يوميات فتاة: الاضطهادات الدينية عند الرومان (2)

يوميات فتاة: الاضطهادات الدينية

​يوميات فتاة: الاضطهادات الدينية عند الرومان (2)​ المؤلف مي زيادة
ملاحظات: نشرت في جريدة المحروسة 7 يناير 1916


معلوم أن اضطهاد الرومان للمسيحيين دام نحو ثلاثة قرون، وما خفَّت وطأته إلا في عام 311 إذ تولى الحكم غاليريوس، بعد تنازل حميه ديوكليسيان عن العرش، فكان زمانه عصر تساهل، ولما جاء قسطنطين الأول لم يقتصر على هذا التسامح العملي، بل بعد استشارة قريبه لوسينيوس اتحدت كلمتهما، وأصدر الإمبراطور أمره بأن لا يتعرض أحد لإقلاق راحة المسيحيين أو لمناقشتهم في أسرار عقيدتهم، معلنًا بأنهم لن يعاقبوا من أجلها فيما بعد، ولكنه نهى عُبَّاد الأوثان عن اعتناق الدين المسيحي، أو أي دين آخر سواه (312)، وفي السنة التالية (313) جعل منشوره أتم شكلًا ومعنى إذ أباح لكلٍّ من رعاياه أن يختار من الأديان ما تميل إليه نفسه ولذا سُمِّيَ «حامي المسيحيين».

بيد أن الاضطهادات، وإن كانت حقيقة وكلها تَنُمُّ عن قسوة وحشية، فهي لم تكن مستمرة، بل كانت تتابع متقطعة من أعوام إلى أعوام بمناسبة ظروف تمر بالإمبراطورية ومشاكل تطرأ على الشعب، ويحصي المؤرخون اضطهادات عشرة على المسيحية منذ الثورة الأولى على اتباعها نحو عام 64 إلى 311 وهو عام الخلاص، ولكنَّ المسيحيين في حياتهم اليومية لم يكونوا أشقياء بل كانت حياتهم هادئة إن لم تكن خالية من الهواجس خلوًّا تامًّا، كانوا يتعاطون الأعمال على اختلافها دون أن يتعرض لهم أحد، ويختلطون بسائر الرعايا الرومانية تحت ظل القوانين التي لم تكن تستثني من الطوائف طائفةً بل كانت تحمي الجميع على السواء.

الآن وصلنا إلى النقطة الجوهرية: لماذا اضطُهِدَ المسيحيون؟

مسيو بوشي لكلرك يجيب بلا تردد: أولًا (وهو في هذا متفق تمامًا مع فولتر) اضطُهِدوا كأعداء سياسيين للإمبراطورية «وللنوع الإنساني» — كذا في سجلات روما — وثانيًا (وهو في هذا متفق إلى حين مع تاريخ الكنيسة) كمسيحيين ومن أجل ديانتهم.

نحو عام 64 قام الرومان على المسيحيين إذ عزا إليهم أكثر المعاصرين — وبعض المؤرخين فيما بعد — حرق روما في ذلك الزمن، وكان نيرون محبوبًا من الشعب حبًّا جمًّا فلما بلغه شيوع اتهامه بحرق العاصمة وأن ذلك لم يكن إلا نتيجة إيعاز قوي منه، اضطر إلى اضطهاد المسيحيين وتعذيبهم ليظهر براءته ويدل على شدة اعتقاده بأنهم مرتكبون ذلك الإثم العظيم، وكان زارعو هذه الفكرة في روما الإسرائيليين لأنه لم يسلم من أحياء المدينة إلا حيُّهم، فدسوا الشكاوى ضد المسيحيين ليبعدوا الظن عنهم وينجوا بأنفسهم ويصونوا ما كان مُعطًى لهم من الحرية في عدم السجود للآلهة واستعمال حريتهم الدينية على ما يريدون.

بعد هذا الحادث صار المسيحيون مكروهين فضلًا عن أنهم كانوا تحت وطأة ذنوب أخرى كثيرة، منها الامتناع عن عبادة الإمبراطور، لم تكن هذه العبادة إلا شبه دينية على أنها كانت توجب قَسَمًا دينيًّا، نعم، إن هذا القَسَم لم يكن يُطلَب إلا من الموظفين ومن الجنود، ولم يكن هذا ليروق في عيون المسيحيين، ولمَّا كان أحد الرعايا متهمًا بالمسيحية كان يُعرَض عليه: أولًا إنكار المسيح، ثانيًا: تقديم القربان للآلهة، ثالثًا: السجود لقيصر، وكان يجيب المسيحيون «السجودُ لله وحده» فأصبحوا — والحالة هذه — تحت وطأة جُرم سياسي مستديم.

يرى إميل فاجي أن هذا كان ذنبهم السياسي الجوهري، أما مسيو بوشي لكلرك فيرى فيه ذنبًا أوليًّا فقط ويقول: «إن هذا الدين السياسي (عبادة الإمبراطور) كان الدين الوحيد الذي تهتم له الحكومة وتغضب على كل من لم يذعن له غضبًا لا رضى بعده.»

وكانت الحكومة الرومانية — كالحكومات الديمقراطية الحالية — لا تحتمل الجمعيات والاجتماعات، ولمَّا كان المسيحيون عالمين بذلك كانوا يعقدون اجتماعاتهم سرًّا في كنائسهم، وهذا الأمر وحده كان يجعلهم مستحقِّين العقوبة، ثم إنهم كانوا ضد الخدمة في الجيوش الإمبراطوريَّة مجاهرين بأنهم لا يستطيعون أن يكونوا جنودًا ما داموا مسيحيين، ومن كتابهم «أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله»، والأمر بطاعة الله قبل طاعة البشر، والبشرى بأن ملكوت الله ليس في هذه الدنيا، إلى غير ذلك من الأقوال التي كانت تُقلِّل من سلطة الحكومة وتجعل فوق إرادتها إرادة أكثر قوة، وأمرًا لا تُحسَب أمامه الأوامر الدنيوية.

لم يكن المسيحيون في نظر حكومة الرومان إلا ثوريين وهم اضطهدوا كذلك.

المصدر عدل