يسألونك (1946)/رسالة الأديب
رسالة الأديب
كتب الأستاذ توفيق الحكيم من برجه العاجي مقالًا يقول فيه: «إن الدولة لا تنظر إلى الأدب بعين الجد، بل إنه عندها شيء وهمي لا وجود له ولا حساب»
ثم يقول: «إن انعدام روح النظام بين الأدباء، وتفرق شملهم، وانصرافهم عن النظر فيما يربطهم جميعًا من مصالح، وما يعنيهم جميعًا من مسائل قد فوَّت عليهم النفع المادي والأدبي، وجعلهم فئة لا خطر لها ولا وزن في نظر الدولة»
وكتب مقالًا آخر يسأل عن أدبائنا المعاصرين: هل فهموا حقيقة رسالتهم؟ ويذكر ما يصنعه أدباء أوروبا «كلما هبت ريح الخطر على إحدى هذه القيم — وهي الحرية والفكر والعدالة والحق والجمال — وكيف يتجرد كل أديب من رداء جنسيته الزائل؛ ليدخل معبد الفكر الخالد، ويتكلم باسم الهيئة الواحدة المتحدة التي تعيش للدفاع عن قيم البشرية العليا» ثم يقول بعد أن وصف سوء حال الأدب في مصر:
أمام كل هذا وقف الأدب ذليلًا لا حول له ولا طول، وضاعت هيبة الأدباء في الدولة والمجتمع، وأنكر الناس ورجال الحكم على الأديب استحقاقه للتقدير الرسمي والاحترام العام، فالعمدة البسيط تعترف به الدولة، وتدعوه رسميًّا إلى الحفلات باعتباره عمدة، أما الأديب فمهما شهره أدبه فهو مجهول في نظر الرجال الرسميين، ولن يخاطبوه (قط) على أنه أديب»
كلام الأستاذ الحكيم في هذين المقالين هو الذي ابتعثني إلى التعقيب عليه فيما يلي من خواطر شتى عن رسالة الأديب، وشأن الأديب والدولة، ومستقبل الأدب في الديار المصرية، أو في الديار الشرقية على الإجمال.
فهل من الحق أن الأدب محتاج إلى اعتراف من الدولة لحقوقه؟
أما أنا فإنني لأستعيذ بالله من اليوم الذي يتوقف فيه شأن الأدب على اعتراف الدولة، ومقاييس الدولة ورجال الدولة.
لأن مقاييس هؤلاء الرجال ومقاييس الأدب نقيضان، أو مفترقان لا يلتقيان على قياس واحد.
فمقاييس الدولة هي مقاييس القيم الشائعة التي تتكرر وتطرد، وتجري على وتيرة واحدة.
ومقاييس الأدب هي مقاييس القيم الخاصة التي تختلف، وتتجدد وتسبق الأيام.
مقاييس الدولة هي عنوان الحاضر المصطلح عليه.
ومقاييس الأدب هي عنوان الحرية التي لا تتقيد باصطلاح مرسوم، وقد تنزع إلى اصطلاح جديد ينزل مع الزمن في منزلة الاصطلاح القديم.
مقاييس الدولة هي مقاييس العُرف المطروق، ومقاييس الأدب هي مقاييس الابتكار المخلوق.
مقاييس الدولة هي مقاييس الأشياء التي تنشئها الدولة، أو تدبرها الدولة أو ترفعها الدولة تارة وتنزل بها تارة أخرى.
ومقاييس الأدب هي مقاييس الأشياء التي لا سلطان عليها للدول مجتمعات ولا متفرقات، فلو اتفقت دول الأرض جميعًا لما استطاعت أن ترتفع بالأديب فوق مقامه أو تهبط به دون مقامه، ولا استطاعت أن تغير القيمة في سطر واحد مما يكتب، ولا في خاطرة واحدة من الخواطر التي توحي إليه تلك الكتابة.
ومن هنا كان ذلك العداء الخفي بين معظم رجال الدولة ومعظم رجال الأدب في الزمن الحديث على التخصيص.
لأن رجال الدولة يحبون أن يشعروا بسلطانهم على الناس، ويريدون أن يقبضوا بأيديهم على كل زمام، فإذا بالأدب وله حكم غير حكمهم، ومقياس غير مقياسهم، وميدان غير ميدانهم، وإذا بالعصر الحديث يفتح للأدباء بابًا غير أبوابهم، وقبْلة غير قبلتهم التي توجه إليها الأدباء فيما غبر من العصور.
ولو بلغنا إلى اليوم الذي تعترف فيه الدولة بالأدباء لما اعترفت بأفضلهم، ولا بأقدرهم ولا بأصحاب المزية منهم، ولكنها تعترف بمن يخضعون لها ويرضون كبرياءها، ويهبطون أو يصعدون بغضبها أو رضاها.
ولسنا في مصر بدعًا بين دول المغرب والمشرق، فما من دولة في العالم تعترف بأمثال برنارد شو وبرتراند رسل ورومان رولان، كما تعترف بالحثالة من أواسط الكتاب.
هذا عن الأدب وشأنه المعترف به بين رجال الدول، فماذا عن التفرق والتجمع، أو عن أثر هذا أو ذاك في تقويم أقدار الأدباء؟
أصحيح أن الأدباء في حاجة إلى الاجتماع؟
أنفع من هذا وأقرب إلى تبيين الصواب أن تسأل: هل صحيح أن شاعرين يشتركان في نظم قصيدة واحدة؟ وهل صحيح أن مصورين يشتركان في رسم صورة واحدة؟ وهل صحيح أن الأدب في لبابه عمل من أعمال التعاون والاشتراك؟
الحقيقة أن الأدباء حين يخلقون أعمالهم فرديون منعزلون، فلا حاجة بهم إلى محفل يسهل لهم الخلق والإبداع، ولا فائدة لهم على الإطلاق من اتفاق أو اجتماع.
والحقيقة أن التعاون إنما يكون في مسائل الحصص والسهوم والأجزاء، ولا يكون في مسائل الخلق والتكوين والإحياء.
لأن الفكرة الفنية كائن حي ووحدة قائمة ليس يشترك فيها ذهنان، كما ليس يشترك في الولد الواحد أبوان.
فإذا كان تعاونٌ بين الأدباء، فإنما يكون على مثال التعاون بين الآباء.
إنما يكون تعاونًا على رعاية أبنائهم وحماية ذرياتهم، وقلما يحتاج الآباء إلى مثل هذا التعاون إلا في نوادر الأوقات.
فإذا اجتمع الأدباء فلن يرجع اجتماعهم إلا إلى حواشي الأدب أو «ظروف» الأدب كما يقولون، دون الأدب في صميمه.
وإذا اجتمع الأطباء فهناك طب واحد، أو اجتمع المحامون فهناك قانون واحد، وقضاء واحد، أو اجتمع المهندسون فهناك هندسة واحدة وبناء واحد، فكيف يجتمع الأدباء كما يجتمع الأطباء والمحامون والمهندسون، وكل أديب منهم نموذج لا يتكرر، ونمط لا يقبل المحاكاة، وأدب تقابله آداب متفرقات.
إن محاميًا قديرًا ليغني عن محام قدير، ولكن هل يغني أديب كبير عن أديب كبير؟ وهل ينوب خالق في الفنون عن خالق آخر في الفنون؟ كلا … لن ينوب هذا عن ذاك ولن يختلط هذا بذاك، كما أن الوجه الجميل لا ينوب عند عاشقه عن الوجه الجميل، ولو اشتركا معًا في صفة الجمال.
كل أديب نمط وحده، وكل أديب في غنى عن سائر الأدباء، إلا أن يتعاونوا كما أسلفنا في الحواشي والظروف دون الجوهر واللباب.
أللأديب رسالة؟
نعم، ليس بالأديب من ليست له في عالم الفكر رسالة، ومن ليس له وحي وهداية.
ولكن هل للأدب كله رسالة تتفق في غايتها مع اختلاف رسائل الأدباء، وتعدد القرائح والآراء؟
نعم، لهم جميعًا رسالة واحدة هي رسالة الحرية والجمال.
عدو الأدب منهم من يخدم الاستبداد، ومن يقيد طلاقة الفكر، ومن يشوه محاسن الأشياء.
وخائن للأمانة الأدبية من يدعو إلى عقيدة غير عقيدة الحرية، أفيدري الأستاذ توفيق ما هو — في رأيي — خطب الثقافة الإنسانية الذي يخشاه دوهامل ويشفق منه كُتَّاب أوروبا كافة على مصير الذوق والتفكير والفن والشعور المستقيم؟
أفيدري الأستاذ توفيق ما هو — في رأيي — سر الفتنة الحسية التي غلبت على الطبائع والأذواق، وتمثلت في ملاهي المجون أو ملاهي الأدب الرخيص؟
سرها الأكبر هو وباء «الدكتاتورية» الذي فشا بين كثير من الأمم في العصر الأخير.
لأن الدكتاتورية كائنة ما كانت ترجع إلى تغلب القوة العضلية على القوة الذهنية والقوة النفسية.
ولأنها ترجع بالإنسان إلى حالة الآلة التي تطيع وتعمل بغير مشيئة وبغير تفكير.
وأين تذهب المعاني والثقافات بين القوى العضلية والآلات؟
وأين الأديب الذي يستحق أمانة الأدب وهو يبشر بدين الاستبداد؟!
لهذا بقيت عقول تكتب وقرائح تبدع في الشعوب الديمقراطية، ولم يبق عقل ولا قريحة في بلد من بلاد الدكتاتورية.
فإذا تعطلت الكتابة والإبداع بعض التعطيل في أمة ديمقراطية، فإنما تتعطل من حالة فيها تشبه أحوال الاستبداد، وهي انتشار الكثرة العددية بين جمهرة الشعراء، والرجوع بالذوق إلى العدد الكثير دون المزية النادرة، أي: الرجوع به إلى «الثورة العضلية» لا إلى الحرية أو المزية الفردية.
لكل أديب رسالة.
ورسالة الأدباء كافة هي التبشير بدين الحرية والإنحاء على صولة المستبدين، فما من عداوة للأدب ولا من خيانة لأمانة الأديب أشد من عداوة «القوة العضلية» وأخون من خيانة الاستبداد.