ولع الزمان بأن يحرك ساكنا

​وَلع الزمانُ بأن يحرك ساكِناً​ المؤلف ابن الرومي


وَلع الزمانُ بأن يحرِّكَ ساكِناً
وبأن يثيرَ من الأوابدِ كامنا
وهُمُ الأحبّةُ مَنْ أقام ترحَّلوا
عنهُ فكلهمُ يُودِّعُ ظاعنا
أضحى الزمانُ مُدائناً لك فيهمُ
ولعل رشداً إن قَضيتَ مُدائنا
فأرى الليالي ما نقضنَ مَعاهداً
فيما أتينَ ولا هَجَمْنَ مآمنا
رحَّلنَ إلفَك عن مساكِن قلعةٍ
كانت لقوم آخرين مساكنا
فاقْن الحياءَ أبا الحسينِ فلم يكن
شيءٌ فريٌّ لم تخلهُ كائنا
كان الذي قد كُنت توقنُ أنه
سيكون فاجزعْ واقِناً لا واهنا
هوِّن عليك المُقطَعاتِ ولا تكن
بنصيحةٍ من مخلص مُتهاونا
إن الحوادثَ قد غدونَ فواجعاً
فاشدُد إزاركَ لا يكنَّ فواتِنا
لا تُنكرنّ من المصائبِ ما أتى
حتى كأنك كنت منها آمنا
أنكره إنكار امرئٍ عرف الردى
ورأى النفوس بأن يَمتْن رهائنا
إني نَكِرتُ على الليالي أن أتَتْ
ما قد أتتهُ لم يكُنَّ ظنائنا
هل كُنتَ غِرَّاً بالنوائب قبلها
أم خِلتَهنَّ لما تُحبُّ ضِوامنا
بل كنتَ فيما قد لقيتَ مفكراً
حتى كأنك كنتَ ثَمَّ مُعاينا
فَعلامَ تَنْفِر نفرةً وحشيَّةً
وتعُدُّ دهركَ غائلاً لك خائنا
ما خان دهرٌ مُؤذِنٌ بصروفهِ
ما انفكّ يُرسل بالمواعِظ آذنا
طامِنْ حشاكَ أخا البقاء لدائهِ
فلتَزجُرنَّ أشائماً وأَيامنا
داءَ البقاءُ الرفءَ إمَّا عاجلاً
لا زلتَ تُوفاهُ وإما آينا
من عاشَ أَثكلَه الزمانُ خليلَهُ
وسقاه بعد الصفوِ رَنْقاً آجنا
وكذاك شِربُ العيش فيه تلوُّنٌ
بيناهُ عذبٌ إذ تحوّلَ آسِنا
والمرءُ ما عَدتِ الحوادثُ نفسَهُ
يلقَى الزمان محارباً ومُهادنا
دار الزمانُ بليلهِ ونهارهِ
فأدار أرحاءَ المنونِ طَواحِنا
فتأمل الدنيا ولا تعجبْ لها
واعجبْ لمن أضحى إليها راكنا
قضَّى أبو العباسِ خلُّك نَحْبَهُ
فجعلتَ نحبكَ دَمْعَك المتهاتِنا
ووَددْتَ أنك منه أوَّلُ لاحقٍ
أو كنتَ مضموناً إليه مُقارنا
لكن أبَى ذاك الإلهُ فلا تُرِدْ
ما لم يُرد وارض العزاء مخادنا
لا تسجُنَنَّ الهمَّ عندك إنه
ما زال مسجوناً يعذِّبُ ساجنا
واصْبر كما أمرَ المليكُ فإنما
يهدِي المدينُ إذا أطاع الدائنا
والله يمنحُك الخلودَ مجاوراً
لأخيك في جنّاته ومُساكنا
من بعد أن تحيا حياةَ ممتَّع
لا كالمشيع علو بين ظعائنا
ما مات خلُّك يوم زار ضريحَه
بل يوم زار قوابلاً وحواضنا
بل منذ أُودع من أبيهِ وأمهِ
مستودعيه فكن لذلك فاطنا
بل قد يَمُتْ دون الألى فوق الثرى
نطقَ البيانُ مُكاتباً ومُلاسِنا
ما زال خِلُّك ميِّتاً ولميتٍ
في الميتينِ مُصاهراً ومُخاتِنا
مات الخلائقُ مُذْ نعاهُمْ ربُّهم
بل مذ رأتْ عينٌ قريناً بائنا
أفللتقدُّم والتأخُّر يمتري
عينيكَ أسرابَ الدموع هواتنا
ساق الخليل إلى الخيلِ فناؤه
ليكون مدفوناً له أو دافنا
ولربما اختُطفا جميعاً خطفة
والدهرُ أخطفُ ما تراه مُحاجنا
ولما جلوتُ صفاح قلبِك واعظاً
أنِّي رأيتُ عليه ريناً رائنا
لكنهُ التذكيرُ يَهْديه الفتى
لأخيه حينَ يرى أساهُ راحنا
ولئن عبأتُ لك الأَسى لَعَلى امرئٍ
أمسَى الحزينَ عليه لا المتحازنا
ولئن أمرتُك بالتجلد ظاهراً
لقد امتلأتُ عليه شجواً باطنا
ولقد أقول غَداةَ قامَ نَعيُّه
هيَّجْتَ لي شجناً لعمرُك شاجنا
صَفَن الجوادُ وقد يطولُ جِراؤه
ولتسمعَن بكلِّ جارٍ صافنا
وطوى العتيقُ جناحَه في وَكْنهِ
وقُصارُ ذي الطيران يُلقى واكنا
والحيُّ يرتَعُ ثم يسرعُ برهةً
فإذا قضى أَرَبَيْهِ أمسى عاطِنا
مات الذي نالَ العُلا متناولاً
من بعدِ ما نال العُلا متطامِنا
مات الذي كان النصيحَ مساتراً
مات الذي كان النصير مُعالِنا
مات الذي فتَح الفتوحَ مُلايناً
لا عاجزاً عن فتحِهن مُخاشنا
مات الذي أحيا النفوسَ بيُمنه
وأمات منها للملوك ضغائنا
مات الذي صانَ الدماءَ ولم يزلْ
عن كل إثم للأئمةِ صائنا
مات الذي أغناه لطفُ حَوِيلهِ
عن أن يهُز صوارما وموارنا
مات الذي رأب الثأَى مُتعالياً
عن أن يصادف ضارباً أو طاعِنا
يا أحمدَ المحمودَ إن عيونَنا
أضحتْ كما أمستْ عليك سخائنا
يا أصبغيّ المُلك إنّ ظواهراً
أَكْسَفتها منا وإنَّ بواطنا
تلك المفارِحُ أصبحت
قُلبت هموماً للعظام سوافِنا
لا تبعدَنَّ وإن نزلتَ بمنزل
أمسى بعيداً عن أَوُدِّكَ شاطنا
فلقد أصابتكَ الخطوبُ حواقداً
ولقد أشاطَتْكَ المنونُ ضواغنا
كنت الذي تَقْتادُهُنَّ على الوجى
وتُذِلُّهنَّ مَخاطما ورواسنا
سُقيت معونَتك الوزير فلم تكن
إلا معاون جمّةً ومعادنا
وأُثيبَ سعيُك للإمام فلم تزل
لثغورهِ بجنود رأيكَ شاحنا
ما كانت العزَّاء تزحَمُ منكُمُ
إلا جبالاً لا تزولُ ركائنا
ما كانت اللأواءُ تَلقى منكُمُ
إلا مُضابِرَ نوبةٍ ومُماتنا
لهفي أبا العباس لهفةَ آملٍ
كان ارتجاكَ على الزمان مُعاونا
ولَساسةُ الدنيا أحقُّ بلهفتي
منّي وأوْلى بالغليلِ جنَاجنا
لَهفي عليك لخُطةٍ مرهوبةٍ
ما كنتَ فيها بالذميم مَواطنا
لَهفي عليكَ لُهىً إذا أزَماتُها
ضاقتْ على الزّولِ الرحيب معاطِنا
كمْ من أعادٍ قد رقَيْتَ فلم تدعْ
فيهم رُقاك الشافيات مُداهِنا
أطفأتَ نارهمُ وكنَّ نوائراً
وأبحتَ حقدَهمُ وكان دواجنا
متأَلِّفاً لهمُ تألُّفَ حُوَّلٍ
لو شاء سَيَّر بالقفارِ سفائنا
متلطفاً لهمُ تلطُّف قُلَّبٍ
لو شاء شادَ على البحارِ مَدائنا
ما كان سعيُك للخلائف كلِّها
إلا معاقِلَ تارةً ومعادِنا
إن نابَهم خطبٌ درأتَ وإن بَغَوْا
مالاً ملأتَ خزائناً وخزائنا
كم قد فتحت لهم عدواً جامحاً
كم قد حرثْتَ لهم خراجاً حارنا
أنشرْتَ آراءً وكنّ هوامداً
وأثرتَ أموالاً وكنَّ دفائنا
كانت فتوحُك كلُّها ميمونةً
تأتي وليستْ للحتوف قرائنا
بالخيلِ لكن لا تزال صوافناً
والبيضِ لكن لا تزال كوامنا
عجباً لفتحِك بالسيوفِ كوامناً
تلكَ الفتوح وبالجيادِ صوافنا
ما زلتَ تجتنِبُ الدماءَ وسفكها
فإذا طغتْ وجدتْك حَيْناً حائنا
تضعُ السلاح تأثُّماً وتكرماً
وتظلُّ بالرأي السديدِ مُزابنا
فكأنك المقدارُ يخفَى شخصُه
ويُحرِّك الأشياءَ طُرّاً ساكنا
ولئن وضعتَ القوسَ ثَمَّ لمُعتدٍ
إن شاءَ عبَّأ للرِّماء كنائنا
ولئن وضعتَ الرمح ثَمَّ لمصدرٍ
إن شاءَ هيَّأ للطعان مطاعِنا
ولئن وضعتَ السيفَ ثم لمنجدٍ
إن شاء وطَّأ للضِّراب أماكنا
يغدو المقاتلُ ماهِناً لا ماهراً
أبداً وتعدو ماهراً لا ماهنا
كم قد ظفرتَ مُكاتباً ومخاطباً
حتى خُشيتَ مُضارباً ومُطاعنا
كم قد غلبتَ ذوي الشِّقاقِ مسالماً
لا سافِكاً لدمٍ ولكن حاقنا
فوَقَيْتَ من دَنسِ الدماء أئمةً
ووقيتَ من قَوَّمَت رُكناً دائنا
نَفَّلتهم أموالهم ودماءهم
ونساءهم فتركتهُنَّ حواضنا
ولو التوَوْا لرميتَهم بمكائدٍ
أخفَى من الأجلِ الحبيسِ مكامنا
كم قَسْوَرٍ قَلَّمتَ منه أظافراً
تقليمَ مَنْ لم نُخْفِ منه براثنا
ومنيعِ ظهرٍ راحَ قد حمَّلتَه
تحميلَ مَنْ لم تُدْمِ منه سَناسنا
فغدا سليمَ القلبِ غير مُضاغنٍ
ولربما خنعَ العَدوَّ مُضاغِنا
ملكَ الرقابَ أخو القتالِ مخاشناً
وملكتَ أفئدةَ الرجالِ مُلاينا
أحسنتَ أدواءَ الأمورِ مُفاحشاً
بالسيف أَنْ تَلِي الأمورَ محاسنا
فغدوتَ تعتدُّ القلوبَ مُصافياً
وسواك يَعتَدُّ القلوبَ مُشاحنا
وأصحُّ من مَلك الرقابَ لمالكٍ
مَلكَ القلوبَ بردِّهِنَّ أوامنا
فليهنَأِ الأملاكَ أن ملَّكتَهم
مِلْكَ السلامةِ زائناً لا شائنا
واسعدْ بمرضاةِ الملوكِ فلم تكن
وسْنانَ دونَهُمُ ولا مُتواسِنا
ما زلتَ تكلؤهم بعينِ نصيحةٍ
وتَبيتُ للفكر الطويل مُثافنا
متقدماً متأخراً متصعِّداً
متحدراً مُتياسراً متيامنا
متجاسراً حتى لظَنَّك جاهلٌ
غُمْراً تخالُ الليثَ ظبياً شادنا
متحرِّزاً حتى لخَالكَ خائلٌ
رجلاً شديد الجُبْن أو مُتجابِنا
والفتكُ إلقاءُ الدروعِ بأسْرها
والحزمُ تعليةُ الدروعِ جواشنا
وكلاهما قد كانَ فيك وإنما
بهما سبقْتَ السابقين مُراهِنا
ولذاك قَدَّمَك الملوكُ ولم تزلْ
بقديم مثلِك للملوكِ ديادِنا
وجَزَوْكَ أنْ أصبحتَ بين ضلوعِهم
قد بَوَّؤُوكَ من الصدور مدائِنا
ذكراكَ طولَ الدهرِ حشوُ قلوبهِم
قد حاولوا منهم ثوِيّاً قاطِنا
هذا لذاكَ أبا الحسين وبعدَه
إجراءُ مدحِك شأوَه المُتباطِنا
ومُسائل لي عنك قلتُ نفوسُنا
تَفدي الجميلَ ظهائراً وبطائِنا
ساءلتَ عن متغابن في دينهِ
إذ لا يُرى في دينه مُتغابنا
مستأثِرٌ بالحمدِ قِدماً مُؤثرٌ
بالحمد ما زال الخميص البادنا
ممن ترى الأخلاقَ في هذا الورَى
هُجناً وما يُعْدمن فيه هجائنا
تلقاهُ بالعرفِ القريب مُقارباً
وتراه بالشأوِ البعيدِ مُباينا
ألْفَتْهُ مُجتبياً كريماً راجحاً
إذ لا نكادُ نرى كريماً وازِنا
نَبلو فنحمدُ منه حلماً ناسِكاً
أبداً ونعذُل منه جوداً ماجنا
وإذا جهلنا ما عواقبُ خُطّةٍ
ظِلنا نسائُل منه رأياً كاهنا
سمع الدعاءَ وقد تصامَمَ غيرُه
ووعى الثناءَ وكان طَبّاً طابنا
وتحفَّظَ المدحَ الذي أهديتُه
كرماً ودوَّنه لديهِ دَواوِنا
وأحب تعريفي تَحفِّيهِ به
فافتنَّ فه مُسائلاً ومُفاطِنا
يَعني معانيه ويلفظُ لفظَه
لحناً بذلك كُلِّهِ لا لاحنا
ومِن السعادةِ أن تُنادِي سامعاً
عند الدعاء وأن تقرظ لاقنا
ولما مَدَحْتُك مائناً في مدحتي
ومتى تُلاقي مادحاً لا مائنا
ولقد غدا مَدْحي لقومٍ زائناً
ولقد غدَوْتُ له بنيلِك زائنا
وافخرْ بأنّك لا تُنازِعُ مَفْخراً
يا أيها الرجلُ الكريمُ شَناشِنا
ولأنت أسْكتُ حين يفخرُ فاخرٌ
ولأنتَ أنطقُ إذ سَكتَّ مَحاسنا
والحرُّ أَحصرُ حين يَفْخرُ غيرهُ
أبداً وأحضرُ شاهداً وبَراهنا
أسهبتُ فيكَ وذاك ما كلَّفتني
بمواهبٍ لك لم يكنّ مَلاعنا
عجبي أطلتُ لك الرشاءَ ولم أجدْ
جَدواكَ غَوْراً بل مَعينا عائنا
وإخالُ أنك لا تَمُجُّ إطالتي
إلا كراهةَ أن تكونَ الغابنا
ولما عنيتُ وكيف ذاك وإنّما
أَثنى بما يُغْني الغناءَ الراهنا
ما زلت أستكفيكَ كُلَّ مصيبة
فتزيلها حتى حسبتُك ضامنا
فانظُرْ أأبلُغ ما بذلتَ مكافئاً
واذكر أأعدِلُ ما فعلتَ مُوازنا
وأمُدُّ كفي نحو كلِّ رغيبة
فتنيلها حتى حسبتُك خازنا
أرني الغناء على الثناء ومَن يرى
عدلَ السَّنام من الجذورِ فراسِنا
صادفْتَه قَشْفاً فكنتَ جلاءَهُ
ورأَيْتَ بي شَعْثاً فكنتَ الداهنا
وسألتُ أقواماً فساءَ نَوالُهم
ولقد رأوا زمنَي لِعَظْمي سافنا
وأبت إضافَتيَ الخليقةُ كلُّها
وأَضفْتَني حتى أضفتُ ضيافنا
ما أظهروا عذراً ولا حجبوا قِرىً
إلا رأيتُك تامراً لي لابنا
أنت الذي تُضحي وبيتُك كعبةٌ
جَعلت يداك الجود فيها سادِنا
وَسعَ الأنامَ ربيعُ فضلِك كلَّهم
حتى لقد لحقَ الهزيل السامنا
صادفتَ أعلام الثناءِ خسائساً
فجعلتها بالعارفاتِ ثمائنا
ووجدتَ أنفسنا بهن مذائلاً
فرددتَ أنفسنا بهنَّ ضنائنا
فضلاً نعشْتَ به جدودَ معاشرٍ
وجنأتَ منه أجنَّةً وجنائنا
أعطيتَ حتى باتَ بين حلائلٍ
صَرِدٌ فَرشْتَ له فِراشاً ساخنا
فغدا يحبُّ حياتَهُ ولقد يُرى
لحياته قبل امتنانِك لاعنا
لو كُنتَ عينَ المجد كنت سَوادَها
أو كنتَ أنفَ المجد كنتَ المارنا
أو أن أفلاكَ المعالي سبعةٌ
لخَرقْتَها صُعُداً إليها ثامنا
خُذها إليك أبا الحسين كأنّها
قِطعُ الرياض لبسْنَ يوماً داجِنا
نثرتْ عليكَ ثناءَها فكأنما
نثرتْ من المسكِ الذكيّ مخازِنا
لا راعت الأيامُ سرحَكَ بعدها
أبداً ولا نظرت إليك شوافِنا
وإذا الزمانُ أصابَ فمُنصِفاً
ومؤدِّباً ومُقوِّماً لا فاتنا