يسألونك (1946)/سؤالان متباعدان
سؤالان متباعدان
جاء في في هذا الأسبوع سؤالان متباعدان من طرفين متقابلين : أحدهما من أديب يسأل عن أبي تمام ، والآخر من أديب يسأل عن المدرسة الحديثة في التصوير ، أو عن المدرسة التي تزعم أنها تعتمد في تصويرها على الوعي الباطن ولا تعتمد على المشابهات المحسوسة . أما الذي يسأل عن أبي تمام فيسرد أسماء الشعراء الذين كتبت عنهم كتبا أو فصولا في كتب ثم يقول : «... ولكن شاعرة واحدة لم يفز منك بالإيجاب أو السخط ، ولم يظفر منك تزيين أو تهجين ، وهو أبو تمام . ما الذي أبعدك عنه وما الذي أبعده منك ؟ أما أنا فأعتقد صادقا أو كاذبة أن شعرك وشعره ينبعان من منبع واحد ... » ثم يقول : « فأبو تمام الذي أحدث ضجة في عصره ، والذي كتب عنه الآمدي وغيره ، والذي كان مثالا للشعراء يحتذونه ويقلدونه ، لا يظفر في المهد الحديث يبحث أو بكتاب أو بطبع ديوانه طبعة أنيقة . ليس هناك شاعر يمثل عصره تمام التمثيل إلا هذا الشاعر . وليس هناك شاعر يعلم البحث والتفكير والتعمق إلا هذا الشاعر ؛ ولكنه ينسى و يقدم المجنون ابن الرومي، ويهمل ويذكر رهين المحبين أبو العلاء ، ويكتب عن بشار وأبي نواس و دعبل ولا يكتب عنه ! و أبو تمام حزين ثائر من الأستاذ العقاد لأنه الذي إذا تصدى لبحث وفاه حقه ، واذا كتب عن شاعر شرقي أو غربي أعطاك صورة صادقة ناطقة طبق الأصل مهما ظننت في الظنون فأنا مطالبك بالكتابة عنه ، ومهما اعتقدت بي الفضول فأنا مقتنع بفكری راش بنظر تی... | > و وه
- * *
وأنا يعجبني الإعجاب لأنه دلیل حسن على شعور كريم ، ولا يعجبني أن يكون الإعجاب بأحد بابا لجور على آخرين. أما جواب عن سؤال الأديب : لمأكتب عن أبي تمام ؟ فأبدأه بأن أبا تمام في اعتقادی شاعر في طليعة الصفوة من شعراء العصر العباسي وشعراء العربية عامة ، و إنه حقیق بكتاب أو رسالة ضافية كغيره من الشعراء الذين كتبت عنهم أو كتب عنهم النقاد السابقون واللاحقون . ولكنني لم أعرض له لأن الغالب في كتاباتي من هذا القبيل أن ترجع إلى سبين : إنصاف مغبون ، أو تجلية ناحية قد نسيها النقاد أو فهموها على وجه آخر . 43 - وأبو تمام ليس بالشاعر المغبون ولا بالمجهول القدر في زمانه و بعد زمانه . بل لعله أصاب من الرعاية والاعتراف بالفضـل فوق حقه ، أو فوق ما أصابه معاصروه على التحقيق كذلك ليس في أبي تمام ناحية غامضة أو ناحية تتنازعها الأفهام والبدائة الفنية ؛ و إن جرى النزاع في معنى من معانيه فهو نزاع لا يتسع حتى يتناول النفس الإنسانية في آفاقها الواسعة ، ولا يترتب على البت فيه بت في مشكلة عاطفية أو اجتماعية أو عقدة عقد الحياة . فهو صاحب إجادات وليس بصاحب عالم . يسأل سائل : وما « صاحب عالم » هذه التي تميز بها بعض الشعراء وتجعلها ذريعة إلى الكتابة عن فريق وترك الكتابة عن آخرين ؟ فأقول : إن التمثيل هنا لازم لتقريب المقصود بالشاعر الذي « له عالم » والشاعر الذي لا عالم له و إن كانت له إجادات . فالملكة الشاعرية – بل الملكة الفنية عامة – هي أشبه الأشياء بالزجاجة المصورة التي ترسم ما يقابلها . فالزجاجة الحساسة الواسعة لا تدع مما يقابلها شيئا إلا رسمته وجاءت والملكة الفنية زجاجة مصورة تقابل العالم بأسره ، فإن ن كانت جاءتنا بصورة من العالم كله ، وأمكننا أن نعرف ما هو العالم كله كما رآه الشـاعي بصورة منه . حساسة واسعة في قصيدته . وإن لم تكن كذلك جاءت بقطعة منه ، و بلغت ما يتاح لها أن تبلغ في تلك القطعة المحدودة ، ولكنك لا تبادل هذه الصورة بالصورة العالمية وإن كانت تفوقها في التظليل والتلوين . إن قطعة من مدينة القاهرة حسنة التصوير لتشترى وتقتنى ولامراء ، ولكنك ـ 44 ـ إذا أردت صورة المدينة برمتها فهذه الصورة الشاملة أولى بالشراء والاقتناء من كل قطعة محدودة ، بالغة ما بلغت من إتقان التظليل والتلوين . وأبو تمام يجيد في هذا المعنى ويجيد في ذاك ، ولكنه لا يعرض لك العالم كله في حالة من حالاته ، ولا يخرج لك نسخة عالمية تقرنها إلى النسخ الأخرى التي تستمدها ج من أمثال : ابن الرومي والمتنبي والمعرى في الشعر العربي ؛ وأمثال : شكسبير وجيتي وليو باردى في الآداب الأوربية . ابن الرومي له عالم كامل من الحياة الفنية ، والمتنبى له عالم مل من الحياة العملية، والمعرى له عالم كامل من الحياة الفكرية والروحية . فالعالم بكل صورة فنية فيه ممثل في ملكة ابن الرومي ، أو في تلك الزجاجة الحساسة الشاملة التي لا تدع شيئا مما يقابلها إلا وعته على الطريقة الفنية . والعالم بكل صورة عملية فيه ممثل في ملكة المتنبي ، كما تمثل عالم الفكر والروح جميعا في ملكة أبي العلاء . حياة كاملة تعرضها من جانبها كل ملكة من هذه الملكات فنقول : إن نسخة من صور العالم قد زادت في مجموعتنا الأدبية . أما أبو تمام فلا يعطينا نسخة من صور العالم على نحو خاص به ، أيا كان هذا «النحو في قيمته ومرماه . عنده صورة حسنة جـداً لمسجد السلطان حسن ، وصورة حسنة جداً لقنطرة قصر النيل ، وصـورة حسنة جداً للهرم ؛ ولكن مدينة القاهرة كلها ليست هناك ، سواء « حسنة جداً » أو حسنة قليلا ، أو غير محسنة على الإطلاق . )
وهذا الذي نعنيه بالشاعر الذي له عالم ؛ وهـذا هو المقياس الإنساني الصحيح للشاعرية الممتازة في بابها ؛ لأن الشاعرية ملكة إنسانية قبل كل شيء ، وملكة لغوية أو بيانية بعد ذاك وما قاله الأديب عن ابن الرومي لا يدل على أن كتاباً ضخماً في شرح أدبه 1201 كثير عليه ؛ بل يدل على أنه لا يزال في حاجة إلى كتب ضخمة إلى جانب ذلك الكتاب للتعريف بقدره ، والتنبيه إلى دقائقه ، والوصول إلى فهم الأدب والشعر عن طريق فهمه . فابن الرومي في الملكة الشعرية الفنية قمة لا تطاولها القمم ، مثـل لا تقاربه الأمثال ، طراز ليس له في الدنيا نظير . نعم في الدنيـا أقول ولا أقول في أدب العرب أو أدب الفرس أو أدب الروم أو أدب أمة واحدة من الأمم . في الدنيا كلهـا لا نعرف نظيراً لابن الرومي فيها رزقه الله ملكة التصوير الفنى ومن القدرة الشعرية على استيعاب كل مرئى رآه وكل محسوس أحسه وكل خالجة جرت بين طواياه . في الدنيا كلها نقول ونحن نعنى ونعلم ما نقول . ومن لم يفهم هذا فليجتهد في فهمه، قبل أن يجتهد في رفض رأى ليس عنده من أسباب رفضه مثل ما عندنا من أسباب الذهاب إليه ، وأسباب تأييده . بيتان اثنان من شعر ابن الرومي يصلحان لتقريب هذه الحقيقة ، لأنهما نظا بمحض الباعث إلى التصوير الفنى ، ولم ينظمها محاكاة للموضوعات التي يتناقلها الشعراء وهذان البيتان ها قوله في وصف حقل من الكتان : وجلس من الكتان أخضر ناعم نوشته داني الرباب مطير ذوائبـه حتى يقال غدير إذا اطردت فيه الشمال تتابعت بيتان ليس لها رنين ولا بهرج ولا بارقة من المحسنات وأفانين الأناقة ؛ ولكنهما لا يدعان محسوسة واحدة من محسوسات حقل الكتان إلا وعياها وسجلاها والتهماها كما يلتهم الفم الجائع ما يشتهيه . فالصورة المرئية لها عناصرها التي تتم بها من جميع نواحيها : عنصر النظر كله ، وعنصر اللون ، وعنصر اللمس ، وعنصر الوقت الذي تراهافيه ، وعنصر الموقع الذي تقع فيه من المكان ، وعنصر الحركة . - 27- ما من شيء يبقى في الصورة المرئية بعد استيعاب هذا ، وما من شيء من هـذا لم يستوعبه ذالك البيتان . في كلمة « جلس » تمثيل للمنظر كله . اختارها ولم يختر كلمة حقل أو مزرعة أو ما شابه هذه الكلمات ، لأنها تمثل المنظر تمثيلاً لا يتفق لسواها . وأخضر تذكرنا اللون ، وناعم تذكرنا اللمس ، والتوسن يذكرنا وقت الوسن وشعور الوسن في وقت واحد ، وداني الرباب المطير يمثل لنا حواشي المكان حيث تحيط بذلك الكتان ، واطراد الذوائب كاطراد الغدير يمثل لنا الحركة على أحسن تشبيه وأصدق محاكاة . تمت الصورة على هذا النحو لأن كل حاسة من حواس هذا الشاعر الخالد هي في جوعها إلى محسوساتها كالفم الجائع إلى الطعام الذي تقوم به الحياة . زجاجة حساسة شاملة لاتخطىء شيئاً مما يقابلها ، وتصيبه لأنهـا حية حية بالغة ، ر في الحياة ، لا لمراعاة النظير ولا لتجويد المحسنات ولا لطرق الأبواب التي تقـدم بطرقها الشعراء . إذا قرىء ابن الرومي على هذا النحو عرف ابن الرومي شاعراً لا نظير له في آداب الدنيا ، و إنما الطريق إلى قراءته على هذا النحو أن نحس كما أحس وأن د نعلم ما عنده لنبحث عنه ونلتفت إليه ونظفر به حيثما وجدناه . ولمن شاء أن يذكر بي ماشاء من أبيات وصفه أبين له ما فيها من عناصر الاستيعاب التي لم تتفق لغيره من الشعراء ، فإنما وصفه لجلس الكتان نموذج قريب المتناول لسائر الأوصاف . أما الأديب الذي يسألني عن غلاة المحدثين من المصورين فينتظر منى جواباً مسهباً عن مدرستهم ومدارس أمثالهم في سائر الفنون ، لأن هذه البدعة قد عمت فنوناً أخرى ولم تنحصر في التصوير . والذي أراه أن الإسهاب هنا فضول لا حاجة إليه ، لأن بطلان الأساس الذي - ٤٧ - قامت عليه هذه المدرسـة قد يظهر في بضعة سطور . فالمصورون على مذهب الغلاة المحدثين ينسون قواعد الرسم وينسون ملامح الشبه ، و ينسون أصول التلوين ، ويرسمون الرجل فلا تعرفه بملامحه ولا بظاهر شكله بينه وبين غيره بعلامة تتفق عليها الأنظار ، لأنهم يزعمون أنهم يعرضونه لك ولا تميز بي كما يتمثل في الوعى الباطن أوكما يشعر هو في باطن وعيه ، ولا يعرضونه لك كماتراه بالعين. والخطأ هنا أن « الوعى الباطن » لم يخلق ليلغي الوعى الظاهر أو يمنعنا أن نرى الدنيا ، ولكنه خلق ليظل وعيا باطناً حيث هو في قرارة الضمير ، نستدل عليه بعلاماته التي تتفق عليها الأنظار. وما من أحد يبنى بيته أو يطبخ طعامه أو بخيط ملابسه أو يحضر دواءه على مايتصوره هذا وذاك وأولئك في وعيهم الباطن المزعوم .. فلماذا يتغير وجه الإنسان لأن له وعيا باطناً أو لأن المصور له وعى باطن ، أو ما يزعم من هذا الهراء ؟ ومن البديه أن التصوير « فن » له أدواته وتحضيراته وملكاته التي لا تشبه ملكات الفنون الأخرى ؛ فما هي الدروس التي يتعلمها المصور ليصبح على هذا المذهب مختصـاً في صناعته ؟ ما هي تلك الدروس إذا نحن ألغينـا الرسم والتلوين والملامح والأشباه ؟ أهى دروس التنجيم عن الوعى الباطن ؟ وكيف الاتفاق عليها ولا يوجد اثنان يتفقان على تسمية صورة من متعلمى ذلك التنجيم ؟ الواقع أن « الوعى الباطن » له مكان واحد من شؤون هذه البدعة المرضية ، ومكانه هو إظهار العلة المرضية التي تكمن في بواطن المصورين المشغوفين بكل بدعة من هذا القبيل فما لا شك فيه أنهم جميعاً قوم « تفهون » تتخطاهم العيون ، فهم بين مشوه أو ضئيل أو مهزوم النفس أو عاجز عن لفت النظر إليه ؛ فحيلتهم هي حيلة هذا الضرب من الناس في اتخاذ المشاكسة والتحدي والإغراب وسيلة للتنبيه إليه ، وهذه هي الحقيقة الواحدة التي لها شأن «بالوعى الباطن » في مذهب هؤلاء الغلاة ؛ فهم مصابون في وعيهم الباطن يترجمونه كارهين، ويعرضون على الناس من ثم أعراض مرض لامعارض فنون. ) ( .