جلوس نوذر على العرش سبعة أعوام

عدل

قال صاحب الكتاب: لما فرغ نوذر من عزاء أبيه و ماتمه تسنم سرير الملك، و أفاض الأرزاق على العسكر خاصة و على سائر الخول و الخدم عامّة . و لم يكن يهتدى الى مسالك العدل و الاحسان، و لا يتوفر على تمهيد قواعد الأمن و الأمان. فلم يمض إلا قليل حتى خالف سنة أبيه، و طوى بساط الرأفة و المعدلة، و أطال يد الظلم على الرعية.

و صار لا يهتم إلا بجمع النشب، و لا يشتغل إلا باللهو و اللعب. و كان يخاشن الموابذة و القوّاد ، و يجفو الأمراء و الأجناد.

فتزلزلت قواعد ملكه، و تبدّد نظام شمله، و تخرّبت جموعه، و خرجت عليه جنوده. فكتب الى سام، و كان بسكسار مازندران، كتابا يتضرع فيه اليه، و يستغيث به، و يعلمه أن السيل قد بلغ الزبى، و أن الملك آذن بالانصرام، و أنه إن لم يسل سيفه و يتلاف الأمر ذهب التاج و التخت. فلما وصل الكتاب إليه رحل متوجها نحو دار الملك فى عساكر تملأ البر و البحر، و تطبق الحزن و السهل.

فلما سمع بإقباله الإيرانية أقبلوا إليه مطاوعين، و تلقاه منهم الأمراء و الأكابر مبادرين و مشايعين. و شكوا إليه سبيرة الملك و سوء صنيعه بالرعية، و ما حدث فى زمانه من خراب العالم. و سألوه أن يتقلد السلطنة بنفسْه ، و يتلافى الخلل.

و وعدوه بالانقياد و الاتباع، و موازرته على التقدّم بالاجتماع.

فقال: أنى يستحسن العرب تعالى و تقدّس أن يكون مثل نوذر الذى هو من هذا البيت الكريم قاعدا على سرير الملك و أنا تعرّض للتاج و التخت؟ و من يجترئ أن ينطق بهذا المحال، أو يسمع بهذا المقال؟ و لو لم يخلف الملك منوجهر غير ابنة لكان من الواجب أن تجلس على التخت و تعتصب بالتاج، و ألا يكون لى فى خدمتها مقرّ غير تراب عتبتها. و هذا الملك، و إن مال قليلا عن منهج الصواب، و حاد عن سنن السداد فليس. نصل طبع حتى يصعب صقاله. و قد يميل الغصن الرطيب فيسرع اعتداله.

و سوف أردّه الى الطريقة المرضية، و السيرة الحميدة. فعاودوا ما كنتم عليه من الطاعة، و استروا ما صدر منكم بالتوبة و الندامة.

فإن مخالفة الملوك نار فى الآجل، و عار فى العاجل. فلما سمعوا ذلك منه ندموا على ما بدر منهم من المخالفة، و رجعوا الى مسلك الطواعية. فاستتبت الأمور بيمن نقيبته، و عادت الى أحسن ما كانت عليه من قبل. و بادرت الأمراء و القوّاد الى خدمة الملك نوذر، و أهووا الى الأرض و سألوه العفو و الصفح. ثم إن ساما لما أصلح الفاسد، و لم الشعث استأذن الملك فى عوده الى مستقرّه .

فسمح له بالإذن، و أفاض عليه خلعة رائقة تشتمل على التاج و التخت و الخاتم و الطوق مشفوعة بالخيل العتاق و الغلمان الرشاق. فعاد الى مقرّ عزه، و متبوّأ مجده. و دارت أفلاك السعادة برهة لنوذر الى أن كشرت له عن أنياب الشر، و أناخت عليه بكلكل الإذلال و القهر. على ما سيأتى ذكره إن شاء اللّه تعالى.

ذكر اطلاع بشنك على وفاة منوجهر و ما حدث بعد ذلك

عدل

قال: و سارت الركبان بالخبر الى توران بموت منوجهر و تزلزل قواعد الملك فى تلك المملكة بسوء تدبير ابنه نوذر، و ضعف رأيه، و خور عقله. فلما سمع بذلك بشنك ملك الترك طمع فى الإيرانية، و الاستيلاء على ملكهم.

فأحضر أمراءه و قوّاده و أعيان دولته و خواصه، مثل اخواست و كرسيوَز و بارمان و كلباذ، و دعا بزعيم عسكره و قائد جيشه ويسه. و أحضر ابنه أفراسِياب ، و كان بهلوان دولته. فأجرى ذكر آبائه و أعمامه كتور و سلم، و ذكر ما جرى عليهم من الإيرانية من القتل و الفتك. و قال إن هذا يوم الانتقام. فلا بد من توغل تلك الديار لإدراك الثار. فتضرم أفراسياب و أخذته الحمية.

و قال: أنا أتقلد هذا الأمر. فأمر بشنك العساكر بالاجتماع و الاستعداد. فأتاه ابنه أغريرث واجما متفكرا و قال: أيها الملك. لا تشرع فى هذا الأمر إلا عن حزم. و اعلم أن منوجهر و إن مات فان بهلوان عسكره هو سام بن نريمان و معه قارَن و كُشتاسب الى غيرهما من هؤلاء الأمراء الكبار، و أسود النضال، و فرسان القتال. و أنت تعلم ما جرى.

و أنت تعلم ما جرى على تور و سلم من سام و سطواته. و لا يخفى عليك أن شم بن تور و إن كان يزاحم بأعضاده الأطواد، و يجدل بقوّة بأسه الآساد فإنه تغافل عن إيقاد هذه النار و السعى فى إدراك ذلك الثار.

و الرأى ألا تحرّك العرق الساكن، و لا تثير الجمر الخامد. فقال بشنك: كل ولد ينام عن ثأر أبيه و جدّه ، و لم يشد وسطه للانتقام لهما فلا بد أن يكون نسبه مدخولا.

و هأنا أنفذ أفراسياب إلى إيران و ليس لك بد من الرواح معه. فإذا طاب الهواء، و انحسر الشتاء، و اخضرت الأودية و الشعاب فخيموا على الصحراء، و جروا العساكر الى الفضاء، و سيروا إلى آمل، و دوّخوا بحوافر خيلكم دهستان و جرجان. فإن فى هذه الخطة حارب منوجهر تورا و ظفر به. فالقوهم أنتم فى ذلك الموضع، و أثيروا فى السماء العجاج، و أفيضوا من دمائهم الفجاج. و اجهدوا أن تساعدكم السعادة فتظفركم بقارَن و كشتاسب.

فإنكم إن نصرتم عليها فقد أدركتم المأمول و شفيتم الغليل.

مجيء أفراسياب إلى أرض إيران

عدل

قال فلما أقبل فصل الربيع و تيسرت المراعى فى الصحارى أقبل أفراسياب، طالعا من الشرق فى عساكر الترك و الصين. و لما قرب من جيحون بلغ الخبر بذلك الى نوذر. فتوجه نحو دهستان فى مائة ألف و أربعين ألف فارس.

و قدّم بين يديه قارن صاحب جيشه، و تبعه بنفسه. فلما وصل الى دهستان ضرب سرادق نوذر على ظاهر البلد بين يدى الحصار، و دخل أفراسياب أرض إيران فبلغه الخبر بموت سام بن نريمان، و اشتغال ابنه زال بعزائه.

ففرح بذلك و أنهض شماساس و خزيران فى ثلاثين ألفا من نخب الأتراك الى زوالستان للقاء زال و مقاتلته، و اهتبال غرته. و قصد بنفسه دهستان فى أربعمائة ألف فارس. و حين وصل اليها ضرب سرادقه قبالة سرادق نوذر. و كان بين العسكرين مسافة فرسخين.

و كتب الى أبيه يخبره بقلة عدد الإِيرانية ، و بموت سام، و أنه انتهز الفرصة و نفذ العسكر الى زوالستان، و كأنا بهم قد استولوا على أقطارها، و جاسوا خلال ديارها. و ختم الكتاب و طير به راكبا الى أبيه بشَنك .

حرب بارمان و قباد و قتل قباد

عدل

و لما طلع النهار جاءت طلائع أفراسياب الى باب دهستان. و كان عليهم رجل من سعالى الأتراك يسمى بارمان. ثم رجع الى أفراسياب و أخبره بجمع أحوال نوذر.

فقال: أيها الملك ما هذا الإنظار فى الضرب و قد أمكن الهام سطوة الغضب؟ و إن أذنت لى دنوت من ذلك الجمع و طلبت المبارزة فأريهم نكاية باسى، و أذيقهم شدّة مراسى. فأذن له فركب كالليث الغضبان، و دنا و دعا الى المبارزة. فنظر قارن الى فرسان الخيل و آساد الجيش. و قال من يبرز الى هذا الأسد المقدام؟ فما أجابه من بينهم أحد سوى أخيه قُباذ ، و كان شيخا طاعنا فى السن.

فغضب قارَن و تلهب وجهه، و قال: إنك قد بلغت من السن الى غاية توجب عليك أن تكف يدك عن القتال، و تقصر عن الكفاح. و مع ذلك فأنت خاصة الملك، و صاحب رأيه. فلو أصبت فى هذه المبارزة و ضرجت شيبتك بالدم لانكسرت قلوب العسكر، و وقع فيهم الفشل، و دب فيهم الخور.

فلم ينجع فيه ذلك، و برز كالفحل القطم، و ناوش بارمان المقاتلة من أوّل النهار الى وقت الزوال.

يتضاربان و يتطاعنان. فوقعت الدبرة على قباد، و أصابته فى رأسه ضربة أذرته عن الفرس منكوسا.

فلما رأى قارن ذلك زحف بعسكره أجمع فالتقى الجمعان، و استمر البأس بينهم الى أن غربت الشمس.

فعطف قارن عنانه الى دهستان، و أتى حضرة الملك، و شرح لديه حال الحرب و ما جرى فيها من قتل قباد و غيره. فعزاه الملك و انكسر لذلك. فباتوا تلك الليلة.

حرب أفراسياب و نوذر مرة أخرى

عدل

و لما أصبحوا ثار كلا الفريقين الى فضاء المعركة. فتناوشوا الحرب من أول النهار الى وقت الغروب ضربا بالصفاح و طعنا بالرماح، حتى تلاطمت أمواج الدماء، و تضايقت بجثث القتلى ساحة الغبراء. فزحف نوذر بنفسه من القلب مع عساكره و جموعه، و تنازعوا الحرب مع الأتراك حتى التفت الرماح بالرماح.

و كانت تلك الزحفة على غير مقتضي الحزم لما فيها من نزق لا يليق بحال الملوك فى مثل ذلك الموقف. و عظمت النكايات على الايرانية، و ظهرت مبادئ الغلبة للتورانية. فرجع كل واحد من الفريقين الى مضاربهم بعد غروب الشمس. و لما هجم الليل دعا نوذر بولديه طوس و كُسَتَهم ففض عليهما ختام سره، و ذكر ما كان أبوه أخبره به عند موته من غلبة الترك إياه.

و أمرهما أن يتوجها الى صوب فارس، و ينطلقا على طريق إصبهان يستصحبان الرحم و النساء و ما قدرا عليه من الخزائن، و يصيران الى جبل راوه من جبال ألبرز. و قال لعله ينجو من آل أفريدون اثنان. فانى لم أسمع بمثل هذا العسكر الذى خرج الآن من الترك، و أعلم أنه لا قبل لنا بهم. و أمر هما بالرحيل على وجه لا يحس به العسكر لئلا تضعف قلوبهم. ثم ودعهما و بكت حتى اخضلت محاسنه بالدموع.

حرب أفراسياب و نوذر المرة الثالثة

عدل

قال: ثم أقام الفريقان كلاهما يومين مستريحين من غير حرب و قتال: فلما كان وقت تبلج الإصباح من اليوم الثالث اضطربت الآفاق بخفق الطبول، و صهيل الخيول. فاضطر نوذر الى الدفاع و اللقاء. و كان أفراسياب قد بات ليلته تلك يعبى مقانبه، و يرتب مياسره و ميامنه. فبرزوا الى الفضاء كالبحار المتلاطمة و السيول المتراكمة.

و جعل نوذر يعبى صفوفه: فجعل قارَن معه فى القلب و تليمان فى الميسرة و سابور فى الميمنة. فتدانت الصفوف و تزاحفت الجموع و لم يزل القتال بينهم الى أن زالت الشمس مؤذنة بزوال دولة الايرانية. فوقعت كسرة عظيمة على الميمنة حتى تزلزلت أقدامهم و نبا بهم مقامهم.

و بقى سابور فى خف من أصحابه وافقا لا يبرح، و يرد تلك الحملات الى أن قتل فى موقفه ذلك.

فانكشفوا و أحجم نوذر فردّ عنانه الى دهستان، و تحصن بالبلد. فبقى كذلك أياما يقاتل من وراء الحصار. ثم إنّ أفراسياب نفذ كُروخان بن ويسه على طريق البرية الى فارس فى طلب نساء الايرانية و ذراريهم و خزائنهم و أموالهم. و لما بلغ الخبر بذلك الى قارن تضرمت نيران غيرته و جاء الى نوذر و أعلمه بذلك، و قال الرأى أن أنهض وراءهم فأفل حدّهم ، و أذب عن الحريم. و ليستقر الملك فى هذا الحصار. فإن عنده الخزائن و الأموال و العساكر.

فلم يستصوب نوذر ذلك، و قال لا بد لهذا الجمع من مرتب. و قد نفذنا طوسا و كستهم لكفاية هذا. و قد سبقاك الى فارس فلا حاجة الى نهوضك.

ثم مد السماط فلما طعموا و قاموا رجع قارن الى منزله و هو لا يستصوب المقام.

فركب فى عسكر عظيم و خرج من الحصار. و كان بارمان من أصحاب أفراسياب آخذا بمخنق الطريق فى جمع عظيم. فتلاقيا و تقاتلا طول الليل، و انكشفت تلك الوقعة عن قتل بارمان قاتل قُباذ .

فتفرّقت جموعه و انهزم أصحابه. و مضى قارن لسبيله نحو فارس.

ذكر أسر أفراسياب لنوذر

عدل

قال: فلما سمع نوذر بخروج قارن من الحصار اتخذ الليل جملا و ركب فى أثره كالريح المرسلة يطلب النجاة من مخالب القضاء المبرم. فانتهى الخبر الى أفراسياب فركب فى عسكره، و طار خلفه بجناح الركض كالثعبان الصائل حتى لحقه.

فتناوشوا الحرب من أوّل الليل الى طلوع الشمس.

و قبض بالآخرة على نوذر، و ضمه الأسر مع ألف و مائتين من أعيان الايرانية و وجوه قوّادهم المذكورين، فتنكست تلك الأعلام، و تشتت ذلك الجيش اللهام. و كذا عادة الأيام ما مدّت أطناب خيرها على أحد إلا قوّضتها ، و لا أبرمت حبال العز الملك إلا نقضتها.

عثور ويسه على ابنه مقتولا

عدل

ثم فرق أفراسياب طائفة من عسكره فى طلب قارن. فلما علم بمصيره الى فارس أقبل على ويسه و قال: وطن نفسك على أن ولدك هالك فانه لا يطيق مقاومة قارن، و انهض نحوه فلعلك تلحقه. فركب ويسه قائد جيوش الترك فى عسكر عظيم و جميع كبير راكضا خلف قارن.

فرأى قبل وصوله اليه ابنه كروخان طريحا فى الطريق مضرجا بالدم العبيط، مع جماعة من أمراء الأتراك مجدلين فى ذلك الفضاء.

و بلغ الخبر الى قارن بقصد ويسه إياه فنفذ الحرم و الضبن الى نيم روز، و ركب فى عسكره. فلما خرج من نواحى من فارس طلعت من يسار طريقه طلائع الخيل فاذا بأعلام ويسه قائد جيوش الترك خافقة. فاصطف الفريقان و زحف بعضهم الى بعض، و جرت بينهم ملحمة عظيمة.

فانهزم ويسه و قتل من أصحابه خلق عظيم. فرجع الى أفراسياب ناكصا على عقبيه، يعض من الغيظ و الندامة على يديه.

سرية شماساس و خزروان إلى زابلستان

عدل

قال: و لما توجه شماساس و خزيران من عند أفراسياب نحو زاوُلستان فى عساكرهما ساروا على طريق سجستان حتى وصلوا الى هيرمَند .

و كان زال قد رحل منها الى كورابذ لغراء أبيه سام. و لم يبق فى تلك المدينة غير مهراب. فنفذ رسولا الى شماساس و انتهى الى عبودية أفراسياب، و ذكر أنه من بيت الضحاك و إنما اتصل بابن سام مخافة زوال الملك.

و قال: إن هذه المدينة دار ملكى و مقر عزى. و لما توفى سام و خرج زال من هذه البلاد فرحت بذلك. و ليس بينى و بينه بعد هذا اليوم إلا السيف. و لا أمكنه من أن يطأ هذه الأرض. و إنى أرجو الآن أن تمهلونى ريثما أنفذ رسولا الى خدمة تخت الملك أفراسياب، و أعرض عليه خلوص طويتى فى صدق عبوديته، و أبعث نثارا الى حضرته، ثم أتبع أمره حتى لو أشار بالمبادرة الى خدمة التخت لسلمت اليكم هذه الممالك و نهضت على رأسى مبادرا الى حضرته، و وقفت ماثلا عند سدّته .

فكفهم بهذه الحيلة عن محاربته، و نفذ رسولا الى زال يعلمه بمجئ عساكر الترك الى هيرمَند و أنه احتال عليهم بما منعهم عن مناجزته، فإن توقفت ساعة عن التوجه الى هذه الخطة لم يبق منها عين و لا أثر.

إنجاد زال مهراب

عدل

قال: فلما وصل الرسول الى زال، و رأى رسوخ قدم مهراب فى موافقته، و علم صدق عزيمته على مساعدته عاود تلك البلاد كالنبل الصارد فى رجال أحرجتهم الحفيظة و أزهقتهم الحمية.

فلما اجتمع بمهراب أثنى عليه، و شكر سعيه، و حرضه على ملاقاة العدوّ . و قال: سأخرج هذه الليلة على هؤلاء الأتراك ليعلموا بمقدمى. فخرج فى جنح الليل. فلما قرب من معسكر الأتراك رمى بثلاثة أسهم الى وسط خيامهم. فوقع فيهم الاضطراب، و علت منهم الأصوات. فلما أصبحوا نظروا الى تلك السهام فعلموا بقدوم زال، و فطنوا لحيلة مهراب. و أمر زال فبرزت عساكره من المدينة، و خيموا بظاهر البلد، و تأهبوا للمدافعة و الممانعة، و رفعت الكوسات على كواهل الفيول.

و اشتعلت الأسود على حوارك الخيول. فازدلف الفريقان، و التقى الجمعان. و أقبل خزيران كالهزير الكاسر على زال فعلاه بعمود كان في يده فمزق على أكتافه جواشنه. فتقدّمت الفرسان الزاولية. و ثنى زال عنانه، و لبس خفتانا آخر، و أقبل على خزيران رافعا على كاهله جُرزا كقطعة جبل فلم يكن سوى أن ضربه واحدة خر منها صريعا لليدين و للفم، معفرا فى التراب مضرجا بالدم.

و لما فرغ من خزيران جال فى العسكر يطلب شماساس فلم يظهر لمبارزته. فوقع تحت ظلام العجاج على كلباذ أحد أعيان التورانية. فرفع على رأسه الجزر ففر من بين يديه. فأخذ القوس و رماه بنشابة سمرته على سرجه. فلما رأى شماساس ذلك ولى هاربا و نكب عن المحاربة جانبا، و طار بقوادم العجل، يحفزه سائق الخوف و الوجل، متوجها نحو أفراسياب فى جماعة أفلتوا من مخالب المنون.

و حين توسط البرية صادف قارَن راجعا من محاربة ويسه دامى الأظافر خضيب البواتر. فعرفهم و علم أنهم منهزمون من زاولستان فأمر بضرب البطول و سل السيوف، و صدمهم صدمة لم ينج منها غير شماساس فى نفر قليل.

قتل نوذر بيد أفراسياب

عدل

فبلغ الخبر الى أفراسياب بقتل خزيران و كلباذ، و انهزام شماساس على تلك الهيئة الفظيعة، و الكسرة الشنيعة. فتسعرت أحشاؤه حنقا، و تقطعت كبده غيظا و حسرة، و قال: كيف أبقى نوذر حيا و قد قتل أعيان أمرائى و وجوه قوّادى ؟ فأمر بإحضاره. فبادر جماعة الى الخيمة التى كان فيها محبوسا و أخرجوا ذلك الملك المتوّج حاسرا حافيا يرسف فى أصفاده و قيوده.

فضرب رقبته و أهوى برأسه الكريم الى الأرض. فكادت السماء هنالك تبكى دما، و همت الأرض أن تنشق هما و حزنا. و خلت ممالك إيران عن صاحب التخت و التاج، و أقلبت الفتن متلاطمة الأمواج. قال صاحب الكتاب: فيا صاحب و العقل و الإِنصاف انزع أردية الحرص عن الأكتاف.

و قس على هذه الأحوال أحوالك، فكم رأى التاج و التخت أمثالك. و اعلم أنك و ان أسرجت لك الأفلاك، و تطأطأ لعزك السماك، و دعيت ملاك الرقاب لم تتوسد بالآخرة غير التراب.

و قال: ثم جاءوا بالأسرى الى أفراسياب يجرّون اليه. فخروا ساجدين بين يديه، و أطلقوا ألسنتهم بطلب الأمان.

فجاء أغريرث فرققه عليهم، و تشفع اليه فى أمرهم. و قال: إن قتل هؤلاء الأسود صبرا يكون عارا يبقى أثره الى الأبد. ثم على الجملة قتل الأسرى غير مرضى عند الملوك.

و الأحرى أن تؤمنهم على أرواحهم، ثم تسلمهم كذلك فى القيود الىّ حتى أسجنهم، و أو كل بهم المستحفظين و الحراس، و أنفذهم الى مدينة سارى، و أجعل محبسهم بها.

فوهب لأغريرث دماءهم، و حفظ عليهم دماءهم. و أمر بهم فحملوا الى مدينة سارى فى الجوامع و الأغلال. و لما فرغ أفراسياب من ذلك رحل من دهستان متوجها الى الرى.

ذكر سلطنة أفراسياب فى ممالك إيران و ما جرى فى نوبته

عدل

علم زال بموت نوذر

عدل

قال: ثم اعتصب أفراسياب بتاج الملك، و فتح أبواب الخزائن، و فرق الأموال على الأجناد و العساكر، و استقر على سرير الملك. و وصل الخبر الى طوس و أخيه كستهم بأن أفراسياب قتل نوذر.

فقطعوا الشعور، و خمشوا الخدود. و وضع الأمراء على رءوسهم التراب، و مزقوا جيوبهم، و توجهوا الى زاولستان قاصدين« زالا» يندبون الملك نوذر.

و كأنهم بلستان حالهم يقولون:

يا صارم المجد الذى ملئت مضاربه فلولا ، يا كوكب الاحسان أعد مجلك الدجى عنا أفولا، يا غارب النعم العظام، غدوت معمودا جزيلا، لهفى على ماض قضى،ألا نرى منه بديلا و زوال ملك لم نكن، يوما نقدر أن يزولا.

فقال دستان عند ذلك: حياء لسيفى عن مضاجعة القراب بعد هذا المصاب. و معاذا أن يكون مثواى غير صهوات الجياد، و أن أقيل إلا فى ظلال الرماح. ثم استعدوا للانتقام، و برزوا من ذلك المقام. و تناهى الخبر بذلك الى الأمراء، المأسورين فأخذهم المقيم المقعد، و أيسوا من الحياة.

فأرسلوا الى أغريرث رسالة يثنون عليه بحفظ الذمام، و يشكرونه على ما أسدى اليهم من الإنعام. و قالوا: من المعلوم أن زال بن سام مستقر على سرير الملك بزوالستان فى جميع أمراء الإيرانية مثل برزين و قارن و كِشواذ و خرّاد ، و أنهم لا يدعون ممالكهم فى يدى أفراسياب، و لا بدّ لهم من الاجتماع و الاحتشاد فى طلب المعاودة الى مساكنهم و مواطنهم. و مهما فعلوا ذلك و علم به أفراسياب احتدم نار عضبه، و حمله ذلك على أن يأمر بضرب رقابنا و إراقة دمائنا. فإن رأيت أن تمن علينا معاشر الأسارى بالإطلاق، و تسترق رقابنا بالإعتاق فعلت. فقال أغريرث: أما إطلافكم على هذا الوجه فلا سبيل اليه. فإن فيه إظهار معاداة أفراسياب و الخروج عليه.

و لكن اذا توجه زال فى عساكر إيران و قربوا من مدينة سارى لم أتعرّض لمقاتلتهم، و خليت آمل و انحدرت الى الرى الى خدمة أفراسياب. فتخلصون حينئذ بغير اختيار منى، و لا يلحقنى بذلك تبعة عند أفراسياب. فلما بلغهم ذلك من قوله خرّوا على الأرض ساجدين يشكرون اللّه تعالى و يحمدونه، و يثنون على أغريرث و يمدحونه. فنفذوا راكبا الى زاولستان لإنهاء هذا الحال زال. و أمره بالاستعجال و المسارعة الى إيصال هذه الرسالة حتى ينتهز الفرصة فى خلاصهم. فلما وصل الرسول أمر بإحضار الأمراء و القوّاد ، و أخبرهم بالحال.

و قال: من يتكفل بهذا المهم الخطير و الأمر العظيم؟

فقام كشواد و قال: أنا أتولى هذا الأمر. فخرج فى عسكر عظيم من أعيان فرسان الايرانية، و توجه راكضا الى مدينة سارى.

فسمع بوصولهم أغريرث فترك الأسارى كلهم فى تلك المدينة، و ركب فى جميع عساكره متوجها الى الرىّ الى أفراسياب. فنزل كِشواذ على سارى و أخذها و أخرج جميع الأسارى. فساروا عائدين الى زاولستان.

و بلغ الخبر بذلك الى زال فسر به و أمر بإفاضة الأموال على الفقراء و المساكين شكر اللّه تعالى على ذلك. و لما قربوا استقبلهم زال.

و جدّدوا للملك نوذر عزاء حثوا فيه الأتربة على رءوسهم، و مزقوا أثوابهم على نفوسهم. ثم أعدّ زال لكل واحد منهم منزلا ينزله، و أفاض عليهم خلعا فاخرة و أموالا وافرة.

قتل أغريرث بيد أخيه

عدل

قال: و لما فر أفريرث من آمل، و بلغ الرى، و اجتمع بأفراسياب أنكر عليه فعله الذى فعل، و كان قد بلغه، فتنمر له و طفق يعنفه و يوبخه. و آخر ذلك أن سل عليه السيف و قدّه بنصفين. فانتهى الخبر بذلك الى زال فاجمع على قصده. و جمع الجموع، و حشد الجيوش، و توجه نحو فارس فى حجافل جرارة.

و لما علم بذلك أفراسياب نهض فى جموعه الى خوار الرى. و دنا زال منه فكانت طلائع العسكرين تتلاقى و القتال يجرى بينهما سحابة كل يوم مقدار أسبوعين. ثم ان زالا بات ليلة يتفكر فى أمر الملك. فلما أصبح قال: لا بد لهذا الجمع العظيم من ملك يتسنم سرير الملك، و يعتصب بتاج السلطنة حتى ينظر فى الأمور، و يكون موئلا للجمهور. و طوس و أخوه كلاهما لا يصلحان لذلك.

فنظروا فى المنتسبين الى شجرة أفريدون فلم يجدوا فيهم من يصلح لذلك غير زوّ بن طهماسب. و كان ذا قدر و جلالة و شهامة و صرامة. فنفذ قارن و جماعة من الأمراء فى عسكر مجر ليستقدموه و يتوّجوه .

  اقرأ عن نوذر في ويكيبيديا، الموسوعة الحرة