ناح الحمام على غصون البان

ناحّ الحمامُ على غصونٍ البانِ

​ناحّ الحمامُ على غصونٍ البانِ​ المؤلف رفاعة الطهطاوي


ناحّ الحمامُ على غصونٍ البانِ
فأباحَ شيمةَ مُغرمٍ ولهانِ
ما خلته مذُ صاح إلا أنه
أضحَى فقيدَ أليفه ومعاني
وكأنه يُلقى إليّ إشارةً
كيف اصطباري مُذ نأي خِلاني
مع أنني والله مذ فارقتهم
ما طابَ عيشي وصفُو زَماني
لكنني صبٌّ أصونُ تلهفي
حتى كأني لستُ باللهفانِ
وبباطنٍ الأحشاءِ نارٌ لو بَدَتْ
جمراتُها ما طاقها الثَّقلانِ
أبكى دماً من مهجتي لفراقهم
وأودُّ أنْ لا تشعرَ العينان
لي مذهبٌ في عشقهم ورايتُه
ومذاهب العشاق في إعلان
ماذا عليّ إذا كتمت صبابتي
حتى لو أن الموتَ في الكتمان
ما أحسنَ القتلى بأغصان النقى
ما أطيبَ الأحزان بالغزلان
قالوا أتهوى والهوى يكسو الفتى
أبداً ثيابَ مذلةٍ وهوان
فأجبتهم لو صحَّ هذا إنني
أختارُ ذلي فيه طولَ زماني
والذلُّ للعشاقِ غيرُ مَعرة
بل عينُ كل مَعزّةٍ للعاني
أصبو إلى من حاز قداً أهيفا
يزرى ترنحهُ بغصن البان
وأحن نحون شقيق تمٍ خدِّه
قد نمَّ فيه شقايقُ النعمان
ويروقني أبداً نزاهةُ مقلتي
في حُسنِ طلعةِ فاتكٍ فتّان
أمسى وأصبحُ بين شَعْرٍ حالكٍ
ومُنيرِ وجهٍ هكذا الملوان
ولطالما قضَّيتُ معه حِقبة
ونسيمُ مصرَ معطّرُ الأردان
زمنٌ عليّ به لمصر فديتُهات
حقٌّ وثيقٌ عاطلُ النكران
لو شابهتْ عيناي فائضَ نيلها
لم توفِ بعض شفائه أحزاني
أو لو حكى قلبي بحارَ علومها
طرباً لما أخلو من الخفقان
ولكم بأزهرها شموسٌ أشرقتْ
وأنارتْ الأكوانَ بالعرفان
فشذا عبير علومهم عمَّ الورى
وسرتْ مآثرهم لكل مكان
وحوتهمو مصرُ فصارت روضةً
وهمو جناها المبتغى للجاني
قد شبهوها بالعروس وقد بدا
منها العروسي بهجةَ الأكوان
قالوا تعطَّر روضُها فأجبتهم
عطارُها حسنٌ شذاه معاني
حَبرٌ له شهدت أكابرُ عصره
بكمال فضلٍ لاحَ بالبرهان
لو قلتَ لو يُوجد بِمصرَ نظيرُه
لأجبتُ بالتصديق والإذعان
هذا لعمري اليومَ فيها سادةٌ
قد زُينوا بالحسنِ والإحسان
يا أيها الخافي عليك فخارُها
فإليكَ إن الشاهدَ الحسنان
ولئن حلفتُ بأن مصرَ لجنَّةٌ
وقطوفها للفائزين دواني
والنيلُ كوثرها الشهيُّ شرابه
لأبرُّ كل البر في أيمانِي
دار يحق لها التفاخرُ سيما
بغريزها جَدوى بني عثمان
حاز المحامدَ إذ دُعي بمحمدٍ
ورقي العُلا فعلى على الأقران
من كل مثل أميرنا فقرينه
اسكندرٌ أو كسرى أنوشروان
في وجهه النصرُ المبين على العدا
لاحتْ بشائرهُ لكل معاني
في كفه سيفانِ سيفُ عناية
والشهمُ إبراهيم سيفٌ ثاني
سلْ عنهُ يُنبيك الحجاز مشافهاً
بدمار أهلِ الزيْغ والبهتان
من قبل كانت سُبْله مذعورةً
والآن صارت في كمال أمان
لا غروَ إن نجْداً أدامتْ شكرَه
فلقد كساها حُلةَ الإيمان
وسعتْ إلى زنجٍ طلائعُ جيشه
فأطاعها العَاتي من السودان
وتقلبُ الأروام عدلٌ شاهدٌ
كم منه قد نالُوا شديدَ طعان
حتى لقد باءوا بوافرٍ خزيهم
وتقاسموا حظاً من الخسران
لم تُخْطِ قامةُ رُمحِه أغراضَها
وإصابةُ الأغراضِ نيلُ أماني
أحيا بدولته علوماً قد غدتْ
لوضوحِها تُجلى على الأذهان
بطلٌ مكارمه الجليلةُ قلَّدت
هامَ الزمانِ مكللِ التيجان
يهنيك يا مصرُ لقد خرت البها
بمحمدٍ باشا على الشان
فأخطى بغاخر حكمِه وتمتعي
وبذلك افتخري على البلدان
مُدّي أكفّ الشكر وابتهِلي بأن
يُبقيه مولاه طويلَ زمانِ