يسألونك (1946)/نحو من النحو!


نحو من النحو !

و... تعلم ما كتبتموه عن العلاقة بين كبرياء المتنبي وولعه بالتصغير في الهجاء ، وإنه أكثر ماری مصغرة حين يهجو مغيظة مخنقا أو يستخف متعالية محتقرة كما يقول عن كويفير والخويدم والتنوينية والأحيق والأعير والشويعر وأهيل الزمان وأهيل العصر إلى آخر هذه الأمثلة التي كثرتم من ضربها وقلتم . إنه إذا لم يصفر المهجو" باللفظ صغره بالمعنى ، فكان أعداؤه اللثام عنده شيئا قليلا كما قال : يؤدي القليل من العام بطبعه من لا يقل كما يقل ويلؤم وإنه قد يلعب هذا الإحساس المائل في نفسه على الدوام لعب اثر، بعادة مغروسة فيه فيتخذ منه تكة نحوية كقوله على ذكر ابني عضد الدولة : وكان أبنا عدو کا ثمراه له باءی حروف أنيسيان يريد أن يقول : إذا كاثر العدو عضد الدولة بابنين كإبنيه جعل الله ابنتي العدو کیاءين تضافان إلى كلة إنسان قتريداته في عدد الحروف وتنقصانه في القدر ثم قلتم : وهذا غير غريب من رجل شديد الإحساس بالصغر واعتاد التصغير باللفظ وعرف عنه إدمان الاطلاع على كتب النحو » « وقد اطلعنا أخيرة على مقالة في مجلة الثقافة لبعضهم يقول فيها : إن هذا من طغيان النفسانيات على الأدب ، وأن التصغير في شعر المتني لم يكن اتكبره وإنما هو أداة من أدوات الهجاء يعرفها شعراء هذا الفن في الأدب العربي وفي غيره من الآداب : أداة أصيقة بفن أدلي بذاته لا وليدة الطبيعة نفسية عند من يستخدمها ، وليست هناك رابطة تلازم بين التكبر والتصغير حتى ولا في شعر المتنبي نفسه لأنه قد يستخدمه للتعليم كما قال : أود أم سلماس في أحاد ليلتنا المنوطة بالتنادی إلى آخر ما جاء في مقالة الثقافة فهل لكم أن تدلوا برأيكم في تعقيب الكاتب لأنه تفسير لرأيكم وفيه بيان لمسألة من مسائل النفسيات والأدب ؟ ... الخ والذي نراه في التنقيب الذي أشار إليه الأديب أن استعمال التصغير للتعظيم لا يبطل استعماله للتحقير ، وأن صيغة التصغير ليست أداة لصيقة بكل ماء كما جاء في مقال الكاتب بمجلة الثقافة ، فلا يزال استخدام المتنبي هذه الصيغة بتلك الكثرة 10- التي لم تعهد في شعر غيره أمراً يرجع إلى خلائقه الشخصية ويرجع البحث فيـه إلى النفسيات التي لا انفصال بينها وبين الأدب ، لأن الأدب قبل كل شيء تعبير عن شعور ، وليس أولى من النفسيات بالبحث في كل شعور . فليست صيغة التصغير أداة لصيقة بالهجاء ، ولم نرها قط بهذه الكثرة في أشعار الهجائين المنقطعين لهذا الباب أو المشهورين به قبل سائر الأبواب والمتنبي لم يكن من شعراء الهجاء المشهورين به في اللغة العربية ، و إنما اشتهر به شعراء آخرون كالحطيئة وجرير والفرزدق ودعبل وابن الرومي على التخصيص . فلم لم يكثر التصغير في أشعار هؤلاء الهجائين ؟ ولم كان المتنبى منفرداً بهذا الإكثار ؟ مرجع الأمر إليه لا إلى الهجاء ، وأقرب شيء أن يخطر على البال أنه استصغر لأنه تكبر ، وأنه صبغ هجاءه بصبغته النفسية فاختلف من هذه الناحية ، لأنها هي ناحية الاختلاف بينه و بين غيره من الهجائين من اللغات . على أن الهجاء ضروب وليس بضرب واحد في اللغة العربيـة أو فيما عداها ومرجع الأمر في تعدد ضروبه إلى تعدد النفوس وتعدد الأمزجة وتعدد الشعور الذي يشعر به الماجي نحو من يهجوه . فهناك هجاء الرجل الوضيع المهين وهناك هجاء الرجل المتكبر العزيز وهناك هجاء الرجل المهذب الشريف وهناك هجاء المتوقح البذيء وهناك هجاء التهكم والسخرية ، وهجاء العنف واللدد ، وهجاء النقد ، وهجاء الإيذاء ومناط التفرقة بينها هو النفسيات وما تشمله من فوارق الحس والعاطفة ، وليس ا المرجع فيها إلى باب في علم النحو يتكلم على مواضع التصغير . <- 07- وأعجب شيء يقال هو أن المتنبي لم يستصغر لأنه متكبر ، بل أكثر من التصغير لسبب آخر ... ثم لا يدرى أحد ما هو ذلك السبب الآخر ؟ لم يمتنع الاستصغار بسبب التكبر ؟ ولم لا يكون التكبر سبباً للاستصغار ؟ أي عجب في ذلك ؟ بل أي مخالفة فيـه للمعقول والمعهود ! بل أي شيء أقرب منـه إلى الفهم والتعليل ؟ أيمتنع هذا القول لأنه من النفسيات وكل ما كان من النفسيات فهو ممنوع غير مقبول ؟ أيمتنع لأن قراراً مجهولا لا نعرف نحن مصدره قضى بمنعه وتحريمه وإقصائه من عالم الفرض والتقدير ؟ إننا لا ننفى أن المتنبي كان متكبراً مطبوعاً على الكبرياء ، ولا ننفى أن المتكبر مطبوع على أن . ، يستصغر الناس ، ولا ننفى أن صيغة التصغير تستعمل للتصغير والتحقير ، فلماذا ننفي أن ولع المتنبي بالتصغير مرجعه إلى طبيعة الكبرياء فيه ؟ لمان لماذا ؟ للنفسيات التي يسمع باسمها من يسمع فيظن أنها حجاب حائل بين المتنبى والاستصغار بصيغة التصغير ؟ أما أن المتنبي قد استعمل التصغير للتعظيم والتكبير ، فهو إذا صح لا يمنع أن التصغير يستخدم أيضاً للتصغير ، بل هو الأصل والتعظيم مجاز عارض عليه . يقول أحد إثنى رأيت المليات في أيدى الفقراء ، فيجيء سامع بالنفسيات - أو قل سامع بالاقتصاديات – فيقول : كلا . كلا . هذا بعيد ! هذا غير معقول ! هذا إقحام للاقتصاديات في شئون الحس والعيان! لأنني رأيت بعيني المليات في خزانة المصرف الكبير ، وفي خزانة الغنى العظيم ! كلام ظريف ! نعم ظريف كذلك الكلام الذي يبطل باب التصغير للتصغير جملة واحدة لأن التصغير قد استعمل حيناً في معنى التكبير ...! ev - على أن البيت الذي قيل إن المتنبي خالف فيه هذه السنة لا يدل بمعنى من معانيه على أنه قد نسى فيه الكبرياء أو نسى عادة الاستصغار فهو يقول في وصف الليلة التي ضاق بها : أحاد أم سداس في أحاد لييلتنا المنوطة بالتنـــــــادي ومن الميسور أن يلحظ القارىء لهجة التأفف في تصغيره تلك الليلة المبرمة كأنه يستكبر أن يعروه الضيق من ذلك الشيء الصغير ، و إن لج به المطال وهبه مع ذلك كان ينوى التعظيم والتقديس لتلك الليلة المبرمة ولا ينوى أن يتأفف منها ويستكثر عليها أن تبرمه وتثقل عليه ، فهل كلمة في قصيدة واحدة تبطل عشرين كلة في عشرين قصيدة ! ؟ وهل يحصل كل هذا لأجل خاطر « النفسيات » قدس الله سرها وبارك في عمرها ! ولقد كان كثيراً من كاتب المقال الذي أشار إليه الأديب صاحب الخطاب أن التحقير والتكبير في صيغة التصغير يتساويان ! فأما أن يقول إن التحقير هو الممتنع الذي لا يعقل، وأن الاستصغار من جانب المتكبر المطبوع على الكبرياء هو الغريب المريب فتلك نفسيات الله درها من نفسيات !! وفنون حماها الله من فنون !! وما نشك في أن الأديب « محمد جابر » رجل يريد أن يضحك ولا يريد في الحقيقة تفسيراً لما هو غنى عن التفسير ؛ فإن لم يجد شبعه من الضحك في طراز تلك النفسيات ومعرض تلك الفنون فغاية ما عندي من القول أن المتنبي رحمه الله لم يشرفنى بأمانة سره ، ولم يطلعنى على دخائل صـدره ، فإذا كان قد ذكر لبعضهم أنه لم يولع بالتصغير لقصد التصغير فهو وذمته فيها ادعاه ، وللأديب عليـه اليمين الحاسمة إن تردد في قبول دعواه ! . أما نحن فغاية ما نعلمه أن المتنبي كان رجلا متكبراً ، وأن المتكبر يستصغر النـاس فلا عجب أن يولع بصيغة التصغير . وهذا حسبنا وحسب القارىء فيما زعمناه . أن يزعم 6