وثيقة مؤتمر الحوار الوطني الشامل/الباب الأول: المقدمة


المقدمة


بتوفيق من الله، واستحضاراً للحكمة اليمانية، وإيماناً عميقاً بحتمية التغيير، وتمثُلاً للارادة الشعبية في الحياة الكريمة، وصل مؤتمر الحوار الوطني الشامل في آخر محطاته إلى التوافق على مخرجات تضع وطننا اليمني على بوابات مرحلة حضارية جديدة يحكم مساراتها عقد اجتماعي جديد رسمت محاوره عقول يمنية مثلت وللمرة الأولى في تاريخنا المعاصر كل المكونات السياسية والمجتمعية اليمنية، انتظمت على طاولة حوار جاد بآليات علمية وشفافة.

وبمسؤوليةٍ وطنيةٍ عاليةٍ، التأمت المكونات السياسية والاجتماعية لمؤتمر الحوار الوطني الشامل مستشعرة الأهمية القصوى للحظة التاريخية الحرجة، بمفصليتها في الرسو بسفينة اليمن بعيداً عن أتون الصراع، وخلاصاً من الفشل والانهيار الشامل الذي أنشب مخالبه في كبد الوطن، ولما تمثله اللحظة من أثر عميق فيما بعدها، باعتبار الحاضر هو من يرسم ملامح الغد اليمني المقبل.

يؤسًس هذا العقد الاجتماعي الجديد على قواعد إرساء مداميك جديدة لليمن الجديد، وكذا إجراء مراجعة عميقة وشفافة ومسؤولة لكل الاختلالات ومكامن الضعف في هياكل الدولة والممارسات السلبية التي أفضت لمشكلات سياسية واجتماعية واقتصادية وضعت اليمن ضمن قائمة الدول الفاشلة والمهددة بالانهيار.

لقد أفرز ذلك الفشل السياسي في إدارة الدولة الكثير من الأزمات ولعل أهمها على الإطلاق تمثل في تهديد مقومات الوحدة، وتنامي الشعور في الجنوب باليأس التام من إمكانية معالجة الأوضاع التي أفرزها هذا الفشل في اليمن عامة وفي الجنوب على وجه الخصوص، وارتفعت الأصوات في الجنوب في إطار الحراك السلمي الجنوبي 2007 م الذي لم يجد آذاناً صاغية تتعامل مع استحقاقاته بروح وطنية حريصة، كما أفرز ذلك الفشل ست حروب في محافظة صعدة والمناطق المجاورة لها، ألحقت أضراراً كبيرة على شتى المستويات، أثرت على الاستقرار والأمن وشهدت اصطفافات وفرزا لم يعرفها اليمن في تاريخه. وغير ذلك الكثير من جملة الإخفاقات التي امتد أثرها في شمال وجنوب البلاد في صور انهيار للخدمات، وارتفاع معدلات البطالة، وطغيان القوى القريبة من مراكز صنع القرار.

كل ماسبق متغيرات حاسمة وحتمية أدت إلى المطالبة بالتغيير في عام 2011 م وهو المطلب الذي توافق عليه كل اليمنيين كحل مرجو للخروج بالبلد من المأزق الذي كاد يقضي على كل أمل بالنهوض باليمن والحفاظ على وحدته وسلامته وكرامة أبنائه.

وللتاريخ وللأجيال، فقد كان حَمَلة لواء هذا التغيير ووقوده خيرة شباب وشابات هذا الوطن الذين خرجوا للساحات والميادين يحدوهم الأمل في إعادة رسم ملامح وطن يتنفسون فيه الكرامة والعدل والمساواة ويفخرون به منارة للمدنية والازدهار.

وعندما أصبح الوضع السياسي في عام 2011 م يُنذر بحرب أهلية لم يكن تأثيرها ليقتصر على اليمن فقط بل قد يمتد للتأثير على دول الجوار وعلى أمن خطوط الملاحة البحرية الدولية، وجد المخلصون من أبناء اليمن ومكوناته، أنفسهم ومعهم المجتمع الدولي بوجه عام ودول الخليج الشقيقة على وجه الخصوص أمام مسئولية تاريخية وإنسانية تقتضي التدخل السريع لإيجاد مخرج وحل سياسي ينزع فتيل المواجهة ويرسم خارطة طريق للانتقال السلمي للسلطة، وكان ذلك عبر إطلاق )المبادرة الخليجية( 3 أبريل 2011 م والتي سعت فيها دول الخليج لتحقيق مبدأ وفاق بين جميع الأطراف المعنية في اليمن لضمان تحول سياسي آمن في اليمن.

واستكملت هذه المبادرة عبر إطلاق )الآلية التنفيذية( للمبادرة الخليجية التي أعدت بإشراف من الأمم المتحدة.

وفي 23 نوفمبر 2011 م تم التوقيع على خطة الانتقال السلمي للسلطة في اليمن وفق المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية في الرياض في المملكة العربية السعودية لتتشكل وفقها حكومة الوفاق الوطني بتاريخ 7 ديسمبر 2011 م.

وتضمنت المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية أربع خطوات للانتقال السلمي للسلطة حثت في مُجملها على التحضير والتنفيذ لقيام مؤتمر حوار وطني شامل يهدف إلى تمكين كل المجموعات والقوى السياسية للمشاركة في اتخاذ قرارات تاريخية تتمخض عن رؤية جديدة لمستقبل البلاد حيث ينتُج عن مؤتمر الحوار الوطني الشامل المواد التي تُمثل مدخلات لصياغة الدستور الجديد بواسطة اللجنة الدستورية يتم تشكيلها بعد المؤتمر وما يلي ذلك من مشاورات عامة حول مشروع الدستور واستفتاء شعبي ينتهي باعتماد الدستور الجديد.

ويتم بعد ذلك التحضير لإجراء انتخابات عامة في نهاية العملية الانتقالية، بما في ذلك إنشاء لجنة جديدة للانتخابات، وإعداد سجل انتخابي جديد، واعتماد قانون جديد للانتخابات وإجراءها وفقاً للدستور الجديد.

وبناءً على هذه الخطوات بدأت الاستعدادات لعقد مؤتمر الحوار الوطني وذلك عبر تشكيل لجنة الإتصال في تاريخ 6 مايو 2012 م والتي كان من مهامها التواصل مع مختلف الأطراف السياسية والمجتمعية في اليمن بغرض التهيئة لمؤتمر الحوار الوطني الشامل، وفي 14 يوليو 2012 م تم تشكيل اللجنة الفنية للإعداد والتحضير لمؤتمر الحوار الوطني الشامل والتي كان من مهامها اتخاذ كل الخطوات التحضيرية الضرورية لانعقاد مؤتمر الحوار الوطني الشامل في موعده، وبنهاية عمل اللجنة الفنية تم التوصل لتوافق حول النظام واللائحة الداخلية للمؤتمر والتي حددت أهداف مؤتمر الحوار الوطني الشامل حيث أُنيطت بالمؤتمر جملة من النتائج التي يجب أن يتوصل إليها وحددها القرار الرئاسي الصادر بتاريخ 14 يوليو 2013 م، شاملة وضع أسس ومحددات عملية صياغة الدستور، وإعادة هيكلة الدولة بما يصلح اختلالات الشراكة ويعالج القضية الجنوبية، وقضية صعدة، وغيرها من القضايا ذات البعد الوطني.

وأناط القرار بمؤتمر الحوار القيام بإجراءات ذات صلة بإصلاح الخدمة المدنية والقضاء والحكم المحلي، ووضع أسس المصالحة الوطنية والعدالة الإنتقالية والتدابير التي تضمن عدم حدوث انتهاكات لحقوق الإنسان والقانون الإنساني في المستقبل، وسبل تعزيز حماية حقوق المجموعات الضعيفة بما فيها الأطفال، وكذلك السبل اللازمة للنهوض بالمرأة. وكذا الإسهام في تحديد أولويات برامج التعمير والتنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة.

كما تضمن النظام الداخلي للمؤتمر مبادئ إدارة المؤتمر وموضوعات الحوار ونسب تمثيل القوى والمكونات السياسية في المؤتمر، حيث اتسم التمثيل بالشمولية وبإتاحة مقاعد تعادل % 30 للنساء و% 20 للشباب وهو ما مثل نقلة نوعية في العمل السياسي في اليمن.

كما شمل النظام الداخلي توصيفاً للمؤتمر وهياكله ومكوناته وآليات اتخاذ القرار فيه، والتي تمثلت روحاً في مبدأ السعي للوصول إلى توافق بين مختلف مكونات المؤتمر في جميع فرق العمل وعلى مستوى المؤتمر العام.


الخطوات التي مر بها المؤتمر

في 18 مارس 2013 م تم افتتاح فعاليات مؤتمر الحوار الوطني الشامل في دار الرئاسة بصنعاء برئاسة رئيس المؤتمر رئيس الجمهورية المشير عبد ربه منصور هادي وبحضور الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي الدكتور عبداللطيف الزياني، ومبعوث الأمين العام للأمم المتحدة الأستاذ جمال بن عمر، وسفراء الدول العشر الراعية لعملية الانتقال السلمي في اليمن.

وتلت فعالية تدشين المؤتمر بدء الجلسة العامة الأولى للمؤتمر والتي استمرت لمدة أسبوعين تناوبت فيها القوى والمكونات السياسية المهيكلة وغير المهيكلة على عرض مجمل لرؤاها وتصوراتها حول اليمن الجديد، وبنهاية الجلسة العامة الأولى تم التوافق على توزيع المشاركين في المؤتمر على تسع فرق عمل.

من ثم بدأت فرق العمل نشاطها عبر انتخابات رئاسات الفرق، وتطوير خطط العمل للفترة الأولى والتي استغرقت قرابة الشهرين واستطاعت فرق العمل المختلفة التوصل إلى توافقات حول جملة من القضايا والقرارات وصلت إلى 300 قرار وتوصية في مجال الحقوق والحريات، والتنمية المستدامة، والعدالة الانتقالية، والحكم الرشيد، والجيش والأمن، واستقلالية الهيئات، كما تم التوافق في كل من فريقي القضية الجنوبية وقضية صعدة على جذور هاتين القضيتين، في حين توافق فريق القضية الجنوبية على محتوى القضية. وتم أثناء الجلسة العامة الثانية التي انعقدت في 8 من يونيو 2013 م ولأكثر من شهر التوافق على قرارات الفرق وتقاريرها النصفية، ومن ثم استأنفت فرق العمل نشاطها لاستكمال مناقشة بقية المواضيع المدرجة على جدول أعمالها في الفترة من 8 يوليو 2013 م إلى 3 أكتوبر 2013 م.

وإلى الجلسة العامة الثالثة التي عقدت على عدة مراحل (بدأت في 8أكتوبر 2013 - واختتمت في 11 يناير 2014) قدمت فرق العمل التسع خلاصة عملها تقاريراً حوت في طياتها عصارة عمل ميداني ومكتبي ونقاشات ساخنة امتدت لأشهر وتوجت بالتوافق الخلاق على محتواها، المنطلق من الحرص الجمعي على الانطلاق نحو فضاءات أرحب ليمن التغيير، استعرضت الجلسة العامة التقارير التسعة، واستمعت إلى ملاحظات المكونات عليها، لتحال هذه الملاحظات إلى لجنة التوفيق لاستيعابها وبهذا يكون المؤتمر قد أنجز مايزيد عن 1800 قرار.

ولعل أهم مسارات فرق العمل كان مسار فريق القضية الجنوبية التي هدفت إلى إيجاد حل دائم لمشكلة الجنوب في إطار دولة اتحادية تضمن التوزيع العادل للثروة والسلطة، دولة مدنية حديثة أساسها المواطنة المتساوية وإقامة نظام حكم رشيد يكفل تنمية مستدامة بكل أوجهها وتعزيز وحماية الحقوق والحريات.

هذه الوثيقة تَعرض لمجمل ما توصلت له فرق العمل حيث تعتبر المرجعية المتوافق عليها لصياغة الدستور عبر لجنة صياغة الدستور التي ستشكل لاحقاً.

وتشمل الوثيقة جميع قرارات فرق العمل إضافة إلى ملخص للمعايير الخاصة بتشكيل لجنة صياغة الدستور وباب خاص بالضمانات لتنفيذ مخرجات الحوار الوطني الشامل لما بعد المؤتمر تتوافق عليها كل الأطراف المشاركة في المؤتمر.

وإن مؤتمر الحوار الوطني وقد أفضت أعماله إلى كلمة سواء، فإنه يقدم تجربة رائدة للتسوية السياسية، واستشراف آفاق مستقبل واعد بالتغيير لبناء الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة وإرساء قواعد الأمن والسلام والتقدم.

ويقدم رسالة تاريخية للأجيال القادمة بأن الحوار الذي ينجم عن مشاركة واسعة لجميع المكونات السياسية والمجتمعية، هو الخيار الأفضل والأنسب والأسلم، والطريق الأمن الموصل الى الوفاق الوطني لحل مختلف القضايا الوطنية.

ويرسي حقيقة طالما ظلت غائبة في ادارة الحكم، والتي تتمثل بأن النهوض بالوطن وتحقيق أمنه واستقراره وازدهاره يتوقف على قاعدة المشاركة السياسية والمجتمعية التي تقبل بالآخر ولا تقصي الشركاء، وتستهجن الانفراد بالسلطة من قبل قوة سياسية، أو أسرة أو قبيلة أو فرد. ولقد عزز من مسيرة نجاح أعمال المؤتمر ماحظي به من رعاية مباشرة من القيادة السياسية ممثلة بفخامة الأخ المشير عبدربه منصور هادي رئيس الجمهورية رئيس مؤتمر الحوار الوطني الشامل، وما حظي به المؤتمر كذلك من دعم سياسي فني ولوجستي من قبل دول مجلس التعاون الخليجي العربية ومجلس الأمن الدولي، والاتحاد الأوروبي، أكد الحرص على أن يصبح مثالاً يحتذى به لحل النزاعات في المنطقة بدلاً عن الحروب.

إن من مكاسب مؤتمر الحوار الوطني الشامل، إعداد الكوادر الشبابية المشاركة والميسرة والمتطوعة في أعمال المؤتمر، والتي اكتسبت الخبرة التي تؤهلها فنياً وإدارياً للإسهام في بناء اليمن الجديد . لقد انتظر الشعب طويلاً وهو يعلق الآمال الكبيرة على ما سينتهي إليه مؤتمر الحوار الوطني الشامل من قرارات تزيح عن كاهله وطأة المعاناة من هموم المعيشة واتساع رقعة الفقر والبطالة والغلاء وغيرها من الهموم، وهو ما يوجب العمل على تعزيز الثقة بين المواطنين ومؤسسات الدولة اليمنية الجديدة التي ستقوم بموجب الدستور الجديد بما يبعث الأمل بأن هناك خطوات ملموسة من التغيير، وفعل وطني يفي بتطلعات الشعب وتحقيق آماله.

ولتمام ذلك على النحو المأمول فإن المرحلة التالية تعد مرحلة تاريخية جديدة بالغة الدقة والأهمية تضع نتائج الجهود السابقة في المحك، لما تمثله من ترجمة عملية لها على أرض الواقع بدءاً بصياغة الدستور الجديد وما يتبعه من جهود مكثفة للوعي به شعبياً ثم الاستفتاء عليه وإقراره وإجراء الانتخابات العامة التي

يتأسس عليها قيام المؤسسات الدستورية للدولة المدنية الحديثة.

(رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ)

صدق الله العظيم