نزهة المشتاق في اختراق الآفاق/الإقليم الأول/الجزء الخامس


وهذا الجزء الخامس من الإقليم الأول تضمن من الأرضين أكثر أرض الحبشة وجملة من بلادها وأكبر مدنها كلها جنبيتة وهي مدينة متحضرة لكنها في برية بعيدة من العمارات وتتصل عماراتها و بواديها إلى النهر الذي يمد النيل وهو يشق بلاد الحبشة ولها عليه مدينة مركطة ومدينة النجاغة وهذا النهر منبعه من فوق خط الاستواء وفي آخر نهاية المعمور من جهة الجنوب فيمر مغرباً مع الشمال حتى يصل إلى أرض النوبة فيصب هناك في ذراع النيل الذي يحيط بمدينة بلاق كما قدمنا وصفه وهو نهر كبير عريض كثير الماء بطيء الجري وعليه عمارات للحبشة وقد وهم أكثر المسافرين في هذا النهر حين قالوا إنه النيل وذلك لأنهم يرون به ما يرون من النيل في خروجه ومده وفيضه في الوقت الذي جرت به عادة خروج النيل وينقص فيض هذا النهر عند نقصان فيض النيل ولهذا السبب وهم فيه أكثر الناس وليس كذلك حتى أنهم ما فرقوا بينه وبين النيل لما رأوا فيه من الصفات النيلية التي قدمنا ذكرها وتصحيح ما قلناه من أنه ليس بالنيل ما جاءت به الكتب المؤلفة في هذا الفن وقد حكوا من صفات هذا النهر ومنبعه وجريه ومصبه في ذراع النيل عند مدينة بلاق وقد ذكر ذلك بطلميوس الأقلودي في كتابه المسمى بالجغرافية وذكره حسان بن المنذر في كتاب العجائب عند ذكره الأنهار ومنابعها ومواقعها وهذا مما لا يهم فيه نبيل ولا يقع في جهله عالم ناظر في الكتب باحث عن غرضه وعلى هذا النهر يزرع أهل بوادي الحبشة أكثر معايشهم مما تدخره لأقواتها من الشعير والذرة والدخن واللوبيا والعدس وهو نهر كبير جداً لا يعبر إلا بالمراكب وعليه كما قلناه قرى كثيرة وعمارات للحبشة ومن هذه القرى ميرة جنبيتة وقلجون وبطا وسائر القرى البرية فأما المدن الساحلية فإنها تمتار مما يجلب إليها من اليمن في البحر.

ومن مدن الحبشة الساحلية مدينة زالغ ومنقونة واقنت وباقطى إلى ما اتصل بها من عمارات قرى بربرة وكل هذه القرى ميرتها مما يتصيده أهلها من السمك ومن الألبان وسائر الحبوب التي يجلبونها من قراهم التي على ضفة النهر المذكور.

ومدينة النجاغة مدينة صغيرة على ضفة النهر وأهلها فلاحون يزرعون الذرة والشعير وبه يتجهزون ومنه يتعيشون ومتاجر هذه البلدة قليلة وصنائعهم النافعة لأهلها قليلة والسمك عندهم كثير ممكن والألبان غزيرة وبين هذه المدينة ومدينة مركطة السابق ذكرها ستة أيام إنحداراً في النهر وفي الصعود أزيد من عشرة أيام على قدر الإمكان وزوارقهم صغار وخشبهم معدوم وليس بعد هاتين المدينتين من جهة الجنوب شيء من العمارات ولا شيء يعول عليه.

وبين مدينة النجاغة ومدينة جنبيتة ثماني مراحل وكذلك بين مركطة وجنبيتة مثلها وجنبيتة كما حكيناه في برية منقطعة من الأرض وشرب أهلها من الآبار وماؤها يجف في أكثر الأوقات حتى لا يوجد والغالب على أهل هذه البلدة أنهم طلاب معادن الفضة والذهب وذلك جل طلبهم وأكثر معايشهم منه وهذه المعادن في جبل مورس وهو على أربعة أيام من مدينة جنبيتة ومن هذا المعدن أيضاً إلى أسوان نحو من خمسة عشر يوماً.

ومن مدينة جنبيتة إلى مدينة زالغ التي على الساحل من أرض الحبشة نحو من أربع عشرة مرحلة ومدينة زالغ على ساحل البحر الملح المتصل بالقلزم وقعر هذا البحر أقاصير كله متصلة إلى باب المندب لا تعبره المراكب الكبار وربما تجاسرت عليه المراكب الصغار فتتخطفها الرياح فتتلفها ومن زالغ إلى ساحل اليمن ثلاثة مجار مقدرة الجري ومدينة زالغ صغيرة القطر كثيرة الناس والمسافرون إليها كثير وأكثر مراكب القلزم تصل إلى هذه المدينة بأنواع من التجارات التي يتصرف بها في بلاد الحبشة ويخرج منها الرقيق والفضة وأما الذهب فهو فيها قليل وشرب أهلها من الآبار ولباسهم الأزر ومقندرات القطن.

ومن مدينة زالغ إلى مدينة منقونة خمسة أيام في البر وأما في البحر فأقل من ذلك ويقابلها في البرية بلدة اسمها قلجون وبينهما اثنا عشر يوماً في البرية ومن منقونة إلى اقنت أربعة أيام في البر وهي على الساحل في الجنوب ويسافر إليها في الزوارق الصغار التي لا تحمل الشيء الكثير من الوسق لأن هذا البحر كله من جهة أرض الحبشة تروش وأقاصير متصلة لا تجري به المراكب كما قلناه ومدينة اقنت صغيرة ليست بكبيرة ولا بكثيرة الخلق وأكثرها خراب وأهلها قليل وأكثر أكلهم الذرة والشعير وسمكهم موجود وصيدهم كثير وأما عامة أهلها فإنهم يعيشون من لحوم الصدف المتكون في تلك الأقاصير من البحر يملحونه ويصيرونه إداماً لهم.

ومن مدينة اقنت إلى باقطى خمسة أيام وباقطى هذه مدينة صغيرة جداً كالقرية الجامعة ليست بمسورة لكنها على تل رمل وبينها وبين البحر نحو من رمية سهم وأهلها مقيمون بها قليل سفرهم منها وقليلاً ما يدخل المسافرون إليها لضيق معايشها وكون متاجرها مجالبة وبواديها شاقة وجبالها جرد لا نبات فيها وليس فوقها مما يلي الجنوب عمارة ولا قرى إلا ما كان منها قريباً ولهم إبل يتصرفون عليها ويتعيشون منها ويتجرون بها.

ومنها على ثمانية أيام مدينة بطا وتتصل بها قرى بربرة وأولها جوة وهي منها قريبة.

وجملة الحبشة يتخذون الإبل ويكتسبونها ويشربون ألبانها ويستخدمون ظهورها وينتظرون لقاحها وهي أجل بضاعة عندهم ويسرق بعضهم أبناء بعض ويبيعونهم من التجار فيخرجونهم إلى أرض مصر في البر والبحر. وتجاور أرض الحبشة في جهة الشمال أرض البجة وهي بين الحبشة والنوبة وأرض الصعيد وليس بأرض البجة قرى ولا خصب وإنما هي بادية جدبة ومجتمع أهلها ومقصد التجار منها إلى وادي العلاقي وإليه ينجلب أهل الصعيد وأهل البجة وهو واد فيه خلق كثير وجمع غزير. والعلاقي في ذاته كالقرية الجامعة والماء بها من آبار عذبة ومعدن النوبة المشهور متوسط في أرضها في صحراء لا جبل حوله وإنما هي رمال لينة وسباسب سائلة وإذا كان أول ليالي الشهر العربي وآخره خاض الطلاب في تلك الرمال بالليل فينظرون فيها كل واحد منهم ينظر فيما يليه من الأرض فإذا أبصر التبر يضيء بالليل علم على موضعه علامة يعرفها وبات هنالك فإذا أصبح عمد كل واحد منهم إلى علامته في كوم الرمل الذي علم عليه ثم يأخذه ويحمله معه على نجيبه فيمضي به إلى آبار هنالك ثم يقبل على غسله بالماء في جفنة عود فيتخرج التبر منه ثم يؤلفه بالزئبق ويسبكه بعد ذلك فما اجتمع لهم منه تبايعوه بينهم واشتراه بعضهم من بعض ثم يحمله التجار إلى سائر الأقطار وهذا شغلهم دأباً لا يفترون عنه ومن ذلك معايشهم ومبادئ مكاسبهم وعليه يعولون.

ومن وادي العلاقي إلى عيذاب من أرض البجة اثنا عشر يوماً ومن بلاد البجة مدينة بختة وهي أيضاً قرية مسكونة وبها سوق لا يعول عليها وحولها قوم ينتجون الجمال ومنها معايشهم وهي أكثر مكاسبهم وإلى هذه القرية تنسب الجمال البختية وليس يوجد على وجه الأرض جمال أحسن منها ولا أصبر على السير ولا أسرع خطاً وهي بديار مصر معروفة بذلك.

وبين أرض النوبة: أرض وأرض البجة قوم رحالة يقال لمم البليون ولهم صرامة وعزم وكل من حولهم من الأمم يهادنونهم ويخافون ضرهم وهم نصارى خوارج على مذهب اليعقوبية وكذلك جميع أهل بلاد النوبة والحبشة وأكثر أهل البجة نصارى خوارج على مذهب اليعاقبة كما قدمنا ذكره.

ويتصل أيضاً بأرض الحبشة على البحر بلاد بربرة وهم تحت طاعة الحبشة وهي قرى متصلة وأولها قرية جوة ومنها إلى باقطى ستة أيام ومنها أيضاً إلى بطا البرية سبعة أيام ومدينة بطا المتقدم ذكرها فوق خط الاستواء في نهاية المعمور.

نجز الجزء الخامس من الإقليم الأول والحمد لله ويتلوه الجزء السادس منه إن شاء الله.