يسألونك (1946)/وأمنيتي…!


وأمنيتي ...!

«… فهمنا من مقالكم «أمنيتي» ما هي العلاقة بين الفروسية وقرض الشعر، أو بين أن تتمنى قيادة الجيوش، وأن تتمنى النبوغ في الأدب، ولكن تسمحون لي أن أقول: إن العلاقة بين التدين والأدب لا تزال غير جلية، فهل تتفضلون بتوضيحها …

… ولا أدري هل تمنيتم الأدب ولم تتمنوا شيئًا آخر من الدنيا؟ ألم تتمنوا السعادة مثلًا؟ ألم تتمنوا لذة من لذات الحياة؟ أليس الحب أمنية للشاعر وإخوانه من رجال الفنون الجميلة؟ فما قولكم في هذا؟ هل يغني الأدب وحده عن كل هذه الأماني المحبوبة؟!»

***

هذه نبذة من خطاب مطول في التعقيب على مقالنا السابق عن أمنيتي في الحياة، نعود بها أو تعود بنا إلى هذا الموضوع الذي لا يزال أبدًا في حاجة إلى تكملة كاحتياج المرء إلى التمني، واستكناه ما يتمناه، وإطالة القول في هذا وذاك.

ويلوح لي أن الأديب المستفهم يبحث عن علاقة بين الأدب والتدين، كالعلاقة بين الأدب ونظم الشعر في ميدان القتال للتحدي والتهويل على الأنداد.

فالشعر قريب من الفروسية؛ لأن الفرسان كانوا ينظمون الشعر بين الصفوف، فهم فرسان شعراء، والقرابة بين الطائفتين واضحة على هذا المنوال.

ولكن ما هي العلاقة بين الإيمان الديني والنزعة الأدبية؟ هنا يقول الأديب المستفهم: إن العلاقة يحيط بها شيء من الغموض.

والواقع أن العلاقة هنا أوضح وأقرب إذا بحثنا عن المناسبات السطحية التي من قبيل نظم الشعر بين صفوف القتال للتحدي والتهويل؛ فإن كثيرًا من الشعراء ينظمون في الأغراض الدينية، وفي الغزل الإلهي، وفي شطحات الصوفية وأهل الطريق، فإن كان هذا هو المقصد من العلاقة بين الإيمان الديني والنزعة الأدبية، فما أوضح الموضوع وما أبعده من الغموض! إن الشعراء الصوفيين لا يقلون عن الشعراء الحماسيين، وقصائدهم رائجة بين الناس كرواج قصائد الفرسان؛ لأن حلقات الأذكار وما يشبهها أشيع في الأندية والمجالس التي تنشد فيها سير الأبطال بلغة الفصحاء أو بلغة العوام.

ومن ذكرياتي في هذا الصدد أنني نظمت الشعر في الأغراض الدينية، كما نظمته في المناجزة والدعوة إلى القتال.

فقد أسلفت بمقالي السابق أنني أوشكت أن أسلك طريق «الدروشة»، وأنقطع عن الدنيا ومساعيها، وكنت خلال ذلك أسمع الأذان من مؤذن المسجد المقارب لبيتنا وهو منشد مشهور بجمال صوته وحسن إلقائه، فكان يشجوني أن أسمع مقدمات الأذان قبل صلاة الجمعة، وهي الأناشيد الثلاث التي كانوا يسمونها حسب ترتيبها بالأولى والثانية والثالثة، وكلها من الشعر المنظوم في التصوف أو مدح النبي — عليه السلام.

وكان مسموحًا للناشئين أن ينشدوا هذه القصائد مع المؤذن أو على انفراد، كان إنشاد الناشئين مفضلًا مستحبًّا؛ لأنهم أقرب إلى صفاء النفس وطهارة العبادة.

فاستأذنت في إلقاء إحدى هذه القصائد مرات، واخترت في بداية الأمر شعرًا من دواوين البرعي وأمثاله، ثم تجرأت على نظم قصيدة طويلة أحكي بها شعر المديح النبوي، وأنشدتها دون أن أخبر أحدًا بأنني ناظمها، وخفت أن يستكثروها عليَّ بعد ظهور الحقيقة، فختمتها ببيت لا أذكر منه إلا الشطرة الأخيرة، وهي: «عباس من هو بالأشعار مدرار»

وإنما أذكرها لأنها هي الشطرة الوحيدة التي انتقدها أبي — رحمه الله — حين أطلعته على الحقيقة، فتبينت الفرح في أسارير وجهه والتشجيع في صريح كلامه، ولكنه قال لي برفق: ما ينبغي أن تثني على نفسك هذا الثناء وأنت ترى كيف يختتم الأئمة المادحون قصائدهم بالتذلل والتوسل وتصغير ما قالوه وأسلفوه من الصلوات والعبادات.

فهذه علاقة بين التدين ونظم الشعر، كالعلاقة بين نظم الشعر والحماسة العسكرية، ولكنها كما قدمت علاقة سطحية توجد بين الأدب وبين كل موضوع ينظم فيه الشعراء، ففي وسعك على هذا القياس أن تقول مثلًا: إن الهندسة «الميكانيكية» قريبة من الشعر؛ لأن بعض الشعراء ينظمون في وصف الطيارة، وأن تقول كذلك: إن علم الحيوان قريب من الشعر؛ لأن بعض الشعراء ينظمون في وصف الخيل أو وصف العصافير.

إلا أنها علاقة سطحية لا يرجع إليها في استكناه أسرار الشخصية الإنسانية، وروابط الملكات والطبائع الخفية، وغير هذه العلاقة أردنا حين قلنا: «إن التعبير عن النفس يجتمع فيه عندي تحقيق وجودها ومتعتها، واستكناه حقيقتها وحقيقة ما حولها.»

فالتعبير عن النفس هو الأدب في لبابه.

وما هو التعبير الذي عنيناه؟

التعبير الذي عنيناه هو كشف المكنون، وتوضيح الأسرار وتمثيل الخفايا في صورة تخرجها من عالم الخفاء إلى عالم النور.

وهنا العلاقة الوثيقة بين أعمق أعماق الدين وأعمق أعماق الأدب: هنا العلاقة بين استطلاع أسرار الوجود وبين معرفة النفس، ومعرفة الإفصاح عن معانيها والإبانة عن أشواقها بلسان الأدب، أو بلسان الفن على التعميم.

فكل تعبير ينطوي على سر موضح مكشوف.

وأي سر أعمق من سر الوجود، وأحوج منه إلى التعبير والتقريب والإلحاح بعد الإلحاح في الاستكناه والاستطلاع!

ذلك ما أردناه حين قلنا: إن الصومعة قريبة من الروضة الأدبية، وذلك هو التعبير عن النفس بمعنى إثبات حقيقتها، وإثبات العلاقة بينها وبين الحقائق الكبرى.

ولكل نفس تعبيرها على حسب ما تحسه وتتوق إليه، فليس من الضروري أن ينتهي التعبير بكل إنسان إلى التعمق في أسرار الدين، ولكنه إذا انتهى ببعض الناس إلى التعمق في تلك الأسرار فليس ذلك بغريب.

***

أما أنني تمنيت الأدب ولم أتمن السعادة، فسبب ذلك بسيط لا نطيل الإفاضة فيه.

سببه أن السعادة أمنية عامة، وليست بالأمنية المحدودة أو الأمنية الخاصة.

فمن قال: إنه يتمنى السعادة، فكأنما قال: إنه يتمنى ما يتمناه كل إنسان، وكأنه بذلك لم يقل شيئًا يستحق السؤال.

كلنا يتمنى السعادة، ولكن سعادة هذا غير سعادة ذاك.

سعادة هذا في المعرفة، وسعادة ذاك في جمع المال، وسعادة غيرهما في السطوة والاستعلاء، وسعادة آخرين في الراحة والقناعة، وكلهم يتمنون السعادة على نحو من الأنحاء.

فإذا سألني سائل ماذا تتمنى، فهو لا ينتظر مني أن أحيله إلى السعادة مجملةً غير مفصلة، بل هو ينتظر مني أن أبين له الأمنية التي تسعدني إن ظفرتُ بها، أو التي أعتقد أن طريقها هو طريق السعادة وإن لم أصل إليها.

وكذلك لذة الحياة أو لذات الحياة، فهي مسألة وظيفة من وظائف البنية الحية، لا تحتاج إلى سؤال، وما من حي إلا وهو يشتهي أن يشعر باللذة وأن يجتنب الألم، وغاية ما بين الأحياء من فروق في هذا الباب أن يختلفوا في أسباب اللذة ودرجاتها على نحو قريب من اختلافهم في أسباب السعادة ودرجاتها.

هي وظيفة وليست أمنية.

ومن قال: إنني أطلب اللذة، فكأنما قال: إن لي معدة ولي عينين ويدين وقدمين، وذلك غني عن المقال.

***

أما الحب وأنه أمنية للشاعر وإخوانه من رجال الفنون فذلك صحيح.

ولكن من قال: إن «التعبير عن النفس» لا يشمل الحب في بعض نواحيه؟

ومن قال إن الاشتياق إلى الحب والاشتياق إلى التعبير عن النفس شيئان مختلفان؟

إن الإنسان لا يجد نفسه في شيء كما يجدها في الحب، وإنه لا يعرف ما فيها من قوة وضعف، ومن عطف وجمود، ومن رحمة وقسوة، ومن خفايا وظواهر، ومن فجيعة وضحك، ومن حكمة وحماقة، ومن إنسانية وحيوانية كما يعرف ذلك جميعه في الحب.

فالحب ومعرفة النفس صنوان.

ومعرفة النفس منتهية لا محالة إلى التعبير عنها، ولو لم يكن هذا التعبير بالمنظوم والمنثور.

ونحن حين قلنا: إن «التعبير عن النفس» يجمع ما تفرق بين الثكنة والصومعة والروضة الأدبية، فقد قصدنا أن تحيا النفس أولًا، وأن تشعر بالحياة شعورها الخاص بها قبل أن يتاح لها تمثيل ذلك في صورة من صور التعبير.

ولِمَ نخص الحب وحده بين دوافع الشعور؟

لِمَ لا نذكر المجد أو البر أو الجهاد الإنساني أو الوطنية، أو غير ذلك من معارض الشعور ومعارض الشوق إلى التعبير؟

فالتعبير عن النفس عندنا كلمة مقابلة للشعور بالنفس، ومتى شعرت النفس بحقيقتها فالعواطف الكبرى جميعًا حاضرة بغير استثناء، مذكورة بغير تسمية، معممة بغير تخصيص.