وثيقة الدزدار وقضية البراق/الدراسة


لما جاءت اللجنة الدولية لتدرس قضية البراق الشريف وقدم سماحة الحاج أمين أفندي الحسيني وثائقه الرسمية جاهر بعض المعاكسين بشكهم في صحة وثيقة ترجع الى زمن الحكومة المصرية، فعندئذٍ طلب إلي البعض من الأصدقاء أن استشف هـذه الوثيقة من الوجهة التاريخية فقط فجئت الآن ألبي الطلب.

الشكل الأول: المرسوم الإداري الذي يمنع اليهود عن تبليط المبكى ويحذرهم من رفع الأصوات وإظهار المقالات في الصلاة وهو الوثيقة الدزدارية موضوع هذا المقال

وثيقة سماحة الحاج أمين أفندي قطعة من الورق الصكوكي القديم يبلغ طولها ٢٧ سنتيمتراً ولا يتجاوز عرضها ال١٤ وهذا نصها: افتخار الأماجد الكرام ذوى الاحترام أخينا السيد أحمد آغا دزدار متسلم القدس الشريف حالاً إنه ورد لنا أمر سامي سر عسکري مضمنه صورة إراده شريفه خدیويه صادره لدولته يعرب مضمونها العالي أنه حيث قد اتضح من صورة مذاكرة مجلس شورى القدس الشريف بأن المحل المستدعيين تبليطه اليهود هو ملاصق إلى حايط الحرم الشريف وإلى محل ربط البراق وهو كاين داخل وقفية حضرة أبو مدين1 (قدس سره) ومـا سبق لليهود تعمير هكذا أشيا بالمحل المرقوم ووجد أنه غير جايز شرعاً فمن ثم لا تحصل المساعدة لليهود بتبليطه وأن يتحذروا اليهود من رفع الأصوات وإظهار المقالات ويمنعوا عنها فقط يعطى لهم الرخصه بزياراتهم على الوجه القديم وصادر لنا الأمر السامي السرعسكري بإجرا العمل بمقتضى الإراده المشار إليها فبحسب ذلك اقتضى إفادتكم بمنطوقها السامي لكي بوصوله تبادروا لإجرا العمل بمقتضاها المنيف يكون معلومكم

في ٢٤ را سنة ٢٥٦ الختم محمد شريف
جرنال ٣٦٨ نمره ۳۹

أصلية إذن أم مزورة؟ تقول إن جميع ما اطلعنا عليه من المفاوضات الرسمية التي ترجع إلى عهد الحكومة المصرية في هذه البلاد وجميع ما نعرفه من مراسلات عبدالله باشا ومحمد باشا ورؤوف باشا وغيرهم من باشاوات سورية في مستهل القرن الماضي مكتوب على نوع من الورق الصكوكي القوي الذي يشابه ورق الحجج الرسمية التي كانت تصدر من محاكم لبنان وسورية في الربع الأخير من القرن الماضي غير أنه أقل بياضاً منها وأكثر اصفراراً. ويظهر من أوراق بكركي وقنصلية بريطانية في بيروت وغيرها من المراكز الرسمية أن استعمال الورق الصقيل الأبيض - أثر جديد وما يشابهه - لم يشع في المفاوضات الرسمية الإدارية إلا بعد جلاء الحكومة المصرية عن هذه البلاد. فإذا صح قولنا هذا وهو صحيح على ما نعلم يكون ورق الوثيقة التي نحن بصددها الآن دليلاً على أصليتها. وكذلك حجمها فانه يوافق حجوم الوثائق التي هي من نوعها وزمانها. فإنك لو فحصت الباقي من الوثائق الإدارية التي تضمن مفاوضات

الشكل الثاني: مرسوم آخر من محمد شريف باشا أيضاً وهو لا يزال محفوظاً
بمكتبة الجامعة الأميركية في بيروت. اطلب مجموعة هذه الجامعة
تحت تاریخ ۱۱ صفر سنة ١٢٥١هـ

الحكومة المصرية في هذه البلاد لوجدت طوله يتراوح بين الـ٢٠والـ٤٠ سنتيمتر وعرضه بين الـ ١٢ والـ ٢٠ ولا يختلف خطها عن خطوط تلك الأيام فإنه من نوع الخط الرقعي الذي شاع استعماله في دواوين ذلك العصر والذي يعرف لدى أرباب الخطوط اليوم بالخط العلامي نسبة إلى المرحوم حنا علام.2 ومما يؤيد أصلية هذه الوثيقة أيضاً عدم وجود الهوامش العريضة إلى اليمين وإلى اليسار فإن القسم الأكبر من الرسائل الإدارية الخصوصية المصرية التي عرفناها

الشكل الثالث: من إبرهيم باشا إلى متسلم حماه بالخط العلالي أيضاً. ١٦ × ٢٩ س. من الورق
الصكوكي القديم وهو لا يزال محفوظاً في مكتبة الجامعة الأميركية في بيروت
يكاد يكون خالياً من هذه الهوامش ولعل السبب في ذلك أن أرباب الدواوين كانوا يخافون من الزيادة والتنزيل والتحشية فيضطرون إلى قطع الورق بعد الفراغ من الكتابة لا قبلة. وقد يمكن أن يكون السبب في ذلك الاقتصاد أيضاً أمـا الرسائل الإدارية المهمة قبل دخول المصريين إلى هذه البلاد وبعد جلائهم عنها فإنهـا لا تكاد تخلو من الهوامش العريضة إلى اليمين وكذلك مسألة اتجاه السطور في بعض الرسائل الإدارية الخصوصية فإنك لو تفحصت الباقي من هذه الرسائل لوجدت فرقاً ظاهراً بين عادة الكتاب في زمن الحكومة المصرية وطريقة زملائهم في زمن الحكومة التركية. فسطور القسم الأكبر من أوراق عبدالله باشا مثلاً منحنية
الشكل الرابع: من محمد باشا والي حلب إلى أعيان جبل لبنان وهو مرسوم عمومي متوَّج بختم الإيالة الكبير
اطلب مجموعة الدكتور أسد رستم الأصول العربية لتاريخ سورية في عهد محمد
علي باشا جـ ١ ص ١١٧ - ١١٨
أكثر من ٣٠ درجة إلى فوق حالة كون سطور القسم الأكبر من الأوراق المصرية الإدارية تكاد تكون أفقية في وضعيتها. ولذا فإننا نرى في استقامة السطور بالوثيقة الدزدارية دليلاً على أصليتها أيضاً.

ولعل الخوف من التحشية هو الذي دفع محمد شريف باشا وغيره من الحكام في ذلك العصر إلى بصم ختومهم في أول فراغ يقع بعد انتهاء الرسالة. فإنك لو نظرت إلى الوثيقة التي نحن بصددها لرأيت ختم محمد باشا ملاصقاً تماماً للكلمة «معلومكم». وهو يغطي الفراغ بين السطر الأخير والذي قبله. وهذا ولا بد لنا من التصريح الآن أن هذا الكلام لا ينطبق على الفرمانات الخديوية والبيواردات السرعسكرية وغيرها من المراسيم العمومية المهمة فإن محمد علي باشا وإبراهيم باشا وغيرها من باشاوات ذلك العصر في سورية كانوا جميعهم يتوجون «خطاباتهم العمومية» بختومهم الكبيرة كما في الشكل الرابع فلا يستعملون الصغير منها أبداً وكان بعضهم يستعمل الطغراء الخصوصية في آخر الرسائل المهمة فيقع الختم الصغير بعيداً عن آخر النص - انظر شكل ٥ وقبل الفراغ من موضوع الختوم لا بد لنا من القول أن ختم محمد شريف باشا في وثيقة الدزدار مطابق لما نعرفه من ختومه في سائر الوثائق الرسمية من حيث الخط والحجم والصنع والتزويق والتاريخ أيضاً (راجع ش ١) وحجم ختمه في هذه الوثيقة يوافق حجم ختوم غيره من باشاوات ذلك العصر - حوالي الـ ١٣ ميليمتراً.

هذا ولم نرَ في أسلوب هذه الوثيقة وطريقة كتابتها ما يجعلنا نشك في صحة أصليتها، كان عبد الله باشا وغيره من باشاوات سورية قبل دخول المصريين يعنونون مراسيمهم الإدارية «الخصوصية»3 هكذا: «افتخار الأماجد والأعيان متسلمنا
الشكل الخامس: خطاب عمومي من عبد الله باشا إلى أعيان بيروت وهو مذيل
بطغرائه الخصوصية وختمه الصغير. اطلب الأصل في مجموعة الجامعة الأميركية
في بيروت تحت تاريخ ١٢ رجب سنة ١٢٤١هـ. وراجع مجلة الكشاف
في … حالاً زيد مجده» ويحيون هكذا: «بعد التحيـة والتسليم بمراسم الإعزاز والتكريم والسؤال عن خاطركم بكل خير المنهى إليكم». ولكن لما دخلت البلاد في حوزة الحكومة المصرية بقيت الحال على هذا المنوال إلى سنة ١٢٤٩هـ كما في رقم ٣٥ و٤٢ و٤٤ و٦٣ من مجموعة الدكتور رستم. وبعد هذه السنة أخذت الكتَّاب تختصر فاكتفت في «الخطابات الخصوصية» بالعنوان وتركت التحية جانباً كما يتضح من الشكل الثاني والثالث والسادس وغيرها ولذا فإننا نرى الاختصار في وثيقة الدزدار
الشكل السادس: مرسوم خصوصي من محمد علي باشا إلى الشيخ سليمان عبد الهادي وهو
يتعلق بأمور الثورة في فلسطين على الحكومة المصرية آنئذٍ. ولا يزال أصله
محفوظة لدى إبراهيم بك القاسم عبد الهادي بنابلس فلسطين

والاكتفاء بالعنوان دون التحية دليلاً آخر على أصليتها وعدم تزويرها. ومن يراجع المعروف من تحارير شريف باشا «الخصوصية» وينعم النظر فيه ويقابله بالباقي من تحارير محمد علي باشا وإبراهيم باشا ومحمد منيب أفندي وغيرهم يرَ أن محمد شريف باشا كان مولعاً ولعاً زائداً في مفاوضاته مع المتسلمين في البلاد بالعبارة الآتية «افتخـار الأماجد الكرام ذوي الاحترام»، وقلما أبدل هذه الكلمات بغيرها من اصطلاحات ذلك العصر كما في مكاتيب سائر الباشاوات. وبينما نرى إبراهيم باشا وغيره يختم تحاريره الإدارية هكذا: «والله يحفظكم - هذا ما لزم - أفاده الجناب - اعلموا ذلك – وتعتمدوه غاية الاعتماد – وهذا ما لزم إخباركم – وكان الله معكم» وغيرها من العبارات نرى محمد شريف متمسكاً في الغالب بالعبارة «يكون معلومكم» من غير زيادة ولا نقصان.

وطريقة تاريخ هذه الوثيقة هي الطريقة المتبعة في جميع أوراق الحكومة المصرية في ذلك العصر كما أبان ذلك بالتفصيل الأستاذ الدكتور رستم في مقدمته للأصول العربية المشار إليها آنفاً4. وكذلك الإشارة إلى الجرنال والعدد فإنها موجودة في القسم الكبير من أوراق محمود نامي بك متسلم بيروت وقتئذٍ كما في الشكل الثامن من هذه الرسالة.5

وإذا تفحصنا محتويات هذه الوثيقة وغرضها المقصود وجدنا أنها توافق في روحها تمام الموافقة ما تعلمه من تاريخ علاقة اليهود بمحل ربط البراق. قال الرحالة روبنسن المشهور الذي زار القدس عام ١٨٣٨ ما نصه: «مباح لليهود أن «يشتروا» حق الدنو من مركز هيكلهم وحق الصلاة والبكاء على خرابه وسقوط (أو تبدد) أمتهم6 وقال المستر فِن الإنكليزي الذي تولى إدارة القنصلية البريطانية في القدس الشريف ما بين سنة ١٨٤٥ وسنة ١٨٦٣ ما محصلة «يدفع الحاخام باشي إلى «الأفندي» الذي يجاور المبكى ثلاثماية ليرة إنكليزية كل سنة بدل الإذن له ولليهود معه أن يصلوا هناك»7 ولعل الأفندي المشار إليه هنا هو وكيل وقفية أبو مدين كما في الوثيقة التي نحن بصددها - هذا ولا يخفى على القارىء الكريم ما كان يؤديه اليهود من هذا القبيل إلى السلطات الوثنية فالمسيحية قبل دخول المسلمين إلى هذه البلاد8. أما رِتَّر الألماني الذي عاصر زمن الوثيقة والذي كتب مؤلفه العظيم عن جغرافية فلسطين حوالي سنة ١٨٤٥ فإنه يقول أن قسماً مهماً من مساكن اليهود نفسها ببيت المقدس كان ملك الحرم الشريف فتأمل9.

ومن يطالع رحلات الفرنجة في هذه البلاد حوالي سنة ١٨٤٠م (١٢٥٦هـ)

الشكل السابع: جمع السلاح بفلسطين في عهد الحكومة المصرية. من إبراهيم باشـا إلى
الشيخ سليمان عبد الهادي وهو لا يزال محفوظاً لدى إبراهيم بك القاسم بنابلس

يجد أن قسماً مهماً من اليهود آنئذٍ في أوربة وأميركة وفلسطين كان ينتظر مجيء المسيح وجمع الشمل كما ورد في بعض الأسفار المقدسة. وكان بعضهم يعلق الآمال الكبيرة على كلام دانيال النبي في الإصحاح الثامن من سفره الكريم حيث يقول: «فسمعت قديساً يتكلم قال قديس لفلان الذي يتكلم معه إلى متى الرؤيا رؤيا المحرقة الدائمة والمعصية المدمرة وحتى متى يجعل القدس والجند مدوسين. فقال لي إلى الفين وثلاث مئة مسآء وصباح ثم يطهر القدس»

الشكل الثامن: من وثائق الحكومة المصرية في بيروت وهو لا يزال محفوظاً حتى الآن في مكتبة الجامعة
الأميركية في بيروت. قابل تنمير هذه الوثيقة بما ورد من هذا القبيل بالوثيقة الدزدارية.

كان بعضهم يعلق الآمال الكبيرة على هذه النبوة فيقول أن المراد باليوم فيها السنة وأن العدة تبتدئ من سنة ٤٥٦ ق. م. لقوله تعالى «إن سبعين عاماً حددت على شعبك وعلى مدينة قدسك»10 فيضيفون أربع سنوات إلى التاريخ المسيحي لأجل تصحيحه ويجمعون ٤٥٦ مع ١٨٤٤ (السنـة ١٨٤٠ المصححة) فيصير العدد ٢٣٠٠ كما في النبوة المشار إليها آنفاً. وكان هذا البعض من اليهود يعتقد أيضاًأنه لا بد من تعمير المدينة المقدسة وتجديد بناء الهيكل كما ورد في الإصحاح الحادي والثلاثين من سفر حزقيال النبي حيث يقول «وآخذكم من بين الأمم وأجمعكم من جميع الأراضي وآتي بكم إلى أرضكم… … … وأسكنكم في المدن وتبنى الأخربة». ووافق شيوع هذا المعتقد مجيء السر موسى مونتيفيوري الأراضي المقدسة وإكثاره العطاء كما تنص على ذلك الأصول التاريخية وكما تشهد به المستعمرة التي لا تزال تحمل اسمه حتى هذه الساعة. وإذا تذكرنا أن هولاء اليهود عاشوا في عقد من الزمن كثر فيه تسامح الحكومة المصرية وتساهلها. ومن لا يقر لمحمد علي باشا بسعة صدره وبعد نظره ورجاحة حلمه ورقة جانبه11 - نعم إذا تذكرنا كل هذه الأمور سهل علينا الاستئناس بأمر «التبليط» في الوثيقة الدزدارية التي هي موضوع بحثنا الآن واضطررنا أن نرى في موافقة التاريخ لمضمونها دليلاً آخر على أصليتها.

فبناءً على ما نعرفه من نوع ورقها وقاعدة خطها وأسلوب إنشائها وطريقة تنميرها وتاريخها وختمها وبناءً على موافقة النصوص التاريخية لها ولاهتمام اليهود بأخربة الهيكل نرانا مضطرين أن نرجح أصليتها ترجيحاً علميّاً تاماً.


  1. بفتح الميم وتسكين الدال. هو شعيب ابن الحسين الأندلسي ولد في قطنيانا في إسبانيا وتوفي سنة ٥٩٤هـ ودفن بالعبَّاد
  2. اطلب نموذجاً من هذا الخط في كتاب معرض الخطوط للآباء اليسوعيين وفي الصفحة الأولى. قابل أيضاً بما ورد من النماذج في هذه الرسالة. وانتبه تماماً إلى تعليق الألف واللام والألف واللام ألف والواو والألف وإلى كتابة الميم النهائية وغير ذلك من العلامات الفارقة
  3. اصطلاح فني كان يقصد به المراسيم الإدارية التي كانت تصدر من ديوان الباشا إلى المتسلم فقط أو إلى القاضي وحدهُ أو المفتي وغيرهم من رجال الإدارة في ذلك العصر. وضده المرسوم أو الخطاب العمومي كما في رقم ١ و٢ من المجلد الأول من مجموعة الدكتور رستم وكما في الشكل الرابع والخامس من هذه الرسالة
  4. مجموعة الدكتور رستم ج ۱ ص ۷-۸
  5. اطلب مجموعة الجامعة الأميركية في بيروت تحت سنة ١٢٥٤ - ١٢٥٦ هـ.
  6. Robinson, Ed., Biblical Researches in Palestine etc. (Boston, 1868), 1, 237
  7. James Fino, Stirring Times etc, I, 130.
  8. Münter, der Jüdische Krieg unter Trajan und Hadrian 1.c. Hieron, iu Zephanc.i. 15. "Et ut ruinam sure eis flere liceat civitatis, pretio redimunt; ut qui quondamemenant sanguinem Christi, emant lacrymas suas."
  9. Carl Ritter, (Erdkunde von Asien )The Comparative Geography of Palestine and the Sinaitic Peninsula (New York, 1866), IV. 191.
  10. سفر دانيال ص ٩ ع ٢٤.
  11. إن ما ظهر حديثاً في كتاب المسيو جورج دوان عن علاقة الباشا بالجزائر وما أثبته حضرة الأستاذ صبري في كتابه الإمبراطورية المصرية عن تمسك الباشا بسياسة المحافظة على حقوق الأمة الإسلامية لا ينقض ما أوردناه آنفاً بل بالضد فإنه يؤيد ما ورد في وثيقة الدزدار من المحافظة على حقوق الأوقاف الإسلامية.