يا قلب! كم فيك من دنيا محجبة

يا قلبُ! كم فيكَ من دُنْيا محجَّبة ٍ

​يا قلبُ! كم فيكَ من دُنْيا محجَّبة ٍ​ المؤلف أبو القاسم الشابي


يا قلبُ! كم فيكَ من دُنْيا محجَّبةٍ
كأنَّها، حين يبدو فجرُها «إرَمُ»
يا قلبُ! كم فيكَ من كونٍ، قد اتقدَتْ
فيه الشُّموسُ وعاشتْ فَوقُه الأممُ
يا قلبُ! كمْ فيكَ من أفقٍ تُنَمِّقْهُ
كواكبٌ تتجلَّى، ثُمَّ تَنعِدمُ
يا قلبُ! كمْ فيكَ من قبرٍ، قد انطفَأَتْ
فيهالحياةُ، وضجَّت تحتُه الرِّمَمُ
يا قلبُ! كمْ فيكَ من كهفٍ قد انبَجَسَتْ
منه الجداولُ تجري مالها لُجُمُ
تمشي..، فتحملُ غُصناً مُزْهِراً نَضِراً
أو وَرْدَةً لمْ تشَوِّهْ حُسنَها قَدَمُ
أو نَحْلةً جرَّها التَّيارُ مُندَفِعاً
إلى البحارِ، تُغنّي فوقها الدِّيَمُ
أو طائراً ساحراً مَيتْاً قد انفجرتْ
في مُقْلَتَيْهِ جِراحٌ جَمَّةٌ وَدَمُ
يا قلبُ! إنَّك كونٌ، مُدهِشٌ عَجَبٌ
إنْ يُسألِ الناسُ عن آفاقه يَجِمُوا
كأنَّكَ الأبدُ المجهولُ...، قد عَجَزَتْ
عنكَ النُّهَى، واكْفَهَرَّتْ حَوْلَكَ الظُّلَمُ
يا قلبُ! كمْ من مسرَّاتٍ وأخْيِلةِ
ولذَّةٍ، يَتَحَامَى ظِلَّها الألمُ
غَنَّتْ لفجرِكَ صوتاً حالماً، فَرِحاً
نَشْوَانَ ثم توارتْ، وانقضَى النَّغمْ
وكم رأي لَيْلُك الأشباحَ هائمةً
مذعورةً تتهاوى حولها الرُّجُمُ
ورَفْرَفَ الألمُ الدَّامِي، بأجنحةٍ
مِنَ اللَّهيبِ، وأنَّ الحُزْنُ والنَّدَمُ
وكمْ مُشَتْ فوقكَ الدُّنيا بأجمعها
حتَّى توارتْ، وسار الموتُ والعدمُ
وشيَّدتْ حولك الأيامُ أبنيةً
مِنَ الأناشيدِ تُبْنَى، ثُمّ تَنْهدمُ
تمضي الحياةُ بما ضيها،وحاضِرها
وتذْهَبُ الشمسُ والشُّطآنُ والقممُ
وأنتَ، أنتَ الخِضمُّ الرَّحْبُ، لا فَرَحٌ
يَبْقَى على سطحكَ الطَّاغي، ولا ألمُ
يا قلبُ كم قد تملَّيتَ الحياةَ، وككمْ
رقَّيتَها مَرَحاً، ما مَسَّك السَأمُ
وكمْ توشَّحتَ منليلٍ، ومن شَفَقٍ
ومن صباحٍ تُوَشِّي ذَيْلَهُ السُّدُمُ
وكم نسجْتَ من الأحلام أرديةً
قد مزَّقّتْها الليالي، وهيَ تَبْتَسِمُ
وكم ضَفَرتَ أكاليلاً مُوَرَّدةً
طارتْ بها زَعْزَعٌ تدوي وتَحْتَدِمُ
وَكَمْ رسمتَ رسوماً، لا تُشابِهُهَا
هذي العَوَالمُ، والأحلامُ، والنُّظُمُ
كأنها ظُلَلُ الفِردَوْسِ، حافِلةً
بالحورِ، ثم تلاشَتْ، واختفى الحُلُمُ
تبلُو الحياةَ فتبلِيها وتخلَعُها
وتستجدُّ حياةً، ما لها قِدمُ
وأنت أنتَ: شبابٌ خالدٌ، نضِرٌ
مِثلُ الطَّبيعةِ: لا شَيْبٌ ولا هرَمُ