن محمد بن عبد الرحمن قال قطع على أهل المدينة بعث فاكتتبت فيه فلقيت عكرمة مولى ابن عباس فأخبرته فنهاني عن ذلك أشد النهي ثم قال أخبرني ابن عباس أن أناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على عهد رسول الله يأتي السهم يرمي به فيصيب أحدهم فيقتله أو يضرب فيقتل فأنزل الله عز وجل إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم الآية فهذا أيضا من ذلك لأن

283 الآية عامة فيمن كثر سواد المشركين ثم إن عكرمة أخذها على وجه أعم من ذلك وفي الترمذي والنسائي عن ابن عباس لما نزلت وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم الآية دخل قلوبهم منه شيء لم يدخل من شيء فقالوا للنبي فقال قولوا سمعنا وأطعنا فألقى الله الإيمان في قلوبهم فأنزل الله تعالى آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون الآية لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا قال قد فعلت ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا قال قد فعلت الحديث الخ فهموا من الآية العموم وأقره النبي ونزل بعدها لا يكلف الله نفسا إلا وسعها على وجه النسخ أو غيره مع قوله تعالى وما جعل عليكم في الدين من حرج وهي قاعدة مكية كلية ففي هذا ما يدل على صحة الأخذ

284 بالعموم اللفظي وإن دل الاستعمال اللغوي أو الشرعي على خلافه وكذلك قوله تعالى ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى الآية فإنها نزلت فيمن ارتد عن الإسلام بدليل قوله بعد إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية ثم إن عامة العلماء استدلوا بها على كون الإجماع حجة وأن مخالفه عاص وعلى أن الابتداع في الدين مذموم وقوله تعالى ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ظاهر مساق الآية أنها في الكفار والمنافقين أو غيرهم بدليل قوله ليستخفوا منه أي من الله تعالى أو من رسول الله وقال ابن عباس إنها في أناس كانوا يستحيون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء فنزل ذلك فيهم فقد عم هؤلاء في حكم الآية مع أن المساق لا يقتضيه ومثل هذا كثير وهو كله مبني على القول باعتبار عموم اللفظ لا خصوص السبب ومثله قوله تعالى ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون

285 مع أنها نزلت في اليهود والسياق يدل على ذلك ثم إن العلماء عموا بها غير الكفار وقالوا كفر دون كفر فإذا رجع هذا البحث إلى القول بأن لااعتبار بعموم اللفظ وإنما الاعتبار بخصوص السبب وفيه من الخلاف ما علم فقد رجعنا إلى أن أحد القولين هو الأصح ولا فائدة زائدة والجواب أن السلف الصالح إنما جاءوا بذلك الفقه الحسن بناء على أمر آخر غير راجع إلى الصيغ العمومية لأنهم فهموا من كلام الله تعالى مقصودا يفهمه الراسخون في العلم وهو أن الله تعالى ذكر الكفار بسيء أعمالهم والمؤمنين بأحسن أعمالهم ليقوم العبد بين هذين المقامين على قدمي الخوف والرجاء فيرى

286 أوصاف أهل الإيمان وما أعد لهم فيجتهد رجاء أن يدركهم ويخاف أن لا يلحقهم فيفر من ذنوبه ويرى أوصاف أهل الكفر وما أعد لهم فيخاف من الوقوع فيما وقعوا فيه وفيما يشبهه ويرجو بإيمانه أن لا يلحق بهم فهو بين الخوف والرجاء من حيث يشترك مع الفريقين في وصف ما وإن كان مسكوتا عنه لأنه إذا ذكر الطرفان كان الحائل بينهما مأخوذ الجانبين كمحال الاجتهاد لا فرق لا من جهة أنهم حملوا ذلك محمل الداخل تحت العموم اللفظي وهو ظاهر في آية الأحقاف وهود والنساء في آية إن الذين توفاهم الملائكة ويظهر أيضا في قوله ويتبع غير سبيل المؤمنين وما سوى ذلك فإما من تلك القاعدة وإما أنها بيان فقه الجزئيات من الكليات العامة لا أن المقصود التخصيص بل بيان جهة العموم وإليك النظر في التفاصيل والله المستعان

287 فصل إذا تقرر ما تقدم فالتخصيص إما بالمنفصل أو بالمتصل فإن كان بالمتصل كالاستثناء والصفة والغاية وبدل البعض وأشباه ذلك فليس في الحقيقة بإخراج لشيء بل هو بيان لقصد المتكلم في عموم اللفظ أن لا يتوهم السامع منه غير ما قصد وهو ينظر إلى قول سيبويه زيد الأحمر عند من لا يعرفه كزيد وحده عند من يعرفه وبيان ذلك أن زيدا الأحمر هو الاسم المعرف به مدلول زيد بالنسبة إلى قصد المتكلم كما كان الموصول مع صلته هو الاسم لا أحدهما وهكذا إذا قلت الرجل الخياط فعرفه السامع فهو مرادف لزيد فإذا المجموع هو الدال ويظهر ذلك في الاستثناء إذا قلت عشرة إلا ثلاثة فإنه مرادف لقولك سبعة فكأنه وضع آخر عرض حالة التركيب وإذا كان كذلك فلا تخصيص في محصول الحكم لا لفظا ولا قصدا ولا يصح أن يقال إنه مجازا أيضا لحصول الفرق عند أهل العربية بين قولك ما رأيت أسد

288 يفترس الأبطال وقولك ما رأيت رجلا شجاعا وأن الأول مجاز والثاني حقيقة والرجوع في هذا إليهم لا إلى ما يصوره العقل في مناحي الكلام وأما التخصيص بالمنفصل فإنه كذلك أيضا راجع إلى بيان المقصود في عموم الصيغ حسبما تقدم في رأس المسألة لا أنه على حقيقة التخصيص الذى يذكره الأصوليون فإن قيل وهكذا يقول الأصوليون إن التخصيص بيان المقصود بالصيغ المذكورة فإنه رفع لتوهم دخول المخصوص تحت عموم الصيغة في فهم السامع وليس بمراد الدخول تحتها وإلا كان التخصيص نسخا فإذا لا فرق بين التخصيص بالمنفصل والتخصيص بالمتصل على ما فسرت فكيف تفرق بين ما ذكرت وبين ما يذكره الأصوليون فالجواب أن الفرق بينهما ظاهر وذلك أن ما ذكر هنا راجع إلى بيان وضع الصيغ العمومية في أصل الاستعمال العربي أو الشرعي وما ذكره الأصوليون يرجع إلى بيان خروج الصيغة عن وضعها من العموم إلى الخصوص فنحن بينا أنه بيان لوضع اللفظ وهم قالوا إنه بيان لخروج اللفظ عن وضعه وبينهما فرق فالتفسير الواقع هنا نظير بيان الذي سيق عقب اللفظ المشترك ليبين المراد منه والذى للأصوليين نظير البيان الذي سيق عقيب الحقيقة ليبين أن المراد المجاز كقولك

289 رأيت أسدا يفترس الأبطال فإن قيل أفيكون تأصيل أهل الأصول كله باطلا أم لا فإن كان باطلا لزم أن يكون ما أجمعوا عليه من ذلك خطأ والأمة لا تجتمع على الخطأ وإن كان صوابا وهو الذى يقتضيه إجماعهم فكل ما يعارضه خطأ فإذا كل ما تقدم بيانه خطأ فالجواب أن إجماعهم أولا غير ثابت على شرطه ولو سلم أنه ثابت لم يلزم منه إبطال ما تقدم لأنهم إنما اعتبروا صيغ العموم بحسب ما تدل عليه في الوضع الإفرادي ولم يعتبروا حالة الوضع الإستعمالي حتى إذا أخذوا في الاستدلال على الأحكام رجعوا إلى اعتباره كل على اعتبار رآه أو تأويل ارتضاه فالذي تقدم بيانه مستنبط من اعتبارهم الصيغ في الاستعمال بلا خلاف بيننا وبينهم إلا ما يفهم عنهم من لا يحيط علما بمقاصدهم ولا يجود محصول كلامهم وبالله التوفيق فصل فإن قيل حاصل ما مر أنه بحث في عبارة والمعنى متفق عليه ومثله لا ينبني عليه حكم فالجواب أن لا بل هو بحث فيما ينبني عليه أحكام منها أنهم اختلفوا في العام إذا خص هل يبقى حجة أم لا وهي من

290 المسائل الخطيرة في الدين فإن الخلاف فيها في ظاهر الأمر شنيع لأن غالب الأدلة الشرعية وعمدتها هي العمومات فإذا عدت من المسائل المختلف فيها بناء على ما قالوه أيضا من أن جميع العمومات أو غالبها مخصص صار معظم الشريعة مختلفا فيها هل هو حجة أم لا ومثل ذلك يلقى في المطلقات فانظر فيه فإذا عرضت المسألة على هذا الأصل المذكور لم يبق الإشكال المحظور وصارت العمومات حجة على كل قول ولقد أدى إشكال هذا الموضع إلى شناعة أخرى وهى أن عمومات

291 القرآن ليس فيها ما هو معتد به في حقيقته من العموم وإن قيل بأنه حجة بعد التخصيص وفيه ما يقتضى إبطال الكليات القرآنية وإسقاط الاستدلال به جملة إلا بجهة من التساهل وتحسين الظن لا على تحقيق النظر والقطع بالحكم وفي هذا إذا تؤمل توهين الأدلة الشرعية وتضعيف الاستناد إليها وربما نقلوا في الحجة لهذا الموضع عن ابن عباس أنه قال ليس في القرآن عام إلا مخصص إلا قوله تعالى والله بكل شيء عليم وجميع ذلك مخالف لكلام العرب

292 ومخالف لما كان عليه السلف الصالح من القطع بعموماته التي فهموها تحقيقا بحسب قصد العرب في اللسان وبحسب قصد الشارع في موارد الأحكام وأيضا فمن المعلوم أن النبي بعث بجوامع الكلم واختصر له الكلام اختصارا على وجه هو أبلغ ما يكون وأقرب ما يمكن في التحصيل ورأس هذه الجوامع في التعبير العمومات فإذا فرض أنها ليست بموجودة في القرآن جوامع بل على وجه تفتقر فيه إلى مخصصات ومقيدات وأمور أخر فقد خرجت تلك العمومات عن أن تكون جوامع مختصره وما نقل عن ابن عباس إن ثبت من طريق صحيح فيحتمل التأويل فالحق في صيغ العموم إذا وردت أنها على عمومها في الأصل الإستعمالي بحيث يفهم محل عمومها العربي الفهم المطلع على مقاصد الشرع فثبت أن هذا البحث ينبني عليه فقه كثير وعلم جميل وبالله التوفيق المسألة الرابعة عمومات العزائم وإن ظهر ببادىء الرأي أن الرخص تخصصها فليست بمخصصة لها في الحقيقة بل العزائم باقية على عمومها وإن أطلق عليها أن الرخص خصصتها فإطلاق مجازي لا حقيقي والدليل على ذلك أن حقيقة الرخصة إما أن تقع بالنسبة إلى ما لا يطاق أو لا فإن كان الأول فليست برخصة في الحقيقة إذ لم يخاطب بالعزيمة من لا يطيقها وإنما يقال هنا إن الخطاب بالعزيمة مرفوع من الأصل بالدليل الدال على رفع تكليف ما لا يطاق فانتقلت العزيمة إلى هيئة أخرى وكيفية مخالفة للأولى كالمصلي لا يطيق القيام فليس بمخاطب بالقيام بل صار فرضه الجلوس أو على جنب أو ظهر وهو العزيمة عليه وإن كان الثانى فمعنى الرخصة في حقه أنه إن

293 انتقل إلى الأخف فلا جناح عليه لا أنه سقط عنه فرض القيام والدليل على ذلك أنه إن تكلف فصلى قائما فإما أن يقال إنه أدى الفرض على كمال العزيمة أولا فلا يصح أن يقال إنه لم يؤده على كماله إذ قد ساوى فيه الصحيح القادر من غير فرق فالتفرقة بينهما تحكم من غير دليل فلا بد أنه أداه على كماله وهو معنى كونه داخلا تحت عموم الخطاب بالقيام فإن قيل إن العزيمة مع الرخصة من خصال الكفارة بالنسبة إليه فأي الخصلتين فعل فعلى حكم الوجوب وإذا كان كذلك فعمله بالعزيمة عمل على كمال وقد ارتفع عنه حكم الإنحتام وذلك معنى تخصيص عموم العزيمة بالرخصة فقد تخصصت عمومات العزائم بالرخص على هذا التقرير فلا يستقيم القوم ببقاء العمومات إذ ذاك وأيضا فإن الجمع بين بقاء حكم العزيمة ومشروعية الرخصة جمع بين متنافيين لأن معنى بقاء العزيمة أن القيام في الصلاة واجب عليه حتما ومعنى جواز الترخص أن القيام ليس بواجب حتما وهما قضيتان متناقضتان لا تجتمعان على موضوع واحد فلا يصح القول ببقاء العموم بالنسبة إلى من يشق عليه القيام في الصلاة وأمر ثالث وهو أن الرخصة قد ثبت التخيير بينها وبين العزيمة فلو كانت العزيمة هنا باقية على أصلها من الوجوب المنحتم لزم من ذلك التخيير بين الواجب وغير الواجب والقاعدة أن ذلك محال لا يمكن فما أدى إليه مثله

294 فالجواب أن العزيمة مع الرخصة ليستا من باب خصال الكفارة إذ لم يأت دليل ثابت يدل على حقيقة التخيير بل الذي أتى في حقيقة الرخصة أن من ارتكبها فلا جناح عليه خاصة لا أن المكلف مخير بين العزيمة والرخصة وقد تقدم الفرق بينهما في كتاب الأحكام في فصل العزائم والرخص وإذا ثبت ذلك فالعزيمة على كمالها وأصالتها في الخطاب بها وللمخالفة حكم آخر وأيضا فإن الخطاب بالعزيمة من جهة حق الله تعالى والخطاب بالرخصة من جهة حق العبد فليسا بواردين على المخاطب من جهة واحدة بل من جهتين مختلفتين وإذا اختلفت الجهات أمكن الجمع وزال التناقض المتوهم في الاجتماع ونظير تخلف العزيمة للمشقة تخلفها للخطأ والنسيان والإكراه وغيرها من الأعذار التي يتوجه الخطاب مع وجودها مع أن التخلف غير مؤثم ولا موقع في محظور وعلى هذا ينبني معنى آخر يعم هذه المسألة وغيرها وهو أن العمومات التى هي

295 عزائم إذا رفع الإثم عن المخالف فيها لعذر من الأعذار فأحكام تلك العزائم متوجهة على عمومها من غير تخصيص وإن أطلق عليها أن الأعذار خصصتها فعلى المجاز لا على الحقيقة ولنعدها مسألة على حدتها وهي المسألة الخامسة والأدلة على صحتها ما تقدم والمسألة وإن كانت مختلفا فيها على وجه آخر فالصواب جريانها على ما جرت عليه العزائم مع الرخص ولنفرض المسألة في موضعين أحدهما فيما إذا وقع الخطأ من المكلف فتناول ما هو محرم ظهرت علة تحريمه بنص أو إجماع أو غيرهما كشارب المسكر يظنه حلالا وآكل مال اليتيم أو غيره يظنه متاع نفسه أو قاتل المسلم يظنه كافرا أو واطئ الأجنبية يظنها

296 زوجته أو أمته وما أشبه ذلك فإن المفاسد التى حرمت هذه الأشياء لأجلها واقعة أو متوقعة فإن شارب المسكر قد زال عقله وصده عن ذكر الله وعن الصلاة وآكل مال اليتيم قد أخذ ماله الذي حصل له به الضرر والفقر وقاتل المسلم قد أزهق دم نفس ومن قتلها فكأنما قتل الناس جميعا وواطئ الأجنبية قد تسبب في اختلاط نسب المخلوق من مائه فهل يسوغ في هذه الأشياء أن يقال إن الله أذن فيها وأمر بها كلا بل عذر الخاطئ ورفع الحرج والتأثيم بها وشرع مع ذلك فيها التلافي حتى تزول المفسدة فيما يمكن فيه الإزالة كالغرامة والضمان في المال وأداء الدية مع تحرير الرقبة في النفس وبذل المهر مع إلحاق الولد بالوطئ وما أشبه ذلك قل إن الله لا يأمر بالفحشاء إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذى القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغى غير أن عذر الخطأ رفع حكم التأثيم المرتب على التحريم والموضع الثانى إذا أخطأ الحاكم في الحكم فسلم المال إلى غير أهله أو الزوجة إلى غير زوجها أو أدب من لم يستحق تأديبا وترك من كان مستحقا له

297 ذوى عدل منكم فإذا أخطأ فحكم بغير ما أنزل الله فكيف يقال أنه مأمور بذلك أو أشهد ذوي زور فهل يصح أن يقال إنه مأمور بقبولهم وبإشهادهم هذا لا يسوغ بناء على مراعاة المصالح في الأحكام تفضلا كما اخترناه أو لزوما كما يقوله المعتزلة غير أنه معذور في عدم إصابته كما مر والأمثلة في ذلك كثيرة ولو كان هذا الفاعل وهذا الحاكم مأمورا بما أخطأ فيه أو مأذونا له فيه لكان الأمر بتلافيه إذا اطلع عليه على خلاف مقتضى الأدلة إذ لا فرق بين أمر وأمر وإذن وإذن إذ الجميع ابتدائي فالتلافي بعد أحدهما دون الآخر شيء لا يعقل له معنى وذلك خلاف ما دل عليه اعتبار المصالح فإن التزم أحد هذا الرأي وجرى على التعبد المحض ورشحه بأن الحرج

298 موضوع في التكاليف وإصابة ما في نفس الأمر حرج أو تكليف بما لا يستطاع وإنما يكلف بما يظنه صوابا وقد ظنه كذلك فليكن مأمورا به أو مأذونا فيه والتلافي بعد ذلك أمر ثان بخطاب جديد فهذا الرأي جار على الظاهر لا على التفقه في الشريعة وقد مر له تقرير في فصل الأوامر والنواهي ولولا أنها مسألة عرضت لكان الأولى ترك الكلام فيها لأنها لا تكاد ينبني عليها فقه معتبر المسألة السادسة العموم إذا ثبت فلا يلزم أن يثبت من جهة صيغ العموم فقط بل له طريقان أحدهما الصيغ إذا وردت وهو المشهور في كلام أهل الأصول والثاني استقراء مواقع المعنى حتى يحصل منه في الذهن أمر كلي عام فيجرى في الحكم مجرى العموم المستفاد من الصيغ والدليل على صحة هذا الثاني وجوه أحدها أن الاستقراء هكذا شأنه فإنه تصفح جزئيات ذلك المعنى ليثبت من جهتها حكم عام إما قطعي وإما ظني وهو أمر مسلم عند أهل العلوم العقلية والنقلية فإذا تم الاستقراء حكم به مطلقا في كل فرد يقدر وهو معنى العموم المراد في هذا الموضع والثاني أن التواتر المعنوي هذا معناه فإن جود حاتم مثلا إنما ثبت على

299 الإطلاق من غير تقييد وعلى العموم من غير تخصيص بنقل وقائع خاصة متعددة تفوت الحصر مختلفة في الوقوع متفقة في معنى الجود حتى حصلت للسامع معنى كليا حكم به على حاتم وهو الجود ولم يكن خصوص الوقائع قادحا في هذه الإفادة فكذلك إذا فرضنا أن رفع الحرج في الدين مثلا مفقود فيه صيغة عموم فأنا نستفيده من نوازل متعددة خاصة مختلفة الجهات متفقة في أصل رفع الحرج كما إذا وجدنا التيمم شرع عند مشقة طلب الماء والصلاة قاعدا عند مشقة طلب القيام والقصر والفطر في السفر والجمع بين الصلاتين في السفر والمرض والمطر والنطق بكلمة الكفر عند مشقة القتل والتأليم وإباحة الميتة وغيرها عند خوف التلف الذي هو أعظم المشقات والصلاة إلى أي جهة كان لعسر استخراج القبلة والمسح على الجبائر والخفين لمشقة النزع ولرفع الضرر والعفو في الصيام عما يعسر الاحتراز منه من المفطرات كغبار الطريق ونحوه إلى جزئيات كثيرة جدا يحصل من مجموعها قصد الشارع لرفع الحرج فإنا نحكم بمطلق رفع الحرج في الأبواب كلها عملا بالاستقراء فكأنه عموم لفظي فإذا ثبت اعتبار التواتر المعنوي ثبت في ضمنه ما نحن فيه

300 والثالث أن قاعدة سد الذرائع إنما عمل السلف بها بناء على هذا المعنى كعملهم في ترك الأضحية مع القدرة عليها وكإتمام عثمان الصلاة في حجه بالناس وتسليم الصحابة له في عذره الذي اعتذر به هن سد الذريعة إلى غير ذلك من أفرادها التى عملوا بها مع أن المنصوص فيها إنما هي أمور خاصة كقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقوله ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم وفي الحديث من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه وأشباه ذلك وهي أمور خاصة لا تتلاقى مع ما حكموا به إلا في معنى سد الذريعة وهو دليل على ما ذكر من غير إشكال فإن قيل اقتناص المعاني الكلية من الوقائع الجزئية غير بين من أوجه أحدها أن ذلك إنما يمكن في العقليات لا في الشرعيات لأن المعاني العقلية بسائط لا تقبل التركيب ومتفقة لا تقبل الاختلاف فيحكم العقل فيها على

301 الشيء بحكم مثله شاهدا وغائبا لأن فرض خلافه محال عنده بخلاف الوضعيات فإنها لم توضع وضع العقليات وإلا كانت هي هي بعينها فلا تكون وضعية هذا خلف وإذا لم توضع وضعها وإنما وضعت على وفق الاختيار الذي يصح معه التفرقة بين الشيء ومثله والجمع بين الشيء وضده ونقيضه لم يصح مع ذلك أن يقتنص فيها معنى كلي عام من معنى جزئي خاص والثاني أن الخصوصيات تستلزم من حيث الخصوص معنى زائدا على ذلك المعنى العام أو معاني كثيرة وهذا واضح في المعقول لأن ما به الإشتراك غير ما به الامتياز وإذ ذاك لا يتعين تعلق الحكم الشرعي في ذلك الخاص بمجرد الأمر العام دون التعلق بالخاص على الإنفراد أو بهما معا فلا يتعين متعلق الحكم وإذا لم يتعين لم يصح نظم المعنى الكلي من تلك الجزئيات إلا عند فرض العلم بأن الحكم لم يتعلق إلا بالمعنى المشترك العام دون غيره وذلك لا يكون إلا بدليل وعند وجود ذلك الدليل لا يتبقى تعلق بتلك الجزئيات في استفادة معنى عام للاستغناء بعموم صيغة ذلك الدليل عن هذا العناء الطويل

302 والثالث أن التخصيصات في الشريعة كثيرة فيخص محل بحكم ويخص مثله بحكم آخر وكذلك يجمع بين المختلفات في حكم واحد ولذلك أمثلة كثيرة كجعل التراب طهورا كالماء وليس بمطهر كالماء بل هو بخلافه وإيجاب الغسل من خروج المنى دون المذى والبول وغيرهما وسقوط الصلاة والصوم عن الحائض ثم قضاء الصوم دون الصلاة وتحصين الحرة لزوجها ولم تحصن الأمة سيدها والمعنى واحد ومنع النظر إلى محاسن الحرة دون محاسن الأمة وقطع السارق دون الغاصب والجاحد والمختلس والجلد بقذف الزنى دون غيره وقبول شاهدين في كل حد ما سوى الزنى والجلد بقذف الحر دون قذف العبد والتفرقة بين عدتي الوفاة والطلاق وحال الرحم لا يختلف فيهما واستبراء الحرة بثلاث حيض والأمة بواحدة وكالتسوية في الحد بين القذف وشرب الخمر وبين الزنى والمعفو عنه في دم العمد وبين المرتد والقاتل وفي الكفارة بين الظهار والقتل وإفساد الصوم وبين قتل المحرم الصيد عمدا أو خطأ وأيضا فإن الرجل والمرأة مستويان في أصل التكليف على الجملة ومفترقان

303 بالتكليف اللائق بكل واحد منهما كالحيض والنفاس والعدة وأشباهها بالنسبة إلى المرأة والإختصاص في مثل هذا لا إشكال فيه وأما الأول فقد وقع الإختصاص فيه في كثير من المواضع كالجمعة والجهاد والإمامة ولو في النساء وفي الخارج النجس من الكبير والصغير ففرق بين بول الصبي والصبية إلى غير ذلك من المسائل مع فقد الفارق في القسم المشترك ومثل ذلك العبد فإن له اختصاصات في القسم المشترك أيضا وإذا ثبت هذا لم يصح القطع بأخذ عموم من وقائع مختصة فالجواب عن الأول أنه يمكن في الشرعيات إمكانه في العقليات والدليل على ذلك قطع السلف الصالح به في مسائل كثيرة كما تقدم التنبيه عليه فإذا وقع مثله فهو واضح في أن الوضع الإختياري الشرعي مماثل للعقلي الاضطراري لأنهم لم يعملوا به حتى فهموه من قصد الشارع وعن الثاني أنهم لم ينظموا المعنى العام من القضايا الخاصة حتى علموا أن

304 الخصوصيات وما به الإمتياز غير معتبرة وكذلك الحكم فيمن بعدهم ولو كانت الخصوصيات معتبرة بإطلاق لما صح اعتبار القياس ولارتفع من الأدلة رأسا وذلك باطل فما أدى إليه مثله وعن الثالث أنه الإشكال المورد على القول بالقياس فالذى أجاب به الأصوليون هو الجواب هنا فصل ولهذه المسألة فوائد تنبني عليها أصلية وفرعية وذلك أنها إذا تقررت عند المجتهد ثم استقرى معنى عاما من أدلة خاصة واطرد له ذلك المعنى لم يفتقر بعد ذلك إلى دليل خاص على خصوص نازلة تعن بل يحكم عليها وإن كانت خاصة بالدخول تحت عموم المعنى المستقري من غير اعتبار بقياس أو غيره إذ صار ما استقرى من عموم المعنى كالمنصوص بصيغة عامة فكيف يحتاج مع ذلك إلى صيغة خاصة بمطلوبه ومن فهم هذا هان عليه الجواب عن إشكال القرافى الذى أورده على أهل مذهب مالك حيث استدلوا في سد الذرائع على الشافعية بقوله تعالى ولا تسبوا وقوله ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت وبحديث لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها الخ وقوله لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين قال فهذه وجوه كثيرة يستدلون بها وهي لا تفيد فإنها تدل

305 على اعتبار الشرع سد الذرائع في الجملة وهذا مجمع عليه وإنما النزاع في ذرائع خاصة وهى بيوع الآجال ونحوها فينبغي أن تذكر أدلة خاصة بمحل النزاع وإلا فهذه لا تفيد قال وإن قصدوا القياس على هذه الذرائع المجمع عليها فينبغي أن تكون حجتهم القياس خاصة ويتعين عليهم حينئذ إبداء الجامع حتى يتعرض الخصم لدفعه بالفارق ويكون دليلهم شيئا واحدا وهو القياس وهم لا يعتقدون ذلك بل يعتقدون أن مدركهم النصوص وليس كذلك بل ينبغي أن يذكروا نصوصا خاصة بذرائع بيوع الآجال خاصة ويقتصرون عليها كحديث أم ولد زيد بن أرقم هذا ما قال في إيراد هذا الإشكال وهو غير وارد على ما تقدم بيانه لأن الذرائع قد ثبت سدها في خصوصات كثيرة بحيث أعطت في الشريعة معنى السد مطلقا عاما وخلاف الشافعي هنا غير قادح في أصل المسألة ولا خلاف أبي حنيفة أما الشافعي فالظن به أنه تم له الاستقراء في سد الذرائع على العموم ويدل عليه قوله بترك الأضحية إعلاما بعدم وجوبها وليس في ذلك دليل صريح من كتاب أو سنة وإنما فيه عمل جملة من الصحابة وذلك عند الشافعي ليس بحجة لكن عارضه في مسألة بيوع الآجال دليل آخر رجح على غيره فأعمله فترك سد الذريعة لأجله وإذا تركه لمعارض راجح لم يعد مخالفا

306 وأما أبو حنيفة فإن ثبت عنه جواز إعمال الحيل لم يكن من أصله في بيوع الآجال إلا الجواز ولا يلزم من ذلك تركه لأصل سد الذرائع وهذا واضح إلا أنه نقل عنه موافقة مالك في سد الذرائع فيها وإن خالفه في بعض التفاصيل وإذا كان كذلك فلا إشكال المسألة السابعة العمومات إذا اتحد معناها وانتشرت في أبواب الشريعة أو تكررت في مواطن بحسب الحاجة من غير تخصيص فهي مجراة على عمومها على كل حال وإن قلنا بجواز التخصيص بالمنفصل والدليل على ذلك الاستقراء فإن الشريعة قررت أن لا حرج علينا في الدين في مواضع كثيرة ولم تستثن منه موضعا ولا حالا فعده علماء الملة أصلا مطردا وعموما مرجوعا إليه من غير استثناء ولا طلب مخصص ولا احتشام من إلزام الحكم به ولا توقف في مقتضاه وليس ذلك إلا لما فهموا بالتكرار والتأكيد من القصد إلى التعميم التام وأيضا قررت أن لا تزر وازرة وزر أخرى

307 فأعملت العلماء المعنى في مجاري عمومه وردوا ما خالفه من أفراد الأدلة بالتأويل وغيره وبينت بالتكرار أن لا ضرر ولا ضرار فأبى أهل العلم من تخصيصه وحملوه على عمومه وأن من سن سنة حسنة أو سيئة كان له ممن اقتدى به حظ إن حسنا وإن سيئا وأن من مات مسلما دخل الجنة ومن مات كافرا دخل النار وعلى الجملة فكل أصل تكرر تقريره وتأكد أمره وفهم ذلك من مجاري الكلام فهو مأخوذ على حسب عمومه وأكثر الأصول تكرارا الأصول المكية كالأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي وأشباه ذلك فأما إن لم يكن العموم مكررا ولا مؤكدا ولا منتشرا في أبواب الفقه فالتمسك بمجرده فيه نظر فلا بد من البحث عما يعارضه أو يخصصه وإنما حصلت التفرقة بين الصنفين لأن ما حصل فيه التكرار والتأكيد والانتشار صار ظاهره باحتفاف القرائن به إلى منزلة النص القاطع الذي لا احتمال فيه بخلاف ما لم يكن كذلك فإنه معرض لاحتمالات فيجب التوقف في القطع بمقتضاه حتى يعرض على غيره ويبحث عن وجود معارض فيه فصل وعلى هذا ينبني القول في العمل بالعموم وهل يصح من غير المخصص أم لا فإنه إذا عرض على هذا التقسيم أفاد أن القسم الأول غير محتاج فيه إلى بحث إذ لا يصح تخصيصه إلا حيث تخصص القواعد بعضها بعضا

308 فإن قيل قد حكى الإجماع في أنه يمنع العمل بالعموم حتى يبحث هل له مخصص أم لا وكذلك دليل مع معارضة فكيف يصح القول بالتفصيل فالجواب أن الإجماع إن صح فمحمول على غير القسم المتقدم جمعا بين الأدلة وأفضا فالبحث يبرز أن ما كان من العمومات على تلك الصفة فغير مخصص بل هو على عمومه فيحصل من ذلك بعد بحث المتقدم ما يحصل للمتأخر دون بحث بناء على ما ثبت من الاستقراء والله أعلم الفصل الخامس في البيان والأجمال ويتعلق به مسائل المسألة الأولى إن النبي كان مبينا بقوله وفعله وإقراره لما كان مكلفا بذلك في قوله تعالى وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم فكان يبين بقوله عليه الصلاة والسلام كما قال في حديث الطلاق فتلك العدة التى أمر الله أن يطلق لها النساء وقال لعائشة حين سألته عن قول

309 الله تعالى فسوف يحاسب حسابا يسيرا إنما ذلك العرض وقال لمن سأله عن قوله آية المنافق ثلاث إنما عنيت بذلك كذا وكذا وهو لا يحصى كثرة وكان أيضا يبين بفعله ألا أخبرته أني أفعل ذلك وقال الله تعالى زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج الآية وبين لهم كيفية الصلاة والحج بفعله وقال عند ذلك صلوا كما رأيتموني أصلي وخذوا عني مناسككم إلى غير ذلك وكان إقراره بيانا أيضا إذا علم بالفعل ولم ينكره مع القدرة على إنكاره لو كان باطلا أو حراما حسبما قرره الأصوليون في مسألة مجزز المدلجي وغيره وهذا كله مبين في الأصول ولكن نصير منه إلى معنى آخر وهي

310 المسألة الثانية وذلك أن العالم وارث النبي فالبيان في حقه لا بد منه من حيث هو عالم والدليل على ذلك أمران أحدهما ما ثبت من كون العلماء ورثة الأنبياء وهو معنى صحيح ثابت ويلزم من كونه وارثا قيامه مقام موروثة في البيان وإذا كان البيان فرضا على الموروث لزم أن يكون فرضا على الوارث أيضا ولا فرق في البيان بين ما هو مشكل أو مجمل من الأدلة وبين أصول الأدلة في الإتيان بها فأصل التبليغ بيان لحكم الشريعة وبيان المبلغ مثله بعد التبليغ والثاني ما جاء من الأدلة على ذلك بالنسبة إلى العلماء فقد قال إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى الآية ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله والآيات كثيرة وفي الحديث ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب وقال لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضى بها ويعلمها وقال من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويظهر الجهل والأحاديث في هذا كثيرة ولا خلاف

311 في وجوب البيان على العلماء والبيان يشمل البيان الابتدائي للنصوص الواردة والتكاليف المتوجهة فثبت أن العالم يلزمه البيان من حيث هو عالم وإذا كان كذلك انبنى عليه معنى آخر وهى المسألة الثالثة فنقول إذا كان البيان يتأتى بالقول والفعل فلا بد أن يحصل ذلك بالنسبة إلى العالم كما حصل بالنسبة إلى النبي وهكذا كان السلف الصالح ممن صار قدوة في الناس دل على ذلك المنقول عنهم حسبما يتبين في أثناء المسائل على أثر هذا بحول الله فلا نطول به ههنا لأنه تكرار المسألة الرابعة إذا حصل البيان بالقول والفعل المطابق للقول فهو الغاية في البيان كما إذا بين الطهارة أو الصوم أو الصلاة أو الحج أو غير ذلك من العبادات أو العادات فإن حصل بأحدهما فهو بيان أيضا إلا أن كل واحد منهما على انفراد قاصر عن غاية البيان من وجه بالغ أقصى الغاية من وجه آخر فالفعل بالغ من جهة بيان الكيفيات المعينة المخصوصة التى لا يبلغها البيان القولي ولذلك بين عليه الصلاة والسلام بفعله لأمته كما فعل به جبريل حين صلى به وكما بين الحج كذلك والطهارة كذلك وإن جاء فيها بيان بالقول فإنه إذا عرض نص الطهارة في القرآن على عين ما تلقى بالفعل من الرسول عليه الصلاة والسلام كان المدرك بالحس من الفعل فوق المدرك بالعقل من

312 النص لا محالة مع أنه إنما بعث ليبين للناس ما نزل إليهم وهبه عليه الصلاة والسلام زاد بالوحي الخاص أمورا لا تدرك من النص على الخصوص فتلك الزيادات بعد البيان إذا عرضت على النص لم ينافها بل يقبلها فآية الوضوء إذا عرض عليها فعله عليه الصلاة والسلام في الوضوء شمله بلا شك وكذلك آية الحج مع فعله عليه الصلاة والسلام فيه ولو تركنا والنص لما حصل لنا منه كل ذلك بل أمر أقل منه وهكذا تجد الفعل مع القول أبدا بل يبعد في العادة

313 أن يوجد قول لم يوجد لمعناه المركب نظير في الأفعال المعتادة المحسوسة بحيث إذا فعل الفعل على مقتضى ما فهم من القول كان هو المقصود من غير زيادة ولا نقصان ولا إخلال وإن كانت بسائطه معتادة كالصلاة والحج والطهارة ونحوها وإنما يقرب مثل هذا القول الذى معناه الفعلي بسيط ووجد له نظير في المعتاد وهو إذ ذاك إحالة على فعل معتاد فيه حصل البيان لا بمجرد القول وإذا كان كذلك لم يقم القول هنا في البيان مقام الفعل من كل وجه فالفعل ابلغ من هذا الوجه وهو يقصر عن القول من جهة أخرى وذلك أن القول بيان للعموم والخصوص في الأحوال والأزمان والأشخاص فإن القول ذو صيغ تقتضى هذه الأمور وما كان نحوها بخلاف الفعل فإنه مقصور على فاعله وعلى زمانه وعلى حالته وليس له تعد عن محله ألبتة فلو تركنا والفعل الذي فعله النبي مثلا لم يحصل لنا منه غير العلم بأنه فعله في هذا الوقت المعين وعلى هذه الحالة المعينة فيبقى علينا النظر هل ينسحب طلب هذا الفعل منه في كل حالة أو في هذه الحالة أو يختص بهذا الزمان أو هو عام في جميع الأزمنة أو يختص به وحده أو يكون حكم أمته حكمه ثم بعد النظر في هذا يتصدى نظر آخر في حكم هذا الفعل الذى فعله من أي نوع هو من الأحكام الشرعية وجميع ذلك وما كان مثله لا يتبين من نفس الفعل فهو من هذا الوجه قاصر عن غاية البيان فلم يصح إقامة الفعل مقام القول من كل وجه وهذا بين بأدنى تأمل ولأجل ذلك جاء قوله تعالى لقد كان لكم في رسول الله

314 صلوا كما رأيتمونى أصلي وخذوا عني مناسككم ونحو ذلك ليستمر البيان إلى أقصاه فصل وإذا ثبت هذا لم يصح إطلاق القول بالترجيح بين البيانين فلا يقال أيهما أبلغ في البيان القول أم الفعل إذ لا يصدقان على محل واحد إلا في فعل البسيط المعتاد مثله إن اتفق فيقوم أحدهما مقام الآخر وهنالك يقال أيهما أبلغ أو أيهما أولى كمسألة الغسل من التقاء الختانين مثلا فإنه بين من جهة الفعل ومن جهة القول عند من جعل هذه المسألة من ذلك والذي وضع إنما هو فعله ثم غسله فهو الذي يقوم كل واحد من القول والفعل مقام

315 صاحبه أما حكم الغسل من وجوب أو ندب وتأسى الأمة به فيه فيختص بالقول المسألة الخامسة إذا وقع القول بيانا فالفعل شاهد له ومصدق أو مخصص أو مقيد وبالجملة عاضد للقول حسبما قصد بذلك القول ورافع لاحتمالات فيه تعترض في وجه الفهم إذا كان موافقا غير مناقض ومكذب له أو موقع فيه ريبة أو شبهة أو توقفا إن كان على خلاف ذلك وبيان ذلك بأشياء منها أن العالم إذا أخبر عن إيجاب العبادة الفلانية أو الفعل الفلاني ثم فعله هو ولم يخل به في مقتضى ما قال فيه قوى اعتقاد إيحابه وانتهض العلم به عند كل من سمعه بخير عنه ورآه يفعله وإذا أخبر عن تحريمه مثلا ثم تركه فلم ير فاعلا ولا دائرا حواليه قوي عند متبعه ما أخبر به عنه بخلاف ما إذا أخبر عن إيجابه ثم قعد عن فعله أو أخبر عن تحريمه ثم فعله فإن نفوس الأتباع لا تطمئن إلى ذلك القول منه طمأنينتها إذا ائتمر وانتهى بل يعود من الفعل إلى القول ما يقدح فيه على الجملة إما من تطريق احتمال إلى القول وإما من تطريق

316 تكذيب إلى القائل أو استرابة في بعض مآخذ القول مع أن التأسي في الأفعال والتروك بالنسبة إلى من يعظم في دين أو دنيا كالمغرور في الجبلة كما هو معلوم بالعيان فيصير القول بالنسبة إلى القائل كالتبع للفعل فعلى حسب ما يكون القائل في موافقة فعله لقوله يكون اتباعه والتأسي به أو عدم ذلك ولذلك كان الأنبياء عليهم السلام في الرتبة القصوى من هذا المعنى وكان المتبعون لهم أشد اتباعا وأجرى على طريق التصديق بما يقولون مع ما أيدهم الله به من المعجزات والبراهين القاطعة ومن جملتها ما نحن فيه فإن شواهد العادات تصدق الأمر أو تكذبه فالطبيب إذا أخبرك بأن هذا المتناول سم فلا تقربه ثم أخذ في تناوله دونك أو أمرك بأكل طعام أو دواء لعلة بك ومثلها به ثم لم يستعمله مع احتياجه إليه دل هذا كله على خلل في الإخبار أو في فهم الخبر فلم تطمئن النفس إلى قبول قوله وقد قال تعالى أتامرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم الآية وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون الآية ويخدم هذا المعنى الوفاء بالعهد وصدق الوعد فقد قال تعالى رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه وقال في ضده لئن آتانا من فضله لنصدقن إلى قوله وبما كانوا يكذبون فاعتبر في الصدق كما ترى مطابقة الفعل القول وهذا هو حقيقة الصدق عند العلماء العاملين فهكذا إذا أخبر العالم بأن هذا واجب أو محرم فإنما يريد على كل مكلف وأنا منهم فإن وافق صدق وإن خالف كذب

317 ومن الأدلة على ذلك أن المنتصب للناس في بيان الدين منتصب لهم بقوله وفعله فإنه وارث النبي والنبي كان مبينا بقوله وفعله فكذلك الوارث لا بد أن يقوم مقام الموروث وإلا لم يكن وارثا على الحقيقة ومعلوم أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتلقون الأحكام من أقواله وأفعاله وإقراراته وسكوته وجميع أحواله فكذلك الوارث فإن كان في التحفظ في الفعل كما في التحفظ في القول فهو ذلك وصار من اتبعه على هدى وإن كان على خلاف ذلك صار من اتبعه على خلاف الهدى لكن بسببه وكان الصحابة رضي الله عنهم ربما توقفوا عن الفعل الذي أباحه لهم السيد المتبوع عليه الصلاة والسلام ولم يفعله هو حرصا منهم على أن يكونوا متبعين لفعله وإن تقدم لهم بقوله لاحتمال أن يكون تركه أرجح ويستدلون على ذلك بتركه عليه الصلاة والسلام له حتى إذا فعله اتبعوه في فعله كما في التحلل من العمرة والإفطار في السفر هذا وكل صحيح فما ظنك بمن ليس بمعصوم من العلماء فهو أولى بأن يبين قوله بفعله ويحافظ فيه على نفسه وعلى كل من اقتدى به ولا يقال إن النبي معصوم فلا يتطرق إلى فعله أو تركه المبين خلل بخلاف من ليس بمعصوم لأنا نقول إن اعتبر هذا الاحتمال في ترك الاقتداء بالفعل فليعتبر في ترك اتباع القول وإذ ذاك يقع في الرتبة فساد لا يصلح وخرق لا يرقع فلا بد أن يجرى الفعل مجرى القول ولهذا تستعظم شرعا زلة العالم وتصير صغيرته كبيرة من حيث كانت أقواله وأفعاله جارية في العادة على مجرى الاقتداء فإذا زل حملت زلته عنه قولا كانت أو فعلا لأنه موضوع منارا يهتدى به فإن علم كون زلته زلة صغرت في أعين الناس وجسر عليها الناس تأسيا به وتوهموا فيها رخصة علم بها ولم يعلموها هم تحسينا للظن به وإن جهل كونها زلة فأحرى أن تحمل عنه محمل المشروع وذلك كله راجع عليه

318 وقد جاء في الحديث إنى لأخاف على أمتي من بعدي من أعمال ثلاثة قالوا وما هي يا رسول الله قال أخاف عليهم من زلة العالم ومن حكم جائر ومن هوى متبع وقال عمر بن الخطاب ثلاث يهدمن الدين زلة عالم وجدال منافق بالقرآن وأئمة مضلون ونحوه عن أبي الدرداء ولم يذكر فيه الأئمة المضلين وعن معاذ بن جبل يا معشر العرب كيف تصنعون بثلاث دنيا تقطع أعناقكم وزلة عالم وجدال منافق بالقرآن ومثله عن سلمان أيضا وشبه العلماء زلة العالم بكسر السفينة لأنها إذا غرقت غرق معها خلق كثير وعن ابن عباس ويل للاتباع من عثرات العالم قيل كيف ذلك قال يقول العالم شيئا برأيه ثم يجد من هو أعلم برسول الله منه فيترك قوله ذلك ثم يمضى الأتباع وهذه الأمور حقيق أن تهدم الدين أما زلة العالم فكما تقدم ومثال كسر السفينة واقع فيها وأما الحكم الجائر فظاهر أيضا وأما الهوى المتبع فهو أصل ذلك كله وأما الجدال بالقرآن فإنه من اللسن الألد من أعظم الفتن لأن القرآن مهيب جدا فإن جادل به منافق على باطل أحاله حقا وصار مظنه للاتباع على تأويل ذلك المجادل ولذلك كان الخوارج فتنة على الأمة إلا من ثبت الله لأنهم جادلوا به على مقتضى آرائهم الفاسدة ووثقوا تأويلاتهم بموافقة العقل لها فصاروا فتنة على الناس وكذلك الأئمة المضلون لأنهم بما ملكوا

319 من السلطنة على الخلق وقدروا على رد الحق باطلا والباطل حقا وأماتوا سنة الله وأحيوا سنن الشيطان وأما الدنيا فمعلوم فتنتها للخلق فالحاصل أن الأفعال أقوى في التأسي والبيان إذا جامعت الأقوال من انفراد الأقوال فاعتبارها في نفسها لمن قام في مقام الاقتداء أكيد لازم بل يقال إذا اعتبر هذا المعنى في كل من هو في مظنة الاقتداء ومنزلة التبيين ففرض عليه تفقد جميع أقواله وأعماله ولا فرق في هذا بين ما هو واجب وما هو مندوب أو مباح أو مكروه أو ممنوع فإن له في أفعاله وأقواله اعتبارين أحدهما من حيث إنه واحد من المكلفين فمن هذه الجهة يتفصل الأمر في حقه إلى الأحكام الخمسة والثاني من حيث صار فعله وقوله وأحواله بيانا وتقريرا لما شرع الله عز وجل إذا انتصب في هذا المقام فالأقوال كلها والأفعال في حقه إما واجب وإما محرم ولا ثالث لهما لأنه من هذه الجهة مبين والبيان واجب لا غير فإذا كان مما يفعل أو يقال كان واجب الفعل على الجملة وإن كان مما لا يفعل فواجب الترك حسبما يتقرر بعد بحول الله وذلك هو تحريم الفعل لكن هذا بالنسبة إلى المقتدى به إنما يتعين حيث توجد مظنة البيان إما عند الجهل بحكم الفعل أو الترك وإما عند اعتقاد خلاف الحكم أو مظنة اعتقاد خلافه فالمطلوب فعله بيانه بالفعل أو القول الذي يوافق الفعل إن كان واجبا وكذلك إن كان مندوبا مجهول الحكم فإن كان مندوبا مظنة لاعتقاد الوجوب

320 فبيانه بالترك أو بالقول الذى يجتمع إليه الترك كما فعل في ترك الأضحية وترك صيام الست من شوال وأشباه ذلك وإن كان مظنة لاعتقاد عدم الطلب أو مظنة للترك فبيانه بالفعل والدوام فيه على وزان المظنة كما في السنن والمندوبات التى تنوسيت في هذه الأزمنة والمطلوب تركه بيانه بالترك أو القول الذى يساعده الترك إن كان حراما وإن كان مكروها فكذلك إن كان مجهول الحكم فإن كان مظنة لاعتقاد التحريم وترجيح بيانه بالفعل تعين الفعل على أقل ما يمكن وأقربه وقد قال الله تعالى ولقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة وقال فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها الآية وفي حديث المصبح جنبا قوله وأنا أصبح جنبا وأنا أريد الصيام وفي حديث أبي بكر ابن عبد الرحمن من قول عائشة يا عبد الرحمن أترغب عما كان رسول الله يصنع قال عبد الرحمن لا والله قالت عائشة فأشهد على رسول الله أنه كان يصبح جنبا من جماع غير احتلام ثم يصوم ذلك اليوم وفى حديث أم سلمة ألا أخبرتيها أنى أفعل ذلك إلى آخر الحديث وروى إسماعيل القاضي عن زياد بن حصين عن أبيه قال رأيت ابن

321 فسوق الآية وأن الرفث ليس إلا ما كان بين الرجل والمرأة وإن كان مظنة لاعتقاد الطلب أو مظنة لأن يتأثر على فعله فبيانه بالترك جملة إن لم يكن له أصل أو كان له أصل لكن في الإباحة أو في نفي الحرج في الفعل كما في سجود الشكر عند مالك وكما في غسل اليدين قبل الطعام حسبما بينه مالك في مسألة عبد الملك بن صالح وستأتي إن شاء الله وعلى الجملة فالمراعى ههنا مواضع طلب البيان الشافي المخرج عن الأطراف والانحرافات الراد إلى الصراط المستقيم ومن تأمل سير السلف الصالح في هذا المعنى تبين ما تقرر بحول الله ولا بد من بيان هذه الجملة بالنسبة إلى الأحكام الخمسة أو بعضها حتى يظهر فيها الغرض المطلوب والله المستعان المسألة السادسة المندوب من حقيقة استقراره مندوبا أن لا يسوى بينه وبين الواجب لا في القول ولا في الفعل كما لا يسوى بينهما في الاعتقاد فإن سوى بينهما في القول أو الفعل فعلى وجه لا يخل بالاعتقاد وبيان ذلك بأمور

322 أحدها أن التسوية في الاعتقاد باطلة باتفاق بمعنى أن يعتقد فيما ليس بواجب أنه واجب والقول أو الفعل إذا كان ذريعة إلى مطلق التسوية وجب أن يفرق بينهما ولا يمكن ذلك إلا بالبيان القولي والفعل المقصود به التفرقة وهو ترك الالتزام في المندوب الذي هو من خاصة كونه مندوبا والثاني أن النبي بعث هاديا ومبينا للناس ما نزل إليهم وقد كان من شأنه ذلك في مسائل كثيرة كنهيه عن إفراد يوم الجمعة بصيام أو ليلة بقيام وقوله لا يجعل أحدكم للشيطان حظا في صلاته بينه حديث ابن عمر قال واسع بن حبان انصرفت من قبل شقي الأيسر فقال لي عبد الله ابن عمر ما منعك أن تنصرف عن يمينك قلت رأيت فانصرفت إليك قال أصبت إن قائلا يقول انصرف عن يمينك وأنا أقول انصرف كيف شئت عن يمينك وعن يسارك وفى بعض الأحاديث بعد ما قرر حكما غير واجب من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج وقال الأعرابي هل على غيرهن قال لا إلا أن تطوع وقال لما سئل عن تقديم

323 بعض أفعال الحج على بعض مما ليس تأخيره بواجب لا حرج قال الراوي فما سئل يومئذ عن شيء قدم أو أخر إلا قال افعل ولا حرج مع أن تقديم بعض الأفعال على بعض مطلوب لكن لا على الوجوب ونهى عليه الصلاة والسلام عن أن يتقدم رمضان بيوم أو يومين وحرم صيام يوم العيد ونهى عن التبتل مع قوله تعالى وتبتل إليه تبتيلا ونهى عن الوصال وقال خذوا من العمل ما تطيقون مع أن الاستكثار من الحسنات خير إلى غير ذلك من الأمور التى بينها بقوله وفعله وإقراره مما خلافه مطلوب

324 ولكن تركه وبينه خوفا أن يصير من قبيل آخر في الإعتقاد ومسلك آخر وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يترك العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم قالت عائشة وما سبح النبي سبحة الضحى قط وإني لأستحبها وقد قام ليالى من رمضان في المسجد فاجتمع إليه ناس يصلون بصلاته ثم كثروا فترك ذلك وعلل بخشية الفرض ويحتمل وجهين أحدهما أن يفرض بالوحي وعلى هذا جمهور الناس والثانى في معناه وهو الخوف أن يظن فيها أحد من أمته بعده إذا داوم عليها الوجوب وهو تأويل متمكن والثالث أن الصحابة عملوا على هذا الاحتياط في الدين لما فهموا هذا الأصل من الشريعة وكانوا أئمة يقتدى بهم فتركوا أشياء وأظهروا ذلك ليبينوا أن تركها غير قادح وإن كانت مطلوبة فمن ذلك ترك عثمان القصر في السفر في خلافته وقال إني إمام الناس فنظر إلي الأعراب وأهل البادية أصلي ركعتين فيقولون هكذا فرضت وأكثر المسلمين على أن القصر مطلوب وقال حذيفة

325 ابن أسيد شهدت أبا بكر وعمر وكانا لا يضحيان مخافة أن يرى الناس أنها واجبة وقال بلال لا أبالي أن أضحي بكبش أو بديك وعن ابن عباس أنه كان يشتري لحما بدرهمين يوم الأضحى ويقول لعكرمة من سألك فقل هذه أضحية ابن عباس وكان غنيا وقال بعضهم إنى لأترك أضحيتى وإني لمن أيسركم مخافة أن يظن الجيران أنها واجبة وقال أبو أيوب الأنصاري كنا نضحى عن النساء وأهلينا فلما تباهى الناس بذلك تركناها ولا خلاف في أن الأضحية مطلوبة وقال ابن عمر في صلاة الضحى إنها بدعة وحمل على أحد وجهين إما أنهم كانوا يصلونها جماعة وإما أفذاذا على هئية النوافل في أعقاب الفرائض وقد منع النساء المساجد مع ما في الحديث من قوله لا تمنعوا إماء الله مساجد الله لما أحدثن في خروجهن ولما يخاف فيهن والرابع أن أئمة المسلمين استمروا على هذا الأصل على الجملة وان اختلفوا في التفاصيل فقد كره مالك وأبو حنيفة صيام ست من شوال وذلك للعلة المتقدمة مع أن الترغيب في صيامها ثابت صحيح لئلا يعتقد ضمها إلى رمضان قال القرافي وقد وقع ذلك للعجم وقال الشافعي في الأضحية بنحو من ذلك حيث استدل على عدم الوجوب بفعل الصحابة المذكور وتعليلهم والمنقول عن مالك من هذا كثير وسد الذريعة أصل عنده متبع مطرد في العادات

326 والعبادات فبمجموع هذه الأدلة نقطع بأن التفريق بين الواجب والمندوب إذا استوى القولان أو الفعلان مقصود شرعا ومطلوب من كل من يقتدى به قطعا كما يقطع بالقصد إلى الفرق بينهما اعتقادا فصل والتفرقة بينهما تحصل بأمور منها بيان القول إن اكتفى به وإلا فالفعل بل هو في هذا النمط مقصود وقد يكون في سوابق الشيء المندوب وفي قرائنه وفي لواحقه وأمثلة ذلك ظاهرة مما تقدم وأشباهه وأكثر ما يحصل الفرق في الكيفيات العديمة النص وأما المنصوص فلا كلام فيها فالفعل أقوى إذا في هذا المعنى لما تقدم من أن الفعل يصدق القول أو يكذبه فصل وكما أن من حقيقة استقرار المندوب أن لا يسوى بينه وبين الواجب في الفعل كذلك من حقيقة استقراره أن لا يسوى بينه وبين بعض المباحات في الترك المطلق من غير بيان فإنه لو وقعت التسوية بينهما لفهم من ذلك مشروعيه الترك كما تقدم ولم يفهم كون المندوب مندوبا هذا وجه ووجه آخر وهو أن في ترك المندوب إخلالا بأمر كلي فيه ومن المندوبات ما هو واجب بالكل فيؤدي تركه مطلقا إلى الإخلال بالواجب بل لا بد من العمل به ليظهر للناس فيعملوا به وهذا مطلوب ممن يقتدى به كما كان شأن السلف الصالح

327 وفى الحديث الحسن عن أنس قال قال لي رسول الله يا بني إن قدرت أن تصبح وليس في قلبك غش لأحد فافعل ثم قال لي يا بني وذلك من سنتى ومن أحيا سنتى فقد أحبني ومن أحبني كان معى في الجنة فجعل العمل بالسنة إحياء لها فليس بيانها مختصا بالقول وقد قال مالك في نزول الحاج بالمحصب من مكة وهو الأبطح استحب للأئمة ولمن يقتدى به أن لا يجاوزوه حتى ينزلوا به فإن ذلك من حقهم لأن ذلك أمر قد فعله النبي والخلفاء فيتعين على الأئمة ومن يقتدى به من أهل العلم إحياء سننه والقيام به لئلا يترك هذا الفعل جملة ويكون للنزول بهذا الموضع حكم النزول بسائر المواضع لا فضيلة للنزول به بل لا يجوز النزول به على وجه القربة هكذا نقل الباجي وظاهر من مذهب مالك أن المندوب لا بد من التفرقة بينه وبين ما ليس بمندوب وذلك بفعله وإظهاره وقال بعضهم في حديث عمر بل أغسل ما رأيت وانضح ما لم أر وفى الحديث أن عمر رأى أن أعماله وأقواله نهج للسنة وأنه موضع للقدوة يعني فعمل هنا على مقتضى الأخذ عنه في ذلك الفعل وصار ذلك أصلا في التوسعة على الناس في ترك تكلف ثوب آخر للصلاة وفى تأخير الصلاة لأجل غسل الثوب وفى الحديث واعجبا لك يا ابن العاصي لئن كنت تجد ثيابا أفكل الناس يجد ثيابا والله لو فعلتها لكانت سنة الحديث ولمكان هذا ونحوه اقتدى به عمر بن عبد العزيز حفيده ففي العتبية قيل لعمر بن عبد العزيز

328 أخرت الصلاة شيئا فقال إن ثيابي غسلت قال ابن رشد يحتمل أنه لم يكن له غير تلك الثياب لزهده في الدنيا أو لعله ترك أخذ سواها مع سعة الوقت تواضعا لله ليقتدى به في ذلك ائتساء بعمر بن الخطاب فقد كان أتبع الناس لسيرته وهديه في جميع الأحوال ومما نحن فيه ما قال الماوردي فيمن صار ترك الصلاة في الجماعة له إلفا وعادة وخيف أن يتعدى إلى غيره في الاقتداء به أن للحاكم أن يزجره واستشهد على ذلك بقول النبي لقد هممت أن آمر أصحابي أن يجمعوا حطبا الحديث وقال أيضا فيما إذا تواطأ أهل بلد على تأخير الصلاة إلى آخر وقتها إن له أن ينهاهم قال لأن اعتياد جميع الناس لتأخيرها مفض بالصغير الناشئ إلى اعتقاد أن هذا هو الوقت دون ما تقدمه وأشار إلى نحو هذا في مسائل أخر وحكى قولين في مسألة اعتراض المحتسب على أهل القرية في إقامة الجمعة بجماعة اختلفت في انعقاد الجمعة بهم في بعض وجوهها وذلك إذا كان هو يرى إقامتها وهم لا يرونها ووجه القول بإقامتها على رأيه باعتبار المصلحة لئلا ينشأ الصغير على تركها فيظن أنها تسقط مع زيادة العدد كما تسقط بنقصانه وهذا الباب يتسع ومما يجرى مجراه في تقوية اعتبار البيان في هذه المسائل وأشباهها مما ذكر أو لم يذكر قصة عمر ابن عبد العزيز مع عروة بن عياض حين نكت بالخيزرانة بين عينيه ثم قال هذه غرتني منك لسجدته التي بين عينيه ولولا أني أخاف أن تكون سنة من بعدي لأمرت بموضع السجود فقور وقد عول العلماء على هذا المعنى وجعلوه أصلا يطرد وهو راجع إلى سد الذرائع الذي اتفق العلماء على إعماله في الجملة وإن اختلفوا في التفاصيل كقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وقوله

329 وقد رأى مالك لمن رأى هلال شوال وحده أن لا يفطر لئلا يكون ذريعة إلى إفطار الفساق محتجين بما احتج به وقال بمثله فيمن شهد عليه شاهدا زور بأنه طلق امرأته ثلاثا ولم يفعل فمنعه من وطئها إلا أن يخفي ذلك عن الناس وراعى زياد مثل هذا في صلاة الناس في جامع البصرة والكوفة فإنهم إذا صلوا في صحنه ورفعوا من السجود مسحوا جباههم من التراب فأمر بإلقاء الحصى في صحن المسجد وقال لست آمن أن يطول الزمان فيظن الصغير إذا نشأ أن مسح الجبهة من أثر السجود سنة في الصلاة ومسألة مالك مع أبي جعفر المنصور حين أراد أن يحمل الناس على الموطأ فنهاه مالك عن ذلك من هذا القبيل أيضا ولقد دخل ابن عمر على عثمان وهو محصور فقال له انظر ما يقول هؤلاء يقولون اخلع نفسك أو نقتلك قال له أمخلد أنت في الدنيا قال لا قال هل يملكون لك جنة أو نارا قال لا قال فلا تخلع قميص الله عليك فتكون سنة كلما كره قوم خليفتهم خلعوه أو قتلوه ولما هم أبو جعفر المنصور أن يبني البيت على ما بناه ابن الزبير على قواعد إبراهيم شاور مالكا في ذلك فقال له مالك أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن لا تجعل هذا البيت ملعبة الملوك بعدك لا يشاء أحد منهم أن يغيره إلا غيره فتذهب هيبته من قلوب الناس فصرفه عن رأيه فيه لما ذكر من أنها تصير سنة متبعة باجتهاد أو غيره فلا يثبت على حال المسألة السابعة المباحات من حقيقة استقرارها مباحات أن لا يسوى بينها وبين المندوبات

330 ولا المكروهات فإنها إن سوى بينها وبين المندوبات بالدوام على الفعل على كيفية فيها معينة أو غير ذلك توهمت مندوبات كما تقدم في مسح الجباه بأثر الرفع من السجود ومسألة عمر بن الخطاب في غسل ثوبه من الاحتلام وترك الاستبدال به وقد حكى عياض عن مالك أنه دخل على عبد الملك بن صالح أمير المدينة فجلس ساعة ثم دعا بالوضوء والطعام فقال ابدءوا بأبي عبد الله فقال مالك إن أبا عبد الله يعني نفسه لا يغسل يده فقال لم قال ليس هو الذي أدركت عليه أهل العلم ببلدنا إنما هو من رأى الأعاجم وكان عمر إذا أكل مسح يده بباطن قدمه فقال له عبد الملك أترك يا أبا عبد الله قال إي والله فما عاد إلى ذلك ابن صالح قال مالك ولا نأمر الرجل أن لا يغسل يده ولكن إذا جعل ذلك كأنه واجب عليه فلا أميتوا سنة العجم وأحيوا سنة العرب أما سمعت قول عمر تمعددوا واخشوشنوا وامشوا حفاة وإياكم وزي العجم وهكذا إن سوى في الترك بينها وبين المكروهات ربما توهمت مكروهات فقد كان عليه الصلاة والسلام يكره الضب ويقول لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه وأكل على مائدته فظهر حكمه وقدم إليه طعام فيه ثوم لم يأكل منه قال له أبو أيوب وهو الذي بعث به إليه يا رسول الله أحرام هو قال لا ولكنى أكرهه من أجل ريحه وفى رواية أنه قال لأصحابه

331 كلوا فإني لست كأحدكم إنى أخاف أن أؤذي صاحبي وروى في الحديث أن سودة بنت زمعة خشيت أن يطلقها رسول الله فقالت لا تطلقني وأمسكني واجعل يومي لعائشة ففعل فنزلت فلا جناح عليهما أن يصالحا بينهما صلحا الآية فكان هذا تأديبا وبيانا بالقول والفعل لأمر ربما استقبح بمجرى العادة حتى يصير كالمكروه وليس بمكروه والأدلة على هذا الفصل نحو من الأدلة على استقرار المندوبات المسألة الثامنة المكروهات من حقيقة استقرارها مكروهات أن لا يسوى بينها وبين المحرمات ولا بينها وبين المباحات أما الأول فلأنها إذا أجريت ذلك المجرى توهمت محرمات وربما طال العهد فيصير الترك واجبا عند من لا يعلم ولا يقال إن في بيان ذلك ارتكابا للمكروه وهو منهي عنه لأنا نقول البيان آكد وقد يرتكب النهي الحتم إذا كانت له مصلحة راجعة ألا ترى إلى كيفية تقرير الحكم على الزاني وما جاء في الحديث من قوله عليه الصلاة والسلام له أنكتها هكذا من غير كناية مع أن ذكر

332 اللفظ في غير معرض البيان مكروه أو ممنوع غير أن التصريح هنا آكد فاغتفر لما يترتب عليه فكذلك هنا ألا ترى إلى إخبار عائشة عما فعلته مع رسول الله في التلقاء الختانين وقوله عليه الصلاة والسلام ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك مع أن ذكر مثل هذا في غير محل البيان منهي عنه وقد تقدم ما جاء عن ابن عباس في ارتجازه وهو محرم بقوله إن تصدق الطير ننك لميسا فمثل هذا لا حرج فيه وأما الثاني فلأنها إذا عمل بها دائما وترك اتقاؤها توهمت مباحات فينقلب حكمها عند من لا يعلم وبيان ذلك يكون بالتغيير والزجر على ما يليق به في الإنكار ولا سيما المكروهات التي هي عرضة لأن تتخذ سننا وذلك المكروهات المفعولة في المساجد وفي مواطن الإجتماعات الإسلامية والمحاضر الجمهورية ولأجل ذلك كان مالك شديد الأخذ على من فعل في مسجد رسول الله شيئا من هذه المكروهات بل ومن المباحات كما أمر بتأديب من وضع رداءه أمامه من الحر وما أشبه ذلك فصل ما تقدم من هذه المسائل يتفرع عنها قواعد فقهية وأصولية منها أنه لا ينبغي لمن التزم عبادة من العبادات البدينة الندبية أن يواظب

333 عليها مواظبة يفهم الجاهل منها الوجوب إذا كان منظورا إليه مرموقا أو مظنة لذلك بل الذى ينبغي له أن يدعها في بعض الأوقات حتى يعلم أنها غير واجبة لأن خاصية الواجب المكرر الالتزام والدوام عليه في أوقاته بحيث لا يتخلف عنه كما أن خاصية المندوب عدم الإلتزام فإذا التزمه فهم الناظر منه نفس الخاصية التي للواجب فحمله على الوجوب ثم استمر على ذلك فضل وكذلك إذا كانت العبادة تتأتى على كيفيات يفهم من بعضها في تلك العبادة ما لا يفهم منها على الكيفية الأخرى أو ضمت عبادة أو غير عبادة إلى العبادة قد يفهم بسبب الاقتران ما لا يفهم دونه أو كان المباح يتأتى فعله على وجوه فيثابر فيه على وجه واحد تحريا له ويترك ما سواه أو يترك بعض المباحات جملة من غير سبب ظاهر بحيث يفهم عنه في الترك أنه مشروع ولذلك لما قرأ عمر بن الخطاب السجدة على المنبر ثم سجد وسجد معه الناس قرأها في كرة أخرى فلما قرب من موضعها تهيأ الناس للسجود فلم يسجدها وقال إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء وسئل مالك عن التسمية عند الوضوء فقال أيحب أن يذبح إنكارا لما يوهمه سؤاله من تأكيد الطلب فيها عند الوضوء ونقل عن عمر أنه قال لا نبالي أبدأنا بأيماننا أم بأيسارنا يعني في الوضوء مع أن المستحب التيامن في الشأن كله ومثال العبادات المؤداة على كيفيات يلتزم فيها كيفية واحدة إنكار مالك لعدم تحريك الرجلين في القيام للصلاة ومثال ضم ما ليس بعبادة إلى العبادة حكاية الماوردي في مسح الوجه عند القيام من السجود وحديث عمر مع عمرو لو فعلتها لكانت سنة بل أغسل ما رأيت وانضح ما لم أر ومثال فعل الجائز على وجه واحد ما نقل عن مالك أنه سئل عن المرة الواحدة

334 في الوضوء قال لا الوضوء مرتان مرتان أو ثلاث ثلاث مع أنه لم يحد في الوضوء ولا في الغسل إلا ما أسبغ قال اللخمي وهذا احتياط وحماية لأن العامي إذا رأى من يقتدي به يتوضأ مرة مرة فعل مثل ذلك وقد لا يحسن الإسباغ بواحدة فيوقعه فيما لا تجزئ الصلاة به والأمثلة كثيرة وهذا كله إنما هو فيما فعل بحضرة الناس وحيث يمكن الاقتداء بالفاعل وأما من فعله في نفسه وحيث لا يطلع عليه مع اعتقاده على ما هو به فلا بأس كما قاله المتأخرون في صيام ست من شوال أن من فعل ذلك في نفسه معتقدا وجه الصحة فلا بأس وكذا قال مالك في المرة الواحدة حيث لا أحب ذلك إلا للعالم بالوضوء وما ذكره اللخمي يشعر بأنه إذا فعل الواحدة حيث لا يقتدى به فلا بأس وهو جار على المذهب لأن أصل مالك فيه عدم التوقيت فأما إن أحب الالتزام وأن لا يزول عنه ولا يفارقه فلا ينبغي أن يكون ذلك بمرأى من الناس لأنه إن كان كذلك فربما عده العامي واجبا أو مطلوبا أو متأكد الطلب بحيث لا يترك ولا يكون كذلك شرعا فلا بد في إظهاره من عدم إلتزامه في بعض الأوقات ولا بد في إلتزامه من عدم إظهاره كذلك في بعض الأوقات وذلك على الشرط المذكور في أول كتاب الأدلة ولا يقال إن هذا مضاد لما تقدم من قصد الشارع للدوام على الأعمال وقد كان عليه الصلاة والسلام إذا عمل عملا أثبته

335 لأنا نقول كما يطلق الدوام على مالا يفارق ألبتة كذلك يطلق على ما يكون في أكثر الأحوال فإذا ترك في بعض الأوقات لم يخرج صاحبه عن أصل الدوام كما لا نقول في الصحابة حين تركوا التضحية في بعض الأوقات إنهم غير مداومين عليها فالدوام على الجملة لا يشترط في صحة إطلاقه عدم الترك رأسا وإنما يشترط فيه الغلبة في الأوقات أو الأكثرية بحيث يطلق على صاحبه اسم الفاعل إطلاقا حقيقيا في اللغة وإنما كانت الصوفية قد التزمت في السلوك ما لا يلزمها حتى سوت بين الواجب والمندوب في التزام الفعل وبين المكروهات والمحرمات في التزام الترك بل سوت بين كثير من المباحات والمكروهات في الترك وكان هذا النمط ديدنها لا سيما مع ترك أخذها بالرخص إذ من مذاهبها عدم التسليم للسالك فيها من حيث هو سالك إلى غير ذلك من الأمور التى لا تلزم الجمهور بنوا طريقهم بينهم وبين تلاميذهم على كتم أسرارهم وعدم إظهارها والخلوة بما التزموا من وظائف السلوك وأحوال المجاهدة خوفا من تعريض من يراهم ولا يفهم مقاصدهم إلى ظن ما ليس بواجب واجبا أو ما هو جائز غير جائز أو مطلوبا أو تعريضهم لسؤال القال فيهم فلا عتب عليهم في ذلك كما لا عتب عليهم في كتم أسرار مواجدهم لأنهم إلى هذا الأصل يستندون ولأجل إخلال بعضهم بهذا الأصل إما لحال غالبة أو لبناء بعضهم على غير أصل صحيح انفتح عليهم باب سوء الظن من كثير من العلماء وباب فهم الجهال عنهم ما لم يقصدوه وهذا كله محظور

336 المسألة التاسعة الواجبات لا تستقر واجبات إلا إذا لم يسو بينها وبين غيرها من الأحكام فلا تترك ولا يسامح في تركها ألبتة كما أن المحرمات لا تستقر كذلك إلا إذا لم يسو بينها وبين غيرها من الأحكام فلا تفعل ولا يسامح في فعلها وهذا ظاهر ولكنا نسير منه إلى معنى آخر وذلك أن من الواجبات ما إذا تركت لم يترتب عليها حكم دنيوي وكذلك من المحرمات ما إذا فعلت لم يترتب عليها أيضا حكم في الدنيا ولا كلام في مترتبات الآخرة لأن ذلك خارج عن تحكمات العباد كما أن من الواجبات ما إذا تركت ومن المحرمات ما إذا فعلت ترتب عليها حكم دنيوي من عقوبة أو غيرها فما ترتب عليه حكم يخالف ما لم يترتب عليه حكم فمن حقيقة استقرار كل واحد من القسمين أن لا يسوى بينه وبين الآخر لأن في تغيير أحكامها تغييرها في أنفسها فكل ما يحذر في عدم البيان في الأحكام المتقدمة يحذر هنا لا فرق بين ذلك والأدلة التي تقدمت هنالك يجري مثلها هنا ويتبين هذا الموضع أيضا بأن يقال إذا وضع الشارع حدا في فعل مخالف فأقيم ذلك الحد على المخالف كان الحكم الشرعي مقررا مبينا فإذا لم يقم فقد أقر على غير ما أقره الشارع وغير إلى الحكم المخالف الذى لا يترتب عليه مثل ذلك الحكم ووقع بيانه مخالفا فيصير المنتصب لتقرير الأحكام قد خالف قوله فعله فيجري فيه ما تقدم فإذا رأى الجاهل ما جرى توهم الحكم الشرعي على خلاف ما هو عليه فإذا قرر المنتصب الحكم على وجه ثم أوقع على وجه آخر حصلت الريبة وكذب الفعل القول كما تقدم بيانه وكل ذلك فساد وبهذا المثال يتبين أن وارث النبي يلزمه إجراء الأحكام على موضوعاتها في أنفسها وفي لواحقها وسوابقها وقرائنها وسائر ما يتعلق بها شرعا حتى يكون دين الله بينا عند الخاص والعام وإلا كان

337 من الذين قال الله تعالى فيهم إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى الآية المسألة العاشرة لا يختص هذا البيان المذكور بالأحكام التكليفية بل هو لازم أيضا في الأحكام الراجعة إلى خطاب الوضع فإن الأسباب والشروط والموانع والعزائم والرخص وسائر الأحكام المعلومة أحكام شرعية لازم بيانها قولا وعملا فإن قررت الأسباب قولا وعمل على وفقها إذا انتهضت حصل بيانها للناس وإن قررت ثم لم تعمل مع انتهاضها كذب القول الفعل وكذلك الشروط إذا انتهض السبب مع وجودها فأعمل أو مع فقدانها فلم يعمل وافق القول الفعل فإن عكست القضية وقع الخلاف فلم ينتهض القول بيانا وهكذا الموانع وغيرها وقد أعمل النبي مقتضى الرخصة في الإحلال من العمرة والإفطار في السفر وأعمل الأسباب ورتب الأحكام حتى في نفسه حين أقص من نفسه وكذلك في غيره والشواهد لا تحصى والشريعة كلها داخلة تحت هذه الجملة والتنبيه كاف المسألة الحادية عشرة بيان رسول الله بيان صحيح لا إشكال في صحته لأنه لذلك بعث قال تعالى وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولا خلاف فيه

338 وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن لم يجمعوا عليه فهل يكون بيانهم حجة أم لا هذا فيه نظر وتفصيل ولكنهم يترجح الاعتماد عليهم في البيان من وجهين أحدهما معرفتهم باللسان العربي فإنهم عرب فصحاء لم تتغير ألسنتهم ولم تنزل عن رتبتها العليا فصاحتهم فهم أعرف في فهم الكتاب والسنة من غيرهم فإذا جاء عنهم قول أو عمل واقع موقع البيان صح اعتماده من هذه الجهة والثاني مباشرتهم للوقائع والنوازل وتنزيل الوحي بالكتاب والسنة فهم أقعد في فهم القرائن الحالية وأعرف بأسباب التنزيل ويدركون ما لا يدركه غيرهم بسبب ذلك والشاهد يرى ما لا يرى الغائب فمتى جاء عنهم تقييد بعض المطلقات أو تخصيص بعض العمومات فالعمل عليه صواب وهذا إن لم ينقل عن أحد منهم خلاف في المسألة فإن خالف بعضهم فالمسألة اجتهادية مثاله قوله عليه الصلاة والسلام لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر فهذا التعجيل يحتمل أن يقصد به إيقاعه قبل الصلاة ويحتمل أن لا فكان عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان يصليان المغرب قبل أن يفطرا ثم يفطران بعد الصلاة

339 بيانا أن هذا التعجيل لا يلزم أن يكون قبل الصلاة بل إذا كان بعد الصلاة فهو تعجيل أيضا وأن التأخير الذى يفعله أهل المشرق شيء آخر داخل في التعمق المنهى عنه وكذلك ذكر عن اليهود أنهم يؤخرون الإفطار فندب المسلمون إلى التعجيل وكذلك لما قال عليه الصلاة والسلام لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه احتمل أن تكون الرؤية مقيدة بالأكثر وهو أن يرى بعد غروب الشمس فبين عثمان أن ذلك غير لازم فرأى الهلال في خلافته قبل الغروب فلم يفطر حتى أمسى وغابت الشمس وتأمل فعادة مالك ابن أنس في موطئه وغيره الإتيان بالآثار عن الصحابة مبينا بها السنن وما يعمل به منها وما لا يعمل به وما يقيد به مطلقاتها وهو دأبه ومذهبه لما تقدم ذكره ومما بين كلامهم اللغة أيضا كما نقل مالك في دلوك الشمس وغسق الليل كلام ابن عمر وابن عباس وفي معنى السعي عن عمر بن الخطاب أعني قوله تعالى فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع وفي معنى الإخوة أن السنة قضت أن الإخوة اثنان فصاعدا كما تبين بكلامهم معاني الكتاب والسنة

340 لا يقال إن هذا المذهب راجع إلى تقليد الصحابي وقد عرفت ما فيه من النزاع والخلاف لأنا نقول نعم هو تقليد ولكنه راجع إلى ما لا يمكن الاجتهاد فيه على وجه إلا لهم كما تقدم من أنهم عرب وفرق بين من هو عربي الأصل والنحلة وبين من تعرب غلب التطبع شيمة المطبوع وأنهم شاهدوا من أسباب التكاليف وقرائن أحوالها ما لم يشاهد من بعدهم ونقل قرائن الأحوال على ما هي عليه كالمتعذر فلا بد من القول بأن فهمهم في الشريعة أتم وأحرى بالتقديم فإذا جاء في القرآن أو في السنة من بيانهم ما هو موضوع موضع التفسير بحيث لو فرضنا عدمه لم يمكن تنزيل النص عليه على وجهه انحتم الحكم بإعمال ذلك البيان لما ذكر ولما جاء في السنة من اتباعهم والجريان على سننهم كما جاء في قوله عليه الصلاة والسلام عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي وتمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وغير ذلك من الأحاديث فإنها عاضدة لهذا المعنى في الجملة

341 أما إذا علم أن الموضع موضع اجتهاد لا يفتقر إلى ذينك الأمرين فهم ومن سواهم فيه شرع سواء كمسألة العول والضوء من النوم وكثير من مسائل الربا التى قال فيها عمر ابن الخطاب مات رسول الله ولم يبين لنا آية الربا فدعوا الربا والريبة أو كما قال فمثل هذه المسائل موضع اجتهاد للجميع لا يختص به الصحابة دون غيرهم من المجتهدين وفيه خلاف بين العلماء أيضا فإن منهم من يجعل قول الصحابي ورأيه حجة يرجع إليها ويعمل عليها من غير نظر كالأحاديث والاجتهادات النبوية وهو مذكور في كتب الأصول فلا يحتاج إلى ذكرها ههنا المسألة الثانية عشرة الإجمال إما متعلق بما لا ينبني عليه تكليف وإما غير واقع في الشريعة وبيان ذلك من أوجه أحدها النصوص الدالة على ذلك كقوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي الآية وقوله هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين وقوله وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون وقوله تعالى هدى للمتقين هدى ورحمة للمحسنين وإنما كان هدى لأنه مبين والمجمل لا يقع به بيان وكل ما في هذا المعنى من

342 ويدل على أنهما بيان لكل مشكل وملجأ من كل معضل وفي الحديث ما تركت شيئا مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به ولا تركت شيئا مما نهاكم الله عنه إلا وقد نهيتكم عنه وهذا المعنى كثير فإن كان في القرآن شيء مجمل فقد بينته السنة كبيانه للصلوات الخمس في مواقيتها وركوعها وسجودها وسائر أحكامها وللزكاة ومقاديرها وأوقاتها وما تخرج منه من الأموال وللحج إذ قال خذوا عني مناسككم وما أشبه ذلك ثم بين عليه الصلاة والسلام ما وراء ذلك مما لم ينص عليه في القرآن والجميع بيان منه عليه الصلاة والسلام فإذا ثبت هذا فإن وجد في الشريعة مجمل أو مبهم المعنى أو ما لا يفهم فلا يصح أن يكلف بمقتضاه لأنه تكليف بالمحال وطلب ما لا ينال وإنما يظهر هذا الإجمال في المتشابه الذي قال الله تعالى فيه وأخر متشابهات

343 ولما بين الله تعالى أن في القرآن متشابها بين أيضا أنه ليس فيه تكليف إلا الإيمان به على المعنى المراد منه لا على ما يفهم المكلف منه فقد قال الله تعالى فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه إلى قوله كل من عند ربنا والناس في المتشابه المراد ههنا على مذهبين فمن قال إن الراسخين يعلمونه فليس بمتشابه عليهم وإن تشابه على غيرهم كسائر المبينات المشتبهة على غير العرب أو على غير العلماء من الناس ومن قال إنهم لا يعلمونه وإن الوقف على قوله ألا الله فالتكليف بما يراد به مرفوع باتفاق فلا يتصور أن يكون ثم مجمل لا يفهم معناه ثم يكلف به وهكذا إذا قلنا إن الراسخين هم المختصون بعلمه دون غيرهم فذلك الغير ليسوا بمكلفين بمقتضاه ما دام مشتبها عليهم حتى يتبين باجتهاد أو تقليد وعند ذلك يرتفع تشابهه فيصير كسائر المبينات فإن قيل قد أثبت القرآن متشابها في القرآن وبينت السنة أن في الشريعة متشبهات بقوله الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات وهذه المشتبهات متقاة بأفعال العباد لقوم فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه فهي إذا مجملات وقد انبنى عليها التكليف كما أن قوله تعالى وأخر متشابهات قد انبنى عليها التكليف وذلك قوله والراسخون في العلم يقولون

344 آمنا به كل من عند ربنا فكيف يقال إن الإجمال والتشابه لا يتعلقان بما ينبني عليه تكليف فالجواب أن الحديث في المتشابهات ليس مما نحن بصدده وإنما كلامنا في التشابه الواقع في خطاب الشارع وتشابه الحديث في مناط الحكم وهو راجع إلى نظر المجتهد حسبما مر في فصل التشابه وإن سلم فالمراد أن لا يتعلق تكليف بمعناه المراد عند الله تعالى وقد يتعلق به التكليف من حيث هو مجمل وذلك بأن يؤمن أنه من عند الله وبأن يجتنب فعله إن كان من أفعال العباد ولذلك قال فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ويجتنب النظر فيه إن كان من غير أفعال العباد كقوله الرحمن على العرش استوى وفي الحديث ينزل ربنا إلى سماء الدنيا وأشباه ذلك هذا معنى أنه لا يتعلق به تكليف وإلا فالتكليف متعلق بكل موجود من حيث يعتقد على ما هو عليه أو يتصرف فيه إن صح تصرف العباد فيه إلى غير ذلك من وجوه النظر الوجه الثاني أن المقصود الشرعي من الخطاب الوارد على المكلفين تفهيم ما لهم وما عليهم مما هو مصلحة لهم في دنياهم وأخراهم وهذا يستلزم كونه بينا واضحا لا إجمال فيه ولا اشتباه ولو كان فيه بحسب هذا القصد أشتباه وإجمال لناقض أصل مقصود الخطاب فلم تقع فائدة وذلك ممتنع من جهة رعي المصالح تفضلا أو انحتاما أو عدم رعيها إذ لا يعقل خطاب مقصود من غير تفهيم مقصود والثالث أنهم اتفقوا على امتناع تأخير البيان عن وقت الحاجة إلا عند من يجوز تكليف المحال وقد مر بيان امتناع تكليف المحال سمعا فبقي الاعتراف

345 بامتناع تأخير البيان عن وقته وإذا ثبت ذلك فمسألتنا من قبيل هذا المعنى لأن خطاب التكليف في وروده مجملا غير مفسر إما أن يقصد التكليف به مع عدم بيانه أولا فإن لم يقصد فذلك ما أردنا وإن قصد رجع إلى تكليف مالا يطاق وجرت دلائل الأصوليين هنا في المسألة وعلى هذين الوجهين أعني الثاني والثالث إن جاء في القرآن مجمل فلا بد من خروج معناه عن تعلق التكليف به وكذلك ما جاء منه في الحديث النبوي وهو المطلوب الطرف الثاني في الأدلة على التفصيل وهي الكتاب والسنة والإجماع والرأي ولما كان الكتاب والسنة هما الأصل لما سواهما اقتصرنا على النظر فيهما وأيضا فإن في أثناء الكتاب كثيرا مما يفتقر إليه الناظر في غيرهما مع أن الأصوليين تكفلوا بما عداهما كما تكفلوا بهما فرأينا السكوت عن الكلام في الإجماع والرأي والاقتصار على الكتاب والسنة والله المستعان فالأول أصلها وهو الكتاب وفيه مسائل

346 المسألة الأولى إن الكتاب قد تقرر أن كلية الشريعة وعمدة الملة وينبوع الحكمة وآية الرسالة ونور الأبصار والبصائر وأنه لا طريق إلى الله سواه ولا نجاة بغيره ولا تمسك بشيء يخالفه وهذا كله لا يحتاج إلى تقرير واستدلال عليه لأنه معلوم من دين الأمة وإذا كان كذلك لزم ضرورة لمن رام الاطلاع على كليات الشريعة وطمع في إدراك مقاصدها واللحاق بأهلها أن يتخذه سميره وأنيسه وأن يجعله جليسه على مر الأيام والليالي نظرا وعملا لا اقتصارا على أحدهما فيوشك أن يفوز بالبغية وأن يظفر بالطلبة ويجد نفسه من السابقين وفي الرعيل الأول فإن كان قادرا على ذلك ولا يقدر عليه إلا من زوال ما يعينه على ذلك من السنة المبينة للكتاب وإلا فكلام الأئمة السابقين والسلف المتقدمين آخذ بيده في هذا المقصد الشريف والمرتبة المنيفة وأيضا فمن حيث كان القرآن معجزا أفحم الفصحاء وأعجز البلغاء أن يأتوا بمثله فذلك لا يخرجه عن كونه عربيا جاريا على أساليب كلام العرب ميسرا للفهم فيه عن الله ما أمر به ونهى لكن بشرط الدربة في اللسان العربي كما تبين في كتاب الاجتهاد إذ لو خرج بالإعجاز عن إدراك العقول معانيه لكان خطابهم به من تكليف ما لا يطاق وذلك مرفوع عن الأمة وهذا من جملة الوجوه الإعجازية فيه إذ من العجب إيراد كلام من جنس كلام البشر في اللسان والمعاني والأساليب مفهوم معقول ثم لا يقدر البشر على الإتيان بسورة مثله ولو اجتمعوا وكان بعضهم لبعض ظهيرا فهم أقدر ما كانوا على معارضة الأمثال أعجز ما كانوا عن معارضته وقد قال الله تعالى ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر وقال فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر

347 مبين وعلى أي وجه فرض إعجازه فذلك غير مانع من الوصول إلى فهمه وتعقل معانيه كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب فهذا يستلزم إمكان الوصول إلى التدبر والتفهم وكذلك ما كان مثله وهو ظاهر المسألة الثانية معرفة أسباب التنزيل لازمة لمن أراد علم القرآن والدليل على ذلك أمران أحدهما أن علم المعاني والبيان الذى يعرف به إعجاز نظم القرآن فضلا عن معرفة مقاصد كلام العرب إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال حال الخطاب من جهة نفس الخطاب أو المخاطب أو المخاطب أو الجميع إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالين وبحسب مخاطبين وبحسب غير ذلك كالاستفهام لفظه واحد ويدخله معان أخر من تقرير وتوبيخ وغير ذلك وكالأمر يدخله معنى الإباحة والتهديد والتعجيز وأشباهها ولا يدل على معناها المراد إلا الأمور الخارجة وعمدتها مقتضيات الأحوال وليس كل حال ينقل ولا كل قرينة تقترن بنفس الكلام المنقول وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة فات فهم الكلام جملة أو فهم شيء منه ومعرفة الأسباب رافعة لكل مشكل في هذا النمط فهي من المهمات في فهم الكتاب بلا بد ومعنى معرفة السبب هو معنى معرفة مقتضى الحال وينشأ عن هذا الوجه الوجه الثاني وهو أن الجهل بأسباب التنزيل موقع في الشبه والإشكالات ومورد للنصوص الظاهرة مورد الإجمال حتى يقع الاختلاف وذلك مظنة وقوع النزاع

348 ويوضح هذا المعنى ما روى أبو عبيد عن إبراهيم التيمي قال خلا عمر ذات يوم فجعل يحدث نفسه كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد وقبلتها واحدة فقال ابن عباس يا أمير المؤمنين إنا أنزل علينا القرآن فقرأناه وعلمنا فيم نزل وإنه سيكون بعدنا أقوام يقرءون القرآن ولا يدرون فيم نزل فيكون لهم فيه رأي فإذا كان لهم فيه رأي اختلفوا فإذا اختلفوا اقتتلوا قال فزجره عمر وانتهره فانصرف ابن عباس ونظر عمر فيما قال فعرفه فأرسل إليه فقال أعد علي ما قلت فأعاده عليه فعرف عمر قوله وأعجبه وما قاله صحيح في الاعتبار ويتبين بما هو أقرب فقد روى ابن وهب عن بكير أنه سأل نافعا كيف كان رأي ابن عمر في الحرورية قال يراهم شرار خلق الله أنهم انطلقوا إلى آيات أنزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين فهذا معنى الرأي الذى نبه ابن عباس عليه وهو الناشئ عن الجهل بالمعنى الذى نزل فيه القرآن وروى أن مروان أرسل بوابه إلى ابن عباس وقال قل له لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون فقال ابن عباس ما لكم ولهذه الآية إنما دعا النبي يهود فسألهم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم ثم قرأ وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب إلى قوله ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فهذا السبب بين أن المقصود من الآية غير ما ظهر لمروان والقنوت يحتمل وجوها من المعنى يحمل عليه قوله وقوموا لله قانتين فإذا عرف السبب تعين المعنى المراد

349 الخ فقال عمر إنك أخطأت التأويل يا قدامة إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم الله وفي رواية فقال لم تجلدني بيني وبينك كتاب الله فقال عمر وأي كتاب الله تجد أن لا أجلدك قال إن الله يقول في كتابه ليس على الذين آمنوا إلى آخر الآية فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا شهدت مع رسول الله بدرا وأحد والخندق والمشاهد فقال عمر ألا تردون عليه قوله فقال ابن عباس إن هؤلاء الآيات أنزلن عذرا لماضين وحجة على الباقين فعذر الماضين بأنهم لقوا الله قبل أن تحرم عليهم الخمر وحجة على الباقين لأن الله يقول يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر ثم قرأ إلى آخر الآية الأخرى فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا فإن الله قد نهى أن يشرب الخمر قال عمر صدقت الحديث وحكى إسماعيل القاضي قال شرب نفر من أهل الشام الخمر وعليهم يزيد بن أبي سفيان فقالوا هي لنا حلال وتأولوا هذه الآية ليس على الذين آمنوا الآية قال فكتب فيهم إلى عمر قال فكتب عمر إليه أن ابعث بهم إلي قبل أن يفسدوا من قبلك فلما أن قدموا على عمر استشار فيهم الناس فقالوا يا أمير المؤمنين نرى أنهم قد كذبوا على الله وشرعوا في دينه ما لم يأذن به إلى آخر الحديث ففي الحديثين بيان أن الغفلة عن أسباب التنزيل تؤدي إلى الخروج عن المقصود بالآيات وجاء رجل إلى ابن مسعود فقال تركت في المسجد رجلا يفسر القرآن برأيه يفسر هذه الآية يوم تأتى السماء بدخان مبين قال يأتي الناس

350 يوم القيامة دخان فيأخذ بأنفسهم حتى يأخذهم كهيئة الزكام فقال ابن مسعود من علم علما فليقل به ومن لم يعلم فليقل الله أعلم فإن من فقه الرجل أن يقول لما لا علم له به الله أعلم إنما كان هذا الآن قريشا استعصوا على النبي دعا عليهم بسنين كسنى يوسف فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد فأنزل الله فارتقب يوم تأتى السماء بدخان الآية إلى آخر القصة وهذا شأن أسباب النزول في التعريف بمعاني المنزل بحيث لو فقد ذكر السبب لم يعرف من المنزل معناه على الخصوص دون تطرق الاحتمالات وتوجه الإشكالات وقد قال عليه الصلاة والسلام خذوا القرآن من أربعة منهم عبد الله ابن مسعود وقد قال في خطبة خطبها والله لقد علم أصحاب النبي إني من أعلمهم بكتاب الله وقال في حديث آخر والذي لا إله غيره ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم أنزلت ولو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لركبت إليه وهذا يشير إلى أن علم الأسباب من العلوم التى يكون العالم بها عالما بالقرآن وعن الحسن أنه قال ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم فيم أنزلت وما أراد بها وهو نص في الموضع مشير إلى التحريض على تعلم علم الأسباب وعن ابن سيرين قال سألت عبيدة عن شيء من القرآن فقال اتق الله وعليك بالسداد فقد ذهب الذين يعلمون فيم أنزل القرآن وعلى الجملة فهو ظاهر بالمزاولة لعلم التفسير

351 فصل ومن ذلك معرفة عادات العرب في أقوالها وأفعالها ومجارى أحوالها حالة التنزيل وإن لم يكن ثم سبب خاص لا بد لمن أراد الخوض في علم القرآن منه وإلا وقع في الشبه والإشكالات التي يتعذر الخروج منها إلا بهذه المعرفة ويكفيك ما تقدم بيانه في النوع الثاني من كتاب المقاصد فإن فيه ما يثلج الصدر ويورث اليقين في هذا المقام ولا بد من ذكر أمثلة تعين على فهم المراد وإن كان مفهوما أحدها قول الله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله فإنما أمر بالإتمام دون الأمر بأصل الحج لأنهم كانوا قبل الإسلام آخذين به لكن على تغيير بعض الشعائر ونقص جملة منها كالوقوف بعرفة وأشباه ذلك مما غيروا فجاء الأمر بالإتمام لذلك وإنما جاء إيجاب الحج نصا في قوله تعالى ولله على الناس حج البيت وإذا عرف هذا تبين هل في الآية دليل على إيجاب الحج أو إيجاب العمرة أم لا والثاني قوله تعالى ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا نقل عن أبي يوسف أن ذلك في الشرك لأنهم كانوا حديثي عهد بكفر فيريد أحدهم التوحيد فيهم فيخطئ بالكفر فعفا لهم عن ذلك كما عفا لهم عن النطق بالكفر عند الإكراه قال فهذا على الشرك ليس على الإيمان في الطلاق والعتاق والبيع والشراء لم تكن الإيمان بالطلاق والعتاق في زمانهم والثالث قوله تعالى يخافون ربهم من فوقهم أأمنتم من في السماء وأشباه ذلك إنما جرى على معتادهم في اتخاذ الآلهة في الأرض وإن كانوا مقرين بآلهية الواحد الحق فجاءت الآيات بتعيين الفوق وتخصيصه تنبيها على نفي ما ادعوه في الأرض فلا يكون فيه دليل على إثبات جهة ألبتة ولذلك قال تعالى فخر عليهم السقف من فوقهم فتأمله واجر على هذا المجرى في سائر

352 العرب عبدته وهم خزاعة ابتدع ذلك لهم أبو كبشة ولم تعبد العرب من الكواكب غيرها فلذلك عينت فصل وقد يشارك القرآن في هذا المعنى السنة إذ كثير من الأحاديث وقعت على أسباب ولا يحصل فهمها إلا بمعرفة ذلك ومنه أنه نهى عليه الصلاة والسلام عن ادخار لحوم الأضاحي بعد ثلاث فلما كان بعد ذلك قيل لقد كان الناس ينتفعون بضحاياهم ويحملون منها الودك ويتخذون منها الأسقية فقال وما ذلك قالوا نهيت عن لحوم الضحايا بعد ثلاث فقال عليه الصلاة والسلام إنما نهيتكم من أجل الدافة التى دفت عليكم فكلوا وتصدقوا وادخروا ومنه حديث التهديد بإحراق البيوت لمن تخلف عن صلاة الجماعة فإن حديث ابن مسعود يبين أنه بأهل النفاق بقوله ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق وحديث الأعمال بالنيات واقع عن سبب وهو أنهم لما أمروا بالهجرة هاجر ناس للأمر وكان فيهم رجل هاجر بسبب امرأة أراد نكاحها تسمى أم قيس ولم يقصد مجرد الهجرة للأمر فكان بعد ذلك يسمى مهاجر أم قيس وهو كثير

353 المسألة الثالثة كل حكاية وقعت في القرآن فلا يخلو أن يقع قبلها أو بعدها وهو الأكثر رد لها أولا فإن وقع رد فلا إشكال في بطلان ذلك المحكى وكذبه وإن لم يقع معها رد فذلك دليل صحة المحكى وصدقه أما الأول فظاهر ولا يحتاج إلى برهان ومن أمثلة ذلك قوله تعالى إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء فأعقب بقوله قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى الآية وقال وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا الآية فوقع التنكيت على افتراء ما زعموا بقوله بزعمهم وبقوله ساء ما يحكمون ثم قال وقالوا هذه أنعام وحرث حجر إلى تمامه ورد بقوله سيجزيهم بما كانوا يفترون ثم قال وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة الآية فنبه على فساده بقوله سيجزيهم وصفهم زيادة على ذلك وقال تعالى وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فرد عليهم بقوله وقد جاءوا ظلما وزورا ثم قال وقالوا أساطير الأولين الآية فرد بقوله قل أنزله الذى يعلم السر الآية ثم قال وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ثم قال تعالى انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا وقال تعالى وقال الكافرون هذا ساحر كذاب أجعل الآلهة إلها واحدا إلى قوله أأنزل عليه الذكر من بيننا ثم رد عليهم بقوله بل هم في شك من ذكري إلى آخر ما هنالك وقال وقالوا اتخذ الله ولدا ثم رد عليهم بأوجه كثيرة ثبتت في أثناء القرآن كقوله بل عباد مكرمون وقوله

354 بل له ما في السموات والأرض وقوله سبحانه هو الغني الآية وقوله تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض إلى آخره وأشباه ذلك ومن قرأ القرآن وأحضره في ذهنه عرف هذا بيسر وأما الثاني فظاهر أيضا ولكن الدليل على صحته من نفس الحكاية وإقرارها فإن القرآن سمي فرقانا وهدى وبرهانا وبيانا وتبيانا لكل شيء وهو حجة الله على الخلق على الجملة والتفصيل والإطلاق والعموم وهذا المعنى يأبى أن يحكى فيه ما ليس بحق ثم لاينبه عليه وأيضا فإن جميع ما يحكى فيه من شرائع الأولين وأحكامهم ولم ينبه على إفسادهم وافترائهم فيه فهو حق يجعل عمدة عند طائفة في شريعتنا ويمنعه قوم لا من جهة قدح فيه ولكن من جهة أمر خارج عن ذلك فقد اتفقوا على أنه حق وصدق كشريعتنا ولا يفترق ما بينهما إلا بحكم النسخ فقط ولو نبه على أمر فيه لكان في حكم التنبيه على الأول كقوله تعالى وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه الآية وقوله يحرفون الكلم عن مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه الآية وكذلك قوله تعالى من الذين هادوا يحرفون الكلم من بعد مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين فصار هذا من النمط الأول ومن أمثلة هذا القسم جميع ما حكي عن المتقدمين من الأمم السالفة مما كان حقا كحكايته عن الأنبياء والأولياء ومنه قصة ذي القرنين وقصة الخضر مع موسى عليه السلام وقصة أصحاب الكهف وأشباه ذلك

355 فصل ولاطراد هذا الأصل اعتمده النظار فقد استدل جماعة من الأصوليين على أن الكفار مخاطبون بالفروع بقوله تعالى قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين الآية إذ لو كان قولهم باطلا لرد عند حكايته واستدل على أن أصحاب الكهف سبعة وثامنهم كلبهم بأن الله تعالى لما حكى من قولهم أنهم ثلاثة رابعهم كلبهم وأنهم خمسة سادسهم كلبهم أعقب ذلك بقوله رجما بالغيب أي ليس لهم دليل ولا علم غير اتباع الظن ورجم الظنون لا يغني من الحق شيئا ولما حكى قولهم سبعة وثامنهم كلبهم لم يتبعه بإبطال بل قال قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل دل المساق على صحته دون القولين الأولين وروى عن ابن عباس أنه كان يقول أنا من ذلك القليل الذي يعلمهم ورأيت منقولا عن سهل بن عبد الله أنه سئل عن قوله إبراهيم عليه السلام ربي أرني كيف تحيي الموتى فقيل له أكان شاكا حين سأل ربه أن يريه آية فقال لا وإنما كان طلب زيادة إيمان إلى إيمان ألا تراه قال أولم تؤمن قال بلى فلو عمل شكا منه لأظهر ذلك فصح أن الطمأنينة كانت على معنى الزيادة في الإيمان بخلاف ما حكى الله عن قوم من الأعراب في قوله قالت الأعراب آمنا فإن الله تعالى رد عليهم بقوله قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ومن تتبع مجاري الحكايات في القرآن عرف مداخلها وما هو منها حق مما هو باطل فقد قال تعالى إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله إلى آخرها

356 إنك لرسوله تصحيحا لظاهر القول وقال والله يشهد إن المنافقين لكاذبون إبطالا لما قصدوا فيه وقال تعالى وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة الآية وسبب نزولها ما خرجه الترمذي وصححه عن ابن عباس قال مر يهودي بالنبي فقال له النبي حدثنا يا يهودي فقال كيف تقول يا أبا القاسم إذا وضع الله السموات على ذه والأرضين على ذه والماء على ذه والجبال على ذه وسائر الخلق على ذه وأشار الراوى بخنصره أولا ثم تابع حتى بلغ الإبهام فأنزل الله وما قدروا الله حق قدره وفي رواية أخرى جاء يهودي إلى النبي فقال يا محمد إن الله يمسك السموات على أصبع والأرضين على أصبع والجبال على أصبع والخلائق على أصبع ثم يقول أنا الملك فضحك النبي حتى بدت نواجذه قال وما قدروا الله حق قدره وفي رواية فضحك النبي تعجبا وتصديقا والحديث الأول كأنه مفسر لهذا وبمعناه يتبن معنى قوله وما قدروا الله حق قدره فإن الآية بينت أن كلام اليهودي حق في الجلمة وذلك قوله والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه وأشارت إلى أنه لم يتأدب مع الربوبية وذلك والله أعلم لأنه أشار إلى معنى الأصابع بأصابع نفسه وذلك مخالف للتنزيه للباري سبحانه فقال وما قدروا الله حق قدره وقال تعالى ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن أي يسمع

357 وقال تعالى ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن أي يسمع الحق والباطل فرد الله عليهم فيما هو باطل وأحق الحق فقال قل اذن خير لكم الآية ولما قصدوا الإذاية بذلك الكلام قال تعالى والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم وقال تعالى وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه فهذا منهم امتناع عن الإنفاق بحجة قصدهم فيها الاستهزاء فرد عليهم بقوله إن أنتم إلا في ضلال مبين لأن ذلك حيد عن امتثال الأمر وجواب أنفقوا أن يقال نعم أو لا وهو الامتثال أو العصيان فلما رجعوا إلى الاحتجاج على الامتناع بالمشيئة المطلقة التي لا تعارض انقلب عليهم من حيث لم يعرفوا إذ حاصلة أنهم اعترضوا على المشيئة المطلقة بالمشيئة المطلقة لأن الله شاء أن يكلفهم الإنفاق فكأنهم قالوا كيف يشاء الطلب منا ولو شاء أن يطعمهم لأطعمهم وهذا عين الضلال في نفس الحجة وقال تعالى وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إلى قوله وكلا آتينا حكما وعلما فقوله ففهمناها سليمان تقرير لإصابته عليه السلام في ذلك الحكم وإيماء إلى خلاف ذلك في داود عليه السلام لكن لما كان

358 المجتهد معذورا مأجورا بعد بذله الوسع قال وكلا آتينا حكما وعلما وهذا من البيان الخفي فيما نحن فيه قال الحسن والله لولا ما ذكر الله من أمر هذين الرجلين لرأيت أن القضاء قد هلكوا فإنه أثنى على هذا بعلمه وعذر هذا باجتهاده والنمط هنا يتسع ويكفي منه ما ذكر وبالله التوفيق فصل وللسنة مدخل في هذا الأصل فإن القاعدة المحصلة أن النبي عليه الصلاة والسلام لا يسكت عما يسمعه أو يراه من الباطل حتى يغيره أو يبينه إلا إذا تقرر عندهم بطلانه فعند ذلك يمكن السكوت إحالة على ما تقدم من البيان فيه والمسألة مذكورة في الأصول المسألة الرابعة إذا ورد في القرآن الترغيب قارنه الترهيب في لواحقه أو سوابقه أو قرائنه وبالعكس وكذلك الترجيه مع التخويف وما يرجع إلى هذا المعنى مثله ومنه ذكر أهل الجنة يقارنه ذكر أهل النار وبالعكس لأن في ذكر أهل الجنة بأعمالهم ترجيه وفى ذكر أهل النار بأعمالهم تخويفا فهو راجع إلى الترجية والتخويف

359 أنعمت عليهم إلى آخرها فجيء بذكر الفريقين ثم بدئت سورة البقرة بذكرها أيضا فقيل هدى للمتقين ثم قال إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم ثم ذكر بإثرهم المنافقون وهو صنف من الكفار فلما تم ذلك أعقب بالأمر بالتقوى ثم بالتخويف بالنار وبعده بالترجية فقال فإن لم تفعلوا ولن تعفعلوا فاتقوا النار إلى قوله وبشر الذين آمنوا الآية ثم قال إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا الآية ثم ذكر في قصة آدم مثل هذا ولما ذكر بنو إسرائيل بنعم الله عليهم ثم اعتدائهم وكفرهم قيل إن الذين آمنوا والذين هادوا إلى قوله هم فيها خالدون ثم ذكر تفاصيل ذلك الإعتداء إلى أن ختم بقوله ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون وهذا تخويف ثم قال ولو أنهم آمنوا واتقو المثوبة الآية وهو ترجية ثم شرع في ذكر ما كان من شأن المخالفين في تحويل القبلة ثم قال بلى من أسلم وجهه لله الآية ثم ذكر من شأنهم الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون ثم ذكر قصة إبراهيم عليه السلام وبنيه وذكر في أثنائها التخويف والترجية وختمها بمثل ذلك ولا يطول عليك زمان إنجاز الوعد في هذا الإقتران فقد يكون بينهما أشياء معترضة في أثناء المقصود والرجوع بعد إلى ما تقرر وقال تعالى في سورة الأنعام وهي في المكيات نظير سورة البقرة في المدنيات الحمد لله الذى خلق السموات والأرض إلى قوله ثم الذين كفروا

360 بربهم يعدلون وذكر البراهين التامة ثم أعقبها بكفرهم وتخويفهم بسببه إلى أن قال كتب ربكم على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه فأقسم بكتب الرحمة على إنفاذ الوعيد على من خالف وذلك يعطى التخويف تصريحا والترجية ضمنا ثم قال إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم فهذا تخويف وقال من يصرف عنه يؤمئذ فقد رحمه الآية وهذا ترجية وكذا قوله وإن يمسسك الله بضر الآية ثم مضى في ذكر التخويف حتى قال وللدار الآخرة خير للذين يتقون ثم قال إنما يستجيب الذين يسمعون ونظيره قوله والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات الآية ثم ذكر ما يليق بالموطن إلى أن قال وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح الآية واجر في النظر على هذا الترتيب يلح لك وجه الأصل المنبه عليه ولولا الإطالة لبسط من ذلك كثير فصل وقد يغلب أحد الطرفين بحسب المواطن ومقتضيات الأحوال فيرد التخويف ويتسع مجاله لكنه لا يخلو من الترجية كما في سورة الأنعام فإنها جاءت مقررة للخلق ومنكرة على من كفر بالله واخترع من تلقاء نفسه ما لا سلطان له عليه وصد عن سبيله وأنكر ما لا ينكر ولد فيه وخاصم

361 وهذا المعنى يقتضى تأكيد التخويف وإطالة التأنيب والتعنيف فكثرت مقدماته ولواحقه ولم يخل مع ذلك من طرف الترجية لأنهم بذلك مدعوون إلى الحق وقد تقدم الدعاء وإنما هو مزيد تكرار إعذارا وانذارا ومواطن الاغترار يطلب فيها التخويف أكثر من طلب الترجية لأن درء المفاسد آكد وترد الترجية أيضا ويتسع مجالها وذلك في مواطن القنوط ومظنته كما في قوله تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا الآية فإن ناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا وزنوا وأكثروا فأتوا محمدا فقالوا إن الذي تقول وتدعوا إليه لحسن لو تخبرنا ألنا لما عملنا كفارة فنزلت فهذا موطن خوف يخاف منه القنوط فجيء فيه بالترجية غالبة ومثل ذلك الآية الأخرى وأقم الصلاة طرفى النهار وزلفامن الليل إن الحسنات يذهبن السيئات وانظر في سببها في الترمذي والنسائي وغيرهما ولما كان جانب الإخلال من العباد أغلب كان جانب التخويف أغلب وذلك في مظانه الخاصة لا على الإطلاق فإنه إذا لم يكن هنالك مظنة هذا ولا هذا أتى الأمر معتدلا وقد مر لهذاالمعنى بسط في كتاب المقاصد والحمد لله فإن قيل هذا لا يطرد فقد ينفرد أحد الأمرين فلا يؤتى معه بالآخر فيأتي التخويف من غير ترجية وبالعكس

362 ألا ترى قوله تعالى ويل لكل همزة لمزة إلى آخرها فإنها كلها تخويف وقوله كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى إلى آخر السورة وقوله ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل إلى آخر السورة ومن الآيات قوله إن الذين يؤذون الله ورسوله إلى قوله فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا وفي الطرف الآخر قوله تعالى والضحى والليل إذا سجى إلى آخرها وقوله تعالى ألم نشرح لك صدرك إلى آخرهاومن الآيات قوله تعالى ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولى القربى الآية وروى أبو عبيد عن ابن عباس أنه التقى هو وعبد الله بن عمرو فقال ابن عباس أي آية أرجي في كتاب الله فقال عبد الله قوله قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله الآية فقال ابن عباس لكن قول الله وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيى الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبى قال ابن عباس فرضى منه بقوله بلى قال فهذا لما يعترض في الصدور مما يوسوس به الشيطان وعن ابن مسعود قال في القرآن آيتان ما قرأهما عبد مسلم عند ذنب إلا غفر الله له وفسر ذلك أبي بن كعب بقوله تعالى والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله إلى آخر الآية وقوله ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما وعن ابن مسعود أن في النساء خمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها ولقد علمت أن العلماء إذا مروا بها ما يعرفونها قوله إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه الآية

363 وقوله إن الله لا يظلم مثقال ذرة الآية وقوله إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية وقوله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك الآية وقوله ومن يعمل سواءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما وأشياء من هذا القبيل كثيرة إذا تتبعت وجدت فالقاعدة لا تطرد وإنما الذى يقال أن كل موطن له ما يناسبه ولكل مقام مقال وهو الذي يطرد في علم البيان أما هذا التخصيص فلا فالجواب أن ما اعترض به غير صاد عن سبيل ما تقدم وعنه جوابان إجمالي وتفصيلي فالإجمايى أن يقال إن الأمر العام والقانون الشائع هو ما تقدم فلا تنقضه الأفراد الجزئية الأقلية لأن الكلية إذا كانت أكثرية في الوضعيات انعقدت كلية واعتمدت في الحكم بها وعليها شأن الأمور العادية الجارية في الوجود ولا شك أن ما اعترض به من ذلك قليل يدل على الاستقراء فليس بقادح فيما تأصل وأما التفصيلي فإن قوله ويل لكل همزة لمزة فضية عين في رجل معين من الكفار بسبب أمر معين من همزة النبي عليه الصلاة والسلام وعيبه إياه فهو إخبار عن جزائه على ذلك العمل القبيح لا أنه أجرى مجرى التخويف

364 فليس مما نحن فيه وهذا الوجه جار في قوله إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى وقوله إن الذين يؤذون الله ورسوله الآيتين جار على ما ذكر وكذلك سورة والضحى وقوله ألم نشرح لك صدرك غير ما نحن فيه بل هو أمر من الله للنبي عليه الصلاة والسلام بالشكر لأجل ما أعطاه من المنح وقوله ألا تحبون أن يغفر الله لكم قضية عين لأبي بكر الصديق نفس بها من كربه فيما أصابه بسبب الإفك المتقول على بنته عائشة فجاء هذا الكلام كالتأنيس له والحض على إتمام مكارم الأخلاق وإدامتها بالإنفاق على قريبة المتصف بالمسكنة والهجرة ولم يكن ذلك واجبا على أبي بكر ولكن أحب الله له معالى الأخلاق وقوله لا تقنطوا وما ذكر معها في المذاكرة المتقدمة ليس مقصودهم بذكر ذلك النقض على ما نحن فيه بل النظر في معاني آيات على استقلالها ألا ترى أن قوله لا تقنطوا من رحمة الله أعقب بقوله وأنيبوا إلى ربكم الآية وفي هذا تخويف عظيم مهيج للفرار من وقوعه وما تقدم من السبب في نزول الآية يبين المراد وأن قوله لا تقنطوا رافع لما تخوفوه من عدم الغفران لما سلف وقوله رب أرنى كيف تحيى الموتى فظر في معنى آية في الجملة وما يستنبط منها وإلا فقوله أو لم تؤمن تقرير نيه إشارة إلى التخويف أن لا يكون مؤمنا فلما قال بلى حصل المقصود وقوله والذين إذا فعلوا فاحشة كقوله لا تقنطوا من رحمة الله وقوله ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه داخل تحت أصلنا لأنه جاء بعد قوله ولا تكن للخائنين خصيما ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إلى قوله فمن يجادل

365 الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا وقوله إن تجتنبوا آت بعد الوعيد على الكبائر من أول السورة إلى هنالك كأكل مال اليتيم والحيف في الوصية وغيرهما فذلك مما يرجى به تقدم التخويف وأما قوله إن الله لا يظلم مثقال ذرة فقد أعقب بقوله يؤمئذ يود الذين كفروا وعصوا الآية وتقدم قبلها قوله الذين يبخلون إلى قوله عذابا مهينا بل قوله إن الله لا يظلم مثقال ذرة جمع التخويف مع الترجية وكذا قوله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم الآية تقدم قبلها وأتى بعدها تخويف عظيم فهو مما نحن فيه وقوله إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية جامع للتخويف والترجيه من حيث قيد غفران ما سوى الشرك بالمشيئة ولم يرد ابن مسعود بقوله ما يسرنى أن لي بها الدنيا وما فيها أنها آيات ترجية خاصة بل مراده والله أعلم أنها كليات في الشريعة محكمات قد احتوت على علم كثير وأحاطت بقواعد عظيمة في الدين ولذلك قال ولقد علمت أن العلماء إذا مروا بها ما يعرفونها وإذا ثبت هذا فجميع ما تقدم جار على أن لكل موطن ما يناسبه إنزال القرآن إجراؤه على البشارة والنذارة وهو المقصود الأصلي لا أنه أنزل لأحد الطرفين دون الآخر وهو المطلوب وبالله التوفيق فصل ومن هنا يتصور للعباد أن يكونوا دائرين بين الخوف والرجاء لأن حقيقة الإيمان دائرة بينهما وقد دل على ذلك الكتاب العزيز على الخصوص فقال إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون إلى قوله والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم

366 وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله وقال أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه وهذا على الجملة فإن غلب عليه طرف الانحلال والمخالفة فجانب الخوف عليه أقرب وإن غلب عليه طرف التشديد والاحتياط فجانب الرجاء إليه أقرب وبهذا كان عليه الصلاة والسلام يؤدب أصحابه ولما غلب على قوم جانب الخوف قيل لهم يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله الآية وغلب على قوم جانب الإهمال في بعض الأمور فخوفوا وعوتبوا كقوله إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة الآية فإذا ثبت هذا من ترتيب القرآن ومعاني آياته فعلى المكلف العمل على وفق ذلك التأديب المسألة الخامسة تعريف القرآن بالأحكام الشرعية أكثره كلي لا جزئي وحيث جاء جزئيا فمأخذه على الكلية إما بالاعتبار أو بمعنى الأصل إلا ما خصه الدليل مثل خصائص النبي ويدل على هذا المعنى بعد الاستقراء المعتبر أنه محتاج إلى كثير من البيان فإن السنة على كثرتها وكثرة مسائلها إنما هي بيان للكتاب كما سيأتي شرحه إن شاء الله تعالى وقد قال الله تعالى: وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم.

367 الدليل مثل خصائص النبي ويدل على هذا المعنى بعد الاستقراء المعتبر أنه محتاج إلى كثير من البيان فإن السنة على كثرتها وكثرة مسائلها إنما هي بيان للكتاب كما سيأتي شرحه إن شاء الله تعالى وقد قال الله تعالى وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم وفي الحديث ما من نبي من الأنبياء إلا أعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذى أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة وإنما الذي أعطى القرآن وأما السنة فبيان له وإذا كان كذلك فالقرآن على اختصاره جامع ولا يكون جامعا إلا والمجموع فيه أمور كليات لأن الشريعة تمت بتمام نزوله لقوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم الآية وأنت تعلم أن الصلاة والزكاة والجهاد وأشباه ذلك لم يتبين جميع أحكامها في القرآن إنما بينتها السنة وكذلك العاديات من الأنكحة والعقود والقصاص والحدود وغيرها

368 وقوله وما آتاكم الرسول فخذوه متضمنا للسنة وقوله ويتبع غير سبيل المؤمنين متضمنا للإجماع وهذا أهم ما يكون وفي الصحيح عن ابن مسعود قال لعن الله الواشمات والمستوشمات الخ فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب وكانت تقرأ القرآن فأتته فقالت ما حديث بلغني عنك أنك لعنت كذا وكذا فذكرته فقال عبد الله ومالي لا ألعن من لعن رسول الله وهو في كتاب الله فقالت المرأة لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته فقال لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه قال الله عز وجل وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا الحديث وعبد الله من العالمين بالقرآن

369 فصل فعلى هذا لا ينبغي في الاستنباط من القرآن الاقتصار عليه دون النظر في شرحه وبيانه وهو السنة لأنه إذا كان كليا وفيه أمور كلية كما في شأن الصلاة والزكاة والحج والصوم ونحوها فلا محيص عن النظر في بيانه وبعد ذلك ينظر في تفسير السلف الصالح له إن أعوزته السنة فإنهم أعرف به من غيرهم وإلا فمطلق الفهم العربي لمن حصله يكفي فيما أعوز من ذلك والله أعلم.

المسألة السادسة القرآن فيه بيان كل شيء على ذلك الترتيب المتقدم فالعالم به على التحقيق عالم بجملة الشريعة ولا يعوزه منها شيء والدليل على ذلك أمور منها النصوص القرآنيه من قوله اليوم أكملت لكم دينكم الآية وقوله ونزلنا عليك الكتاب تبيانا شيء وقوله ما فرطنا في الكتاب من شئ وقوله إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم يعني الطريقة المستقيمة ولو لم يكمل فيه جميع معانيها لما صح إطلاق هذا المعنى عليه حقيقة وأشباه ذلك من الآيات الدالة على أنه هدى وشفاء لما في الصدور ولا يكون شفاء لجميع ما في الصدور إلا وفيه تبيان كل شيء

370 ومنها ما جاء من الأحاديث والآثار المؤذنة بذلك كقوله عليه الصلاة والسلام إن هذا القرآن حبل الله وهو النور المبين والشفاء النافع عصمة لمن تمسك به ونجاة لمن تبعه لا يعوج فيقوم ولا يزيغ فيستعتب ولا تنقضى عجائبه ولا يخلق على كثرة الرد الخ فكونه حبل الله بإطلاق والشفاء النافع إلى تمامه دليل على كمال الأمر فيه ونحو هذا من حديث علي عن النبي عليه الصلاة والسلام وعن ابن مسعود أن كل مؤدب يحب أن يؤتى أدبه وأن أدب الله القرآن وسئلت عائشة عن خلق رسول الله فقالت كان خلقه القرآن وصدق ذلك قوله وإنك لعلى خلق عظيم وعن قتادة ما جالس القرآن أحد إلا فارقه بزيادة أو نقصان ثم قرأ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا وعن محمد ابن كعب القرظي في قول الله تعالى: إنا سمعنا مناديا ينادى للإيمان قال هو القرآن ليس كلهم رأي النبي وفي الحديث يؤم الناس أقرؤهم لكتاب الله وما ذاك إلا أنه أعلم بأحكام الله فالعالم بالقرآن عالم بجملة الشريعة وعن عائشة أن من قرأ القرآن فليس فوقه أحد وعن عبد الله قال إذا أردتم العلم فأثيروا القرآن فإن فيه علم الأولين والآخرين وعن عبد الله بن

371 عمر قال من جمع القرآن فقد حمل أمرا عظيما وقد أدرجت النبوة بين جنبيه إلا أنه لا يوحى إليه وفي رواية عنه من قرأ القرآن فقد اضطربت النبوة بين جنبيه وما ذاك إلا أنه جامع لمعاني النبوة وأشباه هذا مما يدل على هذا المعنى ومنها التجربة وهو أنه لا أحد من العلماء لجأ إلى القرآن في مسألة إلا وجد لها فيه أصلا وأقرب الطوائف من إعواز المسائل النازلة أهل الظواهر الذين ينكرون القياس ولم يثبت عنهم أنهم عجزوا عن الدليل في مسألة من المسائل وقال ابن حزم الظاهري كل أبواب الفقه ليس منها باب إلا وله أصل في الكتاب والسنة نعلمه والحمد لله حاش القراض فما وجدنا له أصلا فيهما ألبتة إلا آخر ما قال وأنت تعلم أن القراض نوع من أنواع الإجارة وأصل الإجارة في القرآن ثابت وبين ذلك إقراره عليه الصلاة والسلام وعمل الصحابة به ولقائل أن يقول إن هذا غير صحيح لما ثبت في الشريعة من المسائل والقواعد غير الموجودة في القرآن وإنما وجدت في السنة ويصدق ذلك ما في الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام لا ألفين أحدكم متكئا على أريكتة يأتيه الأمر من أمرى مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا أدرى ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه وهذا ذم ومعناه اعتماد السنة أيضا ويصححه قول الله تعالى فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول الآية قال ميمون بن مهران الرد إلى الله الرد إلى كتابه والرد إلى الرسول إذا كان حيا فلما قبضه الله فالرد إلى سنته ومثله وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا الآية يقال

372 ما نزل إليهم وهو جمع بين الأدلة لأنا نقول إن كانت السنة بيانا للكتاب ففي أحد قسميها فالقسم الآخر زيادة على حكم الكتاب كتحريم نكاح المرأة على عمتها أو خالتها وتحريم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع وقيل لعلي بن أبي طالب هل عندكم كتاب قال لا إلا كتاب الله أو فهم أعطية رجل مسلم أو ما في هذه الصحيفة قال قلت وما في هذه الصحيفة قال العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر وهذا وإن كان فيه دليل على أنه لا شيء عندهم إلا كتاب الله ففيه دليل أن عندهم ما ليس في كتاب الله وهو خلاف ما أصلت والجواب عن ذلك مذكور في الدليل الثاني وهو السنة بحول الله ومن نوادر الاستدلال القرآني ما نقل عن علي أنه قال الحمل ستة أشهر انتزاعا من قوله تعالى وحمله وفصاله ثلاثون شهرا مع قوله

373 وفصاله في عامين واستنباط مالك ابن أنس أن من سب الصحابة فلا حظ له في الفيء من قوله والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا الآية وقول من قال الولد لا يملك من قوله وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون وقول ابن العربي إن الإنسان قبل أن يكون علقة لا يسمى إنسانا من قوله خلق الإنسان من علق واستدلال منذر بن سعيد على أن العربي غير مطبوع على العربية بقوله والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وأغرب ذلك استدلال ابن الفخار القرطبي على أن الإيماء بالرؤوس إلى جانب عند الإبايه والإيماء بها سفلا عند الإجابة أولى مما يفعله المشارقة من خلاف ذلك بقوله تعالى لووا رؤوسهم ورأيتهم يصدون الآية وكان أبو بكر الشبلي

374 الصوفي إذا لبس شيئا خرق فيه موضعا فقال له ابن مجاهد أين في العلم إفساد ما ينتفع به فقال فطفق مسحا بالسوق والأعناق ثم قال الشبلي أين في القرآن أن الحبيب لا يعذب حبيبه فسكت ابن مجاهد وقال له قل قال قوله وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه الآية واستدل بعضهم على منع سماع المرأة بقوله تعالى ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه الآية وفي بعض هذه الاستدلالات نظر.

375 فصل وعلى هذا لا بد في كل مسألة يراد تحصيل علمها على أكمل الوجوه أن يلتفت إلى أصلها في القرآن فإن وجدت منصوصا على عينها أو ذكر نوعها أو جنسها فذاك وإلا فمراتب النظر فيها متعددة لعلها تذكر بعد في موضعها إن شاء الله تعالى وقد تقدم في القسم الأول من كتاب الأدلة قبل هذا أن كل دليل شرعي فإما مقطوع به أو راجع إلى مقطوع به وأعلى مراجع المقطوع به القرآن الكريم فهو أول مرجوع إليه أما إذا لم يرد من المسألة إلا العمل خاصة فيكفي الرجوع فيها إلى السنة المنقولة بالآحاد كما يكفي الرجوع فيها إلى قول المجتهد وهو أضعف وإنما يرجع فيها إلى أصلها في الكتاب لافتقاره إلى ذلك في جعلها أصلا يرجع إليه أو دينا يدان الله به فلا يكتفي بمجرد تلقيها من أخبار الآحاد كما تقدم.

المسألة السابعة العلوم المضافة إلى القرآن تنقسم على أقسام قسم هو كالأداة لفهمه واستخراج ما فيه من الفوائد والمعين على معرفة مراد الله تعالى منه كعلوم اللغة العربية التي لا بد منها وعلم والقراءات والناسخ والمنسوخ وقواعد أصول الفقه وما أشبه ذلك فهذا لا نظر فيه هنا ولكن قد يدعى فيما ليس بوسيلة أنه وسيلة إلى فهم القرآن وأنه مطلوب كطلب ما هو وسيلة بالحقيقة فإن علم العربية أو علم الناسخ والمنسوخ وعلم الأسباب وعلم المكي والمدني وعلم القراآت وعلم أصول الفقه معلوم عند جميع العلماء أنها معينة على فهم القرآن وأما غير ذلك فقد يعده بعض الناس وسيلة أيضا ولا يكون كذلك كما تقدم في حكاية الرازي في جعل علم الهيئة وسيلة إلى فهم قوله تعالى

376 أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج وزعم ابن رشد الحكيم في كتابه الذي سماه بفصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الإتصال أن علوم الفلسفة مطلوبة إذ لا يفهم المقصود من الشريعة على الحقيقة إلا بها ولو قال قائل إن الأمر بالضد مما قال لما بعد في المعارضة وشاهد ما بين الخصمين شأن السلف الصالح في تلك العلوم هل كانوا آخذين فيها أم كانوا تاركين لها أو غافلين عنها مع القطع بتحققهم بفهم القرآن يشهد لهم بذلك النبي والجم الغفير فلينظر امرؤ اين يضع قدمه وثم أنواع أخر يعرفها من زوال هذه الأمور ولا ينبئك مثل خبير فأبو حامد ممن قتل هذه الأمور خبرة وصرح فيها بالبيان الشافي في مواضع من كتبه وقسم هو مأخوذ من جملته من حيث هو كلام لا من حيث هو خطاب بأمر أو نهي أو غيرها بل من جهة ما هو هو وذلك ما فيه من دلالة النبوة وهو كونه معجزة لرسول الله فإن هذا المعنى ليس مأخوذا من تفاصيل القرآن كما تؤخذ منه الأحكام الشرعية إذ لم تنص آياته وسوره على ذلك مثل نصها على الأحكام بالأمر والنهي وغيرهما وإنما فيه التنبيه على التعجيز أن يأتوا بسورة مثله وذلك لا يختص به شيء من القرآن دون شيء ولا سورة دون سورة ولا نمط منه دون آخر بل ماهيته هي المعجزة له حسبما نبه عليه الصلاة والسلام ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجوا أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة فهو بهيأته التي أنزله الله عليها دال على صدق الرسول عليه الصلاة والسلام وفيها عجز الفصحاء اللسن والخصماء اللد عن الإتيان بما يماثله أو

377 يداينه ووجه كونه معجزا لا يحتاج إلى تقريره في هذا الموضع لأنه كيفما تصور الإعجاز به فماهيته هي الدالة على ذلك فإلى أي نحو منه ملت دلك ذلك على صدق رسول الله فهذا القسم أيضا لا نظر فيه هنا وموضعه كتب الكلام وقسم هو مأخوذ من عادة الله تعالى في إنزاله وخطاب الخلق به ومعاملته لهم بالرفق والحسنى من جعله عربيا يدخل تحت نيل أفهامهم مع أنه المنزه القديم وكونه تنزل لهم بالتقريب والملاطفة والتعليم في نفس المعاملة به قبل النظر إلى ما حواه من المعارف والخيرات وهذا نظر خارج عما تضمنه القرآن من العلوم ويتبين صحة الأصل المذكور في كتاب الإجتهاد وهو أصل التخلق بصفات الله والاقتداء بأفعاله ويشتمل على أنواع من القواعد الأصلية والفوائد الفرعية والمحاسن الأدبية فلنذكر منها أمثلة يستعان بها في فهم المراد فمن ذلك عدم المؤاخذة قبل الإنذار ودل على ذلك إخباره تعالى عن نفسه بقوله وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا فجرت عادته في خلقه أنه لا يؤاخذ بالمخالفة إلا بعد إرسال الرسل فإذا قامت الحجة عليهم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ولكل جزاء مثله ومنها الإبلاغ في إقامة الحجة على ما خاطب به الخلق فإنه تعالى أنزل القرآن برهانا في نفسه على صحة ما فيه وزاد على يدي رسوله عليه الصلاة والسلام من المعجزات ما في بعضه الكفاية ومنها ترك الأخذ من أول مرة بالذنب والحلم عن تعجيل المعاندين بالعذاب مع تماديهم على الإباية والجحود بعد وضوح البرهان وإن استعجلوا به ومنها تحسين العبارة بالكناية ونحوها في المواطن التى يحتاج فيها إلى ذكر ما يستحى من ذكره في عادتنا كقوله تعالى أو لامستم النساء ومريم ابنة

378 حتى إذا وضح السبيل في مقطع الحق وحضر وقت التصريح بما ينبغى التصريح فيه فلا بد منه وإليه الإشارة بقوله إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها والله لا يستحي من الحق ومنها التأنى في الأمور والجري على مجرى التثبت والأخذ بالاحتياط وهو المعهود في حقنا فلقد أنزل القرآن على رسول الله نجوما وهو في عشرين سنة حتى قال الكفار لولا أنزل عليه القرآن جملة واحدة فقال الله كذلك لنثبت به فؤادك وقال وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا وفي هذه المدة كان الإنذار يترادف والصراط يستوي بالنسبة إلى كل وجهة وإلى كل محتاج إليه وحين أبى من أبى الدخول في الإسلام بعد عشر سنين أو أكثر بدئوا بالتغليظ بالدعاء فشرع الجهاد لكن على تدريج أيضا حكمة بالغة وترتيبا يقتضيه العدل والإحسان حتى إذا كمل الدين ودخل الناس فيه أفواجا ولم يبق لقائل ما يقول قبض الله نبيه إليه وقد بانت الحجة ووضحت المحجة واشتد أس الدين وقوى عضده بأنصار الله فلله الحمد كثيرا على ذلك ومنها كيفية تأدب العباد إذا قصدوا باب رب الأرباب بالتضرع والدعاء فقد بين مساق القرآن آدابا استقرئت منه وإن لم ينص عليها بالعبارة فقد أغنت إشارة التقرير عن التصريح بالتعبير فأنت ترى أن نداء الله للعباد لم يأت في القرآن في الغالب إلا بيا المشيرة إلى بعد المنادى لأن صاحب النداء منزه عن مداناة العباد موصوف بالتعالي عنهم والاستغناء فإذا قرر نداء العباد للرب أتى بأمور تستدعى قرب الإجابة منها إسقاط حرف النداء المشير إلى قرب المنادى وأنه حاضر مع المنادى غير غافل عنه فدل على استشعار الراغب هذا المعنى إذ لم يأت في الغالب إلا ربنا ربنا كقوله ربنا لا تؤاخذنا

379 ربنا تقبل منا. رب إني نذرت لك ما في بطني. رب أرني كيف تحي الموتى، ومنها كثرة مجيء النداء باسم الرب المقتضى للقيام بأمور العباد وإصلاحها فكان العبد متعلقا بمن شأنه التربية والرفق والإحسان قائلا يا من هو المصلح لشئوننا على الإطلاق أتم لنا ذلك بكذا وهو مقتضى ما يدعو به وإنما أتى اللهم في مواضع قليلة ولمعان اقتضتها الأحوال ومنها تقديم الوسيلة بين يدى الطلب كقوله إياك نعبد وإياك نستعين إهدنا الصراط المستقيم الآية ربنا إننا آمنا ربنا آمنا بما أنزلت ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة الآية رب إنهم عصونى واتبعوا من لم يزده إلى قوله ولا تزد الظالمين إلا تبارا وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إلى غير ذلك من الآداب التي تؤخذ من مجرد التقرير ومن ذلك أشياء ذكرت في كتاب الاجتهاد في الاقتداء بالأفعال والتخلق بالصفات تضاف إلى ما هنا وقد تقدم أيضا منه جملة في كتاب المقاصد والحاصل أن القرآن احتوى من هذا النوع من الفوائد والمحاسن التي تقتضيها القواعد الشرعية على كثير يشهد بها شاهد الاعتبار ويصححها نصوص الآيات والأخبار

380 وقسم هو المقصود الأول بالذكر وهو الذي نبه عليه العلماء وعرفوه مأخوذا من نصوص الكتاب منطوقها ومفهومها على حسب ما أداه اللسان العربي فيه وذلك أنه محتو من العلوم على ثلاثة أجناس هي المقصود الأول أحدها معرفة المتوجه إليه وهو الله المعبود سبحانه والثانى معرفة كيفية التوجه إليه والثالث معرفة مآل العبد ليخاف الله به ويرجوه وهذه الأجناس الثلاثة داخلة تحت جنس واحد هو المقصود عبر عنه قوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون فالعبادة هي المطلوب الأول غير أنه لا يمكن إلا بمعرفة المعبود إذ المجهول لا يتوجه إليه ولا يقصد بعبادة ولا بغيرها فإذا عرف ومن جملة المعرفة به أنه آمر وناه وطالب للعباد بقيامهم بحقه توجه الطلب إلا أنه لا يتأتى دون معرفة كيفية التعبد فجيء بالجنس الثاني ولما كانت النفوس من شأنها طلب النتائج والمآلات وكان مآل الأعمال عائدا على العاملين بحسب ما كان منهم من طاعة أو معصية وانجر مع ذلك التبشير والإنذار في ذكرها أتى بالجنس الثالث موضحا لهذا الطرف وأن الدنيا ليست بدار إقامة وإنما الإقامة في الدار الآخرة فالأول يدخل تحته علم الذات والصفات والأفعال ويتعلق بالنظر في الصفات أو في الأفعال النظر في النبوات لأنها الوسائط بين المعبود والعباد وفي كل أصل ثبت للدين علميا كان أو عمليا ويتكمل بتقرير البراهين والمحاجة لمن جادل خصما من المبطلين والثاني يشتمل على التعريف بأنواع التعبدات من العبادات والعادات والمعاملات وما يتبع كل واحد منها من المكملات وهي أنواع فروض الكفايات وجامعها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنظر فيمن يقوم به

381 والثالث يدخل في ضمنه النظر في ثلاثة مواطن الموت وما يليه ويوم القيامة وما يحويه والمنزل الذي يستقر فيه ومكمل هذا الجنس الترغيب والترهيب ومنه الإخبار عن الناجين والهالكين وأحوالهم وما أداهم إليه حاصل أعمالهم وإذا تقرر هذا تلخص من مجموع العلوم الحاصلة في القرآن اثنا عشر علما وقد حصرها الغزالي في ستة أقسام ثلاثة منها هي السوابق والأصول المهمة وثلاثة هي توابع ومتممة فأما الثلاثة فهي تعريف المدعو إليه وهو شرح معرفة الله تعالى ويشتمل على معرفة الذات والصفات والأفعال وتعريف طريق السلوك إلى الله تعالى على الصراط المستقيم وذلك بالتحلية بالأخلاق الحميدة والتزكية عن الأخلاق الذميمة وتعريف الحال عند الوصول إليه ويشتمل على ذكر حالي النعيم والعذاب وما يتقدم ذلك من أحوال القيامة وأما الثلاثة الأخر فهي تعريف أحوال المجيبين للدعوة وذلك قصص خنه في الشريعة هو الأمر المعروف والنهي عن المنكر فإنه لا يختص بباب من الشريعة دون باب بخلاف فروض الكفايات الأخرى كالولايات العامة والجهاد وتعليم العلم و إقامة الصناعات المهمة فهذه كلها فروض كفايات قاصرة على بابها والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب كفائي مكمل لجميع أبواب الشريعة هنا معنى الجمع و ليس المراد بكونه جامعها أنه كلى لها و أنها جزئيات مندرجة تحته فإنه لا يظهر

382 الأنبياء والأولياء وسره الترغيب وأحوال الناكبين وذلك قصص أعداء الله وسره الترهيب والتعريف بمحاجة الكفار بعد حكاية أقوالهم الزائعة وتشتمل على ذكر الله بما ينزه عنه وذكر النبي عليه الصلاة والسلام بما لا يليق به وادكار عاقبة الطاعة والمعصية وسره في جنبة الباطل التحذير والإفضاح وفي جنبة الحق التثبيت والإيضاح والتعريف بعمارة منازل الطريق وكيفية أخذ الأهبة والزاد ومعناه محصول ما ذكره الفقهاء في العبادات والعادات والمعاملات والجنايات وهذه الأقسام الستة تتشعب إلى عشرة وهي ذكر الذات والصفات والأفعال والمعاد والصراط المستقيم وهو جانب التحلية والتزكية وأحوال الأنبياء والأولياء والأعداء ومحاجة الكفار وحدود الأحكام.

المسألة الثامنة: من الناس من زعم أن للقرآن ظاهرا وباطنا وربما نقلوا في ذلك بعض الأحاديث والآثار فعن الحسن مما أرسله عن النبي أنه قال ما أنزل الله آية إلا ولها ظهر وبطن بمعنى ظاهر وباطن وكل حرف حد وكل حد مطلع وفسر بأن الظهر والظاهر هو ظاهر التلاوة والباطن هو الفهم عن الله لمراده لأن الله تعالى قال فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا والمعنى لا يفهمون عن الله مراده من الخطاب ولم يرد أنهم لا يفهمون نفس الكلام كيف وهو منزل بلسانهم ولكن لم يحظوا بفهم مراد

383 لوجدوا فيه اختلافا كثيرا فظاهر المعنى شيء وهم عارفون به لأنهم عرب والمراد شيء آخر وهو الذي لا شك فيه أنه من عند الله وإذا حصل التدبر لم يوجد في القرآن اختلاف ألبتة فهذا الوجه الذي من جهته يفهم الإتفاق وينزاح الإختلاف هو الباطن المشار إليه ولما قالوا في الحسنة هذا من عند الله وفي السيئة هذا من عند رسول الله بين لهم أن كلا من عند الله وأنهم لا يفقهون حديثا لكن بين الوجه الذى يتنزل عليه أن كلا من عند الله بقوله ما أصابك من حسنة فمن الله الآية وقال تعالى أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها فالتدبر إنما يكون لمن التفت إلى المقاصد وذلك ظاهر في أنهم أعرضوا عن مقاصد القرآن فلم يحصل منهم تدبر قال بعضهم الكلام في القرآن على ضربين أحدهما يكون برواية فليس يعتبر فيها إلا النقل والآخر يقع بفهم فليس يكون إلا بلسان من الحق إظهار حكمة على لسان العبد وهذا الكلام يشير إلى معنى كلام علي وحاصل هذا الكلام أن المراد بالظاهر هو المفهوم العربي والباطن هو

384 مراد الله تعالى من كلامه وخطابه فإن كان مراد من أطلق هذه العبارة ما فسر فصحيح ولا نزاع فيه وإن أرادوا غير ذلك فهو إثبات أمر زائد على ما كان معلوما عند الصحابة ومن بعدهم فلا بد من دليل قطعي يثبت هذه الدعوى لأنها أصل يحكم به على تفسير الكتاب فلا يكون ظنيا وما استدل به إنما غايته إذا صح سنده أن ينتظم في سلك المراسيل وإذا تقرر هذا فلنرجع إلى بيانهما على التفسير المذكور بحول الله وله أمثلة تبين معناه بإطلاق فعن ابن عباس قال كان عمر يدخلني مع أصحاب النبي فقال له عبد الرحمن بن عوف أتدخله ولنا بنون مثله فقال له عمر إنه من حيث تعلم فسألني عن هذه الآية إذا جاء نصر الله والفتح فقلت إنما هو أجل رسول الله أعلمه إياه وقرأ السورة إلى آخرها فقال عمر والله ما أعلم منها إلا ما تعلم فظاهر هذه السورة أن الله أمر نبيه أن يسبح بحمد ربه ويستغفره إذا نصره الله وفتح عليه وباطنها أن الله نعى إليه نفسه ولما نزل قوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم الآية فرح الصحابة وبكى عمر وقال ما بعد الكمال إلا النقصان مستشعرا نعيه عليه الصلاة والسلام فما عاش بعدها إلا أحدا وثمانين يوما وقال تعالى مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت الآية قال الكفار ما بال العنكبوت والذباب يذكر في القرآن ما هذا كلام الإله فنزل إن الله لا يستحي أن

385 يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأخذوا بمجرد الظاهر ولم ينظروا في المراد فقال تعالى فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم الآية ويشبه ما نحن فيه نظر الكفار للدنيا واعتدادهم منها بمجرد الظاهر الذي هو لهو ولعب وظل زائل وترك ما هو مقصود منها وهو كونها مجازا ومعبرا لا محل سكنى وهذا هو باطنها على ما تقدم من التفسير ولما قال تعالى عليها تسعة عشر نظر الكفار إلى ظاهر العدد فقال أبو جهل فيما روى لا يعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم فبين الله تعالى باطن الأمر بقوله وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة إلى قوله وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا وقال يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فنظروا إلى ظاهر الحياة الدنيا وقال تعالى ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين وقال تعالى ومن الناس من يشتري لهو الحديث الآية لما نزل القرآن الذى هو هدى للناس ورحمة للمحسنين ناظره الكافر النضر بن الحرث بأخبار فارس والجاهلية وبالغناء فهذا هو عدم الإعتبار لباطن ما أنزل الله وقال تعالى في المنافقين لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله وهذا عدم فقه منهم لأن من علم أن الله هو الذى بيده ملكوت كل شيء وأنه هو مصرف الأمور فهو الفقيه ولذلك قال تعالى ذلك بأنهم قوم لا يفقهون وكذلك قوله تعالى صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون لأنهم نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا فاعلم أن الله تعالى إذا نفى الفقه أو العلم عن قوم فذلك لوقوفهم مع ظاهر الأمر وعدم اعتبارهم للمراد منه وإذا أثبت ذلك فهو لفهمهم مراد الله من خطابه وهو باطنه

386 وبين ضائق في قوله وضائق به صدرك والفرق بين النداء بيا أيها الذين آمنوا أو يا أيها الذين كفروا وبين النداء بيا أيها الناس أو بيا بني آدم والفرق بين ترك العطف في قوله إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم والعطف في قوله ومن الناس من يشتري لهو الحديث وكلاهما قد تقدم عليه وصف

387 قوله ومن الناس من يشتري لهو الحديث وكلاهما قد تقدم عليه وصف المؤمنين والفرق بين تركه أيضا في قوله ما أنت إلا بشر مثلنا وبين الآية الأخرى وما أنت إلا بشر مثلنا والفرق بين الرفع في قوله قال سلام والنصب فيما قبله من قوله قالوا سلاما والفرق بين الإتيان بالفعل في التذكر من قوله إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا وبين الإتيان باسم الفاعل في الإبصار من قوله فإذا هم مبصورن أو فهم الفرق بين إذا وإن في قوله تعالى فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه وبين جاءتهم وتصبهم بالماضي مع إذا والمستقبل مع إن وكذلك قوله وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة

388 بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون مع إتيانه بقوله فرحوا بعد إذا و يقنطون بعد إن وأشباه ذلك من الأمور المعتبرة عند متأخري أهل البيان فإذا حصل فهم ذلك كله على ترتيبه في اللسان العربي فقد حصل فهم ظاهر القرآن ومن هنا حصل إعجاز القرآن عند القائلين بأن إعجازه بالفصاحة فقال الله تعالى وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله الآية وقال تعالى أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله وهو لائق أن يكون الإعجاز بالفصاحة لا بغيرها إذ لم يؤتوا على هذا التقدير إلا من باب ما يستطيعون مثله في الجملة ولأنهم دعوا وقلوبهم لاهية عن معناه الباطن الذي هو مراد الله من انزاله فإذا عرفوا عجزهم عنه عرفوا صدق الآتي به وحصل الإذعان وهو باب التوفيق والفهم لمراد الله تعالى وكل ما كان من المعاني التي تقتضي تحقيق المخاطب بوصف العبودية والإقرار لله بالربوبية فذلك هو الباطن المراد والمقصود الذي أنزل القرآن لأجله ويتبين ذلك بالشواهد المذكورة آنفا ومن ذلك أنه لما نزل من ذا الذى يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة قال أبو الدحداح إن الله كريم استقرض منا ما أعطانا هذا معنى الحديث وقالت اليهود إن الله فقير ونحن أغنياء ففهم أبي الدحداح هو الفقه وهو الباطن المراد وفي رواية قال أبو الدحداح يستقرضنا وهو غني فقال عليه الصلاة والسلام نعم ليدخلكم

389 لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون وفي الأخرى قليلا ما تشكرون والشكر ضد الكفر فالإيمان وفروعه هو الشكر فإذا دخل المكلف تحت أعباء التكليف بهذا القصد فهو الذي فهم المراد من الخطاب وحصل باطنه على التمام وإن هو فهم من ذلك مقتضى عصمة ماله ودمه فقط فهذا خارج عن المقصود وواقف مع ظاهر الخطاب فإن الله قال فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد ثم قال فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم فالمنافق إنما فهم مجرد الأمر من أن الدخول فيما دخل فيه المسلمون موجب لتخلية سبيلهم فعملوا على الإحراز من عوادي الدنيا وتركوا المقصود من ذلك وهو الذي بينه القرآن من التعبد لله والوقوف على قدم الخدمة فإذا كانت الصلاة تشعر بالزام الشكر بالخضوع لله والتعظيم لأمره فمن دخلها عريا من ذلك كيف يعد ممن فهم باطن القرآن وكذلك إذا كان له مال حال عليه الحول فوجب عليه شكر النعمة ببذل اليسير من الكثير عودا عليه بالمزيد فوهبه عند رأس الحول فرارا من أدائها لا قصد له إلا ذلك كيف يكون شاكرا للنعمة وكذلك من يضار الزوجة لتنفك له من المهر على غير طيب النفس لا يعد عاملا بقوله تعالى فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به حتى يجري على معنى قوله تعالى فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هينئا مرئيا

390 وتجري هنا مسائل الحيل أمثلة لهذا المعنى لأن من فهم باطن ما خوطب به لم يحتل على أحكام الله حتى ينال منها بالتبديل والتغيير ومن وقف مع مجرد الظاهر غير ملتفت إلى المعنى المقصود اقتحم هذه المتاهات البعيدة وكذلك تجري مسائل المبتدعة أمثلة أيضا وهم الذين يتبعون ما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله كما قال الخوارج لعلي إنه حكم الخلق في دين الله والله يقول إن الحكم إلا لله وقالوا إنه محا نفسه من إمارة المؤمنين فهو إذا أمير الكافرين وقالوا لابن عباس لا تناظروه فإنه ممن قال الله فيهم بل هم قوم خصمون وكما زعم أهل التشبيه في صفة الباري حين أخذوا بظاهر قوله نجرى بأعيننا مما عملته أيدينا وهو السميع البصير والأرض جميعا قبضته يوم القيامة وحكموا مقتضاه بالقياس على المخلوقين فأسرفوا ما شاءوا فلو نظر الخوراج أن الله تعالى قد حكم الخلق في دينه في قوله يحكم به ذوا عدل منكم وقوله فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها لعلموا أن قوله إن الحكم إلا لله غير مناف لما فعله علي وأنه من جملة حكم الله فإن تحكيم الرجال يرجع به الحكم لله وحده فكذلك ما كان مثله مما فعله علي ولو نظروا إلى أن محو الإسم من أمر لا يقتضى إثباته لضده لما قالوا إنه أمير الكافرين وهكذا المشبهة لو حققت معنى قوله ليس كمثله شئ في الآيات المذكورة لفهموا بواطنها وأن الرب منزه عن سمات المخلوقين وعلى الجملة فكل من زاغ ومال عن الصراط المستقيم فبمقدار ما فاته من باطن القرآن فهما وعلما وكل من أصاب الحق وصادف الصواب فعلى مقدار ما حصل له من فهم باطنه

391 المسألة التاسعة كون الظاهر هو المفهوم العربي مجردا لا إشكال فيه لأن الموالف والمخالف اتفقوا على أنه منزل بلسان عربي مبين وقال سبحانه ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر ثم رد الحكاية عليهم بقوله لسان الذي يلحدون إليه أعجمى وهذا لسان عربى مبين وهذا الرد على شرط الجواب في الجدل لأنه أجابهم بما يعرفون من القرآن الذي هو بلسانهم والبشر هنا حبر وكان نصرانيا فأسلم أو سلمان وقد كان فارسيا فأسلم أو غيرهما ممن كان لسانه غير عربي باتفاق منهم وقال تعالى ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أاعجمي وعربي وقد علم أنهم لم يقولوا شيئا من ذلك فدل على أنه عندهم عربي وإذا ثبت هذا فقد كانوا فهموا معنى ألفاظه من حيث هو عربي فقط وإن لم يتفقوا على فهم المراد منه فلا يشترط في ظاهره زيادة على الجريان على اللسان الغربي فإذا كل معنى مستنبط من القرآن غير جار على اللسان العربي فليس من علوم القرآن في شيء لا مما يستفاد منه ولا مما يستفاد به ومن ادعى فيه ذلك فهو في دعواه مبطل وقد مر في كتاب المقاصد بيان هذا المعنى والحمد لله ومن امثلة هذا الفصل ما ادعاه من لا خلاق له من أنه مسمى في القرآن كبيان بن سمعان حيث زعم أنه المراد بقوله تعالى هذا بيان للناس الآية وهو من الترهات بمكان مكين والسكوت على الجهل كان أولى به من هذا الإفتراء البارد ولو جرى له على اللسان العربي لعده الحمقى من جملتهم

392 للناس كما يقال هذا زيد للناس ومثله في الفحش من تسمى بالكسف ثم زعم أنه المراد بقوله تعالى وإن يروا كسفا من السماء ساقطا الآية فأي معنى يكون للآية على زعمه الفاسد كما تقول وإن يروا رجلا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا وبيان بن سمعان هذا هو الذى تنسب إليه البيانية من الفرق وهو فيما زعم ابن قتيبة أول من قال بخلق القرآن والكسف هو أبو منصور الذى تنسب إليه المنصورية وحكى بعض العلماء أن عبيد الله الشيعي المسمى بالمهدي حين ملك إفريقية واستولى عليها كان له صاحبان من كتامة ينتصر بهما على أمره وكان أحدهما يسمى بنصر الله والآخر بالفتح فكان يقول لهما أنتما اللذان ذكركما الله في كتابه فقال إذا جاء نصر الله والفتح قالوا وقد كان عمل ذلك في آيات من كتاب الله تعالى فبدل قوله كنتم خير أمة أخرجت للناس بقوله كتامة خير أمةأخرجت للناس ومن كان في عقله لا يقول مثل هذا لأن المتسميين بنصر الله والفتح المذكورين إنما وجدا بعد مئين من السنين من وفاة رسول الله فيصير المعنى إذا مت يا محمد ثم خلق هذان ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح الآية فأي تناقض وراء هذا الإفك الذى افتراه الشيعي قاتله الله ومن أرباب الكلام من ادعى جواز نكاح الرجل منا تسع نسوة حرائر مستدلا على ذلك بقوله تعالى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى

393 وثلاث ورباع ولا يقول مثل هذا من فهم وضع العرب في مثنى وثلاث ورباع ومنهم من يرى شحم الخنزير وجلده حلالا لأن الله قال حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير فلم يحرم شيئا غير لحمه ولفظ اللحم يتناول الشحم وغيره بخلاف العكس ومنهم من فسر الكرسي في قوله وسع كرسيه السموات والأرض بالعلم مستدلين ببيت لا يعرف وهو ولا بكرسئ علم الله مخلوق كأنه عندهم ولا يعلم علمه وبكرسئ مهموز والكرسي غير مهموز ومنهم من فسر غوى في قوله تعالى وعصى آدم ربه فغوى أنه تخم من أكل الشجرة من قول العرب غوي الفصيل يغوي غوى إذا بشم من شرب اللبن وهو فاسد لأن غوي الفصيل فعل والذي في القرآن على وزن فعل ومنهم من قال في قوله ولقد ذرأنا لجهنم أي ألقينا فيها كأنه عندهم من قول الناس ذرته الريح وذرأ مهموز وذرا غير مهموز وفي قوله واتخذ الله إبراهيم خليلا أي فقيرا إلى رحمته من الخلة بفتح الخاء محتجين على ذلك بقول زهير وإن أتاه خليل يوم مسألة قال ابن قتيبة أي فضيلة لإبراهيم في هذا القول أما يعلمون أن الناس فقراء إلى الله وهل إبراهيم في لفظ خليل الله إلا كما قيل موسى كليم الله وعيسى روح الله ويشهد له الحديث لو كنت متخذ خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا إن صاحبكم خليل الله وهؤلاء من أهل الكلام هم النابذون للمنقولات اتباعا للرأي وقد أداهم ذلك إلى تحريف كلام الله بما لا يشهد للفظة عربي ولا لمعناه برهان كما رأيت وإنما أكثرت من الأمثلة وإن كانت من الخروج عن مقصود العربية والمعنى على ما علمت لتكون تنبيها على ما وراءها مما هو مثلها أو قريب منها

394 فصل وكون الباطن هو المراد من الخطاب قد ظهر أيضا مما تقدم في المسألة قبلها ولكن يشترط فيه شرطان أحدهما أن يصح على مقتضى الظاهر المقرر في لسان العرب ويجري على المقاصد العربية والثاني أن يكون له شاهد نصا أو ظاهرا في محل آخر يشهد لصحته من غير معارض فأما الأول فظاهر من قاعدة لكون القرآن عربيا فإنه لو كان له فهم لا يقتضيه كلام العرب لم يوصف بكونه عربيا بإطلاق ولأنه مفهوم يلصق بالقرآن ليس في ألفاظه ولا في معانيه ما يدل عليه وما كان كذلك فلا يصح أن ينسب إليه أصلا إذ ليست نسبته إليه على أن مدلوله أولى من نسبة ضده إليه ولا مرجح يدل على أحدهما فإثبات أحدهما تحكم وتقول على القرآن ظاهر وعند ذلك يدخل قائله تحت إثم من قال في كتاب الله بغير علم والأدلة المذكورة في أن القرآن عربي جارية هنا وأما الثاني فلأنه إن لم يكن له شاهد في محل آخر أو كان له معارض صار من جملة الدعاوي التي تدعى على القرآن والدعوى المجردة غير مقبولة باتفاق العلماء وبهذين الشرطين يتبين صحة ما تقدم أنه الباطن لأنهما موفران فيه بخلاف ما فسر به الباطنية فإنه ليس من علم الباطن كما أنه ليس من علم الظاهر فقد قالوا في قوله تعالى وورث سليمان داود إنه الإمام ورث النبي علمه وقالوا في الجنابة إن معناها مبادرة المستجيب بإفشاء السر إليه قبل أن ينال رتبة الإستحقاق ومعنى الغسل تجديد العهد على من فعل ذلك ومعنى الطهور هو التبري والتنظف من اعتقاد كل مذهب سوى متابعة الإمام

395 والتيمم الأخذ من المأذون إلى أن يشاهد الداعي أو الإمام والصيام الإمساك عن كشف السر والكعبة النبي والباب على والصفا هو النبي والمروة على والتلبية إجابة الداعي والطواف سبعا هو الطواف بمحمد عليه الصلاة والسلام إلى تمام الأئمة السبعة والصلوات الخمس أدلة على الأصول الأربعة وعلى الإمام ونار إبراهيم هو غضب نمروذ لا النار الحقيقية وذبح إسحق هو أخذ العهد عليه وعصا موسى حجته التى تلقفت شبه السحرة وانفلاق البحر افتراق علم موسى عليه السلام فيهم والبحر هو العالم وتظليل الغمام نصب موسى الإمام لإرشادهم والمن علم نزل من السماء والسلوى داع من الدعاة والجراد والقمل والضفادع سؤآلات موسى وإلزماته التى تسلطت عليهم وتسبيح الجبال رجال شداد في الدين والجن الذين ملكهم سلمان باطنية ذلك الزمان والشياطين هم الظاهرية الذين كلفوا الأعمال الشاقة إلى سائر ما نقل من خباطهم الذي هو عين الخبال وضحكة السامع نعوذ بالله من الخذلان قال القتبى وكان بعض أهل الأدب يقول ما أشبه تفسير الروافض للقرآن إلا بتأويل رجل من أهل مكة للشعر فإنه قال ذات يوم ما سمعت بأكذب من بني تميم زعموا أن قول القائل بيت زرارة محتب بفنائه ومجاشع وأبو الفوارس نهشل إنه في رجل منهم قيل له فما تقول أنت فيه قال البيت بيت الله وزرارة الحج قيل فمجاشع قال زمزم جشعت بالماء قيل فأبو الفوراس قال أبو قبيس قيل فنهشل قال نهشل أشده وصمت ساعة ثم قال نعم نهشل مصباح الكعبة لأنه طويل أسود فذلك نهشل انتهى ما حكاه

396 فصل وقد وقعت في القرآن تفاسير مشكلة يمكن أن تكون من هذا القبيل أو من قبيل الباطن الصحيح وهي منسوبة لأناس من أهل العلم وربما نسب منها إلى السلف الصالح فمن ذلك فواتح السور نحو ألم و المص و حم ونحوها فسرت بأشياء منها ما يظهر جريانه على مفهوم صحيح ومنها ما ليس كذلك فينقلون عن ابن عباس أن الم أن ألف الله ولام جبريل وميم محمد وهذا إن صح في النقل فمشكل لأن هذا النمط من التصرف لم يثبت في كلام العرب هكذا مطلقا وإنما أتى مثله إذا دل عليه الدليل اللفظي أو الحالي كما قال قلت لها قفي فقالت قاف وقال قالوا جميعا كلهم بلافا وقال ولا أريد الشر إلا أن تا والقول في الم ليس هكذا وأيضا فلا دليل من خارج يدل عليه إذ لو كان له دليل لاقتضت العادة نقله لأنه من المسائل التى تتوفر الدواعي على نقلها لو صح أنه مما يفسر ويقصد تفهيم معناه ولما لم يثبت شيء من ذلك دل على أنه من قبيل المتشابهات فإن ثبت له دليل يدل عليه صير إليه وقد ذهب فريق إلى أن المراد الإشارة إلى حروف الهجاء وأن القرآن منزل بجنس هذه الحروف وهي العربية وهو أقرب من الأول كما أنه نقل أن هذه الفواتح أسرار لا يعلم تأويلها إلا الله وهو أظهر الأقوال فهي من قبيل المتشابهات وأشار جماعة إلى أن المراد بها أعدادها تنبيها على مدة هذه الملة وفي السير ما يدل

397 على هذا المعنى وهو قول يفتقر إلى أن العرب كانت تعهد في استعمالها الحروف المقطعة أن تدل بها على أعدادها وربما لا يوجد مثل هذا لها ألبتة وإنما كان أصله في اليهود حسبما ذكره أصحاب السير فأنت ترى هذه الأقوال مشكلة إذا سبرناها بالمسبار المتقدم وكذلك سائر الأقوال المذكورة في الفواتح مثلها في الإشكال وأعظم ومع إشكالها فقد اتخذها جمع من المنتسبين إلى العلم بل إلى الإطلاع والكشف على حقائق الأمور حججا في دعاو ادعوها على القرآن وربما نسبوا شيئا من ذلك علي بن أبي طالب وزعموا أنها أصل العلوم ومنبع المكاشفات على أحوال الدنيا والآخرة وينسبون ذلك إلى أنه مراد الله تعالى في خطابه العرب الأمية التي لا تعرف شيئا من ذلك وهو إذا سلم أنه مراد في تلك الفواتح في الجملة فما الدليل على أنه مراد على كل حال من تركيبها على وجوه وضرب بعضها ببعض ونسبتها إلى الطبائع الأربع وإلى أنها الفاعلة في الوجود وأنها مجمل كل مفصل وعنصر كل موجود ويرتبون في ذلك ترتيبا جميعه دعاو محالة على الكشف والإطلاع ودعوى الكشف ليس بدليل في الشريعة على حال كما أنه لا يعد دليلا في غيرها كما سيأتي بحول الله فصل ومن ذلك أنه نقل عن سهل بن عبد الله في فهم القرآن أشياء مما يعد من باطنه فقد ذكر عنه أنه قال في قوله تعالى فلا تجعلوا لله أندادا أي أضدادا قال وأكبر الأنداد النفس الأمارة بالسوء الطواعة إلى حظوظها

398 ومنهيها بغير هدى من الله وهذا يشير إلى أن النفس الأمارة داخلة تحت عموم الأنداد حتى لو فصل لكان المعنى فلا تجعلوا لله أندادا لا صنما ولا شيطانا ولا النفس ولا كذا وهذا مشكل الظاهر جدا إذ كان مساق الآية ومحصول القرائن فيها يدل على أن الأنداد الأصنام أو غيرها مما كانو يعبدون ولم يكونوا يعبدون أنفسهم ولا يتخذونها أربابا ولكن له وجه جار على الصحة وذلك أنه لم يقل إن هذا هو تفسير الآية ولكن أتى بما هو ند في الإعتبار الشرعي الذى شهد له القرآن من جهتين إحداهما أن الناظر قد يأخذ من معنى الآية معنى من باب الإعتبار فيجريه فيما لم تنزل فيه لأنه يجامعه في القصد أو يقار به لأن حقيقة الند أنه المضاد لنده الجاري على مناقضته والنفس الأمارة هذا شأنها لأنها تأمر صاحبها

399 بمراعاة حظوظها لاهية أو صادة عن مراعاة حقوق خالقها وهذا هو الذى يعنى به الند في نده لأن الأصنام نصبوها لهذا المعنى بعينه وشاهد صحة هذا الإعتبار قوله تعالى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله وهم لم يعبدوهم من دون الله ولكنهم ائتمروا بأوامرهم وانتهوا عما نهوهم عنه كيف كان فما حرموا عليه حرموه وما أباحوا لهم حللوه فقال الله تعالى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله وهذا شأن المتبع لهوى نفسه والثانية أن الآية وإن نزلت في أهل الأصنام فإن لأهل الإسلام فيها نظرا بالنسبة إليهم ألا ترى أن عمر ابن الخطاب قال لبعض من توسع في الدنيا من أهل الإيمان أين تذهب بكم هذه الآية أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا وكان هو يعتبر نفسه بها وإنما أنزلت في الكفار لقوله ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم الآية ولهذا المعنى تقرير في العموم والخصوص فإذا كان كذلك صح التنزيل بالنسبة إلى النفس الأمارة في قوله فلا تجعلوا لله أندادا والله أعلم فصل ومن المنقول عن سهل أيضا في قوله تعالى ولا تقربا هذه الشجرة قال لم يرد الله معنى الأكل في الحقيقة وإنما أراد معنى مساكنة

400 الهمة لشيء هو غيره أي لا تهتم بشيء هو غيري قال فآدم لم يعصم من الهمة والتدبير فلحقه ما لحقه قال وكذلك كل من ادعى ما ليس له وساكن قلبه ناظرا إلى هوى نفسه لحقه الترك من الله مع ما جبلت عليه نفسه عليه إلا أن يرحمه الله فيعصمه من تدبيره وينصره على عدوه وعليها قال وآدم لم يعصم عن مساكنة قلبه إلى تدبير نفسه للخلود لما أدخل الجنة لأن البلاء في الفرع دخل عليه من أجل سكون القلب إلى ما وسوست به نفسه فغلب الهوى والشهوة العلم والعقل بسابق القدر إلى آخر ما تكلم به وهذا الذى ادعاه في الآية خلاف ما ذكره الناس من أن المراد النهي عن نفس الأكل لا عن سكون الهمة لغير الله وإن كان ذلك منهيا عنه أيضا ولكن له وجه يجري عليه لمن تأول فإن النهي إنما وقع عن القرب لا غيره ولم يرد النهي عن الأول تصريحا فلا منافاة بين اللفظ وبين ما فسر به وأيضا فلا يصح حمل النهي على نفس القرب مجردا إذ لا مناسبة فيه تظهر ولأنه لم يقل به أحد وإنما النهي عن معنى في القرب وهو إما التناول والأكل وإما غيره وهو شيء ينشأ الأكل عنه وذلك مساكنة الهمة فإنه الأصل في تحصيل الأكل ولا شك في أن السكون لغير الله لطلب نفع أو دفع منهى عنه فهذا التفسير له وجه ظاهر فكأنه يقول لم يقع النهي عن مجرد الأكل من حيث هو أكل بل عما ينشأ عنه الأكل

401 من السكون لغير الله إذ لو انتهى لكان ساكنا لله وحده فلما لم يفعل وسكن إلى أمر في الشجرة غره به الشيطان وذلك الخلد المدعى أضاف الله إليه لفظ العصيان ثم تاب عليه إنه هو التواب الرحيم ومن ذلك أنه قال في قوله تعالى إن أول بيت وضع للناس الآية باطن البيت قلب محمد يؤمن به من أثبت الله في قلبه التوحيد واقتدى بهدايته وهذا التفسير يحتاج إلى بيان فإن هذا المعنى لا تعرفه العرب ولا فيه من جهتها وضع مجازي مناسب ولا يلائمه مساق بحال فكيف هذا والعذر عنه أنه لم يقع فيه ما يدل على أنه تفسير للقرآن فزال الإشكال إذا وبقي النظر في هذه الدعوى ولا بد إن شاء الله من بيانها ومنه قوله في تفسير قول الله تعالى يؤمنون بالجبت والطاغوت قال رأس الطواغيت كلها النفس الأمارة بالسوء إذا خلى العبد معها للمعصية وهو أيضا من قبيل ما قبله وإن فرض أنه تفسير فعلى ما مر في قوله تعالى فلا تجعلوا لله أندادا وقال في قوله تعالى والجار ذى القربى الآية أما باطنها فهو القلب والجار الجنب النفس الطبيعي والصاحب بالجنب العقل المقتدى بعمل الشرع وابن السبيل الجوراح المطيعة لله عز وجل وهو من المواضع المشكة

402 في كلامه ولغيره مثل ذلك أيضا وذلك أن الجاري على مفهموم كلام العرب في هذا الخطاب ما هو الظاهر من أن المراد بالجار ذي القربى وما ذكر معه ما يفهم منه ابتداء وغير ذلك لا يعرفه العرب لا من آمن منهم ولا من كفر والدليل على ذلك أنه لم ينقل عن السلف الصالح من الصحابة والتابعين تفسير للقرآن يماثله أو يقاربه ولو كان عندهم معروفا لنقل لأنهم كانوا أحرى بفهم ظاهر القرآن وباطنه باتفاق الأئمة ولا يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها ولا هم أعرف بالشريعة منهم ولا أيضا ثم دليل يدل على صحة هذا التفسير لا من مساق الآية فإنه ينافيه ولا من خارج إذ لا دليل عليه كذلك بل مثل هذا أقرب إلى ما ثبت رده ونفيه عن القرآن من كلام الباطنية ومن أشبههم وقال في قوله صرح ممرد من قوارير الصرح نفس الطبع والممرد الهوى إذا كان غالبا ستر أنوار الهوى بالترك من الله تعالى العصمة لعبده وفي قوله فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا أي قلوبهم عند إقامتهم على ما نهوا عنه وقد علموا أنهم مأمورون منهيون والبيوت القلوب فمنها عامرة بالذكر ومنها خراب بالغفلة عن الذكر وفي قوله فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيى الأرض بعد موتها قال حياة القلوب بالذكر وقال في قوله تعالى ظهر الفساد في البر والبحر الآية مثل الله القلب بالبحر والجوارح بالبر ومثله أيضا بالأرض التى تزهى بالنبات هذه باطنه وقد حمل بعضهم قوله تعالى ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه على أن المساجد القلوب تمنع بالمعاصي من ذكر الله ونقل في قوله تعالى فاخلع نعليك أن باطن النعلين هو الكونان الدنيا والآخرة فذكر عن الشبلي أن معنى اخلع نعليك اخلع الكل منك تصل إلينا بالكلية وعن ابن عطاء اخلع نعليك عن الكون فلا تنظر إليه بعد هذا الخطاب وقال

403 النعل النفس والوادي المقدس دين المرء أي حال وقت خلوك من نفسك والقيام معنا بدينك وقيل غير ذلك مما يرجع إلى معنى لا يوجد في النقل عن السلف وهذا كله إن صح نقله خارج عما تفهمه العرب ودعوى ما لا دليل عليه في مراد الله بكلامه ولقد قال الصديق أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم وفي الخبر من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ وما أشبه ذلك من التحذيرات وإنما احتيج إلى هذا كله لجلالة من نقل عنهم ذلك من الفضلاء وربما ألم الغزالي بشيء منه في الإحياء وغيره وهو مزلة قدم لمن لم يعرف مقاصد القوم فإن الناس في أمثال هذه الأشياء بين قائلين منهم من يصدق به ويأخذه على ظاهره ويعتقد أن ذلك هو مراد الله تعالى من كتابه وإذا عارضه ما ينقل في كتب التفسير على خلافة فربما كذب به أو أشكل عليه ومنهم من يكذب به على الإطلاق ويرى أنه تقول وبهتان مثل ما تقدم من تفسير الباطنية ومن حذا حذوهم وكلا الطريقين فيه ميل عن الإنصاف ولا بد قبل الخوض في رفع الإشكال من تقديم أصل مسلم يتبين به ما جاء من هذا القبيل وهي المسألة العاشرة فنقول الإعتبارات القرآنية الواردة على القلوب الظاهرة للبصائر إذا صحت على كمال شروطها فهي على ضربين أحدهما ما يكون أصل انفجاره من القرآن ويتبعه سائر الموجودات فإن الإعتبار الصحيح في الجملة هو الذي يخرق نور البصيرة فيه

404 حجب الأكوان من غير توقف فإن توقف فهو غير صحيح أو غير كامل حسبما بينه أهل التحقيق بالسلوك والثاني ما يكون أصل انفجاره من الموجودات جزئيها أو كليها ويتبعه الإعتبار في القرآن فإن كان الأول فذلك الإعتبار صحيح وهو معتبر في فهم باطن القرآن من غير إشكال لأن فهم القرآن إنما يرد على القلوب على وفق ما نزل له القرآن وهو الهداية التامة على ما يليق بكل واحد من المكلفين وبحسب التكاليف وأحوالها لا بإطلاق وإذا كانت كذلك فالمشي على طريقها مشي على الصراط المستقيم ولأن الإعتبار القرآني قلما يجده إلا من كان من أهله عملا به على تقليد أو اجتهاد فلا يخرجون عند الإعتبار فيه عن حدوده كما لم يخرجوا في العمل به والتخلق بأخلاقه عن حدوده بل تنفتح لهم أبواب الفهم فيه على توازي أحكامه ويلزم من ذلك أن يكون معتدا به لجريانه على مجاريه والشاهد على ذلك ما نقل من فهم السلف الصالح فيه فإنه كله جار على ما تقضي به العربية وما تدل عليه الأدلة الشرعية حسبما تبين قبل وإن كان الثاني فالتوقف عن إعتباره في فهم باطن القرآن لازم وأخذه على إطلاقه فيه ممتنع لأنه بخلاف الأول فلا يصح إطلاق القول باعتباره في فهم القرآن فنقول إن تلك الأنظار الباطنة في الآيات المذكورة إذا لم يظهر جريانها على مقتضى الشروط المتقدمة فهى راجعة إلى الإعتبار غير القرآني وهو الوجودي ويصح

405 تنزيله على معاني القرآن لأنه وجودي أيضا فهو مشترك من تلك الجهة غير خاص فلا يطالب فيه المعتبر بشاهد موافق إلا ما يطالبه المربي وهو أمر خاص وعلم منفرد بنفسه لا يختص بهذا الموضع فلذلك يوقف على محله فكون القلب جار ذا قربى والجار الجنب هو النفس الطبيعي إلى سائر ما ذكر يصح تنزيله إعتباريا مطلقا فإن مقابلة الوجود بعضه ببعض في هذا النمط صحيح وسهل جدا عند أربابه غير أنه مغرر بمن ليس براسخ أو داخل تحت إيالة راسخ وأيضا فإن من ذكر عنه مثل ذلك من المعتبرين لم يصرح بأنه المعنى المقصود المخاطب به الخلق بل أجراه مجراه وسكت عن كونه هو المراد وإن جاء شيء من ذلك وصرح صاحبه أنه هو المراد فهو من أرباب الأحوال الذين لا يفرقون بين الإعتبار القرآني والوجودي وأكثر ما يطرأ هذا لمن هو بعد في السلوك سائر على الطريق لم يتحقق بمطلوبه ولا إعتبار بقول من لم يثبت إعتبار قوله من الباطنية وغيرهم وللغزالي في مشكات الأنوار وفي كتاب الشكر من الإحياء وفي كتاب جواهر القرآن في الإعتبار القرآني وغيره ما يتبين به لهذا الموضع أمثلة فتأملها هناك والله الموفق

406 فصل وللسنة في هذا النمط مدخل فإن كل واحد منهما قابل لذلك الإعتبار المتقدم الصحيح الشواهد وقابل أيضا للاعتبار الوجودي فقد فرضوا نحوه في قوله عليه الصلاة والسلام لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة إلى غير ذلك من الأحاديث ولا فائدة في التكرار إذا وضح طريق الوصول إلى الحق والصواب المسألة الحادية عشرة المدني من السور ينبغي أن يكون منزلا في الفهم على المكي وكذلك المكي بعضه مع بعض والمدني بعضه مع بعض على حسب ترتيبه في التنزيل وإلا لم يصح والدليل على ذلك أن معنى الخطاب المدني في الغالب مبني على المكي كما أن المتأخر من كل واحد منهما مبني على متقدمة دل على ذلك الاستقراء وذلك إنما يكون بيان مجمل أو تخصيص عموم أو تقييد مطلق أو تفصيل ما لم يفصل أو تكميل ما لم يظهر تكميله وأول شاهد على هذا أصل الشريعة فإنها جاءت متممة لمكارم الأخلاق ومصلحة لما أفسد قبل من ملة إبراهيم عليه السلام ويليه تنزيل سورة الأنعام فإنها نزلت مبينة لقواعد العقائد وأصول الدين وقد خرج العلماء منها قواعد التوحيد التى صنف فيها المتكلمون من أول إثبات واجب الوجود إلى إثبات الإمامة

407 هذا ما قالوا وإذا نظرت بالنظر المسوق في هذا الكتاب تبين به من قرب بيان القواعد الشرعية الكلية التي إذا انخرم منها كلي واحد انخرم نظام الشريعة أو نقص منها أصل كلي ثم لما هاجر رسول الله إلى المدينة كان من أول ما نزل عليه سورة البقرة وهي التى قررت قواعد التقوى المبنية على قواعد سورة الأنعام فإنها بينت من أقسام أفعال المكلفين حملتها وإن تبين في غيرها تفاصيل لها كالعبادات التي هي قواعد الإسلام والعادات من أصل المأكول والمشروب وغيرهما والمعاملات من البيوع والأنكحة وما دار بها والجنايات من أحكام الدماء وما يليها وأيضا فإن حفظ الدين فيهاوحفظ النفس والعقل والنسل والمال مضمن فيها وما خرج عن المقرر فيها فبحكم التكميل فغيرها من السور المدنية المتأخرة عنها مبني عليها كما كان غير الأنعام من المكي المتأخر عنها مبنيا عليها وإذا تنزلت إلى سائر السور بعضها مع بعض في الترتيب وجدتها كذلك حذو القذة بالقذة فلا يغيبن عن الناظر في الكتاب هذا المعنى فإنه من أسرار علوم التفسير وعلى حسب المعرفة به تحصل له المعرفة بكلام ربه سبحانه

408 فصل وللسنة هنا مدخل لأنها مبنية للكتاب فلا تقع في التفسير إلا على وفقه وبحسب المعرفة بالتقديم والتأخير يحصل بيان الناسخ من المنسوخ في الحديث كما يتبين ذلك في القرآن أيضا ويقع في الأحاديث أشياء تقررت قبل تقرير كثير من المشروعات فيأتي فيها إطلاقات أو عمومات ربما أوهمت ففهم منها يفهم منها لو وردت بعد تقرير تلك المشروعات كحديث من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة أو حديث ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صادقا من قلبه إلا حرمه الله على النار وفي المعنى أحاديث كثيرة وقع من أجلها الخلاف بين الأمة فيمن عصى الله من أهل الشهادتين فذهبت المرجئة إلى القول بمقتضى هذه الظواهر على الإطلاق وكان ما عارضها مؤولا عند هؤلاء وذهب أهل السنة والجماعة إلى خلاف ما قالوه حسبما هو مذكور في كتبهم وتأولوا هذه الظواهر

409 ومن جملة ذلك أن طائفة من السلف قالوا إن هذه الأحاديث منزلة على الحالة الأولى للمسلمين وذلك قبل أن تنزل الفرائض والأمر والنهي ومعلوم أن من مات في ذلك الوقت ولم يصل أو لم يصم مثلا وفعل ما هو محرم في الشرع لا حرج عليه لأنه لم يكلف بشيء من ذلك بعد فلم يضيع من أمر إسلامه شيئا كما أن من مات والخمر في جوفه قبل أن تحرم فلا حرج عليه لقوله تعالى ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح الآية وكذلك من مات قبل أن تحول القبلة نحو الكعبة لا حرج عليه في صلاته إلى بيت المقدس لقوله تعالى وما كان الله ليضيع إيمانكم وإلى أشياء من هذا القبيل فيها بيان لما نحن فيه وتصريح بأن اعتبار الترتيب في النزول مفيد في فهم الكتاب والسنة المسألة الثانية عشرة ربما أخذ تفسير القرآن على التوسط والإعتدال وعليه أكثر السلف المتقدمين بل ذلك شأنهم وبه كانوا أفقه الناس فيه وأعلم العلماء بمقاصده وبواطنه وربما أخذ على أحد الطرفين الخارجين عن الإعتدال إما على الإفراط وإما على التفريط وكلا طرفي قصد الأمور ذميم فالذين أخذوه على التفريط قصروا في فهم اللسان الذى به جاء وهو العربية فما قاموا في تفهم معانيه ولا قعدوا كما تقدم عن الباطنية وغيرها ولا إشكال في اطراح التعويل على هؤلاء والذين أخذوه على الإفراط أيضا قصروا في فهم معانيه من جهة أخرى وقد تقدم في كتاب المقاصد بيان أن الشريعة أمية وأن ما لم يكن معهودا عند العرب

410 فلا يعتبر فيها ومر فيه أنها لا تقصد التدقيقات في كلامها ولا تعتبر ألفاظها كل الاعتبار إلا من جهة ما تؤدي المعاني المركبة فما وراء ذلك إن كان مقصودا لها فبالقصد الثاني ومن جهة ما هو معين على إدارك المعنى المقصود كالمجاز والاستعارة والكناية وإذا كان كذلك فربما لا يحتاج فيه إلى فكر فإن احتاج الناظر فيه إلى فكر خرج عن نمط الحسن إلى نمط القبح والتكلف وذلك ليس من كلام العرب فكذلك لا يليق بالقرآن من باب الأولى وأيضا فإنه حائل بين الإنسان وبين المقصود من الخطاب من التفهم لمعناه ثم التعبد بمقتضاه وذلك أنه إعذار وإنذار وتبشير وتحذير ورد إلى الصراط المستقيم فكم بين من فهم معناه ورأى أنه مقصود العبارة فداخله من خوف الوعيد ورجاء الموعود ما صار به مشمرا عن ساعد الجد والاجتهاد باذلا غاية الطاقة في الموافقات هاربا بالكلية عن المخالفات وبين من أخذ في تحسين الإيراد والاشتغال بمآخذ العبارة ومدارجها ولم اختلفت مع مرادفتها مع أن المعنى واحد وتفريع التجنيس ومحاسن الألفاظ والمعنى المقصود في الخطاب بمعزل عن النظر فيه كل عاقل يعلم أن مقصود الخطاب ليس هو التفقه في العبارة بل التفقه في المعبر عنه وما المراد به هذا لا يرتاب فيه عاقل ولا يصح أن يقال إن التمكن في التفقه في الألفاظ والعبارات وسيلة إلى التفقه في المعاني بإجماع العلماء فكيف يصح إنكار ما لا يمكن إنكاره ولأن الاشتغال

411 بالوسيلة والقيام بالفرض الواجب فيها دون الاشتغال بالمعنى المقصود لا ينكر في الجملة والالزام ذم علم العربية بجميع أصنافه وليس كذلك باتفاق العلماء لأنا نقول ما ذكرته في السؤال لا ينكر بإطلاق كيف وبالعربية فهمنا عن الله تعالى مراده من كتابه وإنما المنكر الخروج في ذلك إلى حد الإفراط الذى يشك في كونه مراد المتكلم أو يظن أنه غير مراد أو يقطع به فيه لأن العرب لم يفهم منها قصد مثله في كلامها ولم يشتغل بالتفقه فيه سلف هذه الأمة فما يؤمننا من سؤال الله تعالى لنا يوم القيامة من أين فهمتم عنى أنى قصدت التجنيس الفلاني بما أنزلت من قولى وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا أو قولى قال إنى لعملكم من القالين فإن في دعوى مثل هذا على القرآن وأنه مقصود للمتكلم به خطرا بل هو راجع إلى معنى قوله تعالى إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم وإلى أنه قول في كتاب الله بالرأي وذلك بخلاف الكناية في قوله تعالى أو لامستم النساء وقوله كانا يأكلان الطعام وما أشبه ذلك

412 فإنه شائع في كلام العرب مفهوم من مساق الكلام معلوم اعتباره عند أهل اللسان ضرورة والتجنيس ونحوه ليس كذلك وفرق ما بينهما خدمة المعنى المراد وعدمه إذ ليس في التجنيس ذلك والشاهد على ذلك ندوره من العرب الأجلاف البوالين على أعقابهم كما قال أبو عبيدة ومن كان نحوهم وشهرة الكناية وغيرها ولا تكاد تجد ما هو نحو التجنيس إلا في كلام المولدين ومن لا يحتج به فالحاصل أن لكل علم عدلا وطرفا إفراط وتفريط والطرفان هما المذمومان والوسط هو المحمود المسألة الثالثة عشرة مبنية على ما قبلها فإنه إذا تعين أن العدل في الوسط فمأخذ الوسط ربما كان مجهولا والإحالة

413 على مجهول لا فائدة فيه فلا بد من ضابط يعول عليه في مأخذ الفهم والقول في ذلك والله المستعان أن المساقات تختلف بإختلاف الأحوال والأوقات والنوازل وهذا معلوم في علم المعاني والبيان فالذي يكون على بال من المستمع والمتفهم والالتفات إلى أول الكلام وآخره بحسب القضية وما اقتضاه الحال فيها لا ينظر في أولها دون آخرها ولا في آخرها دون أولها فإن القضية وإن اشتملت على جمل فبعضها متعلق بالبعض لأنها قضية واحدة نازلة في شيء واحد فلا محيص للمتفهم عن رد آخر الكلام على أوله وأوله على آخره وإذ ذاك يحصل مقصود الشارع في فهم المكلف فإن فرق النظر في أجزائه فلا يتوصل به إلى مراده فلا يصح الاقتصار في النظر على بعض أجزاء الكلام دون بعض إلا في موطن واحد وهو النظر في فهم الظاهر بحسب اللسان

414 العربي وما يقتضيه لا بحسب مقصود المتكلم فإذا صح له الظاهر على العربية رجع إلى نفس الكلام فعما قريب يبدو له منه المعنى المراد فعليه بالتعبد به وقد يعينه على هذا المقصد النظر في أسباب التنزيل فإنها تبين كثيرا من المواضع التي يختلف مغزاها على الناظر غير أن الكلام المنظور فيه تارة يكون واحدا بكل اعتبار بمعنى أنه أنزل في قضية واحدة طالت أو قصرت وعليه أكثر سور المفصل وتارة يكون متعددا في الاعتبار بمعنى أنه أنزل في قضايا متعددة كسورة البقرة وآل عمران والنساء واقرأ باسم ربك وأشباهها ولا علينا أنزلت السورة بكمالها دفعة واحدة أم نزلت شيئا بعد شئيء ولكن هذا القسم لها اعتباران اعتبار من جهة تعدد القضايا فتكون كل قضية مختصة بنظرها ومن هنالك يلتمس الفقه على وجه ظاهر لا كلام فيه ويشترك مع هذا الاعتبار القسم الأول فلا فرق بينهما في التماس العلم والفقه واعتبار من جهة النظم الذي وجدنا عليه السورة إذ هو ترتيب بالوحي لا مدخل فيه لآراء الرجال ويشترك معه أيضا القسم الأول لأنه نظم ألقي بالوحي وكلاهما لا يلتمس منه فقه على وجه ظاهر وإنما يلتمس منه ظهور بعض أوجه

415 الإعجاز وبعض مسائل نبه عليها في المسألة السابقة قبل وجميع ذلك لا بد فيه من النظر في أول الكلام وآخره بحسب تلك الاعتبارات فاعتبار جهة النظم مثلا في السورة لا يتم به فائدة إلا بعد استيفاء جميعها بالنظر فالاقتصار على بعضها فيه غير مفيد غاية المقصود كما أن الاقتصار على بعض الآية في استفادة حكم ما لا يفيد إلا بعد كمال النظر في جميعها فسورة البقرة مثلا كلام واحد باعتبار النظم واحتوت على أنواع من الكلام بحسب ما بث فيها منها ما هو كالمقدمات والتمهيدات بين يدي الأمر المطلوب ومنها ما هو كالمؤكد والمتمم ومنها ما هو المقصود في الإنزال وذلك تقرير الأحكام على تفاصيل الأبواب ومنها الخواتم العائدة على ما قبلها بالتأكيد والتثبيت وما أشبه ذلك ولا بد من تمثيل شيء من هذه الأقسام فبه يبين ما تقدم فقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم إلى قوله كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون كلام واحد وإن نزل في أوقات شتى وحاصله بيان الصيام وأحكامه وكيفية آدابه وقضائه وسائر ما يتعلق به من الجلائل التي لا بد منها ولا ينبنى إلا عليها ثم جاء قوله ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل الآية كلاما آخر بين أحكاما أخر وقوله يسألونك عن الأهلة قل هى مواقيت للناس والحج وانتهى الكلام على قول طائفة وعند أخرى أن قوله وليس البر بأن تأتوا البيوت الآية

416 وقوله تعالى إنا أعطيناك الكوثر نازلة في قضية واحدة وسورة اقرأ نازلة في قضيتين الأولى إلى قوله علم الإنسان ما لم يعلم والأخرى ما بقي إلى آخر السورة وسورة المؤمنين نازلة في قضية واحدة وإن اشتملت على معان كثيرة فإنها من المكيات وغالب المكي أنه مقرر لثلاثة معان أصلها معنى واحد وهو الدعاء إلى عبادة الله تعالى أحدها تقرير الوحدانية لله الواحد الحق غير أنه يأتي على وجوه كنفي الشريك بإطلاق أو نفيه بقيد ما ادعاه الكفار في وقائع مختلفة من كونه مقربا إلى الله زلفى أو كونه ولدا أو غير ذلك من أنواع الدعاوى الفاسدة والثاني تقرير النبوة للنبي محمد وأنه رسول الله إليهم جميعا صادق فيما جاء به من عند الله إلا أنه وارد على وجوه أيضا كإثبات كونه رسولا حقا ونفي ما ادعوه عليه من أنه كاذب أو ساحر أو مجنون أو يعلمه بشر أو ما أشبه ذلك من كفرهم وعنادهم والثالث إثبات أمر البعث والدار الآخرة وأنه حق لا ريب فيه بالأدلة الواضحة والرد على من أنكر ذلك بكل وجه يمكن الكافر إنكاره به فرد بكل وجه يلزم الحجة ويبكت الخصم ويوضح الأمر فهذه المعانى الثلاثة هي التي اشتمل عليها المنزل من القرآن بمكة في عامة الأمر وما ظهر ببادي الرأي خروجه عنها فراجع إليها في محصول الأمر ويتبع ذلك الترغيب والترهيب والأمثال والقصص وذكر الجنة والنار ووصف يوم القيامة وأشباه ذلك

417 فإذا تقرر هذا وعدنا إلى النظر في سورة المؤمنين مثلا وجدنا فيها المعاني الثلاثة على أوضح الوجوه إلا أنه غلب على نسقها ذكر إنكار الكفار للنبوة التي هي المدخل للمعنين الباقين وإنهم إنما انكروا ذلك بوصف البشرية ترفعا منهم أن يرسل إليهم من هو مثلهم أو ينال هذه الرتبة غيرهم إن جاءت فكانت السورة تبين وصف البشرية وما تنازعوا فيه منها وبأي وجه تكون على أكمل وجوهها حتى تستحق الاصطفاء والاجتباء من الله تعالى فافتتحت السورة بثلاث جمل إحداها وهي الآكد في المقام بيان الأوصاف المكتسبة للعبد التى إذا اتصف بها رفعة الله وأكرمه وذلك قوله قد أفلح المؤمنون إلى قوله هم فيها خالدون والثانية بيان أصل التكوين للإنسان وتطويره الذى حصل له جاريا على مجارى الاعتبار والاختيار بحيث لا يجد الطاعن إلى الطعن على من هذا حاله سبيلا والثالثة بيان وجوه الإمداد له من خارج بما يليق به في التربية والرفق والإعانة على إقامة الحياة وأن ذلك له بتسخير السموات والأرض وما بينهما وكفى بهذا تشريفا وتكريما ثم ذكرت قصص من تقدم مع أنبيائهم واستهزائهم بهم بأمور منها كونهم من البشر ففي قصة نوح مع قومه قولهم ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ثم أجمل ذكر قوم آخرين أرسل فيهم رسولا منهم أي من البشر لا من الملائكة فقالوا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه الآية ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون ثم قالوا إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا أي هو من البشر ثم قال تعالى ثم أرسلنا رسلنا تترى كلما جاء أمة رسولها كذبوه فقوله رسولها مشيرا إلى أن المراد رسولها الذي تعرفه منها ثم ذكر موسى وهارون ورد فرعون وملائه بقولهم أنؤمن لبشرين مثلنا

418 الخ هذا كله حكاية عن الكفار الذين غضوا من رتبة النبوة بوصف البشرية تسلية لمحمد عليه الصلاة والسلام ثم بين أن وصف البشرية للأنبياء لا غض فيه وأن جميع الرسل إنما كانوا من البشر يأكلون ويشربون كجميع الناس والاختصاص أمر آخر من الله تعالى فقال بعد تقرير رسالة موسى وجعلنا ابن مريم وأمه آية وكانا مع ذلك يأكلان ويشربان ثم قال يا أيها الرسل كلوا من الطيبات أي هذا من نعم الله عليكم والعمل الصالح شكر تلك النعم ومشرف للعامل به فهو الذي يوجب التخصيص لا الأعمال السيئة وقوله وأن هذه أمتكم أمة واحدة إشارة إلى التماثل بينهم وأنهم جميعا مصطفون من البشر ثم ختم هذا المعنى بنحو مما به بدأ فقال إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون إلى قوله هم لها سابقون وإذا تؤمل هذا النمط من أول السورة إلى هنا فهم أن ما ذكر من المعنى هو المقصود مضافا إلى المعنى الآخر وهو أنهم إنما قالوا ذلك وغضوا من الرسل بوصف البشرية استكبارا من أشرافهم وعتوا على الله ورسوله فإن الجملة الأولى من أول السورة تشعر بخلاف الاستكبار وهو التعبد لله بتلك الوجوه المذكورة والجملة الثانية مؤذنة بأن الإنسان منقول في أطوار العدم وغاية الضعف فإن التارات السبع أتت عليه وهي كلها ضعف إلى ضعف وأصله العدم فلا يليق بمن هذه صفته الاستكبار والجملة الثالثة مشعرة بالاحتياج إلى تلك الأشياء والافتقار إليها ولولا خلقها لم يكن للإنسان بقاء بحكم العادة الجارية فلا يليق بالفقير الاستكبار على من هو مثله في النشأة والخلق فهذا كله كالتنكيت عليهم والله أعلم ثم ذكر القصص في قوم نوح فقال الملأ الذين كفروا من قومه والملأ هم الأشراف وكذلك فيمن بعدهم وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم الآية وفي قصة موسى أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون ومثل هذا الوصف يدل على أنهم لشرفهم في قومهم قالوا هذا الكلام ثم قوله

419 أشراف قريش وأنهم إنما تشرفوا بالمال والبنين فرد عليهم بأن الذى يجب له الشرف من كان على هذا الوصف وهو قوله إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون ثم رجعت الآيات إلى وصفهم في ترفهم وحال مآلهم وذكر النعم عليهم والبراهين عل صحة النبوة وأن ما قال عن الله حق من إثبات الوحدانية ونفى الشريك وأمور الدار الآخرة للمطيعين والعاصين حسبما اقتضاه الحال والوصف للفريقين فهذا النظر إذا اعتبر كليا في السورة وجد على أتم من هذا الوصف لكن على منهاجه وطريقه ومن أراد الاختبار في سائر سور القرآن فالباب مفتوح والتوفيق بيد الله فسورة المؤمنين قصة واحدة في شيء واحد وبالجملة فحيث ذكر قصص الأنبياء عليهم السلام كنوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى وهارون فإنما ذلك تسلية لمحمد عليه الصلاة والسلام وتثبيت لفؤاده لما كان يلقى من عناد الكفار وتكذيبهم له على أنواع مختلفة فتذكر القصة على النحو الذي يقع له مثله وبذلك اختلف مساق القصة الواحدة بحسب اختلاف الأحوال والجميع حق واقع لا إشكال في صحته وعلى حذو ما تقدم من الأمثلة يحتذى في النظر في القرآن لمن أراد فهم القرآن والله المستعان

420 فصل وهل للقرآن مأخذ في النظر على أن جميع سوره كلام واحد بحسب خطاب العباد لا بحسبه في نفسه فإن كلام الله في نفسه كلام واحد لا تعدد فيه بوجه ولا باعتبار حسبما تبين في علم الكلام وإنما مورد البحث هنا باعتبار خطاب العباد تنزيلا لما هو من معهودهم فيه هذا محل احتمال وتفصيل فيصح في الاعتبار أن يكون واحدا بالمعنى المتقدم أي يتوقف فهم بعضه على بعض بوجه ما وذلك أنه يبين بعضه بعضا حتى إن كثيرا منه لا يفهم معناه حق الفهم إلا بتفسير موضع آخر أو سورة أخرى ولأن كل منصوص عليه فيه من أنواع الضروريات مثلا مقيد بالحاجيات فإذا كان كذلك فبعضه متوقف على البعض في الفهم فلا محالة أن ما هو كذلك فكلام واحد فالقرآن كله كلام واحد بهذا الاعتبار ويصح أن لا يكون كلاما واحدا وهو المعنى الأظهر فيه فإنه أنزل سورا مفصولا بينها معنى وابتداء فقد كانوا يعرفون انقضاء السورة وابتداء الأخرى بنزول بسم الله الرحمن الرحيم في أول الكلام وهكذا نزول أكثر الآيات التي نزلت على وقائع وأسباب يعلم من إفرادها بالنزول استقلال معناها للإفهام وذلك لا إشكال فيه

421 المسألة الرابعة عشرة إعمال الرأي في القرآن جاء ذمه وجاء أيضا ما يقتضى إعماله وحسبك من ذلك ما نقل عن الصديق فإنه نقل عنه أنه قال وقد سئل في شيء من القرآن أي سماء تظلنى وأي أرض تقلنى إن أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم وربما روى فيه إذا قلت في كتاب الله برأيي ثم سئل عن الكلالة المذكورة في القرآن فقال لا أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان الكلالة كذا وكذا فهذان قولان اقتضيا إعمال الرأي وتركه في القرآن وهما لا يجتمعان والقول فيه أن الرأي ضربان أحدهما جار على موافقة كلام العرب وموافقة الكتاب والسنة فهذا لا يمكن إهمال مثله لعالم بهما لأمور أحدها أن الكتاب لا بد من القول فيه ببيان معنى واستنباط حكم وتفسير لفظ وفهم مراد ولم يأت جميع ذلك عمن تقدم فإما أن يتوقف دون ذلك فتتعطل الأحكام كلها أو أكثرها وذلك غير ممكن لا بد من القول فيه بما يليق والثاني أنه لو كان كذلك للزم أن يكون الرسول مبينا ذلك كله بالتوقيف فلا يكون لأحد فيه نظر ولا قول والمعلوم أن عليه الصلاة والسلام لم يفعل ذلك فدل على أنه لم يكلف به على ذلك الوجه بل بين منه ما لا يوصل إلى علمه إلا به وترك كثيرا مما يدركه أرباب الاجتهاد باجتهادهم فلم يلزم في جميع تفسير القرآن التوقيف والثالث أن الصحابة كانوا أولى بهذا الاحتياط من غيرهم وقد علم أنهم فسروا القرآن على ما فهموا ومن جهتهم بلغنا تفسير معناه والتوقيف ينافي هذا فإطلاق القول بالتوقيف والمنع من الرأي لا يصح والرابع أن هذا الفرض لا يمكن لأن النظر في القرآن من جهتين من جهة

422 الأمور الشرعية فقد يسلم القول بالتوقيف فيه وترك الرأي والنظر جدلا ومن جهة المآخذ العربية وهذا لا يمكن فيه التوقيف والإ لزم ذلك في السلف الأولين وهو باطل فاللازم عنه مثله وبالجملة فهو أوضح من إطناب فيه وأما الرأي غير الجاري على موافقة العربية أو الجاري على الأدلة الشرعية فهذا هو الرأي المذموم من غير إشكال كما كان مذموما في القياس أيضا حسبما هو مذكور في كتاب القياس لأنه تقول على الله بغير برهان فيرجع إلى الكذب على الله تعالى وفي وهذا القسم جاء من التشديد في القول بالرأي في القرآن ما جاء كما روى عن ابن مسعود ستجدون أقواما يدعونكم إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم فعليكم بالعلم وإياكم والتبدع وإياكم والتنطع وعليكم بالعتيق وعن عمر بن الخطاب إنما أخاف عليكم رجلين رجل يتأول القرآن على غير تأويله ورجل ينافس الملك على أخيه وعن عمر أيضا ما أخاف على هذه الأمة من مؤمن ينهاه إيمانه ولا من فاسق بين فسقه ولكني أخاف عليها رجلا قد قرأ القرآن حتى أذلقه بلسانه ثم تأوله على غير تأويله والذي ذكر عن أبي بكر الصديق أنه سئل عن قوله وفاكهة وأبا فقال أي سماء تظلنى الحديث وسأل رجل ابن عباس عن يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فقال له ابن عباس فما يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فقال الرجل إنما سألتك لتحدثنى فقال ابن عباس هما يومان ذكرهما الله في كتابه الله أعلم بهما نكره أن نقول في كتاب الله ما لا نعلم وعن سعيد بن المسيب أنه كان إذا سئل عن شيء من القرآن قال أنا لا أقول في القرآن شيئا وسأله رجل عن آية فقال لا تسألنى عن القرآن وسل عنه من يزعم أنه لا يخفى عليه شيء منه يعنى عكرمة وكأن هذا الكلام مشعر بالإنكار على من يزعم ذلك وقال ابن سيرين سألت عبيدة عن شيء من القرآن فقال اتق الله وعليك

423 بالسداد فقد ذهب الذين يعلمون فيم أنزل القرآن وعن مسروق قال اتقوا التفسير فإنما هو الرواية عن الله وعن إبراهيم قال كان أصحابنا يتقون التفسير ويهابونه وعن هشام بن عروة قال ما سمعت أبي تأول آية من كتاب الله وإنما هذا كله توق وتحرز أن يقع الناظر فيه في الرأي المذموم والقول فيه من غير تثبت وقد نقل عن الأصمعي وجلالته في معرفة كلام العرب معلومة أنه لم يفسر قط آية من كتاب الله وإذا سئل عن ذلك لم يجب انظر الحكاية عنه في الكامل للمبرد فصل فالذي يستفاد من هذا الموضع أشياء منها التحفظ من القول في كتاب الله تعالى إلا على بينة فإن الناس في العلم بالأدوات المحتاج إليها في التفسير على ثلاث طبقات إحداها من بلغ في ذلك مبلغ الراسخين كالصحابة والتابعين ومن يليهم وهؤلاء قالوا مع التوقي والتحفظ والهيبة والخوف من الهجوم فنحن أولى بذلك منهم إن ظننا بأنفسنا أنا في العلم والفهم مثلهم وهيهات والثانية من علم من نفسه أنه لم يبلغ مبالغهم ولا داناهم فهذا طرف لا إشكال في تحريم ذلك عليه والثالثه من شك في بلوغه مبلغ أهل الإجتهاد أو ظن ذلك في بعض علومه دون بعض فهذا أيضا داخل تحت حكم المنع من القول فيه لأن الأصل عدم العلم فعند ما يبقى له شك أو تردد في الدخول مدخل العلماء الراسخين فانسحاب