مجلة الرسالة/العدد 710/أنستاس الكرملي

مجلة الرسالة/العدد 710/أنستاس الكرملي

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 02 - 1947


1866 - 1947

للأستاذ مهدي القزاز

وفاة الكرملي:

في صباح اليوم السابع من شهر يناير سنة 1947 توفي في المستشفى الملكي ببغداد العلامة (الأب أنستاس ماري الكرملي الحافي) أثر أمراض لازمته منذ مدة من الزمن كان يتغلب عليها بحيويته ونشاطه حتى تغلب عليه الأيام الأخيرة فاضطرته إلى دخول المستشفى. وكان وهو يصارع هذه الأمراض داخل المستشفى، يطالع ما يأتيه من الكتب ويرد على الرسائل التي ترده من الشرق والغرب ويجيب على الأسئلة ويستقبل زواره الذين كانوا يتوافدون للاطمئنان على صحته. حتى أصبحت الغرفة التي ينام فيها مجلسا للشعر والأدب والنقد واللغوي! وكان يشترك في بعض الأحاديث - بالرغم من مرضه الشديد ويستأنس بهذا الجو العابق بأحاديث الشعراء والأدباء الذين يفدون للسلام والاطمئنان.

وقبل وفاته بثلاثة أيام منعه الأطباء من المطالعة والكتابة ومنعواأيضاً عنه الزيارات فعاش - رحمه الله - أيامه الأخيرة في وحدة قاسية متألما من شدة المرض الذي هجم عليه هجوما عنيفا وترك هيكله الضخم حطاما لا يعرف، ولم يسهر الأطباء والعمليات التي أجريت له ومختلف أنواع العقاقير فقضى مأسوفا عليه، وأذاعت نعيه محطة الإذاعة العراقية ثم لجنة الترجمة والتأليف والنشر في وزارة المعارف وتناقلت محطات الإذاعة في الشرق والغرب هذا النعي وأبنت الفقيد بما تستحقه مكانته الأدبية وخدماته للغة العرب وتاريخهم.

تاريخ الكرملي:

ولد الكرملي في بغداد في اليوم الخامس من شهر أب سنة 1866 منحدراً من أم عراقية. ولما بلغ سن الدراسة ألحقه والده بمدرسة الكنيسة اللاتينية الابتدائية، واهتم منذ صغره بدراسة العربية ومفرداتها. وفي سنة 1886 رحل إلى بيروت ودخل المدرسة اليسوعية الاكليركية، وعلى يد أساتذتها درس اللاتينية واليونانية، ونبغ فيهما نبوغا عظيما دهش له الأساتذة. وكان إلى جانب دراسته هذه يدرس العربيةأيضاً دراسة متصلة لا تنقطع.

ولما كان طبعه الجسور لا يستقر ولا يهدأ، ومطامعه لا تقف عند حد فقد ترك بيروت قاصداً مدينة (شيفرمونت) في بلجيكيا فانخرط هناك في سلك الرهبنة وانغمر في الدراسات الفلسفية واللاهوتية، وقد فتحت له هذه الدراسات أجواء جديدة من المعرفة. ثم ترك (شيفرمونت) إلى مدينة (لاغنو) ثم مدينة (مونبليبه) في فرنسا، فأنجز دراسته في الدير الكرملي هناك ورسم كاهنا باسم (أنستاس الكرملي) ولما تم له هذا النجاح سافر إلى أسبانيا وأقام هناك مدة يتنقل في المدنالأسبانية ويدرس آثار العرب ومخلفاتهم وما تركوا من ذخائر نفسية في التاريخ والشعر واللغة والأدب، واستنسخ عدة مخطوطات هامة من الأديرة والكنائس المتاحف لا تزال محفوظة في مكتبته العامرة إلى الآن.

وبعد أن أنهى رحلته في أسبانيا رجع إلى بغداد فسلمت إليه إدارة المدرسة الكرملية وتولى فيها تدريس اللغتين العربية والفرنسية. ثم رأى ان هذا الجو يضيق بمعارفه وبتفكيره وما طبع عليه من انطلاق وتحرر وما في جلبته من حب للاستزادة من البحث والدرس فترك المدرسة وانصرف للتنقيب والتأليف في اللغة العربية وتاريخها والوقوف على أسرارها فكان لا يدخر وقتاً ومالاً في سبيل الحصول على كل مخطوط أو كتاب يرى فيه عونا لأبحاثه ودراساته.

وفي هذا التاريخ لمع اسم (الكرملي) باحثاً وعالماً لغوياً لا يجارى، فأخذ يضع التآليف القيمة والبحوث الهامة والدراسات المفيدة وينشر فصولا في المقتطف والهلال والمشرق وفي المجلات الأوربية التي قدرت سعة اطلاعه ونبوغه فأخذت تراسله وتعتمد عليه وتستشيره في الشؤون التي اختص بها. كما أن دوائر الاستشراق رأت فيه عالما مطلعا وباحثا عبقريا فاعتمدته في أبحاثها ودراساتها والإشراف على بعض ما يشكل عليها في تاريخ اللغة والأدب.

وفي سنة 1896 انشأ (الكرملي) جريدة (العرب) فعاشت أربع سنوات ثم مجلة (دار السلام) التي عاشت سنة واحدة. وفي سنة (1911) أصدر مجلة (لغة العرب) فكانت من أرقى المجلات العربية في العالم العربي حرر فيها نخبة من كتاب العراق والبلاد العربية، وقد عاشت هذه المجلة عدة سنوات ثم أغلقت. وعند إعلان الحرب العالمية الأولى سنة 1914 نفي الكرملي خارج العراق بسبب ميله الوطنية ثم أفرج عنه، وفي هذه الاستثناء انتخب عضواً في المجمع العلمي العربي بدمشق ثم عين عضواً في المجمع الملكي المصري للغة العربية.

وانصرف الفقيد بعد ذلك إلى التأليف وحضور المؤتمرات اللغوية، وكان دائب السفر بين بغداد والقاهرة والقدس وبيروت باحثاً ومستقصياً ومستنسخاً، حتى تمكن من تأليف ما يقارب الأربعين مؤلفا في الآداب واللغة والفلسفة والدين، ومن أهم كتبه المطبوعة (الفوز بالمراد في تاريخ بغداد) و (مختصر تاريخ العراق) و (وجمهرة اللغات) و (كتاب الجموع) و (كتاب العجائب) و (كتاب أديان العرب) وغير ذلك من الكتب المهمة؛ كما إنه وضع معجماً عربياً خطياً يعد حجة في بابه. وله معجم (عربي فرنسي) مطول. أما كتبه وتأليفه غير المطبوعة فكثيرة ومهمة جداً نأمل أن تقوم وزارة المعارف بطبعها خدمة للغة العربية وتأريخها ولذكرى الفقيد الراحل.

وكان الكرملي يتقن إلى جانب اللغة العربية اللغات اللاتينية واليونانية والفارسية والتركية والإنكليزية والفرنسية والأسبانية؛ وله أبحاث عديدة في هذه اللغات نشرتها مجلات الغرب في حينها وكلها تتناول لغة العرب وتاريخهم وآثارهم.

مكتبة الكرملي:

يملك الفقيد مكتبة تعد من أنفس المكتبات في العالم العربي بما حوته من كتب مخطوطة ومطبوعات نادرة. جمعها من مختلف بلاد الشرق والغرب وبذل في سبيلها أموالا كثيرة حتى كان رحمه الله يتجشم مشاق السفر في سبيل الحصول على مخطوط أو استنساخه مهما بعد المكان والقطر. ويقال إن مكتبته تحوي في الوقت الحاضر على ما يقرب من (14) ألف مجلد بمختلف اللغات جمعها الفقيد في خمسين سنة.

وحرصاً على هذا الكنز النفيس من الضياع وحرمان الجمهور من فوائده وتمكيناً للعلماء والباحثين والمطالعين من ارتياد هذه المناهل فقد تقرر بعد وفاته تأليف لجنة لتنظيم شؤون هذه المكتبة وإدارتها وإيجاد عمارة خاصة بها تفتح أبوابها للباحثين من الرواد العلم. وتأخذ هذه اللجنة على عاتقها طبع تأليف العلامة الفقيد والمخطوطات النفيسة الأخرى. والمتوقع تأليف هذه اللجنة من صاحبي المعالي الدكتور حنا خياط ويوسف غنيمة وبعض الأفاضل.

وقد علمنا أن اللجنة الثقافية في الجامعة العربية قد عهدت إلى مندوب العراق في الجامعة إبلاغ الحكومة العراقية رجاء اللجنة في أن تقتني الحكومة مكتبة المرحوم الكرملي قبل أن تضيع وتتبعثر.

أدب الكرملي:

نشأ الكرملي نشأة دينية وتثقف ثقافة فلسفية، وعكف على دراسة اللغة العربية واللغات الأخرى وانصرف لبحوث التاريخ. وبرع في علوم اللاهوت واشتغل أكثر سنوات عمره بتأليف الكتب التاريخية والفلسفية والدينية. وكان رائدا من رواد اللغة العربية وتاريخها. ولذا تجلت عبقريته في هذا اللون من الأدب وحده.

وكان حافظا وراويا من الطراز الأول لكثرة ما قرأ من الكتب وطالع من الأسفار وتتبع من الحوادث. كان الفقيد يعقد مجلسا أدبيا بداره في (دير الكرملين) في يوم الجمعة من كل أسبوع، وكان يختلف إلى هذا المجلس صفوة مختارة من الشعراء والأدباء والمؤرخين والصحفيين وبعض الأستاذة والطلاب. تختلف أذواقهم ومشاربهم. ولكن تجمعهم رابطة الأدب واللغة وحب البحث والجدل وتذوق هذا الألوان الفكرية التي كانت تدور في هذا المجلس الذي كان دائما يعمر بالرواد فيبحثون في قضايا الأدب والنقد والشعر ويثيرون بعض المسائل الفكرية التي تتخذ في النهاية شكلا من أشكال الجدل يطلع منه المرء على تيارات مختلفة من الأفكار والمنازع والأهواء.

وكان الكرملي يشترك في جميع المباحثات والمناقشات الفكرية التي تدور في مجلسه ويديرها، وإذا لزم الأمر يبرز ما لديه من المراجع والمستندات والوثائق التي تزدحم بها مكتبته العامرة في مختلف اللغات واللهجات للبرهنة على وجهة نظره وتأييد فكرته

وكنت من الذين يحضرون مجالس الكرملي الأدبية هذه ويشتركون في بعض المناقشات التي تثار في قضايا الأدب والفكر فكان لا يرضيني هذا التزمت في الأدب الذي تفرضه أبحاث العلامة الكرملي ومناقشاته، فقد كان يحاول دائما أن يضع للأدب مقاييس وقيودا وحدودا لا يتعداها ولا يرى في الانطلاق والتحرر إلا خروجا وخطا جريمة. . . وكان تفكيره الرتيب الذي جاء نتيجة دراساته الجافة لا يسمح له بالتجول إلا في آفاق محدودة ودوائر خاصة لا يتعداها ولا يسمح لنفسه بالخروج منها. ولذا كان لا يستسيغ هذا اللون من الأدب الحديث الذي برع فيه ناشئة الأدب في البلاد العربية وتحرروا فيه قيود الماضي وانطلقوا يكتبون في أجواء حرة وأساليب حديثة. لم يكن الكرملي أديبا خلاقا أو باحثا مبدعا، ولم يترك له أثر في الحياة الفكرية فيه هذا اللون المشرق الذي يغذي العواطف ويهز القلوب، ويفتح كوى مشرقة فيها أضواء وأخيلة وأنداء وجنائن مسحورة يعبق جوها بالأماني والأحلام تترك الشعور يخلق في متاهات بعيدة وأبعاد مجهولة فيها أمواج من النعيم وسحر غريب له لذة وفيه نشوة، كما نشاهد في أدب الزيات وطه حسين والحكيم وغيرهم من أساتذة اللغة والبيان.

إن عبقرية الكرملي وإشراق ذهنه في اللغة العربية وتاريخها ودراسته المتصلة للغات القديمة والحديثة ونشاطه المعروف في التتبع والبحث والتأليف لو أضاف إلى كل ذلك إشراق العبارة وذهنية تشرك عقلها وقلبها فيما تنتج وتفكر لعد من العباقرة الخالدين في الأدب العربي. ولكن هذا التحنيط والجمود في أسلوبه قلل من أثره في الحياة الفكرية وجعله أشبه بمعجم لا يراجع إلا عند الحاجة إليه.

إن اسم (الكرملي) سيخلد في مجامع الشرق والغرب كعلم من أعلام اللغة والدين والفلسفة خدم بتتبعه لغة العرب وترك فيها آثار عديدة ونور عقولا وأذهانا، وكان فخر أمته، وعقلا عبقريا من عقولها في الخارج.

بغداد

مهدي القزاز