موافقات الشاطبي - الجزء الرابع

موافقات الشاطبي

4

صفحة الكتاب نص الموافقات

3 الدليل الثاني السنة ويتعلق بها النظر في مسائل المسألة الأولى يطلق لفظ السنة على ما جاء منقولا عن النبي على الخصوص مما لم ينص عليه في الكتاب العزيز بل إنما نص عليه من جهته عليه الصلاة والسلام كان بيانا لما في الكتاب أولا

4 ويطلق أيضا في مقابلة البدعة فيقال فلان على سنة إذا عمل على وفق ما عمل عليه النبي كان ذلك مما نص عليه في الكتاب أولا ويقال فلان على بدعة إذا عمل على خلاف ذلك وكأن هذا الإطلاق إنما اعتبر فيه عمل صاحب الشريعة فأطلق عليه لفظ السنة من تلك الجهة وإن كان العمل بمقتضى الكتاب ويطلق أيضا لفظ السنة على ما عمل عليه الصحابة وجد ذلك في الكتاب أو السنة أو لم يوجد لكونه اتباعا لسنة ثبتت عندهم لم تنقل إلينا أو اجتهادا مجتمعا عليه منهم أو من خلفائهم فإن إجماعهم إجماع وعمل خلفائهم راجع أيضا إلى حقيقة الإجماع من جهة حمل الناس عليه حسبما اقتضاه النظر

5 المصلحي عندهم فيدخل تحت هذا الإطلاق المصالح المرسلة والاستحسان كما فعلوا في حد الخمر وتضمين الصناع وجمع المصحف وحمل الناس

6 على القراءة بحرف واحد من الحروف السبعة وتدوين الدواوين وما أشبه ذلك ويدل على هذا الإطلاق قوله عليه الصلاة والسلام عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين وإذا جمع ما تقدم تحصل منه في الإطلاق أربعة أوجه قوله عليه الصلاة والسلام وفعله وإقراره وكل

7 ذلك إما متلقي بالوحي أو بالإجتهاد بناء على صحة الاجتهاد في حقه وهذه ثلاثة والرابع ما جاء عن الصحابة أو الخلفاء وهو وإن كان ينقسم إلى القول والفعل والإقرار ولكن عد وجها واحدا إذ لم يتفصل الأمر فيما جاء عن الصحابة تفصيل ما جاء عن النبي المسألة الثانية رتبة السنة التأخر عن الكتاب في الاعتبار والدليل على ذلك أمور أحدها أن الكتاب مقطوع به والسنة مظنونة والقطع فيها إنما يصح في الجملة لا في التفصيل بخلاف الكتاب فإنه مقطوع به في الجملة والتفصيل والمقطوع به مقدم على المظنون فلزم من ذلك تقديم الكتاب على السنة والثاني أن السنة إما بيان للكتاب أو زيادة على ذلك فإن كان بيانا فهو ثان على المبين في الاعتبار إذ يلزم من سقوط المبين سقوط البيان ولا يلزم من سقوط البيان سقوط المبين وما شأنه هذا فهو أولى في التقدم وإن لم يكن بيانا فلا يعتبر إلا بعد أن لا يوجد في الكتاب وذلك دليل على تقدم اعتبار الكتاب والثالث ما دل على ذلك من الأخبار والآثار كحديث معاذ بم تحكم قال بكتاب الله قال فإن لم تجد قال بسنة رسول الله قال فإن لم تجد قال أجتهد رأيي الحديث وعن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى شريح

8 إذا أتاك أمر فاقض بما في كتاب الله فإن أتاك ما ليس في كتاب الله فاقض بما سن فيه رسول الله الخ وفي رواية عنه إذا وجدت شيئا في كتاب الله فاقض فيه ولا تلتفت إلى غيره وقد بين معنى هذا في رواية أخرى أنه قال له انظر ما تبين لك في كتاب الله فلا تسأل عنه أحدا وما لم يتبين لك في كتاب الله فاتبع فيه سنة رسول الله ومثل هذا عن ابن مسعود من عرض له منكم قضاء فليقض بما في كتاب الله فإن جاءه ما ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به نبيه الحديث وعن ابن عباس أنه كان إذا عن سئل عن شيء فإن كان في كتاب الله قال به وإن لم يكن في كتاب الله وكان عن رسول الله قال به وهو كثير في كلام السلف والعلماء وما فرق به الحنفية بين الفرض والواجب راجع إلى تقدم اعتبار الكتاب على اعتبار السنة وأن اعتبار الكتاب أقوى من اعتبار السنة وقد لا يخالف غيرهم في معنى تلك التفرقة والمقطوع به في المسألة أن السنة ليست كالكتاب في مراتب الاعتبار فإن قيل هذا مخالف لما عليه المحققون أما أولا فإن السنة عند العلماء قاضية على الكتاب وليس الكتاب بقاض على السنة لأن الكتاب يكون محتملا لأمرين فأكثر فتأتي السنة بتعيين أحدهما فيرجع إلى السنة ويترك مقتضى الكتاب وأيضا فقد يكون ظاهر

9 الكتاب أمرا فتأتي السنة فتخرجه عن ظاهره وهذا دليل على تقديم السنة فتخرجه عن ظاهره وهذا دليل على تقديم السنة وحسبك أنها تقيد مطلقة وتخص عمومه وتحمله على غير ظاهرة حسبما هو مذكور في الأصول فالقرآن آت بقطع كل سارق فخصت السنة من ذلك سارق النصاب المحرز وأتى بأخذ الزكاة من جميع الأموال ظاهرا فخصته بأموال مخصوصة وقال تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم فأخرجت من ذلك نكاح المرأة على عمتها أو خالتها فكل هذا ترك لظواهر الكتاب وتقديم للسنة عليه ومثل ذلك لا يحصى كثرة وأما ثانيا فإن الكتاب والسنة إذا تعارضا فاختلف أهل الأصول هل يقدم الكتاب على السنة أم بالعكس أم هما متعارضان وقد تكلم الناس في حديث معاذ ورأوا أنه على خلاف الدليل فإن كل ما في الكتاب لا يقدم على كل السنة فإن الأخبار المتواترة لا تضعف في الدلالة عن أدلة الكتاب وأخبار الآحاد في محل الاجتهاد مع ظواهر الكتاب ولذلك وقع الخلاف وتأولوا التقديم في الحديث على معنى البداية بالأسهل الأقرب وهو الكتاب فإذا كان الأمر على هذا فلا وجه لإطلاق القول بتقديم الكتاب بل المتبع الدليل فالجواب أن قضاء السنة على الكتاب ليس بمعنى تقديمها عليه واطراح الكتاب بل أن ذلك المعبر في السنة هو المراد في الكتاب فكأن السنة بمنزلة التفسير والشرح لمعاني أحكام الكتاب ودل على ذلك قوله

10 لتبين للناس ما نزل إليهم فإذا حصل بيان قوله تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما بأن القطع من الكوع وأن المسروق نصاب فأكثر من حرز مثله فذلك هو المعنى المراد من الآية لا أن نقول إن السنة اثبتت هذه الأحكام دون الكتاب كما إذا بين لنا مالك أو غيره من المفسرين معنى آية أو حديث فعملنا بمقتضاه فلا يصح لنا أن نقول إنا عملنا بقول المفسر الفلاني دون أن نقول عملنا بقول الله أو قول رسوله عليه الصلاة والسلام وهكذا سائر ما بينته السنة من كتاب الله تعالى فمعنى كون السنة قاضية على الكتاب أنها مبينة له فلا يوقف مع إجماله احتماله وقد بينت المقصود منه لا أنها مقدمة عليه وأما خلاف الأصوليين في التعارض فقد مر في أول كتاب الأدلة أن

11 خبر الواحد إذا استند إلى قاعدة مقطوع بها فهو في العمل مقبول وإلا فالتوقف وكونه مستندا إلى مقطوع به راجع إلى أنه جزئي تحت معنى قرآني كلي وتبين معنى هذا الكلام هنالك فإذا عرضنا هذا الموضع على تلك القاعدة وجدنا المعارضة في الآية والخبر معارضة أصلين قرآنيين فيرجع إلى ذلك وخرج عن معارضة كتاب مع سنة وعند ذلك لا يصح وقوع هذا التعارض إلا من تعارض قطعيين وأما إن لم يستند الخبر إلى قاعدة قطعية فلا بد من تقديم القرآن على الخبر بإطلاق وأيضا فإن ما ذكر من تواتر الأخبار إنما غالبه فرض أمر جائز ولعلك لا تجد في الأخبار النبوية ما يقضى بتواتره إلى زمان الواقعة فالبحث المذكور في المسألة بحث في غير واقع أو في نادر الوقوع ولا كبير جدوى فيه والله أعلم

12 المسألة الثالثة السنة راجعة في معناها إلى الكتاب فهي تفصيل مجمله وبيان مشكله وبسط مختصره وذلك لأنها بيان له وهو الذي دل عليه قوله تعالى وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم فلا تجد في السنة أمرا إلا والقرآن قد دل على معناه دلالة إجمالية أو تفصيلية وأيضا فكل ما دل على أن القرآن هو كلية الشريعة وينبوع لها فهو دليل على ذلك لأن الله قال وإنك لعلى خلق عظيم وفسرت عائشة ذلك بأن خلقه القرآن واقتصرت في خلقه على ذلك فدل على أن قوله وفعله وإقراره راجع إلى القرآن لأن الخلق محصور

13 أكملت لكم دينكم وهو يريد بإنزال القرآن فالسنة إذا في محصول الأمر بيان لما فيه وذلك معنى كونها راجعة إليه وأيضا فالاستقراء التام دل على ذلك حسبما يذكر بعد بحول الله وقد تقدم في أول كتاب الأدلة أن السنة راجعة إلى الكتاب وإلا وجب التوقف عن قبولها وهو أصل كاف في هذا المقام فإن قيل هذا غير صحيح من أوجه أحدها أن الله تعالى قال فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم الآية والآية نزلت في قضاء رسول الله للزبير بالسقى قبل الأنصاري من شراج الجرة الحديث مذكور في الموطأ وذلك ليس في كتاب الله تعالى ثم جاء في عدم الرضى به من الوعيد ما جاء وقال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله

14 وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر والرد إلى الله هو الرد إلى الكتاب والرد إلى الرسول هو الرد إلى سنته بعد موته وقال وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا وسائر ما قرن فيه طاعة الرسول بطاعة الله فهو دال على أن طاعة الله ما أمر به ونهى عنه في كتابه وطاعة الرسول ما أمر به ونهى عنه مما جاء به مما ليس في القرآن إذ لو كان في القرآن لكان من طاعة الله وقال فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة الآية فقد اختص الرسول عليه الصلاة والسلام بشئ يطاع فيه وذلك السنة التي لم تأت في القرآن وقال ومن يطع الرسول فقد أطاع الله وقال وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا وأدلة

15 القرآن تدل على أن كل ما جاء به الرسول وكل ما أمر به ونهى فهو لاحق في الحكم بما جاء في القرآن فلا بد أن يكون زائدا عليه والثاني الأحاديث الدالة على ذم ترك السنة واتباع الكتاب إذ لو كان ما في السنة موجودا في الكتاب لما كانت السنة متروكة على حال كما روى أنه عليه الصلاة والسلام قال يوشك بأحدكم أن يقول هذا كتاب الله ما كان فيه من حلال أحللناه وما كان فيه من حرام حرمناه ألا من بلغه عني حديث فكذب به فقد كذب الله ورسوله والذي حدثه وعنه أنه قال يوشك رجل منكم متكئا على أريكته يحدث بحديث عني فيقول بيننا وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه من حلال استحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه ألا وإن ما حرم رسول الله مثل الذي حرم الله وفي رواية لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من

16 أمري بما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه وهذا دليل على أن في السنة ما ليس في الكتاب والثالث أن الاستقراء دل على أن في السنة أشياء لا تحصى كثرة لم ينص عليها في القرآن كتحريم نكاح المرأة على عمتها أو خالتها وتحريم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع والعقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر وهو الذي نبه عليه حديث علي ابن أبي طالب حيث قال فيه ما عندنا إلا كتاب الله أو فهم أعطيه رجل مسلم وما في هذه الصحيفة وفي حديث آخر عن علي أنه خطب وعليه سيف فيه صحيفة معلقة فقال والله ما عندنا كتاب نقرؤه إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة فنشرها فإذا أسنان الإبل وإذا فيها المدينة حرم من عير إلى كذا فمن أحدث فيها حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا

17 ولا عدلا وإذا فيها ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا وإذا فيها من والى قوما بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا وجاء في حديث معاذ بم تحكم قال بكتاب الله قال فإن لم تجد قال فبسنة رسول الله وما في معناه مما تقدم ذكره وهو واضح في أن في السنة ما ليس في القرآن وهو نحو قول من قال من العلماء ترك الكتاب موضعا للسنة وتركت السنة موضعا للقرآن والرابع أن الاقتصار على الكتاب رأى قوم لا خلاق لهم خارجين عن السنة إذ عولوا على ما بنيت عليه من أن الكتاب فيه بيان كل شئ فاطرحوا أحكام السنة فأداهم ذلك إلى الانخلاع عن الجماعة وتأويل القرآن على غير ما أنزل الله فقد روى عن النبي أن أخوف ما أخاف على أمتي اثنتان القرآن واللبن فأما القرآن فيتعلمه المنافقون ليجادلوا به المؤمنين وأما اللبن فيتبعون الريف يتبعون الشهوات ويتركون الصلوات وفي بعض الأخبار عن عمر بن الخطاب سيأتي قوم يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالأحاديث فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله وقال أبو الدرداء إن مما

18 أخشى عليكم زلة العالم وجدال المنافق بالقرآن وعن عمر ثلاث يهدمن الدين زلة العالم وجدال منافق بالقرآن وأئمة مضلون وعن ابن مسعود ستجدون أقواما يدعونكم إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم فعليكم بالعلم وإياكم والتبدع وإياكم والتنطع وعليكم بالعتيق وعن عمر إنما أخاف عليكم رجلين رجل يتأول القرآن على غير تأويله ورجل ينافس الملك على أخيه وهنا آثار في هذا المعنى حملها العلماء على تأويل القرآن بالرأي مع طرح السنن وعليه حمل كثير من العلماء قول النبي إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا وما في معناه فإن كثيرا من أهل البدع هكذا فعلوا اطرحوا الأحاديث وتأولوا كتاب الله على غير تأويله فضلوا وأضلوا وربما ذكروا حديثا يعطى أن الحديث لا يلتفت إليه إلا إذا وافق كتاب الله تعالى وذلك ما روى أنه عليه الصلاة والسلام قال ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله فإن وافق كتاب الله فأنا قلته وإن خالف كتاب الله فلم أقله أنا وكيف أخالف كتاب الله وبه هداني الله قال عبد الرحمن ابن مهدي الزنادقة والخوارج وضعوا ذلك الحديث قالوا وهذه الألفاظ لا تصح عنه عند أهل العلم بصحيح النقل من سقيمه وقد عارض هذا الحديث قوم فقالوا

19 نحن نعرضه على كتاب الله قبل كل شيء ونعتمد على ذلك قالوا فلما عرضناه على كتاب الله وجدناه مخالفا لكتاب الله لأنا لم نجد في كتاب الله أن لا نقبل من حديث رسول الله إلا ما وافق كتاب الله بل وجدنا كتاب الله يطلق التأسي به والأمر بطاعته ويحذر من المخالفة عن أمره جملة على كل حال هذا مما يلزم القائل إن السنة راجعة إلى الكتاب ولقد ضلت بهذه الطريقة طوائف من المتأخرين كما كان ذلك فيمن تقدم فالقول بها والميل إليها ميل عن الصراط المستقيم أعاذنا الله من ذلك بمنه فالجواب أن هذه الوجوه المذكورة لا حجة فيها على خلاف ما تقدم أما الأوجه الأول فلأنا إذا بنينا على أن السنة بيان للكتاب فلا بد أن تكون بيانا لما في الكتاب احتمال له ولغيره فتبين السنة أحد الاحتمالين دون الآخر فإذا عمل المكلف على وفق البيان أطاع الله فيما أراد بكلامه وأطاع رسوله في مقتضى بيانه ولو عمل على مخالفة البيان عصى الله تعالى في عمله على مخالفة البيان إذ صار عمله على خلاف ما أراد بكلامه وعصى رسوله في مقتضى بيانه فلم يلزم من إفراد الطاعتين تباين المطاع فيه بإطلاق وإذا لم يلزم ذلك لم يكن في الآيات دليل على أن ما في السنة ليس في الكتاب بل قد يجتمعان في المعنى ويقع العصيانان والطاعتان من جهتين ولا محال فيه ويبقى النظر في وجود ما حكم به رسول الله في القرآن يأتي على أثر هذا بحول الله تعالى وقوله في السؤال فلا بد أن يكون زائدا عليه مسلم ولكن

20 هذا الزائد هل هو زيادة الشرح على المشروح إذ كان للشرح بيان ليس في المشروح وإلا لم يكن شرحا أم هو زيادة معنى آخر لا يوجد في الكتاب هذا محل النزاع وعلى هذا المعنى يتنزل الوجه الثاني وأيضا فإذا كان الحكم في القرآن إجماليا وهو في السنة تفصيلي فكأنه ليس إياه فقوله أقيموا الصلاة أجمل فيه معنى الصلاة وبينه عليه الصلاة والسلام فظهر من البيان ما لم يظهر من المبين وإن كان معنى البيان هو معنى المبين ولكنهما في الحكم يختلفان ألا ترى أن الوجه في المجمل قبل البيان التوقف وفي البيان العمل بمقتضاه فلما اختلفا حكما صار كإختلافهما معنى فاعتبرت السنة اعتبار المفرد عن الكتاب وأما الثالث فسيأتي الجواب عنه في المسألة بعد هذا إن شاء الله وأما الرابع فإنما وقع الخروج عن السنة في أولئك لمكان إعمالهم الرأي وإطراحهم السنن لا من جهة أخرى وذلك أن السنة كما تبين توضح

21 المحمل وتقيد المطلق وتخصص العموم فتخرج كثيرا من الصيغ القرآنية عن ظاهر مفهومها في أصل اللغة وتعلم بذلك أن بيان السنة هو مراد الله تعالى من تلك الصيغ فإذا طرحت واتبع ظاهر الصيغ بمجرد الهوى صار صاحب هذا النظر ضالا في نظره جاهلا بالكتاب خابطا في عمياء لا يهتدي إلى الصواب فيها إذ ليس للعقول من إدراك المنافع والمضار في التصرفات الدنيوية إلا النزر اليسير وهي الأخروية أبعد على الجملة والتفصيل وأما ما احتجوا به من الحديث فإن لم يصح في النقل فلا حجة به لأحد من الفريقين وإن صح أو جاء من طريق يقبل مثله فلا بد من النظر فيه فإن الحديث إما وحي من الله صرف وإما اجتهاد من الرسول عليه الصلاة والسلام معتبر بوحي صحيح من كتاب أو سنة وعلى كلا التقديرين لا يمكن فيه التناقض مع كتاب الله لأنه عليه الصلاة والسلام ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى وإذا فرع على القول بجواز الخطأ في حقه فلا يقر عليه ألبتة فلا بد من الرجوع إلى الصواب والتفريع على القول بنفي الخطأ أولى أن لا يحكم باجتهاده حكما يعارض كتاب الله تعالى ويخالفه نعم يجوز أن تأتي السنة بما ليس في مخالفة ولا موافقة بل لما يكون مسكوتا عنه في القرآن إلا إذا قام البرهان على خلاف هذا الجائز وهو الذي ترجم له في هذه المسألة فحينئذ لا بد في كل حديث من الموافقة لكتاب الله كما صرح به الحديث المذكور فمعناه صحيح صح سنده

22 أو لا وقد خرج في معنى هذا الحديث الطحاوي في كتابه في بيان مشكل الحديث عن عبد الملك بن سعيد بن سويد الأنصاري عن أبي حميد وأبي أسيد أن رسول الله قال إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم وتلين له أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم قريب فأنا أولاكم به وإذا سمعتم بحديث عني تنكره قلوبكم وتند منه أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكر فأنا أبعدكم منه وروى أيضا عن عبد الملك المذكور عن عباس بن سهل أن أبي بن كعب كان في مجلس فجعلوا يتحدثون عن رسول الله بالمرخص والمشدد وأبي بن كعب ساكت فلما فرغوا قال أي هؤلاء ما حديث بلغكم عن رسول الله يعرفه القلب ويلين له الجلد وترجون عنده فصدقوا بقول رسول الله فإن رسول الله لا يقول إلا الخير وبين وجه ذلك الطحاوي بأن الله تعالى قال في كتابه إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم الآية وقال مثانى تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم الآية وقال وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع الآية فأخبر عن أهل الإيمان بما هم عليه عند سماع كلامه وكان ما يحدثون به عن النبي من جنس ذلك لأنه كله من عند الله ففي كونهم عند الحديث على ما يكونون عليه عند سماع القرآن دليل على صدق ذلك الحديث وإن كانوا بخلاف ذلك وجب التوقف لمخالفته ما سواه وما قاله يلزم منه أن يكون الحديث موافقا لا مخالفا في المعنى إذ لو

23 خالف لما اقشعرت الجلود ولا لانت القلوب لأن الضد لا يلائم الضد ولا يوافقه وخرج الطحاوي أيضا عن أبي هريرة عنه عليه الصلاة والسلام إذا حدثتم عني حديثا تعرفونه ولا تنكرونه فصدقوا به قلته أو لم أقله فإني أقول ما يعرف ولا ينكر وإذا حدثتم عني حديثا تنكرونه ولا تعرفونه فكذبوا به فإني لا أقول ما ينكر ولا يعرف ووجه ذلك أن المروى إذا وافق كتاب الله وسنة نبيه لوجود معناه في ذلك وجب قبوله لأنه إن لم يثبت أنه قاله بذلك اللفظ فقد قال معناه بغير ذلك من الألفاظ إذ يصح تفسير كلامه عليه الصلاة والسلام للأعجمي بكلامه وإذا كان الحديث مخالفا يكذبه القرآن والسنة وجب أن يدفع ويعلم أنه لم يقله وهذا مثل ما تقدم أيضا والحاصل من الجميع صحة اعتبار الحديث بموافقة القرآن وعدم مخالفته وهو المطلوب على فرض صحة هذه المنقولات وأما إن لم تصح فلا علينا إذ المعنى المقصود صحيح

24 ويحقق ذلك ما تقدم في المسألة الثانية من الطرف الأول من كتاب الأدلة ففي ذلك الموضع من أمثلة هذا الأصل في الموافقة والمخالفة جملة كافية وبالله التوفيق وإذا ثبت هذا بقي النظر في الوجه الذي دل الكتاب به على السنة حتى صار متضمنا لكليتها في الجملة وإن كانت بيانا له في التفصيل وهي المسألة الرابعة فنقول وبالله التوفيق إن للناس في هذا المعنى مآخذ منها ما هو عام جدا وكأنه جار مجرى أخذ الدليل من الكتاب على صحة العمل بالسنة ولزوم الاتباع لها وهو في معنى أخذ الإجماع من معنى قوله تعالى ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين الآية وممن أخذ به عبد الله بن مسعود فروى أن امرأة من بني أسد أتته فقالت له بلغني أنك لعنت ذيت وذيت والواشمة والمستوشمة وإنني قد قرأت ما بين اللوحين فلم أجد الذي تقول فقال لها عبد الله أما قرأت وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله قالت بلى قال فهو ذاك وفي رواية قال عبد الله لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله قال فبلغ ذلك امرأة من بني أسد فقالت يا أبا عبد الرحمن بلغني عنك انك لعنت كيت وكيت فقال ومالي لا ألعن من لعنه رسول الله وهو في كتاب الله فقالت المرأة لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته فقال لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه قال الله عز وجل وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا الحديث

25 فخذوه دون قوله ولآمرنهم فليغيرن خلق الله إن تلك الآية تضمنت جميع ما جاء في الحديث النبوي ويشعر بذلك أيضا ما روى عن عبد الرحمن بن يزيد أنه رأى محرما عليه ثيابه فنهاه فقال ائتني بأية من كتاب الله تنزع ثيابي فقرأ عليه وما آتاكم الرسول فخذوه الآية وروى أن طاوسا كان يصلي ركعتين بعد العصر فقال له ابن عباس اتركهما فقال إنما نهى عنهما أن تتخذا سنة فقال ابن عباس قد نهى رسول الله صلى لله عليه وسلم عن صلاة بعد العصر فلا أدري أتعذب عليها أم تؤجر لأن الله قال وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم وروى عن الحكم ابن أبان أنه سأل عكرمة عن أمهات الأولاد فقال هن أحرار قلت بأي شيء قال بالقرآن قلت بأي شيء في القرآن قال قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم وكان عمر من أولي الأمر قال عتقت ولو بسقط وهذا المأخذ يشبه الاستدلال على إعمال السنة أو هو هو ولكنه أدخل مدخل المعاني التفصيلية التي يدل عليها الكتاب من السنة ومنها الوجه المشهور عند العلماء كالأحاديث الآتية في بيان ما أجمل ذكره من الأحكام إما بحسب كيفيات العمل أو أسبابه أو شروطه أو موانعه أو

26 لواحقه أو ما أشبه ذلك كبيانها للصلوات على اختلافها في مواقيتها وركوعها وسجودها وسائر أحكامها وبيانها للزكاة في مقاديرها وأوقاتها ونصب الأموال المزكاة وتعيين ما يزكى مما لا يزكى وبيان أحكام الصوم ومما فيه ما لم يقع النص عليه في الكتاب وكذلك الطهارة الحدثية والخبثية والحج والذبائح والصيد وما يؤكل مما لا يؤكل والأنكحة وما يتعلق بها من الطلاق والرجعة والظهار واللعان والبيوع وأحكامها والجنايات من القصاص وغيره كل ذلك بيان لما وقع مجملا في القرآن وهو الذى يظهر دخوله تحت الآية الكريمة وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم وقد روى عن عمران بن حصين أنه قال لرجل إنك امرؤ أحمق أتجد في كتاب الله الظهر أربعا لا يجهر فيها بالقراءة ثم عدد إليه الصلاة والزكاة ونحو هذا ثم قال أتجد هذا في كتاب الله مفسرا إن كتاب الله أبهم هذا وإن السنة تفسر ذلك وقيل لمطرف بن عبد الله بن الشخير لا تحدثونا إلا بالقرآن فقال له مطرف والله ما نريد بالقرآن بدلا ولكن نريد من هو أعلم بالقرآن منا وروى الأوزاعي عن حسان بن عطية قال كان الوحي ينزل على رسول الله ويحضره جبريل بالسنة التى تفسر ذلك قال الأوزاعي الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب قال ابن عبد البر يريد أنها تقضى عليه وتبين المراد منه وسئل أحمد بن حنبل عن الحديث الذي روى أن السنة قاضية على الكتاب فقال ما أجسر على هذا أن أقوله ولكني أقول إن السنة تفسر الكتاب وتبينه فهذا الوجه في التفصيل أقرب إلى المقصود وأشهر في استعمال العلماء في هذا المعنى

27 ومنها النظر إلى ما دل عليه الكتاب في الجملة وأنه موجود في السنة على الكمال زيادة إلى ما فيها من البيان والشرح وذلك أن القرآن الكريم أتى بالتعريف بمصالح الدارين جلبا لها والتعريف بمفاسدهما دفعا لها وقد مر أن المصالح لا تعدو الثلاثة الأقسام وهى الضروريات ويلحق بها مكملاتها والحاجيات ويضاف إليها مكملاتها والتحسينيات ويليها مكملاتها ولا زائد على هذه الثلاثة المقررة في كتاب المقاصد وإذا نظرنا إلى السنة وجدناها لا تزيد على تقرير هذه الأمور فالكتاب أتى بها أصولا يرجع إليها والسنة أتت بها تفريعا على الكتاب وبيانا لما فيه منها فلا تجد في السنة إلا ما هو راجع إلى تلك الأقسام فالضروريات الخمس كما تأصلت في الكتاب تفصلت في السنة فإن حفظ الدين حاصله في ثلاثة معان وهى الإسلام والإيمان والإحسان فأصلها في الكتاب وبيانها في السنة ومكمله ثلاثة أشياء وهى الدعاء إليه بالترغيب والترهيب وجهاد من عانده أو رام إفساده وتلافي النقصان الطارئ في أصله وأصل هذه في الكتاب وبيانها في السنة على الكمال وحفظ النفس حاصله في ثلاثة معان وهى إقامة أصله بشرعية التناسل وحفظ بقائه بعد خروجه من العدم إلى الوجود من جهة المأكل والمشرب وذلك ما يحفظه من داخل والملبس والمسكن وذلك ما يحفظه من

28 خارج وجميع هذا مذكور أصله في القرآن ومبين في السنة ومكمله ثلاثة أشياء وذلك حفظه عن وضعه في حرام كالزنى وذلك بأن يكون على النكاح الصحيح ويلحق به كل ما هو من متعلقاته كالطلاق والخلع واللعان وغيرها وحفظ ما يتغذى به أن يكون مما لا يضر أو يقتل أو يفسد وإقامة ما لا تقوم هذه الأمور إلا به من الذبائح والصيد وشرعية الحد والقصاص ومراعاة العوارض اللاحقة وأشباه ذلك وقد دخل حفظ النسل في هذا القسم وأصوله في القرآن والسنة بينتها وحفظ المال راجع إلى مراعاة دخوله في الأملاك وكتنميته أن لا يفي ومكمله دفع العوارض وتلافي الأصل بالزجر والحد والضمان وهو

29 في القرآن والسنة وحفظ العقل يتناول ما لا يفسده وهو في القرآن ومكملة شرعية الحد أو الزجر وليس في القرآن له أصل على الخصوص فلم يكن له في السنة حكم على الخصوص أيضا فبقى الحكم فيه إلى اجتهاد الأمة وإن ألحق بالضروريات حفظ العرض فله في الكتاب أصل شرحته السنة في اللعان والقذف هذا وجه في الاعتبار في الضروريات ولك أن تأخذها على ما تقدم في أول كتاب المقاصد فيحصل المراد أيضا وإذا نظرت إلى الحاجيات وكذلك التحسينيات وقد كملت قواعد الشريعة في القرآن وفي السنة فلم يتخلف عنها شيء والاستقراء يبين ذلك ويسهل على من هو عالم بالكتاب والسنة ولما كان السلف الصالح كذلك قالوا به ونصوا عليه حسبما تقدم عن بعضهم فيه ومن تشوف إلى مزيد فإن دوران الحاجيات على التوسعة والتيسير ورفع الحرج والرفق

30 فبالنسبة إلى الدين يظهر في مواضع شرعية الرخص في الطهارة كالتيمم ورفع حكم النجاسة فيما إذا عسر إزالتها وفي الصلاة بالقصر ورفع القضاء في الإغماء والجمع والصلاة قاعدا وعلى جنب وفى الصوم بالفطر في السفر والمرض وكذلك سائر العبادات فالقرآن إن نص على بعض التفاصيل كالتيمم والقصر والفطر فذاك وإلا فالنصوص على رفع الحرج فيه كافية وللمجتهد إجراء القاعدة والترخص بحسبها والسنة أول قائم بذلك وبالنسبة إلى النفس أيضا يظهر في مواضع منها مواضع الرخص كالميتة للمضطر وشرعية المواساة بالزكاة وغيرها وإباحة الصيد وإن لم يتأت فيه من إراقة الدم المحرم ما يتأتى بالذكاة الأصلية وفي التناسل من العقد على البضع من غير تسمية صداق وإجازة بعض الجهالات فيه بناء على ترك المشاحة كما في البيوع وجعل الطلاق ثلاثا دون ما هو أكثر وإباحة الطلاق من أصله والخلع وأشباه ذلك وبالنسبة إلى المال أيضا في الترخيص في الغرر اليسير والجهالة التي

31 لا انفكاك عنها في الغالب ورخصة السلم والعرايا والقرض والشفعة والقراض والمساقاة ونحوها ومنه التوسعة في ادخار الأموال وإمساك ما هو فوق الحاجة منها والتمتع بالطيبات من الحلال على جهة القصد من غير إسراف ولا إقتار وبالنسبة إلى العقل في رفع الحرج عن المكره وعن المضطر على قول من قال به في الخوف على النفس عند الجوع والعطش والمرض وما أشبه ذلك كل ذلك داخل تحت قاعدة رفع الحرج لأن أكثره اجتهادي وبينت السنة منه ما يحتذى حذوه فرجع إلا تفسير ما أجمل من الكتاب وما فسر من ذلك في الكتاب فالسنة لا تعدوه ولا تخرج عنه وقسم التحسينيات جار أيضا كجريان الحاجيات فإنها راجعة إلى العمل بمكارم الأخلاق وما يحسن في مجاري العادات كالطهارات بالنسبة إلى الصلوات على رأي من رأى أنها من هذا القسم وأخذ الزينة من اللباس ومحاسن الهيئات والطيب وما أشبه ذلك وانتخاب الأطيب والأعلى في الزكوات والإنفاقات

32 وآداب الرفق في الصيام وبالنسبة إلى النفوس كالرفق والإحسان وآداب الأكل والشرب ونحو ذلك وبالنسبة إلى النسل كالإمساك بالمعروف أو التسريح بالإحسان من عدم التضييق على الزوجة وبسط الرفق في المعاشرة وما أشبه ذلك وبالنسبة إلى المال كأخذه من غير إشراف نفس والتورع في كسبه واستعماله والبذل منه على المحتاج وبالنسبة إلى العقل كمباعدة الخمر ومجانبتها وإن لم يقصد استعمالها بناء على أن قوله تعالى فاجتنبوه يراد به المجانبة بإطلاق فجميع هذا له أصل في القرآن بينه الكتاب على إجمال أو تفصيل أو على الوجهين معا وجاءت السنة قاضية على ذلك كله بما هو أوضح في الفهم وأشفى في الشرح وإنما المقصود هنا التنبيه والعاقل يتهدى منه لما لم يذكر مما أشير إليه وبالله التوفيق ومنها النظر إلى مجال الاجتهاد الحاصل بين الطرفين الواضحين وهو الذي تبين في كتاب الاجتهاد من هذا المجموع ومجال القياس الدائر بين الأصول والفروع وهو المبين في دليل القياس ولنبدأ بالأول وذلك أنه يقع في الكتاب النص على طرفين مبينين فيه أو في السنة كما تقدم في المأخذ الثاني وتبقى الواسطة على اجتهاد والتباين لمجاذبة الطرفين إياها فربما كان وجه النظر فيها قريب المأخذ فيترك إلى أنظار المجتهدين حسبما تبين في كتاب الاجتهاد وربما بعد على الناظر أو كان محل تعبد لا يجري على مسلك المناسبة فيأتي من رسول الله فيه البيان وأنه لاحق بأحد الطرفين أو آخذ من كل واحد منهما بوجه احتياطي أو غيره وهذا هو المقصود هنا

33 ويتضح ذلك بأمثلة أحدها أن الله تعالى أحل الطيبات وحرم الخبائث وبقى بين هذين الأصليين أشياء يمكن لحاقها بأحدهما فبين عليه الصلاة والسلام في ذلك ما اتضح به الأمر فنهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير ونهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية وقال إنها ركس وسئل ابن عمر عن القنفذ قال كل وتلا قل لا أجد فيما أوحى إلي الآية فقال له إنسان إن أبا هريرة يرويه عن النبي ويقول هو خبيثة من الخبائث فقال ابن عمر إن قاله النبي فهو كما قال وخرج أبو داود نهى عليه الصلاة والسلام عن أكل الجلالة وألبانها وذلك لما في لحمها ولبنها من أثر الجلة وهى العهدة فهذا كله راجع إلى معنى الإلحاق بأصل الخبائث كما ألحق عليه الصلاة والسلام الضب والحباري والأرنب وأشباهها بأصل الطيبات والثاني أن الله تعالى أحل من المشروبات ما ليس بمسكر كالماء واللبن والعسل وأشباهها وحرم الخمر من المشروبات لما فيها من إزالة العقل الموقع للعداوة

34 والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة فوقع فيما بين الأصلين ما ليس بمسكر حقيقة ولكنه يوشك أن يسكر وهو نبيذ الدباء والمزفت والنقير وغيرها فنهى عنها إلحاقا لها بالمسكرات تحقيقا سدا للذريعة ثم رجع إلى تحقيق الأمر في أن الأصل الإباحة كالماء والعسل فقال عليه الصلاة والسلام كنت نهيتكم عن الانتباذ فانتبذوا وكل مسكر حرام وبقى في قليل المسكر على الأصل من التحريم فبين أن ما أسكر كثيره فقليله حرام وكذلك نهى عن الخليطين للمعنى الذي نهى من أجله عن الانتباذ في الدباء والمزفت وغيرهما فهذا ونحوه دائر في المعنى بين الأصلين فكان البيان من رسول الله يعين ما دار بينهما إلى أي جهة يضاف من الأصلين والثالث أن الله أباح من صيد الجارح المعلم ما أمسك عليك وعلم من ذلك أن ما لم يكن معلما فصيده حرام إذ لم يمسك إلا على نفسه فدار بين الأصلين ما كان معلما ولكنه أكل من صيده فالتعليم يقتضي أنه أمسك عليك والأكل يقتضي أنه اصطاد لنفسه لا لك فتعارض الأصلان فجاءت السنة ببيان ذلك فقال عليه الصلاة والسلام فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن

35 يكون إنما أمسكه على نفسه وفي حديث آخر إذا قتله ولم يأكل منه شيئا فإنما أمسكه عليك وجاء في حديث آخر إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل وإن أكل منه الحديث وجميع ذلك رجوع للأصلين الظاهرين والرابع أن النهي ورد على المحرم أن لا يقتل الصيد مطلقا وجاء أن على من قتله عمدا الجزاء وأبيح للحلال مطلقا فمن قتله فلا شيء عليه فبقى قتله خطأ في محل النظر فجاءت السنة بالتسوية بين العمد والخطأ قال الزهري جاء القرآن بالجزاء على العامد وهو في الخطأ سنة والزهري من أعلم الناس بالسنن والخامس أن الحلال والحرام من كل نوع قد بينه القرآن وجاءت بينهما أمور ملتبسة لأخذها بطرف من الحلال والحرام فبين صاحب السنة من ذلك على الجملة وعلى التفصيل فالأول قوله الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات الحديث ومن الثاني قوله في حديث عبد الله بن زمعة واحتجبي منه يا سودة لما رأى من شبهه بعتبة الحديث

36 وفي حديث عدي بن حاتم في الصيد فإذا اختلط بكلابك كلب من غيرها فلا تأكل لا تدري لعله قتله الذي ليس منها وقال في بئر بضاعة وقد كانت تطرح فيها الحيض والعذرات خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء فحكم بأحد الطرفين وهو الطهارة وجاء في الصيد كل ما أصميت ودع ما أنميت وقال في حديث عقبة بن الحرث في الرضاع إذا أخبرته المرأة السوداء بأنها أرضعته والمرأة التى أراد تزوجها قال فيه كيف بها وقد

37 زعمت أنها قد أرضعتكما دعها عنك إلى أشياء من هذا القبيل كثيرة والسادس أن الله عز وجل حرم الزنى وأحل التزويج وملك اليمين وسكت عن النكاح المخالف للمشروع فإنه ليس بنكاح محض ولا سفاح محض فجاء في السنة ما بين الحكم في بعض الوجوه حتى يكون محلا لاجتهاد العلماء في إلحاقه بأحد الأصلين مطلقا أو في بعض الأحوال وبالأصل الآخر في حال آخر فجاء في الحديث أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل فنكاحها باطل فإن دخل بها فلها المهر بما استحل منها وهكذا سائر ما جاء في النكاح الفاسد من السنة والسابع أن الله أحل صيد البحر فيما أحل من الطيبات وحرم الميتة فيما حرم من الخبائث فدارت ميتة البحر بين الطرفين فأشكل حكمها فقال عليه الصلاة والسلام هو الطهور مآؤه الحل ميتته وروى في بعض الحديث

38 أحلت ميتتان الحيتان والجراد وأكل عليه الصلاة والسلام مما قذفه البحر لما أتى به أبو عبيدة والثامن أن الله تعالى جعل النفس بالنفس وأقص من الأطراف بعضها من بعض في قوله تعالى وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس إلى آخر الآية هذا في العمد وأما الخطأ فالدية لقوله فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله وبين عليه الصلاة والسلام دية الأطراف على النحو الذي يأتي بحول الله فجاء طرفان أشكل بينهما الجنين إذا أسقطته أمه بالضربة ونحوها فإنه يشبه جزء الإنسان كسائر الأطراف ويشبه الإنسان التام لخلقته فبينت السنة فيه أن ديته الغرة وأن له حكم نفسه لعدم تمحض أحد الطرفين له والتاسع أن الله حرم الميتة وأباح المذكاة فدار الجنين الخارج من بطن المذكاة ميتا بين الطرفين فاحتملهما فقال في الحديث ذكاة الجنين ذكاة

39 أمه ترجيحا لجانب الجزئية على جانب الاستقلال والعاشر أن الله قال فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف فبقيت البنتان مسكوتا عنهما فنقل في السنة حكمهما وهو إلحاقهما بما فوق البنتين ذكره القاضي إسماعيل فهذه أمثلة يستعان بها على ما سواها فإنه أمر واضح لمن تأمل وراجع إلى أحد الأصلين المنصوص عليهما أو إليهما معا فيأخذ من كل منهما بطرف فلا يخرج عنهما ولا يعدوهما وأما مجال القياس فإنه يقع في الكتاب العزيز أصول تشير إلى ما كان من نحوها أن حكمه حكمها وتقرب إلى الفهم الحاصل من إطلاقها أن بعض المقيدات مثلها فيجتزى بذلك الأصل عن تفريع الفروع اعتمادا على بيان السنة فيه وهذا النحو بناء على أن المقيس عليه وإن كان خاصا في حكم العام معنى وقد

40 مر في كتاب الأدلة بيان هذا المعنى فإذا كان كذلك ووجدنا في الكتاب أصلا وجاءت السنة بما في معناه أو ما يلحق به أو يشبهه أو يدانيه فهو المعنى ههنا وسواء علينا أقلنا إن النبي قاله بالقياس أو بالوحي إلا أنه جار في أفهامنا مجرى المقيس والأصل الكتاب شامل له بالمعنى المفسر في أول كتاب الأدلة وله أمثلة أحدهما أن الله عز وجل حرم الربا وربا الجاهلية الذي قالوا فيه إنما البيع مثل الربا هو فسخ الدين في الدين يقول الطالب إما أن تقضي وإما أن تربى وهو الذي دل عليه أيضا قوله تعالى وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم

41 لا تظلمون ولا تظلمون فقال عليه الصلاة والسلام وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله وإذا كان كذلك وكان المنع فيه إنما هو من أجل كونه زيادة على غير عوض ألحقت السنة به كل ما فيه زيادة بذلك المعنى فقال عليه الصلاة والسلام الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فمن زاد أو ازداد فقد أربى فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد ثم زاد على ذلك بيع النساء إذا اختلفت الأصناف وعده من الربا لأن النساء في أحد العوضين يقتضي الزيادة ويدخل فيه بحكم المعنى السلف يجر نفعا وذلك لأن بيع هذا الجنس

42 بمثله في الجنس من باب بدل الشيء بنفسه لتقارب المنافع فيما يراد منها فالزيادة على ذلك من باب إعطاء عوض على غير شيء وهو ممنوع والأجل في أحد العوضين لا يكون عادة إلا عند مقارنة الزيادة به في القيمة إذ لا يسلم الحاضر في الغائب إلا ابتغاء ما هو أعلى من الحاضر في القيمة وهو الزيادة ويبقى النظر لم جاز مثل هذا في غير النقدين والمطعومات ولم يجز فيهما محل نظر يخفي وجهه على المجتهدين وهو من أخفى الأمور التى لم يتضح معناها إلى اليوم فلذلك بينتها السنة إذ لو كانت بينة لوكل في الغالب أمرها إلى المجتهدين كما وكل إليهم النظر في كثير من محال الاجتهاد فمثل هذا جار مجرى الأصل والفرع في القياس فتأمله

43 والثاني أن الله تعالى حرم الجمع بين الأم وابنتها في النكاح وبين الأختين وجاء في القرآن وأحل لكم ما وراء ذلكم فجاء نهيه عليه الصلاة والسلام عن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها من باب القياس لأن المعنى الذي لأجله ذم الجمع بين أولئك موجود هنا وقد يروى في هذا الحديث فإنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم والتعليل يشعر بوجه القياس والثالث أن الله تعالى وصف الماء الطهور بأنه أنزله من السماء وأنه أسكنه في الأرض ولم يأت مثل ذلك في ماء البحر فجاءت السنة بإلحاق ماء البحر بغيره من المياه بأنه الطهور ماؤه الحل ميتته والرابع أن الدية في النفس ذكرها الله تعالى في القرآن ولم يذكر ديات الأطراف وهى مما يشكل قياسها على العقول فبين الحديث من دياتها ما وضح به السبيل وكأنه جار مجرى القياس الذي يشكل أمره فلا بد من الرجوع إليه ويحذى حذوه والخامس أن الله تعالى ذكر الفرائض المقدرة من النصف والربع والثمن والثلث والسدس ولم يذكر ميراث العصبة إلا ما أشار إليه قوله في الأبوين فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث الآية وقوله في الأولاد للذكر

44 مثل حظ الأنثيين وقوله في آية الكلالة وهو يرثها إن لم يكن لها ولد وقوله وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين فاقتضى أن ما بقى بعد الفرائض المذكورة فللعصبة وبقى من ذلك ما كان من العصبة غير هؤلاء المذكورين كالجد والعم وابن العم وأشباههم فقال عليه الصلاة والسلام ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقى فهو لأولى رجل ذكر وفي رواية فلأولى عصبة ذكر فأتى هذا على ما بقى مما يحتاج إليه بعد ما نبه الكتاب على أصله والسادس أن الله تعالى ذكر من تحريم الرضاعة قوله وأمهاتكم اللآتى أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة فألحق النبي بهاتين سائر القرابات من الرضاعة التى يحرمن من النسب كالعمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت وأشباه ذلك وجهة إلحاقها هى جهة الإلحاق بالقياس إذ ذاك من باب القياس بنفي الفارق نصت عليه السنة إذ كان لأهل الاجتهاد سوى النبي عليه الصلاة والسلام في ذلك نظر وتردد بين الإلحاق والقصر على التعبد فقال عليه الصلاة والسلام إن الله حرم من الرضاعة ما حرم من النسب

45 وسائر ما جاء في هذا المعنى ثم ألحق بالإناث الذكور لأن اللبن للفحل ومن جهة در المرأة فإذا كانت المرأة بالرضاع فالذي له اللبن أم بلا إشكال والسابع أن الله حرم مكة بدعاء إبراهيم فقال رب اجعل هذا بلدا آمنا وقال تعالى أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا وذلك حرم الله مكة فدعا رسول الله ربه للمدينة بمثل ما دعا به إبراهيم لمكة ومثله معه فأجابه الله وحرم ما بين لابتيها فقال إني أحرم ما بين لابتى المدينة أن يقطع عضاهها أو يقتل صيدها وفي رواية ولا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلا أذابه الله في النار ذوب الرصاص أو ذوب الملح في الماء وفي حديث آخر

46 فمن أحدث فيها حدثا أو آوي محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا ومثله في صحيفة على المتقدمة فهذا نوع من الإلحاق بمكة في الحرمة وقد جاء فيها قوله تعالى إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام إلى قوله ومن يرد فيه بالحاد بظلم نذقه من عذاب أليم والإلحاد شامل لكل عدول عن الصواب إلى الظلم وارتكاب المنهيات على تنوعها حسبما فسرته السنة فالمدينة لاحقة بها في هذا المعنى والثامن أن الله تعالى قال واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان الآية فحكم في الأموال بشهادة النساء منضمة إلى شهادة رجل وظهر به ضعف شهادتهن ونبه على ذلك في قوله ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن وفسر نقصان العقل بأن شهادة امرأتين تعدل شهادة رجل وحين ثبت ذلك بالقرآن وقال فيه أن تضل إحداهما فتدكر إحداهما الأخرى دل عل انحطاطهن عن درجة الرجل فألحقت السنة بذلك اليمين مع الشاهد فقضى عليه الصلاة والسلام بذلك لأن لليمين في اقتطاع الحقوق واقتضائها حكما قضى به قوله تعالى إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا الآية فجرى الشاهد واليمين مجرى الشاهدين أو الشاهد والمرأتين في القياس إلا أنه يخفى فبينته السنة والتاسع أن الله تعالى ذكر البيع في الرقاب وأحله وذكر الإجارة في بعض الأشياء كالجعل المشار إليه في قوله تعالى ولمن جاء به حمل بعير والإجارة على

47 القيام بمال اليتيم في قوله ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف وفي العمال على الصدقة كقوله تعالى والعاملين عليها وفي بعض منافع لا تأتي على سائرها فأطلقت السنة فيها القول بالنسبة إلى سائر منافع الرقاب من الناس والدواب والدور والأرضين فبين النبي من ذلك كثيرا ووكل سائرها إلى أنظار المجتهدين وهذا هو المجال القياسي المعتبر في الشرع ولا علينا أقصد النبي عليه الصلاة والسلام القياس على الخصوص أم لا لأن جميع ذلك يرجع إلى قصده بيان ما أنزل الله إليه على أي وجه كان والعاشر أن الله تعالى أخبر عن إبراهيم في شأن الرؤيا بما أخبر به من ذبح ولده وعن رؤيا يوسف ورؤيا الفتيين وكانت رؤيا صادقة ولم يدل ذلك على صدق كل رؤيا فبين النبي أحكام ذلك وأن الرؤيا الصالحة من الرجل الصالح جزء من أجزاء النبوة وأنها من المبشرات وأنها على أقسام إلى غير ذلك من أحكامها فتضمن إلحاق غير أولئك المذكورين بهم وهو المعنى الذي في القياس والأمثلة في هذا المعنى كثيرة ومنها النظر إلى ما يتألف من أدلة القرآن المتفرقة من معان مجتمعة فإن الأدلة قد تأتي في معان مختلفة ولكن يشملها معنى واحد شبيه بالأمر في المصالح المرسلة والاستحسان فتأتي السنة بمقتضى ذلك المعنى الواحد فيعلم أو يظن أن ذلك

48 المعنى مأخوذ من مجموع تلك الأفراد بناء على صحة الدليل الدال على أن السنة إنما جاءت مبينة للكتاب ومثال هذا الوجه ما تقدم في أول كتاب الأدلة الشرعية في طلب معنى قوله عليه الصلاة والسلام لا ضرر ولا ضرار من الكتاب ويدخل فيه ما في معنى هذا الحديث من الأحاديث فلا معنى للإعادة ومنها النظر إلى تفاصيل الأحاديث في تفاصيل القرآن وإن كان

49 في السنة بيان زائد ولكن صاحب هذا المأخذ يتطلب أن يجد كل معنى في السنة مشارا إليه من حيث وضع اللغة لا من جهة أخرى أو منصوصا عليه في القرآن ولمثله ثم ننظر في صحته أو عدم صحته وله أمثلة كثيرة أحدها حديث ابن عمر في تطليقه زوجه وهى حائض فقال عليه الصلاة والسلام لعمر مره فليراجعها ثم ليتركها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التى أمر الله أن يطلق لها النساء يعني أمره في قوله يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن والثاني حديث فاطمة بنت قيس في أن رسول الله لم يجعل لها سكنى ولا نفقة إذ طلقها ألبتة وشأن المبتوتة أن لها السكنى وإن لم يكن لها نفقة لأنها بذت على أهلها بلسانها فكان ذلك تفسيرا لقوله ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة والثالث حديث سبيعة الأسلمية إذ ولدت بعد وفاة زوجها بنصف شهر فأخبرها عليه الصلاة والسلام أن قد حلت فبين الحديث أن قوله تعالى والذين

50 يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا مخصوص في غير الحامل وأن قوله تعالى وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن عام في المطلقات وغيرهن والرابع حديث أبي هريرة في قوله فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم قالوا حبة في شعرة يعني عوض قوله وقولوا حطة والخامس حديث جابر عن النبي حين قدم مكة طاف بالبيت سبعا فقرأ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى فصلى خلف المقام ثم أتى الحجر فاستلمه ثم قال نبدأ بما بدأ الله به وقرأ إن الصفا والمروة من شعائر الله والسادس حديث النعمان بن بشير عن النبي في قوله تعالى وقال ربكم ادعونى أستجب لكم قال الدعاء هو العبادة وقرأ الآية إلى قوله داخرين والسابع حديث عدي بن حاتم قال لما نزلت حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر قال لي النبي

51 إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل والثامن حديث سمرة بن جندب أن النبي قال صلاة الوسطى صلاة العصر وقال يوم الأحزاب اللهم املأ قبورهم وبيوتهم نارا كما شغلونا عن صلاة الوسطى حتى غابت الشمس والتاسع حديث أبي هريرة قال عليه الصلاة والسلام إن موضع سوط في الجنة لخير من الدنيا وما فيها اقرءوا إن شئتم فمن زحزح عن النار وادخل الجنة فقد فاز والعاشر حديث أنس في الكبائر قال عليه الصلاة والسلام فيها الشرك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس وقول الزور وثم أحاديث أخر فيها ذكر الكبائر وجميعها تفسير لقوله تعالى إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه الآية

52 وهذا النمط في السنة كثير ولكن القرآن لا يفي بهذا المقصود على النص والإشارة العربية التى تستعملها العرب أو نحوها وأول شاهد في هذا الصلاة والحج والزكاة والحيض والنفاس واللقطة والقراض والمساقاة والديات والقسامات وأشباه ذلك من أمور لا تحصى فالملتزم لهذا لا يفي بما ادعاه إلا أن يتكلف في ذلك مآخذ لا يقبلها كلام العرب ولا يوافق على مثلها السلف الصالح ولا العلماء الراسخون في العلم ولقد رام بعض الناس فتح هذا الباب الذي شرع في التنبيه عليه فلم يوف به إلا على التكلف المذكور والرجوع إلى المآخذ الأول في مواضع كثيرة لم يتأت له فيها نص ولا إشارة إلى خصوصات ما ورد في السنة فكان ذلك نازلا بقصده الذي قصد وهذا الرجل المشار إليه لم ينصب نفسه في هذا المقام إلا لاستخراج معاني الأحاديث التى خرج مسلم ابن الحجاج في كتابه المسند الصحيح دون ما سواها مما نقله الأئمة سواه وهو من غرائب المعاني المصنفة في علوم القرآن والحديث وأرجو أن يكون ما ذكر هنا من المآخذ موفيا بالغرض في الباب والله الموفق للصواب فصل وقد ظهر مما تقدم الجواب عما أوردوا من الأحاديث التى قالوا إن القرآن لم ينبه عليها فقوله عليه الصلاة والسلام يوشك رجل منكم متكئا على

53 أريكته إلى آخره لا يتناول ما نحن فيه فإن الحديث إنما جاء فيمن يطرح السنة معتمدا على رأيه في فهم القرآن وهذا لم ندعه في مسألتنا هذه بل هو رأي أولئك الخارجين عن الطريقة المثلى وقوله ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله صحيح على الوجه المتقدم إما بتحقيق المناط الدائر بين الطرفين الواضحين والحكم عليه وإما بالطريقة القياسية وإما بغيرها من المآخذ المتقدمة ومر الجواب عن تحريم نكاح المرأة على عمتها أو خالتها وتحريم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير وعن العقل وأما فكاك الأسير فمأخوذ من قوله تعالى وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر وهذا فيمن لم يهاجر إذا لم يقدر على الهجرة إلا بالانتصار بغيره فعلى الغير النصر والأسير في هذا المعنى أولى بالنصر فهو مما يرجع إلى النظر القياسي وأما أن لا يقتل مسلم بكافر فقد انتزعها العلماء من الكتاب كقوله ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا وقوله لا يستوى أصحاب النار وأصحاب الجنة وهذه الآية أبعد ولكن الأظهر أنه لو كان حكمها موجودا في القرآن على التنصيص أو نحوه لم يجعلها علي خارجة عن القرآن حيث قال ما عندنا إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة إذ لو كان في القرآن لعد الثنتين دون قتل المسلم بالكافر ويمكن أن يؤخذ حكم المسألة مأخذ القياس المتقدم لأن الله تعالى قال الحر بالحر والعبد بالعبد فلم يقد من الحر للعبد والعبودية من آثار الكفر فأولى أن لا يقاد من المسلم للكافر

54 وأما إخفار ذمه المسلم فهو من باب نقض العهد وهو في القرآن وأقرب الآيات إليه قوله تعالى والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار وفي الآية الأخرى أولئك هم الخاسرون وقد مر تحريم المدينة وانتزاعه من القرآن وأما من تولى قوما بغير إذن مواليه فداخل بالمعنى في قطع ما أمر الله به أن يوصل وأيضا فإن الانتفاء من ولاء صاحب الولاء الذى هو لحمة كلحمة النسب كفر لنعمة ذلك الولاء كما هو في الانتساب إلى غير الأب وقد قال تعالى فيها والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون وصدق هذا المعنى ما في الصحيح من قوله أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم وفيه إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة وحديث معاذ ظاهر في أن ما لم يصرح به في القرآن ولا حصل بيانه فيه فهو

55 مبين في السنة وإلا فالاجتهاد يقضي عليه وليس فيه معارضة لما تقدم المسألة الخامسة حيث قلنا أن الكتاب دال على السنة وإن السنة إنما جاءت مبينة له فذلك بالنسبة إلى الأمر والنهي والإذن أو ما يقتضي ذلك وبالجملة ما يتعلق بأفعال المكلفين من جهة التكليف وأما ما خرج عن ذلك من الأخبار عما كان أو ما يكون مما لا يتعلق به أمر ولا نهي ولا إذن فعلى ضربين أحدهما أن يقع في السنة موقع التفسير للقرآن فهذا لا نظر في أنه بيان له كما في قوله تعالى وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة قال دخلوا يزحفون على أوراكهم وفي قوله فبدل الذين ظلموا قولا غير الذى قيل لهم قال قالوا حبة في شعرة وفي قوله وكذلك جعلناكم أمة وسطا الآية قال يدعى نوح فيقال هل بلغت فيقول نعم فيدعى قومه فيقال هل بلغكم فيقولون ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد فيقال من شهودك فيقول محمد وأمته قال فيؤتى بكم تشهدون أنه قد بلغ فذلك

56 قول الله وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وفي قوله كنتم خير أمة أخرجت للناس قال إنكم تتبعون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله وفي قوله بل أحياء عند ربهم يرزقون إن أرواحهم في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش إلى آخر الحديث وقال ثلاث إذا خرجن لم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل الآية الدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها وفي قوله وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم الآية قال لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصا من نور ثم عرضهم على آدم فقال أي رب من هؤلاء قال هؤلاء ذريتك الحديث وفي قوله لو أن لى بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد قال يرحم الله لوطا كان يأوي إلى ركن شديد فما بعث الله من بعده نبيا إلا في ذروة من قومه وقال الحمد لله أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني وفي رواية ما أنزل الله في التوراة

57 والإنجيل مثل أم القرآن وهي السبع المثاني وسأله اليهود عن قول الله تعالى ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات ففسرها لهم وحديث موسى مع الخضر ثابت صحيح وفي قوله تعالى فقال إنى سقيم قال لم يكذب إبراهيم في شيء قط إلا في ثلاث قوله إني سقيم الحديث وقال إنكم محشورون إلى الله غرلا ثم قرأ كما بدأنا أول خلق نعيده الآية وفي قوله إن زلزلة الساعة شئ عظيم قال ذلك يوم يقول الله لآدم ابعث بعث النار الحديث وقال إنما سمي البيت العتيق لأنه لم يظهر عليه جبار وأمثلة هذا الضرب كثيرة والثاني أن لا يقع موقع التفسير ولا فيه معنى تكليف اعتقادي أو عملي فلا يلزم أن يكون له أصل في القرآن لأنه أمر زائد على موقع التكليف وإنما

58 أنزل القرآن لذلك فالسنة إذا خرجت عن ذلك فلا حرج وقد جاء من ذلك نمط صالح في الصحيح كحديث أبرص وأقرع وأعمى وحديث جريج العابد ووفاة موسى وجمل من قصص الأنبياء عليهم السلام والأمم قبلنا مما لا يتبني عليه عمل ولكن في ذلك من الاعتبار نحو مما في القصص القرآني وهو نمط ربما يرجع إلى الترغيب والترهيب فهو خادم للأمر والنهي ومعدود في المكملات لضرورة التشريع فلم يخرج بالكلية عن القسم الأول والله أعلم المسألة السادسة السنة ثلاثة أنواع كما تقدم قول وفعل وإقرار بعد العلم والقدرة على الإنكار لو كان منكرا فأما القول فلا إشكال فيه ولا تفصيل وأما الفعل فيدخل تحته الكف عن الفعل لأنه فعل عند جماعة وعند كثير من الأصوليين أن الكف غير فعل وعلى الجملة فلا بد من الكلام على كل واحد منهما فالفعل منه دليل على مطلق الإذن فيه ما لم يدل دليل على

59 غيره من قول أو قرينة حال أو غيرهما والكلام هنا مذكور في الأصول ولكن الذي يخص هذا الموضع أن الفعل منه أبلغ في باب التأسي والامتثال من القول المجرد وهذا المعنى وإن كان محتاجا إلى بيان فقد ذكر ذلك في فصل البيان والإجمال و كتاب الاجتهاد من هذا الكتاب والحمد لله وأيضا فإنه وإن دل الدليل أو القرينة على خلاف مطلق الإذن فلا يخرج عن أنواعه فمطلق الإذن يشمل الواجب والمندوب والمباح ففعله عليه الصلاة والسلام لا يخرج عن ذلك فهو إما واجب أو مندوب أو مباح وسواء علينا أكان ذلك في حال أم كان مطلقا فالمطلق كسائر المفعولات له والذي في حال كتقريره للزاني إذ أقر عنده فبالغ في الاحتياط عليه حتى صرح له بلفظ الوطء الصريح ومثله في غير هذا المحل منهي عنه فإنما جاز لمحل الضرورة فيتقدر بقدرها بدليل النهي عن التفحش مطلقا والقول هنا فعل لأنه معنى تكليفي لا تعريفي فالتعريفي هو المعدود في الأقوال وهو الذى يؤتى به أمرا أو نهيا أو إخبارا بحكم شرعي والتكليفي هو الذى لا يعرف بالحكم بنفسه من حيث هو قول كما أن الفعل كذلك وأما الترك فمحله في الأصل غير المأذون فيه وهو المكروه والممنوع فتركه

60 عليه الصلاة والسلام دال على مرجوحية الفعل وهو إما مطلقا وإما في حال فالمتروك مطلقا ظاهر والمتروك في حال كتركه الشهادة لمن نحل بعض ولده دون بعض فإنه قال أكل ولدك نحلته مثل هذا قال لا قال فأشهد غيري فإني لا أشهد على جور وهذا ظاهر وقد يقع الترك لوجوه غير ما تقدم منها الكراهية طبعا كما قال في الضب وقد امتنع من أكله إنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه فهذا ترك للمباح بحكم الجبلة ولا حرج فيه ومنها الترك لحق الغير كما في تركه أكل الثوم والبصل لحق الملائكة وهو ترك مباح لمعارضة حق الغير ومنها الترك خوف الافتراض لأنه كان يترك العمل

61 وهو يحب أن يعمل به مخافة أن يعمل به الناس فيفرض عليهم كما ترك القيام في المسجد في رمضان وقال لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك وقال لما أعتم بالعشاء حتى رقد النساء والصبيان لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالصلاة هذه الساعة ومنها الترك لما لا حرج في فعله بناء على أن ما لا حرج فيه بالجزء منهي عنه بالكل كإعراضه عن سماع غناء الجاريتين في بيته وفي الحديث لست من دد ولا دد مني والدد اللهو وإن كان مما لا حرج فيه فليس كل ما لا حرج فيه يؤذن فيه وقد مر الكلام فيه في كتاب الأحكام ومنها ترك المباح الصرف إلى ما هو الأفضل فإن القسم لم يكن لازما

62 لأزواجه في حقه وهو معنى قوله تعالى ترجى من تشاء منهم وتؤوى إليك من تشاء الآية عند جماعة من المفسرين ومع ذلك فترك ما أبيح له إلى القسم الذى هو أخلق بمكارم أخلاقه وترك الانتصار ممن قال له اعدل فإن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله ونهي من أراد قتله وترك قتل المرأة التي سمت له الشاة ولم يعاقب عروة بن الحرث إذ أراد الفتك به وقال من يمنعك مني الحديث ومنها الترك للمطلوب خوفا من حدوث مفسدة أعظم من مصلحة ذلك المطلوب كما جاء في الحديث عن عائشة لولا أن قومك حديث عهدهم بالجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر في البيت وأن ألصق بابه بالأرض وفي رواية لأسست البيت على قواعد إبراهيم ومنع من قتل أهل النفاق وقال لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه وكل هذه الوجوه قد ترجع إلى الأصل المتقدم

63 أما الأول فلم يكن في الحقيقة من هذا النمط لأنه ليس بترك بإطلاق كيف وقد أكل على مائدته عليه الصلاة والسلام وأما الثاني فقد صار في حقه التناول ممنوعا أو مكروها لحق ذلك الغير هذا في غير مقاربة المساجد وأما مع مقاربتها والدخول فيها فهو عام فيه وفي الأمة فلذلك نهى آكلها عن مقاربة المسجد وهو راجع إلى النهي عن أكلها لمن أراد مقاربته وأما الثالث فهو من الرفق المندوب إليه فالترك هنالك مطلوب وهو راجع إلى أصل الذرائع إذا كان تركا لما هو مطلوب خوفا مما هو أشد منه فإذا رجع إلى النهي عن المأذون فيه خوفا من مآل لم يؤذن فيه صار الترك هنا مطلوبا وأما الرابع فقد تبين فيه رجوعه إلى المنهي عنه وأما الخامس فوجه النهي المتوجه على الفعل حتى حصل الترك أن الرفيع المنصب مطالب بما يقتضي منصبه بحيث يعد خلافه منهيا عنه وغير لائق به وإن لم يكن كذلك في حقيقة الأمر حسبما جرت به العبارة عندهم في قولهم حسنات الأبرار سيئات المقربين إنما يريدون في اعتبارهم لا في حقيقة الخطاب الشرعي ولقد روى أنه عليه الصلاة والسلام كان بعد القسم على الزوجات وإقامة العدل على ما يليق به يعتذر إلى ربه ويقول اللهم هذا عملي فيما أملك فلا تؤاخذني بما تملك ولا أملك يريد بذلك ميل القلب إلى

64 بعض الزوجات دون بعض فإنه أمر لا يملك كسائر الأمور القلبية التى لا كسب للإنسان فيها أنفسها والذي يوضح هذا الموضع وأن المناصب تقتضي في الاعتبار الكمالي العتب على ما دون اللائق بها قصة نوح وإبراهيم عليهما السلام في حديث الشفاعة وفى اعتذار نوح عليه السلام عن أن يقوم بها بخطيئته وهى دعاؤه على قومه ودعاؤه على قومه إنما كان بعد يأسه من أيمانهم قالوا وبعد قول الله له لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن وهذا يقضى بأنه دعاء مباح إلا أنه استقصر نفسه لرفيع شأنه أن يصدر من مثله مثل هذا إذ كان الأولى الإمساك عنه وكذلك إبراهيم اعتذر بخطيئته وهي الثلاث المحكيات في الحديث بقوله لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات فعدها كذبات وإن كانت تعريضا اعتبارا بما ذكر والبرهان على صحة هذا التقرير ما تقدم في دليل الكتاب أن كل قضية لم ترد أو لم تبطل أو لم ينبه على ما فيها فهي صحيحة صادقة فإذا عرضنا مسألتنا على تلك القاعدة وجدنا الله تعالى حكى عن نوح دعاءه على قومه فقال وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ولم يذكر قبله ولا بعده ما يدل على عتب ولا لوم ولا خروج عن مقتضى الأمر والنهي بل حكى أنه قال إنك إن تذرهم يضلوا عبادك الآية ومعلوم أنه عليه السلام لم يقل ذلك

65 إلا بوحي من الله لأنه غيب وهو معنى قوله تعالى وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن وكذلك قال تعالى في إبراهيم فنظر نظرة في النجوم فقال إنى سقيم ولم يذكر قبل ذلك ولا بعده ما يشير إلى لوم ولا عتب ولا مخالفة أمر ولا نهي ومثله قوله تعالى قال بل فعله كبيرهم هذا فلم يقع في هذا المساق ذكر لمخالفة ولا إشارة إلى عتب بل جاء في الآية الأولى إذ جاء ربه بقلب سليم وهو غاية في المدح بالموافقة وهكذا سائر المساق إلى آخر القصة وفي الآية الأخرى قال ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين إلى آخرها أفتضمنت الآيات مدحه ومناضلته عن الحق من غير زيادة فدل على أن كل ما ناضل به صحيح موافق ومع ذلك فقد قال محمد لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات وإبراهيم في القيامة يستقصر نفسه عن رتبة الشفاعة بما يذكره وكذلك نوح فثبت أن إثبات الخطيئة هنا ليس من قبل مخالفة أمر الله بل من جهة الاعتبار من العبد فيما تطلبه به المرتبة فكذلك قصة محمد عليه الصلاة والسلام في مسألة القسم وقد مددت في هذا الموضع بعض النفس لشرفه ولولا الإطالة لبين من هذا القبيل في شأن الأنبياء عليهم السلام ما ينشرح له الصدر وتطمئن إلى بيانه النفس مما يشهد له القرآن والسنة والقواعد الشرعية والله المستعان وفي آخر فصل الأوامر والنواهي أيضا مما يتمهد به هذا الأصل وقد حصل من المجموع أن الترك هنا راجع إلى ما يقتضيه النهي لكن النهي الاعتباري

66 وأما السادس فظاهر أنه راجع إلى الترك الذي يقتضيه النهي لأنه من باب تعارض مفسدتين إذ يطلب الذهاب إلى الراجح وينهى عن العمل بالمرجوح والترك هنا هو الراجح فعمل عليه فصل وأما الإقرار فمحمله على أن لا حرج في الفعل الذي رآه عليه السلام فأقره أو سمع به فأقره وهذا المعنى مبسوط في الأصول ولكن الذي يخص الموضع هنا أن ما لا حرج فيه جنس لأنواع الواجب والمندوب والمباح بمعنى المأذون فيه وبمعنى أن لا حرج فيه وأما المكروه فغير داخل تحته على ما هو المقصود لأن سكوته عليه يؤذن إطلاقه بمساواة الفعل للترك والمكروه لا يصح فيه ذلك

67 لأن الفعل المكروه منهي عنه وإذا كان كذلك لم يصح السكوت عنه ولأن الإقرار محل تشريع عند العلماء فلا يفهم منه المكروه بحكم إطلاق السكوت عليه دون زيادة تقترن به فإذا لم يكن ثم قرينة ولا تعريف أوهم ما هو أقرب إلى الفهم وهو الإذن أو أن لا حرج بإطلاق والمكروه ليس كذلك لا يقال فيلزم مثله في الواجب والمندوب إذ لا يفهم بحكم الإقرار فيه غير مطلق الإذن أو أن لا حرج وليسا كذلك لأن الواجب منهي عن تركه ومأمور بفعله والمندوب مأمور بفعله وجميع ذلك زائد على مطلق رفع الحرج فلا يدخلان تحت مقتضى الإقرار وقد زعمت أنه داخل هذا خلف لأنا نقول بل هما داخلان لأن عدم الحرج مع فعل الواجب لازم للموافقة بينهما لأن الواجب والمندوب إنما يعتبران في الاقتضاء قصدا من جهة الفعل ومن هذه الجهة صارا لا حرج فيهما بخلاف المكروه فإنه إنما يعتبر في الاقتضاء من جهة الترك لا من جهة الفعل وأن لا حرج راجع إلى الفعل فلا يتوافقان وإلا فكيف يتوافقان والنهي يصادم عدم الحرج في الفعل فإن قيل من مسائل كتاب الأحكام أن المكروه معفو عنه من جهة الفعل ومعنى كونه معفوا عنه هو معنى عدم الحرج فيه وأنت تثبت هنا الحرج بهذا الكلام قيل كلا بل المراد هنا غير المراد هنالك لأن الكلام هنالك فيما بعد

68 الوقوع لا فيما قبله ولا شك أن فاعل المكروه مصادم للنهي بحتا كما هو مصادم في الفعل المحرم ولكن خفة شأن المكروه وقلة مفسدته صيرته بعد ما وقع في حكم ما لا حرج فيه استدراكا له من رفق الشارع بالمكلف ومما يتقدمه من فعل الطاعات تشبيها له بالصغيرة التى يكفرها كثير من الطاعات كالطهارات والصلوات والجمعات ورمضان واجتناب الكبائر وسائر ما ثبت من ذلك في الشريعة والصغيرة أعظم من المكروه فالمكروه أولى بهذا الحكم فضلا من الله ونعمة وأما ما ذكر هنا من مصادمة النهي لرفع الحرج فنظر إلى ما قبل الوقوع ولا مرية في أن الأمر كذلك فلا يمكن والحال هذه أن يدخل المكروه تحت ما لا حرج فيه وأمثلة هذا القسم كثيرة كقيافة المدلجي في أسامة وأبيه زيد وأكل الضب على مائدته عليه الصلاة والسلام وعن عبد الله بن مغفل قال أصبت جرابا من شحم يوم خيبر قال فالتزمته فقلت لا أعطي اليوم أحدا من هذا شيئا قال فالتفت فإذا رسول الله متبسما وقد استدل بعض العلماء على طهارة دم النبي عليه الصلاة والسلام بترك الإنكار على من شرب دم حجامته المسألة السابعة القول منه إذا قارنه الفعل فذلك أبلغ ما يكون في التأسي بالنسبة إلى المكلفين لأن فعله عليه الصلاة والسلام واقع على أزكى ما يمكن

69 في وضع التكاليف فالاقتداء به في ذلك العمل في أعلى مراتب الصحة بخلاف ما إذا لم يطابقه الفعل فإنه وإن كان القول يقتضي الصحة فذلك لا يدل على أفضلية ولا مفضولية ومثاله ما روى أن النبي قيل له أأكذب لإمرأتي قال لا خير في الكذب قال أفأعدها وأقول لها قال لا جناح عليك ثم إنه لم يفعل مثل ما أجازه بل لما وعد عزم على أن لا يفعل وذلك حين شرب عند بعض أزواجه عسلا فقال له بعض أزواجه إني أجد منك ريح مغافير كأنه مما يتأذى من ريحه فحلف أن لا يشربه أو حرمه على نفسه ويرجع إلى الأول فقال الله له يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك وكان قادرا على أن يعد ويقول ولكنه عزم بيمين علقها على نفسه أو تحريم عقده حتى رده الله إلى تحلة الأيمان وأيضا فلما قال للرجل

70 الواهب لابنه أشهد غيري كان ظاهرا في الإجازة ولما امتنع هو من الشهادة دل على مرجوحية مقتضى القول وأمر عليه الصلاة والسلام حسان وغيره بإنشاد الشعر وأذن لهم فيه ومع ذلك فقد منعه عليه الصلاة والسلام ولم يعلمه وذلك يدل على مرجوحيته ولقوله وما ينبغى له وقال لحسان اهجهم وجبريل معك فهذا إذن في الهجاء ولم يذم عليه الصلاة والسلام أحدا بعيب فيه خلاف عيب الدين ولا هجا أحدا بمنثور كما لم يتأت له المنظوم أيضا ومن أوصافه عليه الصلاة والسلام أنه لم يكن عيابا ولا فحاشا وأذن لأقوام في أن يقولوا لمنافع كانت

71 لهم في القول أو نضال عن الإسلام ولم يفعل هو شيئا من ذلك وإنما كان منه التورية كقوله نحن من ماء وفي التوجه إلى الغزو فكان إذا أراد عزوة ورى بغيرها فإذا كان كذلك فالاقتداء بالقول الذي مفهومه الإذن إذا تركه قصدا مما لا حرج فيه وإن تركه اقتداء بالنبي عليه الصلاة والسلام أحسن لمن قدر على ذلك فمن أتى شيئا من ذلك فالتوسعة على وفق القول مبذولة وباب التيسير مفتوح والحمد لله المسألة الثامنة الإقرار منه عليه الصلاة والسلام إذا وافق الفعل فهو صحيح في التأسي لا شوب فيه ولا انحطاط عن أعلى مراتب التأسي لأن فعله عليه الصلاة والسلام

72 واقع موقع الصواب فإذا وافقه إقراره لغيره على مثل ذلك الفعل فهو كمجرد الاقتداء بالفعل فالإقرار دليل زائد مثبت بخلاف ما إذا لم يوافقه فإن الاقرار وإن اقتضى الصحة فالترك كالمعارض وإن لم تتحقق فيه المعارضة فقد رمى فيه شوب التوقف لتوقفه عليه الصلاة والسلام عن الفعل ومثاله إعراضه عن سماع اللهو وإن كان مباحا وبعده عن التلهي به وإن لم يحرج في استعماله وقد كانوا يتحدثون بأشياء من أمور الجاهلية بحضرته وربما تبسم عند ذلك ولم يكن يذكر هو من ذلك إلا ما دعت إليه حاجة أو ما لا بد منه ولما جاءته المرأة تسأله عن مسألة من طهارة الحيضة قال لها خذي فرصة ممسكة فتطهري بها فقالت وكيف أتطهر بها فأعاد عليها واستحى حتى غطى وجهه ففهمت عائشة ما أراد ففهمتها بما هو أصرح وأشرح فأقر عائشة على الشرح الأبلغ وسكت هو عنه حياء فمثل هذا مراعى إذا لم يتعين بيان ذلك فإنه من باب الجائز أما إذا تعين فلا يمكن إلا الإفهام كيف

73 كان فإنه محل مقطع الحقوق والأمثلة كثيرة والحاصل أن نفس الإقرار لا يدل على مطلق الجواز من غير نظر بل فيه ما يكون كذلك نحو الإقرار على المطلوبات والمباحات الصرفة ومنه ما لا يكون كذلك كالأمثلة فإن قارنه قول فالأمر فيه كما تقدم فينظر إلى الفعل فيقضى بمطلق الصحة فيه مع المطابقة دون المخالفة

74 المسألة التاسعة سنة الصحابة رضي الله عنهم سنة يعمل عليها ويرجع إليها ومن الدليل على ذلك أمور أحدها ثناء الله عليهم من غير مثنوية ومدحهم بالعدالة وما يرجع إليها كقوله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس وقوله وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ففي الأولى إثبات الأفضلية على سائر الأمم وذلك يقضى بإستقامتهم في كل حال وجريان أحوالهم على الموافقة دون المخالفة وفي الثانية إثبات العدالة مطلقا وذلك يدل على ما دلت عليه الأولى ولا يقال إن هذا عام في الأمة فلا يختص بالصحابة دون من بعدهم لأنا نقول أولا ليس كذلك بناء على أنهم المخاطبون على الخصوص

75 ولا يدخل معهم من بعدهم إلا بقياس وبدليل آخر وثانيا على تسليم التعميم أنهم أول داخل في شمول الخطاب فإنهم أول من تلقى ذلك من الرسول عليه الصلاة والسلام وهم المباشرون للوحي وثالثا أنهم أولى بالدخول من غيرهم إذ الأوصاف التى وصفوا بها لم يتصف بها على الكمال إلا هم فمطابقة الوصف للاتصاف شاهد على أنهم أحق من غيرهم بالمدح وأيضا فإن من بعد الصحابة من أهل السنة عدلوا الصحابة على الإطلاق والعموم فأخذوا عنهم رواية ودراية من غير استثناء ولا محاشاة بخلاف غيرهم فلم يعتبروا منهم إلا من صحت إمامته وثبتت عدالته وذلك مصدق لكونهم أحق بذلك المدح من غيرهم

76 فيصح أن يطلق على الصحابة أنهم خير أمة بإطلاق وأنهم وسط أي عدول بإطلاق وإذا كان كذلك فقولهم معتبر وعملهم مقتدى به وهكذا سائر الآيات التى جاءت بمدحهم كقوله تعالى للفقرآء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا إلى قوله والذين تبوءوا الدار والإيمان الآية وأشباه ذلك والثاني ما جاء في الحديث من الأمر باتباعهم وأن سنتهم في طلب الاتباع كسنة النبي كقوله فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وقوله تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة قالوا ومن هم يا رسول الله قال ما أنا عليه وأصحابي وعنه أنه قال أصحابي مثل الملح لا يصلح الطعام إلا به وعنه أيضا إن الله اختار أصحابي على جميع العالمين سوى النبيين والمرسلين واختار لي منهم أربعة أبا بكر وعمر وعثمان وعليا فجعلهم خير أصحابي وفي أصحابي كلهم خير ويروى في بعض الأخبار أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم إلى غير ذلك مما في معناه

77 والثالث أن جمهور العلماء قدموا الصحابة عند ترجيح الأقاويل فقد جعل طائفة قول أبي يكر وعمر حجة ودليلا وبعضهم عد قول الخلفاء الأربعة دليلا وبعضهم يعد قول الصحابة على الإطلاق حجة ودليلا ولكل قول من هذه الأقوال متعلق من السنة وهذه الآراء وإن ترجح عند العلماء خلافها ففيها تقوية تضاف إلى أمر كلي هو المتعمد في المسألة وذلك أن السلف والخلف من التابعين ومن بعدهم يهابون مخالفة الصحابة ويتكثرون بموافقتهم وأكثر ما تجد هذا المعنى في علوم الخلاف الدائر بين الأئمة المعتبرين فتجدهم إذا عينوا مذاهبهم قووها بذكر من ذهب إليها من الصحابة وما ذاك إلا لما اعتقدوا في أنفسهم وفي مخالفيهم من تعظيمهم وقوة مآخذهم دون غيرهم وكبر شأنهم في الشريعة وأنهم مما يجب متابعتهم وتقليدهم

78 فضلا عن النظر معهم فيما نظروا فيه وقد نقل عن الشافعي أن المجتهد قبل أن يجتهد لا يمنع من تقليد الصحابة ويمنع في غيره وهو المنقول عنه في الصحابي كيف أترك الحديث لقول من لو عاصرته لحججته ولكنه مع ذلك يعرف لهم قدرهم وأيضا فقد وصفهم السلف الصالح ووصف متابعتهم بما لا بد من ذكر بعضه فعن سعيد بن جبير أنه قال ما لم يعرفه البدريون فليس الدين وعن الحسن وقد ذكر أصحاب محمد قال إنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوما اختارهم الله لصحبة نبيه فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم فإنهم ورب الكعبة على الصراط المستقيم وعن إبراهيم قال لم يدخر لكم شيء خبىء عن القوم لفضل عندكم وعن حذيفة أنه كان يقول اتقوا الله يا معشر القراء وخذوا طريق من قبلكم فلعمري لئن اتبعتموه فقد سبقتم سبقا بعيدا ولئن تركتموه يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا وعن ابن مسعود من كان منكم متأسيا فليتأس بأصحاب محمد فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا وأقومها

79 هديا وأحسنها حالا قوما اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم وقال علي إياكم والاستنان بالرجال ثم قال فإن كنتم لا بد فاعلين فبالأموات لا بالأحياء وهو نهي للعلماء لا للعوام ومن ذلك قول عمر بن عبد العزيز قال سن رسول الله وولاة الأمر بعده سننا الأخذ بها تصديق لكتاب الله واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله من عمل بها مهتد ومن استنصر بها منصور ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا وفي رواية بعد قوله وقوة على دين الله ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في رأي خالفها من اهتدى بها مهتد الحديث وكان مالك يعجبه كلامه جدا وعن حذيفة قال اتبعوا آثارنا فإن أصبتم فقد سبقتم سبقا بينا وإن أخطأتم فقد ضللتم ضلالا بعيدا وعن ابن مسعود نحوه فقال اتبعوا آثارنا ولا تبتدعوا فقد كفيتم وعنه أنه مر برجل يقص في المسجد ويقول سبحوا عشرا وهللوا عشرا فقال عبد الله إنكم لأهدى من أصحاب محمد أو أضل بل هذه بل هذه يعني أضل والآثار في هذا المعنى يكثر إيرادها وحسبك من ذلك دليلا مستقلا وهو الرابع ما جاء في الأحاديث من إيجاب محبتهم وذم من أبغضهم وأن من أحبهم فقد أحب النبي ومن أبغضهم فقد أبغض النبي عليه الصلاة والسلام وما ذاك من جهة كونهم رأوه أو جاوروه أو حاوروه فقط إذ

80 لا مزية في ذلك وإنما هو لشدة متابعتهم له وأخذهم أنفسهم بالعمل على سنته مع حمليته ونصرته ومن كان بهذه المثابة حقيق أن يتخذ قدوة وتجعل سيرته قبلة ولما بالغ مالك في هذا المعنى بالنسبة إلى الصحابة أو من اهتدى بهديهم واستن بسنتهم جعله الله تعالى قدوة لغيره في ذلك فقد كان المعاصرون لمالك يتبعون آثاره ويقتدون بأفعاله ببركة اتباعه لمن أثنى الله ورسوله عليهم وجعلهم قدوة أو من اتبعهم رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون المسألة العاشرة كل ما أخبر به رسول الله من خبر فهو كما أخبر وهو حق وصدق معتمد عليه فيما أخبر به وعنه سواء علينا أنبنى عليه في التكليف حكم أم لا كما أنه إذا شرع حكما أو أمر أو نهى فهو كما قال عليه الصلاة والسلام

81 لا يفرق في ذلك بين ما أخبره به الملك عن الله وبين ما نفث في روعه وألقى في نفسه أو رآه رؤية كشف واطلاع على مغيب على وجه خارق للعادة أو كيف ما كان فذلك معتبر يحتج به ويبنى عليه في الاعتقادات والأعمال جميعا لأنه مؤيد بالعصمة وما ينطق عن الهوى وهذا مبين في علم الكلام فلا نطول بالإحتجاج عليه ولكنا نمثله ثم نبني عليه ما أردنا بحول الله فمثاله قوله عليه الصلاة والسلام إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب فهذا بناء حكم على ما ألقى في النفس وقال عليه الصلاة والسلام أريت ليلة القدر ثم أيقظني بعض أهلي فنسيتها فالتمسوها في العشر الغوابر وفي حديث آخر آرى رؤياكم قد تواطت في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها

82 في السبع الأواخر فهذا بناء من النبي على رؤيا النوم ونحو ذلك وقع في بدء الأذان وهو أبلغ في المسألة عن عبد الله بن زيد قال لما أصبحنا أتينا رسول الله فأخبرته بالرؤيا فقال إن هذه لرؤيا حق الحديث إلى أن قال عمر بن الخطاب والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل الذي رأى قال فقال رسول الله فلله الحمد فذاك أثبت فحكم عليه الصلاة والسلام على الرؤيا بأنها حق وبنى عليها الحكم في ألفاظ الآذان وفي الصحيح صلى رسول الله يوما ثم انصرف فقال يا فلان ألا تحسن صلاتك ألا ينظر المصلي إذا صلى كيف يصلي فإنما يصلي لنفسه إني والله لأبصر من ورائي كما أبصر من بين يدي فهذا حكم امرئ بنى على الكشف ومن تتبع الأحاديث وجد أكثر من هذا فإذا تقرر هذا فلقائل أن يقول قد مر قبل هذا في كتاب المقاصد قاعدة بينت أن ما يخص رسول الله يخصنا وما يعمه يعمنا فإذا بنينا على ذلك فلكل من كان من أهل الكشف والاطلاع أن يحكم بمقتضى إطلاعة وكشفه ألا ترى إلى قضية أبي بكر الصديق مع بنته عائشة فيما نحلها إياه ثم

83 مرض قبل أن تقبضه قال فيه وإنما هما أخواك وأختاك فاقتسموه على كتاب الله قال فقلت يا أبت والله لو كان كذا وكذا لتركته إنما هي أسماء فمن الأخرى قال ذو بطن بنت خارجة أراها جارية وقضية عمر بن الخطاب في ندائه سارية وهو على المنبر فبنوا كما ترى على الكشف والاطلاع المعدود من الغيب وهو معتاد في أولياء الله تعالى وكتب العلماء مشحونة بأخبارهم فيه فيقتضى ذلك جريان الحكم وراثة عن النبي والجواب أن هذا السؤال هو فائدة هذه المسألة وبسببه جلبت هذه المقدمة وإن كان الكلام المتقدم في كتاب المقاصد كافيا ولكن نكتة المسألة هذا تقريرها فاعلم أن النبي مؤيد بالعصمة معضود بالمعجزة الدالة على صدق ما قال وصحة ما بين وأنت ترى الاجتهاد الصادر منه معصوما بلا خلاف إما بأنه لا يخطىء ألبتة وإما بأنه لا يقر على خطأ إن فرض فما ظنك بغير ذلك فكل ما حكم به أو أخبر عنه من جهة رؤيا نوم أو رؤية كشف مثل ما حكم به مما ألقى إليه الملك عن الله عز وجل وأما أمته فكل واحد منهم غير معصوم بل يجوز عليه الغلط والخطأ والنسيان ويجوز أن تكون رؤياه حلما وكشفه

84 غير حقيقي وإن تبين في الوجود صدقة واعتيد ذلك فيه وأطرد فإمكان الخطأ والوهم باق وما كان هذا شأنه لم يصح أن يقطع به حكم وأيضا فإن كان مثل هذا معدودا في الاطلاع الغيبي فالآيات والأحاديث تدل على أن الغيب لا يعلمه إلا الله كما في الحديث من قوله عليه الصلاة والسلام في خمس لا يعلمهن إلا الله ثم تلا إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث إلى آخر السورة وقال في الآية الأخرى وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو واستثنى المرسلين في الآية الأخرى بقوله عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول الآية فبقى من عداهم على الحكم الأول وهو امتناع علمه وقال تعالى وما كان الله ليطلعكم على الغيب الآية وقال قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله وفي حديث عائشة ومن زعم أن محمدا يعلم ما في غد فقد أعظم الفرية على الله وقد تعاضدت الآيات والأخبار وتكررت في أنه لا يعلم الله وهو يفيد صحة العموم من تلك الظواهر حسبما مر في باب العموم من هذا الكتاب فإذا كان كذلك خرج من سوى الأنبياء من أن يشتركوا مع الأنبياء صلوات الله عليهم في العلم بالمغيبات

85 وما ذكر قبل عن الصحابة أو ما يذكر عنهم بسند صحيح فمما لا ينبني عليه حكم إذ لم يشهد له رسول الله ووقوعه على حسب ما أخبروا هو مما يظن بهم ولكنهم لا يعاملون أنفسهم إلا بأمر مشترك لجميع الأمة وهو جواز الخطأ لذلك قال أبو بكر أراها جارية فأتى بعبارة الظن التى لا تفيد حكما وعبارة يا سارية الجبل مع أنها إن صحت لا تفيد حكما شرعيا هي أيضا لا تفيد أن كل ما سواها مثلها وإن سلم فلخاصية أن الشيطان كان يفر منه فلا يطور حول حمى أحواله التى أكرمه الله بها بخلاف غيره فإذا لاح لأحد من أولياء الله شيء من أحوال الغير فلا يكون على علم منها محقق لاشك فيه بل على الحال التى يقال فيها أرى أو أظن فإذا وقع مطابقا في الوجود وفرض تحققه بجهة المطابقة أولا والاطراد ثانيا فلا يبقى للإخبار به بعد ذلك حكم لأنه صار من باب الحكم على الواقع فاستوت الخارقة وغيرها نعم تفيد الكرامات والخوارق لأصحابها يقينا وعلما بالله تعالى وقوة فيما هم عليه وهو غير ما نحن فيه ولا يقال إن الظن أيضا معتبر شرعا في الأحكام الشرعية كالمستفاد من أخبار الأحاد والقياس وغيرهما وما نحن فيه إن سلم أنه لا يفيد علما مع الاطراد والمطابقة فإنه يفيد ظنا فيكون معتبرا

86 لأنا نقول ما كان من الظنون معتبرا شرعا فلاستناده إلى أصل شرعي حسبما تقدم في موضعه من هذا الكتاب وما نحن فيه لم يستند إلى أصل قطعي ولا ظني هذا وإن كان النبي ثبت ذلك بالنسبة إليه فلا يثبت بالنسبة إلينا لفقد الشرط وهو العصمة وإذا امتنع الشرط امتنع المشروط باتفاق العقلاء

87 كتاب الاجتهاد وهو القسم الخامس من الموافقات

88 كتاب الاجتهاد وهو القسم الخامس من الموافقات

89 بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم كتاب الاجتهاد وللنظر فيه أطراف أ طرف يتعلق بالمجتهد من جهة الإجتهاد ب وطرف يتعلق بفتواه ج وطرف يتعلق النظر فيه بإعمال قوله والإقتداء به فأما الأول ففيه مسائل المسألة الأولى الاجتهاد على ضربين أحدهما لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع أصل التكليف وذلك عند قيام الساعة والثاني يمكن أن ينقطع قبل فناء الدنيا فأما الأول فهو الاجتهاد المتعلق بتحقيق المناط وهو الذى لا خلاف

90 بين الأمة في قبوله ومعناه أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي لكن يبقى النظر في تعيين محله وذلك أن الشارع إذا قال وأشهدوا ذوى عدل منكم وثبت عندنا معنى العدالة شرعا افتقرنا إلى تعيين من حصلت فيه هذه الصفة وليس الناس في وصف العدالة على حد سواء بل ذلك يختلف اختلافا متباينا فإنا إذا تأملنا العدول وجدنا لاتصافهم بها طرفين وواسطة طرف أعلى في العدالة لا إشكال فيه كأبي بكر الصديق وطرف آخر وهو أول درجة في الخروج عن مقتضى الوصف كالمجاوز لمرتبة الكفر إلى الحكم بمجرد الإسلام فضلا عن مرتكبي الكبائر المحدودين فيها وبينهما مراتب لا تنحصر وهذا الوسط غامض لا بد فيه من بلوغ حد الوسع وهو الاجتهاد فهذا مما يفتقر إليه الحاكم في كل شاهد كما إذا أوصى بماله للفقراء فلا شك

91 أن من الناس من لا شئ له فيتحقق فيه اسم الفقر فهو من أهل الوصية ومنهم من لا حاجة به ولا فقر وإن لم يملك نصابا وبينهما وسائط كالرجل يكون له الشئ ولا سعة له فينظر فيه هل الغالب عليه حكم الفقر أو حكم الغنى وكذلك في فرض نفقات الزوجات والقرابات إذ هو مفتقر إلى النظر في حال المنفق عليه والمنفق وحال الوقت إلى غير ذلك من الأمور التى لا تنضبط بحصر ولا يمكن استيفاء القول في آحادها فلا يمكن أن يستغنى ها هنا بالتقليد لأن التقليد إنما يتصور بعد تحقيق مناط الحكم المقلد فيه والمناط هنا لم يتحقق بعد لأن كل صورة من صوره النازلة نازلة مستأنفة في نفسها لم يتقدم لها نظير وإن

92 تقدم لها في نفس الأمر فلم يتقدم لنا فلا بد من النظر فيها بالإجتهاد وكذلك إن فرضنا أنه تقدم لنا مثلها فلا بد من النظر في كونها مثلها أولا وهو نظر اجتهاد أيضا وكذلك القول فيما فيه حكومة من أروش الجنايات وقيم المتلفات ويكفيك من ذلك أن الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حدتها وإنما أتت بأمور كلية وعبارات مطلقة تتناول أعدادا لا تنحصر ومع ذلك فلكل معين خصوصية ليست في غيره ولو في نفس التعيين وليس ما به الامتياز معتبرا في الحكم بإطلاق ولا هو طردي بإطلاق بل ذلك منقسم إلى الضربين وبينهما قسم ثالث يأخذ بجهة من الطرفين فلا يبقى صورة من الصور الوجودية المعينة إلا وللعالم فيها نظر سهل أو صعب حتى يحقق تحت أي دليل تدخل فإن أخذت بشبه من الطرفين فالأمر أصعب وهذا كله بين لمن شدا في العلم ومن القواعد القضائية البينة على المدعي واليمين على من أنكر فالقاضي لا يمكنه الحكم في واقعه بل لا يمكنه توجيه الحجاج ولا طلب الخصوم بما عليهم إلا بعد فهم المدعي من المدعى عليه وهو أصل القضاء ولا يتعين ذلك إلا

93 بنظر واجتهاد ورد الدعاوى إلى الأدلة وهو تحقيق المناط بعينه فالحاصل أنه لا بد منه بالنسبة إلى كل ناظر وحاكم ومفت بل بالنسبة إلى كل مكلف في نفسه فإن العامي إذا سمع في الفقه أن الزيادة الفعلية في الصلاة سهوا من غير جنس أفعال الصلاة أو من جنسها إن كانت يسيرة فمغتفرة وإن كانت كثيرة فلا فوقعت له في صلاته زيادة فلا بد له من النظر فيها حتى يردها إلى أحد القسمين ولا يكون ذلك إلا باجتهاد ونظر فإذا تعين له قسمها تحقق له مناط الحكم فأجراه عليه وكذلك سائر تكليفاته ولو فرض ارتفاع هذا الاجتهاد لم تتنزل الأحكام الشرعية على أفعال المكلفين إلا في الذهن لأنها مطلقات وعمومات وما يرجع إلى ذلك منزلات على أفعال مطلقات كذلك والأفعال لا تقع في الوجود مطلقة وإنما تقع معينة مشخصة فلا يكون الحكم واقعا عليها إلا بعد المعرفة بأن هذا المعين يشمله ذلك المطلق أو ذلك العام وقد يكون ذلك سهلا وقد لا يكون وكله اجتهاد وقد يكون من هذا القسم ما يصح فيه التقليد وذلك فيما اجتهد فيه الأولون من تحقيق المناط إذا كان متوجها على الأنواع لا على الأشخاص المعينة كالمثل في جزاء الصيد فإن الذى جاء في الشريعة قوله تعالى فجزاء مثل ما قتل من النعم وهذا ظاهر في اعتبار المثل إلا أن المثل لا بد من تعيين نوعه وكونه مثلا لهذا النوع المقتول ككون الكبش مثلا للضبع والعنز مثلا للغزال والعناق مثلا للأرنب والبقرة مثلا للبقرة الوحشية والشاة مثلا للشاة من الظباء

94 وكذلك الرقبة الواجبة في عتق الكفارات والبلوغ في الغلام والجارية وما أشبه ذلك ولكن هذا الاجتهاد في الأنواع لا يغني عن الاجتهاد في الأشخاص المعينة فلا بد من هذا الاجتهاد في كل زمان إذ لا يمكن حصول التكليف

95 إلا به فلو فرض التكليف مع إمكان ارتفاع هذا الاجتهاد لكان تكليفا بالمحال وهو غير ممكن شرعا كما أنه غير ممكن عقلا وهو أوضح دليل في المسألة وأما الضرب الثاني وهو الاجتهاد الذي يمكن أن ينقطع فثلاثة أنواع أحدها المسمى بتنقيح المناط وذلك أن يكون الوصف المعتبر في الحكم مذكورا مع غيره في النص فينقح بالاجتهاد حتى يميز ما هو معتبر مما هو ملغي كما جاء في حديث الأعرابي الذى جاء ينتف شعره ويضرب صدره وقد قسمه الغزالي إلى أقسام ذكرها في شفاء الغليل وهو مبسوط في كتب الأصول

96 قالوا وهو خارج عن باب القياس ولذلك قال به أبو حنيفة مع إنكاره القياس في الكفارات وإنما هو راجع إلى نوع من تأويل الظواهر والثاني المسمى بتخريج المناط وهو راجع إلى أن النص الدال على الحكم لم يتعرض للمناط فكأنه أخرج بالبحث وهو الاجتهاد القياسي وهو معلوم والثالث هو نوع من تحقيق المناط المتقدم الذكر لأنه ضربان

97 أحدهما ما يرجع إلى الأنواع لا إلى الأشخاص كتعين نوع المثل في جزاء الصيد ونوع الرقبة في العتق في الكفارات وما أشبه ذلك وقد تقدم التنبيه عليه والضرب الثاني ما يرجع إلى تحقيق مناط فيما تحقق مناط حكمه فكأن تحقيق المناط على قسمين تحقيق عام وهو ما ذكر وتحقيق خاص من ذلك العام وذلك أن الأول نظر في تعيين المناط من حيث هو لمكلف ما فإذا نظر المجتهد في العدالة مثلا ووجد هذا الشخص متصفا بها على حسب ما ظهر له أوقع عليه ما يقتضيه النص من التكاليف المنوطة بالعدول من الشهادات والانتصاب للولايات العامة أو الخاصة وهكذا إذا نظر في الأوامر والنواهي الندبية والأمور الإباحية ووجد المكلفين والمخاطبين على الجملة أوقع عليهم أحكام تلك النصوص كما يوقع عليهم نصوص الواجبات والمحرمات من غير التفات إلى شيء غير القبول المشروط بالتهيئة الظاهرة فالمكلفون كلهم في أحكام تلك النصوص على سواء في هذا النظر أما الثاني وهو النظر الخاص فأعلى من هذا وأدق وهو في الحقيقة ناشىء عن نتيجة التقوى المذكورة في قوله تعالى إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا وقد يعبر عنه بالحكمة ويشير إليها قوله تعالى يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا قال مالك من شأن ابن آدم أن لا يعلم ثم يعلم أما سمعت قول الله تعالى إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا وقال أيضا إن الحكمة مسحة ملك على قلب العبد وقال الحكمة نور يقذفه الله في قلب

98 العبد وقال أيضا يقع بقلبي أن الحكمة الفقه في دين الله وأمر يدخله الله القلوب من رحمته وفضله وقد كره مالك كتابة العلم يريد ما كان نحو الفتاوي فسئل ما الذي نصنع فقال تحفظون وتفهمون حتى تستنير قلوبكم ثم لا تحتاجون إلى الكتاب وعلى الجملة فتحقيق المناط الخاص نظر في كل مكلف بالنسبة إلى ما وقع عليه من الدلائل التكليفية بحيث يتعرف منه مداخل الشيطان ومداخل الهوى والحظوظ العاجلة حتى يلقيها هذا المجتهد على ذلك المكلف مقيدة بقيود التحرز من تلك المداخل هذا بالنسبة إلى التكليف المنحتم وغيره ويختص غير المنحتم بوجه آخر وهو النظر فيما يصلح بكل مكلف في نفسه بحسب وقت دون وقت وحال دون حال وشخص دون شخص إذ النفوس ليست في قبول الأعمال الخاصة على وزان واحد كما أنها في العلوم والصنائع كذلك فرب عمل صالح يدخل بسببه على رجل ضرر أو فترة ولا يكون كذلك بالنسبة إلى آخر ورب عمل يكون حظ النفس والشيطان فيه بالنسبة إلى العامل أقوى منه في عمل آخر ويكون بريئا من ذلك في بعض الأعمال دون بعض فصاحب هذا التحقيق الخاص هو الذي رزق نورا يعرف به النفوس ومراميها وتفاوت إدراكها وقوة تحملها للتكاليف وصبرها على حمل أعبائها أو ضعفها ويعرف التفاتها إلى الحظوظ العاجلة أو عدم التفاتها فهو يحمل على كل نفس من أحكام النصوص ما يليق بها بناء على أن ذلك هو المقصود الشرعي في تلقي التكاليف فكأنه يخص عموم المكلفين والتكاليف بهذا التحقيق لكن مما

99 ثبت عمومه في التحقيق الأول العام ويقيد به ما ثبت إطلاقه في الأول أو يضم قيدا أو قيودا لما ثبت له في الأول بعض القيود هذا معنى تحقيق المناط هنا وبقي الدليل على صحة هذا الاجتهاد فإن ما سواه قد تكفل الأصوليون ببيان الدلالة عليه وهو داخل تحت عموم تحقيق المناط فيكون مندرجا تحت مطلق الدلالة عليه ولكن إن تشوف أحد إلى خصوص الدلالة عليه فالأدلة عليه كثيرة نذكر منها ما تيسر بحول الله فمن ذلك أن النبي سئل في أوقات مختلفة عن أفضل الأعمال وخير الأعمال وعرف بذلك في بعض الأوقات من غير سؤال فأجاب بأجوبة مختلفة كل واحد منها لو حمل على إطلاقه أو عمومه لاقتضى مع غيره التضاد في التفصيل ففي الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام سئل أي الأعمال أفضل قال إيمان بالله قال ثم ماذا قال الجهاد في سبيل الله قال ثم ماذا قال حج مبرور وسئل عليه الصلاة والسلام أي الأعمال أفضل قال الصلاة لوقتها قال ثم أي قال بر الوالدين قال ثم أي قال الجهاد في سبيل الله وفي النسائي عن أبي إمامة قال أتيت النبي فقلت مرني بأمر آخذه عنك قال عليك بالصوم فإنه لا مثل له وفي الترمذي أي الأعمال أفضل درجة عند الله يوم القيامة قال الذاكرون الله كثيرا والذاكرات وفي الصحيح في قول لا إله إلا الله وحده لا شريك له الخ

100 قال ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به الحديث وفي النسائي ليس شيء أكرم على الله من الدعاء وفي البزار أي العبادة أفضل قال دعاء المرء لنفسه وفي الترمذي ما من شيء أفضل في ميزان العبد المؤمن يوم القيامة من خلق حسن وفي البزار يا أبا ذر ألا أدلك على خصلتين هما خفيفتان على الظهر وأثقل في الميزان من غيرهما عليك بحسن الخلق وطول الصمت فوالذي نفسي بيده ما عمل الخلائق بمثلهما وفي مسلم أي المسلمين خير قال من سلم المسلمون من لسانه ويده وفيه سئل أي الإسلام خير قال تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف وفي الصحيح وما أعطى أحد عطاء هو خير وأوسع من الصبر وفي الترمذي خيركم من تعلم القرآن وعلمه وفيه أفضل العبادة انتظار الفرج إلى أشياء من هذا النمط جميعها يدل على أن التفضيل ليس بمطلق ويشعر إشعارا ظاهرا بأن القصد إنما هو بالنسبة إلى الوقت أو إلى حال السائل وقد دعا عليه السلام لأنس بكثرة المال فبورك له فيه وقال لثعلبة بن حاطب حين سأله الدعاء له بكثرة المال قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه وقال لأبي ذر يا أبا ذر إني أراك ضعيفا وإني أحب لك

101 ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم ومعلوم أن كلا العملين من أفضل الأعمال لمن قام فيه بحق الله وقد قال في الإمارة والحكم إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن الحديث وقال أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة ثم نهاه عنهما لما علم له خصوصا في ذلك من الصلاح وفي أحكام إسماعيل بن اسحاق عن ابن سيرين قال كان أبو بكر يخافت وكان عمر يجهر يعني في الصلاة فقيل لأبي بكر كيف تفعل قال أناجي ربي وأتضرع إليه وقيل لعمر كيف تفعل قال أوقظ الوسنان وأخسأ الشيطان وأرضي الرحمن فقيل لأبي بكر ارفع شيئا وقيل لعمر اخفض شيئا وفسر بأنه عليه الصلاة والسلام قصد إخراج كل واحد منهما عن اختياره وإن كان قصده صحيحا وفي الصحيح أن ناسا جاؤا إلى النبي فقالوا إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به قال وقد وجدتموه قالوا نعم قال ذلك صريح الإيمان وفي حديث آخر من وجد من ذلك شيئا فليقل آمنت بالله وعن ابن عباس في مثله قال إذا وجدت شيئا من ذلك

102 فقل هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم فأجاب النبي عليه الصلاة والسلام بأجوبة مختلفة وأجاب ابن عباس بأمر آخر والعارض من نوع واحد وفي الصحيح إني أعطي الرجل وغيره أحب إلي منه مخافة أن يكبه الله في النار وآثر عليه الصلاة والسلام في بعض الغنائم قوما ووكل قوما إلى إيمانهم لعلمه بالفريقين وقبل عليه الصلاة والسلام من أبي بكر ماله كله وندب غيره إلى استبقاء بعضه وقال أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك وجاء آخر بمثل البيضة من الذهب فردها في وجهه وقال علي حدثوا الناس بما يفهمون أتريدون أن يكذب الله ورسوله فجعل إلقاء العلم مقيدا فرب مسألة تصلح لقوم دون لقوم وقد قالوا في الرباني إنه الذي يعلم بصغار العلم قبل كباره فهذا الترتيب من ذلك وروى عن الحرث ابن يعقوب قال الفقيه كل الفقيه من فقه في القرآن وعرف مكيدة الشيطان

103 فقوله وعرف مكيدة الشيطان هو النكتة في المسألة وعن أبي رجاء العطاردي قال قلت لزبير بن العوام مالي أراكم يا أصحاب محمد من أخف الناس صلاة قال نبادر الوسواس هذا مع أن التطويل مستحب ولكن جاء ما يعارضه ومثله حديث أفتان أنت يا معاذ ولو تتبع هذا النوع لكثر جدا ومنه ما جاء عن الصحابة والتابعين وعن الأئمة المتقدمين وهو كثير وتحقيق المناط في الأنواع واتفاق الناس عليه في الجملة مما يشهد له كما تقدم وقد فرع العلماء عليه كما قالوا في قوله تعالى إنما جزاء الذي يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا الآية إن الآية تقتضي مطلق التخيير ثم رأوا أنه مقيد بالاجتهاد فالقتل في موضع والصلب في موضع والقطع في موضع والنفي في موضع وكذلك التخيير في الأسارى من الفن والفداء وكذلك جاء في الشريعة الأمر بالنكاح وعدوه من السنن ولكن قسموه إلى الأحكام الخمسة ونظروا في ذلك في حق كل مكلف وإن كان نظرا نوعيا فإنه لا يتم إلا بالنظر الشخصي فالجميع في معنى واحد والاستدلال على الجميع واحد ولكن قد يستبعد ببادىء الرأي وبالنظر الأول حتى يتبين مغزاة ومورده من الشريعة وما تقدم وأمثاله كاف مفيد للقطع بصحة هذا الاجتهاد وإنما وقع التنبيه عليه لأن العلماء قلما نبهوا عليه على الخصوص وبالله التوفيق فإن قيل كيف تصح دعوى التفرقة بين هذا الاجتهاد المستدل عليه

104 وغيره من أنواع الاجتهاد مع أنهما في الحكم سواء لأنه إن كان غير منقطع فغيره كذلك إذ لا يخلو أن يراد بكونه غير منقطع أنه لا يصح ارتفاعه لا بالكلية ولا بالجزئية وعلى كل تقدير فسائر أنواع الاجتهاد كذلك أما الأول فلأن الوقائع في الوجود لا تنحصر فلا يصح دخولها تحت الأدلة المنحصرة ولذلك احتيج إلى فتح باب الاجتهاد من القياس وغيره فلا بد من حدوث وقائع لا تكون منصوصا على حكمها ولا يوجد للأولين فيها اجتهاد وعند ذلك فإما أن يترك الناس فيها مع أهوائهم أو ينظر فيها بغير اجتهاد شرعي وهو أيضا اتباع للهوى وذلك كله فساد فلا يكون بد من التوقف لا إلى غاية وهو معنى تعطيل التكليف لزوما وهو مؤد إلى تكليف ما لا يطاق فإذا لا بد من الاجتهاد في كل زمان لأن الوقائع المفروضة لا تختص بزمان دون زمان وأما الثاني فباطل إذ لا يتعطل مطلق التكليف بتعذر الاجتهاد في بعض الجزئيات فيمكن ارتفاعه في هذا النوع الخاص وفى غيره فلم يظهر بين الاجتهادين فرق

105 فالجواب أن الفرق بينهما ظاهر من جهة أن هذا النوع الخاص كلي في كل زمان عام في جميع الوقائع أو أكثرها فلو فرض ارتفاعه لا ارتفع معظم التكليف الشرعي أو جميعه وذلك غير صحيح لأنه إن فرض في زمان ما ارتفعت الشريعة ضربة لازب بخلاف غيره فإن الوقائع المتجددة التى لا عهد بها في الزمان المتقدم قليلة بالنسبة إلى ما تقدم لاتساع النظر والاجتهاد من المتقدمين فيمكن تقليده فيه لأنه معظم الشريعة فلا تتعطل الشريعة بتعطل بعض الجزئيات كما لو فرض العجز عند تحقيق المناط في بعض الجزئيات دون السائر فإنه لا ضرر على الشريعة في ذلك فوضح أنهما ليسا سواء والله أعلم المسألة الثانية إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين أحدهما فهم

106 مقاصد الشريعة على كمالها والثاني التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها أما الأول فقد مر في كتاب المقاصد أن الشريعة مبنية على اعتبار المصالح وأن المصالح إنما اعتبرت من حيث وضعها الشارع كذلك لا من حيث إدراك المكلف إذ المصالح تختلف عند ذلك بالنسب والإضافات واستقر بالاستقراء التام أن المصالح على ثلاث مراتب فإذا بلغ الإنسان مبلغا فهم عن الشارع فيه قصده في كل مسألة من مسائل الشريعة وفي كل باب من أبوابها فقد حصل

107 له وصف هو السبب في تنزله منزلة الخليفة للنبي في التعليم والفتيا والحكم بما أراه الله وأما الثاني فهو كالخادم للأول فإن التمكن من ذلك إنما هو بواسطة معارف محتاج إليها في فهم الشريعة أولا ومن هنا كان خادما للأول وفي استنباط الأحكام ثانيا لكن لا تظهر ثمرة الفهم إلا في الاستنباط فلذلك جعل شرطا ثانيا وإنما كان الأول هو السبب في بلوغ هذه المرتبة لأنه المقصود والثاني وسيلة لكن هذه المعارف تارة يكون الإنسان عالما بها مجتهدا فيها وتارة يكون حافظا لها متمكنا من الاطلاع على مقاصدها غير بالغ رتبة الاجتهاد فيها وتارة يكون غير حافظ ولا عارف إلا أنه عالم بغايتها وأن له افتقارا إليها في مسألته التى

108 يجتهد فيها فهو بحيث إذا عنت له مسألة ينظر فيها زاول أهل المعرفة بتلك المعارف المتعلقة بمسألته فلا يقضي فيها إلا بمشورتهم وليس بعد هذه المراتب الثلاث مرتبة يعتد بها في نيل المعارف المذكورة فإن كان مجتهدا فيها كما كان مالك في علم الحديث والشافعي في علم الأصول فلا إشكال وإن كان متمكنا من الاطلاع على مقاصدها كما قالوا في الشافعي وأبي حنيفة في علم الحديث فكذلك أيضا لا إشكال في صحة اجتهاده وإن كان القسم الثالث فإن تهيأ له الاجتهاد في استنباط الأحكام مع كون المجتهد في تلك المعارف كذلك فكالثاني وإلا فكالعدم فصل وقد حصل من هذه الجملة أنه لا يلزم المجتهد في الأحكام الشرعية أن يكون

109 مجتهدا في كل علم يتعلق به الاجتهاد على الجملة بل الأمر ينقسم فإن كان ثم علم لا يمكن أن يحصل وصف الاجتهاد بكنهه إلا من طريقة فلا بد أن يكون من أهله حقيقة حتى يكون مجتهدا فيه وما سوى ذلك من العلوم فلا يلزم ذلك فيه وإن كان العلم به معينا فيه ولكن لا يخل التقليد فيه بحقيقة الاجتهاد فهذه ثلاثة مطالب لا بد من بيانها أما الأول وهو أنه لا يلزم أن يكون مجتهدا في كل علم يتعلق به الاجتهاد على الجملة فالدليل عليه أمور أحدها أنه لو كان كذلك لم يوجد مجتهد إلا في الندرة ممن سوى الصحابة ونحن نمثل بالأئمة الأربعة فالشافعي عندهم مقلد في الحديث لم يبلغ درجة الاجتهاد في انتقاده ومعرفته وأبو حنيفة كذلك وإنما عدوا من أهله مالكا وحده وتراه في الأحكام يحيل على غيره كأهل التجارب والطب والحيض وغير ذلك ويبني الحكم على ذلك والحكم لا يستقل دون ذلك الاجتهاد ولو كان مشترطا في المجتهد الاجتهاد في كل ما يفتقر إليه الحكم لم يصح لحاكم أن ينتصب للفصل بين الخصوم حتى يكون مجتهدا في كل ما يفتقر إليه الحكم الذي يوجهه على المطلوب للطالب وليس الأمر كذلك بالإجماع

110 والثاني أن الاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية علم مستقل بنفسه ولا يلزم في كل علم أن تبرهن مقدماته فيه بحال بل يقول العلماء أن من فعل ذلك فقد أدخل في علمه علما آخر ينظر فيه بالعرض لا بالذات فكما يصح للطبيب أن يسلم من العلم الطبيعي أن الإسطقصات أربعة وأن مزاج الإنسان أعدل الأمزجة فيما يليق أن يكون عليه مزاج الإنسان وغير ذلك من المقدمات كذلك يصح أن يسلم المجتهد من القارئ أن قوله تعالى وامسحوا برءوسكم وأرجلكم بالخفض مروئ على الصحة ومن المحدث أن الحديث الفلاني

111 صحيح أو سقيم ومن عالم الناسخ والمنسوخ أن قوله كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية منسوخ بآية المواريث ومن اللغوي أن القرء يطلق على الطهر والحيض وما أشبه ذلك ثم يبنى عليه الأحكام بل براهين الهندسة في أعلى مراتب اليقين وهى مبنية على مقدمات مسلمة في علم آخر مأخوذة في علم الهندسة على التقليد وكذلك العدد وغيره من العلوم اليقينية ولم يكن ذلك قادحا في حصول اليقين للمهندس أو الحاسب في مطالب علمه وقد أجاز النظار وقوع الاجتهاد في الشريعة من الكافر المنكر لوجود الصانع والرسالة والشريعة إذ كان الاجتهاد إنما ينبني على مقدمات تفرض صحتها كانت كذلك في نفس الأمر أولا وهذا أوضح من إطناب فيه فلا يقال إن المجتهد إذا لم يكن عالما بالمقدمات التى يبنى عليها لا يحصل له العلم بصحة اجتهاده

112 لأنا نقول بل يحصل له العلم بذلك لأنه مبني عل فرض صحة تلك المقدمات وبرهان الخلف مبني على مقدمات باطلة في نفس الأمر تفرض صحيحة فيبني عليها فيفيد البناء عليها العلم بالمطلوب فمسألتنا كذلك والثالث أن نوعا من الاجتهاد لا يفتقر إلى شيء من تلك العلوم أن يعرفه فصلا أن يكون مجتهدا فيه وهو الاجتهاد في تنقيح المناط وإنما يفتقر إلى

113 الاطلاع على مقاصد الشريعة خاصة وإذا ثبت نوع من الاجتهاد دون الاجتهاد في تلك المعارف ثبت مطلق الاجتهاد بدونه هو المطلوب فإن قيل إن جاز أن يكون مقلدا في بعض ما يتعلق بالاجتهاد لم تصف له مسألة معلومة فيه لأن مسألة يقلد في بعض مقدماتها لا تكون مجتهدا فيها بإطلاق فلم يمكن أن يوصف صاحبها بصفة الاجتهاد بإطلاق وكلامنا إنما هو في مجتهد يعتمد على اجتهاده بإطلاق ولا يكون كذلك مع تقليده في بعض المعارف المبني عليها فالجواب أن ذلك شرط في العلم بمسألة المجتهد فيها بإطلاق لا شرط في صحة الاجتهاد لأن تلك المعارف ليست جزءا من ماهية الاجتهاد وإنما الاجتهاد يتوصل إليه بها فإذا كانت محصلة بتقليد أو باجتهاد أو بفرض محال بحيث يفرض تسليم صاحب تلك المعارف المجتهد فيها ما حصل هذا ثم بنى عليه كان بناؤه صحيحا لأن الاجتهاد هو استفراغ الوسع في تحصيل العلم أو الظن بالحكم وهو لأنه على ما تقدم لا بد له من هذه المعارف كوسيلة إلى فهم مقاصد الشريعة على الأقل وإن لم يحتج إليها عند التخريج وإنما يصح ذلك إذا صح أن يأخذ مقاصد الشريعة تقليدا فتأمل

114 قد وقع ويبين ذلك ما تقدم في الوجه الثاني وأن العلماء الذين بلغوا درجة الاجتهاد عند عامة الناس كمالك والشافعي وأبي حنيفة كان لهم أتباع أخذوا عنهم وانتفعوا بهم وصاروا في عداد أهل الاجتهاد مع أنهم عند الناس مقلدون في الأصول لأئمتهم ثم اجتهدوا بناء على مقدمات مقلد فيها واعتبرت أقوالهم واتبعت آراؤهم وعمل على وفقها مع مخالفتهم لأئمتهم وموافقتهم فصار قول ابن القاسم أو قول أشهب أو غيرهما معتبرا في الخلاف على إمامهم كما كان أبو يوسف ومحمد بن الحسن مع أبي حنيفة والمزني والبويطي مع الشافعي فإذا لا ضرر على الاجتهاد مع التقليد في بعض القواعد المتعلقة بالمسألة المجتهد فيها وأما الثاني من المطالب وهو فرض علم تتوقف صحة الاجتهاد عليه فإن كان ثم علم لا يحصل الاجتهاد في الشريعة إلا بالاجتهاد فيه فهو بلا بد مضطر إليه لأنه إذا فرض كذلك لم يمكن في العادة الوصول إلى درجة الاجتهاد دونه فلا بد من تحصيله على تمامه وهو ظاهر إلا أن هذا العلم مبهم في الجملة فيسأل عن تعيينه والأقرب في العلوم إلى أن يكون هكذا علم اللغة العربية ولا أعني بذلك النحو وحده ولا التصريف وحده ولا اللغة ولا علم المعاني ولا غير ذلك من أنواع العلوم المتعلقة باللسان بل المراد جملة علم اللسان ألفاظ أو معاني كيف

115 تصورت ما عدا الغريب والتصريف المسمى بالفعل وما يتعلق بالشعر من حيث هو شعر كالعروض والقافية فإن هذا غير مفتقر إليه هنا وإن كان العلم به كمالا في العلم بالعربية وبيان تعين هذا العلم ما تقدم في كتاب المقاصد من أن الشريعة عربية وإذا كانت عربية فلا يفهمها حق الفهم إلا من فهم اللغة العربية حق الفهم لأنهما سيان في النمط ما عدا وجوه الإعجاز فإذا فرضنا مبتدئا في فهم العربية فهو مبتدئ في فهم الشريعة أو متوسطا فهو متوسط في فهم الشريعة والمتوسط لم يبلغ درجة النهاية فإن انتهى إلى درجة الغاية في العربية كان كذلك في الشريعة فكان فهمه فيها حجة كما كان فهم الصحابة وغيرهم من الفصحاء الذين فهموا القرآن حجة فمن لم يبلغ شأوهم فقد نقصه من فهم الشريعة بمقدار التقصير عنهم وكل من قصر فهمه لم يعد حجة ولا كان قوله فيها مقبولا فلا بد من أن يبلغ في العربية مبلغ الأئمة فيها كالخليل وسيبويه والأخفش والجرمي والمازني ومن سواهم وقد قال الجرمي أنا منذ ثلاثين سنة أفتي الناس

116 من كتاب سيبويه وفسروا ذلك بعد الاعتراف به بأنه كان صاحب حديث وكتاب سيبويه يتعلم منه النظر والتفتيش والمراد بذلك أن سيبويه وإن تكلم في النحو فقد نبه في كلامه على مقاصد العرب وأنحاء تصرفاتها في ألفاظها ومعانيها ولم يقتصر فيه على بيان أن الفاعل مرفوع والمفعول منصوب ونحو ذلك بل هو يبين في كل باب ما يليق به حتى إنه احتوى على علم المعاني والبيان ووجوه تصرفات الألفاظ والمعاني ومن هنالك كان الجرمي على ما قال وهو كلام يروى عنه في صدر كتاب سيبويه من غير إنكار ولا يقال إن الأصوليين قد نفوا هذه المبالغة في فهم العربية فقالوا ليس على الأصولي أن يبلغ في العربية مبلغ الخليل وسيبويه وأبي عبيدة والأصمعي الباحثين عن دقائق الإعراب ومشكلات اللغة وإنما يكفيه أن يحصل منها ما تتيسر به معرفة ما يتعلق بالأحكام بالكتاب والسنة لأنا نقول هذا غير ما تقدم تقريره وقد قال الغزالي في هذا الشرط إنه القدر الذي يفهم به خطاب العرب وعادتهم في الاستعمال حتى يميز بين صريح الكلام وظاهره ومجمله وحقيقته ومجازه وعامه وخاصه ومحكمه ومتشابهه ومطلقه ومقيده ونصه وفحواه ولحنه ومفهومه وهذا الذي اشترط لا يحصل إلا لمن بلغ في اللغة العربية درجة الاجتهاد ثم قال والتخفيف فيه لا يشترط أن يبلغ مبلغ الخليل والمبرد وأن يعلم جميع اللغة ويتعمق في النحو وهذا أيضا صحيح فالذي نفى اللزوم فيه ليس هو المقصود في الاشتراط وإنما المقصود تحرير الفهم

117 حتى يضاهي العربي في ذلك المقدار وليس من شرط العربي أن يعرف جميع اللغة ولا أن يستعمل الدقائق فكذلك المجتهد في العربية فكذلك المجتهد في الشريعة وربما يفهم بعض الناس أنه لا يشترط أن يبلغ مبلغ الخليل وسيبويه في الاجتهاد في العربية فيبني في العربية على التقليد المحض فيأتي في الكلام على مسائل الشريعة بما السكوت أولى به منه وإن كان مما تعقد عليه الخناصر جلالة في الدين وعلما في الأئمة المهتدين وقد أشار الشافعي في رسالته إلى هذا المعنى وأن الله خاطب العربي بكتابه بلسانها على ما تعرف من معانيها ثم ذكر مما يعرف من معانيها اتساع لسانها وأن تخاطب بالعام مرادا به ظاهره وبالعام يراد به العام ويدخله الخصوص ويستدل على ذلك ببعض ما يدخله في الكلام وبالعام يراد به الخاص ويعرف بالسياق وبالكلام ينبنئ أوله عن آخره وآخره عن أوله وأن تتكلم بالشيء تعرفه بالمعنى دون اللفظ كما تعرف بالإشارة وتسمى الشيء الواحد بالأسماء الكثيرة والمعاني الكثيرة بالاسم الواحد ثم قال فمن جهل هذا من لسانها وبلسانها نزل الكتاب وجاءت به السنة فتكلف القول في علمها تكلف ما يجهل بعضه ومن تكلف ما جهل وما لم يثبته معرفة كانت موافقة الصواب إن وافقه من حيث لا يعرفه غير محمودة وكان بخطئه غير معذور إذا نطق فيما لا يحيط عليه بالفرق بين الصواب والخطأ فيه هذا قوله وهو الحق الذي لا محيص عنه وغالب ما صنف في أصول الفقه من الفنون إنما هو من المطالب العربية التى تكفل المجتهد فيها بالجواب عنها وما سواها من المقدمات فقد يكفي فيه التقليد كالكلام في الأحكام تصورا

118 وتصديقا كأحكام النسخ وأحكام الحديث وما أشبه ذلك فالحاصل أنه لا غنى بالمجتهد في الشريعة عن بلوغ درجة الاجتهاد في كلام العرب بحيث يصير فهم خطابها له وصفا غير متكلف ولا متوقف فيه في الغالب إلا بمقدار توقف الفطن لكلام اللبيب وأما الثالث من المطالب وهو أنه لا يلزم في غير العربية من العلوم أن يكون المجتهد عالما بها فقد مر ما يدل عليه فإن المجتهد إذا بنى اجتهاده على التقليد في بعض المقدمات السابقة عليه فذلك لا يضره في كونه مجتهدا في عين مسألته كالمهندس إذا بنى بعض براهينه على صحة وجود الدائرة مثلا فلا يضره في صحة برهانه تقليده لصاحب ما بعد الطبيعة وهو المبرهن على وجودها وإن كان المهندس لا يعرف ذلك بالبرهان وكما قالوا في تقليد الشافعي في علم الحديث ولم يقدح ذلك في صحة اجتهاده بل كما يبني القاضي في تغريم قيمة المتلف على اجتهاد المقوم للسلع وإن لم يعرف هو ذلك ولا يخرجه ذلك عن درجة الاجتهاد وكما بنى مالك أحكام الحيض والنفاس على ما يعرفه النساء من عاداتهن وإن كان هو غير عارف به وما أشبه ذلك المسألة الثالثة الشريعة كلها ترجع إلى قول واحد في فروعها وإن كثر الخلاف كما أنها في أصولها كذلك ولا يصلح فيها غير ذلك والدليل عليه أمور أحدها أدلة القرآن من ذلك قوله تعالى ولو كان من عند غير الله

119 لوجدوا فيه اختلافا كثيرا فنفى أن يقع فيه الاختلاف ألبتة ولو كان فيه ما يقتضي قولين مختلفين لم يصدق عليه هذا الكلام على حال وفي القرآن فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول الآية وهذه الآية صريحة في رفع التنازع والاختلاف فإنه رد المتنازعين إلى الشريعة وليس ذلك إلا ليرتفع الاختلاف ولا يرتفع الاختلاف إلا بالرجوع إلا شيء واحد إذ لو كان فيه ما يقتضي الاختلاف لم يكن في الرجوع إليه رفع تنازع وهذا باطل وقال تعالى ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات

120 الآية والبينات هي الشريعة فلولا أنها لا تقتضي الاختلاف ولا تقبله ألبتة لما قيل لهم من بعد كذا ولكان لهم فيها أبلغ العذر وهذا غير صحيح فالشريعة لا اختلاف فيها وقال تعالى وأن هذا صراطى مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله فبين أن طريق الحق واحد وذلك عام في جملة الشريعة وتفاصيلها وقال تعالى كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ولا يكون حاكما بينهم إلا مع كونه قولا واحدا فصلا بين المختلفين وقال شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا الآية إلى قوله ولا تتفرقوا فيه ثم ذكر بني إسرائيل وحذر الأمة أن يأخذوا بسنتهم فقال وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم وقال تعالى ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفى شقاق بعيد والآيات في ذم الاختلاف والأمر بالرجوع إلى الشريعة كثير كله قاطع في أنها لا اختلاف فيها وإنما هي على مأخذ واحد وقول واحد قال المزني صاحب الشافعي ذم الله الاختلاف وأمر عنده بالرجوع إلى الكتاب والسنة والثاني أن عامة أهل الشريعة أثبتوا في القرآن والسنة الناسخ والمنسوخ

121 على الجملة وحذروا من الجهل به والخطأ فيه ومعلوم أن الناسخ والمنسوخ إنما هو فيما بين دليلين يتعارضان بحيث لا يصح اجتماعهما بحال وإلا لما كان أحدهما ناسخا والآخر منسوخا والفرض خلافة فلو كان الاختلاف من الدين لما كان لإثبات الناسخ والمنسوخ من غير نص قاطع فيه فائدة ولكان الكلام في ذلك كلاما فيما لا يجنى ثمرة إذ كان يصح العمل بكل واحد منهما ابتداء ودواما استنادا إلى أن الاختلاف أصل من أصول الدين لكن هذا كله باطل بإجماع فدل على أن الاختلاف لا الأصل له في الشريعة وهكذا القول في كل دليل مع معارضه كالعموم والخصوص والإطلاق والتقييد وما أشبه ذلك فكانت تنخرم هذه الأصول كلها وذلك فاسد فما أدى إليه مثله والثالث أنه لو كان في الشريعة مساغ للخلاف لأدى إلى تكليف ما لا يطاق لأن الدليلين إذا فرضنا تعارضهما وفرضناهما مقصودين معا للشارع فإما أن يقال إن المكلف مطلوب بمقتضاها أولا أو مطلوب بأحدهما دون الآخر والجميع غير صحيح فالأول يقتضي افعل لا تفعل لمكلف واحد من وجه واحد وهو عين التكليف بما لا يطاق والثاني باطل لأنه خلاف

122 الفرض وكذلك الثالث إذ كان الفرض توجه الطلب بهما فلم يبق إلا الأول فيلزم منه ما تقدم لا يقال إن الدليلين بحسب شخصين أو حالين لأنه خلاف الفرض وهو أيضا قول واحد لا قولان لأنه إذا انصرف كل دليل إلى جهة لم يكن ثم اختلاف وهو المطلوب والرابع أن الأصوليين اتفقوا على إثبات الترجيح بين الأدلة المتعارضة إذا لم يمكن الجمع وأنه لا يصح إعمال أحد دليلين متعارضين جزافا من غير نظر في ترجيحه على الآخر والقول بثبوت الخلاف في الشريعة يرفع باب الترجيح جملة إذ لا فائدة فيه ولا حاجة إليه على فرض ثبوت الخلاف أصلا شرعيا لصحة وقوع التعارض في الشريعة لكن ذلك فاسد فما أدى إليه مثله والخامس أنه شيء لا يتصور لأن الدليلين المتعارضين إذا قصدهما الشارع مثلا لم يتحصل مقصوده لأنه إذا قال في الشيء الواحد افعل

123 لا تفعل فلا يمكن أن يكون المفهوم منه طلب الفعل لقوله لا تفعل ولا طلب تركه لقوله افعل فلا يتحصل للمكلف فهم التكليف فلا يتصور توجهه على حال والأدلة على ذلك كثيرة لا يحتاج فيها إلى التطويل لفساد الاختلاف في الشريعة فإن قيل إن كان ثم ما يدل على رفع الاختلاف فثم ما يقتضى وقوعه في الشريعة وقد وقع والدليل عليه أمور منها إنزال المتشابهات فإنها مجال للاختلاف لتباين الأنظار واختلاف الآراء والمدارك هذا وإن كان التوقف فيها هو المحمود فإن الاختلاف فيها قد وقع ووضع الشارع لها مقصود له وإذا كان مقصودا له وهو عالم بالمآلات فقد جعل سبيلا إلى الاختلاف فلا يصح أن ينفى عن الشارع رفع مجال الاختلاف جملة ومنها الأمور الاجتهادية التى جعل الشارع فيها للاختلاف مجالا فكثيرا ما تتوارد على المسألة الواحدة أدلة قياسية وغير قياسية بحيث يظهر بينها التعارض

124 ومجال الاجتهاد لما قصده الشارع في وضع الشريعة حين شرع القياس ووضع الظواهر التى يختلف في أمثالها النظار ليجتهدوا فيثابوا على ذلك ولذلك نبه في الحديث على هذا المقصد بقوله عليه الصلاة والسلام إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران فهذا موضع آخر من وضع الخلاف بسبب وضع محاله ومنها أن العلماء الراسخين الأئمة المتقين اختلفوا هل كل مجتهد مصيب أم المصيب واحد والجميع سوغوا هذا الاختلاف وهو دليل على أن له مساغا في الشريعة على الجملة وأيضا فالقائلون بالتصويب معنى كلامهم أن كل قول صواب وأن الاختلاف حق وأنه غير منكر ولا محظور في الشريعة وأيضا فطائفة من العلماء جوزوا أن يأتي في الشريعة دليلان متعارضان

125 وتجويز ذلك عندهم مستند إلى أصل شرعي في الاختلاف وطائفة أيضا رأوا أن قول الصحابي حجة فكل قول صحابي وإن عارضه قول صحابي آخر كل واحد منهما حجة وللمكلف في كل واحد منهما متمسك وقد نقل هذا المعنى عن النبي حيث قال أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم فأجاز جماعة الأخذ بقول من شاء منهم إذا اختلفوا وقال القاسم بن محمد لقد نفع الله بإختلاف أصحاب النبي في أعمالهم لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأي أنه في سعة ورأى أن خيرا منه قد عمله وعنه أيضا أي ذلك أخذت به لم يكن في نفسك منه شيء ومثل معناه مروى عن عمر بن عبد العزيز قال ما يسرني أن لي بإختلافهم حمر النعم قال القاسم لقد أعجبني قول عمر بن عبد العزيز ما أحب أن أصحاب رسول الله لم يختلفوا لأنه لو كان قولا واحدا كان الناس في ضيق وإنهم أئمة يقتدى بهم فلو أخذ بقول رجل منهم كان في سعة وقال بمثل ذلك جماعة من العلماء وأيضا فإن أقوال العلماء بالنسبة إلى المقلدين كأقوال المجتهدين ويجوز لكل واحد على قول جماعة أن يقلد من العلماء من شاء وهو من ذلك في سعة وقد قال ابن الطيب وغيره في الأدلة إذا تعارضت على المجتهد واقتضى كل واحد ضد حكم الآخر ولم يكن ثم ترجيح فله الخيرة في العمل بأيها شاء لأنهما صارا

126 بالنسبة إليه كخصال الكفارة والاختلاف عند العلماء لا ينشأ إلا من تعارض الأدلة فقد ثبت إذا في الشريعة تعارض الأدلة إلا أن ما تقدم من الأدلة على منع الإختلاف يحمل على الإختلاف في أصل الدين لا في فروعه بدليل وقوعه في الفروع من لدن زمان الصحابة إلى زماننا فالجواب أن هذه القواعد المعترض بها يجب أن يحقق النظر فيها بحسب هذه المسألة فإنها من المواضع المخيلة أما مسألة المتشابهات فلا يصح أن يدعى فيها أنها موضوعة في الشريعة قصد الاختلاف شرعا لأن هذا قد تقدم في الأدلة السابقة ما يدل على فساده وكونها قد وضعت ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حى عن بينة لا نظر فيه فقد قال تعالى ولا يزالون مختفلين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ففرق بين الوضع القدري الذى لا حجة فيه للعبد وهو الموضوع على وفق الإرادة التى لا مرد لها وبين الوضع الشرعي الذى لا يستلزم وفق

127 الإرادة وقد قال تعالى هدى للمتقين وقال يضل به كثيرا ويهدى به كثيرا ومر بيانه في كتاب الأوامر فمسألة المتشابهات من الثاني لا من الأول وإذا كان كذلك لم يدل على وضع الاختلاف شرعا بل وضعها للابتلاء فيعمل الراسخون على وفق ما أخبر الله عنهم ويقع الزائغون في إتباع أهواءهم ومعلوم أن الراسخين هم المصيبون وإنما أخبر عنهم أنهم على مذهب واحد في الإيمان بالمتشابهات علموها أو لم يعلموها وأن الزائغين هم المخطئون فليس في المسألة إلا أمر واحد لا أمران ولا ثلاثة فإذا لم يكن إنزال المتشابه علما للاختلاف ولا أصلا فيه وأيضا لو كان كذلك لم ينقسم المختلفون فيه إلى مصيب ومخطئ بل كان يكون الجميع مصيبين لأنهم لم يخرجوا عن قصد الواضع للشريعة لأنه قد تقدم أن الإصابة إنما هى بموافقة قصد الشارع وأن

128 الخطأ بمخالفته فلما كانوا منقسمين إلى مصيب ومخطئ دل على أن الموضع ليس بموضع اختلاف شرعا وأما مواضع الاجتهاد فهي راجعة إلى نمط التشابه لأنها دائرة بين طرفي نفي وإثبات شرعيين فقد يخفى هنالك وجه الصواب من وجه الخطأ وعلى كل تقدير إن قيل بأن المصيب واحدا فقد شهد أرباب هذا القول بأن الموضع ليس مجال الاختلاف ولا هو حجة من حجج الاختلاف بل هو مجال استفراغ الوسع وإبلاغ الجهد في طلب مقصد الشارع المتحد فهذه الطائفة على وفق الأدلة المقررة أولا وإن قيل إن الكل مصيبون فليس على الإطلاق بل بالنسبة إلى كل مجتهد أو من قلده لاتفاقهم على أن كل مجتهد لا يجوز له الرجوع عما أداه إليه اجتهاده ولا الفتوى إلا به لأن الإصابة عندهم إضافية لا حقيقية فلو كان الاختلاف سائغا على الإطلاق لكان فيه حجة وليس كذلك فالحاصل أنه لا يسوغ على هذا الرأي إلا قول واحد غير أنه إضافي فلم يثبت به اختلاف مقرر على حال وإنما الجميع محومون على قول واحد هو قصد الشارع عند المجتهد لا قولان مقرران فلم يظهر إذا من قصد الشارع وضع أصل للاختلاف بل وضع موضع للاجتهاد في التحويم على إصابة قصد الشارع الذي هو واحد ومن هناك لا تجد مجتهدا يثبت لنفسه قولين معا أصلا وإنما يثبت قولا واحدا وينفي ما عداه

129 وقد مر جواب مسألة التصويب والتخطئة وأما تجويز أن يأتي دليلان متعارضان فإن أراد الذاهبون إلى ذلك التعارض في الظاهر وفي أنظار المجتهدين لا في نفس الأمر فالأمر على ما قالوه جائز ولكن لا يقضى ذلك بجواز التعارض في أدلة الشريعة وإن أرادوا تجويز ذلك في نفس الأمر فهذا لا ينتحله من يفهم الشريعة لورود ما تقدم من الأدلة عليه ولا أظن أن أحدا منهم يقوله وأما مسألة قول الصحابي فلا دليل فيه لأمرين أحدهما أن ذلك من قبيل الظنيات إن سلم صحة الحديث على أنه مطعون في سنده ومسألتنا قطعية ولا يعارض الظن القطع والثاني على تسليم ذلك فالمراد أنه حجة على انفراد كل واحد منهم أي أن من استند إلى قول أحدهم فمصيب من حيث قلد أحد المجتهدين لا أن كل واحد منهم حجة في نفس الأمر بالنسبة إلى كل واحد فإن هذا مناقض لما تقدم وأما قول من قال إن اختلافهم رحمة وسعة فقد روى ابن وهب عن مالك أنه قال ليس في اختلاف أصحاب رسول الله سعة وإنما الحق في واحد قيل له فمن يقول إن كل مجتهد مصيب فقال هذا لا يكون قولان مختلفين صوابين ولو سلم فيحتمل أن يكون من جهة فتح باب الاجتهاد وأن مسائل الاجتهاد قد جعل الله فيها سعة بتوسعة مجال الاجتهاد لا غير ذلك قال القاضي إسماعيل إنما التوسعة في اختلاف أصحاب رسول الله

130 توسعة في اجتهاد الرأي فأما أن يكون توسعة أن يقول الإنسان بقول واحد منهم من غير أن يكون الحق عنده فيه فلا ولكن اختلافهم يدل على أنهم اجتهدوا فاختلفوا قال ابن عبد البر كلام إسماعيل هذا حسن جدا وأيضا فإن قول من قال إن اختلافهم رحمة يوافق ما تقدم وذلك لأنه قد ثبت أن الشريعة لا اختلاف فيها وإنما جاءت حاكمة بين المختلفين فيها وفي غيرها من متعلقات الدين فكان ذلك عندهم عاما في الأصول والفروع حسبما اقتضته الظواهر المتضافرة والأدلة القاطعة فما جاءتهم مواضع الاشتباه وكلوا ما لم يتعلق به عمل إلى عالمه على مقتضى قوله والراسخون في العلم يقولون آمنا به ولم يكن لهم بد من النظر في متعلقات الأعمال لأن الشريعة قد كملت فلا يمكن خلو الوقائع عن أحكام الشريعة فتحروا أقرب الوجوه عندهم إلى أنه المقصود الشرعي والفطر والأنظار تختلف فوقع الاختلاف من هنا لا من جهة أنه من مقصود الشارع فلو فرض أن الصحابة لم ينظروا في هذه المشتبهات الفرعية ولم يتكلموا فيها وهم القدوة في فهم الشريعة والجري على مقاصدها لم يكن لمن بعدهم أن يفتح ذلك الباب للأدلة الدالة على ذم الاختلاف وأن الشريعة لا اختلاف فيها ومواضع الاشتباه مظان الاختلاف في إصابة الحق فيها فكان المجال يضيق على من بعد الصحابة فلما اجتهدوا ونشأ من اجتهادهم في تحري الصواب الاختلاف سهل على من بعدهم سلوك الطريق فلذلك والله أعلم قال عمر بن عبد العزيز ما يسرني أن لي باختلافهم حمر النعم وقال ما أحب أن أصحاب رسول الله لم يختلفوا وأما اختلاف العلماء بالنسبة إلى المقلدين فكذلك أيضا لا فرق بين مصادفة المجتهد الدليل ومصادفة العامي المفتي فتعارض الفتويين عليه كتعارض الدليلين على المجتهد فكما أن المجتهد لا يجوز في حقه اتباع الدليلين معا ولا اتباع أحدهما

131 من غير اجتهاد ولا ترجيح كذلك لا يجوز للعامي اتباع المفتيين معا ولا أحدهما من غير اجتهاد ولا ترجيح وقول من قال إذا تعارضا عليه تخير غير صحيح من وجهين أحدهما أن هذا قول بجواز تعارض الدليلين في نفس الأمر وقد مر فيه آنفا والثاني ما تقدم من الأصل الشرعي وهو أن فائدة وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه وتخييره بين القولين نقض لذلك الأصل وهو غير جائز فإن الشريعة قد ثبت أنها تشتمل على مصلحة جزئية في كل مسألة وعلى مصلحة كلية في الجملة أما الجزئية فما يعرب عنها دليل كل حكم وحكمته وأما الكلية فهي أن يكون المكلف داخلا تحت قانون معين من تكاليف الشرع في جميع تصرفاته اعتقادا وقولا وعملا فلا يكون متبعا لهواه كالبهيمة المسيبة حتى يرتاض بلجام الشرع ومتى خيرنا المقلدين في مذاهب الأئمة لينتقوا منها أطيبها عندهم لم يبق لهم مرجع إلا اتباع الشهوات في الاختيار وهذا مناقض لمقصد وضع الشريعة فلا يصح القول بالتخيير عل حال وانظر في الكتاب المستظهر للغزالي فثبت أنه لا اختلاف في أصل الشريعة ولا هى موضوعة على وجود الخلاف فيها أصلا يرجع إلية مقصودا من الشارع بل ذلك الخلاف راجع إلى أنظار المكلفين وإلى ما يتعلق بهم من الابتلاء وصح أن نفى الاختلاف في الشريعة وذمه على الإطلاق والعموم في أصولها وفروعها إذ لو صح فيها وضع فرع واحد على قصد الاختلاف لصح فيها وجود الاختلاف على الإطلاق لأنه إذا صح اختلاف ما صح كل الاختلاف وذلك معلوم البطلان فما أدى إليه مثله

132 فصل وعلى هذا الأصل ينبني قواعد منها أنه ليس للمقلد أن

133 يتخير في الخلاف كما إذا اختلف المجتهدون على قولين فوردت كذلك على المقلد فقد يعد بعض الناس القولين بالنسبة إليه مخيرا فيهما كما يخير في خصال الكفارة فيتبع هواه وما يوافق غرضه دون ما يخالفه وربما استظهر على ذلك بكلام بعض المفتين المتأخرين وقواه بما روى من قوله عليه الصلاة والسلام أصحابي كالنجوم وقد مر الجواب عنه وإن صح فهو معمول به فيما إذا ذهب المقلد عفوا فاستفتى صحابيا أو غيره فقلده فيما أفتاه به فيما له أو عليه وأما إذا تعارض عنده قولا مفتيين فالحق أن يقال ليس بداخل تحت ظاهر الحديث لأن كل واحد منهما متبع لدليل عنده يقتضي ضد ما يقتضيه دليل صاحبه فهما صاحبا دليلين متضادين فاتباع أحدهما بالهوى اتباع للهوى وقد ما مر فيه فليس إلا الترجيح بالأعلمية وغيرها وأيضا فالمجتهدان بالنسبة إلى العامي كالدليلين بالنسبة إلى المجتهد فكما يجب على المجتهد الترجيح أو التوقف كذلك المقلد ولو جاز تحكيم التشهي والأغراض في مثل هذا لجاز للحاكم

134 وهو باطل بالإجماع وأيضا فإن في مسائل الخلاف ضابطا قرآنيا ينفى اتباع الهوى جملة وهو قوله تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول وهذا المقلد قد تنازع في مسألته مجتهدان فوجب ردها إلى الله والرسول وهو الرجوع إلى الأدلة الشرعية وهو أبعد من متابعة الهوى والشهوة فإختياره أحد المذهبين بالهوى والشهوة مضاد للرجوع إلى الله والرسول وهذه الآية نزلت على سبب فيمن اتبع هواه بالرجوع إلى حكم الطاغوت ولذلك أعقبها بقوله ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك الآية وهذا يظهر أن مثل هذه القضية لا تدخل تحت قوله أصحابي كالنجوم وأيضا فإن ذلك يفضي إلى تتبع رخص المذاهب من غير استناد إلى دليل شرعي وقد حكى ابن حزم الإجماع على أن ذلك فسق لا يحل وأيضا فإنه مؤد إلى إسقاط التكليف في كل مسألة مختلف فيها لأن حاصل الأمر مع القول بالتخيير أن للمكلف أن يفعل إن شاء ويترك إن شاء وهو عين إسقاط التكليف بخلاف ما إذا تقيد بالترجيح فإنه متبع للدليل فلا يكون متبعا للهوى ولا مسقطا للتكليف لا يقال إذا اختلفا فقلد أحدهما قبل لقاء الآخر جاز فكذلك بعد لقائه والاجتماع طردي لأنا نقول كلا بل للاجتماع أثر لأن كل واحد منهما في الافتراق طريق موصل كما لو وجد دليل ولم يطلع على معارضة بعد البحث عليه جاز له العمل أما إذا اجتمعا واختلفا عليه فهما كدليلين متعارضين اطلع عليهما المجتهد ولقد

135 أشكل القول بالتخيير المنسوب إلى القاضي ابن الطيب واعتذر عنه بأنه مقيد لا مطلق فلا يخير إلا بشرط أن يكون في تخييره في العمل بأحد الدليلين قاصدا لمقتضى الدليل في العمل المذكور لا قاصدا لاتباع هواه فيه ولا لمقتضى التخيير على الجملة فإن التخيير الذى هو معنى الإباحة مفقود ههنا واتباع الهوى ممنوع فلا بد من هذا القصد وفى هذا الاعتذار ما فيه وهو تناقض لأن اتباع أحد الدليلين من غير ترجيح محال إذ لا دليل له مع فرض التعارض من غير ترجيح فلا يكون هنالك متبعا إلا هواه فصل وقد أدى إغفال هذا الأصل إلى أن صار كثير من مقلدة الفقهاء يفتى قريبه أو صديقه بما لا يفتى به غيره من الأقوال اتباعا لغرضه وشهوته أو لغرض ذلك القريب وذلك الصديق ولقد وجد هذا في الأزمنة السالفة فضلا عن زماننا كما وجد فيه تتبع رخص المذاهب اتباعا للغرض والشهوة وذلك فيما لا يتعلق به فصل قضية وفيما يتعلق به ذلك فأما ما لا يتعلق به فصل قضية بل هو فيما بين الإنسان وبين نفسه في عبادته أو عادته ففيه من المعايب ما تقدم وحكى عياض في المدارك قال موسى بن معاوية كنت عند البهلول بن راشد إذ أتاه ابن فلان فقال له بهلول ما أقدمك قال نازلة رجل ظلمه السلطان فأخفيته وحلفت بالطلاق ثلاثا ما أخفيته قال له البهلول مالك يقول إنه يحنث في زوجته فقال السائل وأنا قد سمعته

136 يقول وإنما أردت غير هذا فقال ما عندي غير ما تسمع قال فتردد إليه ثلاثا كل ذلك يقول له البهلول قوله الأول فلما كان في الثالثة أو الرابعة قال يا بن فلان ما أنصفتم الناس إذا أتوكم في نوازلهم قلتم قال مالك قال مالك فإن نزلت بكم النوازل طلبتم لها الرخص الحسن يقول لا حنث عليه في يمينه فقال السائل الله أكبر قلدها الحسن أو كما قال وأما ما يتعلق به فصل قضية بين خصمين فالأمر أشد وفى الموازية كتب عمر بن الخطاب لا تقض بقضاءين في أمر واحد فيختلف عليك أمرك قال ابن المواز لا ينبغي للقاضي أن يجتهد في اختلاف الأقاويل وقد كره مالك ذلك ولم يجوزه لأحد وذلك عندي أن يقضى بقضاء بعض من مضى ثم يقضى في ذلك الوجه بعينه على آخر بخلافه وهو أيضا من قول من مضى وهو في أمر واحد ولو جاز ذلك لأحد لم يشأ أن يقضى على هذا بفتيا قوم ويقضي في مثله بعينه على قوم بخلافة بفتيا قوم آخرين إلا فعل فهذا ما قد عابه من مضى وكرهه مالك ولم يره صوابا وما قاله صواب فإن القصد من نصب الحكام رفع التشاجر والخصام على وجه لا يلحق فيه أحد الخصمين ضرر مع عدم تطرق التهمة للحاكم وهذا النوع من التخيير في الأقوال مضاد لهذا كله وحكى أحمد بن عبد البر أن قاضيا من قضاة قرطبة كان كثير الإتباع ليحيى ابن يحيى لا يعدل عن رأيه إذا اختلف عليه الفقهاء فوقعت قضية تفرد فيها يحيى وخالف جميع أهل الشورى فأرجأ القاضي القضاء فيها حياء من جماعتهم

137 وردفته قضية أخرى كتب بها إلى يحيى فصرف يحيى رسوله وقال له لا أشير عليه بشيء إذ توقف على القضاء لفلان بما أشرت عليه فلما انصرف إليه رسوله وعرفه بقوله قلق منه وركب من فوره إلى يحيى وقال له لم أظن أن الأمر وقع منك هذا الموقع وسوف أقضي له غدا إن شاء الله فقال له يحيى وتفعل ذلك صدقا قال نعم قال له فالآن هيجت غيظي فإني ظننت إذ خالفني أصحابي أنك توقفت مستخيرا لله متخيرا في الأقوال فأما إذ صرت تتبع الهوى وتقضى برضى مخلوق ضعيف فلا خير فيما تجيء به ولا في إن رضيته منك فاستعف من ذلك فإنه أستر لك وإلا رفعت في عزلك فرفع يستعفي فعزل وقصة محمد بن يحيى ابن لبابة أخ الشيخ ابن لبابة مشهورة ذكرها عياض وكانت مما غض من منصبه وذلك أنه عزل عن قضاء البيرة لرفع أهلها عليه ثم عزل عن الشورى لأشياء نقمت عليه وسجل بسخطته القاضي حبيب بن زياد وأمر بإسقاط عدالته وإلزامه بيته وأن لا يفتي أحدا فأقام على ذلك وقتا ثم إن الناصر احتاج إلى شراء مجشر من أحباس المرضى بقرطبة بعدوة النهر فشكا إلى القاضي ابن بقي أمره وضرورته إليه لمقابلته متنزهه وتأذيه برؤيتهم أو إن تطلعه من علاليه فقال له ابن بقي لا حيلة عندي فيه وهو أولى أن يحاط بحرمة الحبس فقال له فتكلم مع الفقهاء فيه وعرفهم رغبتي وما أجزله من أضعاف القيمة فيه فلعلهم أن يجدوا لي في ذلك رخصة فتكلم ابن بقي معهم فلم يجعلوا إليه سبيلا فغضب الناصر عليهم وأمر الوزراء بالتوجه فيهم إلى القصر وتوبيخهم فجرت بينهم وبين الوزراء مكالمة ولم يصل الناصر معهم إلى مقصودة وبلغ ابن لبابة هذا الخبر فرفع إلى الناصر يغض من أصحابه الفقهاء ويقول إنهم حجروا عليه واسعا ولو كان حاضرا لأفتاه بجواز المعاوضة ونقلدها وناظر أصحابه فيها فوقع الأمر بنفس الناصر وأمر بإعادة محمد بن لبابة إلى الشورى على حالته الأولى ثم أمر القاضي بإعادة المشورة في المسألة فاجتمع القاضي والفقهاء وجاء ابن لبابة آخرهم وعرفهم القاضي ابن بقي بالمسألة التي جمعهم لأجلها وغبطة المعاوضة فيها

138 فقال جميعهم بقولهم الأول من المنع من تغيير الحبس عن وجهه وابن لبابة ساكت فقال له القاضي ما تقول أنت يا أبا عبد الله قال أما قول إمامنا مالك بن أنس فالذي قاله أصحابنا الفقهاء وأما أهل العراق فإنهم لا يجيزون الحبس أصلا وهم علماء أعلام يهتدى بهم أكثر الأمة وإذ بأمير المؤمنين من الحاجة إلى هذا المجشر ما به فما ينبغي أن يرد عنه وله في السنة فسحة وأنا أقول فيه يقول بقول أهل العراق وأتقلد ذلك رأيا فقال له الفقهاء سبحان الله تترك قول مالك الذى أفتى به أسلافنا ومضوا عليه واعتقدناه بعدهم وأفتينا به لا نحيد عنه بوجه وهو رأي أمير المؤمنين ورأي الأئمة آبائه فقال له محمد بن يحيى ناشدتكم الله العظيم ألم تنزل بأحد منكم ملمة بلغت بكم أن أخذتهم فيها بقول غير مالك في خاصة أنفسكم وأرخصتم لأنفسكم قالوا بلى قال فأمير المؤمنين أولى بذلك فخذوا به مآخذكم وتعلقوا بقول من يوافقه من العلماء فكلهم قدوة فسكتوا فقال للقاضي أنه إلى أمير المؤمنين فتياي فكتب القاضي إلى أمير المؤمنين بصورة المجلس وبقى مع أصحابه بمكانهم إلى أن أتى الجواب بأن يأخذ له بفتيا محمد ابن يحيى بن لبابة وينفذ ذلك ويعوض المرضى من هذا المجشر بأملاكه بمنية عجب وكانت عظيمة القدر جدا تزيد أضعافا على المجشر ثم جيء

139 من عند أمير المؤمنين بكتاب منه إلى ابن لبابة هذا بولايته خطة الوثائق ليكون هو المتولي لعقد هذه المعاوضة فهنى بالولاية وأمضى القاضي الحكم بفتواه وأشهد عليه وانصرفوا فلم يزل ابن لبابة يتقلد خطة الوثائق والشورى إلى أن مات سنة ست وثلاثين وثلاثمائة قال القاضي عياض ذاكرت بعض مشايخنا مرة بهذا الخبر فقال ينبغي أن يضاف هذا الخبر الذى حل سجل السخطة إلى سجل السخطة فهو أولى وأشد في السخطة مما تضمنه أو كما قال وذكر الباجي في كتاب التبيين لسنن المهتدين حكاية أخرى في أثناء كلامه في معنى هذه المسألة قال وربما زعم بعضهم أن النظر والاستدلال الأخذ من أقاويل مالك وأصحابه بأيها شاء دون أن يخرج عنها ولا يميل إلى ما مال منها لوجه يوجب له ذلك فيقضى في قضية بقول مالك وإذا تكررت تلك القضية كان له أن يقضى فيها بقول ابن القاسم مخالفا للقول الأول لا لرأي تجدد له وإنما ذلك بحسب اختياره قال ولقد حدثني من أوثقه أنه اكترى جزءا من أرض على الإشاعة ثم إن رجلا آخر اكترى باقي الأرض فأراد المكترى الأول أن يأخذ بالشفعة وغاب عن البلد فأفتى المكترى الثاني بإحدى الروايتين عن مالك أن لا شفعة في الإجارات قال لي فوردت من سفري فسألت أولئك الفقهاء وهم أهل حفظ في المسائل وصلاح في الدين عن مسألتي فقالوا ما علمنا أنها لك إذ كانت لك المسألة أخذنا لك برواية أشهب عن مالك بالشفعة فيها فأفتاني جميعهم بالشفعة فقضى لي بها

140 قال وأخبرني رجل عن كبير من فقهاء هذا الصنف مشهور بالحفظ والتقدم أنه كان يقول معلنا غير مستتر إن الذى لصديقي على إذا وقعت له حكومة أن أفتيه بالروية التى توافقه قال الباجي ولو اعتقد هذا القائل أن مثل هذا لا يحل له ما استجازه ولو استجازه لم يعلن به ولا أخبر به عن نفسه قال وكثيرا ما يسألني من تقع له مسألة من الأيمان ونحوها لعل فيها رواية أم لعل فيها رخصة وهم يرون أن هذا من الأمور الشائعة الجائزة ولو كان تكرر عليهم إنكار الفقهاء لمثل هذا لما طولبوا به ولا طلبوه مني ولا من سواي وهذا مما لا خلاف بين المسلمين ممن يعتد به في الإجماع أنه لا يجوز ولا يسوغ ولا يحل لأحد أن يفتى في دين الله إلا بالحق الذى يعتقد أنه حق رضى بذلك من رضيه وسخطه من سخطه وإنما المفتى مخبر عن الله تعالى في حكمه فكيف يخبر عنه إلا بما يعتقد أنه حكم به وأوجبه والله تعالى يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم الآية فكيف يجوز لهذا المفتى أن يفتى بما يشتهى أو يفتى زيدا بما لا يفتى به عمرا لصداقة تكون بينهما أو غير ذلك من الاغراض وإنما يجب للمفتى أن يعلم أن الله أمره أن يحكم بما أنزل الله من الحق فيجتهد في طلبه ونهاه أن يخالفه وينحرف عنه وكيف له بالخلاص مع كونه من أهل العلم والاجتهاد إلا بتوفيق الله وعونه وعصمته هذا ما ذكره وفيه بيان ما تقدم من أن الفقيه لا يحل له أن يتخير بعض الأقوال بمجرد التشهي والأغراض من غير اجتهاد ولا أن يفتى به أحدا والمقلد في اختلاف الأقوال عليه مثل هذا المفتى الذى ذكر فإنه إنما أنكر ذلك على غير مجتهد أن ينقل عن مجتهد بالهوى وأما المجتهد فهو أحرى بهذا الأمر

141 فصل وقد زاد هذا الأمر على قدره الكفاية حتى صار الخلاف في المسائل معدودا في حجج الإباحة ووقع فيما تقدم وتأخر من الزمان الاعتماد في جواز الفعل على كونه مختلفا فيه بين أهل العلم لا بمعنى مراعاة الخلاف فإن له نظرا آخر بل في غير ذلك فربما وقع الإفتاء في المسألة بالمنع فيقال لم تمنع والمسألة مختلف فيها فيجعل الخلاف حجة في الجواز لمجرد كونها مختلفا فيها لا لدليل يدل على صحة مذهب الجواز ولا لتقليد من هو أولى بالتقليد من القائل بالمنع وهو عين الخطأ على الشريعة حيث جعل ما ليس بمعتمد متعمدا وما ليس بحجة حجة حكى الخطابي في مسألة البتع المذكور في الحديث عن بعض الناس أنه قال إن الناس لما اختلفوا في الأشربة وأجمعوا على تحريم خمر العنب واختلفوا فيما سواه حرمنا ما اجتمعوا على تحريمه وأبحنا ما سواه قال وهذا خطأ فاحش وقد أمر الله تعالى المتنازعين أن يردوا ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول قال ولو لزم ما ذهب إليه هذا القائل للزم مثله في الربا والصرف ونكاح المتعة لأن الأمة قد اختلف فيها قال وليس الاختلاف حجة وبيان السنة حجة على المختلفين من الأولين والآخرين هذا مختصر ما قال والقائل بهذا راجع إلى أن يتبع ما يشتهيه ويجعل القول الموافق حجة له ويدرأ بها عن نفسه فهو قد أخذ القول وسيلة إلى إتباع هواه لا وسيلة إلى تقواه وذلك أبعد له من أن يكون ممتثلا لأمر الشارع وأقرب إلى أن يكون ممن اتخذ إلهه هواه ومن هذا أيضا جعل بعض الناس الاختلاف رحمة للتوسع في الأقوال وعدم التحجير على رأي واحد ويحتج في ذلك بما روى عن القاسم

142 ابن محمد وعمر بن عبد العزيز وغيرهما مما تقدم ذكره ويقول إن الاختلاف رحمة وربما صرح صاحب هذا القول بالتشنيع على من لازم القول المشهور أو الموافق للدليل أو الراجح عند أهل النظر والذي عليه أكثر المسلمين ويقول له لقد حجرت واسعا وملت بالناس إلى الحرج وما في الدين من حرج وما أشبه ذلك وهذا القول خطأ كله وجهل بما وضعت له الشريعة والتوفيق بيد الله وقد مر من الدليل على خلاف ما قالوه ما فيه كفاية والحمد لله ولكن تقرر منه ههنا بعضا على وجه لم يتقدم مثله وذلك أن المتخير بالقولين مثلا بمجرد موافقة الغرض إما أن يكون حاكما به أو مفتيا أو مقلدا عاملا بما أفتاه به المفتى أما الأول فلا يصح على الإطلاق لأنه إن كان متخيرا بلا دليل لم يكن أحد الخصمين بالحكم له أولى من الآخر إذ لا مرجح عنده بالفرض إلا التشهي فلا يمكن إنفاذ حكم على أحدهما إلا مع الحيف على الآخر ثم إن وقعت له تلك النازلة بالنسبة إلى خصمين آخرين فكذلك أو بالنسبة إلى الأول فكذلك أو يحكم لهذا مرة ولهذا مرة وكل ذلك باطل ومؤد إلى مفاسد لا تنضبط بحصر ومن ههنا شرطوا في الحاكم بلوغ درجة الاجتهاد وحين فقد لم يكن بد من الانضباط إلى أمر واحد كما فعل ولاة قرطبة حين شرطوا على الحاكم أن لا يحكم إلا بمذهب فلان ما وجده ثم بمذهب فلان فانضبطت الأحكام بذلك وارتفعت المفاسد المتوقعة من غير ذلك الارتباط وهذا معنى أوضح من إطناب فيه وأما الثاني فإنه إذا أفتى بالقولين معا على التخيير فقد أفتى في النازلة بالإباحة وإطلاق العنان وهو قول ثالث خارج عن القوالين وهذا لا يجوز له

143 إن لم يبلغ درجة الاجتهاد باتفاق وإن بلغها لم يصح له القولان في وقت واحد ونازلة واحدة أيضا حسبما بسطه أهل الأصول وأيضا فإن المفتى قد أقامه المستفتى مقام الحاكم على نفسه إلا أنه لا يلزمه المفتى ما أفتاه به فكما لا يجوز للحاكم التخيير كذلك هذا وأما إن كان عاميا فهو قد استند في فتواه إلى شهوته وهواه واتباع الهوى عين مخالفة الشرع ولأن العامي إنما حكم العلم على نفسه ليخرج عن اتباع هواه ولهذا بعثت الرسل وأنزلت الكتب فإن العبد في تقلباته دائر بين لمتين لمة ملك ولمة شيطان فهو مخير بحكم الابتلاء في الميل مع أحد الجانبين وقد قال تعالى ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا وهديناه النجدين وعامة الأقوال الجارية في مسائل الفقه إنما تدور بين النفي والإثبات والهوى لا يعدوهما فإذا عرض العامي نازلته على المفتى فهو قائل له أخرجني عن هواي ودلني على اتباع الحق فلا يمكن والحال هذه أن يقول له في مسألتك قولان فاختر لشهوتك أيهما شئت فإن معنى هذا تحكيم الهوى دون الشرع ولا ينجيه من هذا أن يقول

144 ما فعلت إلا بقول عالم لأنه حيلة من جملة الحيل التى تنصبها النفس وقاية عن القال والقيل وشبكة لنيل الأغراض الدنيوية وتسليط المفتى العامي على تحكيم الهوى بعد أن طلب منه إخراجه عن هواه رمي في عماية وجهل بالشريعة وغش في النصيحة وهذا المعنى جار في الحاكم وغيره والتوفيق بيد الله تعالى فصل واعترض بعض المتأخرين على من منع من تتبع رخص المذاهب وأنه إنما يجوز الانتقال إلى مذهب بكماله فقال إن أراد المانع ما هو على خلاف الأمور الأربعة التي ينقض فيها قضاء القاضي فمسلم وإن أراد ما فيه توسعت على المكلف فممنوع إن لم يكن على خلاف ذلك بل قوله عليه الصلاة والسلام بعثت

145 بالحنيفية السمحة يقتضي جواز ذلك لأنه نوع من اللطف بالعبد والشريعة لم ترد بقصد مشاق العباد بل بتحصيل المصالح وأنت تعلم بما تقدم ما في هذا الكلام لان الحنيفية السمحة إنما أتى فيها السماح مقيدا بما هو جار على أصولها وليس تتبع الرخص ولا اختيار الأقوال بالتشهي بثابت من أصولها فما قاله عين الدعوى ثم نقول تتبع الرخص ميل مع أهواء النفوس والشرع جاء بالنهي عن اتباع الهوى فهذا مضاد لذلك الأصل المتفق عليه ومضاد أيضا لقوله تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول وموضع الخلاف موضع تنازع فلا يصح أن يرد إلى أهواء النفوس وإنما يرد إلى الشريعة وهى تبين الراجح من القولين فيجب اتباعه لا الموافق للغرض فصل وربما استجاز هذا بعضهم في مواطن يدعى فيها الضرورة وإلجاء الحاجة بناء على أن الضرورات تبيح المحظورات فيأخذ عند ذلك بما يوافق الغرض حتى إذا نزلت المسألة على حالة لا ضرورة فيها ولا حاجة إلى الأخذ بالقول المرجوح أو الخارج عن المذهب أخذ فيها بالقول المذهبي أو الراجح في المذهب فهذا أيضا من ذلك الطراز المتقدم فإن حاصله الأخذ بما يوافق الهوى الحاضر ومحال الضرورات معلومة من الشريعة فإن كانت هذه المسألة منها فصاحب المذهب قد تكفل ببيانها أخذا عن صاحب الشرع فلا حاجة إلى الانتقال عنها وإن لم تكن منها فزعم الزاعم أنها منها خطأ فاحش ودعوى غير مقبولة

146 وقد وقع في نوازل ابن رشد من هذا مسألة نكاح المتعة ويذكر عن الإمام المأزري أنه سئل ما تقول فيما اضطر الناس إليه في هذا الزمان والضرورات تبيح المحظورات من معاملة فقراء أهل البدو في سنى الجدب إذ يحتاجون إلى الطعام فيشترونه بالدين إلى الحصاد أو الجذاذ فإذا حل الأجل قالوا لغرمائهم ما عندنا إلا الطعام فربما صدقوا في ذلك فيضطر أرباب الديون إلى أخذه منهم خوفا أن يذهب حقهم في أيديهم بأكل أو غيره لفقرهم ولاضطرار من كان من أرباب الديون حضريا إلى الرجوع إلى حاضرته ولا حكام بالبادية أيضا مع ما في المذهب في ذلك من الرخصة إن لم يكن هنالك شرط ولا عادة وإباحة كثير من فقهاء الأمصار لذلك وغيره من بيوع الآجال خلافا للقول بالذرائع فأجاب إن أردت بما أشرت إليه إباحة أخذ طعام عن ثمن طعام هو جنس مخالف لما اقتضى فهذا ممنوع في المذهب ولا رخصة فيه عند أهل المذهب كما توهمت قال ولست ممن يحمل الناس على غير المعروف المشهور من مذهب مالك وأصحابه لأن الورع قل بل كاد يعدم والتحفظ على الديانات كذلك وكثرت الشهوات وكثر من يدعي العلم ويتجاسر على الفتوى فيه فلو فتح لهم باب في مخالفة المذهب لاتسع الخرق على الراقع وهتكوا حجاب هيبة المذهب وهذا من المفسدات التى لا خفاء بها ولكن إذا لم يقدر على أخذ الثمن إلا أن يأخذ طعاما فليأخذه منهم من يبيعه على ملك منفذه إلى الحاضرة ويقبض البائع الثمن ويفعل ذلك بإشهاد من غير تحيل على إظهار ما يجوز فانظر كيف لم يستجز وهو المتفق على إمامته الفتوى بغير مشهور المذهب ولا بغير ما يعرف منه بناء على

147 قاعدة مصلحية ضرورية إذ قل الورع والديانة من كثير ممن ينتصب لبث العلم والفتوى كما تقدم تمثيله فلو فتح لهم هذا الباب لانحلت عرى المذهب بل جميع المذاهب لأن ما وجب للشيء وجب لمثله وظهر أن تلك الضرورة التى ادعيت في السؤال ليست بضرورة فصل وقد أذكر هذا المعنى جملة مما في اتباع رخص المذهب من المفاسد سوى ما تقدم ذكره في تضاعيف المسألة كالانسلاخ من الدين بترك اتباع الدليل إلى اتباع الخلاف وكالاستهانة بالدين إذ يصير بهذا الاعتبار سيالا لا ينضبط وكترك ما هو معلوم إلى ما ليس بمعلوم لأن المذاهب الخارجة عن مذهب مالك في هذه الأمصار مجهولة وكانخرام قانون السياسة الشرعية بترك الانضباط إلى

148 أمر معروف وكإفضائه إلى القول بتلفيق المذاهب على وجه يخرق إجماعهم وغير ذلك من المفاسد التى يكثر تعدادها ولولا خوف الإطالة والخروج عن الغرض لبسطت من ذلك ولكن فيما تقدم منه كاف والحمد لله فصل وقد بنوا أيضا على هذا المعنى مسألة أخرى وهى هل يجب الأخذ بأخف القولين أم بأثقلهما واستدل لمن قال بالأخف

149 بقوله تعالى يريد الله بكم اليسر الآية وقوله وما جعل عليكم في الدين من حرج وقوله عليه الصلاة والسلام لا ضرر ولا ضرار وقوله بعثت بالحنيفية السمحة وكل ذلك ينافى شرع الشاق الثقيل ومن جهة القياس أن الله غني كريم والعبد محتاج فقير وإذا وقع التعارض بين الجانبين كان الحمل على جانب الغنى الأولى والجواب عن هذا ما تقدم وهو أيضا مؤد إلى إيجاب إسقاط التكليف جملة فإن التكاليف كلها شاقة ثقيلة ولذلك سميت تكليفا من الكلفة وهى المشقة فإذا كانت المشقة حيث لحقت في التكليف تقتضي الرفع بهذه الدلائل لزم ذلك في الطهارات والصلوات والزكوات والحج والجهاد وغير ذلك ولا يقف عند حد إلا إذا لم يبق على العبد تكليف وهذا محال فما أدى إليه مثله فإن رفع الشريعة مع فرض وضعها محال ثم قال المنتصر لهذا الرأي إنه يرجع حاصله إلى أن الأصل في الملاذ الإذن وفى المضار الحرمة وهو أصل قرره في موضع آخر وقد تقدم التنبيه على ما فيه في كتاب المقاصد وإذا حكمنا ذلك الأصل هنا لزم منه أن الأصل رفع التكليف بعد وضعه على المكلف وهذا كله إنما جره عدم الالتفات إلى ما تقدم

150 فصل فإن قيل فما معنى مراعاة الخلاف المذكورة في المذهب المالكي فإن الظاهر فيها أنها اعتبار للخلاف فلذلك نجد المسائل المتفق عليها لا يراعى فيها غير دليلها فإن كانت مختلفا فيها روعي فيها قول المخالف وإن كان على خلاف الدليل الراجح عند المالكي فلم يعامل المسائل المختلف فيها معاملة المتفق عليها ألا تراهم يقولون كل نكاح فاسد اختلف فيه فإنه يثبت به الميراث ويفتقر في فسخه إلى الطلاق وإذا دخل مع الإمام في الركوع وكبر للركوع ناسيا تكبير الإحرام فإنه يتمادى مع الإمام مراعاة لقول من قال إن تكبيرة الركوع تجزئ عن تكبيرة الإحرام وكذلك من قام إلى ثالثة في النافلة وعقدها يضيف إليها رابعة مراعاة لقول من يجيز التنفل بأربع بخلاف المسائل المتفق عليها فإنه لا يراعى فيها غير دلائلها ومثله جار في عقود البيع وغيرها فلا يعاملون الفاسد المختلف في فساده معاملة المتفق على فساده ويعللون التفرقة بالخلاف فأنت تراهم يعتبرون الخلاف وهو مضاد لما تقرر في المسألة

151 فاعلم أن المسألة قد أشكلت على طائفة منهم ابن عبد البر فإنه قال الخلاف لا يكون حجة في الشريعة وما قاله ظاهر فإن دليلي القولين لا بد أن يكونا متعارضين كل واحد منهما يقتضي ضد ما يقضيه الآخر وإعطاء كل واحد منهما ما يقتضيه الآخر أو بعض ما يقتضيه هو معنى مراعاة الخلاف وهو جمع بين متنافيين كما تقدم وقد سألت عنها جماعة من الشيوخ الذين أدركتهم فمنهم من تأول العبارة ولم يحملها على ظاهرها بل أنكر مقتضاها بناء على أنها لا أصل لها وذلك بأن يكون دليل المسألة يقتضي المنع ابتداء ويكون هو الراجح ثم بعد الوقوع يصير الراجح مرجوحا لمعارضة دليل آخر يقتضي رجحان دليل المخالف فيكون القول بأحدهما في غير الوجه الذى يقول فيه بالقول الآخر فالأول فيما بعد الوقوع والآخر فيما قبله وهما مسألتان مختلفتان فليس

152 جمعا بين متنافيين ولا قولا بهما معا هذا حاصل ما أجاب به من سألته عن المسألة من أهل فاس وتونس وحكى لي بعضهم أنه قول بعض من لقي من الأشياخ وأنه قد أشار إليه أبو عمران الفاسي وبه يندفع سؤال اعتبار الخلاف وسيأتى للمسألة تقرير آخر بعد إن شاء الله على أن الباجي حكى خلافا في اعتبار الخلاف في الأحكام وذكر اعتباره عن الشيرازي واستدل على ذلك بأن ما جاز أن يكون علة بالنطق جاز أن يكون علة بالاستنباط ولو قال الشارع إن كل ما لم تجتمع أمتي على تحريمه واختلفوا في جواز أكله فإن جلده يطهر بالدباغ لكان ذلك ذلك صحيحا فكذلك إذا علق هذا الحكم عليه بالاستنباط وما قاله غير ظاهر لأمرين أحدهما أن هذا الدليل مشترك الإلزام ومنقلب على المستدل به إذ لقائل أن يسلم أن ما جاز أن يكون علة بالنطق جاز أن يكون علة بالاستنباط ثم يقول لو قال الشارع إن كل ما لم تجتمع أمتي على تحليله واختلفوا في جواز أكله فإن جلده لا يطهر بالدباغ لكان ذلك صحيحا فكذلك إذا علق الحكم بالاستنباط ويكون هذا القلب أرجح لأنه مائل إلى جانب الاحتياط وهكذا كل مسألة تفرض على هذا الوجه والثاني أنه ليس كل جائز واقعا بل الوقوع محتاج إلى دليل ألا ترى أنا نقول يجوز أن ينص الشارع على أن مس الحائط ينقض الوضوء وأن شرب

153 الماء السخن يفسد الحج وأن المشي من غير نعل يفرق بين الزوجين وما أشبه ذلك ولا يكون هذا التجويز سببا في وضع الأشياء المذكورة عللا شرعية بالإستنباط فلما لم يصح ذلك دل على أن نفس التجويز ليس بمسوغ لما قال فإن قال إنما أعنى ما يصح أن يكون علة لمعنى فيه من مناسبة أو شبه والأمثلة المذكورة لا معنى فيها يستند إليه في التعليل قيل لم تفصل أنت هذا التفصيل وأيضا فمن طرق الاستنباط ما لا يلزم فيه ظهور معنى يستند إليه كالاطراد والانعكاس ونحوه ويمكن أن يكون الباجي أشار في الجواز إلى ما في الخلاف من المعنى المتقدم ولا يكون بين القولين خلاف في المعنى واحتج المانعون بأن الخلاف متأخر عن تقرير الحكم والحكم

154 لا يجوز أن يتقدم على علته قال الباجي ذلك غير ممتنع كالإجماع فإن الحكم يثبت به وإن حدث في عصرنا وأيضا فمعنى قولنا إنه مختلف فيه أنه يسوغ فيه الاجتهاد وهذا كان حاله في زمان رسول الله فلم يتقدم على علته والجواب عن كلام الباجي أن الإجماع ليس بعلة للحكم بل هو أصل الحكم وقوله إن معنى قولنا مختلف فيه كذا هى عين الدعوى فصل ومن القواعد المبينة على هذه المسألة أن يقال هل للمجتهد أن يجمع بين الدليلين بوجه من وجوه الجمع حتى يعمل بمقتضى كل واحد منهما فعلا أو تركا كما يفعله المتورعون في التروك أم لا أما في ترك العمل بهما معا مجتمعين أو متفرقين فهو التوقف عن القول بمقتضى أحدهما وهو الواجب إذا لم يقع ترجيح

155 وأما في العمل فإن أمكن الجمع بدليله فلا تعارض وإن فرض التعارض فالجمع بينهما في العمل جمع بين متنافيين ورجوع إلى إثبات الاختلاف في الشريعة وقد مر إبطاله وهكذا يجرى الحكم في المقلد بالنسبة إلى تعارض المجتهدين عليه ولهذا الفصل تقرير في كتاب التعارض والترجيح إن شاء الله المسألة الرابعة محال الاجتهاد المعتبر هى ما ترددت بين طرفين وضح في كل واحد منهما قصد الشارع في الإثبات في أحدهما والنفي في الآخر فلم تنصرف ألبتة إلى طرف النفي ولا إلى طرف الإثبات وبيانه أن نقول لا تخلو أفعال المكلف أو تروكه إما أن يأتي فيها خطاب من الشارع أو لا فإن لم يأت فيها خطاب فإما أن يكون على البراءة الأصلية أو يكون فرضا غير موجود والبراءة الأصلية في الحقيقة راجعة إلى خطاب الشارع

156 بالعفو أو غيره وإن أتى فيها خطاب فإما أن يظهر فيه للشارع قصد في النفي أو في الإثبات أولا فإن لم يظهر له قصد ألبتة فهو قسم المتشابهات وإن ظهر فتارة يكون قطعيا وتارة يكون غير قطعي فأما القطعي فلا مجال للنظر فيه بعد وضوح الحق في النفي أو في الإثبات وليس محلا للاجتهاد وهو قسم الواضحات لأنه واضح الحكم حقيقة والخارج عنه مخطئ قطعا وأما غير القطعي فلا يكون كذلك إلا مع دخول احتمال فيه أن يقصد الشارع معارضه أو لا فليس من الواضحات بإطلاق بل بالإضافة إلى ما هو أخفى منه كما أنه يعد غير واضح بالنسبة إلى ما هو أوضح منه لأن مراتب الظنون في النفي والإثبات تختلف بالأشد والأضعف حتى تنتهي إما إلى العلم وإما إلى الشك إلا أن هذا الاحتمال تارة يقوى في إحدى الجهتين وتارة لا يقوى فإن لم يقو رجع إلى قسم المتشابهات والمقدم

157 عليه حائم حول الحمى يوشك أن يقع فيه وإن قوى في إحدى الجهتين فهو قسم المجتهدات وهو الواضح الإضافي بالنسبة إليه في نفسه وبالنسبة إلى أنظار المجتهدين فإن كان المقدم عليه من أهل الاجتهاد فواضح في حقه في النفي أو في الإثبات إن قلنا إن كل مجتهد مصيب وأما على قول المخطئة فالمقدم عليه إن كان مصيبا في نفس الأمر فواضح وإلا فمعذور وقد تقرر من هذا الأصل أن قسم المتشابهات مركب من تعارض النفي والإثبات إذ لو لم يتعارضا لكان من قسم الواضحات وأن الواضح بإطلاق لم يتعارض فيه نفي مع إثبات بل هو إما منفي قطعا وإما مثبت قطعا وأن الإضافي إنما صار إضافيا لأنه مذبذب بين الطرفين الواضحين فيقرب عند بعض من أحد الطرفين وعند بعض من الطرف الآخر وربما جعله بعض الناس من قسم المتشابهات فهو غير مستقر في نفسه فلذلك صار إضافيا لتفاوت مراتب الظنون في القوة

158 والضعف ويجرى مجرى النفي في أحد الطرفين إثبات ضد الآخر فيه فثبوت العلم مع نفيه نقيضان كوقوع التكليف وعدمه وكالوجوب وعدمه وما أشبه ذلك وثبوت العلم مع ثبوت الظن أو الشك ضدان كالوجوب مع الندب أو الإباحة أو التحريم وما أشبه ذلك وهذا الأصل واضح في نفسه غير محتاج إلى إثباته بدليل ولكن لا بد من التأنيس فيه بأمثلة يستعان بها على فهمه وتنزيله والتمرن فيه إن شاء الله فمن ذلك أنه نهى عن بيع الغرر ورأينا العلماء أجمعوا على منع بيع الأجنة والطير في الهواء والسمك في الماء وعلى جواز بيع الجبة التى حشوها مغيب عن الأبصار ولو بيع حشوها بانفراده لامتنع وعلى جواز كراء الدار مشاهرة مع احتمال أن يكون الشهر ثلاثين أو تسعة وعشرين وعلى دخول الحمام مع اختلاف عادة الناس في استعمال الماء وطول اللبث وعلى شرب الماء من السقاء مع اختلاف العادات في مقدار الري فهذان طرفان في اعتبار الغرر وعدم اعتباره لكثرته في الأول وقلته مع عدم الإنفكاك عنه في الثاني فكل مسألة وقع الخلاف فيها في باب الغرر فهى متوسطة بين الطرفين آخذة بشبه من كل واحد منهما فمن أجاز مال إلى جانب اليسارة ومن منع مال إلى جانب الآخر

159 ومن ذلك مسألة زكاة الحلى وذلك أنهم أجمعوا على عدم الزكاة في العروض وعلى الزكاة في النقدين فصار الحلى المباح الاستعمال دائرا بين الطرفين فذلك وقع الخلاف فيها واتفقوا على قبول رواية العدل وشهادته وعلى عدم قبول ذلك من الفاسق وصار المجهول الحال دائرا بينهما فوقع الخلاف فيه واتفقوا على أن الحر يملك وأن البهيمة لا تملك ولما أخذ العبد بطرف من كل جانب اختلفوا فيه هل يملك أم لا بناء على تغليب حكم أحد الطرفين واتفقوا على أن الواجد للماء قبل الشروع في الصلاة يتوضأ ولا يصلى بتيممه وبعد إتمامها وخروج الوقت لا يلزمه الوضوء وإعادة الصلاة وما بين ذلك دائر بين الطرفين فاختلفوا فيه واتفقوا على أن ثمرة الشجرة إذا لم تظهر تابعة للأصل في البيع وعلى أنها غير تابعة لها إذا جذت واختلفوا فيها إذا كانت ظاهرة وإذا أفتى واحد وعرفه أهل الإجماع وأقروا بالقبول فإجماع بإتفاق أو أنكروا ذلك فغير إجماع باتفاق فإن سكتوا من غير ظهور إنكار فدائر بين الطرفين فلذلك اختلفوا فيه والمبتدع بما لا يتضمن كفرا من غير إقرار بالكفر دائر بين طرفين فإن المبتدع بما لا يتضمن كفرا من الأمة وبما اقتضى كفرا مصرحا

160 به ليس من الأمة فالوسط مختلف فيه هل هو من الأمة أم لا وأرباب النحل والملل اتفقوا على أن الباري تعالى موصوف بأوصاف الكمال بإطلاق وعلى أنه منزه عن النقائص بإطلاق واختلفوا في إضافة أمور إليه بناء على أنها كمال وعدم إضافتها إليه بناء على أنها نقائص وفى عدم إضافة أمور إليه بناء على أن عدم الإضافة كمال أو إضافتها بناء على أن الإضافة إليه هى الكمال وكذلك ما أشبهها فكل هذه المسائل إنما وقع الخلاف فيها لأنها دائرة بين طرفين واضحين فحصل الإشكال والتردد ولعلك لا تجد خلافا واقعا بين العقلاء معتدا به في العقليات أو في النقليات لا مبنيا على الظن ولا على القطع إلا دائر بين طرفين لا يختلف فيهما أصحاب الاختلاف فصل وبأحكام النظر في هذا المعنى يترشح للناظر أن يبلغ درجة الاجتهاد لأنه يصير بصيرا بمواضع الاختلاف جديرا بأن يتبين له الحق في كل نازلة تعرض له ولأجل ذلك جاء في حديث ابن مسعود أنه قال يا عبد الله

161 ابن مسعود قلت لبيك يا رسول الله قال أتدرى أي الناس أعلم قلت الله ورسوله أعلم قال أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس وإن كان مقصرا في العمل وإن كان يزحف في أسته فهذا تنبيه على المعرفة بمواقع الخلاف ولذلك جعل الناس العلم معرفة الاختلاف فعن قتادة من لم يعرف الاختلاف لم يشم أنفه الفقه وعن هشام بن عبيد الله الرازي من لم يعرف اختلاف القراءة فليس بقارئ ومن لم يعرف اختلاف الفقهاء فليس بفقيه وعن عطاء لا ينبغي لأحد أن يفتى الناس حتى يكون عالما باختلاف الناس فإنه إن لم يكن كذلك رد من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه وعن أيوب السختياني وابن عيينة أجسر الناس على الفتية أقلهم علما باختلاف العلماء زاد أيوب وأمسك الناس عن الفتيا أعلمهم باختلاف العلماء وعن مالك لا تجوز الفتيا إلا لمن علم ما اختلف الناس فيه قيل له اختلاف أهل الرأي قال لا اختلاف أصحاب محمد وعلم الناسخ والمنسوخ من القرآن ومن حديث الرسول الله وقال يحيى بن سلام لا ينبغي لمن لا يعرف

162 الاختلاف أن يفتى ولا يجوز لمن لا يعلم الأقاويل أن يقول هذا أحب إلى وعن سعيد بن أبي عروبة من لم يسمع الاختلاف فلا تعده عالما وعن قبيصة بن عقبه لا يفلح من لا يعرف اختلاف الناس وكلام الناس هنا كثير وحاصلة معرفة مواقع الخلاف لا حفظ مجرد الخلاف ومعرفة ذلك إنما تحصل بما تقدم من النظر فلا بد منه لكل مجتهد وكثيرا ما تجد هذا للمحققين في النظر كالمأزري وغيره المسألة الخامسة الاجتهاد إن تعلق بالاستنباط من النصوص فلا بد من اشتراط العلم بالعربية وإن تعلق بالمعاني من المصالح والمفاسد مجردة عن اقتضاء النصوص لها أو مسلمة من صاحب الاجتهاد في النصوص فلا يلزم في ذلك العلم بالعربية وإنما يلزم العلم بمقاصد الشرع من الشريعة جملة وتفصيلا خاصة والدليل على عدم الاشتراط في علم العربية أن علم العربية إنما يفيد مقتضيات

163 الألفاظ بحسب ما يفهم من الألفاظ الشرعية وألفاظ الشارع المؤدية لمقتضياتها عربية فلا يمكن من ليس بعربي أن يفهم لسان العرب كما لا يمكن التفاهم بين العربي والبربري أو الرومي أو العبراني حتى يعرف كل واحد مقتضى لسان صاحبه وأما المعاني مجردة فالعقلاء مشتركون في فهمها فلا يختص بذلك لسان دون غيره فإذا من فهم مقاصد الشرع من وضع الأحكام وبلغ فيها رتبة العلم بها ولو كان فهمه لها من طريق الترجمة باللسان الأعجمي فلا فرق بينه وبين من فهمها من طريق اللسان العربي ولذلك يوقع المجتهدون الأحكام الشرعية على الوقائع القولية التى ليست بعربية ويعتبرون الألفاظ في كثير من النوازل وأيضا فإن الاجتهاد القياسي غير محتاج فيه إلى مقتضيات الألفاظ إلا فيما يتعلق

164 بالمقيس عليه وهو الأصل وقد يؤخذ مسلما أو بالعلة النصوص عليها أو التى أومئ إليها ويؤخذ ذلك مسلما وما سواه فراجع إلى النظر العقلي وإلى هذا النوع يرجع الاجتهاد المنسوب إلى أصحاب الأئمة المجتهدين كابن القاسم وأشهب في مذهب مالك وأبي يوسف ومحمد بن الحسن في مذهب أبي حنيفة والمزني والبويطي في مذهب الشافعي فإنهم على ما حكى عنهم يأخذون أصول إمامهم وما بنى عليه في فهم ألفاظ الشريعة ويفرعون المسائل ويصدرون الفتاوي على مقتضى ذلك وقد قبل الناس أنظارهم وفتاويهم وعملوا على مقتضاها خالفت مذهب إمامهم أو وافقته وإنما كان كذلك لأنهم فهموا مقاصد الشرع في وضع الأحكام ولولا ذلك لم يحل لهم الإقدام على الاجتهاد والفتوى ولا حل لمن في زمانهم أو من بعدهم من العلماء أن يقرهم على ذلك ولا يسكت عن الإنكار عليهم على الخصوص فلما لم يكن شىء من ذلك دل على أن ما أقدموا عليه من ذلك كانوا خلقاء بالإقدام فيه فالاجتهاد منهم وممن كان مثلهم وبلغ في فهم مقاصد الشريعة مبالغهم صحيح لا إشكال فيه هذا

165 على فرض أنهم لم يبلغوا في كلام العرب مبلغ المجتهدين فأما إذا بلغوا تلك الرتبة فلا إشكال أيضا في صحة اجتهادهم على الإطلاق والله أعلم المسألة السادسة قد يتعلق الاجتهاد بتحقيق المناط فلا يفتقر في ذلك إلى العلم بمقاصد الشارع كما أنه لا يفتقر فيه إلى معرفة علم العربية لأن المقصود من هذا الاجتهاد إنما هو العلم بالموضوع على ما هو عليه وإنما يفتقر فيه إلى العلم بما لا يعرف ذلك الموضوع إلا به من حيث قصدت المعرفة به فلا بد أن يكون المجتهد عارفا ومجتهدا من تلك الجهة التى ينظر فيها ليتنزل الحكم الشرعي على وفق ذلك المقتضى كالمحدث العارف بأحوال الأسانيد وطرقها وصحيحها من سقيمها وما يحتج به من متونها مما لا يحتج به فهذا يعتبر اجتهادة فيما هو عارف به كان عالما بالعربية أم لا وعارفا بمقاصد الشارع أم لا وكذلك القارئ في تأدية وجوه

166 القرءات والصانع في معرفة عيوب الصناعات والطبيب في العلم بالأدواء والعيوب وعرفاء الأسواق في معرفة قيم السلع ومداخل العيوب فيها والعاد في صحة القسمة والماسح في تقدير الأرضين ونحوها كل هذا وما أشبهه مما يعرف به مناط الحكم الشرعي غير مضطر إلى العلم بالعربية ولا العلم بمقاصد الشريعة وإن كان اجتماع ذلك كمالا في المجتهد والدليل على ذلك ما تقدم من أنه لو كان لازما لم يوجد مجتهد إلا في الندرة بل هو محال عادة وإن وجد ذلك فعلى جهة خرق العادة كآدم عليه السلام حين علمه الله الأسماء كلها ولا كلام فيه وأيضا إن لزم في هذا الاجتهاد العلم بمقاصد الشارع لزم في كل علم وصناعة أن لا تعرف إلا بعد المعرفة بذلك إذ فرض من لزوم العلم بها العلم بمقاصد الشارع وذلك باطل فيما أدى إليه مثله فقد حصلت العلوم ووجدت من الجهال بالشريعة والعربية ومن الكفار

167 المنكرين للشريعة ووجه ثالث أن العلماء لم يزالوا يقلدون في هذه الأمور من ليس من الفقهاء وإنما اعتبروا أهل المعرفة بما قلدوا فيه خاصة وهو التقليد في تحقيق المناط فالحاصل أنه إنما يلزم في هذا الاجتهاد المعرفة بمقاصد المجتهد فيه كما أنه في الأولين كذلك فالاجتهاد في الاستنباط من الألفاظ الشرعية يلزم فيه المعرفة بمقاصد ذلك المناط من الوجه الذى يتعلق به الحكم لا من وجه غيره وهو ظاهر المسألة السابعة الاجتهاد الواقع في الشريعة ضربان أحدهما الاجتهاد المعتبر شرعا وهو الصادر عن أهله الذين اضطلعوا بمعرفة ما يفتقر إليه الاجتهاد وهذا هو الذى تقدم الكلام فيه والثانى غير المعتبر وهو الصادر عمن ليس بعارف بما يفتقر الاجتهاد إليه لأن حقيقته أنه رأى بمجرد التشهي والأغراض وخبط في عماية واتباع للهوى فكل رأي صدر على هذا الوجه فلا مرية في عدم اعتباره لأنه ضد الحق الذى أنزل الله كما قال تعالى وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم وقال تعالى يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله الآية وهذا على الجملة لا إشكال فيه ولكن قد ينشأ في كل واحد من القسمين قسم آخر فأما القسم الأول وهى

168 المسألة الثامنة فيعرض فيه الخطأ في الاجتهاد إما بخفاء بعض الأدلة حتى يتوهم فيه ما لم يقصد منه وإما بعدم الإطلاع عليه جملة وحكم هذا القسم معلوم من كلام الأصوليين إن كان في أمر جزئي وأما إن كان في أمر كلي فهو أشد وفى هذا الموطن حذر من زلة العالم فإنه جاء في بعض الحديث عن النبي التحذير منها فروى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال إني لأخاف على أمتي من بعدي من أعمال ثلاثة قالوا وما هى يا رسول الله قال أخاف عليهم من زلة العالم ومن حكم جائر ومن هوى متبع وعن عمر ثلاث يهدمن الدين زلة العالم وجدال منافق بالقرآن وأئمة مضلون وعن أبي الدرداء إن مما أخشى عليكم زلة العالم أو جدال المنافق بالقرآن والقرآن حق وعلى القرآن منار كمنار الطريق وكان معاذ بن جبل يقول في خطبته كثيرا وإياكم وزيغة الحكيم فإن

169 الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم بكلمة الضلالة وقد يقول المنافق الحق فتلقوا الحق عمن جاء به فإن على الحق نورا قالوا وكيف زيغة الحكيم قال هى كلمة تروعكم وتنكرونها وتقولون ما هذه فاحذروا زيغته ولا تصدنكم عنه فإنه يوشك أن يفئ وأن يراجع الحق وقال سلمان الفارسي كيف أنتم عند ثلاث زلة عالم وجدال منافق بالقرآن ودنيا تقطع أعناقكم فأما زلة العالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم تقولون نصنع مثل ما يصنع فلان وننتهي عما ينتهي عنه فلان وإن أخطأ فلا تقطعوا إياسكم منه فتعينوا عليه الشيطان الحديث وعن ابن عباس ويل للأتباع من عثرات العالم قيل كيف ذلك قال يقول العالم شيئا برأيه ثم يجد من هو أعلم برسول الله منه فيترك قوله ثم يمضى الاتباع وعن ابن مبارك أخبرني المعتمر بن سليمان قال رآني أبي وأنا أنشد الشعر فقال لي يا بني لا تنشد الشعر فقلت له يا أبت كان الحسن ينشد وكان ابن سيرين ينشد فقال لي أي بني إن أخذت بشر ما في الحسن وبشر ما في ابن سيرين اجتمع فيك الشر كله وقال مجاهد والحكم بن عيينة ومالك ليس أحد من خلق الله إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي وقال سليمان التيمي إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله قال ابن عبد البر هذا إجماع لا أعلم فيه خلافا

170 وهذا كله وما أشبهه دليل على طلب الحذر من زلة العالم وأكثر ما تكون عند الغفلة عن اعتبار مقاصد الشارع في ذلك المعنى الذى اجتهد فيه والوقوف دون أقصى المبالغة في البحث عن النصوص فيها وهو وإن كان على غير قصد ولا تعمد وصاحبه معذور ومأجور لكن مما ينبني عليه في الإتباع لقوله فيه خطر عظيم وقد قال الغزالي إن زلة العالم بالذنب قد تصير كبيرة وهى في نفسها صغيرة وذكر منها أمثلة ثم قال فهذه ذنوب يتبع العالم عليها فيموت العالم ويبقى شره مستطيرا في العالم أياما متطاولة فطوبى لمن إذا مات ماتت معه ذنوبه وهكذا الحكم مستمر في زلته في الفتيا من باب أولى فإنه ربما خفي على العالم بعض السنة أو بعض المقاصد العامة في خصوص مسألته فيفضى ذلك إلى أن يصير قوله شرعا يتقلد وقولا يعتبر في مسائل الخلاف فربما رجع عنه وتبين له الحق فيفوته تدارك ما سار في البلاد عنه ويضل عنه تلافيه فمن هنا قالوا زلة العالم مضروب بها الطبل فصل إذا ثبت هذا فلا بد من النظر في أمور تنبني على هذا الأصل منها أن زلة العالم لا يصح اعتمادها من جهة ولا الأخذ بها تقليدا له وذلك لأنها موضوعة على المخالفة للشرع ولذلك عدت زلة وإلا فلو كانت معتدا بها لم يجعل لها هذه الرتبة ولا نسب إلى صاحبها الزلل فيها كما أنه لا ينبغي أن ينسب صاحبها إلى

171 التقصير ولا أن يشنع عليه بها ولا ينتقص من أجلها أو يعتقد فيه الإقدام على المخالفة بحتا فإن هذا كله خلاف ما تقتضي رتبته في الدين وقد تقدم من كلام معاذ بن جبل وغيره ما يرشد إلى هذا المعنى وقد روى عن ابن المبارك أنه قال كنا في الكوفة فناظروني في ذلك يعني في النبيذ المختلف فيه فقلت لهم تعالوا فليحتج المحتج منكم عمن شاء من أصحاب النبي بالرخصة فإن لم نبين الرد عليه عن ذلك الرجل بشدة صحت عنه فاحتجوا فما جاءوا عن واحد برخصة إلا جئناهم بشدة فلما لم يبق في يد أحد منهم إلا عبد الله بن مسعود وليس احتجاجهم عنه في رخصة النبيذ بشيء يصح عنه قال ابن المبارك فقلت للمحتج عنه في الرخصة يا أحمق عد أن ابن مسعود لو كان ههنا جالسا فقال هو لك حلال وما وصفنا عن النبي وأصحابه في الشدة كان ينبغي لك أن تحذر أو تحير أو تخشى فقال قائلهم يا أبا عبد الرحمن فالنخعي والشعبي وسمى عدة معهما كانوا يشربون الحرام فقلت لهم دعوا عند الاحتجاج تسمية الرجال فرب رجل في الإسلام مناقبه كذا وكذا وعسى أن يكون منه زلة أفلأحد أن يحتج بها فإن أبيتم فما قولكم في عطاء وطاوس وجابر بن زيد وسعيد بن جبير وعكرمة قالوا كانوا

172 خيارا قال فقلت فما قولكم في الدرهم بالدرهمين يدا بيد فقالوا حرام فقال ابن المبارك إن هؤلاء رأوه حلالا فماتوا وهم يأكلون الحرام فبقوا وانقطعت حجتهم هذا ما حكى والحق ما قال ابن المبارك فإن الله تعالى يقول فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول الآية فإذا كان بينا ظاهرا أن قول القائل مخالف للقرآن أو للسنة لم يصح الاعتداد به ولا البناء عليه ولأجل هذا ينقض قضاء القاضي إذا خالف النص أو الإجماع مع أن حكمه مبنى على الظواهر مع إمكان خلاف الظاهر ولا ينقض مع الخطأ في الاجتهاد وإن تبين لأن مصلحة نصب الحاكم تناقض نقض حكمه ولكن ينقض مع مخالفة الأدلة لأنه حكم بغير ما أنزل الله فصل ومنها أنه لا يصح اعتمادها خلافا في المسائل الشرعية لأنها لم تصدر في الحقيقة عن اجتهاده ولا هى من مسائل الاجتهاد وإن حصل من صاحبها اجتهاد فهو لم يصادف فيها محلا فصارت في نسبتها إلى الشرع كأقوال غير المجتهد وإنما يعد في الخلاف الأقوال الصادرة عن أدلة معتبرة في الشريعة كانت مما يقوى أو يضعف وأما إذا صدرت عن مجرد خفاء الدليل أو عدم مصادفته فلا فلذلك قيل إنه لا يصح أن يعتد بها في الخلاف كما لم يعتد السلف الصالح بالخلاف في مسألة ربا الفضل والمتعة ومحاشي النساء وأشباهها من المسائل التى خفيت فيها الأدلة على من خالف فيها

173 فإن قيل فماذا يعرف من الأقوال ما هو كذلك مما ليس كذلك فالجواب أنه من وظائف المجتهدين فهم العارفون بما وافق أو خالف وأما غيرهم فلا تمييز لهم في هذا المقام ويعضد هذا المخالفة للأدلة الشرعية على مراتب فمن الأقوال ما يكون خلافا لدليل قطعي من نص متواتر أو إجماع قطعي في حكم كلي ومنها ما يكون خلافا لدليل ظني والأدلة الظنية متفاوتة كأخبار الآحاد والقياس الجزئية فأما المخالف للقطعي فلا إشكال في اطراحه ولكن العلماء ربما ذكروه للتنبيه عليه وعلى ما فيه لا للاعتداد به وأما المخالف للظني ففيه الاجتهاد بناء على التوازن بينه وبين ما اعتمده صاحبه من القياس أو غيره فإن قيل فهل لغير المجتهد من المتفقهين في ذلك ضابط يعتمده أم لا فالجواب أن له ضابطا تقريبيا وهو أن ما كان معدودا في الأقوال غلطا وزللا قليل جدا في الشريعة وغالب الأمر أن أصحابها منفردون بها قلما يساعدهم عليها مجتهد آخر فإذا انفرد صاحب قول عن عامة الأمة فليكن اعتقادك أن الحق مع السواد الأعظم من المجتهدين لا من المقلدين فصل وقد عد ابن السيد هذا المكان من أسباب الخلاف حين عد جهة الرواية وأن لها ثماني علل فساد الإسناد ونقل الحديث على المعنى أو من المصحف والجهل بالإعراب والتصحيف وإسقاط جزء الحديث أو سببه وسماع

174 بعض الحديث وفوت بعضه وهذه الأشياء ترجع إلى معنى ما تقدم إذا صح أنها في المواضع المختلف فيها علل حقيقة فإنه قد يقع الخلاف بسبب الاجتهاد في كونها موجودة في محل الخلاف وإذا كان على هذا الوجه فالخلاف معتد به بخلاف الوجه الأول وأما القسم الثاني وهى المسألة التاسعة فيعرض فيه أن يعتقد في صاحبه أو يعتقد هو في نفسه أنه من أهل الاجتهاد وأن قوله معتد به وتكون مخالفته تارة في جزئي وهو أخف وتارة في كلي من كليات الشريعة وأصولها العامة كانت من أصول الاعتقادات أو الأعمال فتراه آخذا ببعض جزئياتها في هدم كلياتها حتى يصير منها إلى ما ظهر له ببادئ

175 رأيه من غير إحاطة بمعانيها ولا راجع رجوع الافتقار إليها ولا مسلم لما روى عنهم في فهمها ولا راجع إلى الله ورسوله في أمرها كما قال فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول الآية ويكون الحامل على ذلك بعض الأهواء الكامنة في النفوس الحاملة على ترك الاهتداء بالدليل الواضح واطراح النصفة والاعتراف بالعجز فيما لم يصل إليه علم الناظر ويعين على هذا الجهل بمقاصد الشريعة وتوهم بلوغ درجة الاجتهاد باستعجال نتيجة الطلب فإن العاقل قلما يخاطر بنفسه في اقتحام المهالك مع العلم بأنه مخاطر وأصل هذا القسم مذكور في قوله تعالى هو الذى أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات الآية وفى الصحيح أن النبي قرأ هذه الآية ثم قال إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم والتشابه في القرآن

176 لا يختص بما نص عليه العلماء من الأمور الإلهية الموهمة للتشبيه ولا العبارات المجملة ولا ما يتعلق بالناسخ والمنسوخ ولا غير ذلك مما يذكرون بل هو من جملة ما يدخل تحت مقتضى الآية إذ لا دليل على الحصر وإنما يذكرون من ذلك ما يذكرون على عادتهم في القصد إلى مجرد التمثيل ببعض الأمثلة الداخلة تحت النصوص الشرعية فإن الشريعة إذا كان فيها أصل مطرد في أكثرها مقرر واضح في معظمها ثم جاء بعض المواضع فيها مما يقتضي ظاهرة مخالفة ما اطرد فذلك من المعدود في المتشابهات التى يتقى اتباعها لأن اتباعها مفض إلى ظهور معارضة بينها وبين الأصول المقررة والقواعد المطردة فإذا اعتمد على الأصول وأرجئ أمر النوادر ووكلت إلى عالمها أو ردت إلى أصولها فلا ضرر على المكلف المجتهد ولا تعارض في حقه ودل على ذلك قوله تعالى منه آيات محكمات هن أم الكتاب فجعل المحكم وهو الواضح المعنى الذي لا إشكال فيه ولا اشتباه هو الأم والأصل المرجوع إليه ثم قال وأخر متشابهات يريد وليست بأم ولا معظم فهى إذا قلائل ثم أخبر أن اتباع المتشابه منها شأن

177 أهل الزيغ والضلال عن الحق والميل عن الجادة وأما الراسخون في العلم فليسوا كذلك وما ذاك إلا باتباعهم أم الكتاب وتركهم الاتباع للمتشابه وأم الكتاب يعم ما هو من الأصول الإعتقادية أو العملية إذ لم يخص الكتاب ذلك ولا السنة بل ثبت في الصحيح عن أبي هريرة قال قال رسول الله افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة وفي الترمذي تفسير هذا بإسناد غريب عن غير أبي هريرة فقال في حديثه وأن بني إسرائيل تفرقت على اثنتين وسبعين ملة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة قالوا من هى يا رسول الله قال ما أنا عليه وأصحابي والذي عليه النبي وأصحابه ظاهر في الأصول الاعتقادية والعملية على الجملة لم يخص من ذلك شيء دون شيء وفي أبي داود وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهى الجماعة وهى بمعنى الرواية التى قبلها وقد

178 روى ما يبين هذا المعنى ذكره ابن عبد البر بسند لم يرضه وإن كان غيره قد هون الأمر فيه أنه قال ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فتنة الذين يقيسون الأمور برأيهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال فهذا نص على دخول الأصول العملية تحت قوله ما أنا عليه وأصحابي وهو ظاهر فإن المخالف في أصل من أصول الشريعة العملية لا يقصر عن المخالف في أصل من الأصول الاعتقادية في هدم القواعد الشرعية فصل وقد وجدنا في الشريعة ما يدلنا على بعض الفرق التى يظن أن الحديث شامل لها وأنها مقصودة الدخول تحته فإنه جاء في القرآن أشياء تشير إلى أوصاف يتعرف منها أن من اتصف بها فهو آخذ في بدعة خارج عن مقتضى الشريعة وكذلك في الأحاديث الصحيحة فمن تتبع مواضعها ربما اهتدى إلى جملة منها وربما ورد التعيين في بعضها كما قال عليه الصلاة والسلام في الخوارج إن من ضئضئي هذا قوما يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية

179 وفي رواية دعه يعني ذا الخويصرة فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام الحديث إلى أن قال آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة ومثل البضعة تدردر الخ فقد عرف عليه الصلاة والسلام بهؤلاء وذكر لهم علامة في صاحبهم وبين من مذهبهم في معاندة الشريعة أمرين كليين أحدهما اتباع ظواهر القرآن على غير تدبر ولا نظر في مقاصده ومعاقده والقطع بالحكم به ببادئ الرأي والنظر الأول وهو الذي نبه عليه قوله في الحديث يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم ومعلوم أن هذا الرأي يصد عن اتباع الحق المحض ويضاد المشي على الصراط المستقيم ومن هنا ذم بعض العلماء رأي داود الظاهري وقال إنها بدعة ظهرت بعد المائتين ألا ترى أن من جرى على مجرد الظاهر تناقضت عليه الصور والآيات وتعارضت في يديه الأدلة على الإطلاق والعموم وتأمل ما ذكره القتبي في صدر كتابه في مشكل القرآن وكتابه في مشكل الحديث يبين لك صحة هذا الإلزام فإن ما ذكره هنالك آخذ ببادئ الرأي في مجرد الظواهر

180 والثاني قتل أهل الإسلام وترك أهل الأوثان على ضد ما دلت عليه جملة الشريعة وتفصيلها فإن القرآن والسنة إنما جاءت للحكم بأن أهل الإسلام في الدنيا والآخرة ناجون وأن أهل الأوثان هالكون ولتعصم هؤلاء وتريق دم هؤلاء على الإطلاق فيهما والعموم فإذا كان النظر في الشريعة مؤديا إلى مضادة هذا القصد صار صاحبه هادما لقواعدها وصادا عن سبيلها ومن تأمل كلامهم في مسألة التحكيم مع علي بن أبي طالب وابن عباس وفى غيرها ظهر له خروجهم عن القصد وعدولهم عن الصواب وهدمهم للقواعد وكذلك مناظرتهم عمر بن عبد العزيز وأشباه ذلك فهذان وجهان ذكرا في الحديث من مخالفتهم لقواعد الشريعة الكلية اتباعا للمتشابهات وقد ذكر الناس من آرائهم غير ذلك من جنسه كتكفيرهم لأكثر الصحابة ولغيرهم ومنه سرى قتلهم لأهل الإسلام وأن الفاعل للفعل إذا لم يعلم أنه حلال أو حرام فليس بمؤمن وأن لا حرام إلى ما في قوله قل لا أجد في ما أوحي إلى الآية وما سوى ذلك فحلال وأن الإمام إذا كفر كفرت رعيته كلهم شاهدهم وغائبهم وأن التقية لا تجوز في قول ولا فعل على الإطلاق والعموم وأن الزاني لا يرجم بإطلاق والقاذف للرجال لا يحد وإنما يحد قاذف النساء خاصة وأن الجاهل معذور في أحكام الفروع بإطلاق وأن الله سيبعث نبيا من العجم بكتاب ينزله الله عليه جملة واحدة ويترك شريعة محمد وأن المكلف قد يكون مطيعا بفعل الطاعة غير قاصد بها وجه الله وإنكارهم سورة يوسف من القرآن وأشباه ذلك وكلها مخالفة لكليات شرعية أصلية أو عملية

181 ولكن الغالب في هذه الفرق أن يشار إلى أوصافهم ليحذر منها ويبقى الأمر في تعيينهم مرجى كما فهمنا من الشريعة ولعل عدم تعيينهم هو الأولى الذى ينبغي أن يلتزم ليكون سترا على الأمة كما سترت عليهم قبائحهم فلم يفضحوا في الدنيا بها في الحكم الغالب العام وأمرنا بالستر على المذنبين ما لم يبد لنا صفحة الخلاف ليس كما ذكر عن بنى إسرائيل أنهم كانوا إذا أذنب أحدهم ذنبا أصبح وعلى بابه معصيته مكتوبة وكذلك في شأن قرابينهم فإنهم كانوا إذا قربوها أكلت النار المقبول منها وتركت غير المقبول وفي ذلك افتضاح المذنب إلى ما أشبه ذلك فكثير من هذه الأشياء خصت بها هذه الأمة وقد قالت طائفة إن من الحكمة في تأخير هذه الأمة عن سائر الأمم أن تكون ذنوبهم مستورة عن غيرهم فلا يطلع عليها كما اطلعوا هم على ذنوب غيرهم ممن سلف وللستر حكمة أيضا وهى أنها لو أظهرت مع أن أصحابها من الأمة لكان في ذلك داع إلى الفرقة والوحشة وعدم الألفة التى أمر الله بها ورسوله حيث قال تعالى واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وقال فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وقال ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا وفي الحديث لا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا وأمر عليه الصلاة والسلام بإصلاح ذات البين وأخبر أن فساد ذات البين هى الحالقة وأنها تحلق الدين والشريعة طافحة بهذا المعنى ويكفي فيه ما ذكره المحدثون في كتاب البر والصلة وقد جاء في قوله تعالى إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ الآية أنه روى عن عائشة وأبي هريرة هذا حديث عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه

182 وسلم يا عائشة إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا من هم قلت الله ورسوله أعلم قال هم أصحاب الأهواء وأصحاب البدع وأصحاب الضلالة من هذه الأمة يا عائشة إن لكل ذنب توبة ما خلا أصحاب الأهواء والبدع ليس لهم توبة وأنا منهم بري وهم مني برءآء فإذا كان من مقتضى العادة أن التعريف بهم على التعيين يورث العداوة والفرقة وترك الموالفة لزم من ذلك أن يكون منهيا عنه إلا أن تكون البدعة فاحشة جدا كبدعة الخوارج فلا إشكال في جواز إبدائها وتعيين أهلها كما عين رسول الله الخوارج وذكرهم بعلامتهم حتى يعرفون ويحذر منهم ويلحق بذلك ما هو مثله في الشناعة أو قريب منه بحسب نظر المجتهد وما سوى ذلك فالسكوت عن تعيينه أولى وخرج أبو داود عن عمر ابن أبي قرة قال كان حذيفة بالمدائن فكان يذكر أشياء قالها رسول الله لأناس من أصحابه في الغضب فينطلق ناس ممن سمع ذلك من حذيفة فيأتون سلمان فيذكرون له قول حذيفة فيقول سلمان حذيفة أعلم بما يقول فيرجعون

183 إلى حذيفة فيقولون له قد ذكرنا قولك لسلمان فما صدقك ولا كذبك فأتى حذيفة سلمان وهو في مبقلة فقال يا سلمان ما يمنعك أن تصدقني بما سمعت من رسول الله فقال إن رسول الله يغضب فيقول لناس من أصحابه ويرضى فيقول في الرضى لناس من أصحابه أما تنتهي حتى تورث رجالا حب رجال ورجالا بغض رجال وحتى توقع اختلافا وفرقة ولقد علمت أن رسول الله خطب فقال أيما رجل من أمتي سببته سبة أو لعنته لعنة في غضبي فإنما أنا من ولد آدم أغضب كما يغضبون وإنما بعثني رحمة للعالمين فاجعلها عليهم صلاة يوم القيامة فوالله لتنتهين أو لأكتبن إلى عمر فهذا من سلمان حسن من النظر فهو جار في مسألتنا فإن قيل فالبدع مأمور باجتنابها واجتناب أهلها والتحذير منهم والتشديد بهم وتقبيح ما هم عليه فكيف يكون ذكر ذلك والتنبيه عليه غير جائز فالجواب أن النبي نبه في الجملة عليهم إلا القليل منهم كالخوارج ونبه على البدع من غير تفصيل وأن الأمة ستفترق على تلك العدة المذكورة وأشار إلى خواص عامة فيهم وخاصة ولم يصرح بالتعيين غالبا تصريحا لقطع العذر ولا ذكر فيهم علامة قاطعة لا تلتبس فنحن أولى بذلك معشر الأمة وما ذكره المتقدمون من ذلك فبحسب فحش تلك البدع وأنها لاحقة

184 فى جواز ذكرها بالخوارج ونحوهم مع أن التعيين إذا كان بحسب الاجتهاد فهو ممكن أن يكون هو المراد في نفس الأمر أو بعضه فمن بلغ رتبة الاجتهاد اجتهد والأصل ما تقدم من الستر حتى يظهر أمر فيكون له حكمه ويبقى النظر هل هذا الظاهر من جملة ما يدخل تحت الحديث أم لا فهو موضع اجتهاد وأيضا فإن البدع المحدثة تختلف فليست كلها في مرتبة واحدة في الضلال ألا ترى أن بدعة الخوارج مباينة غاية المباينة لبدعة التثويب بالصلاة التى قال فيها مالك التثويب ضلال وقد قسم المتقدمون البدع إلى ما هو مكروه وإلى ما هو محرم ولو كانت عندهم على سواء لكانت قسما واحدا وإذا كان كذلك فالبدع التى تفترق بها الأمة مختلفة الرتب في القبح وبسبب ذلك يظهر أنها كثيرة جدا وما في الحديث محصور فيمكن أن يكون بعضها غير داخل في الحديث أو يكون بعضها جزءا من بدعة فوقها أعظم منها أو لا تكون داخلة من حيث هى عند العلماء من قبيل المكروه فصار القطع على خصوصياتها فيه نظر واشتباه فلا يقدم على ذلك إلا ببرهان قاطع وهذا كالمعدوم فيها فمن هذه الجهات صار الأولى ترك التعيين فيها

185 فإن قيل فالعلماء يقولون خلاف هذا وإن الواجب هو التشديد بهم والزجر لهم والقتل ومناصبة القتال إن امتنعوا وإلا أدى ذلك إلى فساد الدين فالجواب أن ذلك حكم فيهم كما هو في سائر من تظاهر بمعصية صغيرة أو كبيرة أو دعا إليها أن يؤدب أو يزجر أو يقتل إن امتنع من فعل واجب أو ترك محرم كما يقتل تارك الصلاة وإن كان مقرا إلى ما دون ذلك وإنما الكلام في تعيين أصحاب البدع من حيث هي بدع يشملها الحديث فتوجه الأحكام شيء والتعيين للدخول تحت الحديث شيء آخر فصل ولهؤلاء الفرق خواص وعلامات في الجملة وعلامات أيضا في التفصيل فأما عالمات الجملة فثلاث إحداها الفرقة التى نبه عليها قوله تعال إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ وقوله ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا وغير ذلك من الأدلة قال بعض المفسرين صاروا فرقا لاتباع أهوائهم وبمفارقة الدين تشتت أهواؤهم فافترقوا وهو قوله إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ثم برأه الله منهم بقوله لست منهم في شيء وهم أصحاب البدع والكلام فيما لم يأذن الله فيه ولا رسوله قال ووجدنا أصحاب رسول الله من بعده قد اختلفوا في أحكام الدين ولم يفترقوا ولم يصيروا شيعا لأنهم لم يفارقوا الدين وإنما اختلفوا فما أذن لهم من اجتهاد الرأي والاستنباط من الكتاب والسنة فيما لم

186 يجدوا فيه نصا واختلفت في ذلك أقوالهم فصاروا محمودين لأنهم اجتهدوا فيما أمروا به كإختلاف أبي بكر وعمر وزيد في الجد مع الأم وقول عمر وعلي في أمهات الأولاد وخلافهم في الفريضة المشتركة وخلافهم في الطلاق قبل النكاح وفي البيوع وغير ذلك مما اختلفوا فيه وكانوا مع هذا أهل مودة وتناصح أخوة الإسلام فيما بينهم قائمة فلما حدثت المرذية التى حذر منها رسول الله وظهرت العداوات وتحزب أهلها فصاروا شيعا دل على أنه إنما حدث ذلك من المسائل المحدثة التى ألقاها الشيطان على أفواه أوليائه قال فكل مسألة حدثت في الإسلام فاختلف الناس فيها ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء ولا فرقة علمنا أنها من مسائل الإسلام وكل مسألة طرأت فأوجبت العداوة والتنافر والتنابز والقطيعة علمنا أنها ليست من أمر الدين في شئ وأنها التى عنى رسول الله بتفسير الآية وهى قوله إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا وقد تقدمت فيجب على كل ذي دين وعقل أن يجتنبها ودليل ذلك قوله تعالى واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا فإذا اختلفوا وتقاطعوا

187 كان ذلك لحدث أحدثوه من اتباع الهوى هذا ما قالوه وهو ظاهر في أن الإسلام يدعو إلى الألفة والتحاب والتراحم والتعاطف فكل رأي أدى إلى خلاف ذلك فخارج عن الدين وهذه الخاصية موجودة في كل فرقة من تلك الفرق ألا ترى كيف كانت ظاهرة في الخوارج الذين أخبر بهم النبي عليه الصلاة والسلام في قوله يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان وأي فرقة توازى هذا إلا الفرقة التى بين أهل الإسلام وأهل الكفر وهكذا تجد الأمر في سائر من عرف من الفرق أو من ادعى ذلك فيهم والخاصة الثانية هى التى نبه عليها قوله تعالى فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة الآية فجعل أهل الزيغ والميل عن الحق ممن شأنهم إتباع المتشابهات وقد تبين معناه وقال عليه الصلاة والسلام فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم والخاصية الثالثة اتباع الهوى وهى التى نبه عليها قوله فأما الذين في قلوبهم زيغ وهو الميل عن الحق اتباعا للهوى وقوله ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله وقوله أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم الآية

188 إلا أن هذه الخاصية راجعة إلى كل أخذ في خاصة نفسة لأنها أمر باطن فلا يعرفها غير صاحبها إلا أن يكون عليها دليل في الظاهر والتى قبلها راجعة إلى العلماء الراسخين في العلم لأن بيان المحكم والمتشابه راجع إليهم فهم يعرفونها ويعرفون أهلها بمعرفتهم لها والتى قبلها تعم جميع العقلاء من أهل الإسلام لأن التواصل أو التقاطع معروف للناس كلهم وبمعرفته يعرف أهله وأما العلامات التفصيلية في فرقة فقد نبه عليها وأشير إليها كما في قوله تعالى فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إلى قوله ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وقوله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله الآية وقوله ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى إلى آخرها وقوله إنما النسىء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما الآية وقوله وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه الآية وقوله ومن الناس من يعبد الله على حرف إلى آخر الآيتين وقوله يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إلى قوله لا يضركم من ضل إذا اهتديتم وقوله قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها الآية وقوله ثمانية أزواج من الضأن اثنين إلى قوله إن الله لا يهدى القوم الظالمين إلى غير ذلك مما نبه عليه القرآن الحكيم وكذلك في الحديث كقوله إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلماء حتى إذا لم يترك عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا وكذلك ما تقدم ذكره في قسم زلة

189 العالم وغيره مما في الأحاديث المختصة بهذا المعنى وإنما نبه عليها لتنبيه الشرع عليها ولم يصرح بها على الإطلاق لما تقدم ذكره فمن تهدى إليها فذاك وإلا فلا عليه أن لا يعلمها والله الموفق للصواب فصل ومن هذا يعلم أنه ليس كل ما يعلم مما هو حق يطلب نشره وإن كان من علم الشريعة ومما يفيد علما بالأحكام بل ذلك ينقسم فمنه ما هو مطلوب النشر وهو غالب علم الشريعة ومنه ما لا يطلب نشره بإطلاق أو لا يطلب نشره بالنسبة إلى حال أو وقت أو شخص ومن ذلك تعيين هذه الفرق فإنه وإن كان حقا فقد يثير فتنة كما تبين تقريره فيكون من تلك الجهة ممنوعا بثه ومن ذلك علم المتشابهات والكلام فيها فإن الله ذم من اتبعها فإذا ذكرت وعرضت للكلام فيها فربما أدى ذلك إلى ما هو مستغنى عنه وقد جاء في الحديث عن علي حدثوا الناس بما يفهمون أتريدون أن يكذب الله ورسوله وفى الصحيح عن معاذ أنه عليه الصلاة والسلام قال يا معاذ تدرى ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله الحديث إلى أن قال قلت يا رسول أفلا أبشر الناس قال لا تبشرهم فيتكلوا وفى حديث آخر عن معاذ في مثله قال يا رسول الله أفلا أخبر بها فيستبشروا فقال إذا يتكلوا

190 قال أنس فأخبر بها معاذ عند موته تأثما ونحو من هذا عن عمر بن الخطاب مع أبى هريرة أنظره في كتاب مسلم والبخاري فإنه قال فيه عمر يا رسول الله بأبي أنت وأمي أبعثت أبا هريرة بنعليك من لقي يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا به قلبه بشره بالجنة قال نعم قال فلا تفعل فإني أخشى أن يتكل الناس عليها فخلهم يعملون فقال رسول الله فخلهم وحديث ابن عباس عن عبد الرحمن بن عوف قال لو شهدت أمير المؤمنين أتاه رجلا فقال إن فلانا يقول لو مات أمير المؤمنين لبايعنا فلانا فقال عمر لأقومن العشية فأحذر هؤلاء الرهط الذين يريدون يغضبونهم قلت لا تفعل فإن الموسم يجمع رعاع الناس ويغلبون على مجلسك فأخاف أن لا ينزلها على وجهها فيطيروا بها كل مطير وأمهل حتى تقدم المدينة دار الهجرة ودار السنة فتلخص بأصحاب رسول الله من المهاجرين والأنصار ويحفظوا مقالتك وينزلوها على وجهها فقال والله لأقومن في أول مقام أقومه بالمدينة الحديث ومنه حديث سلمان مع حذيفة وقد تقدم ومنه أن لا يذكر للمبتدئ من العلم ما هو حظ المنتهى بل يربي بصغار

191 العلم قبل كباره وقد فرض العلماء مسائل مما لا يجوز الفتيا بها وإن كانت صحيحة في نظر الفقه كما ذكر عز الدين بن عبد السلام في مسألة الدور في الطلاق لما يؤدى إليه من رفع حكم الطلاق بإطلاق وهو مفسدة من ذلك سؤال العوام عن علل مسائل الفقه وحكم التشريعات وإن كان لها علل صحيحة وحكم مستقيمة ولذلك أنكرت عائشة على من قالت لم تقضى الحائض الصوم ولا تقضى الصلاة وقالت لها أحروية أنت وقد ضرب عمر ابن الخطاب صبيغا وشرد به لما كان كثير السؤال عن أشياء من علوم القرآن لا يتعلق بها عمل وربما أوقع خيالا وفتنة وإن كان صحيحا وتلا قوله تعالى وفاكهة وأبا فقال هذه الفاكهة فما الأب ثم قال ما أمرنا بهذا إلى غير ذلك مما يدل على أنه ليس كل علم يبث وينشر وإن كان حقا وقد أخبر مالك عن نفسه أن عنده أحاديث وعلما ما تكلم فيها ولا حدث بها وكان يكره الكلام فيما ليس تحته عمل وأخبر عمن تقدمه أنهم كانوا يكرهون ذلك فتنبه لهذا المعنى وضابطه أنك تعرض مسألتك على الشريعة فإن صحت في ميزانها فانظر في مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله فإن لم يؤد ذكرها إلى مفسدة فاعرضها في ذهنك على العقول فإن قبلتها فلك أن تتكلم فيها إما على العموم ان كانت مما تقبلها العقول على العموم وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة الشرعية والعقلية

192 فصل هذه الفرق وإن كانت على ما هى عليه من الضلال فلم تخرج من الأمة ودل على ذلك قوله تفترق أمتي فإنه لو كانت ببدعتها تخرج من الأمة لم يضفها إليها وقد جاء في الخوارج في هذه الأمة كذا فأتى بفى المقتضية أنها فيها وفى جملتها وقال في الحديث وتتمارى في الفوق ولو كانوا خارجين من الأمة لم يقع تمار في كفرهم ولقال إنهم كفروا بعد إسلامهم

193 فإن قيل فقد اختلف العلماء في تكفير أهل البدع كالخوارج والقدرية وغيرهما فالجواب أنه ليس في النصوص الشرعية ما يدل دلالة قطعية على خروجهم عن الإسلام والأصل بقاؤه حتى يدل دليل على خلافه وإذا قلنا بتكفيرهم فليسوا إذا من تلك الفرق بل الفرق من لم تؤدهم بدعتهم إلى الكفر وإنما أبقت عليهم من أوصاف الإسلام ما دخلوا به في أهله والأمر بالقتل في حديث

194 الخوارج لا يدل على الكفر إذ للقتل أسباب غير الكفر كقتل المحارب والفئة الباغية بغير تأويل وما أشبه ذلك فالحق أن لا يحكم بكفر من هذا سبيله وبهذا كله يتبين أن التعيين في دخولهم تحت مقتضى الحديث صعب وأنه أمر اجتهادى لا قطع فيه إلا ما دل عليه الدليل القاطع للعذر وما أعز وجود مثله المسألة العاشرة النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا كانت الأفعال موافقة أو مخالفة وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل مشروعا لمصلحة فيه تستجلب أو لمفسدة تدرأ ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به ولكن له مآل على

195 خلاف ذلك فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى المفسدة تساوى المصلحة أو تزيد عليها فيكون هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم مشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية وهو مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب المذاق محمود الغب جار على مقاصد الشريعة والدليل على صحته أمور أحدها أن التكاليف كما تقدم مشروعة لمصالح العباد ومصالح العباد إما دنيوية وإما أخروية أما الأخروية فراجعة إلى مآل المكلف في الآخرة ليكون من أهل النعيم لا من أهل الجحيم وأما الدنيوية فإن الأعمال إذا تأملتها مقدمات لنتائج المصالح فإنها أسباب لمسببات هى مقصودة للشارع والمسببات هى مآلات الأسباب فاعتبارها في جريان الأسباب مطلوب وهو معنى النظر في المآلات لا يقال إنه قد مر في كتاب الأحكام أن المسببات لا يلزم الإلتفات إليها عند الدخول في الأسباب

196 لأنا نقول وتقدم أيضا أنه لا بد من اعتبار المسببات في الأسباب ومر الكلام في ذلك والجمع بين المطلبين ومسألتنا من الثاني لا من الأول لأنها راجعة إلى المجتهد الناظر في حكم غيره على البراءة من الحظوظ فإن المجتهد نائب عن الشارع في الحكم على أفعال المكلفين وقد تقدم أن الشارع قاصد للمسببات في الأسباب وإذا ثبت ذلك لم يكن للمجتهد بد من اعتبار المسبب وهو مآل السبب والثانى أن مآلات الأعمال إنما أن تكون معتبرة شرعا أو غير معتبرة فإن اعتبرت فهو المطلوب وإن لم تعتبر أمكن أن يكون للأعمال مآلات مضادة لمقصود تلك الأعمال وذلك غير صحيح لما تقدم من أن التكاليف لمصالح العباد ولا مصلحة تتوقع مطلقا مع إمكان وقوع مفسدة توازيها أو تزيد وأيضا فإن ذلك يؤدي إلى أن لا نتطلب مصلحة بفعل مشروع ولا نتوقع مفسدة بفعل ممنوع وهو خلاف وضع الشريعة كما سبق والثالث الأدلة الشرعية والاستقراء التام أن المآلات معتبرة في أصل المشروعية كقوله تعالى يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذى خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون وقوله كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون وقوله ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا

197 بها إلى الحكام الآية وقوله ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله الآية وقوله رسلا مبشرين ومنذرين الآية وقوله كتب عليكم القتال وهو كره لكم الآية وقوله ولكم في القصاص حياة وهذا مما فيه اعتبار المآل على الجملة وأما في مسألة على الخصوص فكثير فقد قال في الحديث حين أشير عليه بقتل من ظهر نفاقه أخاف أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه وقوله لولا قومك حديث عهدهم بكفر لأسست البيت على قواعد إبراهيم بمقتضى هذا أفتى مالك الأمير حين أراد أن يرد البيت على قواعد إبراهيم

198 فقال له لا تفعل لئلا يتلاعب الناس ببيت الله هذا معنى الكلام دون لفظه وفى حديث الأعرابي الذي بال في المسجد أمر النبي بتركه حتى يتم بوله وقال لا تزرموه وحديث النهي عن التشديد على النفس في العبادة خوفا من الإنقطاع وجميع ما مر في تحقيق المناط الخاص مما فيه هذا المعنى حيث يكون العمل في الأصل مشروعا لكن ينهى عنه لما يؤول إليه من المفسدة أو ممنوعا لكن يترك النهي عنه لما في ذلك من المصلحة وكذلك الأدلة الدالة على سد الذرائع كلها فإن غالبها تذرع بفعل جائز إلى عمل غير جائز فالأصل على المشروعية لكن مآله غير مشروع والأدلة الدالة على التوسعة ورفع الحرج كلها فإن غالبها سماح في عمل غير مشروع في الأصل لما يؤول إليه من الرفق المشروع ولا معنى للإطناب بذكرها لكثرتها واشتهارها قال ابن العربي حين أخذ في تقرير هذه المسألة اختلف الناس بزعمهم فيها وهى متفق عليها بين العلماء فافهموها وادخروها فصل وهذا الأصل ينبنى عليه قواعد منها قاعدة الذرائع التى حكمها مالك في أكثر أبواب الفقه لأن

199 حقيقتها التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة فإن عاقد البيع أولا على سلعة بعشرة إلى أجل ظاهر الجواز من جهة ما يتسبب عن البيع من المصالح على الجملة فإذا جعل مآل ذلك البيع مؤديا إلى بيع خمسة نقدا بعشرة إلى أجل بأن يشترى البائع سلعته من مشتريها بخمسة نقدا فقد صار مآل هذا العمل إلى أن باع صاحب السلعة من مشتريها منه خمسة نقدا بعشرة إلى أجل والسلعة لغو لا معنى لها في هذا العمل لأن المصالح التى لأجلها شرع البيع لم يوجد منها شىء ولكن هذا بشرط أن

200 يظهر لذلك قصد ويكثر في الناس بمقتضى العادة ومن أسقط حكم الذرائع كالشافعي فإنه اعتبر المال أيضا لأن البيع إذا كان مصلحة جاز وما فعل من البيع الثاني فتحصيل لمصلحة أخرى منفردة عن الأولى فكل عقدة منهما لها مآلها ومآلها في ظاهر أحكام الإسلام مصلحة فلا مانع على هذا إذ ليس ثم مآل هو مفسدة على هذا التقدير ولكن هذا بشرط أن لا يظهر قصد إلى المآل الممنوع ولأجل ذلك يتفق الفريقان على أنه لا يجوز التعاون على الإثم والعدوان بإطلاق واتفقوا في خصوص المسألة على أنه لا يجوز سب الأصنام حيث يكون سببا في سب الله عملا بمقتضى قوله تعالى ولا تبسوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم وأشباه ذلك من المسائل التى اتفق مالك مع الشافعي على منع التوسل فيها وأيضا فلا يصح أن يقول الشافعي إنه يجوز التدرع إلى الربا بحال إلا أنه لا يتهم من لم يظهر منه قصد إلى الممنوع ومالك يتهم بسبب ظهور فعل اللغو وهو دال على القصد إلى الممنوع فقد ظهر أن قاعدة الذرائع متفق

201 على اعتبارها في الجملة وإنما الخلاف في أمر آخر ومنها قاعدة الحيل فإن حقيقتها المشهورة تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر فمآل العمل فيها خرم قواعد الشريعة في الواقع كالواهب ماله عند رأس الحول فرارا من الزكاة فإن أصل الهبة على الجواز ولو منع الزكاة من غير هبة لكان ممنوعا فإن كل واحد منهما ظاهر أمره في المصلحة أو المفسدة فإذا جمع بينهما على هذا القصد صار مآل الهبة المنع من أداء الزكاة وهو مفسدة ولكن هذا بشرط القصد إلى إبطال الأحكام الشرعية

202 ومن أجاز الحيل كأبي حنيفة فإنه اعتبر المآل أيضا لكن على حكم الانفراد فإن الهبة على أي قصد كانت مبطلة لإيجاب الزكاة كإنفاق المال عند رأس الحول وأداء الدين منه وشراء العروض به وغيرها مما لا تجب فيه زكاة وهذا الإبطال صحيح جائز لأنه مصلحة عائدة على الواهب والمنفق لكن هذا بشرط أن لا يقصد إبطال الحكم فإن هذا القصد بخصوصه ممنوع لأنه عناد للشارع كما إذا امتنع من أداء الزكاة فلا يخالف أبو حنيفة في أن قصد إبطال الأحكام صراحا ممنوع وأما إبطالها ضمنا فلا وإلا امتنعت الهبة عند رأس الحول مطلقا ولا يقول بهذا واحد منهم ولذلك اتفقوا على تحريم القصد بالإيمان والصلاة وغيرهما إلى مجرد إحراز النفس والمال كالمنافقين والمرائين وما أشبه ذلك وبهذا يظهر أن التحيل على الأحكام الشرعية باطل على الجملة نظرا إلى المآل والخلاف إنما وقع في أمر آخر ومنها قاعدة مراعاة الخلاف وذلك أن الممنوعات في الشرع إذا وقعت

203 فلا يكون إيقاعها من المكلف سببا في الحيف عليه بزائد على ما شرع له من الزواجر أو غيرها كالغصب مثلا إذا وقع فإن المغصوب منه لا بد أن يوفى حقه لكن على وجه لا يؤدي إلى إضرار الغاصب فوق ما يليق به في العدل والإنصاف فإذا طولب الغاصب بأداء ما غصب أو قيمته أو مثله وكان ذلك من غير زيادة صح فلو قصد فيه حمل على الغاصب لم يلزم لأن العدل هو المطلوب ويصح إقامة العدل مع عدم الزيادة وكذلك الزاني إذا حد لا يزاد عليه بسبب جنايته لأنه ظلم له وكونه جانيا لا يجني عليه زائدا على الحد الموازي لجنايته إلى غير ذلك من الأمثلة الدالة على منع التعدي أخذا من قوله تعالى فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم وقوله والجروح قصاص ونحو ذلك وإذا ثبت هذا فمن واقع منهيا عنه فقد يكون فيما يترتب عليه من الأحكام زائد على ما ينبغي بحكم التبعية لا بحكم الأصالة أو مؤد إلى أمر أشد عليه من

204 مقتضى النهي فيترك وما فعل من ذلك أو نجيز ما وقع من الفساد على وجه يليق بالعدل نظرا إلى أن ذلك الواقع واقع المكلف فيه دليلا على الجملة وإن كان مرجوحا فهو راجح بالنسبة إلى إبقاء الحالة على ما وقعت عليه لأن ذلك أولى من إزالتها مع دخول ضرر على الفاعل أشد من مقتضى النهي فيرجع الأمر إلى أن النهي كان دليله أقوى قبل الوقوع ودليل الجواز أقوى بعد الوقوع لما اقترن من القرائن المرجحة كما وقع التنبيه عليه في حديث تأسيس البيت على قواعد إبراهيم وحديث قتل المنافقين وحديث البائل في المسجد فإن النبي أمر بتركه حتى يتم بوله لأنه لو قطع بوله لنجست ثيابه ولحدث عليه من ذلك داء في بدنه فترجح جانب تركه على ما فعل من المنهي عنه على قطعه بما يدخل عليه من الضرر وبأنه ينجس موضعين وإذا ترك فالذي ينجسه موضع واحد وفي الحديث أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل ثم قال فإن دخل بها فلها المهر بما استحل منها وهذا تصحيح للمنهي عنه من وجه ولذلك يقع فيه الميراث ويثبت النسب للولد وإجراؤهم النكاح الفاسد مجرى الصحيح في هذه الأحكام وفي حرمة المصاهرة وغير ذلك دليل على الحكم بصحته على الجملة وإلا كان في حكم الزنى وليس في حكمه باتفاق فالنكاح المختلف فيه قد يراعى فيه الخلاف

205 فلا تقع فيه الفرقة إذا عثر عليه بعد الدخول مراعاة لما يقترن بالدخول من الأمور التي ترجح جانب التصحيح وهذا كله نظر إلى ما يؤول إليه ترتب الحكم بالنقض والإبطال من إفضائه إلى مفسدة توازي مفسدة النهي أو تزيد ولما بعد الوقوع دليل عام مرجح تقدم الكلام على أصله في كتاب المقاصد وهو أن العامل بالجهل مخطئا في عمله له نظران نظر من جهة مخالفته للأمر والنهي وهذا يقتضي الإبطال ونظر من جهة قصده إلى الموافقة في الجملة لأنه داخل مداخل أهل الإسلام ومحكوم له بأحكامهم وخطؤه أو جهله لا يجنى عليه أن يخرج به عن حكم أهل الإسلام بل يتلافى له حكم يصحح له به ما أفسده بخطئه وجهله وهكذا لو تعمد الإفساد لم يخرج بذلك عن الحكم له بأحكام الإسلام لأنه مسلم لم يعاند الشارع بل اتبع شهوته غافلا عما عليه في ذلك ولذلك قال تعالى إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة الآية وقالوا إن المسلم لا يعصى إلا وهو جاهل فجرى عليه حكم الجاهل إلا أن يترجح جانب الإبطال بالأمر الواضح فيكون إذ ذاك جانب التصحيح ليس له مآل يساوي أو يزيد فإذ ذاك لا نظر في المسألة مع أنه لم يترجح جانب الإبطال إلا بعد النظر في المآل وهو المطلوب ومما ينبني على هذا الأصل قاعدة الاستحسان وهو في مذهب

206 مالك الأخذ بمصلحة جزئية في مقابلة دليل كلي ومقتضاه الرجوع إلى تقديم الاستدلال المرسل على القياس فإن من استحسن لم يرجع إلى مجرد ذوقه وتشهيه وإنما رجع إلى ما علم من قصد الشارع في الجملة في أمثال تلك الأشياء المفروضة كالمسائل التي يقتضى القياس فيها أمرا إلا أن ذلك الأمر يؤدي إلى فوت مصلحة من جهة أخرى أو جلب مفسدة كذلك وكثير ما يتفق هذا في الأصل الضروري مع الحاجي والحاجي مع التكميلي فيكون إجراء القياس مطلقا في الضروري

207 يؤدي إلى حرج ومشقة في بعض موارده فيستثنى موضع الحرج وكذلك في الحاجي مع التكميلي أو الضروري مع التكميلي وهو ظاهر وله في الشرع أمثلة كثيرة كالقرض مثلا فإنه ربا في الأصل لأنه الدرهم بالدرهم إلى أجل ولكنه أبيح لما فيه من المرفقة والتوسعة على المحتاجين بحيث لو بقي على أصل المنع لكان في ذلك ضيق على المكلفين ومثله بيع العرية بخرصها تمرا فإنه بيع الرطب باليابس لكنه أبيح لما فيه من الرفق ورفع الحرج بالنسبة إلى المعري والمعرى ولو امتنع مطلقا لكان وسيلة لمنع الاعراء كما أن ربا النسيئة لو امتنع في القرض لامتنع أصل الرفق من هذا الوجه ومثله الجمع بين المغرب والعشاء للمطر وجمع المسافر وقصر الصلاة والفطر في السفر الطويل وصلاة الخوف وسائر الترخصات التي على هذا السبيل فإن حقيقتها ترجع إلى اعتبار المآل في تحصيل المصالح أو درء المفاسد على الخصوص حيث كان الدليل العام يقتضى منع ذلك لأنا لو بقينا مع أصل الدليل العام لأدى إلى رفع ما اقتضاه ذلك الدليل من المصلحة فكان من الواجب رعى ذلك المآل إلى أقصاه ومثله الإطلاع على العورات في التداوي والقراض والمساقاة وإن كان الدليل العام يقتضي المنع وأشياء من هذا القبيل كثيرة هذا نمط من الأدلة الدالة على صحة القول بهذه القاعدة وعليها بنى مالك وأصحابه وقد قال ابن العربي في تفسير الاستحسان بأنه إيثار ترك مقتضى الدليل

208 على طريق الاستثاء والترخص لمعارضة ما يعارض به في بعض مقتضياته ثم جعله أقساما فمنه ترك الدليل للعرف كرد الأيمان إلى العرف وتركه إلى المصلحة كتضمين الأجير المشترك أو تركه للإجماع كإيجاب الغرم على من قط ذنب بغلة القاضي وتركه في اليسير لتفاهته لرفع المشقة وإيثار التوسعة على الخلق كإجازة التفاضل اليسير في المراطلة الكثيرة وإجازة بيع وصرف في اليسير وقال في أحكام القرآن الاستحسان عندنا وعند الحنفية هو العمل بأقوى الدليلين

209 فالعموم إذا استمر والقياس إذا اطرد فإن مالكا وأبا حنيفة يريان تخصيص العموم بأي دليل كان من ظاهر أو معنى ويستحسن مالك أن يخص بالمصلحة ويستحسن أبو حنيفة أن يخص بقول الواحد من الصحابة الوارد بخلاف القياس ويريان معا تخصيص القياس ونقض العلة ولا يرى الشافعي لعلة الشرع إذا ثبتت تخصيصا وهذا الذي قال هو نظر في مآلات الأحكام من غير اقتصار على مقتضى الدليل العام والقياس العام وفي المذهب المالكي من هذا المعنى كثيرا جدا وفي العتبيه من سماع أصبغ في الشريكين يطآن الأمة في طهر واحد فتأتي بولد فينكر أحدهما الولد دون الآخر أنه يكشف منكر الولد عن وطئه الذي أقر به فإن كان في صفته ما يمكن فيه الإنزال لم يلتفت إلى إنكاره وكان كما لو اشتركا فيه وإن كان يدعى العزل من الوطء الذي أقر به فقال أصبغ إني أستحسن هنا أن ألحقه بالآخر والقياس أن يكونا سواء فلعله غلب ولا يدري وقد قال عمرو بن العاص في نحو هذا إن الوكاء قد يتفلت قال والاستحسان في العلم قد يكون أغلب من القياس قال وقد سمعت ابن القاسم يقول ويروي عن مالك أنه قال تسعة أعشار العلم الاستحسان فهذا كله يوضح لك أن الاستحسان غير خارج عن مقتضى الأدلة إلا أنه نظر إلى لوازم الأدلة ومآلاتها إذ لو استمر على القياس هنا كان الشريكان بمنزلة ما لو كانا يعزلان أو ينزلان لأن العزل لا حكم له إذ أقر الوطء ولا فرق بين العزل وعدمه في إلحاق الولد لكن الاستحسان ما قال لأن الغالب أن الولد يكون مع الإنزال ولا يكون مع العزل إلا نادرا فأجرى الحكم على الغالب

210 وهو مقتضى ما تقدم فلو لم يعتبر المآل في جريان الدليل لم يفرق بين العزل والإنزال وقد بالغ أصبغ في الاستحسان حتى قال إن المغرق في القياس يكاد يفارق السنة وإن الاستحسان عماد العلم والأدلة المذكورة تعضد ما قال ومن هذا الأصل أيضا تستمد قاعدة أخرى وهى أن الأمور الضرورية أو غيرها من الحاجية أو التكميلية إذا اكتنفتها من خارج أمور لا ترضى شرعا فإن الإقدام على جلب المصالح صحيح على شرط التحفظ بحسب الاستطاعة من غير حرج كالنكاح الذي يلزمه طلب قوت العيال مع ضيق طرق الحلال واتساع أوجه الحرام والشبهات وكثيرا ما يلجئ إلى الدخول في الاكتساب لهم بما لا يجوز ولكنه غير مانع لما يئول إليه التحرز من المفسدة المربية على توقع مفسدة التعرض ولو اعتبر مثل هذا في النكاح في مثل زماننا لأدى إلى إبطال أصله وذلك غير صحيح وكذلك طلب العلم إذا كان في طريقه مناكر يسمعها ويراها وشهود الجنائز وإقامة وظائف شرعية إذا لم يقدر على إقامتها إلا بمشاهدة ما لا يرتضي فلا يخرج هذا العارض تلك الأمور عن أصولها لأنها أصول الدين وقواعد المصالح وهو المفهوم من مقاصد الشارع فيجب فهمها حق

211 الفهم فإنها مثار اختلاف وتنازع وما ينقل عن السلف الصالح مما يخالف ذلك قضايا أعيان لا حجة في مجردها حتى يعقل معناها فتصير إلى موافقة ما تقرر إن شاء الله والحاصل أنه مبني على اعتبار مآلات الأعمال فاعتبارها لازم في كل حكم على الإطلاق والله أعلم المسألة الحادية عشرة تقدم الكلام على محال الخلاف في الجملة ولم يقع هنالك تفصيل وقد ألف ابن السيد كتابا في أسباب الخلاف الواقع بين حملة الشريعة وحصرها في ثمانية أسباب أحدها الاشتراك الواقع في الألفاظ واحتمالها للتأويلات وجعله ثلاثة أقسام اشتراك في موضوع اللفظ المفرد كالقرء وأو في آية الحرابة واشتراك في أحواله العارضة في التصريف نحو ولا يضار كاتب ولا

212 شهيد واشتراك من قبل التركيب نحو والعمل الصالح يرفعه وما قتلوه يقينا والثاني دوران اللفظ بين الحقيقة والمجاز وجعله ثلاثة أقسام ما يرجع إلى اللفظ المفرد نحو حديث النزول و الله نور السموات والأرض وما يرجع إلى أحواله نحو بل مكر الليل والنهار ولم يبين وجه الخلاف وما يرجع إلى جهة التركيب كإيراد الممتنع بصورة الممكن ومنه لئن

213 قدر الله علي الحديث وأشباه ذلك مما يورد من أنواع الكلام بصورة غيره كالأمر بصورة الخبر والمدح بصورة الذم والتكثير بصورة التقليل وعكسها والثالث دوران الدليل بين الاستقلال بالحكم وعدمه كحديث الليث بن سعد مع أبي حنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة في مسألة البيع والشرط وكمسألة الجبر والقدر والاكتساب والرابع دورانه بين العموم والخصوص نحو لا إكراه في الدين

214 وعلم آدم الأسماء كلها والخامس اختلاف الرواية وله ثماني علل قد تقدم التنبيه عليها والسادس جهات الاجتهاد والقياس والسابع دعوى النسخ وعدمه والثامن ورود الأدلة على وجوه تحتمل الإباحة وغيرها كالاختلاف في الأذان والتكبير على الجنائز ووجوه القراءات هذه تراجم ما أورد ابن السيد في كتابه ومن أراد التفصيل فعليه به ولكن إذا عرض جميع ما ذكر على ما تقدم تبين به تحقيق القول فيها وبالله التوفيق المسألة الثانية عشرة من الخلاف ما لا يعتد به في الخلاف وهو ضربان أحدهما ما كان من الأقوال خطأ مخالفا لمقطوع به في الشريعة وقد تقدم التنبيه عليه والثاني ما كان ظاهره الخلاف وليس في الحقيقة كذلك وأكثر ما يقع ذلك في تفسير الكتاب والسنة فتجد المفسرين ينقلون عن السلف في معاني ألفاظ الكتاب أقوالا مختلفة في الظاهر فإذا اعتبرتها وجدتها تتلاقى على العبارة كالمعنى الواحد والأقوال إذا أمكن اجتماعها والقول بجميعها من غير إخلال بمقصد القائل فلا يصح نقل الخلاف فيها عنه وهكذا يتفق في شرح السنة

215 وكذلك في فتاوي الأئمة وكلامهم في مسائل العلم وهذا الموضع مما يجب تحقيقه فإن نقل الخلاف في مسألة لا خلاف فيها في الحقيقة خطأ كما أن نقل الوفاق في موضع الخلاف لا يصح فإذا ثبت هذا فلنقل الخلاف هنا أسباب أحدها أن يذكر في التفسير عن النبي في ذلك شيء أو عن أحد من أصحابه أو غيرهم ويكون ذلك المنقول بعض ما يشمله اللفظ ثم يذكر غير ذلك القائل أشياء أخر مما يشمله اللفظ أيضا فينصهما المفسرون على نصهما فيظن أنه خلاف كما نقلوا في المن أنه خبز رقاق وقيل زنجبيل وقيل الترنجبين وقيل شراب مزجوه بالماء فهذا كله يشمله اللفظ لأن الله من به عليهم ولذلك جاء في الحديث الكمأة من المن الذي أنزل الله على بني إسرائيل فيكون المن جملة نعم ذكر الناس منها آحادا والثاني أن يذكر في النقل أشياء تتفق في المعنى بحيث ترجع إلى معنى واحد فيكون التفسير فيها على قول واحد ويوهم نقلها على اختلاف اللفظ أنه خلاف محقق كما قالوا في السلوى إنه طير يشبه السمانى وقيل طير أحمر صفته كذا وقيل طير بالهند أكبر من العصفور وكذلك قالوا في المن شيء يسقط على الشجر فيؤكل وقيل صمغة حلوة وقيل الترنجبين وقيل مثل رب غليظ وقيل عسل جامد فمثل هذا يصح حمله على الموافقة وهو الظاهر فيها

216 والثالث أن يذكر أحد الأقوال على تفسير اللغة ويذكر الآخر على التفسير المعنوي وفرق بين تقرير الإعراب وتفسير المعنى وهما معا يرجعان إلى حكم واحد لأن النظر اللغوي راجع إلى تقرير أصل الوضع والآخر راجع إلى تقرير المعنى في الاستعمال كما قالوا في قوله تعالى ومتاعا للمقوين أي المسافرين وقيل النازلين بالأرض القواء وهى القفر وكذلك قوله تصيبهم بما صنعوا قارعة أي داهية تفجوهم وقيل سرية من سرايا رسول الله وأشباه ذلك والرابع أن لا يتوارد الخلاف على محل واحد كإختلافهم في أن

217 المفهوم له عموم أولا وذلك أنهم قالوا لا يختلف القائلون بالمفهوم أنه عام فيما سوى المنطوق به والذين نفوا العموم أرادوا أنه لا يثبت بالمنطوق به وهو مما لا يختلفون فيه أيضا وكثير من المسائل على هذا السبيل فلا يكون في المسألة خلاف وينقل فيها الأقوال على أنها خلاف والخامس يختص بالآحاد في خاصة أنفسهم كإختلاف الأقوال بالنسبة إلى الإمام الواحد بناء على تغير الاجتهاد والرجوع عما أفتى به إلى خلافه فمثل هذا لا يصح أن يعتد به خلافا في المسألة لأن رجوع الإمام عن القول الأول إلى القول الثاني اطراح منه للأول ونسخ له بالثاني وفي هذا من بعض المتأخرين تنازع والحق فيه ما ذكر أولا ويدل عليه ما تقدم في مسألة أن الشريعة على قول واحد ولا يصح فيها غير ذلك وقد يكون هذا الوجه على أعم مما ذكر كأن يختلف العلماء على قولين ثم يرجع أحد الفريقين إلى الآخر كما ذكر عن ابن عباس في المتعة وربا الفضل وكرجوع الأنصار إلى المهاجرين في مسألة الغسل من التقاء الختانين فلا ينبغي أن يحكى مثل هذا في مسائل الخلاف والسادس أن يقع الاختلاف في العمل لا في الحكم كإختلاف القراء في

218 وجوه القراءآت فإنهم لم يقرءوا بما قرءوا به على إنكاره غيره بل على إجازته والإقرار بصحته وإنما وقع الخلاف بينهم في الاختيارات وليس في الحقيقة باختلاف فإن المرويات على الصحة منها لا يختلفون فيها والسابع أن يقع تفسير الآية أو الحديث من المفسر الواحد على أوجه من الاحتمالات ويبني على كل احتمال ما يليق به من غير أن يذكر خلافا في الترجيح بل على توسيع المعاني خاصة فهذا ليس بمستقر خلافا إذ الخلاف مبني على التزام كل قائل احتمالا يعضده بدليل يرجحه على غيره من الاحتمالات حتى يبني عليه وليس الكلام في مثل هذا والثامن أن يقع الخلاف في تنزيل المعنى الواحد فيحمله قوم على المجاز مثلا وقوم على الحقيقة والمطلوب أمر واحد كما يقع لأرباب التفسير كثيرا في نحو قوله يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي فمنهم من يحمل الحيات والموت على حقائقهما ومنهم من يحملهما على المجاز ولا فرق في تحصيل المعنى بينهما ونظير هذا قول ذي الرمة وظاهر لها من يابس الشخت وبائس الشخث وقد مر بيانه وقول ذي الرمة فيه إن بائس ويابس واحد ومثل ذلك قوله فأصبحت كالصريم فقيل كالنهار بيضاء لا شيء فيها وقيل كالليل سوداء لا شيء فيها فالمقصود شيء واحد وإن شبه بالمتضادين الذين لا يتلاقيان والتاسع أن يقع الخلاف في التأويل وصرف الظاهر عن مقتضاه إلى

219 ما دل عليه الدليل الخارجي فإن مقصود كل متأول الصرف عن ظاهر اللفظ إلى وجه يتلاقى مع الدليل الموجب للتأويل وجميع التأويلات في ذلك سواء فلا خلاف في المعنى المراد وكثيرا ما يقع هذا في الظواهر الموهمة للتشبيه وتقع في غيرها كثيرا أيضا كتأويلاتهم في حديث خيار المجلس بناء على رأي مالك فيه وأشباه ذلك والعاشر الخلاف في مجرد التعبير عن المعنى المقصود وهو متحد كما اختلفوا في الخبر هل هو منقسم إلى صدق وكذب خاصة أم ثم قسم ثالث ليس بصدق ولا كذب فهذا خلاف في عبارة والمعنى متفق عليه وكذلك الفرض والواجب يتعلق النظر فيهما مع الحنفية بناء على مرادهم فيهما قال القاضي عبد الوهاب في مسألة الوتر أواجب هو إن أرادوا به أن تركه حرام يجرح فاعله به فالخلاف بيننا وبينهم في معنى يصح أن تتناوله الأدلة وإن لم يريدوا ذلك وقالوا لا يحرم تركه ولا يجرح فاعله فوصفه بأنه واجب خلاف في عبارة لا يصح

220 الاحتجاج عليه وما قاله حق فإن العبارات لا مشاحة فيها ولا ينبني على الخلاف فيها حكم فلا اعتبار بالخلاف فيها هذه عشرة أسباب لعدم الاعتداد بالخلاف يجب أن تكون على بال من المجتهد ليقيس عليها ما سواها فلا يتساهل فيؤدي ذلك إلى مخالفة الإجماع فصل وقد يقال إن ما يعتد به من الخلاف في ظاهر الأمر يرجع في الحقيقة إلى الوفاق أيضا وبيان ذلك أن الشريعة راجعة إلى قول واحد كما تبين قبل هذا والاختلاف في مسائلها راجع إلى دورانها بين طرفين واضحين أيضا يتعارضان في أنظار المجتهدين وإلى خفاء بعض الأدلة وعدم الإطلاع عليه أما هذا الثاني فليس في الحقيقة خلافا إذ لو فرضنا اطلاع المجتهد على ما خفي عليه لرجع عن قوله فلذلك ينقض لأجله قضاء القاضي

221 أما الأول فالتردد بين الطرفين تحر لقصد الشارع المستبهم بينهما من كل واحد من المجتهدين واتباع للدليل المرشد إلى تعرف قصده وقد توافقوا في هذين القصدين توافقا لو ظهر معه لكل واحد منهم خلاف ما رآه لرجع إليه ولوافق صاحبه فيه فقد صار هذا القسم في المعنى راجعا إلى القسم الثاني فليس الاختلاف في الحقيقة إلا في الطريق المؤدي إلى مقصود الشارع الذي هو واحد إلا أنه لا يمكن رجوع المجتهد عما أداه إليه اجتهاده بغير بيان اتفاقا وسواء علينا أقلنا بالتخطئة أم قلنا بالتصويب إذا لا يصح للمجتهد أن يعمل على قول غيره وإن كان مصيبا أيضا كما لا يجوز له ذلك إن كان عنده مخطئا فالإصابة على قول المصوبة إضافية فرجع القولان إلى قول واحد بهذا الاعتبار فإذا كان كذلك فهم في الحقيقة متفقون لا مختلفون ومن هنا يظهر وجه الموالاة والتحاب والتعاطف فيما بين المختلفين في مسائل الاجتهاد حتى لم يصيروا شيعا ولا تفرقوا فرقا لأنهم مجتمعون على طلب قصد الشارع فإختلاف الطرق غير مؤثر كما لا اختلاف بين المتعبدين لله بالعبادات

222 المختلفة كرجل تقربه الصلاة وآخر تقربه الصيام وآخر تقربه الصدقة إلى غير ذلك من العبادات فهم متفقون في أصل التوجه لله المعبود وإن اختلفوا في أصناف التوجه فكذلك المجتهدون لما كان قصدهم إصابة مقصد الشارع صارت كلمتهم واحدة وقولهم واحدا ولأجل ذلك لا يصح لهم ولا لمن قلدهم التعبد بالأقوال المختلفة كما تقدم لأن التعبد بها راجع إلى اتباع الهوى لا إلى تحري مقصد الشارع والأقوال ليست بمقصودة لأنفسها بل ليتعرف منها المقصد المتحد فلا بد أن يكون التعبد متحد الوجهة وإلا لم يصح والله أعلم فصل وبهذا يظهر أن الخلاف الذى هو في الحقيقة خلاف ناشئ عن الهوى المضل لا عن تحرى قصد الشارع باتباع الأدلة على الجملة والتفصيل وهو الصادر عن أهل الأهواء وإذا دخل الهوى أدى إلى اتباع المتشابه حرصا على الغلبة والظهور بإقامة العذر في الخلاف وأدى إلى الفرقة والتقاطع والعداوة والبغضاء لاختلاف الأهواء وعدم اتفاقها وإنما جاء الشرع بحسم مادة الهوى بإطلاق وإذا صار الهوى بعض مقدمات الدليل لم ينتج إلا ما فيه اتباع الهوى وذلك مخالفة الشرع ومخالفة الشرع ليست من الشرع في شيء فاتباع الهوى من حيث يظن أنه اتباع للشرع ضلال في الشرع ولذلك سميت البدع ضلالات وجاء أن كل بدعة ضلالة لأن صاحبها مخطئ من حيث توهم أنه مصيب ودخول الأهواء في الأعمال خفي فأقوال أهل الأهواء غير معتد بها في الخلاف

223 المقرر في الشرع فلا خلاف حينئذ في مسائل الشرع من هذه الجهة فإن قيل هذا مشكل فإن العلماء قد اعتدوا بها في الخلاف الشرعي ونقلوا أقوالهم في علمي الأصول وفرعوا عليها الفروع واعتبروهم في الإجماع وهذا هو الاعتداد بأقوالهم فالجواب من وجهين أحدهما أنا لا نسلم أنهم اعتدوا بها بل إنما أتوا بها ليردوها ويبينوا فسادها كما أتوا بأقوال اليهود والنصارى وغيرهم ليوضحوا ما فيها وذلك في علمي الأصول معا بين وما يتفرع عليها مبنى عليها والثاني إذا سلم اعتدادهم بها فمن جهة أنهم غير متبعين للهوى بإطلاق وإنما المتبع للهوى على الإطلاق من لم يصدق بالشريعة رأسا وأما من صدق بها وبلغ فيها مبلغا يظن به أنه غير متبع إلا مقتضى الدليل يصير إلى حيث أصاره فمثله لا يقال فيه إنه متبع للهوى مطلقا بل هو متبع للشرع ولكن بحيث يزاحمه الهوى في مطالبه من جهة اتباع المتشابه فشارك أهل الهوى في دخول الهوى في نحلته وشارك أهل الحق في أنه لا يقبل إلا ما عليه دليل على الجملة وأيضا فقد ظهر منهم اتحاد القصد على الجملة مع أهل الحق في مطلب واحد وهو اتباع الشريعة وأشد مسائل الخلاف مثلا مسألة إثبات الصفات حيث نفاها من نفاها فإنا إذا نظرنا إلى الفريقين وجدنا كل فريق حائما حول حمى التنزيه ونفي النقائص وسمات الحدوث وهو مطلوب الأدلة فاختلافهم في الطريق قد لا يخل بهذا القصد في الطرفين معا وهكذا إذا اعتبرت سائر المسائل الأصولية وإلى هذا فإن منها ما يشكل وروده ويعظم خطب الخوض فيه ولهذا

224 لم يظهر من الشارع خروجهم عن الإسلام بسبب بدعهم وأيضا فإنهم لما دخلوا في غمار المسلمين وارتسموا في مراسم المجتهدين منهم بحسب ظاهر الحال وكان الشارع في غالب الأمر قد أشار إلى عدم تعيينهم ولم يتميزوا إلا بحسب الاجتهاد في بعضهم ومدارك الاجتهاد تختلف لم يمكن والحال هذه إلا حكاية أقوالهم والاعتداد بتسطيرها والنظر فيها واعتبارهم في الوفاق والخلاف ليستمر النظر فيه وإلا أدى إلى عدم الضبط ولهذا تقرير في كتاب الاجماع فلما اجتمعت هذه الأمور نقل خلافهم وفى الحقيقة فمن جهة ما اتفقوا فيه مع أهل الحق حصل التآلف ومن جهة ما اختلفوا حصلت الفرقة وإذا كان كذلك فجهة الائتلاف لا خلاف فيها في الحقيقة لصحتها واتحاد حكمها وجهة الاختلاف فهم مخطئون فيها قطعا فصارت أقوالهم زلات لا اعتبار بها في الخلاف فالاتفاق حاصل إذا على كل تقدير فالحاصل من مجموع هذه المسألة أن كلمة الإسلام متحدة على الجملة في كل مسألة شرعية ولولا الإطالة لبسط هذا الموضع بأدلته التفصيلية وأمثلته الشافية ولكن ما ذكر فيها كاف والله الموفق للصواب المسألة الثالثة عشرة مر الكلام فيما يفتقر إليه المجتهد من العلوم وأنه إذا حصلها فله الاجتهاد بالإطلاق وبقي النظر في المقدار الذى إذا وصل إليه فيها توجه عليه الخطاب بالإجتهاد بما أراه الله وذلك أن طالب العلم إذا استمر في طلبه مرت عليه أحوال ثلاثة

225 أحدها أن يتنبه عقله إلى النظر فيما حفظ والبحث عن أسبابه وإنما ينشأ هذا عن شعور بمعنى ما حصل لكنه مجمل بعد وربما ظهر له في بعض أطراف المسائل جزئيا لا كليا وربما لم يظهر بعد فهو ينهى البحث نهايته ومعلمه عند ذلك بعينه بما يليق به في تلك الرتبة ويرفع عنه أوهاما وإشكالات تعرض له في طريقه يهديه إلى مواقع إزالتها في الجريان على مجراه مثبتا قدمه ورافعا وحشته ومؤدبا له حتى يتسنى له النظر والبحث على الصراط المستقيم فهذا الطالب حين بقائه هنا ينازع الموارد الشرعية وتنازعه ويعارضها وتعارضه طمعا في إدراك أصولها والاتصال بحكمها ومقاصدها ولم تتلخص له بعد لا يصح منه الاجتهاد فيما هو ناظر فيه لأنه لم يتخلص له مسند الإجتهاد هو منه على بينة بحيث ينشرح صدره بما يجتهد فيه فاللازم له الكف والتقليد والثاني أن ينتهي بالنظر إلى تحقيق معنى ما حصل على حسب ما أداه إليه البرهان الشرعي بحيث يحصل له اليقين ولا يعارضه شك بل تصير الشكوك إذا أوردت عليه كالبراهين الدالة على صحة ما في يديه فهو يتعجب من المتشكك في محصوله كما يتعجب من ذي عينين لا يرى ضوء النهار

226 لكنه استمر به الحال إلى أن زل محفوظه عن حفظه حكما وإن كان موجودا عنده فلا يبالي في القطع على المسائل أنص عليها أو على خلافها أم لا فإذا حصل الطالب على هذه المرتبة فهل يصح منه الاجتهاد في الأحكام الشرعية أم لا هذا محل نظر وإلتباس ومما يقع فيه الخلاف وللمحتج للجواز أن يقول إن المقصود الشرعي إذا كان هذا الطالب قد صار له أوضح من الشمس وتبينت له معاني النصوص الشرعية حتى إلتأمت وصار بعضها عاضدا للبعض ولم يبق عليه في العلم بحقائقها مطلب فالذي حصل عنده هو كلية الشريعة وعمدة النحلة ومنبع التكليف فلا عليه أنظر في خصوصياتها المنصوصة أو مسائلها الجزئية أم لا إذ لا يزيده النظر في ذلك زيادة إذ لو كان

227 كذلك لم يكن واصلا بعد إلى هذه المرتبة وقد فرضناه واصلا هذا خلف ووجه ثان وهو أن النظر في الجزئيات والمنصوصات إنما مقصوده التوصل إلى ذلك المطلوب الكلي الشرعي حتى يبنى عليه فتياه ويرد إليه حكم اجتهاده فإذا كان حاصلا فالتنزل إلى الجزئيات طلب لتحصيل الحاصل وهو محال ووجه ثالث وهو أن كلي المقصود الشرعي إنما انتظم له من التفقه في الجزئيات والخصوصات وبمعانيها ترقى إلى ما ترقى إليه فإن تكن في الحال غير حاكمة عنده لاستيلاء المعنى الكلي فهي حاكمة في الحقيقة لأن المعنى الكلي منها انتظم ولأجل ذلك لا تجد صاحب هذه المرتبة يقطع بالحكم بأمر إلا وقامت له الأدلة الجزئية عاضدة وناصرة ولو لم يكن كذلك لم تعضده ولا نصرته فلما كان كذلك ثبت أن صاحب هذه المرتبة متمكن جدا من الاستنباط والاجتهاد وهو المطلوب وللمانع أن يحتج على المنع من أوجه منها أن صاحب هذه المرتبة إذا فاجأته حقائقها وتعاضدت مراميها واتصل له بالبرهان ما كان منها عنده مقطوعا حتى صارت الشريعة في حقه أمرا متحدا ومسلكا منتظما لا يزل عنه من مواردها فرد ولا يشذ له عن الاعتبار منها خاص إلا وهو مأخوذ بطرف لا بد من اعتباره عن طرف

228 آخر لا بد أيضا من اعتباره إذ قد تبين في كتاب الأدلة أن اعتبار الكلي مع اطراح الجزئي خطأ كما في العكس وإذا كان كذلك لم يستحق من هذا حاله أن يترقى إلى درجة الاجتهاد حتى يكمل ما يحتاج إلى تكميله ومنها أن للخصوصيات خواص يليق بكل محل منها ما لا يليق بمحل آخر كما في النكاح مثلا فإنه لا يسوغ أن يجرى مجرى المعاوضات من كل وجه كما أنه لا يسوغ أن يجرى مجري الهبات والنحل من كل وجه وكما في مال العبد وثمرة الشجرة والقرض والعرايا وضرب الدية على العاقلة والقراض والمساقاة بل لكل باب ما يليق به ولكل خاص خاصية تليق به لا تليق بغيره وكما في الترخصات في العبادات والعادات وسائر الأحكام وإن كان كذلك وقد علمنا أن الجميع يرجع مثلا إلى حفظ الضروريات والحاجيات والتكميليات فتنزيل حفظها في كل محل على وجه واحد لا يمكن بل لا بد من اعتبار خصوصيات الأحوال والأبواب وغير ذلك من الخصوصيات الجزئية فمن كانت عنده الخصوصيات في حكم التبع الحكمي لا في حكم المقصود العيني بحسب كل نازلة

229 فكيف يستقيم له جريان ذلك الكلي وأنه هو مقصود الشارع هذا لا يستمر مع الحفظ على مقصود الشارع ومنها أن هذه المرتبة يلزمها إذا لم يعتبر الخصوصيات ألا يعتبر محالها وهى أفعال المكلفين بل كما يجري الكليات في كل جزئية على الإطلاق يلزمه أن يجريها في كل مكلف على الإطلاق من غير اعتبار بخصوصياتهم وهذا لا يصح كذلك على ما استمر عليه الفهم في مقاصد الشارع فلا يصح مع هذا إلا اعتبار خصوصيات الأدلة فصاحب هذه المرتبة لا يمكنه التنزل إلى ما تقتضيه رتبة المجتهد فلا يستقيم مع هذا أن يكون من أهل الاجتهاد وإذا تقرر أن لكل احتمال مأخذا كانت المسألة بحسب النظر الحقيقي فيها باقية الإشكال ومن أمثلة هذه هذه المرتبة مذهب من نفى القياس جملة وأخذ بالنصوص على الإطلاق ومذهب من أعمل القياس على الإطلاق ولم يعتبر ما خالفه من الأخبار جملة فإن كل واحد من الفريقين غاص به الفكر في منحى شرعي مطلق عام اطرد له في جملة الشريعة اطرادا لا يتوهم معه في الشريعة نقص ولا تقصير

230 بل على مقتضى قوله اليوم أكملت لكم دينكم فصاحب الرأي يقول الشريعة كلها ترجع إلى حفظ مصالح العباد ودرء مفاسدهم وعلى ذلك دلت أدلتها عموما وخصوصا دل على ذلك الاستقراء فكل فرد جاء مخالفا فليس بمعتبر شرعا إذ قد شهد الاستقراء بما يعتبر مما لا يعتبر لكن على وجه كلي عام فهذا الخاص المخالف يجب رده وإعمال مقتضى الكلي العام لأن دليله قطعي ودليل الخاص ظني فلا يتعارضان والظاهري يقول الشريعة إنما جاءت لابتلاء المكلفين أيهم أحسن عملا ومصالحهم تجرى على حسب ما أجراها الشارع لا على حسب أنظارهم فنحن من اتباع مقتضى النصوص على يقين في الإصابة من حيث أن الشارع إنما تعبدنا بذلك وإتباع المعاني رأي فكل ما خالف النصوص منه غير معتبر لأنه أمر خاص مخالف لعام الشريعة والخاص الظني لا يعارض العام القطعي فأصحاب الرأي جردوا المعاني فنظروا في الشريعة بها واطرحوا خصوصيات الألفاظ والظاهرية جردوا مقتضيات الألفاظ فنظروا في الشريعة بها واطرحوا خصوصيات المعاني القياسية ولم تتنزل واحدة من الفرقتين إلى النظر فيما نظرت فيه الأخرى بناء على كلى ما اعتمدته في فهم الشريعة ويمكن أن يرجع إلى هذا القبيل ما خرج ثابت في الدلائل عن عبد الصمد

231 ابن عبد الوارث قال وجدت في كتاب جدي أتيت مكة فأصبت بها أبا حنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة فأتيت أبا حنفية فقلت له ما تقول في رجل باع بيعا واشترط شرطا قال البيع باطل والشرط باطل وأتيت ابن أبي ليلي فقال البيع جائز والشرط باطل وأتيت ابن شبرمة فقال البيع جائز والشرط جائز فقلت سبحان الله ثلاثة من فقهاء الكوفة يختلفون علينا في مسألة فأتيت أبا حنيفة فأخبرته بقولهما فقال لا أدرى ما قالا حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله نهى عن بيع وشرط فأتيت ابن أبي ليلى فأخبرته بقولهما فقال لا أدرى ما قالا حدثنا هشام ابن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي قال اشتري بريرة واشترطي لهم الولاء فإن الولاء لمن أعتق فأجاز البيع وأبطل الشرط فأتيت ابن شبرمة فأخبرته بقولهما فقال ما أدرى ما قالاه حدثني مسعود بن حكيم عن محارب بن دثار عن جابر بن عبد الله قال اشترى مني رسول الله ناقة فشرطت حملاني فأجاز البيع والشرط فيجوز أن يكون كل واحد منهم اعتمد في فتياه على كلية ما استفاد من حديثه ولم ير غيره من الجزئيات معارضا فأطرح الاعتماد عليه والله أعلم

232 الثالث أن يخوض فيما خاض فيه الطرفان ويتحقق بالمعاني الشرعية منزلة على الخصوصيات الفرعية بحيث لا يصده التبحر في الاستبصار بطرف عن التبحر في الاستبصار بالطرف الآخر فلا هو يجرى على عموم واحد منهما دون أن يعرضه على الآخر ثم يلتفت مع ذلك إلى تنزل ما تلخص له على ما يليق في أفعال المكلفين فهو في الحقيقة راجع إلى الرتبة التي ترقى منها لكن بعلم المقصود الشرعي في كل جزئي فيها عموما وخصوصا وهذه الرتبة لا خلاف في صحة الاجتهاد من صاحبها وحاصله أنه متمكن فيها حاكم لها غير مقهور فيها بخلاف ما قبلها فإن صاحبها محكوم عليه فيها ولذلك قد تستفزه معانيها الكلية عن الالتفات إلى الخصوصيات وكل رتبة حكمت على صاحبها دلت على عدم رسوخه فيها وإن كانت محكوما عليها تحت نظره وقهره فهو صاحب التمكين والرسوخ فهو الذى يستحق الانتصاب للاجتهاد والتعرض للاستنباط وكثيرا ما يختلط أهل الرتبة الوسطى بأهل هذه الرتبة فيقع النزاع في الاستحقاق أو عدمه والله أعلم ويسمى صاحب هذه المرتبة الرباني والحكيم والراسخ في العلم والعالم والفقيه والعاقل لأنه يربي بصغار العلم قبل كباره ويوفى كل أحد حقه حسبما يليق به وقد تحقق بالعلم وصار له كالوصف المجبول عليه وفهم عن الله مراده ومن خاصته أمران أحدهما أنه يجيب السائل على ما يليق به في حالته على الخصوص إن كان له في المسألة حكم خاص بخلاف صاحب الرتبة الثانية فإنه إنما يجيب من رأس الكلية من غير اعتبار بخاص والثاني أنه ناظر في المآلات قبل الجواب عن السؤالات وصاحب الثانية لا ينظر في ذلك ولا يبالي بالمآل

233 إذا ورد عليه أمر أو نهي أو غيرهما وكان في مساقه كليا ولهذا الموضع أمثلة كثيرة تقدم منها جملة من مسألة الاستحسان ومسألة اعتبار المآل وفى مذهب مالك من ذلك كثير المسألة الرابعة عشرة تقدم التنبيه على طرف من الاجتهاد الخاص بالعلماء والعام لجميع المكلفين ولكن لا بد من إعادة شئ من ذلك على وجه يوضح النوعين ويبين جهة المأخذ في الطريقين وبيان ذلك أن المشروعات المكية وهى الأولية كانت في غالب الأحوال مطلقة غير مقيدة وجارية على ما تقتضيه مجاري العادات عند أرباب العقول وعلى ما تحكمه قضايا مكارم الأخلاق من التلبس من كل ما هو معروف في محاسن العادات والتباعد عن كل ما هو منكر في محاسن العادات فيما سوى ما العقل معزول عن تقريره جملة من حدود الصلوات وما أشبهها فكان أكثر ذلك موكولا إلى أنظار المكلفين في تلك العادات ومصروفا إلى اجتهادهم ليأخذ كل بما لاق به وما قدر عليه من تلك المحاسن الكليات وما استطاع من تلك المكارم في التوجه بها للواحد المعبود من إقامة الصلوات فرضها ونفلها حسبما بينه الكتاب والسنة وإنفاق الأموال في إعانة المحتاجين ومؤاساة الفقراء والمساكين من غير تقدير مقرر في الشريعة وصلة الأرحام قربت أو بعدت على حسب ما تستحسنه العقول السليمة في ذلك الترتيب ومراعاة حقوق الجوار وحقوق الملة الجامعة بين الأقارب

234 والأجانب وإصلاح ذات البين بالنسبة إلى جميع الخلق والدفع بالتى هي أحسن وما أشبه ذلك من المشروعات المطلقة التي لم ينص على تقييدها بعد وكذلك الأمر فيما نهى عنه من المنكرات والفواحش على مراتبها في القبح فإنهم كانوا مثابرين على مجانبتها مثابرتهم على التلبس بالمحاسن فكان المسلمون في تلك الأحيان آخذين فيها بأقصى مجهودهم وعاملين على مقتضاها بغاية موجودهم وهكذا بعد ما هاجر رسول الله إلى المدينة وبعد وفاته وفى زمان التابعين إلا أن خطة الإسلام لما اتسعت ودخل الناس في دين الله أفواجا ربما وقعت بينهم مشاحات في المعاملات ومطالبات بأقصى ما يحق لهم في مقطع الحق أو عرضت لهم خصوصيات ضرورات تقتضى أحكاما خاصة أو بدت من بعضهم فلتات في مخالفة المشروعات وارتكاب الممنوعات فاحتاجوا عند ذلك إلى حدود تقتضيها تلك العوارض الطارئة ومشروعات تكمل لهم تلك المقدمات وتقييدات تفصل لهم بين الواجبات والمندوبات والمحرمات والمكروهات إذ كان أكثرها جزئيات لا تستقل بإدراكها العقول السليمة فضلا عن غيرها كما لم تستقل بأصول العبادات وتفاصيل التقربات ولا سيما حين دخل في الإسلام من لم يكن لعقله ذلك النفوذ من عربي أو غيره أو من كان على عادة في الجاهلية وضري على استحسانها فريقه ومال إليها طبعه وهى في نفسها على غير ذلك وكذلك الأمور التي كانت لها في عادات الجاهلية جريان لمصالح رأوها وقد شابها مفاسد مثلها أو أكثر هذا إلى ما أمر الله به من فرض الجهاد حين قووا على عدوهم وطلبوا

235 بدعائهم الخلق إلى الملة الحنيفية وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فأنزل الله تعالى ما يبين لهم كل ما احتاجوا إليه بغاية البيان تارة القرآن وتارة بالنسبة فتفصلت تلك المجملات المكية وتبينت تلك المحتملات وقيدت تلك المطلقات وخصصت بالنسخ أو غيره تلك العمومات ليكون ذلك الباقي المحكم قانونا

236 مطردا وأصلا مستنا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وليكون ذلك تماما لتلك الكليات المقدمة وبناء على تلك الأصول المحكمة فضلا من الله ونعمه فالأصول الأول باقية لم تتبدل ولم تنسخ لأنها في عامة الأمر كليات ضروريات وما لحق بها وإنما وقع النسخ أو البيان على وجوهه عند الأمور المتنازع فيها من الجزئيات لا الكليات وهذا كله ظاهر لمن نظر في الأحكام المكية مع الأحكام المدنية فإن الأحكام المكية مبنية على الإنصاف من النفس وبذل المجهود في الامتثال بالنسبة إلى حقوق الله أو حقوق الآدميين وأما الأحكام المدنية فمنزلة في الغالب

237 على وقائع لم تكن فيما تقدم من بعض المنازعات والمشاحات والرخص والتخفيفات وتقرير العقوبات في الجزئيات لا الكليات فإن الكليات كانت مقررة محكمة بمكة وما أشبه ذلك مع بقاء الكليات المكية على حالها وذلك يؤتى بها في السور المدنيات تقريرا وتأكيدا فكملت جملة الشريعة والحمد لله بالأمرين وتمت واسطتها بالطرفين فقال الله تعالى عند ذلك اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا وإنما عني الفقهاء بتقرير الحدود والأحكام الجزئيات التى هي مظان التنازع والمشاحة والأخذ بالحظوظ الخاصة والعمل بمقتضى الطوارئ العارضة وكأنهم واقفون للناس في اجتهادهم على خط الفصل بين ما أحل الله وما حرم حتى لا يتجاوزوا ما أحل الله إلى ما حرم فهم يحققون للناس مناط هذه الأحكام بحسب الوقائع الخاصة حين صار التشاح ربما إلى مقاربة الحد الفاصل فهم يزعونهم عن مداخلة الحمى وإذا زل أحدهم يبين له الطريق الموصل إلى الخروج عن ذلك في كل جزئية آخذين بحجزهم تارة بالشدة وتارة باللين فهذا النمط هو كان مجال اجتهاد الفقهاء وإياه تحروا وأما سوى ذلك مما هو من أصول مكارم الأخلاق فعلا وتركا فلم يفصلوا

238 القول فيه لأنه غير محتاج إلى التفصيل بل الإنسان في أكثر الأمر يستقل بإدراك العمل فيه فوكلوه إلى اختيار المكلف واجتهاده إذ كيف ما فعل فهو جار على موافقة أمر الشارع ونهيه وقد تشتبه فيه أمور ولكن بحسب قربها من الحد الفاصل فتكلم الفقهاء عليها من تلك الجهة فهو من القسم الأول فعلى هذا كل من كان بعده من ذلك الحد أكثر كان اعراقه في مقتضى الأصول الكلية أكثر وإذا نظرت إلى أوصاف رسول الله وأفعاله تبين لك فرق ما بين القسمين وبون ما بين المنزلتين وكذلك ما يؤثر من شيم الصحابة واتصافهم بمقتضى تلك الأصول وعلى هذا القسم عول من شهر من أهل التصوف وبذلك سادوا غيرهم ممن لم يبلغ مبالغهم في الاتصاف بأوصاف الرسول وأصحابه وأما غيرهم ممن حاز من الدنيا نصيبا فافتقر إلى النظر في هذه الجزئيات والوقائع الدائرة بين الناس في المعاملات والمناكحات فأجروها بالأصول الأولى على حسب ما استطاعوا وأجروها بالفروع الثواني حين اضطروا إلى ذلك فعاملوا ربهم في الجميع ولا يقدر على ذلك إلا الموفق الفذ وهو كان شأن معاملات الصحابة كما نص عليه أصحاب السير ولم تزل الأصول يندرس العمل بمقتضاها لكثرة الاشتغال بالدنيا والتفريع فيها حتى صارت كالنسي المنسي وصار طالب العمل بها كالغريب المقصى عن أهله وهو داخل تحت معنى قوله عليه الصلاة والسلام بدأ هذا الدين غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء فالحاصل من هذه الجملة أن النظر في الكليات يشارك الجمهور فيه العلماء على الجملة وأما النظر في الجزئيات فيختص بالعلماء واستقراء ما تقدم من الشريعة يبينه

239 فصل كان المسلمون قبل الهجرة آخذين بمقتضى التنزيل المكي على ما أداهم إليه اجتهادهم وإحتياطهم فسبقوا غاية السبق حتى سموا السابقين بإطلاق ثم لما هاجروا إلى المدينة ولحقهم في ذلك السبق من شاء الله من الأنصار وكملت لهم بها شعب الإيمان ومكارم الأخلاق وصادفوا ذلك وقد رسخت في أصولها أقدامهم فكانت المتمات أسهل عليهم فصاروا بذلك نورا حتى نزل مدحهم والثناء عليهم في مواضع من كتاب الله ورفع رسول الله من أقدارهم وجعلهم في الدين أئمة فكانوا هم القدوة العظمى في أهل الشريعة ولم يتركوا بعد الهجرة ما كانوا عليه بل زادوا في الاجتهاد وأمعنوا في الانقياد لما حد لهم في المكي والمدني معا لم تزحزحهم الرخص المدنيات عن الأخذ بالعزائم المكيات ولا صدهم عن بذل المجهود في طاعة الله ما متعوا به من الأخذ بحظوظهم وهم منها في سعة والله يختص برحمته من يشاء فعلى تقرير هذا الأصل من أخذ بالأصل الأول واستقام فيه كما استقاموا فطوبى له ومن أخذ بالأصل الثاني فبها ونعمت وعلى الأول جرى الصوفية الأول وعلى الثاني جرى من عداهم ممن لم يلتزم ما التزموه ومن ههنا يفهم شأن المنقطعين إلى الله فيما امتازوا به من نحلتهم المعروفة فإن الذى يظهر لبادئ الرأي منهم أنهم التزموا أمورا لا توجد عند العامة ولا هي مما يلزمهم شرعا فيظن الظان أنهم شددوا على أنفسهم وتكلفوا ما لم يكلفوا ودخلوا على غير مدخل أهل الشريعة وحاش لله ما كانوا ليفعلوا ذلك وقد بنوا نحلتهم على اتباع السنة وهم باتفاق أهل السنة صفوة الله من الخليقة لكن إذا فهمت حالة المسلمين في التكليف أول الإسلام ونصوص التنزيل المكي الذى لم ينسخ وتنزيل أعمالهم عليه

240 تبين لك أن تلك الطريق سلك هؤلاء وبإتباعها عنوا على وجه لا يضاد المدني المفسر فإذا سمعت مثلا أن بعضهم سئل عما يجب من الزكاة في مائتي درهم فقال أما على مذهبنا فالكل لله وأما على مذهبك فخمسة دراهم وما أشبه ذلك علمت أن هذا يستمد مما تقدم فإن التنزيل المكي أمر فيه بمطلق إنفاق المال في طاعة الله ولم يبين فيه الواجب من غيره بل وكل إلى اجتهاد المنفق ولا شلك أن منه ما هو واجب ومنه ما ليس بواجب والاحتياط في مثل هذه المبالغة في الإنفاق في سد الخلات وضروب الحاجات إلى غاية تسكن إليها نفس المنفق فأخذ هذا المسئول في خاصة نفسه بما أفتى به وإلتزمه مذهبا في تعبده وفاء بحق الخدمة وشكر النعمة وإسقاطا لحظوظ نفسه وقياما على قدم العبودية المحضة حتى لم يبق لنفسه حظا وإن أثبته له الشارع اعتمادا على أن لله خزائن السموات والأرض وأنه قال لا نسألك رزقا نحن نرزقك وقال ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون وقال وفي السماء رزقكم وما توعدون ونحو ذلك فهذا نحو من التعبد لمن قدر على الوفاء به ومثله لا يقال في ملتزمه إنه خارج عن الطريقة ولا متكلف في التعبد لكن لما كان هذا الميدان لا يسرح فيه كل الناس قيد في التنزيل المدني حين فرضت الزكوات فصارت هي الواجبة انحتاما مقدرة ألا تتعدى إلى ما دونها وبقي ما سواها على حكم الخيرة فاتسع على المكلف مجال لإبقاء جوازا والإنفاق ندبا فمن مقل في إنفاقه ومن مكثر والجميع محمودون لأنهم لم يتعدوا حدود الله فلما كان الأمر على هذا استفسر المسئول السائل ليجيبه عن مقتضى سؤاله ومنهم من لا ينتهي في الإنفاق إلى إنفاذ الجميع بل يبقى بيده ما تجب في مثله الزكاة حتى تجب عليه وهو مع ذلك موافق في القصد لمن لم يبق شيئا علما بأن في المال حقا سوى الزكاة وهو يتعين تحقيقا وإنما فيه الاجتهاد فلا يزال

241 ناظرا في ذلك مجتهدا فيه ما بقي بيده منه شيء متحملا منه أمانة لا ينفك عنها إلا بنفاذه أو كالوكيل فيه لخلق الله سواء عليه أمد نفسه منه أم لا وهذا كان غالب أحوال الصحابة ولم يكن إمساكهم مضادا لاعتمادهم على مسبب الأسباب سبحانه وتعالى إلا أن هذا الرأي أجرى على اعتبار سنة الله تعالى في العاديات والأول ليس للعاديات عنده مزية في جريان الأحكام على العباد وأما من أبقى لنفسه حظا فلا حرج عليه وقد أثبت له حظه من التوسع في المباحات على شرط عدم الإخلال بالواجبات وهكذا يجب أن ينظر في كل خصلة من الخصال المكية حتى يعلم أن الأمر كما ذكر فالصواب والله أعلم أن أهل هذا البلد معاملون حكما بما قصدوا من استيفاء الحظوظ فيجوز لهم ذلك بخلاف القسمين الأولين وهما من لا يأخذ بتسببه أو يأخذ به ولكن على نسبة القسمة ونحوها فإن قيل فلم لا تقع الفتيا بمقتضى هذا الأصل عند الفقهاء فاعلم أن النظر فيه خاص لا عام بمعنى أنه مبني على حالة يكون المستفتي عليها وهو كونه يعمل لله ويترك لله في جميع تصاريفه فسقط له طلب الحظ لنفسه فساغ أن يفتي على حسب حاله لأنه يقول هذه حالتي فاحملني على مقتضاها فلا بد أن يحمله على ما تقضيه كما لو قال أحد للمفتي إني عاهدت الله على أن لا أمس فرجي بيميني أو عزمت على ألا أسأل أحدا شيئا وأن لا تمس يدي يد مشرك وما أشبه هذا فإنه عقد لله على فعل فضل وقد قال تعالى أوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ومدح الله في كتابه الموفين بعهدهم إذا عاهدوا وهكذا كان شأن المتجردين لعبادة الله فهو مما يطلب الوفاء به ما لم يمنع مانع وفي الحديث إن خيرا لأحدكم أن لا يسأل من أحد شيئا فكان أحدهم يقع له سوطه من يده فلا يسأل أحدا أن يناوله إياه وقال عثمان ما مسست

242 ذكري بيميني منذ بايعت بها رسول الله وقصة حمى الدبر ظاهرة في هذا المعنى إذ عاهد الله أن لا يمس مشركا فحمته الدبر حين استشهد أن يمسه مشرك الحديث كما وقع غير أن الفتيا بمثل هذا اختصت بشيوخ الصوفية لأنهم المباشرون لأرباب هذه الأحوال وأما الفقهاء فإنما يتكلمون في الغالب مع من كان طالبا لحظه من حيث أثبته له الشارع فلا بد أن يفتيه بمقتضاه وحدود الحظوظ معلومة في فن الفقه فلو فرضنا أحدا جاء سائلا وحاله ما تقدم لكان على الفقيه أن يفتيه بمقتضاه ولا يقال إن هذا خلاف ما صرح به الشارع لأن الشارع قد صرح بالجميع لكن جعل إحدى الحالتين وهى المتكلم فيها من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم ولم يلزمها أحدا لأنها اختيارية في الأصل بخلاف الأخرى العامة فإنها لازمة فاقتضى ذلك الفتيا بها عموما كسائر ما يتكلم الفقهاء فيه فإن قيل فإذا كانت غير لازمة فلم تقع الفتيا بها على مقتضى اللزوم قيل لم يفت بها مقتضى اللزوم الذى لا ينفك عنه السائل من حيث القضاء عليه بذلك وإنما يفتي لها وهو طالب أن يلزم نفسه ذلك حسبما استدعاه حاله وأصل الإلزام معمول به شرعا أصله النظر والوفاء بالعهد في التبرعات ومن مكارم الأخلاق ما هو لازم كالمتعة في الطلاق وحديث لا يمنعن أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره وكان عليه الصلاة والسلام يعامل أصحابه بتلك الطريقة ويميل بهم إليها كحديث الأشعريين إذا أرملوا وقوله من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له الحديث بطوله وقوله من ذا الذى تألى على الله لا يفعل الخير وإشارته إلى بعض أصحابه أن يحط عن غريمة

243 الشطر من دينه وقد أنزل الله في شأن أبي بكر الصديق حين ائتلى أن لا ينفق على مسطح ولا يأتل أولوا الفضل منكم الآية وبذلك عمل عمر ابن الخطاب في حكمه على محمد بن مسلمة بإجراء الماء على أرضه وقال والله ليمرن به ولو على بطنك إلى كثير من هذا الباب وأخص من هذا فتيا أهل الورع إذا علمت درجة الورع في مراتبه فإنه يفتي بما تقتضيه مرتبته كما يحكى عن أحمد ابن حنبل أن امرأة سألته عن الغزل بضوء مشاعل السلطان فسألها من أنت فقالت أخت بشر الحافي فأجابها بترك الغزل بضوئها هذا معنى الحكاية دون لفظها وقد حكى مطرف عن مالك في هذا المعنى أنه قال كان مالك يستعمل في نفسه مالا يفتي به الناس يعني العوام ويقول لا يكون العالم عالما حتى يكون كذلك وحتى يحتاط لنفسه بما لو تركه لم يكن عليه فيه إثم هذا كلامه وفي هذا من كلام الناس والحكايات عنهم كثير والله أعلم

244 الطرف الثاني فيما يتعلق بالمجتهد من جهة فتواه والنظر فيه في مسائل المسألة الأولى المفتي قائم في الأمة مقام النبي والدليل على ذلك أمور أحدها النقل الشرعي في الحديث أن العلماء ورثة الأنبياء وأن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم وفي الصحيح بينا أنا نائم أتيت بقدح من لبن فشربت حتى إني لأرى الري يخرج من أظافري ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب قالوا فما أولته يا رسول الله

245 قال العلم وهو في معنى الميراث وبعث النبي نذيرا لقوله إنما أنت نذير وقال في العلماء فولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم الآية وأشباه ذلك والثاني أنه نائب عنه في تبليغ الأحكام لقوله ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب وقال بلغوا عني ولو أية وقال تسمعون ويسمع منكم ويسمع ممن يسمع منكم وإذا كان كذلك فهو معنى كونه قائما مقام النبي والثالث أن المفتي شارع من وجه لأن ما يبلغه من الشريعة إما منقول عن صاحبها وإما مستنبط من المنقول فالأول يكون فيه مبلغا والثاني يكون فيه قائما مقامه في إنشاء الأحكام وإنشاء الأحكام إنما هو للشارع فإذا كان للمجتهد إنشاء الأحكام بحسب نظره واجتهاده فهو من هذا الوجه شارع واجب اتباعه والعمل على وفق ما قاله وهذه هي الخلافة على التحقيق بل القسم الذى هو فيه مبلغ لا بد من نظره فيه من جهة فهم المعاني من الألفاظ الشرعية ومن جهة تحقيق مناطها وتنزيلها على الأحكام وكلا الأمرين راجع إليه فيها فقد قام مقام الشارع أيضا في هذا المعنى وقد جاء في الحديث أن من قرأ القرآن فقد أدرجت النبوة بين جنبيه وعلى الجملة فالمفتي مخبر عن الله كالنبي وموقع للشريعة على أفعال المكلفين

246 بحسب نظره كالنبي ونافذ أمره في الأمة بمنشور الخلافة كالنبي ولذلك سموا أولى الأمر وقرنت طاعتهم بطاعة الله ورسوله في قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم والأدلة على هذا المعنى كثيرة فإذا ثبت هذا انبنى عليه معنى آخر وهى المسألة الثانية وذلك أن الفتوى من المفتي تحصل من جهة القول والفعل والإقرار فأما الفتوى بالقول فهو الأمر المشهور ولا كلام فيه وأما بالفعل فمن وجهين أحدهما ما يقصد به الإفهام في معهود الاستعمال فهو قائم مقام القول المصرح به كقوله عليه الصلاة والسلام الشهر هكذا وهكذا وهكذا وأشار بيديه وسئل عليه الصلاة والسلام في حجته فقال ذبحت قبل أن أرمي فأومأ بيده قال لا حرج وقال يقبض العلم ويظهر الجهل والفتن

247 ويكثر الهرج قيل يا رسول الله وما الهرج فقال هكذا بيده فحرفها كأنه يريد القتل وحديث عائشة في صلاة الكسوف حين أشارت إلى السماء قلت آية فأشارت برأسها أي نعم وحين سئل عليه الصلاة والسلام عن أوقات الصلوات قال للسائل صل معنا هذين اليومين ثم صلى ثم قال له الوقت ما بين هذين أو كما قال وهو كثير جدا والثاني ما يقتضيه كونه أسوة يقتدي به ومبعوثا لذلك قصدا وأصله قول الله تعالى فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكى لا يكون على المؤمنين حرج الآية وقال قبل ذلك لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة الآية وقال في إبراهيم قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم إلى آخر القصة والتأسي إيقاع الفعل على الوجه الذى فعله وشرع من قبلنا

248 شرع لنا وقال عليه الصلاة والسلام لأم سلمة ألا أخبرتيه أني أقبل وأنا صائم وقال صلوا كما رأيتموني أصلي وخذوا عني مناسككم وحديث ابن عمر وغيره في الإقتداء بأفعاله أشهر من أن يخفى ولذلك جعل الأصوليون أفعاله في بيان الأحكام كأقواله وإذا كان كذلك وثبت للمفتي أنه قائم مقام النبي ونائب منابه لزم من ذلك أن أفعاله محل للاقتداء أيضا فما قصد بها البيان والإعلام فظاهر وما لم يقصد به ذلك فالحكم فيه كذلك أيضا من وجهين أحدهما أنه وارث وقد كان المورث قدوة بقوله وفعله مطلقا فكذلك الوارث وإلا لم يكن وارثا على الحقيقة فلا بد من أن تنتصب أفعاله مقتدى بها كما انتصبت أقواله والثاني أن التأسي بالأفعال بالنسبة إلى من يعظم في الناس سر مبثوث في طباع البشر لا يقدرون على الإنفكاك عنه بوجه ولا بحال لا سيما

249 عند الاعتياد والتكرار وإذا صادف محبة وميلا إلى المتأسي به ومتى وجدت التأسي بمن هذا شأنه مفقودا في بعض الناس فاعلم أنه إنما ترك لتأس آخر وقد ظهر ذلك في زمان رسول الله في محلين أحدهما حين دعاهم عليه الصلاة والسلام من الكفر إلى الإيمان ومن عبادة الأصنام إلى عبادة الله فكان من آكد متمسكاتهم التأسي بالآباء كقوله وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا وما أشبهه من الآيات وقالوا أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب ثم كرر عليهم التحذير من ذلك فكانوا عاكفين على ما عليه آباؤهم إلى أن نوصبوا بالحرب وهم راضون بذلك حتى كان من جملة ما دعوا به التأسي بأبيهم إبراهيم وأضيفت الملة المحمدية إليه فقال تعالى ملة أبيكم إبراهيم فكان ذلك بابا للدعاء إلى التأسي بأكبر آبائهم عندهم وبين لهم مع ذلك ما في الإسلام من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم التي كانت آباؤهم تستحسنها وتعمل بكثير منها فكان التأسي داعيا إلى الخروج عن التأسي وهو من أبلغ ما دعو به من جهة التلطف بالرفق ومقتضى الحكمة وبذلك جاء في القرآن بعد قوله ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وقوله ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة فكان هذا الوجه من التلطف في الدعاء إلى الله نوعا من الحكمة التي كان عليه الصلاة والسلام يدعو بها وأيضا فإن ما ذكر في القرآن من مكارم الأخلاق كان خلق رسول الله فصدق الفعل القول بالنسبة إليهم فكان ذلك مما دعا إلى اتباعه والتأسي به فانقادوا ورجعوا إلى الحق

250 والمحل الثاني حين دخلوا في الإسلام وعرفوا الحق وتسابقوا إلى الانقياد لأوامر النبي عليه الصلاة والسلام ونواهيه فربما أمرهم بالأمر وأرشدهم إلى ما فيه صلاح دينهم فتوجهوا إلى ما يفعل ترجيحا له على ما يقول وقضيته عليه الصلاة والسلام معهم في توقفهم عن الإحلال بعد ما أمرهم حتى قال لأم سلمة أما ترين أن قومك أمرتهم فلا يأتمرون فقالت اذبح واحلق ففعل النبي فاتبعوه ونهاهم عن الوصال فلم ينتهوا واحتجوا بأنه يواصل فقال إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني ولما تابعوا في الوصال واصل بهم حتى يعجزوا وقال لو مد لنا في الشهر لواصلت وصالا يدع المتعمقون تعمقهم وسافر بهم في رمضان وأمرهم بالإفطار وكان هو صائما فتوقفوا أو توقف بعضهم حتى أفطر هو فأفطروا وكانوا يبحثون عن أفعاله كما يبحثون عن أقواله وهذا من أشد المواضع على العالم المنتصب وقد تقدم له بيان آخر في باب البيان لكن على وجه آخر والمعنى في الموضعين واحد ولعل قائلا يقول إن النبي كان معصوما فكان عمله للإقتداء محلا بلا إشكال بخلاف غيره فإنه محل للخطأ والنسيان والمعصية

251 والكفر فضلا عن الإيمان فأفعاله لا يوثق بها فلا تكون مقتدى بها فالجواب أنه إن اعتبر هذا الاحتمال في نصب أفعاله حجة للمستفتي فليعتبر مثله في نصب أقواله فإنه يمكن فيها الخطأ والنسيان والكذب عمدا وسهوا لأنه ليس بمعصوم ولما لم يكن ذلك معتبرا في الأقوال لم يكن معتبرا في الأفعال ولأجل هذا تستعظم شرعا زلة العالم كما تبين في هذا الكتاب وفي باب البيان فحق على المفتي أن ينتصب للفتوى بفعله وقوله بمعنى أنه لا بد له من المحافظة على أفعاله حتى تجري على قانون الشرع ليتخذ فيها أسوة وأما الإقرار فراجع إلى الفعل لأن الكف فعل وكف المفتي عن الإنكار إذا رأى فعلا من الأفعال كتصريحه بجوازه وقد أثبت الأصوليون ذلك دليلا شرعيا بالنسبة إلى النبي فكذلك يكون بالنسبة إلى المنتصب بالفتوى وما تقدم من الأدلة في الفتوى الفعلية جار هنا بلا إشكال ومن هنا ثابر السلف على القيام بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولم يبالوا في ذلك بما ينشأ عنه من عود المضرات عليهم بالقتل فما دونه ومن أخذ بالرخصة في ترك الإنكار فر بدينه واستخفى بنفسه ما لم يكن ذلك سببا للإخلال بما هو أعظم من ترك الإنكار فإن ارتكاب خير الشرين أولى من ارتكاب شرهما وهو راجع في الحقيقة إلى إعمال القاعدة في الأمر بالمعروف

252 والنهي عن المنكر والمراتب الثلاث في هذا الوجه مذكورة شواهدها في مواضعها من الكتب المصنفة فيه المسألة الثالثة تنبني على ما قبلها وهى أن الفتيا لا تصح من مخالف لمقتضى العلم وهذا وإن كان الأصوليون قد نبهوا عليه وبينوه فهو في كلامهم مجمل يحتمل البيان بالتفصيل المقرر في أقسام الفتيا فأما فتياه بالقول فإذا جرت أقواله على غير المشروع وهذا من جملة أقواله فيمكن جريانها على غير المشروع فلا يوثق بها وأما أفعاله فإذا جرت على خلاف أفعال أهل الدين والعلم لم يصح الإقتداء بها ولا جعلها أسوة في جملة أعمال السلف الصالح وكذلك إقراره لأنه من جملة أفعاله وأيضا فإن كل واحد من هذه الوجوه الثلاثة عائد على صاحبيه بالتأثير فإن المخالف بجوارحه يدل على مخالفته في قوله والمخالف بقوله يدل على مخالفته بجوارحه لأن الجميع يستمد من أمر واحد قلبي هذا بيان عدم صحة الفتيا منه على الجملة وأما على التفصيل فإن المفتي إذا أمر مثلا بالصمت عما لا يعني فإن كان صامتا عما لا يعنى ففتواه صادقة وإن كان من الخائضين فيما لا يعنى فهي غير صادقة وإذا دلك على الزهد في الدنيا وهو زاهد فيها صدقت فتياه وإن كان راغبا في الدنيا فهي كاذبة وإن دلك على المحافظة على الصلاة وكان محافظا عليها صدقت

253 فتياه وإلا فلا وعلى هذا الترتيب سائر أحكام الشريعة في الأوامر ومثلها النواهي فإذا نهي عن النظر إلى الأجنبيات من النساء وكان في نفسه منتهيا عنها صدقت فتياه أو نهي عن الكذب وهو صادق اللسان أو عن الزنى وهو لا يزني أو عن التفحش وهو لا يتفحش أو عن مخالطة الأشرار وهو لا يخالطهم وما أشبه ذلك فهو الصادق الفتيا والذي يقتدي بقوله ويقتدى بفعله وإلا فلا لأن علامة صدق القول مطابقة الفعل بل هو الصدق في الحقيقة عند العلماء ولذلك قال تعالى رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه وقال في ضده ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن إلى قوله وبما كانوا يكذبون فاعتبر في الصدق مطابقة القول الفعل وفي الكذب مخالفته وقال تعالى في الثلاثة الذين خلفوا يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين وهكذا إذا أخبر العالم عن الحكم أو أمر أو نهي فإنما ذلك مشترك بينه وبين سائر المكلفين في الحقيقة فإن وافق صدق وإن خالف كذب فالفتيا لا تصح مع المخالفة وإنما تصح مع الموافقة وحسب الناظر من ذلك سيد البشر حيث كانت أفعاله مع أقواله على الوفاء والتمام حتى أنكر على من قال يحل الله لرسوله ما شاء وحين سأله الرجل عن أمر فقال إني أفعله فقال له إنك لست مثلنا قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر غضب وقال والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما اتقي وفي القرآن عن

254 شعيب عليه السلام قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وقوله وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه فبينت الآية أن مخالفة القول الفعل تقتضي كذب القول وهو مقتضى ما تقدم في المسألة قبل هذا وقد قالوا في عصمة الأنبياء قبل النبوة من الجهل بالله وعبادة غير الله إن ذلك لأن القلوب تنفر عمن كانت هذه سبيله وهذا المعنى جار من باب أولى فيما بعد النبوة بالنسبة إلى فروع الملة فضلا عن أصولها فإنهم لو كانوا آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر ويأتونه عياذا بالله من ذلك لكان ذلك أولى منفر وأقرب صاد عن الإتباع فمن كان في رتبة الوارثة لهم فمن حقيقة نيله الرتبة ظهور الفعل على مصداق القول ولما نهي عن الربا قال وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب وحين وضع الدماء التي كانت في الجاهلية قال وأول دم أضعه دمنا دم ربيعة بن الحارث وقال حين شفع له

255 في حد السرقة والذي نفسي بيده لو سرقت فاطمة بنت رسول الله لقطعت يدها وكله ظاهر في المحافظة على مطابقة القول الفعل بالنسبة إليه وإلى قرابته وأن الناس في أحكام الله سواء والأدلة في هذا المعنى أكثر من أن تحصى وقد ذم الشرع الفاعل بخلاف ما يقول فقال الله تعالى أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم الآية وقال يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون عن جعفر بن برقان قال سمعت ميمون ابن مهران يقول إن القاص المتكلم ينتظر المقت والمستمع ينتظر الرحمة قلت أرأيت قول الله يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون الآية هو الرجل يقرظ نفسه فيقول فعلت كذا وكذا من الخير أو هو الرجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وإن كان فيه تقصير فقال كلاهما فإن قيل إن كان كما قلت تعذر القيام بالفتوى وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد قال العلماء إنه لا يلزم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون صاحبه مؤتمرا أو منتهيا وإلا أدى ذلك إلى خرم الأصل وقد مر أن كل تكملة أدت إلى انخرام الأصل المكمل غير معتبرة فكذلك هنا ومثله الانتصاب للفتوى ومن الذى يوجد لا يزل ولا يضل ولا يخالف قوله فعله ولا سيما في الأزمنة المتأخرة البعيدة عن زمان النبوة نعم لا إشكال في أن من طابق قوله فعله على الإطلاق هو المستحق للتقدم في هذه المراتب وأما أن

256 يقال إذا عدم ذلك لم يصح الانتصاب هذا مشكل جدا فالجواب أن هذا السؤال غير وارد على القصد المقرر لأنا إنما تكلمنا على صحة الانتصاب والانتفاع في الوقوع لا في الحكم الشرعي فنحن نقول واجب على العالم المجتهد الانتصاب والفتوى على الإطلاق طابق قوله فعله أم لا لكن الانتفاع بفتواه لا يحصل ولا يطرد إن حصل وذلك أنه إن كان موافقا قوله لفعله حصل الانتفاع والاقتداء به في القول والفعل معا أو كان مظنة للحصول لأن الفعل يصدق القول أو يكذبه وإن خالف فعله قوله فإما أن تؤديه المخالفة إلى الانحطاط عن رتبة العدالة إلى الفسق أولا فإن كان الأول فلا إشكال في عدم صحة الاقتداء وعدم صحة الانتصاب شرعا وعادة ومن اقتدى به كان مخالفا مثله فلا فتوى في الحقيقة ولا حكم وإن كان الثاني صح الاقتداء به واستفتاؤه وفتواه فيما وافق دون ما خالف فمن المعلوم كما تقدم أنه إذا أفتاك بترك الزنا والخمر وبالمحافظة على الواجبات وهو في فعله على حسب فتواه حصل تصديق قوله بفعله وإذا أفتاك بالزهد في الدنيا أو ترك مخالطة المترفين أو نحو ذلك مما لا يقدح في أصل العدالة ثم رأيته يحرص على الدنيا ويخالط من نهاك عن مخالطتهم فلم يصدق القول الفعل هذا وإن كان الشرع قد أمرك بمتابعة قوله فقد نصبه الشارع أيضا ليؤخذ بقوله وفعله لأنه وارث النبي فإذا خالف فقد خالف مقتضى المرتبة وكذب الفعل القول لما في الجبلات من جواذب التأسي بالأفعال فعلى كل تقدير لا يصح الاقتداء ولا الفتوى على كمالها في الصحة إلا مع مطابقة القول الفعل على

257 الإطلاق وقد قال أبو الأسود الدؤلي إبدأ بنفسك فإنهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك يسمع ما تقول ويقتدى بالرأي منك وينفع التعليم لا تنه عن خلق وتأتى مثله عار عليك إذا فعلت عظيم وهو معنى موافق للنقل والعقل لا خلاف فيه بين العقلاء فصل فإن قيل فما حكم المستفتى مع هذا المفتى الذي لم يطابق قوله فعله هل يصح تقليده في باب التكليف أم لا بمعنى أنه يؤخذ بقوله ويعمل عليه أو لا فالجواب أن هذه المسألة مبنية على ما تقدم فإن أخذت من جهة الصحة في الوقوع فلا تصح لأنها إذا لم تصح بالنسبة إلى المفتي فكذلك يقال بالنسبة إلى المستفتي هذا هو المطرد والغالب وما سواه كالمحفوظ النادر الذى لا يقوم منه أصل كلي بحال وأما إن أخذت من جهة الإلزام الشرعي فالفقه فيها ظاهر فإن كانت مخالفته ظاهرة قادحة في عدالته فلا يصح إلزامه إذ من شرط قبول القول والعمل به صدقه وغير العدل لا يوثق به وإن كانت فتواه جارية على مقتضى الأدلة في نفس الأمر إذ لا يمكن علم ذلك إلا من جهته وجهته غير موثوق بها فيسقط الإلزام عن المستفتى وإذا سقط الإلزام عن المستفتى فهل يبقى إلزام المفتي متوجها أم لا يجرى ذلك على خلاف في مسألة حصول الشرط الشرعي هل هو شرط

258 في التكليف أم لا وذلك مقرر في كتب الأصول وإن لم تكن مخالفته قادحة في عدالته فقبول قوله صحيح والعمل عليه مبرئ للذمة والإلزام الشرعي متوجه عليهما معا المسألة الرابعة المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور فلا يذهب بهم مذهب الشدة ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال والدليل على صحة هذا أنه الصراط المستقيم الذى جاءت به الشريعة فإنه قد مر أن مقصد الشارع من المكلف الحمل على التوسط من غير إفراط ولا تفريط فإذا خرج عن ذلك في المستفتين خرج عن قصد الشارع ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموما عند العلماء الراسخين وأيضا فإن هذا المذهب كان المفهوم من شأن رسول الله وأصحابه الأكرمين وقد رد عليه الصلاة والسلام التبتل وقال لمعاذ لما أطال بالناس في الصلاة أفتان أنت يا معاذ وقال إن منكم منفرين وقال سددوا وقاربوا واغدوا وروحوا وشئ من الدلجة والقصد القصد تبلغوا وقال عليكم من العمل ما تطيقون فإن الله

259 لا يمل حتى تملوا وقال أحب العمل إلى الله ما دام عليه صاحبه وإن قل ورد عليهم الوصال وكثير من هذا وأيضا فإن الخروج إلى الأطراف خارج عن العدل ولا تقوم به مصلحة الخلق أما في طرف التشديد فإنه مهلكة وأما في طرف الانحلال فكذلك أيضا لأن المستفتى إذ ذهب به مذهب العنت والحرج بغض إليه الدين وأدى إلى الانقطاع عن سلوك طريق الآخرة وهو مشاهد وأما إذا ذهب به مذهب الانحلال كان مظنة للمشي مع الهوى والشهوة والشرع إنما جاء بالنهي عن الهوى واتباع الهوى مهلك والأدلة كثيرة فصل فعلى هذا يكون الميل إلى الرخص في الفتيا بإطلاق مضادا للمشي على التوسط كما أن الميل إلى التشديد مضاد له أيضا وربما فهم بعض الناس أن ترك الترخص تشديد فلا يجعل بينهما وسطا وهذا غلط والوسط هو معظم الشريعة وأم الكتاب ومن تأمل موارد الأحكام بالاستقراء التام عرف ذلك وأكثر من هذا شأنه من أهل الانتماء إلى العلم يتعلق بالخلاف الوارد في المسائل العلمية بحيث يتحرى الفتوى بالقول الذى يوافق هوى المستفتي بناء منه على أن الفتوى بالقول المخالف لهواه تشديد عليه وحرج في حقه وأن الخلاف إنما كان رحمة لهذا المعنى وليس بين التشديد والتخفيف واسطة وهذا قلب للمعنى المقصود في الشريعة وقد تقدم أن اتباع الهوى ليس من المشقات التي يترخص بسببها وأن الخلاف إنما هو رحمة من جهة أخرى وأن

260 الشريعة حمل على التوسط لا على مطلق التخفيف وإلا لزم ارتفاع مطلق التكليف من حيث هو حرج ومخالف للهوى ولا على مطلق التشديد فليأخذ الموفق في هذا الموضع حذره فإنه مزلة قدم على وضوح الأمر فيه فصل قد يسوغ للمجتهد أن يحمل نفسه من التكليف ما هو فرق الوسط بناء على ما تقدم في أحكام الرخص ولما كان مفتيا بقوله وفعله كان له أن يخفى ما لعله يقتدي به فيه فربما اقتدى به فيه من لا طاقة له بذلك العمل فينقطع وإن اتفق ظهوره للناس نبه عليه كما كان رسول الله يفعل إذ كان قد فاق الناس عبادة وخلقا وكان عليه الصلاة والسلام قدوة فربما اتبع لظهور عمله فكان ينهى عنه في مواضع كنهيه عن الوصال ومراجعته لعمرو بن العاص في سرد الصوم وقد قال تعالى واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم وأمر بحل الحبل الممدود بين الساريتين وأنكر على الحولاء بنت تويت قيامها الليل وربما ترك العمل خوفا أن يعمل به الناس فيفرض عليهم ولهذا والله أعلم أخفى السلف الصالح أعمالهم لئلا يتخذوا قدوة مع ما كانوا يخافون عليه أيضا من رياء أو غيره وإذا كان الإظهار عرضة للاقتداء لم يظهر منه إلا ما صح للجمهور أن يحتملوه فصل إذا ثبت أن الحمل على التوسط هو الموافق لقصد الشارع وهو الذي كان

261 عليه السلف الصالح فلينظر المقلد أي مذهب كان أجرى على هذا الطريق فهو أخلق بالإتباع وأولى بالاعتبار وإن كانت المذاهب كلها طرقا إلى الله ولكن الترجيح فيها لا بد منه لأنه أبعد من اتباع الهوى كما تقدم وأقرب إلى تحرى قصد الشارع في مسائل الاجتهاد فقد قالوا في مذهب داود لما وقف مع الظاهر مطلقا إنه بدعة حدثت بعد المائتين وقالوا في مذهب أصحاب الرأي لا يكاد المعرق في القياس إلا يفارق السنة فإن كان ثم رأي بين هذين فهو الأولى بالاتباع والتعيين في هذا المذهب موكول إلى أهله والله أعلم الطرف الثالث فيما يتعلق بأعمال قول المجتهد المقتدى به وحكم الاقتداء به المسألة الأولى إن المقلد إذا عرضت له مسألة دينية فلا يسعه في الدين إلا السؤال عنها على الجملة لأن الله لم يتعبد الخلق بالجهل وإنما تعبدهم على مقتضى قوله سبحانه واتقوا الله ويعلمكم الله لا على ما يفهمه كثير من الناس بل على ما

262 قرره الأئمة في صناعة النحو أي إن الله يعلمكم على كل حال فاتقوه فكأن الثاني سبب في الأول فترتب الأمر بالتقوى على حصول التعليم ترتبا معنويا وهو يقتضي تقدم العلم على العمل والأدلة على هذا المعنى كثيرة وهي قضية لا نزاع فيها فلا فائدة في التطويل فيها لكنها كالمقدمة لمعنى آخر وهى المسألة الثانية وذلك أن السائل لا يصح له أن يسأل من لا يعتبر في الشريعة جوابه لأنه إسناد أمر إلى غير أهله والإجماع على عدم صحة مثل هذا بل لا يمكن في الواقع لأن السائل يقول لمن ليس بأهل لما سئل عنه أخبرني عما لا تدري وأنا أسند أمري لك فيما نحن بالجهل به على سواء ومثل هذا لا يدخل في زمرة العقلاء إذ لو قال له دلني في هذه المفازة على الطريق إلى الموضع الفلاني وقد علم أنهما في الجهل بالطريق سواء لعد من زمرة المجانين فالطريق الشرعي أولى لأنه هلاك أخروي وذلك هلاك دنيوي خاصة والإطناب في هذا أيضا غير محتاج إليه غير أنا نقول بعده إذا تعين عليه السؤال فحق عليه أن لا يسأل إلا من هو من أهل ذلك المعنى الذى يسأل عنه فلا يخلو أن يتحد في ذلك القطر أو يتعدد فإن اتحد فلا إشكال وإن تعدد فالنظر في التخيير وفى الترجيح قد تكفل به أهل الأصول وذلك إذا لم يعرف أقوالهم في المسألة قبل السؤال أما إذا كان اطلع على فتاويهم قبل ذلك وأراد أن يأخذ بأحدها فقد تقدم قبل هذا أنه لا يصح له إلا الترجيح لأن من مقصود الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدا لله وتخييره يفتح له باب اتباع الهوى فلا سبيل إليه ألبتة وقد مر في ذلك تقرير حسن في هذا الكتاب فلا نعيده

263 المسألة الثالثة حيث يتعين الترجيح فله طريقان أحدهما عام والآخر خاص فأما العام فهو المذكور في كتب الأصول إلا أن فيه موضعا يجب أن يتأمل ويحترز منه وذلك أن كثيرا من الناس تجاوزوا الترجيح بالوجوه الخالصة إلى الترجيح ببعض الطعن على المذاهب المرجوحة عندهم أو على أهلها القائلين بها مع أنهم يثبتون مذاهبهم ويعتدون بها ويراعونها ويفتون بصحة الاستناد إليهم في الفتوى وهو غير لائق بمناصب المرجحين وأكثر ما وقع ذلك في الترجيح بين المذاهب الأربعة وما يليها من مذهب داود ونحوه فلنذكر هنا أمورا يجب التنبه لها أحدها أن الترجيح بين الأمرين إنما يقع في الحقيقة بعد الاشتراك في الوصف الذى تفاوتا فيه وإلا فهو إبطال لأحدهما وإهمال لجانبه رأسا ومثله هذا لا يسمى ترجيحا وإذا كان كذلك فالخروج في بعض المذاهب على بعض إلى القدح في أصل الوصف بالنسبة إلى أحد المتصفين خروج عن نمط إلى نمط آخر مخالف له وهذا ليس من شأن العلماء وإنما الذى يليق بذلك الطعن والقدح في حصول ذلك الوصف لمن تعاطاه وليس من أهله والأئمة المذكورون برآء من ذلك النمط لا يليق بهم والثاني أن الطعن في مساق الترجيح يبين العناد من أهل المذهب المطعون عليه ويزيد في دواعي التمادي والإصرار على ما هم عليه لأن الذى غض من جانبه مع اعتقاده خلاف ذلك حقيق بأن يتعصب لما هو عليه ويظهر

264 محاسنه فلا يكون للترجيح المسوق هذا المساق فائدة زائدة على الإغراء بالتزام وإن كان مرجوحا فإن الترجيح لم يحصل والثالث أن هذا الترجيح مغر بانتصاب المخالف للترجيح بالمثل أيضا فبينا نحن نتتبع المحاسن صرنا نتتبع القبائح فإن النفوس مجبولة على الانتصار لأنفسها ومذاهبها وسائر ما يتعلق بها فمن غض من جانب صاحبه غض صاحبه من جانبه فكأن المرجح لمذهبه على هذا الوجه غاض من جانب مذهبه فإنه تسبب في ذلك كما في الحديث إن من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه قالوا وهل يسب الرجل والديه قال يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه فهذا من ذلك وقد منع الله أشياء من الجائزات لإفضائها إلى الممنوع كقوله لا تقولوا راعنا وقوله ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله الآية وأشباه ذلك والرابع أن هذا العمل مورث للتدابر والتقاطع بين أرباب المذاهب وربما نشأ الصغير منهم على ذلك حتى يرسخ في قلوب أهل المذاهب بغض من خالفهم فيتفرقوا شيعا وقد نهى الله تعالى عن ذلك وقال ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا الآية وقال إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ وقد مر تقرير هذا المعنى قبل فكل ما أدى إلى هذا ممنوع فالترجيح بما يؤدي إلى افتراق الكلمة وحدوث العداوة والبغضاء ممنوع ونقل الطبري عن عمر بن الخطاب وإن لم يصحح سنده أنه لما أرسل الحطيئة من الحبس في هجاء الزبرقان بن بدر قال له إياك والشعر قال لا أقدر يا أمير المؤمنين على تركه مأكلة عيالي ونملة على لساني قال فشبب بأهلك وإياك

265 وكل مدحة مجحفة قال وما هى قال تقول بنو فلان خير من بنى فلان امدح ولا تفضل قال أنت يا أمير المؤمنين أشعر مني فإن صح هذا الخبر وإلا فمعناه صحيح فإن المدح إذا أدى إلى ذم الغير كان مجحفا والعوائد شاهدة بذلك والخامس أن الطعن والتقبيح في مساق الرد أو الترجيح ربما أدى إلى التغالي والانحراف في المذاهب زائدا إلى ما تقدم فيكون ذلك سبب إثارة الأحقاد الناشئة عن التقبيح الصادر بين المختلفين في معارض الترجيح والمحاجة قال الغزالي في بعض كتبه أكثر الجهالة إنما رسخت في قلوب العوام بتعصب جماعة من جهال أهل الحق أظهروا الحق في معرض التحدي والإدلاء ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والازدراء فثارت من بواطنهم دواعي المعاندة والمخالفة ورسخت في قلوبهم الاعتقادات الباطلة وتعذر على العلماء المتلطفين محوها مع ظهور فسادها حتى انتهى التعصب بطائفة إلى أن اعتقدوا أن الحروف التي نطقوا بها في الحال بعد السكوت عنها طول العمر قديمة ولولا استيلاء الشيطان بواسطة العناد والتعصب للأهواء لما وجد مثل هذا الاعتقاد مستقرا في قلب مجنون فضلا عن قلب عاقل هذا ما قال وهو الحق الذى تشهد له العوائد الجارية وقد جاء في حديث الذى لطم وجه اليهودي القائل والذى اصطفى موسى على البشر أن النبي غضب وقال لا تفضلوا بين الأنبياء

266 أو لا تفضلوني على موسى مع أن النبي جاء بالتفضيل أيضا فذكر المازري في تأويله عن بعض شيوخه أنه يحتمل أن يريد لا تفضلوا بين أنبياء الله تفضيلا يؤدي إلى نقص بعضهم قال وقد خرج الحديث على سبب وهو لطم الأنصاري وجه اليهودي فقد يكون عليه الصلاة والسلام خاف أن يفهم من هذه الفعلة انتقاص موسى فنهى عن التفضيل المؤدي إلى نقص الحقوق قال عياض وقد يحتمل أن يقول هذا وإن علم بفضله عليهم وأعلم به أمته لكن نهاه عن الخوض فيه والمجادلة به إذ قد يكون ذلك ذريعة إلى ذكر ما لا يحب منهم عند الجدال أو ما يحدث في النفس لهم بحكم الضجر والمراء فكان نهيه عن المماراة في ذلك كما نهى عنه في القرآن وغير ذلك هذا ما قال وهو حق فيجب أن يعمل به فيما بين العلماء فإنهم ورثة الأنبياء فصل وأما إذا وقع الترجيح بذكر الفضائل والخواص والمزايا الظاهرة التي يشهد بها الكافة فلا حرج فيه بل هو مما لا بد منه في هذه المواطن أعني عند الحاجة إليه وأصله من الكتاب قول الله تعالى تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض الآية فبين أصل التفضيل ثم ذكر بعض الخواص والمزايا المخصوص بها بعض الرسل وقال تعالى ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا وفى الحديث من هذا كثير لما سئل من أكرم الناس فقال أتقاهم فقالوا ليس عن هذا نسألك قال فيوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله

267 ابن خليل الله قالوا ليس عن هذا نسألك قال فعن معادن العرب تسألوني خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا وقال عليه الصلاة والسلام بينما موسى في ملأ من بني إسرائيل جاءه رجل فقال هل تعلم أحد أعلم منك قال لا فأوحى الله إليه بلى عبدنا خضر وفى رواية أن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل أي الناس أعلم قال أنا فعتب الله عليه إذا لم يرد العلم إليه قال له بلى لي عبد بمجمع البحرين هو أعلم منك الحديث واستب رجل من المسلمين ورجل من اليهود فقال المسلم والذى اصطفى محمدا على العالمين في قسم يقسم به فقال اليهودي والذى اصطفى موسى على العالمين إلى أن قال عليه الصلاة والسلام لا تخيروني على موسى فإن الناس يصعقون فأكون أول من يفيق فإذا موسى آخذ بجانب العرش فلا أدرى أكان فيمن صعق فأفاق أو كان ممن استثنى الله وفى رواية لا تفضلوا بين الأنبياء فإنه ينفخ في الصور الحديث فهذا نفي للتفضيل مستند إلى دليل وهو دليل على صحة التفضيل في الجملة إ ذا كان ثم مرجح وقال كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم ابنة عمران وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام وقال للذى قال له يا خير

268 البرية ذاك إبراهيم وقال في الحديث الآخر أنا سيد ولد آدم وأشباهه مما يدل على تفضيله على سائر الخلق وليس النظر هنا في وجه التعارض بين الحديثين وإنما النظر في صحة التفضيل ومساغ الترجيح على الجملة وهو ثابت من الحديثين وقال خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم وقال عمر كنا نخير بين الناس في زمان رسول الله فنخير أبا بكر ثم عمر ثم عثمان وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة وهم عبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن ابن الحرث بن هشام إذا اختلفتم أنت وزيد بن ثابت في شئ من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم ففعلوا ذلك وقال خير دور الأنصار بنو النجار ثم بنو عبد الله الأشهل ثم بنو الحرث بن الخزرج ثم بنو ساعدة وفى كل دور الأنصار خير وقال أرحم أمتى بأمتي أبو بكر وأشدهم في الله عمر وأصدقهم حياء عثمان وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ ابن

269 جبل وأفرضهم زيد بن ثابت وأقرؤهم أبي بن كعب ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح وقال عبد الرحمن بن يزيد سألنا حذيفة عن رجل قريب السمت والهدى من النبي حتى نأخذ عنه فقال ما أعرف أحد أقرب سمتا وهديا ودلا بالنبي من ابن أم عبد ولما حضر معاذا الوفاة قيل له يا أبا عبد الرحمن أوصنا قال أجلسوني قال إن العلم والإيمان مكانهما من ابتغاهما وجدهما يقول ذلك ثلاث مرات والتمسوا العلم عند أربعة رهط عند عويمر أبي الدرداء وعند سلمان الفارسي وعند عبد الله بن مسعود وعند عبد الله بن سلام الحديث وقال عليه الصلاة والسلام اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر

270 وما جاء في الترجيح والتفضيل كثير لأجل ما ينبني عليه من شعائر الدين وجميعه ليس فيه إشارة إلى تنقيص المرجوح وإذا كان كذلك فهو القانون اللازم والحكم المنبرم الذى لا يتعدى إلى سواه وكذلك فعل السلف الصالح فصل وربما انتهت الغفلة أو التغافل بقوم ممن يشار إليهم في أهل العلم أن صيروا الترجيح بالتنقيص تصريحا أو تعريضا دأبهم وعمروا بذلك دواوينهم وسودوا به قراطيسهم حتى صار هذا النوع ترجمة من تراجم الكتب المصنفة في أصول الفقه أو كالترجمة وفيه ما فيه مما أشير إلى بعضه بل تطرق الأمر إلى السلف الصالح من الصحابة فمن دونهم فرأيت بعض التآليف المؤلفة في تفضيل بعض الصحابة على بعض على منحى التنقيص بمن جعله مرجوحا وتنزيه الراجح عنده مما نسب إلى المرجوح عنده بل أتى الوادي فطم على القرى فصار هذا النحو مستعملا فيما بين الأنبياء وتطرق ذلك إلى شرذمة من الجهال فنظموا فيه ونثروا وأخذوا في ترفيع محمد عليه الصلاة والسلام وتعظيم شأنه بالتخفيض من شأن سائر الأنبياء ولكن مستندين إلى منقولات أخذوها على غير وجهها وهو خروج عن الحق وقد علمت السبب في قوله عليه الصلاة والسلام لا تفضلوا بين الأنبياء وما قال الناس فيه فإياك والدخول في هذه المضايق ففيها الخروج عن الصراط المستقيم وأما الترجيح الخاص فلنفرد له مسألة وهى المسألة الرابعة وذلك أن من اجتمعت فيه شروط الانتصاب للفتوى على قسمين أحدهما من كان منهم في أفعاله وأقواله وأحواله على مقتضى فتواه فهو متصف بأوصاف العلم قائم معه مقام الامتثال التام حتى إذا أحببت الإقتداء به من غير سؤال

271 أغناك عن السؤال في كثير من الأعمال كما كان رسول الله عليه وسلم يؤخذ العلم من قوله وفعله وإقراره فهذا القسم إذا وجد فهو أولى ممن ليس كذلك وهو القسم الثاني وإن كان في أهل العدالة مبرزا لوجهين أحدهما ما تقدم في موضعه من أن من هذا حاله فوعظه أبلغ وقوله أنفع وفتواه أوقع في القلوب ممن ليس كذلك لأنه الذى ظهرت ينابيع العلم عليه واستنارت كليته به وصار كلامه خارجا من صميم القلب والكلام إذا خرج من القلب وقع في القلب ومن كان بهذه الصفة فهو من الذين قال الله فيهم إنما يخشى الله من عباده العلماء بخلاف من لم يكن كذلك فإنه وإن كان عدلا وصادقا وفاضلا لا يبلغ كلامه من القلوب هذه المبالغ حسبما حققته التجربة العادية والثاني أن مطابقة الفعل القول شاهد لصدق ذلك القول كما تقدم بيانه أيضا فمن طابق فعله قوله صدقته القلوب وانقادت له بالطواعية النفوس بخلاف من لم يبلغ ذلك المقام وإن كان فضله ودينه معلوما ولكن التفاوت الحاصل في هذه المراتب مفيد زيادة الفائدة أو عدم زيادتها فمن زهد الناس في الفضول التى لا تقدح في العدالة وهو زاهد فيها وتارك لطلبها فتزهيده أنفع من تزهيد من زهد فيها وليس بتارك لها فإن ذلك مخالفة وإن كانت جائزة وفي مخالفة القول الفعل هنا ما يمنع من بلوغ مرتبة من طابق قوله فعله فإذا اختلف مراتب المفتين في هذه المطابقة فالراجح للمقلد اتباع من غلبت مطابقة قوله بفعله والمطابقة أو عدمها ينظر فيها بالنسبة إلى الأوامر والنواهي فإذا طابق فيهما أعني فيما عدا شروط العدالة فالأرجح المطابقة في النواهي فإذا وجد مجتهدان أحدهما مثابر على أن لا يرتكب منهيا عنه لكنه في الأوامر ليس كذلك

272 والآخر مثابر على أن لا يخالف مأمورا به لكنه في النواهي على غير ذلك فالأول أرجح في الاتباع من الثاني لأن الأوامر والنواهي فيما عدا شروط العدالة إنما مطابقتها من المكملات ومحاسن العادات واجتناب النواهي آكد وأبلغ في القصد الشرعي من أوجه أحدها أن درء المفاسد أولى من جلب المصالح وهو معنى يعتمد عليه أهل العلم والثاني أن المناهي تمتثل بفعل واحد وهو الكف فللإنسان قدرة عليها في الجملة من غير مشقة وأما الأوامر فلا قدرة للبشر على فعل جميعها وإنما تتوارد على المكلف على البدل بحسب ما اقتضاه الترجيح فترك بعض الأوامر ليس بمخالفة على الإطلاق بخلاف بعض النواهي فإنه مخالفة في الجملة فترك النواهي أبلغ في تحقيق الموافقة الثالث النقل فقد جاء في الحديث فإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم فجعل المناهي آكد في الاعتبار من الأوامر حيث حتم في المناهي من غير مثنوية ولم يحتم ذلك في الأوامر إلا مع التقييد بالاستطاعة وذلك إشعار بما نحن فيه من ترجيح مطابقة المناهي على مطابقة الأوامر المسألة الخامسة الاقتداء بالأفعال الصادرة من أهل الاقتداء يقع على وجهين أحدهما أن يكون المقتدى به بالأفعال ممن دل الدليل على عصمته كالاقتداء بفعل النبي أو فعل أهل الإجماع أو ما يعلم

273 بالعادة أو بالشرع أنهم لا يتواطئون على الخطأ كعمل أهل المدينة على رأي مالك والثاني ما كان بخلاف ذلك فأما الثاني فعلى ضربين أحدهما أن ينتصب بفعله ذلك لأن يقتدي به قصدا كأوامر الحكام ونواهيهم وأعمالهم في مقطع الحكم من أخذ وإعطاء ورد وإمضاء ونحو ذلك أو يتعين بالقرائن قصده إليه تعبدا به واهتماما بشأنه دينا وأمانة والآخر أن لا يتعين فيه شيء من ذلك فهذه أقسام ثلاثة لا بد من الكلام عليها بالنسبة إلى الإقتداء فالقسم الأول لا يخلو أن يقصد المقتدي إيقاع الفعل على الوجه الذى وقعه عليه المقتدي به لا يقصد به إلا ذلك سواء عليه أفهم مغزاه أم لا من غير زيادة أو يزيد عليه تنوية المقتدى به في الفعل أحسن المحامل مع احتماله في نفسه فيبني في إقتدائه على المحمل الأحسن ويجعله أصلا يرتب عليه الأحكام ويفرع عليه المسائل فأما الأول فلا إشكال في صحة الإقتداء به على حسب ما قرره الأصوليون كما اقتدى الصحابة بالنبي في أشياء كثيرة كنزع الخاتم الذهبي

274 وخلع النعلين في الصلاة والإفطار في السفر والإحلال من العمرة عام الحديبية وكذلك أفعال الصحابة التى أجمعوا عليها وما أشبه ذلك وأما الثاني فقد يحتمل أن يكون فيه خلاف إذا أمكن انضباط المقصد ولكن الصواب أنه غير معتد به شرعا في الإقتداء لأمور أحدها أن تحسين الظن إلغاء لاحتمال قصد المقتدى به دون ما نواه المقتدي من غير دليل فالاحتمال الذى عيه المقتدى لا يتعين وإذا لم يتعين لم يترجح إلا بالتشهي وذلك مهمل في الأمور الشرعية إذ لا ترجيح إلا بمرجح ولا يقال إن تحسين الظن مطلوب على العموم فأولى أن يكون مطلوبا بالنسبة إلى من ثبتت عصمته لأنا نقول تحسين الظن بالمسلم وإن ظهرت مخايل احتمال إساءة الظن فيه مطلوب بلا شك كقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن الآية وقوله لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا الآية بل أمر الإنسان في هذا المعنى أن يقول ما لا يعلم كما أمر باعتقاد

275 ما لا يعلم في قوله وقالوا هذا إفك مبين وقوله لو لا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم إلى غير ذلك مما في هذا المعنى ومع ذلك فلم يبن عليه حكم شرعي ولا اعتبر في عدالة شاهد ولا في غير ذلك مجرد هذا التحسين حتى تدل الأدلة الظاهرة المحصلة للعلم أو الظن الغالب فإذا كان المكلف مأمورا بتحسين الظن بكل مسلم ولم يكن كل مسلم عدلا بمجرد هذا التحسين حتى تحصل الخبرة أو التزكية دل على أن مجرد تحسين الظن بأمر لا يثبت ذلك الأمر وإذا لم يثبته لم ينبن عليه حكم وتحسين الظن بالأفعال من ذلك فلا ينبني عليها حكم ومثاله كما إذا فعل المقتدى به فعلا يحتمل أن يكون دينيا تعبديا ويحتمل أن يكون دنيويا راجعا إلى مصالح الدنيا ولا قرينة تدل على تعين أحد الاحتمالين فيحمله هذا المقتدي على أن المقتدى به إنما قصد الوجه الديني بناء على تحسينه الظن به والثاني أن تحسين الظن عمل قلبي من أعمال المكلف بالنسبة إلى المقتدى به مثلا وهو مأمور به مطلقا وافق ما في نفس الأمر أو خالف إذ لو كان يستلزم المطابقة علما أو ظنا لما أمر به مطلقا بل بقيد الأدلة المفيدة لحصول الظن بما في نفس الأمر وليس كذلك باتفاق فلا يستلزم المطابقة وإذا ثبت هذا فالإقتداء

276 بناء على هذا التحسين بناء على عمل من أعمال نفسه لا على أمر حصل لذلك المقتدى به لكنه قصد الإقتداء بناء على ما عند المقتدى به فأدى إلى بناء الإقتداء على غير شيء وذلك باطل بخلاف الإقتداء بناء على ظهور علاماته فإنه إنما انبنى على أمر حصل للمقتدي به علما أو ظنا وإياه قصد المقتدى بإقتدائه فصار كالاقتداء به في الأمور المتعينة والثالث أن هذا الإقتداء يلزم منه التناقض لأنه إنما يقتدي به بناء على أنه كذلك في نفس الأمر ظنا مثلا ومجرد تحسين الظن لا يقتضي أنه كذلك في نفس الأمر لا علما ولا ظنا وإذا لم يقتضه لم يكن الإقتداء به بناء على أنه كذلك في نفس الأمر وقد فرضنا أنه كذلك هذا خلف متناقض وإنما يشتبه هذا الموضع من جهة اختلاط تحسين الظن بنفس الظن والفرق بينهما ظاهر لأمرين أحدهما أن الظن نفسه يتعلق بالمقتدى به مثلا بقيد كونه في نفس الأمر كذلك حسبما دلت عليه الأدلة الظنية بخلاف تحسين الظن فإنه يتعلق به كان في الخارج على حسب ذلك الظن أولا والثاني أن الظن ناشئ عن الأدلة الموجبة له ضرورة لا انفكاك للمكلف عنه وتحسين الظن أمر اختياري للمكلف غير ناشئ عن دليل يوجبه وهو يرجع إلى نفي بعض الخواطر المضطربة الدائرة بين النفي والإثبات في كل واحد من الاحتمالين المتعلقين بالمقتدي به فإذا جاءه خاطر الاحتمال الأحسن قواه وثبته بتكراره في فكره

277 ووعظ النفس في اعتقاده وإذا أتاه خاطر الاحتمال الآخر ضعفه ونفاه وكرر نفيه على فكرة ومحاه عن ذكره فإن قيل إذا كان المقتدى به ظاهره والغالب من أمره الميل إلى الأمور الأخروية والتزود للمعاد والانقطاع إلى الله ومراقبة أحواله فيما بينه وبين الله فالظاهر منه أن هذا الفرد المحتمل ملحق بذلك الأعم الأغلب شأن الأحكام الواردة على هذا الوزان فالجواب أن هذا الفرد إذا تعين هكذا على هذا الفرض فقد يقوى الظن بقصده إلى الاحتمال الأخروي فيكون مجال الاجتهاد كما سيذكر بحول الله ولكن ليس هذا الفرض بناء على مجرد تحسين الظن بل على نفس الظن المستند إلى دليل يثيره والظن الذى يكون هكذا قد ينتهض في الشرع سببا لبناء الأحكام عليه وفرض مسألتنا ليس هكذا بل على جهة أن لا يكون لأحد الاحتمالين ترجيح يثير مثله غلبة الظن بأحد الاحتمالين ويضعف الاحتمال الآخر كرجل متق لله محافظ على امتثال أوامره واجتناب نواهيه ليس له في الدنيا شغل إلا بما كلف من أمر دينه بالنسبة إلى دنياه وآخرته فمثل هذا له في هذه الدار حالان حال دنيوي به يقيم معاشه ويتناول ما من الله به عليه من حظوظ نفسه وحال أخروي به يقيم أمر آخرته فأما هذا الثاني فلا كلام فيه وهو متعين في نفسه وغير محتمل إلا في القليل ولا اعتبار بالنوادر وأما الأول فهو مثار

278 الاحتمال فالمباح مثلا يمكن أن يأخذه من حيث حظ نفسه ويمكن أن يأخذه من حيث حق ربه عليه في نفسه فإذا عمله ولم يدر وجه أخذه فالمقتدي به بناء على تحسين ظنه به وأنه إنما عمله متقربا إلى الله ومتعبدا له به فيعمل به على قصد التقرب ولا مستند له إلا تحسين ظنه بالمقتدى به ليس له أصل ينبني عليه إذ يحتمل احتمالا قويا أن يقصد المقتدي به نيل ما أبيح له من حظه فلا يصادف قصد المقتدي محلا بل إن صادف صادف أمرا مباحا صيرة متقربا به والمباح لا يصح التقرب به كما تقدم تقريره في كتاب الأحكام بل نقول إذا وقف المقتدي به وقفة أو تناول ثوبه على وجه أو قبض لحيته في وقت ما أو ما أشبه ذلك فأخذ هذا المقتدي يفعل مثل فعله بناء على أنه قصد به العبادة مع احتمال أن يفعل ذلك لمعنى دنيوي أو غافلا كان هذا المقتدي معدودا من الحمقى والمغفلين فمثل هذا هو المراد بالمسألة وكذلك إذا كان له درهم مثلا فأعطاه صديق له لصداقته وقد كان يمكن أن ينفقه على نفسه ويصنع به مباحا أو يتصدق به فيقول المقتدي حسن الظن به يقتضى أنه يتصدق به لكن آثر به على نفسه في هذا الأمر الأخروي فيجئ منه جواز الإيثار في الأمور الأخروية وهذا المعنى لحظ بعض العلماء في حديث واختبأت دعوتى شفاعة لأمتي يوم القيامة فاستنبط منه صحة الإيثار في أمور الآخرة إذ كان إنما يدعو بدعوته التي أعطيها في أمر من أمور الآخرة لا في أمور الدنيا فإذا بنينا على

279 ما تقدم فلقائل أن يقول إن ما قاله غير متعين لأنه كان يمكنه أن يدعو بها في أمر من أمور دنياه لأنه لا حجر عليه ولا قدح فيه ينسب إليه فقد كان عليه الصلاة والسلام يحب من الدنيا أشياء وينال مما أعطاه الله من الدنيا ما أبيح له ويتعين ذلك في أمور كحبه للنساء والطيب والحلواء والعسل والدباء وكراهيته للضب وأشباه ذلك وكان يترخص في بعض الأشياء مما أباح الله له وهو منقول كثيرا ووجه ثان وهو أنه قد دعا عليه الصلاة والسلام بأمور كثيرة دنيوية كاستعاذته من الفقر والدين وغلبة الرجال وشماتة الأعداء والهم وأن يرد إلى أرذل العمر وكان يمكنه أن يعوض من ذلك أمور الآخرة فلم يفعل ويدل عليه في نفس المسألة أن جملة من الأنبياء دعوا الدعوة المضمونة الإجابة لهم المذكورة في قوله لكل نبى دعوة مستجابة في أمته على وجه مخصوص بالدنيا جائز لهم وهو الدعاء عليهم كقوله وقال نوح ربي لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا حسبما نقله المفسرون وكان من الممكن أن يدعو بغير ذلك مما فيه صلاح لهم في الآخرة فكونهم فعلوا ذلك وهم صفوة الله من خلقه دليل على أنه لا يتعين في حقهم أن تكون جميع أعمالهم وأقوالهم مصروفة إلى الآخرة فقط فكذلك دعوة النبي لا يتعين فيها أمر الآخرة ألبتة فلا دليل في الحديث على ما قال هذا العالم

280 وأمر ثالث وهو أنا لو بنينا على هذا الأصل لكنا نقول ذلك القول في كل فعل من أفعاله عليه الصلاة والسلام كان من أفعال الجبلة الآدمية أولا إذ يمكن أن يقال إنه قصد بها أمورا أخروية وتعبدا مخصوصا وليس كذلك عند العلماء بل كان يلزم منه أن لا يكون له فعل من الأفعال مختصا بالدنيا إلا من بين أنه راجع إلى الدنيا لأنه لا يتبين إذ ذاك كونه دنيويا لخفاء قصده فيه حتى يصرح به وكذلك إذا لم يبين جهته لأنه محتمل أيضا فلا يحصل من بيان أمور الدنيا إلا القليل وذلك خلاف ما يدل عليه معظم الشريعة فإذا ثبت صح أن الاقتداء على هذا الوجه غير ثابت وأن الحديث لا دليل فيه من هذا الوجه مع أن الحديث كما تقدم يقتضى أن الدعوة مخصوصة بالأمة لقوله فيه لكل نبي دعوة مستجابة في امته فليست مخصوصة به فلا يحصل

281 فيها معنى الإيثار الذى ذكره لأن الإيثار ثان عن قبول الانتفاع في جهة المؤثر وهنا ليس كذلك والقسم الثاني إن كان مثل انتصاب الحاكم ونحوه فلا شك في صحة الاقتداء إذ لا فرق بين تصريحه بالانتصاب للناس وتصريحه بحكم ذلك الفعل المفعول أو المتروك وإن كان مما تعين فيه قصد العالم إلى التعبد بالفعل أو الترك بالقرائن الدالة على ذلك فهو موضع احتمال فللمانع أن يقول إنه إذا لم يكن معصوما تطرق إلى أفعاله الخطأ والنسيان والمعصية قصدا وإذا لم يتعين وجه فعله فكيف يصح الاقتداء به فيه قصدا في العبادات أو في العادات ولذلك حكى عن بعض السلف أنه قال أضعف العلم الرؤية يعنى أن يقول رأيت فلانا يعمل كذا ولعله فعله ساهيا وعن إياس ابن معاوية لا تنظر إلى عمل الفقيه ولكن سله يصدقك وقد ذم الله

282 تعالى الذين قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة الآية وفى الحديث من قول المرتاب سمعت الناس يقولون شيئا فقلته فالاقتداء بمثل هذا المفروض كالاقتداء بسائر الناس أو هو قريب منه وللمجيز أن يقول إن غلبة الظن معمول بها في الأحكام وإذا تعين بالقرائن قصده إلى الفعل أو الترك ولا سيما في العبادات ومع التكرار أيضا وهو من أهل الاقتداء بقوله فالاقتداء بفعله كذلك وقد قال مالك في إفراد يوم الجمعة بالصوم إنه جائز واستدل على ذلك بأنه رأى بعض أهل العلم يصومه قال وأراه كان يتحراه فقد استند إلى فعل بعض الناس عند ظنه أنه كان يتحراه وضم إليه أنه لم يسمع أحدا من أهل العلم والفقه ومن يقتدى به ينهى عن صيامه وجعل ذلك عمدة مسقطة لحكم الحديث الصحيح من نهيه عليه الصلاة

283 والسلام عن إفراد يوم الجمعة بالصوم فقد يلوح من هنا أن مالكا يعتمد هذا العمل الذى يفهم من صاحبه القصد إليه إذا كان من أهل العلم والدين وغلب على الظن أنه لا يفعله جهلا ولا سهوا ولا غفلة فإن كونه من أهل العلم المقتدى بهم يقتضي عمله به وتحريه إياه دليل على عدم السهو والغفلة وعلى هذا يجري ما اعتمد عليه من أفعال السلف إذا تأملتها وجدتها قد انضمت إليها قرائن عينت قصد المقتدى به وجهة فعله فصح الاقتداء والقسم الثالث هو أن لا يتعين فعل المقتدى به لقصد دنيوي ولا أخروي ولا دلت قرينه على جهة ذلك الفعل فإن قلنا في القسم الثاني بعدم صحة الاقتداء فههنا أولى وإن قلنا بالصحة فقد ينقدح فيه احتمال فإن قرائن التحري للفعل موجودة فهي دليل يتمسك به في الصحة وأما ههنا فلما فقدت قوى احتمال الخطأ والغفلة وغيرها هذا مع اقتران الاحتياط على الدين فالصواب والحالة هذه منع الإقتداء إلا بعد الإستبراء بالسؤال عن حكم النازلة المقلد فيها ويتمكن قول من قال لا تنظر إلى عمل الفقيه ولكن سله يصدقك ونحوه المسألة السادسة قد تقدم أن لطالب العلم في طلبه أحوالا ثلاثة أما الحال الأول فلا يسوغ الاقتداء بأفعال صاحبه كما لا يقتدى بأقواله لأنه لم يبلغ درجة الاجتهاد بعد فإذا كان اجتهاده غير معتبر فالاقتداء به كذلك لأن أعماله إن كانت بإجتهاد منه فهي ساقطة وإن كانت بتقليد فالواجب الرجوع في الاقتداء إلى مقلده أو إلى مجتهد آخر ولأنه عرضة لدخول العوارض عليه

284 من حيث لا يعلم بها فيصير عمله مخالفا فلا يوثق بأن عمله صحيح فلا يمكن الاعتماد عليه وأما الحال الثاني فلا إشكال في صحة استفتائه ويجري الاقتداء بأفعاله على ما تقدم في المسألة قبلها وأما الحال الثالث فهو موضع إشكال بالنسبة إلى استفتائه وبالنسبة إلى الاقتداء بأفعاله فاستفتاؤه جار على النظر المتقدم في صحة اجتهاده أو عدم صحته وأما الاقتداء بأفعاله فإن قلنا بعدم صحة اجتهاده فلا يصح الاقتداء كصاحب الحال الأول وإن قلنا بصحة اجتهاده جرى الاقتداء بأفعاله على ما تقدم من التفصيل والنظر هذا وإذا لم يكن في أعماله صاحب حال فإن كان صاحب حال وهو ممن يستفتى فهل يصح الاقتداء به بناء على التفصيل المذكور أم لا وهل يصح استفتاؤه في كل شئ أم لا كل هذا مما ينظر فيه فأما الاقتداء بأفعاله حيث يصح الاقتداء بمن ليس بصاحب حال فإنه لا يليق إلا بمن هو ذو حال مثله وبيان ذلك أن أرباب الأحوال عاملون في أحوالهم على إسقاط الحظوظ بالغون غاية الجهد في أداء الحقوق إما لسائق الخوف أو لحادى الرجاء أو لحامل المحبة فحظوظهم العاجلة قد سقطت من أيديهم بأمر شاغل عن غير ما هم فيه فليس لهم عن الأعمال فترة ولا عن جد السير راحة فمن كان بهذا الوصف فكيف يقدر على الاقتداء به من هو طالب لحظوظه مشاح في استقصاء مباحاته وأيضا فإن الله تعالى سهل عليهم ما عسر على غيرهم وأيدهم بقوة منه على ما تحملوه من القيام بخدمته حتى صار الشاق على الناس غير شاق عليهم والثقيل على غيرهم خفيفا عليهم فكيف يقدر على الاقتداء بهم ضعيف المنة عن حمل تلك الأعباء أو مريض العزم في

285 قطع مسافات النفس أو خامد الطلب لتلك المراتب العلية أو راض بالأوائل عن الغايات فكل هؤلاء لا طاقة لهم بإتباع أرباب الأحوال وإن تطوقوا ذلك زمانا فعما قريب ينقطعون والمطلوب الدوام ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام خذوا من العمل ما تطيقون فإن الله لن يمل حتى تملوا وقال أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل وأمر بالقصد في العمل وأنه مبلغ وقال إن الله يحب الرفق في الأمر كله وكره العنف والتعمق والتكلف والتشديد خوفا من الانقطاع وقال واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ورفع عنا الإصر الذى كان على الذين من قبلنا فإذا كان الاقتداء بأرباب الأحوال آيلا إلى مثل هذا الحال لم يلق أن ينتصبوا منصب الاقتداء وهم كذلك ولا أن يتخذهم غيرهم أئمة فيه اللهم إلا أن تكون صاحب حال مثلهم وغير مخوف عليه الانقطاع فإذ ذاك يسوغ الاقتداء بهم على ما ذكر من التفصيل وهذا المقام قد عرفه أهله وظهر لهم برهانه على أتم وجوهه وأما الاقتداء بأقواله إذا استفتى في المسائل فيحتمل تفصيلا وهو أنه لا يخلو إما أن يستفتى في شئ هو فيه صاحب حال أو لا فإن كان الأول جرى حكمه مجرى الاقتداء بأفعاله فأن نطقه في أحكام أحواله من جملة أعماله والغالب فيه أنه يفتى بما يقتضيه حاله لا بما يقتضيه حال السائل وإن كان الثاني ساغ ذلك

286 لأنه إذ ذاك كأنما يتكلم من أصل العلم لا من رأس الحال إذ ليس مأخوذا فيه المسألة السابعة يذكر فيها بعض الأوصاف التي تشهد للعامي بصحة اتباع من اتصف بها في فتواه قال مالك بن أنس ربما وردت علي المسألة تمنعني من الطعام والشراب والنوم فقيل له يا أبا عبد الله والله ما كلامك عند الناس إلا نقر في حجر ما تقول شيئا إلا تلقوه منك قال فمن أحق أن يكون هكذا إلا من كان هكذا قال الراوي فرأيت في النوم قائلا يقول مالك معصوم وقال إني لأفكر في مسألة منذ بضع عشرة سنة فما اتفق لي فيها رأي إلى الآن وقال ربما وردت علي المسألة فأفكر فيها ليالي وكان إذا سئل عن المسألة قال للسائل انصرف حتى أنظر فيها فينصرف ويردد فيها فقيل له في ذلك فبكى وقال إني أخاف أن يكون لي من المسائل يوم وأي يوم وكان إذا جلس نكس رأسه وحرك شفتيه يذكر الله ولم يلتفت يمينا ولا شمالا فإذا سئل عن مسألة تغير لونه وكان أحمر فيصفر وينكس رأسه ويحرك شفتيه ثم يقول ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله فربما سئل عن خمسين مسألة فلا يجيب منها في واحدة وكان يقول من أحب أن يجيب عن مسألة فليعرض نفسه قبل أن يجيب على الجنة والنار وكيف يكون خلاصه في الآخرة ثم يجيب وقال بعضهم لكأنما مالك والله إذا سئل عن مسألة والله واقف بين الجنة والنار وقال ما شئ أشد علي من أن أسأل عن مسألة من الحلال والحرام

287 لأن هذا هو القطع في حكم الله ولقد أدركت أهل العلم والفقه ببلدنا وإن أحدهم إذا سئل عن مسالة كان الموت أشرف عليه ورأيت أهل زماننا هذا يشتهون الكلام فيه والفتيا ولو وقفوا على ما يصيرون إليه غدا لقللوا من هذا وإن عمر ابن الخطاب وعليا وعامة خيار الصحابة كانت ترد عليهم المسائل وهم خير القرن الذى بعث فيهم النبي وكانوا يجمعون أصحاب النبي ويسألون ثم حينئذ يفتون فيها وأهل زماننا هذا قد صار فخرهم الفتيا فبقدر ذلك يفتح لهم من العلم قال ولم يكن من أمر الناس ولا من مضى من سلفنا الذين يقتضى بهم ومعول الإسلام عليهم أن يقولوا هذا حلال وهذا حرام ولكن يقول أنا أكره كذا وأرى كذا وأما حلال وحرام فهذا الافتراء على الله أما سمعت قول الله تعالى قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق الآية لأن الحلال ما حلله الله ورسوله والحرام ما حرماه قال موسى بن داود ما رأيت أحدا من العلماء أكثر أن يقول لا أحسن من مالك وربما سمعته يقول ليس نبتلى بهذا الأمر ليس هذا ببلدنا وكان يقول للرجل يسأله اذهب حتى أنظر في أمرك قال الراوي فقلت إن الفقه من باله وما رفعه الله إلا بالتقوى وسأل رجل مالكا عن مسألة وذكر أنه أرسل فيها من مسيرة ستة أشهر من المغرب فقال له أخبر الذى أرسلك أنه لا علم لي بها قال ومن يعلمها قال من علمه الله وسأله رجل عن مسألة استودعه إياها أهل المغرب فقال ما أدرى ما ابتلينا بهذه المسألة ببلدنا ولا سمعنا أحدا من أشياخنا تكلم فيها ولكن تعود فلما كان من الغد جاء وقد حمل ثقله على بغله يقوده فقال مسألتي فقال ما أدرى ما هي فقال الرجل يا أبا عبد الله تركت خلفي من يقول ليس على

288 وجه الأرض أعلم منك فقال مالك غير مستوحش إذا رجعت فأخبرهم أني لا أحسن وسأله آخر فلم يجبه فقال له يا أبا عبد الله أجبني فقال ويحك تريد أن تجعلني حجة بينك وبين الله فأحتاج أنا أولا أن أنظر كيف خلاصي ثم أخلصك وسئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها لا أدري وسئل من العراق عن أربعين مسألة فما أجاب منها إلا في خمس وقال قال ابن عجلان إذا أخطأ العالم لا أدري أصيبت مقاتله ويروي هذا الكلام عن ابن عباس وقال سمعت ابن هرمز يقول ينبغي أن يورث العالم جلساءه قول لا أدري وكان يقول في أكثر ما يسأل عنه لا أدري قال عمر بن يزيد فقلت لمالك في ذلك فقال يرجع أهل الشام إلى شامهم وأهل العراق إلى عراقهم وأهل مصر إلى مصرهم ثم لعلي أرجع عما أرجع أفتيهم به قال فأخبرت الليث بذلك فبكى وقال مالك والله أقوى من الليث أو نحو هذا وسئل مرة عن نيف وعشرين مسألة فما أجاب منها إلا في واحدة وربما سئل عن مائة مسألة فيجيب منها في خمس أو عشر ويقول في الباقي لا أدري قال أبو مصعب قال لنا المغيرة تعالوا نجمع كل ما بقي علينا ما نريد أن نسأل عنه مالكا فمكثنا نجمع ذلك وكتبناه في قنداق ووجه به المغيرة إليه وسأله الجواب فأجابه في بعضه وكتب في الكثير منه لا أدري فقال المغيرة يا قوم لا والله ما رفع الله هذا الرجل إلا بالتقوى من كان منكم يسأل عن هذا فيرضى أن يقول لا أدري والروايات عنه في لا أدري و لا أحسن كثيرة حتى قيل لو شاء رجل أن يملأ صحيفته من قول مالك لا أدري لفعل قبل أن يجيب في مسألة وقيل له إذا قلت أنت يا أبا عبد الله لا أدري فمن يدري قال ويحك أعرفتني ومن أنا وإيش منزلتي حتى أدري ما لا تدرون ثم أخذ يحتج بحديث ابن عمر وقال هذا ابن عمر يقول لا أدري فمن أنا وإنما أهلك الناس العجب وطلب الرياسة

289 وهذا يضمحل عن قليل وقال مرة أخرى قد ابتلى عمر بن الخطاب بهذه الأشياء فلم يجب فيها وقال ابن الزبير لا أدري وابن عمر لا أدري وسئل مالك عن مسألة فقال لا أدري فقال له السائل إنها مسألة خفيفة سهلة وإنما أردت أن أعلم بها الأمير وكان السائل ذا قدر فغضب مالك وقال مسألة خفيفة سهلة ليس في العلم شيء خفيف أما سمعت قول الله تعالى إنا سنلقى عليك قولا ثقيلا فالعلم كله ثقيل وبخاصة ما يسأل عنه يوم القيامة قال بعضهم ما سمعت قط أكثر قولا من مالك لا حول ولا قوة إلا بالله ولو نشاء أن ننصرف بألواحنا مملوءة بقوله لا أدري إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين لفعلنا وقال له ابن القاسم ليس بعد أهل المدينة أعلم بالبيوع من أهل مصر فقال مالك ومن أين علموها قال منك فقال مالك ما أعلمها فكيف يعلمونها بي وقال ابن وهب قال مالك سمعت من ابن شهاب أحاديث كثيرة ما حدثت بها قط ولا أحدث بها قال الفروي فقلت له لم قال ليس عليها العمل وقال رجل لمالك إن الثوري حدثنا عنك في كذا فقال إني لأحدث في كذا وكذا حديثا ما أظهرتها بالمدينة وقيل له عند ابن عيينة أحاديث ليست عندك فقال أنا أحدث الناس بكل ما سمعت إني إذا أحمق وفي رواية إني أريد أن أضلهم إذا ولقد خرجت مني أحاديث لوددت أني ضربت بكل حديث منها سوطا ولم أحدث بها وإن كنت أجزع الناس من السياط ولما مات وجد في تركته حديث كثير جدا لم يحدث بشيء منه في حياته وكان إذا قيل له ليس هذا الحديث عند غيرك تركه وإن قيل له هذا ما يحتج به أهل البدع تركه وقيل له إن فلانا يحدث بغرائب فقال من الغريب نفر وكان إذا شك في الحديث طرحه كله وقال إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به وكل ما لم يوافق ذلك فاتركوه وقال ليس كل ما قال الرجل وإن كان فاضلا يتبع ويجعل سنة ويذهب به إلى الأمصار

290 قال الله تعالى فبشر عبادى الذين يستمعون القول الآية وسئل عن مسألة أجاب فيها ثم قال مكانه لا أدري إنما هو الرأي وأنا أخطئ وأرجع وكل ما أقول يكتب وقال أشهب ورآني أكتب جوابه في مسألة فقال لا تكتبها فإني لا أدري أثبت عليها أم لا قال ابن وهب سمعته يعيب كثرة الجواب من العالم حين يسأل قال وسمعته عندما يكثر عليه من السؤال يكف ويقول حسبكم من أكثر أخطأ وكان يعيب كثرة ذلك وقال يتكلم كأنه جمل مغتلم يقول هو كذا هو كذا يهدر في كل شيء وسأله رجل عراقي عن رجل وطئ دجاجة ميتة فخرجت منها بيضة فأفقست البيضة عنده عن فرخ أيأكله فقال مالك سل عما يكون ودع ما لا يكون وسأله آخر عن نحو هذا فلم يجبه فقال له لم لا تجيبني يا أبا عبد الله فقال لو سألت عما تنتفع به أجبتك وقيل له إن قريشا تقول إنك لا تذكر في مجلسك آباءها وفضائلها فقال إنما نتكلم فيما نرجو بركته قال ابن القاسم كان مالك لا يكاد يجيب وكان أصحابه يحتالون أن يجئ رجل بالمسألة التي يحبون أن يعلموها كأنها مسألة بلوى فيجيب فيها وقال لابن وهب اتق هذا الإكثار وهذا السماع الذى لا يستقيم أن يحدث به فقال إنما أسمعه لأعرفه لا لأحدث به فقال له ما يسمع إنسان شيئا إلا يحدث به وعلى ذلك لقد سمعت من ابن شهاب أشياء ما تحدثت بها وأرجو أن لا أفعل ما عشت ولقد ندمت أن لا أكون طرحت من الحديث أكثر مما طرحت قال أشهب رأيت في النوم قائلا يقول لقد لزم مالك كلمة عند فتواه لو وردت على الجبال لقلعتها وذلك قوله ما شاء الله لا قوة إلا بالله هذه جملة تدل الإنسان على من يكون من العلماء أولى بالفتيا والتقليد له ويتبين بالتفاوت في هذه الأوصاف الراجح من المرجوح ولم آت بها على ترجيح تقليد مالك وإن كان أرجح بسبب شدة اتصافه بها ولكن لتتخذ قانونا في سائر العلماء فإنها موجودة في سائر هداة الإسلام غير أن بعضهم أشد اتصافا بها من بعض

291 المسألة الثامنة يسقط عن المستفتي التكليف بالعمل عند فقد المفتي إذا لم يكن له به علم لا من جهة اجتهاد معتبر ولا من تقليد والدليل على ذلك أمور أحدها أنه إذا كان المجتهد يسقط عنه التكليف عند تعارض الأدلة عليه على الصحيح حسبما تبين في موضعه من الأصول فالمقلد عند فقد العلم بالعمل رأسا أحق وأولى والثاني أن حقيقة هذه المسألة راجعة إلى العمل قبل تعلق الخطاب والأصل في الأعمال قبل ورود الشرائع سقوط التكليف إذ لا حكم عليه قبل العلم بالحكم إذ شرط التكليف عند الأصوليين العلم بالمكلف به وهذا غير عالم بالفرض فلا ينتهض سببه على حال والثالث أنه لو كان مكلفا بالعمل لكان من تكليف ما لا يطاق إذ هو مكلف بما لا يعلم ولا سبيل له إلى الوصول إليه فلو كلف به لكلف بما لا يقدر على الامتثال فيه وهو عين المحال إما عقلا وإما شرعا والمسألة بينة فصل ويتصور في هذا العمل أمران أحدهما فقد العلم به أصلا فهو كمن لم يرد عليه تكليف ألبتة

292 والثاني فقد العلم لوصفه دون أصله كالعالم بالطهارة أو الصلاة أو الزكاة على الجملة لكنه لا يعلم كثيرا من تفاصيلها وتقييداتها وأحكام العوارض فيها كالسهو وشبهه فيطرأ عليه فيها ما لا علم له بوجه العمل به وكلا الوجهين يتعلق به أحكام بحسب الوقائع لا يمكن استيفاء الكلام فيها وكتب الفروع أخص بها من هذا الموضع المسألة التاسعة فتاوي المجتهدين بالنسبة إلى العوام كالأدلة الشرعية بالنسبة إلى المجتهدين

293 والدليل عليه أن وجود الأدلة بالنسبة إلى المقلدين وعدمها سواء إذ كانوا لا يستفيدون منها شيئا فليس النظر في الأدلة والاستنباط من شأنهم ولا يجوز ذلك لهم ألبتة وقد قال تعالى فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون والمقلد غير عالم فلا يصح له إلا سؤال أهل الذكر وإليهم مرجعه في أحكام الدين على الإطلاق فهم إذا القائمون له مقام الشارع وأقوالهم قائمة مقام الشارع وأيضا فإنه إذا كان فقد المفتي يسقط التكليف فذلك مساو لعدم الدليل إذ لا تكليف إلا بدليل فإذا لم يوجد دليل على العمل سقط التكليف به فكذلك إذا لم يوجد مفت في العمل فهو غير مكلف به فثبت أن قول المجتهد دليل العامي والله أعلم ويتعلق بكتاب الاجتهاد نظران أحدهما في تعارض الأدلة على المجتهد وترجيح بعضها على بعض والآخر في أحكام السؤال والجواب

294 كتاب لواحق الاجتهاد وفيه نظران النظر الأول في التعارض والترجيح المسألة الأولى لا تعارض في الشريعة في نفس الأمر بل في نظر المجتهد فالنظر الأول فيه مسائل بعد أن نقدم مقدمة لا بد من ذكرها وهى أن كل من تحقق بأصول الشريعة فأدلتها عنده لا تكاد تتعارض كما أن كل من حقق مناط المسائل فلا يكاد يقف في متشابه لأن الشريعة لا تعارض فيها ألبتة فالمتحقق بها متحقق بما في الأمر فيلزم أن لا يكون عنده تعارض ولذلك لا تجد ألبتة دليلين أجمع المسلمون على تعارضهما بحيث وجب عليهم الوقوف لكن لما كان أفراد المجتهدين غير معصومين من الخطأ أمكن التعارض بين الأدلة عندهم فإذا ثبت هذا فنقول المسألة الأولى التعارض إما أن يعتبر من جهة ما في نفس الأمر وإما من جهة نظر المجتهد أما من جهة ما في نفس الأمر فغير ممكن بإطلاق وقد مر آنفا في كتاب الاجتهاد من ذلك في مسألة أن الشريعة على قول واحد ما فيه كفاية وأما من جهة نظر المجتهد فممكن بلا خلاف إلا أنهم إنما نظروا فيه بالنسبة إلى كل موضع لا يمكن فيه الجمع بين الدليلين وهو صواب فإنه إن أمكن الجمع فلا تعارض

295 كالعام مع الخاص والمطلق مع المقيد وأشباه ذلك لكنا نتكلم هنا بحول الله تعالى فيما لم يذكروه من الضرب الذى لا يمكن فيه الجمع ونستجر من الضرب الممكن فيه الجمع أنواعا مهمة وبمجموع النظر في الضربين يسهل إن شاء الله على المجتهد في هذا الباب ما عسر على كثير ممن زاول الاجتهاد وبالله التوفيق فأما ما لا يمكن فيه الجمع وهى المسألة الثانية فإنه قد مر في كتاب الاجتهاد أن محال الخلاف دائرة بين طرفي نفي وإثبات ظهر قصد الشارع في كل واحد منهما فإن الواسطة آخذة من الطرفين بسبب هو متعلق الدليل الشرعي فصارت الواسطة يتجاذبها الدليلان معا دليل النفي ودليل الإثبات فتعارض عليها الدليلان فاحتيج إلى الترجيح وإلا فالتوقف وتصير من المتشابهات ولما كان قد تبين في ذلك الأصل هذا المعنى لم يحتج إلى مزيد إلا أن الأدلة كما يصح تعارضها على ذلك الترتيب كذلك يصح تعارض ما في معناها كما في تعارض القولين على المقلد لأن نسبتهما إليه نسبة الدليلين إلى

296 المجتهد ومنه تعارض العلامات الدالة على الأحكام المختلفة كما إذا انتهب نوع من المتاع يندر وجود مثله من غير الإنتهاب فيرى مثله في يد رجل ورع فيدل

297 صلاح ذي اليد على أنه حلال ويدل ندور مثله من غير النهب على أنه حرام فيتعارضان ومنه تعارض الأشباه الجارة إلى الأحكام المختلفة كالعبد فإنه آدمي فيجري مجرى الأحرار في الملك ومال فيجري مجرى سائر الأموال في سلب الملك ومنه تعارض الأسباب كاختلاط الميتة بالذكية والزوجة بالأجنبية إذ كل واحدة منهما تطرق إليها احتمال وجود السبب المحلل والمحرم ومنه تعارض الشروط كتعارض البينتين إذا قلنا إن الشهادة شرط في إنفاذ الحكم فإحداهما تقتضي إثبات أمر والأخرى تقتضي نفيه وكذلك ما جرى مجرى الأمور داخل في حكمها ووجه الترجيح في هذا الضرب غير منحصر إذ الوقائع الجزئية النوعية أو الشخصية لا تنحصر ومجاري العادات تقضي بعدم الاتفاق بين الجزئيات بحيث يحكم على كل جزئي بحكم جزئي واحد بل لا بد من ضمائم تحتف وقرائن تقترن مما يمكن تأثيره في الحكم المقرر فيمتنع إجراؤه في جميع الجزئيات وهذا أمر مشاهد معلوم وإذا كان كذلك فوجوه الترجيح جارية مجرى الأدلة الواردة على محل التعارض فلا يمكن في هذه الحال الإحالة على نظر المجتهد فيه وقد تقدم لهذا المعنى تقرير في أول كتاب الاجتهاد وحقيقة النظر الالتفات إلى

298 كل طرف من الطرفين أيهما أسعد وأغلب أو أقرب بالنسبة إلى تلك الواسطة فيبنى على إلحاقها به من غير مراعاة للطرف الآخر أو مع مراعاته مسألة العبد في مذهب مالك ومن خالفه وأشباهها فصل هذا وجه النظر في الضرب الأول على ظاهر كلام الأصوليين وإذا تأملنا المعنى فيه وجدناه راجعا إلى الضرب الثاني وأن الترجيح راجع إلى وجه

299 من الجمع وإبطال أحد المتعارضين حسبما يذكر على أثر هذا بحول الله تعالى وأما ما يمكن فيه الجمع وهى المسألة الثالثة فنقول لتعارض الأدلة في هذا الضرب صور إحداها أن يكون في جهة كلية مع جهة جزئية تحتها كالكذب المحرم مع الكذب للإصلاح بين الزوجين وقتل المسلم المحرم مع القتل قصاصا أو بالزنى فهو إما أن يكون الجزئي رخصة في ذلك الكلي أولا وعلى كل تقدير فقد مر في هذا الكتاب ما يقتبس منه الحكم تعارضا وترجيحا وذلك في كتاب الأحكام وكتاب الأدلة فلا فائدة في التكرار والثانية أن يقع في جهتين جزئيتين كلتاهما داخلة تحت كلية واحدة

300 كتعارض حديثين أو قياسين أو علامتين على جزئية واحدة وكثيرا ما يذكره الأصوليون في الضرب الأول الذى لا يمكن فيه الجمع ولكن وجه النظر فيه أن التعارض إذا ظهر فلا بد من أحد أمرين إما الحكم على أحد الدليلين بالإهمال فيقي الآخر هو المعمل لا غير وذلك لا يصح إلا مع فرض إبطاله بكونه منسوخا أو تطريق غلط أو وهم في السند أو في المتن إن كان خبر آحاد أو كونه مظنونا يعارض مقطوعا به إلى غير ذلك من الوجوه القادحة في اعتبار ذلك الدليل وإذا فرض أحد هذه الأشياء لم يمكن فرض اجتماع دليلين فيتعارضا وقد سلموا أن أحدهما منسوخا لا يعد معارضا فكذلك ما في معناه فالحكم إذا للدليل الثابت عند المجتهد كما لو انفرد عن معارض من أصل

301 والأمر الثاني الحكم عليهما معا بالأعمال ويلزم من هذا أن لا يتوارد الدليلان على محل التعارض من وجه واحد لأنه محال مع فرض أعمالهما فيه فإنما يتواردان من وجهين وإذ ذاك يرتفع التعارض ألبتة إلا أن هذا الأعمال تارة يرد على محل التعارض كما في مسألة العبد في رأي مالك فإنه أعمل حكم الملك له من وجه وأهمل ذلك من وجه وتارة يخص أحد الدليلين فلا يتواردان على محل التعارض معا بل يعمل في غيره ويهمل بالنسبة إليه لمعنى اقتضى ذلك ويدخل تحت هذا الوجه كل ما يستثنيه المجتهد صاحب النظر في تحقيق المناط الخاص المذكور في أول كتاب الاجتهاد وكذلك في فرض الكفاية المذكور في كتاب الأحكام والصورة الثالثة أن يقع التعارض في جهتين جزئيتين لا تدخل إحداهما تحت الأخرى ولا ترجعان إلى كلية واحدة كالمكلف لا يجد ماء ولا متيمما فهو بين أن يترك مقتضى أقيموا الصلاة لمقتضى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا إلى آخرها أو يعكس فإن الصلاة راجعة إلى كلية من الضروريات والطهارة

302 راجعة إلى كلية من التحسينيات على قول من قال بذلك أو معارضة أقيموا الصلاة لقوله وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره بالنسبة إلى من التبست عليه القبلة فالأصل أن الجزئي راجع في الترجيح إلى أصله الكلي فإن رجح الكلي فكذلك جزئيه أو لم يرجح فجزئيه مثله لأن الجزئي معتبر بكليه وقد ثبت ترجيحه فكذلك يترجح جزئيه وأيضا فقد تقدم أن الجزئي خادم لكليه وليس الكلي بموجود في الخارج إلا في الجزئي فهو الحامل له حتى إذا انخرم فقد ينخرم الكلي فهذا إذا متضمن له فلو رجح غيره من الجزئيات غير الداخلة معه في كلية للزم ترجيح ذلك الغير على الكلي وقد فرضنا أن الكلي المفروض هو المقدم على الآخر فلا بد من تقديم جزئيه كذلك وقد انجر في هذه الصورة حكم الكليات الشاملة لهذه الجزئيات فلا حاجة إلى الكلام فيها مع أن أحكامها مقتبسة من كتاب المقاصد من هذا الكتاب والحمد لله والصورة الرابعة أن يقع التعارض في كليين من نوع واحد وهذا في

303 ظاهره شنيع ولكنه في التحصيل صحيح ووجه شناعته أن الكليات الشرعية قد مر أنها قطعية لا مدخل فيها للظن وتعارض القطعيات محال وأما وجه الصحة فعلى ترتيب يمكن الجمع بينهما فيه إذا كان الموضوع له اعتباران فلا يكون تعارضا في الحقيقة وكذلك الجزئيان إذا دخلا تحت كلي واحد وكان موضوعهما واحد إلا أن له اعتبارين فالجزئيان أمثلتهما كثيرة وقد مر منها ومن الأمثلة الميل ونحوه في تحديد طلب الماء للطهور فقد يكون فيه مشقة بالنسبة إلى شخص فيباح له التيمم ولا يشق بالنسبة إلى آخر فيمنع من التيمم فقد تعارض على الميل دليلان لكن بالنسبة إلى شخصين وهكذا ركوب البحر يمنع منه بعض ويباح لبعض والزمان واحد لكن بالنسبة إلى ظن السلامة والغرق وأشباه ذلك

304 وأما التعارض في الكليين على ذلك الاعتبار فلنذكر له مثالا عاما يقاس عليه ما سواه إن شاء الله وذلك أن الله تعالى وصف الدنيا بوصفين كالمتضادين وصف يقتضي ذمها وعدم الالتفات إليها وترك اعتبارها ووصف يقتضي مدحها والالتفات إليها وأخذ ما فيها بيد القبول على لأنه شيء عظيم مهدي من ملك عظيم فالأول له وجهان أحدهما أنها لا جدوى لها ولا محصول عندها ومن ذلك قوله تعالى إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم الآية فأخبر أنها مثل اللعب واللهو الذي لا يوجد في شئ ولا نفع فيه إلا مجرد الحركات والسكنات التي لا طائل تحتها ولا فائدة وراءها وقوله تعالى وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور فحصر فائدتها في الغرور المذموم العاقبة وقوله تعالى وما الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهى الحيوان وقوله تعالى زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين إلى قوله ذلك متاع الحياة الدنيا وقال المال والبنون زينة الحياة الدنيا إلى غير ذلك من الآيات وكذلك الأحاديث في هذا المعنى كقوله لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة

305 ماء وهى كثيرة جدا وعلى هذا المنوال نسج الزهاد ما نقل عنهم من ذم الدنيا وأنها لا شيء والثاني أنها كالظل الزائل والحلم المنقطع ومن ذلك قوله تعالى إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض إلى قوله كأن لم تغن بالأمس وقوله إنما هذه الحياة الدنيا متاع وقوله لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل الآية وقوله إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وغير ذلك من الآيات المفهم معنى الانقطاع والزوال وبذلك تصير كأن لم تكن والأحاديث في هذا أيضا كثيرة كقوله عليه الصلاة والسلام مالي وللدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب تحت شجرة ثم راح وتركها وهو حادي الزهاد إلى الدار الباقية

306 وأما الثاني من الوصفين فله وجهان أيضا أحدهما ما فيها من الدلالة على وجود الصانع ووحدانيته وصفاته العلى وعلى الدار الآخرة كقوله تعالى أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج إلى كذلك الخروج وقوله أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا الآية وقوله يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة الآية وقوله قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله إلى غير ذلك من الآيات التي هي دلائل على العقائد وبراهين على التوحيد والثاني أنها منن ونعم امتن الله بها على عباده وتعرف إليهم بها في أثناء ذلك واعتبرها ودعا إليها بنصبها لهم وبثها فيهم كقوله تعالى الله الذى خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم إلى قوله وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها وقوله الذى جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء الآية وقوله هو الذى أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر إلى قوله وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها وفيها والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا الآية وفي أول السورة والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ثم قال ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون ثم قال والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة فامتن تعالى ههنا وعرف بنعم من جملتها الجمال والزينة وهو الذى ذم به الدنيا في قوله إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة إلى غير ذلك بل حين عرف بنعيم الآخرة امتن بأمثاله في الدنيا

307 كقوله في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود وهو قوله والله جعل لكم مما خلق ظلالا وقال ولهم فيها أزواج مطهرة وقال والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وهو كثير حتى إنه قال في الجنة فيها أنهار من ماء غير آسن إلى آخر أنواع الأنهار الأربعة وقال والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إلى أن قال وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذى من الجبال بيوتا إلى قوله فيه شفاء للناس وهو كثير أيضا فأنزل الأحكام وشرع الحلال والحرام تخليصا لهذه النعم التي خلقها لها من شوائب الكدرات الدنيويات والأخرويات وقال تعالى من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة يعني في الدنيا ولنجزينهم أجرهم يعني في الآخرة وقال حين أمتن بالنعم كلوا من ثمره إذا أثمر وينعه كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور وقال في بعضها ولتبتغوا من فضله فعد طلب الدنيا فضلا كما عد حب الإيمان وبغض الكفر فضلا والدلائل أكثر من الاستقصاء فاقتضى الوصف الأول المضادة للثاني فالوجه الأول من الوصف الأول يضاد هذا الوجه الأخير من الوصف الثاني وهو ظاهر لأن عدم اعتبارها وأنها مجرد لعب لا محصول له مضاد لكونها نعما وفضلا والوجه الثاني من الوصف الأول مضاد للأول من الوصف الثاني لأن كونها زائلة وظلا يتقلص عما قريب مضاد لكونها براهين على وجود الباري ووحدانيته وإتصافه بصفات الكمال وعلى أن الآخرة حق فهي مرآة يرى فيها الحق في كل ما هو حق وهذا لا تنفصل

308 الدنيا فيه من الآخرة بل هو في الدنيا لا يفنى لأنها إذا كانت موضوعة لأمر وهو العلم الذى تعطيه فذلك الأمر موجود فيها تحقيقه وهو لا يفنى وإن فنى منها ما يظهر للحس وذلك المعنى ينتقل إلى الآخرة فتكون هنالك نعيما فالحاصل أن ما بث فيها من النعم التي وضعت عنوانا عليه كجعل اللفظ دليلا على المعنى باق وإن فنى العنوان وكذلك ضد كونها منقضية بإطلاق فالوصفان إذا متضادان والشريعة منزهة عن التضاد مبرأة عن الاختلاف فلزم من ذلك أن توارد الوصفين على جهتين مختلفتين أو حالتين متنافيتين بيانه أن لها نظرين أحدهما نظر مجرد من الحكمة التي وضعت لها الدنيا من كونها متعرفا متعرفا للحق ومستحقا لشكر الواضع لها بل إنما يعتبر فيها كونها عيشا ومقتنصا للذات ومآلا للشهوات انتظاما في سلك البهائم فظاهر أنها من هذه الجهة قشر بلا لب ولعب بلا جد وباطل بلا حق لأن صاحب هذا النظر لم ينل منها إلا مأكولا ومشروبا وملبوسا ومنكوحا ومركوبا من غير زائد ثم يزول عن قريب فلا يبقى منه شئ فذلك كأضغاث الأحلام فكل ما وصفته الشريعة فيها على هذا الوجه حق وهو نظر الكفار الذين لم يبصروا منها إلا ما قال تعالى من أنها لعب ولهو وزينة وغير ذلك مما وصفها به ولذلك صارت أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا وفى الآية الأخرى وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا

309 والثاني نظر غير مجرد من الحكمة التي وضعت لها الدنيا فظاهر أنها ملأى من المعارف والحكم مبثوث فيها من كل شئ خطير مما لا يقدر على تأدية شكر بعضه فإذا نظر إليها العاقل وجد كل نعمة فيها يجب شكرها فانتدب إلى ذلك حسب قدرته وتهيئته وصار ذلك القشر محشوا لبا بل صار القشر نفسه لبا لأن الجميع نعم طالبة للعبد أن ينالها فيشكر لله بها وعليها والبرهان مشتمل على النتيجة بالقوة أو بالفعل فلا دق ولا جل في هذه الوجوه إلا والعقل عاجز عن بلوغ أدنى ما فيه من الحكم والنعم ومن ههنا أخبر تعالى عن الدنيا بأنها جد وأنها حق كقوله تعالى أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وقوله وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما باطلا وقوله وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق إلى غير ذلك ولأجل هذا صارت أعمال أهل النظر معتبرة مثبتة حتى قيل فلهم أجر غير ممنون من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة فالدنيا من جهة النظر الأول مذمومة وليست بمذمومة من جهة النظر الثاني بل هي محمودة فذمها بإطلاق لا يستقيم كما أن مدحها بإطلاق لا يستقيم والأخذ

310 لها من الجهة الأولى مذموم يسمى أخذه رغبة في الدنيا وحبا في العاجلة وضده هو الزهد فيها وهو تركها من تلك الجهة ولا شك أن تركها من تلك الجهة مطلوب والأخذ لها من الجهة الثانية غير مذموم ولا يسمى أخذه رغبة فيها ولا الزهد فيها من هذه الجهة محمود بل يسمى سفها وكسلا وتبذيرا ومن هنا وجب الحجر على صاحب هذه الحالة شرعا ولأجله كان الصحابة طالبين لها مشتغلين بها عاملين فيها لأنها من هذه الجهة عون على شكر الله عليها وعلى اتخاذها مركبا للآخرة وهم كانوا أزهد الناس فيها وأورع الناس في كسبها فربما سمع أخبارهم في طلبها من يتوهم أنهم طالبون لها من الجهة الأولى لجهله بهذا الاعتبار وحاش لله من ذلك إنما طلبوها من الجهة الثانية فصار طلبهم لها من جملة عباداتهم كما أنهم تركوا طلبها من الجهة الأولى فكان ذلك أيضا من جملة عباداتهم رضى الله عنهم وألحقنا بهم وحشرنا معهم ووفقنا لما وفقهم له بمنه وكرمه فتأمل هذا الفصل فإن فيه رفع شبه كثيرة ترد على الناظر في الشريعة وفى أحوال أهلها وفيه رفع مغالط تعترض للسالكين لطريق الآخرة فيفهمون الزهد وترك الدنيا على غير وجهه كما يفهمون طلبها على غير وجهه فيمدحون ما لا يمدح شرعا ويذمون ما لا يذم شرعا وفيه أيضا من الفوائد فصل القضية بين المختلفين في مسألة الفقر والغنى وأن ليس الفقر أفضل من الغنى بإطلاق ولا الغنى أفضل بإطلاق بل الأمر في ذلك يتفصل فإن الغنى إذا أمال إلى إيثار العاجلة كان بالنسبة إلى صاحبه مذموما وكان الفقر أفضل منه وإن أمال إلى إيثار الآجلة فإنفاقه في وجهه والاستعانة به على التزود للمعاد فهو أفضل من الفقر والله الموفق بفضله

311 فصل واعلم أن أكثر أحكام هذا النظر مذكور في أثناء الكتاب فلذلك اختصر القول فيه وأيضا فإن ثم أحكاما أخر تتعلق به قلما يذكرها الأصوليون ولكنها بالنسبة إلى أصول هذا الكتاب كالفروع فلم نتعرض لها لأن المضطلع بها يدرك الحكم فيها بأيسر النظر والله المستعان وإنما ذكر هنا ما هو كالضابط الحاصر والأصل العتيد لمن تشوف إلى ضوابط التعارض والترجيح النظر الثاني في أحكام السؤال والجواب وهو علم الجدل وقد صنف الناس فيه من متقدم ومتأخر والذي يليق منه بغرض هذا الكتاب فرض مسائل المسائلة الأولى إن السؤال إما أن يقع من عالم أو غير عالم وأعنى بالعالم المجتهد وغير العالم المقلد وعلى كلا التقديرين إما أن يكون المسئول عالما أو غير عالم فهذه أربعة أقسام الأول سؤال العالم وذلك في المشروع يقع على وجوه كتحقيق

312 ما حصل أو رفع إشكال عن له وتذكر ما خشى عليه النسيان أو تنبيه المسئول على خطأ يورده مورد الاستفادة أو نيابة منه عن الحاضرين من المتعلمين أو تحصيل ما عسى أن يكون فاته من العلم والثاني سؤال المتعلم لمثله وذلك أيضا يكون على وجوه كمذاكرته له بما سمع أو طلبه منه ما لم يسمع مما سمعه المسئول أو تمرنه معه في المسائل قبل لقاء العالم أو التهدي بعقله إلى فهم ما ألقاه العالم والثالث سؤال العالم للمتعلم وهو على وجوه كذلك كتنبيهه على موضع إشكال يطلب رفعه أو اختبار عقله أين بلغ والاستعانة بفهمه إن كان لفهمه فضل أو تنبيهه على ما علم ليستدل به على ما لم يعلم والرابع وهو الأصل الأول سؤال المتعلم للعالم وهو يرجع إلى طلب علم ما لم يعلم فأما الأول والثاني والثالث فالجواب عنه مستحق إن علم ما لم يمنع من ذلك عارض معتبر شرعا وإلا فالاعتراف بالعجز وأما الرابع فليس الجواب بمستحق بإطلاق بل فيه تفصيل فيلزم الجواب

313 إذا كان عالما بما سئل عنه متعينا عليه في نازلة واقعة أو في أمر فيه نص شرعي بالنسبة إلى المتعلم لا مطلقا ويكون السائل ممن يحتمل عقله الجواب ولا يؤدي السؤال إلى تعمق ولا تكلف وهو مما ينبني عليه عمل شرعي وأشباه ذلك وقد لا يلزم الجواب في مواضع كما إذا لم يتعين عليه أو المسألة اجتهادية لا نص فيها للشارع وقد لا يجوز كما إذا لم يحتمل عقله الجواب أو كان فيه تعمق أو أكثر من السؤالات التي هي من جنس الأغاليط وفيه نوع اعتراض ولا بد من ذكر جملة يتبين بها هذا المعنى بحول الله في أثناء المسائل الآتية المسألة الثانية الإكثار من الأسئلة مذموم والدليل عليه النقل المستفيض من الكتاب والسنة وكلام السلف الصالح من ذلك قوله تعالى يا أيها آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم

314 تسؤكم الآية وفى الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قرأ ولله على الناس حج البيت الآية فقال رجل يا رسول الله أكل عام فأعرض ثم قال يا رسول الله أكل عام ثلاثا وفى كل ذلك يعرض وقال في الرابعة والذى نفسي بيده لو قلتها لوجبت ولو وجبت ما قمتم بها ولو لم تقوموا بها لكفرتم فذروني ما تركتكم وفى مثل هذا نزلت لا تسألوا عن أشياء الآية وكره عليه الصلاة والسلام المسائل وعابها ونهى عن كثرة السؤال وكان عليه الصلاة والسلام يكره السؤال فيما لم ينزل فيه حكم وقال إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وحد حدودا فلا تعتدوها وعفا عن أشياء رحمة بكم لا عن نسيان فلا تبحثوا عنها وقال ابن عباس ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد

315 ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض كلهن في القرآن ويسألونك عن المحيض ويسألونك عن اليتامى يسألونك عن الشهر الحرام ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم يعنى أن هذا كان الغالب عليهم وفى الحديث إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شئ لم يحرم عليه فحرم عليهم من أجل مسألته وقال ذروني ما تركتكم فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم وقام يوما وهو يعرف في وجهه الغضب فذكر الساعة وذكر قبلها أمورا عظاما ثم قال من أحب أن يسأل عن شئ فليسأل عنه فوالله لا تسألوني عن شئ إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا قال فأكثر الناس من البكاء حين سمعوا ذلك وأكثر رسول الله أن يقول سلوني فقام عبد الله ابن حذافة السهمي فقال من أبي فقال أبوك حذافة فلما أكثر أن يقول سلوني برك عمر بن الخطاب على ركبتيه فقال يا رسول الله رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبينا قال فسكت رسول الله حين قال عمر ذلك وقال أولا والذي نفسي بيده لقد عرضت علي الجنة والنار آنفا في عرض هذا الحائط وأنا أصلي فلم أر كاليوم في الخير والشر وظاهر هذا المساق يقتضي أنه إنما قال سلوني في معرض الغضب تنكيلا بهم في السؤال حتى يروا عاقبة ذلك ولأجل ذلك ورد في الآية قوله إن تبد لكم تسؤكم

316 ومثل ذلك قصة أصحاب البقرة فقد روى عن ابن عباس أنه قال لو ذبحوا بقرة ما لأجزأتهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم حتى ذبحوها وما كادوا يفعلون وقال الربيع بن خيثم يا عبد الله ما علمك الله في كتابه من علم فأحمد الله وما استأثر عليك به من علم فكله إلى عالمه ولا تتكلف فإن الله يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين الخ وعن ابن عمر قال لا تسألوا عما لم يكن فإني سمعت عمر يلعن من سأل عما لم يكن وفى الحديث أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن الأغلوطات فسره الأوزاعي فقال يعنى صعاب المسائل وذكرت المسائل عند معاوية فقال أما تعلمون أن رسول الله نهى عن عضل المسائل وعن عبدة بن أبي لبابة قال وددت أن حظى من أهل هذا الزمان أن لا أسألهم عن شئ ولا يسألوني يتكاثرون بالمسائل كما يتكاثرون أهل الدراهم بالدراهم وورد في الحديث إياكم وكثرة السؤال وسئل مالك عن حديث نهاكم عن قيل وقال وكثرة السؤال قال أما كثرة السؤال فلا أدري أهو ما أنتم فيه مما أنهاكم عنه من كثرة المسائل فقد كره رسول الله المسائل وعابها وقال الله تعالى لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم فلا أدري أهو هذا أم السؤال في الاستعطاء وعن عمر بن الخطاب أنه قال على المنبر أحرج بالله على كل امرئ سأل عن شئ لم يكن فإن الله بين ما هو كائن وقال ابن وهب قال لي مالك وهو ينكر كثرة الجواب للمسائل يا عبد الله ما علمته فقل به ودل عليه وما لم

317 تعلم فاسكت عنه وإياك أن تتقلد للناس قلادة سوء وقال الأوزاعي إذا أراد الله أن يحرم عبده بركة العلم ألقى على لسانه الأغاليط وعن الحسن قال إن شرار عباد الله الذين يجيئون بشرار المسائل يعنتون بها عباد الله وقال الشعبي والله لقد بغض هؤلاء القوم إلي المسجد حتى لهو أبغض إلى من كناسة داري قلت من هم يا أبا عمر قال ألا رأيتيون وقال ما كلمة أبغض إلى من رأيت وقال أيضا لداود ألا احفظ عنى ثلاثا إذا سئلت عن مسألة فأجبت فيها فلا تتبع مسألتك أرأيت فإن الله قال في كتابه أرأيت من اتخذ إلهه هواه حتى فرغ من الآية والثانية إذا سئلت عن مسألة فلا تقس شيئا بشئ فربما حرمت حلالا أو حللت حراما والثالثة إذا سئلت عما لا تعلم فقل لا أعلم وأنا شريكك وقال يحيى بن أيوب بلغني أن أهل العلم كانوا يقولون إذا أراد الله أن لا يعلم عبده أشغله بالأغاليط والآثار كثيرة والحاصل أن كثرة السؤال ومتابعة المسائل بالأبحاث العقلية والاحتمالات النظرية مذموم وقد كان أصحاب رسول الله قد وعطوا في كثرة السؤال حتى امتنعوا منه وكانوا يحبون أن يجئ الأعراب فيسألون حتى يسمعوا كلامه ويحفظوا منه العلم ألا ترى ما في الصحيح عن أنس قال نهينا أن

318 نسأل رسول الله عن شئ فكان يعجبنا أن يجئ الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع ولقد أمسكوا عن السؤال حتى جاء جبريل فجلس إلى النبي فسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان والساعة وأمارتها ثم أخبرهم عليه الصلاة والسلام أنه جبريل وقال أراد أن تعلموا إذ لم تسألوا وهكذا كان مالك بن أنس لا يقدم عليه في السؤال كثيرا وكان أصحابه يهابون ذلك قال أسد بن الفرات وقد قدم على مالك وكان ابن القاسم وغيره من أصحابه يجعلونني أسأله عن المسألة فإذا أجاب يقولون قل له فإن كان كذا فأقول له فضاق علي يوما فقال لي هذه سليسلة بنت سليسلة إن أردت هذا فعليك بالعراق وإنما كان مالك يكره فقه العراقيين وأحوالهم لايغالهم في المسائل وكثرة تفريعهم في الرأي وقد جاء عن عائشة أن امرأة سألتها عن قضاء الحائض الصوم دون الصلاة فقالت لها أحرورية أنت انكارا عليها السؤال عن مثل هذا وقضى النبي في الجنين بغرة فقال الذى قضى عليه كيف أغرم ما لا شرب ولا أكل ولا شهق ولا استهل ومثل ذلك بطل فقال عليه الصلاة والسلام إنما هذا من إخوان الكهان وقال ربيعة لسعيد في مسألة عقل الأصابع حين عظم جرحها واشتدت مصيبتها نقص عقلها فقال سعيد أعراقي أنت فقلت بل عالم متثبت أو جاهل متعلم فقال هي السنة يا ابن أخي وهذا كاف في كراهية كثرة السؤال في الجملة

319 فصل ويتبين من هذا أن لكراهية السؤال مواضع نذكر منها عشرة مواضع أحدها السؤال عما لا ينفع في الدين كسؤال عبد الله بن حذافة من أبي وروى في التفسير أنه عليه الصلاة والسلام سئل ما بال الهلال يبدو رقيقا كالخيط ثم لا يزال ينمو حتى يصير بدرا ثم ينقص إلى أن يصير كما كان فأنزل الله يسألونك عن الأهلة الآية فأنما أجيب بما فيه من منافع الدين والثاني أن يسأل بعد ما بلغ من العلم حاجته كما سأل الرجل عن الحج أكل عام مع أن قوله تعالى ولله على الناس حج البيت قاض بظاهره أنه للأبد لاطلاقة ومثله سؤال بني إسرائيل بعد قوله إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة والثالث السؤال من غير احتياج إليه في الوقت وكان هذا والله أعلم خاص بما لم ينزل فيه حكم وعليه يدل قوله ذروني ما تركتكم وقوله وسكت عن أشياء رحمة لكم لا عن نسيان فلا تبحثوا عنها والرابع أن يسأل عن صعاب المسائل وشرارها كما جاء في النهي عن الأغلوطات والخامس أن يسأل عن علة الحكم وهو من قبيل التعبدات التي لا يعقل لها

320 معنى أو السائل ممن لا يليق به ذلك السؤال كما في حديث قضاء الصوم دون الصلاة والسادس أن يبلغ بالسؤال إلى حد التكلف والتعمق وعلى ذلك يدل قوله تعالى قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين ولما سأل الرجل يا صاحب الحوض هل ترد حوضك السباع قال عمر بن الخطاب يا صاحب الحوض لا تخبرنا فإنا نرد على السباع وترد علينا الحديث والسابع أن يظهر من السؤال معارضة الكتاب والسنة بالرأي ولذلك قال سعيد أعراقى أنت وقيل لمالك بن أنس الرجل يكون عالما بالنسبة أيجادل عنها قال لا ولكن يخبر بالنسبة فإن قبلت منه وإلا سكت والثامن السؤال عن المتشابهات وعلى ذلك يدل قوله تعالى فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه الآية وعن عمر بن عبد العزيز من جعل دينه عرضا للخصومات أسرع التنقل ومن ذلك سؤال من سأل مالكا عن الاستواء فقال الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والسؤال عنه بدعة والتاسع السؤال عما شجر بين السلف الصالح وقد سئل عمر بن عبد العزيز عن قتال أهل صفين فقال تلك دماء كف الله عنها يدي فلا أحب أن يطلخ بها لساني

321 والعاشر سؤال التعنت والإفحام وطلب الغلبة في الخصام وفى القرآن في ذم نحو هذا ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهى ألد الخصام وقال بل هم قوم خصمون وفى الحديث أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم هذه الجملة من المواضع التي يكره السؤال فيها يقاس عليها ما سواها وليس النهي فيها واحدا بل فيها ما تشتد كراهيته ومنها ما يخف ومنها ما يحرم ومنها ما يكون محل اجتهاد وعلى جملة منها يقع النهي عن الجدال في الدين كما جاء إن المراء في القرآن كفر وقال تعالى وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم الآية وأشباه ذلك من الآي أو الأحاديث فالسؤال في مثل ذلك منهي عنه والجواب بحسبه المسألة الثالثة ترك الاعتراض على الكبراء محمود كان المعترض فيه مما يفهم أولا يفهم والدليل على ذلك أمور أحدها ما جاء في القرآن الكريم كقصة موسى مع الخضر وإشتراطه عليه أن لا يسأله عن شئ حتى يحدث له منه ذكرا فكان ما قصه الله تعالى من قوله هذا فراق بيني وبينك وقول محمد عليه الصلاة والسلام

322 يرحم الله موسى لو صبر حتى يقص علينا من أخبارهما وإن كان إنما تكلم بلسان العلم فإن الخروج عن الشرط يوجب الخروج عن المشروط وروى في الأخبار أن الملائكة لما قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء الآية فرد الله عليهم بقوله إني أعلم ما لا تعلمون أرسل الله عليهم نارا فأحرقتهم وجاء في أشد من هذا اعتراض إبليس بقوله أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين فهو الذى كتب له به الشقاء إلى يوم الدين لاعتراضه على الحكيم الخبير وهو دليل في مسألتنا وقصة أصحاب البقرة من هذا القبيل أيضا حين تعنتوا في السؤال فشدد الله عليهم والثاني ما جاء في الأخبار كحديث تعالوا أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده فاعترض في ذلك بعض الصحابة حتى أمرهم عليه الصلاة والسلام بالخروج ولم يكتب لهم شيئا وقصة أم إسماعيل حين نبع لها ماء زمزم فحوضته ومنعت الماء من السيلان فقال عليه الصلاة والسلام لو تركت لكانت زمزم عينا معينا وفى الحديث أنه طبخ لرسول الله قدر فيها لحم

323 فقال ناولني ذراعا قال الراوي فناولته ذراعا فقال ناولني ذراعا فناولته ذراعا فقال ناولني ذراعا فقلت يا رسول الله كم للشاة من ذراع فقال والذي نفسي بيده لو سكت لأعطيت ذراعا ما دعوت وحديث علي قال دخل علي رسول الله وعلى فاطمة من الليل فأيقظنا للصلاة قال فجلست وأنا أعرك عيني وأقول إنا والله ما نصلي إلا ما كتب الله لنا إنما أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثها بعثها فولى رسول الله وهو يقول وكان الإنسان أكثر شيء جدلا وحديث يا أيها الناس اتهموا الرأي فإنا كنا يوم أبي جندل ولو نستطيع أن نرد أمر رسول الله لرددناه ولما وفد على رسول الله حزن جد سعيد بن المسيب فقال له ما اسمك قال حزن قال بل أنت سهل قال لا أغير اسما سماني به أبي قال سعيد فما زالت الحزونة حتى اليوم والأحاديث في هذا المعنى كثيرة والثالث ما عهد بالتجربة من أن الاعتراض على الكبراء قاض بامتناع الفائدة مبعد بين الشيخ والتلميذ ولا سيما عند الصوفية فإنه عندهم الداء الأكبر حتى زعم القشيري عنهم أن التوبة منه لا تقبل والزلة لا تقال ومن ذلك حكاية

324 الشاب الخديم لأبي يزيد البسطامي إذ كان صائما فقال له أبو تراب النخشبي وشقيق البلخي كل معنا يا فتى فقال أنا صائم فقال أبو تراب كل ولك أجر شهر فأبى فقال شقيق كل ولك أجر صوم سنة فأبى فقال أبو يزيد دعوا من سقط من عين الله فأخذ ذلك الشاب في السرقة وقطعت يده وقد قال مالك بن أنس لأسد حين تابع سؤاله هذه سليسلة بنت سليسلة إن أرت هذا فعليك بالعراق فهدده بحرمان الفائدة منه بسبب اعتراضه في جوابه ومثله أيضا كثير لمن بحث عنه فالذى تلخص من هذا أن العالم المعلوم بالأمانة والصدق والجري على سنن أهل الفضل والدين والورع إذا سئل عن نازلة فأجاب أو عرضت له حالة يبعد العهد بمثلها أو لا تقع من فهم السامع موقعها أن لا يواجه بالاعتراض والنقد فإن عرض إشكال فالتوقف أولى بالنجاح وأحرى بادراك البغية إن شاء الله تعالى المسألة الرابعة الاعتراض على الظواهر غير مسموع والدليل عليه أن لسان العرب هو المترجم عن مقاصد الشارع ولسان العرب يعدم فيه النص أو ينذر إذ قد تقدم أن النص إنما يكون نصا إذا سلم عن احتمالات عشرة وهذا نادر أو معدوم فإذا ورد دليل منصوص وهو بلسان

325 العرب فالاحتمالات دائرة به وما فيه احتمالات لا يكون نصا على اصطلاح المتأخرين فلم يبق إلا الظاهر والمجمل فالمجمل الشأن فيه طلب المبين أو التوقف فالظاهر هو المعتمد إذا فلا يصح الاعتراض عليه لأنه من التعمق والتكلف وأيضا لو جاز الاعتراض على المحتملات لم يبق للشريعة دليل يعتمد لورود الاحتمالات وإن ضعفت والاعتراض المسموع مثله يضعف الدليل فيؤدي إلى القول بضعف جميع أدلة الشرع أو أكثرها وليس كذلك باتفاق ووجه ثالث لو اعتبر مجرد الاحتمال في القول لم يكن لإنزال الكتب ولا لإرسال النبي عليه الصلاة والسلام بذلك فائدة إذ يلزم أن لا تقوم الحجة على الخلق بالأوامر والنواهي والإخبارات إذ ليست في الأكثر نصوصا لا تحتمل غير ما قصد بها لكن ذلك باطل بالإجماع والمعقول فما يلزم عنه كذلك ووجه رابع وهو أن مجرد الاحتمال إذا اعتبر أدى إلى انخرام العادات والثقة بها وفتح باب السفسطة وجحد العلوم ويبين هذا المعنى في الجملة ما ذكره الغزالي في كتابه المنقذ من الضلال بل ما ذكره السوفسطائية في جحد العلوم منه يتبين لك أن منشأها تطريق الاحتمال في الحقائق العادية أو العقلية فما بالك بالأمور الوضعية ولأجل اعتبار الاحتمال المجرد شدد على أصحاب البقرة إذ تعمقوا في السؤال عما لم يكن لهم إليه حاجة مع ظهور المعنى وكذلك ما جاء

326 في الحديث في قوله أحجنا هذا لعامنا أو للأبد وأشباه ذلك بل هو أصل في الميل عن الصراط المستقيم ألا ترى أن المتبعين لما تشابه من الكتاب إنما اتبعوا فيها مجرد الاحتمال فاعتبروه وقالوا فيه وقطعوا فيه على الغيب بغير دليل فذموا بذلك وأمر النبي عليه الصلاة والسلام بالحذر منهم ووجه خامس وهو أن القرآن قد احتج على الكفار بالعمومات العقلية والعمومات المتفق عليها كقوله تعالى قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون فاحتج عليهم بإقرارهم بأن ذلك لله على العموم وجعلهم إذ أقروا بالربوبية لله في الكل ثم دعواهم الخصوص مسحورين لا عقلاء وقوله تعالى ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون يعني كيف يصرفون عن الإقرار بأن الرب هو الله بعد ما أقروا فيدعون لله شريكا وقال تعالى خلق

327 السموات والأرض بالحق يكور الليل على النهار إلى قوله ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون وأشباه ذلك مما ألزموا أنفسهم فيه الإقرار بعمومه وجعل خلاف ظاهره على خلاف المعقول ولو لم يكن عند العرب الظاهر حجة غير معترض عليها لم يكن في إقرارهم بمقتضى العموم حجة عليهم لكن الأمر على خلاف ذلك فدل على أنه ليس مما يعترض عليه وإلى هذا فأنت ترى ما ينشأ بين الخصوم وأرباب المذاهب من تشعب الاستدلالات وإيراد الإشكالات عليها بتطريق الاحتمالات حتى لا تجد عندهم بسبب ذلك دليل يعتمد لا قرآنيا ولا سنيا بل انجر هذا الأمر إلى المسائل الإعتقادية فاطرحوا فيها الأدلة القرآنية والسنية لبناء كثير منها على أمور عادية كقوله ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء الآية وقوله ألهم أرجل يمشون بها وأشباه ذلك واعتمدوا على مقدمات عقلية غير بديهة ولا قريبة من البديهة هربا من احتمال يتطرق في العقل للأمور العادية فدخلوا في أشد مما منه فروا ونشأت مباحث لا عهد للعرب بها وهم المخاطبون أولا بالشريعة فخالطوا الفلاسفة في أنظارهم وباحثوهم في مطالبهم التي لا يعود الجهل بها على الدين بفساد ولا يزيد البحث فيها إلا خبالا وأصل ذلك كله الإعراض عن مجاري العادات في العبارات ومعانيها الجارية في الوجود وقد مر فيما تقدم أن مجاري العادات قطعية في الجملة وإن طرق العقل إليها احتمالا فكذلك العبارات لأنها في الوضع الخطابي تماثلها أو تقاربها ومر أيضا بيان كيفية اقتناص القطع من الظنيات وهى خاصة هذا الكتاب لمن تأمله والحمد لله فإذا لا يصح

328 في الظواهر الاعتراض عليها بوجوه الاحتمالات المرجوحة إلا أن يدل دليل على الخروج عنها فيكون ذلك داخلا في باب التعارض والترجيح أو في باب البيان والله المستعان المسألة الخامسة الناظر في المسائل الشرعية إما ناظر في قواعدها الأصلية أو في جزئياتها الفرعية وعلى كلا الوجهين فهو إما مجتهد أو مناظر فأما المجتهد الناظر لنفسه فما أداه إليه اجتهاده فهو الحكم في حقه إلا أن الأصول والقواعد إنما ثبتت بالقطعيات ضرورية كانت أو نظرية عقلية أو سمعية وأما الفروع فيكفي فيها مجرد الظن على شرطه المعلوم في موضعه فما أوصله إليه الدليل فهو الحكم في حقه أيضا ولا يفتقر إلى مناظرة لأن نظره في مطلبه إما نظر في جزئي وهو ثان عن نظره في الكلي الذى ينبني عليه وإما نظر في كلي ابتداء والنظر في الكليات ثان عن الاستقراء وهو محتاج إلى تأمل واستبصار وفسحة زمان يسع ذلك وهكذا إن كان عقليا ففرض المناظرة هنا لا يفيد لأن المجتهد قبل الوصول متطلب من الأدلة الحاضرة عنده فلا يحتاج إلى غيره فيها وبعد الوصول هو على بينة من مطلبه

329 في نفسه فالمناظرة عليه بعد ذلك زيادة وأيضا فالمجتهد أمين على نفسه فإذا كان مقبول القول قبله المقلد ووكله المجتهد الآخر إلى أمانته إذ هو عنده مجتهد مقبول القول فلا يفتقر إذا اتضح له مسلك المسألة إلى مناظرة وهنا أمثلة كثيرة كمشاورة رسول الله السعدين في مصالحة الأحزاب على نصف تمر المدينة فلما تبين له من أمرهما عزيمة المصابرة والقتال لم يبغ به بدلا ولم يستشر غيرهما وهكذا مشاورته وعرضه الأمر في شأن عائشة فما أنزل الله الحكم لم يلق على أحد بعد وضوح القضية ولما منعت العرب الزكاة عزم أبو بكر على قتالهم فكلمه عمر في ذلك فلم يلتفت إلى وجه المصلحة

330 في ترك القتال إذ وجد النص الشرعي المقتضي لخلافه وسألوه في رد أسامة ليستعين به وبمن معه على قتال أهل الردة فأبى لصحة الدليل عنده بمنع رد ما أنفذه رسول الله وإذا تقرر وجود هذا في الشريعة وأهلها لم يحتج بعد ذلك إلى مناظرة ولا إلى مراجعة إلا من باب الاحتياط وإذا فرض محتاطا فذلك إنما يقع إذا بنى عليه بعض التردد فيما هو ناظر فيه وعند ذلك يلزمه أحد أمرين إما السكوت اقتصارا على بحث نفسه إلى التبين إذ لا تكليف عليه قبل بيان الطريق وإما الاستعانة بمن يثق به وهو المناظر المستعين فلا يخلو أن يكون موافقا له في الكليات التي يرجع إليها ما تناظرا فيه أولا فإن كان موافقا له صح إسناده إليه واستعانته به لأنه إنما يبقى له تحقيق مناط المسألة المناظر فيها والأمر سهل فيها فإن اتفقا فحسن وإلا فلا حرج لأن الأمر في ذلك راجع إلى أمر ظني مجتهد فيه ولا مفسدة في وقوع الخلاف هنا حسبما تبين في موضعه وأمثلة هذا الأصل كثيرة يدخل فيها أسئلة الصحابة رسول الله في المسائل المشكلة عليهم كما في سؤالهم عند نزول قوله الذين آمنوا ولم

331 يلبسوا إيمانهم بظلم وعند نزول قوله وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله الآية وسؤال ابن أم كتوم حين نزل لا يستوى القاعدون من المؤمنين الآية حتى نزل غير أولى الضرر وسؤال عائشة عند قوله عليه الصلاة والسلام من نوقش الحساب عذب واستشكالها مع الحديث قول الله تعالى فسوف يحاسب حسابا يسيرا وأشباه ذلك وإنما قلنا أن هذا الجنس من السؤالات داخل في قسم المناظر المستعين لأنهم إنما سألوا بعد ما نظروا في الأدلة فلما نظروا أشكل عليهم الأمر بخلاف السائل عن المحكم ابتداء فإن هذا من قبيل المتعلمين فلا يحتاج إلى غير تقرير الحكم ولا عليك من إطلاق لفظ المناظر فإنه مجرد اصطلاح لا ينبني عليه حكم كما أنه يدخل تحت هذا الأصل ما إذا أجرى الخصم المحتج نفسه مجرى السائل المستفيد حتى ينقطع الخصم بأقرب الطرق كما جاء في شأن محاجة إبراهيم عليه السلام قومه بالكوكب والقمر والشمس فإنه فرض نفسه بحضرتهم مسترشدا حتى يبين لهم من نفسه البرهان أنها ليست بآلهة وكذلك قوله في الآية الأخرى إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين فلما سأل عن المعبود سأل عن المعنى الخاص بالمعبود بقوله هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون فحادوا عن الجواب إلى الإقرار بمجرد الاتباع للآباء ومثله قوله بل فعله كبيرهم الآية وقوله تعالى الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل

332 من ذلكم من شيء وقوله أفمن يهدى إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدى إلا أن يهدى الآية وقوله ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها إلى آخرها فهذه الآي وما أشبهها إشارات إلى التنزل منزلة الاستفادة والاستعانة في النظر وإن كان مقتضى الحقيقة فيها تبكيت الخصم إذ من كان مجيئا بالبرهان في معرض الاستشارة في صحته فكان أبلغ في المقصود من المواجهة بالتبكيت ولما اخترموا من التشريعات أمورا كثيرة أدهاها الشرك طولبوا بالدليل كقوله تعالى أم اتخذوا من دون الله آلهة قل هاتوا برهانكم قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله آذن لكم أم على الله تفترون من يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به الآية وهو من جملة المجادلة بالتي هي أحسن وإن كان المناظر مخالفا له في الكليات التي ينبني عليها النظر في المسألة فلا يستقيم له الاستعانة به ولا ينتفع به في مناظرته إذ ما من وجه جزئي في مسألته إلا وهو مبني على كلي وإذا خالف في الكلي ففي الجزئي المبني عليه أولى فتقع مخالفته في الجزئي من جهتين ولا يمكن رجوعها إلى معنى متفق عليه فالاستعانة مفقودة ومثاله في الفقهيات مسألة الربا في غير المنصوص عليه كالأرز والدخن والذرة والحلبة وأشباه ذلك فلا يمكن الاستعانة هنا بالظاهري النافي للقياس

333 لأنه بان على نفي القياس جملة وكذلك كل مسألة قياسية لا يمكن أن يناظر فيها مناظرة المستعين إذ هو مخالف في الأصل الذى يرجعان إليه وكذلك مسألة الحلبة والذرة أو غيرهما بالنسبة إلى المالكي إذا استعان بالشافعي أو الحنفي وإن قالوا بصحة القياس لبنائهما المسألة على خلاف ما يبنى عليه المالكي وهذا القسم شائع في سائر الأبواب فإن المنكر للإجماع لا يمكن الاستعانة به في مسألة تنبني على صحة الإجماع والمنكر لإجماع أهل المدينة لا يمكن أن يستعان به في مسألة تنبني عليه من حيث هو منكر والقائل بأن صيغة الأمر للندب أو للإباحة أو بالوقف لا يمكن الاستعانة بهم لمن كان قائلا بأنها للوجوب ألبتة فإن فرض المخالف مساعدا صحت الاستعانة كما إذا كان مساعدا حقيقة وهذا لا يخفي فصل وإذا فرض المناظر مستقلا بنظره غير طالب للاستعانة ولا مفتقرا إليها ولكنه طالب لرد الخصم إلى رأيه أو ما هو منزل منزلته فقد تكفل العلماء بهذه

334 الوظيفة غير أن فيها أصلا يرجع إليه وقد مر التنبيه عليه في أول كتاب الأدلة وهنا تمامه بحول الله وهى المسألة السادسة فنقول لما انبنى الدليل على مقدمتين إحداهما تحقق المناط والأخرى تحكم عليه ومر أن محل النظر هو تحقق المناط ظهر انحصار الكلام بين المتناظرين هنالك بدليل الاستقراء وأما المقدمة الحاكمة فلا بد من فرضها مسلمة وربما وقع الشك في هذه الدعوى فقد يقال إن النزاع قد يقع في المقدمة الثانية وذلك أنك إذا قلت هذا مسكر وكل خمر أو وكل مسكر حرام فقد يوافق الخصم على أن هذا مسكر وهى مقدمة تحقيق المناط كما أنه قد يخالف فيها أيضا وإذا خالف فيها فلا نكير على الجملة لأنها محل الاختلاف وقد يخالف في أن كل مسكر خمر فإن الخمر إنما يطلق على النيئ من عصير العنب فلا يكون هذا المشار إليه خمرا وإن أسكر وإذ ذاك لا يسلم أن كل مسكر خمر ويخالف أيضا في أن كل مسكر حرام فإن الكلية لهذه المقدمة لا تثبت لأنها مخصوصة أخرج منها النبيذ بدليل دل عليه وإذا لم تصح كليتها لم يكن فيها دليل فإذا صارت منازعا فيها فكيف يقال بإنحصار النزاع في إحدى المقدمتين دون الأخرى بل كل واحدة منهما قابلة للنزاع وهو خلاف ما تأصل

335 والجواب أن ما تقدم صحيح وهذا الإشكال غير وارد وبيانه أن الخصمين إما أن يتفقا على أصل يرجعان إليه أم لا فإن لم يتفقا على شيء لم يقع بمناظرتهما فائدة بحال وقد مر هذا وإذا كانت الدعوى لا بد لها من دليل وكان الدليل عند الخصم متنازعا فيه فليس عنده بدليل فصار الإتيان به عبثا لا يفيد فائدة ولا يحصل مقصودا ومقصود المناظرة رد الخصم إلى الصواب بطريق يعرفه لأن رده بغير ما يعرفه من باب تكليف ما لا يطاق فلا بد من رجوعهما إلى دليل يعرفه الخصم السائل معرفة الخصم المستدل وعلى ذلك دل قوله تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول الآية لأن الكتاب والسنة لا خلاف فيهما عند أهل الإسلام وهما الدليل والأصل المرجوع إليه في مسائل التنازع وبهذا وقع الاحتجاج على الكفار فإن الله تعالى قال قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون إلى قوله قل فأنى تسحرون فقررهم بما به أقروا واحتج بما عرفوا حتى قيل لهم فأنى تسحرون أي فكيف تخدعون عن الحق بعد ما اقررتم به فادعيتم مع الله إلها غيره وقال تعالى إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا وهذا من المعروف عندهم إذ كانوا ينحتون بأيديهم ما يعبدون وفى موضع آخر أتعبدون ما تنحتون وقال تعالى قال إبراهيم فإن الله يأتى بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب قال له ذلك بعد ما ذكر له قوله ربي الذى يحيى ويميت فوجد الخصم مدفعا فانتقل إلى ما لا يمكنه فيه المدفع بالمجاز ولا بالحقيقة وهو من أوضح الأدلة فيما نحن فيه وقال تعالى إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم الآية فأراهم البرهان بما لم يختلفوا فيه هو آدم وقال تعالى يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده وهذا قاطع في دعواهم أن إبراهيم يهودي أو نصراني وعلى هذا النحو تجد احتجاجات القرآن فلا يؤتى

336 فيه إلا بدليل يقر الخصم بصحته شاء أو أبى وعلى هذا النحو جاء الرد على من قال ما أنزل الله على بشر من شئ قال تعالى قل من أنزل الكتاب الذى جاء به موسى الآية فحصل إفحامه بما هو به عالم وتأمل حديث صلح الحديبية ففيه إشارة إلى هذا المعنى فإنه لما أمر عليا أن يكتب بسم الله الرحمن الرحيم قالوا ما نعرف بسم الله الرحمن الرحيم ولكن اكتب ما نعرف باسمك اللهم فقال اكتب من محمد رسول الله قالوا لو علمنا أنك رسول الله لاتبعناك ولكن اكتب اسمك واسم أبيك فعذرهم رسول الله وإن كان هذا من حمية الجاهلية وكتب على ما قالوا ولم يحتشم من ذلك حين أظهروا النصفة من عدم العلم وأنهم إنما يعرفون كذا وإذا ثبت هذا فالأصل المرجوع إليه هو الدليل الدال على صحة الدعوى وهو ما تقرر في المقدمة الحاكمة فلزم أن تكون مسلمة عند الخصم من حيث جعلت حاكمة في المسألة لأنها إن لم تكن مسلمة لم يفد الإتيان بها وليس فائدة التحاكم إلى الدليل إلا قطع النزاع ورفع الشغب وإذا كان كذلك فقول القائل هذا مسكر وكل مسكر خمر إن فرض تسليم الخصم فيه للمقدمة الثانية صح الاستدلال من حيث أتى بدليل مسلم وإن فرض نزاع الخصم فيها لم يصح الاستدلال بها ألبتة بل تكون مقدمة تحقيق المناط في قياس آخر وهى التي لا يقع النزاع إلا فيها فيبين أن كل مسكر حمر بدليل استقراء أو نص أو غيرهما فإذا بين ذلك حكم عليه بأنه حرام مثلا إن كان مسلما أيضا عند الخصم كما جاء في النص أن كل خمر حرام وإن نازع في أن كل خمر حرام صارت مقدمة تحقيق المناط ولا بد إذ ذاك من مقدمة أخرى تحكم عليها وفى كل مرتبة من هذه المراتب لا بد من مخالفة الدعوى للدعوى الأخرى التي في المرتبة الأخرى فإن سؤال السائل هل كل خمر حرام مخالف لسؤاله إذا سأل هل كل مسكر خمر

337 وهكذا سائر مراتب الكلام في هذا النمط فمن هنا لا ينبغي أن يؤتى بالدليل على حكم المناط منازعا فيه ولا مظنة للنزاع فيه إذ يلزم فيه الانتقال من مسألة إلى أخرى لأنا إن فعلنا ذلك لم تتخلص لنا مسألة وبطلت فائدة المناظرة فصل واعلم أن المراد بالمقدمتين ههنا ليس ما رسمه أهل المنطق على وفق الإشكال المعروفة ولا على اعتبار التناقض والعكس وغير ذلك وإن جرى الأمر على وفقها في الحقيقة فلا يستتب جريانه على ذلك الاصطلاح لأن المراد تقريب الطريق الموصل إلى المطلوب على أقرب ما يكون وعلى وفق ما جاء في الشريعة وأقرب الأشكال إلى هذا التقرير ما كان بديهيا في الإنتاج أو ما أشبهه من اقتراني أو استثنائي إلا أن المتحري فيه إجراؤه على عادة العرب في مخاطباتها ومعهود كلامها إذ هو أقرب إلى حصول المطلوب على أقرب ما يكون ولأن التزام الاصطلاحات المنطقية والطرائق المستعملة فيها مبعد عن الوصول إلى المطلوب في الأكثر لأن الشريعة لم توضع إلا على شرط الأمية ومراعاة علم المنطق في القضايا الشرعية مناف لذلك فإطلاق لفظ المقدمتين لا يستلزم ذلك الاصطلاح ومن هنا يعلم معنى ما قاله المازري في قوله عليه الصلاة والسلام كل مسكر خمر وكل خمر حرام قال فنتيجة هاتين المقدمتين أن كل مسكر حرام قال وقد أراد بعض أهل الأصول أن يمزج هذا بشئ من علم أصحاب المنطق فيقول أن أهل المنطق يقولون لا يكون القياس ولا تصح النتيجة إلا بمقدمتين فقوله كل مسكر خمر مقدمة لا تنتج بانفرادها شيئا وهذا وان اتفق لهذا الأصولي ههنا وفى موضع أو موضعين في الشريعة فإنه لا يستمر في سائر

338 أقيستها ومعظم طرق الأقيسة الفقهية لا يسلك فيها هذا المسلك ولا يعرف من هذه الجهة وذلك أنا لو عللنا تحريمه عليه الصلاة والسلام التفاضل في البر بأنه مطعوم كما قال الشافعي لم نقدر أن نعرف هذه العلة إلا ببحث وتقسيم فإذ عرفناها فللشافعي أن يقول حينئذ كل سفرجل مطعوم وكل مطعوم ربوي فتكون النتيجة السفرجل ربوي قال ولكن هذا لا يفيد الشافعي فائدة لأنه إنما عرف هذا وصحة هذه النتيجة بطريقة أخرى فلما عرفها من تلك الطريقة أراد أن يضع عبارة يعبر بها عن مذهبه فجاء بها على هذه الصيغة قال ولو جاء بها على أي صيغة أراد مما يؤدي منه مراده لم يكن لهذه الصيغة مزية عليها قال وإنما نبهنا على ذلك لما ألفينا بعض المتأخرين صنف كتابا أراد أن يرد فيها أصول الفقه لأصول علم المنطق هذا ما قاله المازري وهو صحيح في الجملة وفيه من التنبيه ما ذكرناه من عدم إلتزام طريقة أهل المنطق في تقرير القضايا الشرعية وفيه أيضا إشارة

339 إلى ما تقدم من أن المقدمة الحاكمة على المناط إن لم تكن متفقا عليها مسلمة عند الخصم فلا يفيد وضعها دليلا ولما كان قوله عليه الصلاة والسلام وكل خمر حرام مسلما لأنه نص النبي لم يعترض فيه المخالف بل قابله بالتسليم واعترض القاعدة بعدم الاطراد وذلك مما يدل على أنه من كلامه عليه الصلاة والسلام أمر اتفاقي لا أنه قصد قصد المنطقيين وهكذا يقال في القياس الشرطي في نحو قوله تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا لأن لو لما سيقع لوقوع غيره فلا استثناء لها في كلام العرب قصدا وهو معنى تفسير سيبويه ونظيرها إن لأنها تفيد ارتباط الثاني بالأول في التسبب والاستثناء لا تعلق له بها في صريح كلام العرب فلا احتياج إلى ضوابط المنطق في تحصيل المراد في المطالب الشرعية وإلى هذا المعنى والله أعلم أشار الباجي في أحكام الفصول حين رد على الفلاسفة في زعمهم أن لا نتيجة إلا من مقدمتين ورأى أن المقدمة الواحدة قد تنتج وهو كلام مشكل الظاهر إلا إذا طولع به هذا الموضع فربما استقام في النظر

340 وقد تم والحمد لله الغرض المقصود وحصل بفضل الله إنجاز ذلك الموعود على أنه قد بقيت أشياء لم يسع إيرادها إذ لم يسهل على كثير من السالكين مرادها وقل على كثرة التعطش إليها ورادها فخشيت أن لا يردوا مواردها وأن لا ينظموا في سلك التحقيق شواردها فثنيت من جماع بيانها العنان وأراحت من رسمها القلم والبنان على أن في أثناء الكتاب رموزا مشيرة وأشعة توضح من شمسها المنيرة فمن تهدى إليها رجا بحول الله الوصول ومن لا فلا عليه إذا اقتصر التحصيل على المحصول ففيه إن شاء الله مع تحقيق علم الأصول علم يذهب به مذاهب السلف ويقفه على الواضحة إذا اضطرب النظر واختلف فنسأل الله الذى بيده ملكوت كل شئ أن يعيننا على القيام بحقه وأن يعاملنا بفضله ورفقه إنه على كل شئ قدير وبالإجابة جدير والحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى

424 الحكم الأول عليه باق بلا إشكال وكل أحد فقيه نفسه في هذا المجال وربما تعدى بعض أصحاب هذه الطبقة طوره فحسن ظنه بنفسه ودخل في الكلام فيه مع الراسخين ومن هنا افترقت الفرق وتباينت النحل وظهر في تفسير القرآن الخلل ومنها أن من ترك النظر في القرآن واعتمد في ذلك على من تقدمه ووكل إليه النظر فيه غير ملوم وله في ذلك سعة إلا فيما لا بد له منه وعلى حكم الضرورة فإن النظر فيه يشبه النظر في القياس كما هو مذكور في بابه وما زال السلف الصالح يتحرجون من القياس فيما لا نص فيه وكذلك وجدناهم في القول في القرآن فإن المحظور فيهما واحد وهو خوف التقول على الله بل القول في القرآن أشد فإن القياس يرجع إلى نظر الناظر والقول في القرآن يرجع إلى أن الله أراد كذا أو عنى كذا بكلامه المنزل وهذا عظيم الخطر ومنها أن يكون على بال من الناظر والمفسر والمتكلم عليه أن ما يقوله تقصيد منه للمتكلم والقرآن كلام الله فهو يقول بلسان بيانه هذا مراد الله من هذا الكلام فليتثبت أن يسأله الله تعالى من أين قلت عنى هذا فلا يصح له ذلك إلا ببيان الشواهد وإلا فمجرد الاحتمال يكفي بأن يقول يحتمل أن يكون المعنى كذا وكذا بناء أيضا على صحة تلك الاحتمالات في صلب العلم وإلا فالاحتمالات التي لا ترجع إلى أصل غير معتبرة فعلى كل تقدير لا بد في كل قول يجزم به أو يحمل من شاهد يشهد لأصله وإلا كان باطلا ودخل صاحبه تحت أهل الرأي المذموم والله أعلم