بداية القصة

عدل

كان فى بلاد إيران مدينة كُجاران على ساحل البحر الفارسي. و كانت كثيرة الخلق ضيقة الساحة. من عادة بنات أهلها أنهن يوافين باب المدينة كل صبيحة، فاذا اجتمعن توجهن نحو سفح جبل هناك، قريب، و معهن مغازلهن. فيقبلن على الغزل ينصرفن بالعشى إلى مساكنهن. و كان فى هذه المدينة رجل يسمى هفتواذ. و إنما سمى بذلك لأنه كان له سبعة بنين.

و كانت له بنت تخرج كل يوم مع النبات إلى الجبل المذكور. فحضرت المكان يوما فسقطت من بعض الأشجار التى كانت هناك فى حجرها تفاحة. فعضتها فوجدت فى وسطها دودة فأخذتها و وضعتها فى وعاء برسم المنزل من الخلنج، و قالت: سأغزل اليوم على سعادة هذه الدودة. فغزلت شيئا كثيرا من القطن فوق المعهود منها، و غلبت أترابها. و لم يزل ذلك دأبها حتى استغنت بكثرة غزالها.

و كانت تطعم الدودة كل يوم قطعة تفاح. فقالت لها أمها يوما: كان الجن معك حتى تهيأ لك هذا الغزل الكثير. فأخبرتها بحال الدودة، و علم بذلك أبوها أيضا. فتيمنوا بالدودة و جعلوا يعتنون بأمرها و يربونها حتى كبرت و ضاق عليها وعاء المنزل. فعملوا لها صندوقا و وضعوها فيه. و ظهرت آثار بركتها على حال هفتواد و أولاده فكانوا يزدادون كل يوم ثروة و نماء و ترفعا و اعتلاء حتى استظهر بكنز غمر و مال دثر. فطمع أمير تلك المدينة فى ذات يده و اغتصابه كل أمواله.


استفاضة خبر الدودة بين الناس و ظهور آثار بركتها عليهم

عدل

فاجتمع أهل المدينة مع هفتواذ، و خرجوا على الأمير و تصدّوا لقتاله. فوقعت بينهم وقعة عظيمة أفضت إلى قتل الأمير.

و استبد هفتواذ بذخائر و أمواله. و خرج من تلك المدينة، و بنى على رأس بعض جبالها قلعة حصينة و تحوّل اليها نجليه و رجله و أهله و ولده و دودته. و حصن القلعة حتى عمل لها سوار من حديد. ثم إن الصندوق ضاق على الدودة فخفروا لها فى الصحر حوضا فى القلعة، و وضعوها فيه، و و كلوا بها خدما و مستحفظين. و كانوا يطمعونها كل يوم قدرا من الأرز، و يغذونها بالشهد و اللبن حتى أتت عليه خمس سنين فصارت من الكبر و الضخامة كالفيل. و استفاض خبرها بين الناس فسميت تلك الناحية كرمان.

قال: و اجتمع لهفتواذ جيش عظيم حتى كان بنوه السبعة يركبون فى عشرة آلاف فارس. و كانوا مظفرين على جميع من ينهض لقتالهم من الملوك.


قتال أردشير لهفتواد و هزيمة أردشير

عدل

فلما وقف أردشير على حال هفتواذ، و أنه لا يفكر فى بيت كيقباد نفذ اليه بعض الإصبَهبَذين فى عسكر عظيم كشف. فكسرهم هفتواذ كسرا، و أوسعهم قتلا و أسرا. فعاد من سلم من الوقعة الى أردشير فأعلمه بما جرى على أصحابه. فالتهب غيظا و سار فى عساكره قاصدا قصد هفتواذ. فلما دنا بعضهم من بعض كادت الأرض تمور من كثرة العساكر فقامت الحرب بينهم على ساق، و جرت بينهم وقعة عظيمة. و لما أمسى أردشير تأخر و نزل. ثم إن هفتواذ أخذ عليه الطريق من جميع جوانبه، و ضاق على عسكره الطعام حتى جهدوا.

نهب مهرك نوشزاد صاحب جهرم دار أردشير و استيلائه على أمواله و بلغ أردشير أن صاحب جهرم المسمى مِهرك هجم على مدينته المستحدثة التى تسمى أردشير خُرّه فنهبها و استولى على ذخائره و خزائنه بها. فضاق أردشير بذلك ذرعا، و استحضر أصحابه و شاورهم فى حاله، و فاوضهم فيما دهاه من مهرك.

ثم أمر بمد السماط فوضع بين يدى أردشير حمل مشوىّ . فلما اشتغل الحاضرون بالأكل جاءت نشابة حتى وقعت فى الحَمَل الذى بين يدى أردشير. فاستعظموا ذلك و كفوا أيديهم عن الطعام.

فقام بعضهم و نزع النشابة من الحمل فوجدوا عليها كتابة فهلوية فقرئت فاذا فيها ذكر أن النشابة رمى بها من القلعة، و لو أراد راميها أن يصيب بها أردشير لتيسر له. و فى الكتابة: اعلم أيها الملك العالم! أن ثبات هذه القلعة من سعادة الدودة. و لا ينبغى لشهريار مثلك أن يكون من قتلاها. قال: و كان من بين القلعة و منزل أردشير مسافة فرسخين ففرج أردشير و حمد اللّه تعالى و شكر مرسل تلك النشابة.


علم أردشير بأمر الدودة و اتخاذه الحيلة للوصول إليها

عدل

فارتحل راجعا الى فارس فأتبعه عسكر هفتواذ، و قتلوا من أصحابه خلقا كثيرا، و تفرق الباقون آخذين نحو بلادهم.

و وقع أردشير فى جماعة من خواصه الى قرية فصادف رجلين من أهل تلك القرية فقال لهما: فى أى طريق أخذ أردشير؟ و كيف عبر؟ و قصد بذلك التعمية عليهما. و استرشدهما عن الطريق فأرشده اليه، و دعواه الى ضيافتهما. فنزل أردشير و دخل الى منزلهما فقدما اليه طعاما، و طفقا يحدثانه و يلاطفانه و يهونان عليه أمر هفتواذ، و أنه سوف يخمد جمره و تركد ريحه. فعلق كلامهما بقلبه و استحسنه فأخبرهما بنفسه. فوثبا و قبلا الأرض بين يديه.

فخاضوا فى حديث هفتواذ و استيلائه على ذلك الطرف و استظهاره بالعدل و العُدد ، فقالا: أيها الملك! إن الدودة التى استعلى بها أمر هفتواذ شيطان لا يقاومه أحد، و لا يمكن الظفر بها إلا بالحيلة: فليفكر الملك فى ذلك. فركب الملك من تلك الضيعة و توجه نحو أردشير خُرّه ، و استصحب الرجلين.

فلما وصل اليها جمع عسكره، و أطلق أرزاقهم، و ركب و سار نحو مدينة جهرم قاصدا قصد مِهراك الغادر. فلم يقدر على الثبات بين يديه فهرب. فنزل أردشير فى جهرم و أرسل وراءه الطلبة حتى ظفر به فقتله و قتل جميع من كان ينتسب اليه من أولاده و أقاربه، و لم يهرب منهم سوى بنت له، فإنها نجت و لم يظفر بها.


قتل أردشير تلك الدودة بالحيلة

عدل

ثم إنه سار من ذلك المكان فى اثنى عشر ألف فارس حتى نزل على منزل من قلعة هفتواذ. و سلم العسكر الى بعض أمرائه و أوصاه بحفظهم و بأن بيت الطائع و يفرّق الجواسيس. و قال: إنى أريد أن أحتال حيلة لقتل هذه الدودة اقتداء بجدّى إسفنديار فى قتل أرجاسب فاذا أخبرك الديدبان بأنه شاهد النهار من القلعة دخانا و بالليل نارا فانهض فى العسكر حتى تنتهى الى باب القلعة.

ثم استحضَر دواب و أوقرها بالثياب و الجواهر و الذهب و الفضة، و حمل قدرا كبيرة من الحديد مع جملة من الرصاص و النحاس، و استصحب طائفة من ثقاته و فيهم الفلاحان اللذان أضافاه. و لبسوا ملابس الصوف، و توجهوا نحن القلعة فى زى التجار. فصعد اليها بأحماله و رجاله. و تيسر له النزول عند حرس الدودة و مستحفظيها.

و قال: إنى تاجر خراسانى قد أتيت بجملة من القماش و الذهب و الفضة و الجوهر لأبيع و أبتاع فى مدينتكم هذه على سعادة الدودة. ثم قال لهم: إنى أريد أن أفتح البيع و الشراء بضيافتكم. فكونوا أضيافى ثلاثة أيام. ففعل ذلك و أضافهم. و قال و لهم: دعونى أتبرك بخدمة و الدودة و إطعامها. قال فأط مخدعهم يوما و سقاهم حتى سكروا و غمرهم السكر أجمعين.

فنصب قدر الحديد و أداب فيها ما كان معه من الرصاص و النحاس، و قدّمها الى حوض الدودة على مثل عادتهم فى تقديم قدر الأرز اذا أرادوا إطعامها. ففغرت فاها فأفرغ ما فى القدر فى حلقها فانشق حلقومها، و سمع منه صوت عظيم ارتج منه الجبل. و بادر الى السكارى فى أصحابه بالسيوف فقتلوهم عن آخرهم.

و كان الديدبان قد شاهد ارتفاع الدخان بالنهار حين أو قد نار الضيافة فأخبر سالار عسكره فركب و سار بهم الى القلعة. فوافق وصولهم اليها طلوع الصبح.


مقتل هفتواد على يدي أردشير

عدل

فلما علم هفتواذ بمجىء العسكر بادر الى باب القلعة فرأى أردشير عليه كأسد هصور فأحس بالشر. و نزل أردشير و انضم الى أصحابه، و تناوشوا الحرب ساعة فأسروا هفتواذ و ولده الأكبر سابور. فأمر بهما فصلبها و رشقا بالسهام.

و استولى على القلعة و ذخائرها و دفائنها فاصطفى البعض لنفسه و فرّق الباقى على عساكره. ثم سلم ذلك الاقليم الى الفلاحين المذكورين، و عاد الى بلاد و فارس. ثم ارتحل و سار منها الى شهر زور و منها الى مدينة طيسفون و قعد مقعد السلطنة.