نزهة المشتاق في اختراق الآفاق/الإقليم الأول/الجزء الثاني


إن الذي تضمنه هذا الجزء الثاني من الإقليم الأول من المدن مدينة مدل وغانة وتيرقى ومداسة وسغمارة وغيارة وغربيل وسمقندة فأما مدينة ملل التي هي من بلاد لملم فقد ذكرناها فيما تقدم وهي مدينة صغيرة كالقرية الجامعة لا سور لها وهي على تل تراب أحمر منيع جانبه وأهل مال متحصنون فيه عمن يطرقهم من سائر السودان وشربهم من عين خرارة تخرج من الجبل الذي في جنوبها وماؤها زعاق ليس بصادق الحلاوة وبغربي هذه المدينة على ماء العين الذي يشربون منه ومع نزوله إلى أن يقع في النيل أمم كثيرة سودان عراة لا يستترون بشيء وهم يتناكحون بغير صدقات ولا حق وهم أكثر الناس نسلاً ولهم إبل ومعز يعيشون من ألبانها ويأكلون الحيتان المصيدة ولحوم الإبل المقددة وأهل تلك البلاد المجاورة لهم يسبونهم في كل الأحايين بضروب من الحبل ويخرجونهم إلى بلادهم فيبيعونهم من التجار قطاراً ويخرج منهم في كل عام إلى المغرب الأقصى أعداد كثيرة وجميع من يكون في بلاد لملم مرسوم بالنار في وجهه وهي لهم علامة كما قدمنا ذكره.

ومن مدينة ملل إلى مدينة غانة الكبرى نحو من اثنتي عشرة مرحلة في رمال ودهاس لا ماء بها وغانة مدينتان على ضفتي البحر الحلو وهي أكبر بلاد السودان قطراً وأكثرها خلقاً وأوسعها متجراً وإليها يقصد التجار المياسير من جميع البلاد المحيطة بها ومن سائر بلاد المغرب الأقصى وأهلها مسلمون وملكها فيما يوصف من ذرية صالح بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب وهو يخطب لنفسه لاكنه تحت طاعة أمير المؤمنين العباسي وله قصر على ضفة النيل قد أوثق بنيانه وأحكم إتقانه وزينت مساكنه بضروب من النقوشات والأدهان وشمسيات الزجاج وكان بنيان هذا القصر في عام عشرة وخمس مائة من سني الهجرة وتتصل مملكته وأرضه بأرض ونقارة وهي بلاد التبر المتكورة الموصوفة به كثرة وطيباً والذي يعلمه أهل المغرب الأقصى علماً يقيناً لا اختلاف فيه أن له في قصره لبنة من ذهب وزنها ثلاثون رطلاً من ذهب تبرة واحدة خلقها الله خلقة تامة من غير أن تسبك في نار ولا تطرق بآلة وقد نفذ فيها ثقباً وهي مربطة لفرس الملك وهي من الأشياء المغربة التي ليست عند غيره ولا صحت لأحد إلا له وهو يفخر بها على سائر ملوك السودان وهو أعدل الناس فيما يحكى عنه ومن سيرته في قربه من الناس وعدله فيهم أن له جملة قواد يهبون إلى قصره في صباح كل يوم ولكل قائد منهم طبل يضرب على رأسه فإذا وصل إلى باب القصر سكت فإذا اجتمع إليه جميع قواده ركب وصار يقدمهم ويمشي في أزقة المدينة ودائر البلد فمن كانت له مظلمة أو نابه أمر تصدى له فلا يزال حاضراً بين يديه حتى يقضى مظلمته ثم يرجع إلى قصره ويتفرق قواده فإذا كان بعد العصر وسكن حر الشمس ركب مرة ثانية وخرج وحوله أجناده فلا يقدر أحد على قربه ولا على الوصول إليه وركوبه في كل يوم مرتين سيرة معلومة وهذا مشهور من عدله ولباسه إزار حرير يتوشح به أو بردة يلتف بها وسراويل في وسطه ونعل شركي في قدمه وركوبه الخيل وله حلية حسنة وزي كامل يقدمه أمامه في أعياده وله بنود كثيرة وراية واحدة وتمشي أمامه الفيلة والزرائف وضروب من الوحوش التي في بلاد السودان ولهم في النيل زوارق وثيقة الإنشاء يتصيدون فيها ويتصرفون بين المدينتين بها ولباس أهل غانة الأزر والفوط والأكسية كل أحد على قدر همته وأرض غانة تتصل من غربيها ببلاد مقزارة ومن شرقيها ببلاد ونقارة وبشمالها بالصحراء المتصلة التي بين أرض السودان وأرض البربر وتتصل بجنوبها بأرض الكفار من اللملمية وغيرها.

ومن مدينة غانة إلى أول بلاد ونقارة ثمانية أيام وبلاد ونقارة هذه هي بلاد التبر المشهورة بالطيب والكثرة وهي جزيرة طولها ثلاث مائة ميل وعرضها مائة وخمسون ميلاً. والنيل يحيط بها من كل جهة في سائر السنة فإذا كان في شهر أغشت وحمى القيظ وخرج النيل وفاض غطى هذه الجزيرة أو أكثرها وأقام عليها مدته التي من عادته أن يقيم عليها ثم يأخذ في الرجوع فإذا أخذ النيل في الرجوع والجزر رجع كل من في بلاد السودان المنحشرين إلى تلك الجزيرة بحاثاً يبحثون طول أيام رجوع النيل فيجد كل إنسان منهم في بحثه هناك ما أعطاه الله سبحانه كثيراً أو قليلاً من التبر وماً يخيب منهم أحد فإذا عاد النيل إلى حده باع الناس ما حصل بأيديهم من التبر وتاجر بعضهم بعضاً واشترى أكثره أهل وارقلان وأهل المغرب الأقصى وأخرجوه إلى دور السكك في بلادهم فيضربونه دنانير ويتصرفون بها في التجارات والبضائع هكذا في كل سنة وهي أكبر غلة عند السودان وعليها يعولون صغيرهم وكبيرهم وأرض ونقارة فيها بلاد معمورة ومعاقل مشهورة وأهلها أغنياء والتبر عندهم وبأيديهم كثير والخيرات مجلوبة إليهم من أطراف الأرض وأقاصيها ولباسهم الأزر والأكسية والقداوير وهم سود جداً فمن مدن ونقارة تيرقى وهي مدينة كبيرة وفيها خلق كثير لاكن ليس لها سور ولا حظيرة وحي في طاعة صاحب غانة وله يخطبون وإليه يتحاكمون وبين غانة وتيرقى ستة أيام وطريقها مع النيل ومن مدينة تيرقى إلى مدينة مداسة ستة أيام ومدينة مداسة هذه مدينة متوسطة كثيرة العمار صالحة العمالات وفي أهلها معرفة وهى على شمال النيل ومنه شربهم وهي بلد أرز وذرة كبيرة الحب طعمها صالح وأكثر معايشهم من الحوت وتصيده وتجارتهم بالتبر ومن مدينة مداسة إلى بلد سغمارة ستة مراحل وبين مداسة وسغمارة إلى جهة الشمال ومع الصحراء قوم يقال لهم بغامة وهم برابر رحالة لا يقيمون في مكان يرعون أجمالهم على ساحل واد يأتي من ناحية المشرق فيصب في النيل واللبن عندهم كثير ومنه يعيشون ومن مدينة سغمارة إلى مدينة سمقندة ثمانية أيام ومدينة سمقندة هذه مدينة لطيفة على ضفة البحر الحلو ومنها إلى مدينة غربيل تسعة أيام ومن مدينة سغمارة إلى مدينة غربيل جنوباً ستة أيام ومدينة غربيل هذه على ضفة البحر الحلو وهي مدينة لطيفة القدر في سفح جبل يعلوها من جهة الجنوب وشرب أهلها من النيل ولباسهم الصوف وأكلهم الذرة والحوت وألبان الإبل وأهلها يتصرفون في تلك البلاد بضروب من التجارات التي تدور بين أيديهم ومن مدينة غربيل مع المغرب إلى مدينة غيارة إحدى عشرة مرحلة ومدينة غيارة هذه على ضفة النيل وعليها حفير دائر بها وبها خلق كثير وفي أهلها نجدة ومعرفة وهم يغيرون على بلاد لملم فيسبونهم ويأتون بهم ويبيعونهم من تجار غانة وبين غيارة وأرض لملم ثلاث عشرة مرحلة وهم يركبون النجب من الجمال ويتزودون الماء ويسرون بالليل ويصلونه بالنهار إلى أن يغنموا ويرجعوا إلى بلدهم بما يفتح الله سبحانه عليهم من السبي من أهل لملم ومن مدينة غيارة إلى مدينة غانة إحدى عشرة مرحلة وماؤها قليل وجملة هذه البلاد التي ذكرناها هي في طاعة صاحب غانة وإليه يؤدون لوازمهم وهو القائم بحمايتهم.

نجز الجزء الثاني من الإقليم الأول والحمد لله ويتلوه الجزء الثالث منه إن شاء الله.