البداية والنهاية/الجزء الثالث عشر/ثم دخلت سنة إحدى وسبعين وستمائة



ثم دخلت سنة إحدى وسبعين وستمائة


في خامس المحرم وصل الظاهر دمشق من بلاد السواحل التي فتحها وقد مهدها، وركب في أواخر المحرم إلى القاهرة فأقام بها سنة ثم عاد فدخل دمشق في رابع صفر، وفي المحرم منها وصل صاحب النوبة إلى عيذاب فنهب تجارها وقتل خلقا من أهلها.

منهم الوالي والقاضي، فسار إليه الأمير علاء الدين أيد غدي الخزندار فقتل خلقا من بلاده ونهب وحرق وهدم ودوخ البلاد، وأخذ بالثأر ولله الحمد والمنة.

وفي ربيع الأول توفي الأمير سيف الدين محمد بن مظفر الدين عثمان بن ناصر الدين منكورس صاحب صهيون، ودفن في تربة والده في عشر السبعين، وكان له في ملك صهيون وبزريه إحدى عشرة سنة، وتسلمها بعده ولده سابق الدين، وأرسل إلى الملك الظاهر يستأذنه في الحضور فأذن له، فلما حضر أقطعه حيزا وبعث إلى البلدين نوابا من جهته.

وفي خامس جمادى الآخرة وصل السلطان بعسكره إلى الفرات لأنه بلغه أن طائفة من التتار هنالك فخاض إليهم الفرات بنفسه وجنده، وقتل من أولئك مقتلة كبيرة وخلقا كثيرا، وكان أول من اقتحم الفرات يومئذ الأمير سيف الدين قلاوون، وبدر الدين بيسرى، وتبعهما السلطان، ثم فعل بالتتار ما فعل، ثم ساق إلى ناحية البيرة وقد كانت محاصرة بطائفة من التتار أخرى.

فلما سمعوا بقدومه هربوا وتركوا أموالهم وأثقالهم، ودخل السلطان إلى البيرة في أبهة عظيمة وفرق في أهلها أموالا كثيرة، ثم عاد إلى دمشق في ثالث جمادى الآخرة ومعه الأسرى.

وخرج منها في سابعه إلى الديار المصرية، وخرج ولده الملك السعيد لتلقيه ودخلا إلى القاهرة، وكان يوما مشهودا.

ومما قاله القاضي شهاب الدين محمود الكاتب، وأولاده يقال لهم بنو الشهاب محمود، في خوض السلطان الفرات بالجيش:

سر حيث شئت لك المهيمن جار ** واحكم فطوع مرادك الأقدار

لم يبق للدين الذي أظهرته ** يا ركنه عند الأعادي ثار

لما تراقصت الرؤوس تحركت ** من مطربات قسيك الأوتار

خضت الفرات بعسكر أفضى به ** موج الفرات كما أتى الأثار

حملتك أمواج الفرات ومن رأى ** بحرا سواك تقله الأنهار

وتقطعت فرقا ولم يك طودها ** إذ ذاك إلا جيشك الجرار

وقال بعض من شاهد ذلك:

ولما تراءينا الفرات بخيلنا ** سكرناه منا بالقنا والصوارم

ولجنا فأوقف التيار عن جريانه ** إلى حين عدنا بالغنى والغنائم

وقال آخر ولا بأس به:

الملك الظاهر سلطاننا ** نفديه بالأموال والأهل

اقتحم الماء ليطفي به ** حرارة القلب من المغل

وفي يوم الثلاثاء ثالث رجب خلع على جميع الأمراء من حاشيته ومقدمي الحلقة وأرباب الدولة وأعطى كل إنسان ما يليق به من الخيل والذهب والحوايص، وكان مبلغ ما أنفق بذلك نحو ثلاثمائة ألف دينار.

وفي شعبان أرسل السلطان إلى منكوتمر هدايا عظيمة وفي يوم الاثنين ثاني عشر شوال استدعى السلطان شيخه الشيخ خضر الكردي إلى بين يديه إلى القلعة وحوقق على أشياء كثيرة، ارتكبها فأمر السلطان عند ذلك باعتقاله وحبسه، ثم أمر باغتياله وكان آخر العهد به.

وفي ذي القعدة سلمت الإسماعيلية ما كان بقي بأيديهم من الحصون وهي الكهف والقدموس والمنطقة، وعوضوا عن ذلك بإقطاعات، ولم يبق بالشام شيء لهم من القلاع، واستناب السلطان فيها.

وفيها: أمر السلطان بعمارة جسورة في السواحل، وغرم عليها مالا كثيرا، وحصل للناس بذلك رفق كبير.

من الأعيان:

الشيخ تاج الدين أبو المظفر محمد بن أحمد

ابن حمزة بن علي بن هبة الله بن الحوي، التغلبي الدمشقي، كان من أعيان أهل دمشق، ولي نظر الأيتام والحسبة، ثم وكالة بيت المال، وسمع الكثير وخرج له ابن بليان مشيخة قرأها عليه الشيخ شرف الدين الغراري بالجامع، فسمعها جماعة من الأعيان والفضلاء رحمه الله.

الخطيب فخر الدين أبو محمد عبد القاهر

بن عبد الغني بن محمد بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحراني الخطيب بها.

وبيته معروف بالعلم والخطابة والرياسة، ودفن بمقبرة الصوفية وقد قارب الستين رحمه الله. وقد سمع الحديث من جده فخر الدين صاحب ديوان (الخطب المشهورة)، توفي بخانقاه القصر ظاهر دمشق.

الشيخ خضر بن أبي بكر المهراني العدوي

شيخ الملك الظاهر بيبرس، كان حظيا عنده مكرما لديه، له عنده المكانة الرفيعة، كان السلطان ينزل بنفسه إلى زاويته التي بناها له في الحسينية، في كل أسبوع مرة أو مرتين، وبنى له عندها جامعا يخطب فيه للجمعة، وكان يعطيه مالا كثيرا، ويطلق له ما أراد، ووقف على زاويته شيئا كثيرا جدا، وكان معظما عند الخاص والعام بسبب حب السلطان وتعظيمه له.

وكان يمازحه إذا جلس عنده، وكان فيه خير ودين وصلاح، وقد كاشف السلطان بأشياء كثيرة، وقد دخل مرة كنيسة القمامة بالمقدس فذبح قسيسها بيده، ووهب ما فيها لأصحابه، وكذلك فعل بالكنيسة التي بالإسكندرية وهي من أعظم كنائسهم، نهبها وحولها مسجدا ومدرسة أنفق عليها أموالا كثيرة من بيت المال، وسماها المدرسة الخضراء، وكذلك فعل بكنيسة اليهود بدمشق، دخلها ونهب ما فيها من الآلات والأمتعة، ومد فيها سماطا، واتخذها مسجدا مدة ثم سعوا إليه في ردها إليهم وإبقائها عليهم.

ثم اتفق في هذه السنة أنه وقعت منه أشياء أنكرت عليه وحوقق عليها عند السلطان الملك الظاهر فظهر له منه ما أوجب سجنه، ثم أمر بإعدامه وهلاكه وكانت وفاته في هذه السنة، ودفن بزاويته سامحه الله.

وقد كان السلطان يحبه محبة عظيمة حتى إنه سمى بعض أولاده خضرا موافقة لاسمه، وإليه تنسب القبة التي على الجبل غربي الربوة التي يقال لها قبة الشيخ خضر.

مصنف التعجيز العلامة تاج الدين عبد الرحيم بن محمد بن يونس بن محمد بن سعد بن مالك أبو القاسم الموصلي

من بيت الفقه والرياسة والتدريس، ولد سنة ثمان وتسعين وخمسمائة.

وسمع واشتغل وحصل وصنف واختصر (الوجيز) من كتابه (التعجيز) واختصر (المحصول) وله طريقة في الخلاف أخذها عن ركن الدين الطاووسي، وكان جده عماد الدين بن يونس شيخ المذهب في وقته كما تقدم.

البداية والنهاية - الجزء الثالث عشر
589 | 590 | 591 | 592 | 593 | 594 | 595 | 596 | 597 | 598 | 599 | 600 | 601 | 602 | 603 | 604 | 605 | 606 | 607 | 608 | 609 | 610 | 611 | 612 | 613 | 614 | 615 | 616 | 617 | 618 | 619 | 620 | 621 | 622 | 623 | 624 | 625 | 626 | 627 | 628 | 629 | 630 | 631 | 632 | 633 | 634 | 635 | 636 | 637 | 638 | 639 | 640 | 641 | 642 | 643 | 644 | 645 | 646 | 647 | 648 | 649 | 650 | 651 | 652 | 653 | 654 | 655 | 656 | 657 | 658 | 659 | 660 | 661 | 662 | 663 | 664 | 665 | 666 | 667 | 668 | 669 | 670 | 671 | 672 | 673 | 674 | 675 | 676 | 677 | 678 | 679 | 680 | 681 | 682 | 683 | 684 | 685 | 686 | 687 | 688 | 689 | 690 | 691 | 692 | 693 | 694 | 695 | 696 | 697