إحياء علوم الدين/كتاب آداب السماع والوجد/الباب الأول



الباب الأول

في ذكر اختلاف العلماء في إباحة السماع

وكشف الحق فيه


بيان أقاويل العلماء والمتصوفة في تحليله وتحريمه

اعلم أن السماع هو أول الأمر ،ويثمر السماع حالة في القلب تسمى الوجد،ويثمر الوجد تحريك الأطراف إما بحركة غير موزونة فتسمى الإضطراب وإما موزونة فتسمى التصفيق والرقص"فلنبدأ بحكم السماع وهو الأول :وننقل فيه الأقاويل المعربة عن المذاهب فيه.ثم نذكر الدليل على إباحته،ثم نردفه بالجواب عما تمسك القائلون بتحريمه.

فأما نقل المذاهب:فقد حكى أبو الطيب الطبري عن الشافعي ومالك وأبي حنيفة وسفيان وجماعة من العلماء ألفاظاًً يستدل بها على أنهم رأوا تحريمه.

وقال الشافعي رحمه اللّه في كتاب آداب القضاء:إن الغناء لهو مكروه يشبه الباطل ومن استكثر منه فهو سيفه ترد شهادته.

وقال القاضي أبو الطيب:استماعة من المرأة التي ليست بمحرم له لا يجوز عند أصحاب الشافعي رحمه اللّه بحال سواء كانت مكشوفة أو من وراء حجاب،وسواء كانت حرة أو مملوكة وقال:قال الشافعي رضي اللّه عنه صاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها فهو سفيه ترد شهادته،وقال:وحكي عن الشافعي أنه كان يكره الطقطقة بالقضيب ويقول وضعته الزنادقة ليشتغلوا به عن القرآن.وقال الشافعي رحمه اللّه:ويكره من جهة الخبر اللعب بالترد أكثر أكثر مما يكره اللعب بشئ من الملاهي،ولا أحب اللعب بالشطرنج وأكره كل ما يلعب به الناس؛لأن اللعب ليس من صنعة أهل الدين ولا المروءة.

وأما مالك رحمه اللّه فقد نهى عن الغناء وقال:إذا اشترى جارية فوجدها مغنية لها ردها.وهو مذهب سائر أهل المدينة إلا ابن سعد وحده. الكوفة:سفيان الثوري وحماد وإبراهيم والشعبي وغيرهم.فهذا كله نقله القاضي أبو الطيب الطبري.

ونقل أبو طالب المكي إباحة السماع من جماعة فقال:سمع من الصحابة عبد الله بن جعفر وعبد الله بن الزبير والمغيرة بن شعبة ومعاوية وغيرهم،وقال:قد فعل ذلك كثير من السلف الصالح صحابي وتابعي بإحسان وقال:لم يزل الحجازيون عندنا بمكة يسمعون السماع في وأما أبو حنيفة رضي اللّه عنه فإنه كان يكره ذلك ويجعل سماع الغناء من الذنوب،وكذلك سائر أفضل أيام السنة وهى الايام المعدودات التي أمر الله عباده فيها بذكره كأيام التشريق، أهلولم يزل أهل المدينة مواظبين كأهل مكة على السماع إلى زمننا هذا، فأدركنا أبا مروان القاضي وله جوار يسمعن الناس التلحين قد أعدن للصوفية،قال:وكان لعطاء جاريتان يلحنان فكان إخوانه يستمعون إليهما.قال:وقيل لأبىالحسن بن سالم كيف تنكر السماع وقد كان الجنيد وسرى السقطى وذو النون يستمعون?فقال وكيف أنكر السماع وقد أجازه وسمعه من هو خير منى?فقد كان عبد الله بن جعفر الطيار يسمع،وإنما أنكر اللهو واللعب في السماع.

وروي عن يحيى بن معاذ أنه قال:فقدنا ثلاثة أشياء فما نراها ولا أراها تزداد إلا قلة،حسن الوجه مع الصيانة وحسن القول مع الديانة،وحسن الإخاء مع الوفاء.ورأيت في بعض الكتب هذا محكياً بعينه عن الحارث المحاسبي وفيه ما يدل على تجويزه السماع مع زهده وتصاونه وجده في الدين وتشميره.قال:وكان ابن مجاهد لايجيب دعوة إلا أن يكون فيه سماع.وحكي غير واحد أنه قال:اجتمعنا في دعوة ومعنا أبو القاسم ابن بنت منيع وأبو بكر ابن داود وابن مجاهد في نظرائهم،فحضر سماع فجعل ابن مجاهد يحرض ابن بنت منيع على ابن داود في أن يسمع فقال ابن داود:حدثني أبي عن أحمد بن حنبل أنه كره السماع وكان أبي يكره وأنا علىمذهب أبي،فقال أبو القاسم ابن بنت منيع:أما جدّي أحمد ابن ابنت منيع فحدثني عن صالح بن أحمد أن أباه كان يسمع قول ابن الخبازة،فقال ابن مجاهد لابن داود:دعني أنت من أبيك،وقال لابن بنت منيع:دعني أنت من جدك أي شئ تقول يا أبا بكر فيمن أنشد بيت شعر أهو حرام?فقال:ابن داود لا،قال:فإن كان حسن الصوت حرم عليه إنشاده?قال:لا،قال:فإن أنشده وطوله وقصر منه الممدود ومدّ منه المقصور أيحرم عليه?قال:أنا لم أقو لشيطان واحد فكيف أقوى لشياطين?قال:وكان أبو الحسن العسقلاني الأسود من الأولياء يسمع ويوله عند السماع،وصنف فيه كتاباً ورد فيه على منكريه،وكذلك جماعة منهم صنفوا في الرد على منكريه.

وحكي عن بعض الشيوخ أنه قال:رأيت أبا العباس الخضر عليه السلام فقلت له:ما تقول في هذا السماع الذي اختلف فيه أصحابنا?فقال:هو الصفو الزلال الذي لايثبت عليه إلا أقدام العلماء.وحكي عن ممشاد الدينوري أنه قال:رأيت النبي صلى اللّه عليه وسلم في النوم فقلت:يا رسول اللّه هل تنكر من هذا السماع شيئاً?فقال:ما أنكر منه شيئاً ولكن قل لهم يفتتحون قبلة بالقرآن ويختمون بعده بالقرآن.وحكي عن طاهر بن بلال الهمداني الوراق - وكان من أهل العلم - أنه قال:كنت معتكفاً في جامع جدّة على البحر فرأيت يوماً طائفة يقولون في جانب منه قولاً ويستمعون،فأنكرت ذلك بقلبي وقلت:في بيت من بيوت اللّه يقولون الشعر?قال:فرأيت النبي صلى اللّه عليه وسلم تلك الليلة وهو جالس في تلك الناحية والى جنبة أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه وإذا أبو بكر يقول شيئاً من القول والنبي صلى اللّه عليه وسلم يستمع إليه ويضع يده على صدره كالواجد بذلك،فقلت في نفسي:ما كان ينبغي لي أن أنكر على أولئك الذين كانوا يستمعون وهذا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يستمع وابو بكر يقول?فالتفت الى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال:هذا حق بحق - أو قال حق من حٌ - أنا أشك فيه.

وقال الجنيد: تنزل الرحمة على هذه الطائفة في ثلاثة مواضع،عند الأكل لأنهم لايأكلون إلا عن فاقة،وعند المذاكرة لأنهم لا يتحاورون إلا في مقامات الصدّيقين،وعند السماع لأنهم يسمعون بوجد ويشهدون حقاً.

وعن ابن جريج أنه كان يرخص في السماع فقيل له: أيؤتى يوم القيامة في جملة حسناتك أو سيئاتك? فقال: لا في الحسنات ولا في السيئات، لأنه شبيه باللغو وقال الله تعالى: "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم" .

هذا ما نقل من الأقاويل. ومن طلب الحق في التقليد فمهما استقصى تعارضت عنده هذه الأقاويل فيبقى متحيرا أو ماثلاً إلى بعض الأقاويل بالتشهي، وكل ذلك قصور بل ينبغي أن يطلب الحق بطريقه وذلك بالبحث عن مدارك الحظر والإباحة كما سنذكره.

بيان الدليل على إباحة السماع

اعلم أن قول القائل: السماع حرام، معناه أن الله تعالى يعاقب عليه، وهذا أمر لا يعرف بمجرد العقل بل بالسمع ومعرفة الشرعيات محصورة في النص أو القياس على المنصوص. وأعني بالنص ما أظهره بقوله أو فعله، وبالقياس المعنى المفهوم، من ألفاظه وأفعاله. فإن لم يكن فيه نص ولم يستقم فيه قياس على منصوص بطل القول بتحريمه، وبقى فعلاً لا حرج فيه كسائر المباحات. ولا يدل على تحريم السماع نص ولا قياس، ويتضح ذلك في جوابنا عن أدلة الماثلين إلى التحريم. ومهما تم الجواب عن أدلتهم كان ذلك مسلكاً كافياً في إثبات هذا الغرض، لكن نستفتح ونقول: قد دل النص والقياس جميعاً على إباحته.

أما القياس: فهو أن الغناء اجتمعت فيه معان ينبغي أن يبحث عن أفرادها ثم عن مجموعها، فإن فيه سماع صوت طيب موزون مفهوم المعنى محرك للقلب، فالوصف الأعم أنه صوت طيب. ثم الطيب ينقسم إلى الموزون وغيره. والموزون ينقسم إلى المفهوم كالأشعار، والى غير المفهوم كأصوات الجمادات وسائر الحيوانات.

أما سماع الصوت الطيب من حيث إنه طيب فلا ينبغي أن يحرم بل هو حلال بالنص والقياس أما القياس فهو أنه يرجع إلى تلذذ حاسة السمع بإدراك ما هو مخصوص به، وللإنسان عقل وخس حواس ولكل حاسة إدراك، وفي مدركات تلك الحاسة ما يستلذ، فلذة النظر في المبصرات الجميلة كالخضرة والماء الجاري والوجه الحسن وبالجملة سائر الألوان الجميلة، وهي في مقابلة ما يكره من الألوان الكدرة القبيحة. وللشم الروائح الطيبة، وهي في مقابلة الأنتان المستكرهة. وللذوق الطعوم اللذيذة كالدسومة والحلاوة والحموضة، وهي في مقابلة المرارة المستبشعة. وللمس لذة اللين والنعومة والملاسة، وهي في مقابلة الخشونة والضراسة. وللعقل لذة العلم والمعرفة، و هي في مقابلة الجهل والبلادة.

فكذلك الأصوات المدركة بالسمع تنقسم إلى مستلذة كصوت العنادل والمزامير، ومستكرهة كنهيق الحمير وغيرها. فما أظهر قياس هذه الحاسة ولذتها على سائر الحواس ولذاتها? أما النص: فيدل على إباحة سماع الصوت الحسن امتنان الله تعالى على عباده إذ قال "يزيد في الخلق ما يشاء" فقيل هو الصوت الحسن وفي الحديث: "ما بعث الله نبياً إلا حسن الصوت" وفي الحديث في معرض المدح لداود عليه السلام أنه كان حسن الصوت في النياحة على نفسه وفي تلاوة الزبور حتى كان يجتمع الغنس والجن والوحوش والطير لسماع صوته، وكان يحمل في مجلسه أربعمائة جنازة وما يقرب منها في الأوقات، وقال في مدح أبي موسى الأشعري: "لقد أعطى مزماراً من مزامير آل داود" وقول الله تعالى "إن أنكر الأصوات لصوت الحمير" يدل بمفهومه على مدح الصوت الحسن. ولو جاز أن يقال إنما أبيح ذلك بشرط أن يكون في القرآن للزمه أن يحرم سماع صوت العندليب لأنه ليس من القرآن. وإذا جاز سماع صوت غفل لا معنى له فلم لا يجوز سماع صوت يفهم منه الحكمة والمعاني الصحيحة? وإن من الشعر لحكمة. فهذا نظر في الصوت من حيث أنه طيب حسن.

الدرجة الثانية: النظر في الصوت الطيب الموزون؛ فإن الوزن وراء الحسن فكم من صوت حسن خارج عن الوزن وكم من صوت موزون غير مستطاب. والأصوات الموزونه باعتبار مخارجها ثلاثة: فإنها إما أن تخرج من جماد كصوت المزامير والأوتار وضرب القضيب والطبل وغيره، وإما أن تخرج من حنجرة حيوان؛ وذلك الحيوان إما إنسان أو غيره كصوت العنادل والقمارى وذات السجع من الطيور؛ فهي مع طيبها موزونة متناسبة المطالع والمقاطع فلذلك يستلذ سماعها. والأصل في الأصوات حناجر الحيوانات، وإنما وضعت المزامير على أصوات الحناجر وهو تشبيه للصنعة بالخلقة. وما من شيء توصل أهل الصناعات بصناعتهم إلى تصويره إلا وله مثال في الخلقة التي استأثر الله تعالى باختراعها؛ فمنه تعلم الصناع وبه قصدوا الإقتداء وشرح ذلك يطول. فسماع هذه الأصوات يستحيل أن يحرم لكونها طيبة أو موزونة فلا ذاهب إلى تحريم صوت العندليب وسائر الطيور. ولا فرق بين حنجرة وحنجرة ولا بين جماد وحيوان. فينبغي أن يقاس على صوت العندليب الأصوات الخارجة من سائر الأجسام باختيار الآدمى كالذي يخرج من حلقه أو من القضيب والطبل والدف وغيره.

ولا يستثنى من هذه إلا الملاهي والأوتار والمزامير التي ورد الشرع بالمنع منها لا للذتها إذ لو كان للذة لقيس عليها كل ما يلتذ به الإنسان. ولكن حرمت الخمور واقتضت ضراوة الناس بها المبالغة في الفطام عنها حتى انتهى الأمر في الابتداء إلى كسر الدنان فحرم معها ما هو شعار أهل الشرب وهي الأوتار والمزامير فقط، وكان تحريمها من قبل الأتباع كما حرمت الخلوة بالأجنبية لأنها مقدمة الجماع، وحرم النظر إلى الفخذ لاتصاله بالسوأتين، وحرم قليل الخمر وإن كان لا يسكر لأنه يدعو إلى السكر، وما من حرام إلا وله حريم يطيف به، وحكم الحرمة ينسحب على حريمه ليكون حمى للحرام ووقاية له وحظار مانعاً حوله كما قال "إن لكل ملك حمى وإن حمى الله محارمه" فهي محرمة تبعاً لتحريم الخمر لثلاث علل إحداها، أنها تدعو إلى شرب الخمر فإن اللذة الحاصلة بها إنما تتم بالخمر، ولمثل هذه العلة حرم قليل الخمر. الثانية، أنها في حق قريب العهد بشرب الخمر تذكر مجالس الأنس بالشرب فهي سبب الذكر، والذكر سبب انبعاث الشوق وانبعاث الشوق إذا قوى فهو سبب الإقدام. ولهذه العلة نهى عن الانتباذ في المزفت والختم والنقير، وهي الآواني التي كانت مخصوصة بها. فمعنى هذا أن مشاهدة صورتها تذكرها وهذه العلة تفارق الأولى إذ ليس فيها اعتبار لذة في الذكر إذ لا لذة في رؤية القنينة وأواني الشرب لكن من حيث التذكر بها، فإن كان السماع بذكر الشرب تذكيراً يشوق إلى الخمر عند من ألف ذلك مع الشرب فهو منهن عن السماع لخصوص هذه العلة فيه. الثالثة، الاجتماع عليها: لما أن صار من عادة أهل الفسق فيمنع من التشبه بهم؛ لأن من تشبه بقوم فهو منهم. وبهذه العلة نقول بترك السنة مهما صارت شعاراً لأهل البدعة خوفاً من التشبه بهم. وبهذه العلة حرم ضرب الكوبة، وهو طبل مستطيل دقيق الوسط واسع الطرفين، وضربها عادة المخنثين ولولا ما فيه من التشبيه لكان مثل طبل الحجيج والغزو، وبهذه العلة نقول لو اجتمع جماعة وزينوا مجلساً وأحضروا آلات الشرب وأقداحه، وصبوا فيها الكنجين، ونصبوا ساقياً يدور عليهم ويسقيهم، فيأخذون من الساقي ويشربون ويحيي بعضهم بعضاً بكلماتهم المعتادة بينهم حرم ذلك عليهم، وإن كان المشروب مباحاً في نفسه، لأن في هذا تشبهاً بأهل الفساد، بل لهذا ينهى عن لبس القباء وعن ترك الشعر على الرأس قزعاً في بلاد صار القباء فيها من لباس أهل الفساد، ولا ينهى عن ذلك فيما وراء النهر لاعتياد أهل الصلاح ذلك فيهم. فبهذه المعاني حرم المزمار العراقي والأوتار كلها كالعود والصنج والرباب والبربط وغيرها. وما عدا ذلك فليس في معناها كشاهين الرعاة والحجيج وشاهين الطبالين وكالطبل والقضيب، وكل آلة يستخرج منها صوت مستطاب موزون سوى ما يعتاده أهل الشرب لأن كل ذلك لا يتعلق بالخمر ولا يذكر بها ولا يشوق إليها ولا يوجب التشبه بأربابها فلم يكن في معناها. فبقي على أصل الإباحة قياساً على أصوات الطيور وغيرها، بل أقول سماع الأوتار ممن يضربها على غير وزن متناسب مستلذ حرام أيضاً. وبهذا يتبين أنه ليست العلة في تحريمها مجرد اللذة الطيبة، بل القياس تحليل الطيبات كلها إلا ما في تحليله فساد. قال الله تعالى: "قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق" فهذه الأصوات لا تحرم من حيث إنها أصوات موزونة وإنما تحرم بعارض آخر. كما سيأتي في العوارض المحرمة.

الدرجة الثالثة: الموزون والمفهوم، وهو الشعر وذلك لا يخرج إلا من حنجرة الإنسان فيقطع إباحة ذلك لأنه ما زاد إلا كونه مفهوما، والكلام المفهوم غير حرام والصوت الطيب الموزون غير حرام، فإذا لم يحرم الآحاد فمن أين يحرم المجموع? نعم ينظر فيما يفهم منه فإن كان فيه أمر محظور حرم نثره ونظمه وحرم النطق به سواء كان بألحان أو لم يكن، والحق فيه ما قاله الشافعي رحمه الله إذ قال: الشعر كلام فحسنه حسن وقبيحه قبيح. ومهما جاز إنشاد الشعر بغير صوت وألحان جاز إنشاده مع الألحان. فإن أفراد المباحات إذا اجتمعت كان ذلك المجموع مباحاً. ومهما انضم مباح إلى مباح لم يحرم إلا إذا تضمن المجموع محظوراً لا تتضمنه الآحاد. ولا محظور ههنا وكيف ينكر إنشاد الشعر وقد أنشد بين يدي رسول الله ? وقال عليه السلام: "إن من الشعر لحكمة" وأنشدت عائشة رضي الله عنها: ذهب الذين يعاش في أكنافهـم وبقيت في خلف كجلد الأجرب

وروى في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لما قدم رسول الله المدينة وعك أبو بكر وبلال رضي الله عنهما، وكان بها وباء فقلت: يا أبت كيف تجدك? ويا بلال كيف تجدك؛ فكان أبو بكر رضي الله عنه إذا أخذ الحمى يقول: كل امرئ مصبح في أهلـه والموت أدنى من شراك نعله

وكان بلال إذا أقلعت عنه الحمى يرفع عقيرته ويقول: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي إذخر وجلـيل

وهل أردن يوماً مياه مجـنة وهل يبدون لي شامة وطفيل

قالت عائشة رضي الله عنها: فأخبرت بذلك رسول الله فقال: "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد" وقد كان رسول الله ينقل اللبن مع القوم في بناء المسجد وهو يقول: هذا الحمال لا حمال خيبر هذا أبر ربنا وأطهـر

وقال أيضاً مرة أخرى: لا هم إن العيش عيش الآخرة فارحم الأنصار والمهاجـرة

وهذه في الصحيحين. وكان النبي يضع لحسان منبراً في المسجد يقوم عليه قائماً يفاخر عن رسول الله أو ينافح، ويقول رسول الله "إ، الله يؤيد حسان بروح القدس ما نافح أو فاخر عن رسول الله " ولما أنشده النابغة شعره قال له "لا يقضض الله فاك" وقالت عائشة رضي الله عنها "كان أصحاب رسول الله يتناشدون عنده الأشعار وهو يتبسم" وعن عمرو بن الشريد عن أبيه قال: أنشدت رسول الله مائة قافية من قول أمية بن أبي الصلت كل ذلك يقول "هيه هيه" ثم قال "إن كاد في شعره ليسلم" وعن أنس رضي الله عنه أن النبي كان يحدى له في السفر. وإن أنجشة كان يحدو بالنساء، والبراء بن مالك كان يحدو بالرجال، فقال رسول الله "يا أنجشة رويدك سوقك بالقوارير" ولم يزل الحداء وراه الجمال من عادة العرب في زمان رسول الله وزمان الصحابة رضي الله عنهم وما هو إلا أشعار تؤدى بأصوات طيبة وألحان موزونة ولم ينقل عن أحد م الصحابة إنكاره، بل ربما كانوا يلتمسون ذلك تارة لتحريك الجمال وتارة للاستلذاذ. فلا يجوز أن يحرم من حيث إنه كلام مفهوم مستلذ مؤدى بأصوات طيبة وألحان موزونة.

الدرجة الرابعة: النظر فيه من حيث إنه محرك للقلب ومهيج لما هو الغالب عليه. فأقول: لله تعالى سر في مناسبة النغمات الموزونة للأرواح حتى إنها لتؤثر فيها تأثيراً عجيباً. فمن الأصوات ما يفرح، ومنها ما يحزن، ومنها؛ ما ينوم، ومنها ما يضحك ويطرب، ومنها ما يستخرج من الأعضاء حركات على ووزنها باليد والرجل والرأس. ولا ينبغي أن يظن أن ذلك لفهم معاني الشعر، بل جار في الأوتار حتى قيل من لم يحركه الربيع وأزهاره والعود وأوتاره فهون فاسد المزاج ليس له علاج. وكيف يكون ذلك لفهم المعنى وتأثيره مشاهد في الصبي في مهده? فإنه يسكنه الصوت الطيب عن بكائه وتنصرف نفسه عما يبكيه إلى الإصغاء إليه. والجمل مع بلادة طبعه يتأثر بالحداء تأثراً يستخف معه الأحمال الثقيلة. ويستقصر لقوة نشاطه في سماعه المسافات الطويلة، وينبعث فيه من النشاط ما يسكره ويولهه، فتراها إذا طالت عليها البوادي واعتراها الإعياء والكلال تحت المحامل والأحمال إذا سمعت منادي الحداء تمد أعناقها وتصغي إلى الحادي ناصية آذانها وتسرع في سيرها حتى تتزعزع عليها أحمالها ومحاملها، وربما تتلف أنفسها من شدة السير وثقل الحمل وهي لا تشعر به لنشاطها. فقد حكى أبو بكر محمد بن داود الدينوري المعروف بالرقى رضي الله عنه قال: كنت بالبادية فوافيت قبيلة من قبائل العرب فأضافني رجل منهم وأدخلني خباءه، فرأيت في الخباء عبداً أسود مقيداً بقيد، ورأيت جمالاً قد ماتت بين يدي البيت وقد بقي منها جمل وهو ناحل ذابل كأنه ينزع روحه، فقال لي الغلام: أنت ضيف ولك حق فتشفع في إلى مولاي فإنه مكرم لضيفه فلا يرد شفاعتك في هذا القدر، فعساه يحل القيد عني، قال. فلما أحضروا الطعام امتنعت وقلت لا آكل ما لم أشفع في هذا العبد، فقال: إن هذا العبد قد أفقرني وأهلك جميع مالي، فقلت، ماذا فعل? فقال: إن له صوتاً طيباً وإني كنت أعيش من ظهور هذه الجمال، فحملها أحمالاً ثقالاً وكان يحدو بها حتى قطعت مسيرة ثلاثة أيام في ليلة واحدة من طيب نغمته، فلما حطت أحمالها ماتت كلها إلا هذا الجمل الواحد، ولكن أنت ضيفي فلكرامتك قد وهبته لك، قال: فأحببت أن أسمع صوته، فلما أصبحنا أمره أن يحدو على جمل يستقى الماء من بئر هناك، فلما رفع صوته هام ذلك الجمل وقطع حباله ووقعت أنا على وجهي، فما أظن أني سمعت قط صوتاً أطيب منه. فإذن تأثير السماع في القلب محسوس. ومن لم يحركه السماع فهو ناقص مائل عن الاعتدال بعيد عن الروحانية زائد في غلظ الطبع وكثافته على الجمال والطيور بل على جميع البهائم، فإن جميعها تتأثر بالنغمات الموزونة. ولذلك كانت الطيور تقف على رأس داود عليه السلام لاستماع صوته. ومهما كان النظر في السماع باعتبار تأثيره في القلب لم يجز أن يحكم فيه مطلقاً بإباحة ولا تحريم بل يختلف ذلك بالأحوال والأشخاص واختلاف طرق النغمات فحكمه ما في القلب.

قال أبو سليمان: السماع لا يجعل في القلب ما ليس فيه ولكن يحرك ما هو فيه، فالترنم بالكلمات المسجعة الموزونة معتاد في مواضع لأغراض مخصوصة ترتبط بها آثار في القلب وهي سبعة مواضع:

الأول: غناء الحجيج، فإنهم أولاً يدورون في البلاد بالطبل والشاهين والغناء، وذلك مباح لأنها أشعار نظمت في وصف الكعبة والمقام والحطيم وزمزم وسائر المشاعر ووصف البادية وغيرها، وأثر ذلك يهيج الشوق إلى حج بيت الله تعالى واشتعال نيرانه إن كان ثم شوق حاصل، أو استثارة الشوق واجتلابه إن لم يكن حاصلاً. وإذا كان الحج قربة والشوق إليه محموداً كان التشويق إليه بكل ما يشوق محموداً. وكما يجوز للواعظ أن ينظم كلامه في الوعظ ويزينه بالسجع ويشوق الناس إلى الحج بوصف البيت والمشاعر ووصف الثواب عليه جاز لغيره ذلك على نظم الشعر، فإن الوزن إذا انضاف إلى السجع صار الكلام أوقع في القلب، فإذا أضيف إليه صوت طيب ونغمات موزونة زاد وقعه، فإن أضيف إليه الطبل والشاهين وحركات الإيقاع زاد التأثير. وكل ذلك جائز ما لم يدخل فيه المزامير والأوتار التي هي من شعار الأشرار، نعم إن قصد به تشويق من لا يجوز له الخروج إلى الحج كالذي أسقط الفرض عن نفسه ولم يأذن له أبواه في الخروج، فهذا يحرم عليه الخروج. وفي حرم تشويقه إلى الحج بالسماع بكل كلام يشوق إلى الخروج فإن التشوق إلى الحرام حرام. وكذلك إن كانت الطريق غير آمنة وكان الهلاك غالباً لم يحز تحريك القلوب ومعالجتها بالتشويق.

الثاني: ما يعتاده الغزاة لتحريض الناس على الغزو. وذلك أيضاً مباح كما للحاج، ولكن ينبغي أن يتخالف أشعارهم وطرق ألحانهم أشعار الحاج وطرق ألحانهم، لأن استنارة داعية الغزو بالتشجيع وتحريك الغيظ والغضب فيه على الكفار وتحسين الشجاعة واستحقار النفس والمال بالإضافة إليه، بالأشعار المشجعة. مثل قول المتنبي: فإن لا تمت تحت السوف مكرماً تمت وتقاس الذل غير مكـرم

وقوله أيضاً: يرى الجبناء أن الجبن حزم وتلك خديعة الطبع اللـئيم

وأمثال ذلك. وطرق الأوزان المشجعة تخالف الطرق المشوقة. وهذا أيضاً مباح في وقت لا يباح فيه الغزو. ومندوب إليه وقت يستحب فيه الغزو، ولكن في حق من يجوز له الخروج إلى الغزو.

الثالث: الجزيات التي يستعملها الشجعان في وقت اللقاء، والغرض منها التشجيع للنفس وللأنصار وتحريك النشاط فيهم للقتال، وفيه التمدح بالشجاعة والنجدة، وذلك إذا كان بلفظ رشيق وصوت طيب كان أوقع في النفس، وذلك مباح في كل قتال مباح، ومندوب في قتال مندوب، ومحظور في قتال المسلمين وأهل الذمة. وكل قتال محظور، لأن تحريك الدواعي إلى المحظور محظور. وذلك منقول عن شجعان الصحابة رضي الله عنهم كعلي وخالد رضي الله عنهما وغيرهما. ولذلك نقول: ينبغي أن يمنع من الضرب بالشاهين في معسكر الغزاة في القتال، وكذا سائر الأصوات والألحان المرققة للقلب، فالألحان المرققة المحزنة تباين الألحان المحركة المشجعة فمن فعل ذلك على قصد تغيير القلوب وتفتير الآراء عن القتال الواجب فهو عاص، ومن فعله على قصد التفتير عن القتال المحظور فهو بذلك مطيع.

الرابع: أصوات النياحة ونغماتها وتأثيرها في تهييج الحزن والبكاء وملازمة الكآبة والحزن قسمان: محمود ومذموم.

فأما المذموم فكالحزن على ما فات قال الله تعالى: "لكيلا تأسوا على ما فاتكم" والحزن على الأموات من هذا القبيل فإنه تسخط لقضاء الله تعالى وتأسف على ما لا تدارك له. فهذا الحزن لما كان مذموماً كان تحريكه بالنياحة مذموماً فلذلك ورد النهي الصريح عن النياحة.

وأما الحزن المحمود فهو حزن الإنسان على تقصيره في أمر دينه، وبكاؤه على خطاياه. والبكاء والتباكي والحزن والتحازن على ذلك محمود وعليه بكاء آدم عليه السلام. وتحريك هذا الحزن وتقويته محمود لأنه يبعث على التشمير للتدارك، ولذلك كانت نياحة داود عليه السلام محمودة إذ كان ذلك مع دوام الحزن وطول البكاء بسبب الخطايا والذنوب، فقد كان عليه السلام يبكي ويبكي ويحزن حتى كانت الجنائز ترفع من مجالس نياحته. وكان يفعل ذلك بألفاظه وألحانه: وذلك محمود لأن المفضى إلى المحمود محمود. وعلى هذا لا يحرم على الواعظ الطيب الصوت أن ينشد على المنبر بألحانه الأشعار المحزنة المرققة للقلب ولا أن يبكي ويتباكى ليتوصل به إلى تبكية غيره وإثارة حزنه.

الخامس: السماع في أوقات السرور تأكيد للسرور وتهييجاً له، وهو مباح إن كان ذلك السرور مباحاً كالغناء في أيام العيد وفي العرس وفي وقت قدوم الغائب وفي وقت الوليمة والعقيقة وعند ولادة المولود وعند ختانه وعند حفظه القرآن العزيز. وكل ذلك مباح لأجل إظهار السرور به. ووجه جوزاه أن من الألحان ما يثير الفرح والسرور والطرب فكل ما جاز السرور به جاز إثاره السرور فيه. ويدل على هذا من النقل إنشاد النساء على السطوح بالدف والألحان عند قدوم رسول الله .

طلع البدر علينا من ثنيات الودع وجب الشكر علينا ما دعا لله داع

فهذا إظهار السرور لقدومه وهو سرور محمود، فإظهاره بالشعر والنغمات والرقص والحركات أيضاً محمود. فقد نقل عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أنهم حجلوا في سرور أصابهم، - كما سيأتي في أحكام الرقص - وهو جائز في قدوم كل قادم يجوز الفرح به وفي كل سبب مباح من أسباب السرور. ويدل على هذا ما روى في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "لقد رأيت النبي يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد حتى أكون أنا الذي أسأمه" فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو إشارة إلى طل مدة وقوفها. وروى البخاري ومسلم أيضاً في صحيحيهما حديث عقيل عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها: أن أبا بكر رضي الله عنه دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منى تدففان وتضربان والنبي متغش بثوبه فانتهرهما أبو بكر رضي الله عنه فكشف النبي عن وجهه وقال "دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد" وقالت عائشة رضي الله عنها: رأيت النبي يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد فزجرهم عمر رضي الله عنه فقال النبي "أمنا يا بني أرفدة" يعني من الأمن ومن حديث عمرو بن الحرث عن ابن شهاب نحوه وفيه: تغنيان وتضربان. وفي حديث أبي طاهر عن ابن وهب: والله لقد رأيت رسول الله يقوم على باب حجرتي والحبشة يلعبون بحرابهم في مسجد رسول الله وهو يسترني بثوبه - أو بردائه - لكي أنظر إلى لعبهم ثم يقوم ن أجلي حتى أكون أنا الذي أنصرف، وروى عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت ألعب بالبنات عند رسول الله قالت وكان يأتيني صواحب لي فكن يتقنعن من رسول الله وكان رسول الله يسر لمجيئهن إلي فيلعبن معي. وفي رواية أن النبي قال لها يوماً "ما هذا?" قالت: بناتي قال "فما هذا الذي أرى في وسطهن?" قالت: فرس قال "ما هذا الذي عليه?" قالت: جناحان قال "فرس له جناحان" قالت: أوما سمعت أنه كان لسليمان بن داود عليه السلام خيل لها أجنحة? قالت فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه. والحديث محمول عندنا على عادة الصبيان في اتخاذ الصورة من الخزف والرقاع من غير تكيل صورته بدليل ما روى في بعض الروايات أن الفرس كان له جناحان من رقاع. وقالت عائشة رضي الله عنها: دخل علي رسول الله وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث فاضطجع على الفراش وحول وجهه فدخل أبو بكر رضي الله عنه فانتهرنى وقال: مزمار الشيطان عند سول الله فأقبل عليه رسول الله وقال "دعهما" فلما غفل غمزتهما فخرجتا. وكان يوم عيد يلعب فيه السودان بالدرق والحراب فإما سألت رسول الله وإما قال "تشتهين تنظرين" فقلت: نعم، فأقامني وراءه وخدي على خده ويقول "دونكم يا بني أرفدة" حتى إذا مللت قال "حسبك" قلت: نعم، قال "فاذهبي" وفي صحيح مسلم: فوضعت رأسي على منكبه فجعلت أنظر إلى لعبهم حتى كنت أنا الذي انصرفت.

فهذه الأحاديث كلها في الصحيحين وهو نص صريح في أن الغناء واللعب ليس بحرام. وفيها دلالة على أنواع من الرخص، الأول، اللعب: ولا يخفى عادة الحبشة في الرقص واللعب. والثاني، فعل ذلك في المسجد. والثالث، قوله "دونكم يا بنى أرفدة" وهذا أمر باللغب والتماس له فكيف يقدر كونه حراماً? والرابع، منعه لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما عن الإنكار والتغيير وتعليله بأنه يوم عيد أي هو وقت سرور? وهذا من أسباب السرور والخامس وقوفه طويلاً في مشاهدة ذلك وسماعه لموافقة عائشة رضي الله عنها. وفيه دليل على أن حسن الخلق في تطييب قلوب النساء والصبيان بمشاهدة اللعب أحسن من خشونة الزهد والتقشف في الامتناع والمنع منه. والسادس، قوله ابتداء لعائشة "أتشتهين أن تنظري" ولم يكن ذلك عن اضطرار إلى مساعدة محور. فأما ابتداء السؤال فلا حاجة فيه. والسابع، الرخصة في الغناء والضرب بالدف من الجاريتين، مع أنه شبه ذلك بمزمار الشيطان وفيه بيان أن المزمار المحرم غير ذلك. والثامن، أن رسول الله كان يقرع سمعه صوت الجاريتين وهو مضطجع، ولو كان يضرب بالأوتار في موضع لما جوز الجلوس ثم لقرع صوت الأوتار سمعه. فيدل هذا على أن صوت النساء غير محرم تحريم صوت المزامير بل إنما يحرم عند خوف الفتنة. فهذه المقاييس والنصوص تدل على إباحة الغناء والرقص والضرب بالدف واللعب بالدرق والحراب والنظر إلى رقص الحبشة والزنوج في أوقات السرور كلها - قياساً على يوم العيد - فإنه وقت سرور، وفي معناه يوم العرس والوليمة والعقيقة والختان ويوم القدوم من السفر وسائر أسباب الفرح وهو كل ما يجوز به الفرح شرعاً. ويجوز الفرح بزيارة الإخوان ولقائهم واجتماعهم في موضع واحد على طعام أو كلام فهو أيضاً مظنة السماع.

السادس: سماع العشاق تحريكا للشوق وتهييجاً للعشق وتسلية للنفس. فإن كان في مشاهدة المعشوق فالغرض رجاء الوصال فإن الرجاء لذيذ واليأس مؤلم، وقوة لذة الرجاء بحسب قوة الشوق والحب للشيء المرجو. ففي هذا وهذا حلال إن كان المشتاق إليه ممن يباح وصاله كمن يعشق زوجته أو سريته، فيصغي إلى غنائها لتضاعف لذته في لقائها. فيحظى بالمشاهدة البصر، وبالسماع الأذن، ويفهم لطائف معاني الوصال والفراق القلب، فتترادف أسباب اللذة. فهذه أنواع تمتع من جملة مباحات الدنيا ومتاعها "وما الحياة الدنيا إلا لهو ولعب" وهذا منه. وكذلك إن غضبت باعها أو طلقها حرم عليه ذلك بعده. إذ لا يجوز تحريك الشوق حيث لا يجوز تحقيقه بالوصال واللقاء. وأما من يتمثل في نفسه صورة صبي أو امرأة لا يحل له النظر إليها وكان ينزل ما يسمع على ما تمثل في نفسه فهذا حرام لأنه محرك للفكر في الأفعال المحظورة، ومهيج للداعية إلى ما لا يباح الوصول إليه. وأكثر العشاق والسفهاء من الشباب في وقت هيجان الشهوة لا ينفكون عن إضمار شيء من ذلك: وذلك ممنوع في حقهم لما فيه من الداء الدفين لا لأمر يرجع إلى نفس السماع. ولذلك سئل حكيم عن العشق فقال. دخان يصعد إلى دماغ الإنسان يزيله الجماع ويهيجه السماع.

السابع: سماع من أحب الله وعشقه واشتاق إلى لقائه فلا ينظر إلى شيء إلا رآه فيه سبحانه، ولا يقرع سمعه أحوالاً ن المكاشفات والملاطفات لا يحيط الوصف بها يعرفها من ذاقها ونيكرها من كل حسه عن ذوقها. وتسمى تلك الأحوال بلسان الصوفية وجداً مأخوذ من الوجود والمصادفة أي صادف من نفسه أحوالاً لم يكن يصادفها قبل السماع. ثم تكون تلك الأحوال أسباباً لروادف وتوابع لها تحرق القلب بنيرانها وتنقيه من الكدورات كما تنقى النار الجواهر المعروضة عليها من الخبث، ثم يتبع الصفاء الحاصل به مشاهات ومكاشفات وهي غاية مطالب المحبين لله تعالى ونهاية ثمرة القربات كلها فالمفضى إليها من جملة القربات لا من جملة المعاصي والمباحات. وحصول هذه الأحوال للقلب بالسماع سببه سر الله تعالى في مناسبة النغمات الموزونة للأرواح وتسخير الأرواح لها وتأثرها بها شوقاً وفرحاً وحزناً وانبساطاً وانقباضاً. ومعرفة السبب في تأثر الأرواح بالأصوات من دقائق علوم المكاشفات. والبليد الجامد القاسي القلب المحروم عن لذة السماع يتعجب من التذاذ المستمع ووجده واضطراب حاله وتغير لونه تعجب البهيمة من لذة اللوزينج، وتعجب العنين من لذة المباشرة، وتعجب الصبي من لذة الرياسة واتساع أسباب الجاه، وتعجب الجاهل من لذة معرفة الله تعالى ومعرفة جلاله وعظمته وعجائب صنعه. ولكل ذلك سبب واحد وهو أن اللذة نوع إدراك والإدراك يستدعي مدركاً ويستدعي قوة مدركة. فمن لم تكمل قوة إدراكه لم يتصور منه التلذذ فكيف يدر لذة الطعوم من فقد الذوق? وكيف يدرك لذة الألحان من فقد السمع? ولذة المعقولات من فقد العقل? وكذلك ذوق السماع بالقلب بعد وصول إلى السمع يدرك بحاسة باطنة في القلب، فمن فقدها عدم لا محالة لذاته.

ولعلك تقول: كيف يتصور العشق في حق الله تعالى حتى يكون السماع محركاً له? فاعلم أن من عرف الله أحبه لا محالة، ومن تأكدت معرفته تأكدت محبته بقدر تأكد معرفته. والمحبة إذا تأكدت سميت عشقاً فلا معنى للعشق إلا محبة مؤكدة مفرطة. ولذلك قالت العرب: إن محمداً قد عشق ربه. ولما رأوه يتخلى للعبادة في جبل حراء. واعلم أن كل جمال محبوب عند مدرك ذلك الجمال والله تعالى جميل يحب الجمال. ولكن الجمال إن كان تيناسب الخفة وصفاء اللون أدرك بحاسة البصر. وإن كان الجمال بالجلال والعظمة وعلو الرتبة وحسن الصفات والأخلاق وإرادة الخيرات لكافة الخلق وإفاضتها عليهم على الدوام إلى غير ذلك من الصفات الباطنة أدرك بحاسة القلب. ولفظ الجمال قد يستعار أيضاً لها فيقال: إن فلاناً حسن وجميل ولا تراد صورته. وإنما يعنى به أنه جميل الأخلاق محمود الصفات حسن السيرة، حتى قد يحب الرجل بهذه الصفات الباطنة استحساناً لها كما تحب الصورة الظاهرة. وقد تتأكد هذه المحبة فتسمى عشقاً. وكم من الغلاة في حب أرباب المذاهب كالشافعي ومالك وأبي حنيفة رضي الله عنهم? حتى يبذلوا أموالهم وأرواحهم في نصرتهم وموالاتهم ويزيدوا على كل عاشق في الغلو والمبالغة. ومن العجب أن يعقل عشق شخص لم تشاهد قط صورته أجميل هو أم قبيح وهو الآن ميت? ولكن لجمال صورته الباطنة وسيرته المرضية والخيرات الحاصلة من عمله لأهل الدين وغير ذلك من الخصال. ثم لا يعقل عشق من ترى الخيرات منه. بل على التحقيق من لا خير ولا جمال ولا محبوب في العالم إلا وهو حسنة من حسناته وأثر من آثار كرمه وغرفة من بحر جوده، بل كل حسن وجمال في العالم أدرك بالعقول والأبصار والأسماع وستائر الحواس من مبتدإ العالم إلى منقرضه ومن ذروة الثريا إلى منتهى الثرى فهو ذرة ن خزائن قدرته ولمعة من أنوار حضرته، فليت شعري كيف لا يعقل حب من هذا وصفه? وكيف لا يتأكد عند العارفين بأوصافه حبه حتى يجاوز حداً يكون إطلاق اسم العشق عليه ظلماً في حقه لقصوره عن الإنباء عن فرط محبته? فسبحان من احتجب عن الظهور بشدة ظهوره واستتر عن الأبصار بإشراق نوره، ولولا احتجابه بسبعين حجاباً من نوره لأحرقت سبحات وجهه أبصار الملاحظين لجمال حضرته، ولولا أن ظهور سبب خفائه لبهتت العقول ودهشت القلوب وتخاذلت القوى وتنافرت الأعضاء، ولو ركبت القلوب من الحجارة والحديد لأصبحت تحت مبادئ أنوار تجليله دكاً دكاً، فأنى تطيق كنه نور الشمس أبصار الخفافيش. وسيأتي تحقيق هذه الإشارة في كتاب المحبة. ويتضح أن محبة غير الله تعالى قصور وجهل بل المتحقق بالمعرفة لا يعرف غير الله تعالى، إذ ليس في الوجود تحقيقاً إلا الله وأفعاله. ومن عرف الأفعال من حيث إنها أفعال لم يجاوز معرفة الفاعل إلى غيره. فمن عرف الشافعي مثلاً رحمه الله وعليه وتصنيفه من حيث إنه تصنيفه لا من حيث إنه بياض وجلد وحبر وورق وكلام منظوم ولغة عربية، فلقد عرفه ولم يجاوز معرفة الشافعي إلى غيره، ولا جاوزت محبته إلى غيره، فكل موجود سوى الله تعالى فهو تصنيف الله تعالى وفعله وبديع أفعاله فمن عرفها من حيث هي صنع الله تعالى فرأى من الصنع صفات الصانع كما يرى من حسن التصنيف فضل المصنف وجلالة قدره كانت معرفته ومحبته مقصورة على الله تعالى غير مجاوزة إلى سواه. ومن حد هذا العشق أنه لا يقبل الشركة وكل ما سوى هذا العشق فهو قابل للشركة؛ إذ كال محبوب سواه بتصور له نظير إما في الوجود وإما في الإمكان. فأما هذا الجمال فلا يتصور له ثان لا في الإمكان ولا في الوجود. فكان اسم العشق على حب غيره مجازاً محضالاً حقيقة. نعم الناقص القريب في نقصانه من البهيمة قد لا يدرك من لفظة العشق إلا طلب الوصال الذي هو عبارة عن تماس ظواهر الأجسام وقضاء شهوة الوقاع. فمثل هذا الحمار ينبغي أن لا يستعمل معه لفظه العشق والشوق والوصال والأنس، بل يجنب هذه الألفاظ والمعان كما تجنب البهيمة النرجس والريحان وتخصص بالفت والحشيش وأوراق القضبان. فإن الألفاظ إنما يجوز إطلاقها في حق الله تعالى إذا لم تكن موهمة معنى يجب تقديس الله تعالى عنه. لصفات الله تعالى وجد غالب يقطع بسببه نياط القلب. فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله : أنه ذكر غلاماً كان في بني إسرائيل على جبل فقال لأمه: من خلق السماء?

قالت: الله عز وجل، قال: فمن خلق الأرض? قالت: الله عز وجل، قال: فمن خلق الجبال? قالت: الله عز وجل، قال: فمن خلق الغيم? قالت: الله عز وجل، قال: إني لأسمع لله شأناً. ثم رمى بنفسه من الجبل فتقطع. وهذا كأنه سمع ما دل على جلال الله تعالى وتمام قدرته فطرب لذلك ووجدى فرمى بنفسه من الوجد. وما أنزلت الكتب إلا ليطربوا بذكر الله تعالى. قال بعضهم: رأيت مكتوباً في الإنجيل؛ غنينا لكم فلم تطربوا وزمرنا لكم فلم ترقصوا. أي شوقناكم بذكر الله تعالى فلم تشتاقوا. فهذا ما أردنا أن نذكره من أقسام السماع وبواعثه ومقتضياته وقد ظهر على القطع إباحته في بعض المواضع والندب إليه في بعض المواضع.

فإن قلت: فهل له حالة يحرم فيها? فأقول إنه يحرم بخمسة عوارض: عارض في المسمع، وعارض في آلة الإسماع، وعارض في نظم الصوت، وعارض في نفس المستمع أو في مواظبته، وعارض في كون الشخص من عوام الخلق، لأن أركان السماع هي المسمع والمستمع وآلة الإسماع.

العارض الأول، أن يكون المسمع امرأة لا يحل النظر إليها وتخشى الفتنة من سماعها، وفي معناها الصبي الأمرد الذي تخشى فتنته، وهذا حرام لما فيه من خوف الفتنة وليس ذلك لأجل الغناء، بل لو كانت المرأة بحيث يفتتن بصوتها في المحاورة من غير ألحان فلا يجوز محاورتها ومحادثتها ولا سماع صوتها في القرآن أيضاً، وكذلك الصبي الذي تخاف فتنته.

فإن قلت: فهل تقول إن ذلك حرام بكل حال حسماً للباب أو لا يحرم إلا حيث تخاف الفتنة في حق من يخاف العنت. فأقول: هذه مسألة محتملة من حيث الفقه يتجاذبها أصلان؛ أحدهما? أن الخلوة بالأجنبية والنظر إلى وجهها حرام سواء خيفت الفتنة أو لم تخف لأنه مظنة الفتنة على الجملة. فقضى الشرع بحسم الباب من غير التفات إلى الصور? والثاني: أن النظر إلى الصبيان مباح إلا عند خوف الفتنة فلا يلحق الصبان بالنساء في عموم الحسم بل يتبع في ه الحال،: وصوت المرأة دائر بين هذين الأصلين فإن قسناه على النظر إليها وجب حسم الباب وهو قياس قريب، ولكن بينهما فرق إذ الشهوة تدعو إلى النظر في أول هيجانها ولا تدعوا إلى سماع الصوت وليس تحليك النظر لشهوة المماسة كتحريك السماع بل هو أشد. وصوت المأة في غير الغناء ليس بعورة فلم تزل النسا في زمن الصحابة رضي الله عنهم يكلمن الرجال في السلام والاستفتاء والسؤال والمشاورة وغير ذلك. ولكن للغناء مزيد أثر في تحريك الشهوة. فقياس هذا على النظر إلى لصبيان أولى لأنهم لم يؤمروا بالحتجاب كما لم تؤمر النساء بستر الأصوات. فينبغي أن يتبع مثار الفتن ويقصر التحريم عليه. هذا هو الأقيس عندي ويتأيد بحديث الجاريتين المغنيتين في بيت، عائشة رضي الله عنها! إذ يعلم أنه كان يسمع أصواتهما ولم يحترز منه، ولكن لم تكن الفتنة مخوفة عليه فلذلك لم يحترز. فإذن يختلف هذا بأحوال المرأة وأحوال الرجل في كونه شاباً وشيخاً ولا يبعد أن يختلف الأمر في مثل هذا بالأحوال. فإنا نقول: للشيخ أن يقبل زوجته وهو صائم وليس للشاب ذلك؛ لأن القبلة تدعو إلى الوقاع في الصوم وهو محظور، والسماع يدعو إلى النظر والمقاربة وهو حرام فيختلف ذلك أيضاً بالأشخاص.

العارض الثاني: في الآلة، بأن يتكون من شعار أهل الشرف أو المخنثين وهي المزامير والأوتار وطبل الكوبة. فهذه ثلاثة أنواع ممنوعة. وما عدا ذلك يبقى على أصل الإباحة كالدف - وإن كان فيه الجلاجل - وكالطبل والشاهين والضرب بالقضيب وسائر الآلات.

العارض الثالث: في نظم الصوت وهو الشعر فإن كان فيه شيء من الخنا والفحش والهجو أو ما هو كذب على الله تعالى وعلى رسوله أو على الصحابة رضي الله عنهم، كما رتبه الروافض في هجاء الصحابة وغيرهم، فسماع ذلك حرام بألحان وغير ألحان، والمستمع شريك للقائل. وكذلك ما فيه ووصف امرأة بعينها فإنه لا يجوز وصف المرأة بين الرجال. وأما هجاء الكفار وأهل البدع فذلك جائز. فقد كان حسان بن ثابت رضي الله عنه ينافح عن رسول الله ويهاجي الكفار وأمره بذلك فأما النسيب وهو التشبيه بوصف الخدود والأصداغ وحسن القد والقامة وسائر أوصاف النساء فهذا فيه نظر. والصحيح أنه لا يحرم نظمه وإنشاده بلحن وغير لحن. وعلى المستمع أن لا ينزله على امرأة معينة فإن نزله فلينزله على من يحل له من زوجته وجاريته: فإن نزله على أجنبية فهو العاصي بالتنزيل وإحالة الفكر فيه. ومن هذا وصفه فينبغي أن يجتنب السماع رأساً فإن من غلب عليه عنق نزل كل ما يسمعه عليه؛ سوء كان اللفظ مناسباً له أو لم يكن، إذ ما من لفظ إلا ويمكن تنزيله على معان بطريق الاستعارة، فالذي يغلب على قلبه حب الله تعالى يتذكر بسواد الصدغ مثلا ظلمة الكفر، وبنضارة الخد نور الإيمان، وبذكر الوصال لقاء الله تعالى، وبذكر الفراق الحجاب عن الله تعالى في زمرة المردودين، وبذكر الرقيب المشوش لروح الوصال عوائق الدنيا وآفاتها المشوشة لدوام الأنس بالله تعالى، ولا يحتاج في تنزيل ذلك عليه إلى استنباط وتفكر ومهلة، بل تسبق المعاني الغالبة على القلب إلى فهمه مع اللفظ. كما روى عن بعض الشيوخ، أنه مر في السوق فسمع واحداً يقول: الخيار عشرة بجبة، فغلبه والوجد، فسئل عن ذلك فقال: إذا كان الخيار عشرة بجبة فما قيمة الأشرار? واجتاز بعضهم في السوق فسمع قائلاً يقول: يا سعتر برى، فغلبه الوجد فقيل له: على ماذا كان وجدك? فقال? سمعته كأنه يقول اسع تر برى، حتى إن العجمى قد يغلب عليه الوجد على الأبيات المنظومة بلغة العرب فإن بعض حروفها يوازن الحروف العجمية فيفهم منها معان آخر. أنشد بعضهم: وما زارني في الليل إلا خباله

فتواجد عليه رجل أعجمي. فسئل عن سبب وجده فقال، إنهن يقول: ما زاريم. وهو كما يقول فإن لفظ زار يدل في العجمية على المشرف على الهلاك، فتوهم أنه يقول: كانا مشرفون على الهلاك، فاستشعر عند ذلك خطر هلاك الآخرة.

والمحترق في حب الله تعالى وجده بحسب فهمه، وفهمه بحسب تخيله. وليس من شرط تخليه أن يوافق مراد الشاعر ولغته. فهذا الوجد حق وصدق. ومن استشعر خطر هلاك الآخرة فجدير بأن يتشوش عليه عقله وتضطرب عليه أعضاؤه. فإذن ليس في تغيير أعيان الألفاظ كبير فائدة، بل الذي غلب عشق مخلوق ينبغي أن يحترز من السماع بأي لفظ كان، والذي غلب عليه حب الله تعالى فلا تضره الألفاظ ولا تمنعه عن فهم المعاني اللطيفة المتعلقة بمجاري همته الشريفة.

العارض الرابع: في المستمع. وهو أن تكون الشهوة غالبة عليه وكان في غزة الشباب وكانت هذه الصفة أغلب عليه من غيرها، فالسماع حرام عليه سواء غلب على قلبه حب شخص معين أو لم يغلب، فإنه كيفما كان فلا يسمع وصف الصدغ والخد والفراق والوصال إلا ويحرك ذلك شهوته وينزله على صورة معينة ينفخ الشيطان بها في قلبه فتشتعل فيه نار الشهوة وتحتد بواعث الشرش. وذلك هو النصرة لحزب الشيطان والتخذيل للعقل المانع منه الذي هو حزب الله قد فتحه أحد الجندين واستولى عليه بالكلية. وغالب القلوب الآن قد فتحها جند الشيطان وغلب عليها فتحتاج حينئذ إلى أن تستأنف أسباب القتال لإزعاجها فكيف يجوز تكثير أسلحتها وتشحيذ سيوفها وأسنتها: والسماع مشحذ لأسلحة جند الشيطان في حق مثل هذا الشخص. فليخرج مثل هذا عن مجمع السماع فإنه يستضر به.

العارض الخامس: أن يكون الشخص من عوام الخلق ولم يغلب عليه حب الله تعالى فيكون السماع له محبوباً، ولو غلبت عليه شهوة فيكون في حقه محظوراً. ولكنه أبيح في حقه كسائر أنواع اللذات المباحة، إلا أنه إذا اتخذه ديدنه وهجيراه وقصر عليه أكثر أوقاته فهذا هو السفيه الذي ترد شهادته، فإن المواظبة على اللهو جناية. وكأن الصغيرة بالإصرار والمداومة تصير كبيرة فكذلك بعض المباحات بالمدوامة تصير صغيرة، وهو كالمواظبة على متابعة الزنوج والحبشة والنظر إلى لعبهم على الدوام فإنه ممنوع وإن لم يكن أصله ممنوعاً إذ فعله رسول الله . ومن هذا القبيل اللعب بالشطرنج فإنه مباح ولكن المواظبة عليه مكروهة كراهة شديدة. ومهما كان الغرض اللعب والتلذذ باللهو فذلك إنما يباح لما فيه من ترويح القلب، إذ راحة القلب معالجة له في بعض الأوقات لتنبعث دواعيه فيشتغل في سائر الأوقات بالجد في الدنيا كالكسب والتجارة، أو في الدين كالصلاة والقراءة. واستحسان ذلك فيما بين تضاعيف الجد كاستحسان الخال على الخد، ولو استوعبت الخيلان الوجه لشوهته فما أقبح ذلك! فيعود الحسن قبحاً بسبب الكثيرة فما كل حسن يحسن كثيره ولا كل مباح يباح كثيره، بل الخبز مباح والاستكثار منه حرام. فهذا المباح كسائر المباحات.

فإن قلت: فقد أدى مساق هذا الكلام إلى أنه مباح في بعض الأحوال دون بعض فلم أطلقت القول أولاً بالإباحة إذ إطلاق القول في المفصل بلا أو بنعم خلف وخطأ? فاعلم أن هذا غلط لأن الإطلاق إنما يمتنع لتفصيل ينشأ من عين ما فيه النظر، فأما ما ينشأ من الأحوال العارضة المتصلة به من خارج فلا يمنع الإطلاق، ألا ترى أنا إذا سئلنا عن العسل أهو حلال أم لا? قلنا: إنه حلالاً، على الإطلاق مع أنه حرام على المحرور الذي يستضربه وإذا سئلنا عن الخمر قلنا. إنها حرام. مع إنها تحل لمن غص بلقمة أن يشرها مهما لم يجد غيرها، ولكن هي من حيث أنها خمر حرام وإنما أبيحت لعارض الحاجة. والعسل من حيث إنه عسل حلال وإنما حرمن لعارض الضرر، وما يكون لعارض فلا يلتفت إليه فإن البيع حلال ويحرم بعارض الوقوع في وقت النداء يوم، الجمعة ونحوه من العوارض. والسماع من جملة المباحات من حيث إنه سماع صوت طيب موزون مفهوم وإنما تحريمه لعارض خارج عن حقيقة ذاته. فإذا انكشف الغطاء عن دليل الإباحة فلا نبالي بمن يخالف بعد ظهور الدليل.

وأما الشافعي رضي الله عنه فليس تحريم الغناء من مذهبه أصلاً. وقد نص الشافعي وقال في الرجل يتخذه صناعة: لا تجوز شهادته. وذلك لأنه من اللهو المكروه الذي يشبه الباطل، ومن اتخذه صنعة كان منسوباً إلى السفاهة وسقوط المروءة، وإن لم يكن محرماً بين التحريم. فإن كان لا ينسب نفسه إلى الغناء ولا يؤتى لذلك ولا يأتى لأجله وإنما يعرف بأنه قد يطرب في الحال فيترنم بها لم يسقط هذا مروءته ولم يبطل شهادته. و استدل بحديث الجاريتين اللتين كانتا تغنيان في بيت عائشة رضي الله عنها، وقال يونس بن عبد الأعلى: سألت الشافعي رحمه الله عن إباحة أهل المدينة للسماع فقال الشافعي: لا أعلم أحداً من علماء الحجاز كره السماع إلا ما كان منه في الأوصاف، فأما الحداء وذكر الأطلال والمرابع وتحسين الصوت بألحان الأشعار فمباح.

وحيث قال: إنه لهو مكروه يشبه الباطل فقوله لهو صحيح. ولكن اللهو من حيث إنه لهو ليس بحرام فلعب الحبشة ورقصهم لهو وقد كان ينظر إليه ولا يكرهه. بل اللهو واللغو لا يؤاخذ الله تعالى به إن عنى به أنه فعل ما لا فائدة فيه. فإن الإنسان لو وظف على نفسه أن يضع يده على رأسه في اليوم مائة مرة فهذا عبث لا فائدة له ولا يحم. قال الله تعالى: "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم" فإذا كان ذكر اسم الله تعالى على الشيء على طريق القسم من غير عقد عليه ولا تصميم والمخالفة فيه مع أنه لا فائدة فيه لا يؤاخذ فيكيف يؤاخذ به بالشعر والرقص? وأما قوله يشبه الباطل فهذا لا يدل على اعتقاد تحريمه، بل لو قال: هو باطل صريحاً. لما دل على التحريم وإنما يدل على خلوه عن الفائدة، فالباطل ما لا فائدة فيه. فقول الرجل لامرأته مثلاً: بعت نفسي منك، وقولها: اشتريت، عقد باطل مهما كان القصد اللعب والمطايبة وليس بحرام إلا إذا قصد به التمليك المحقق منع الشرع منه.

وأما قوله مكروه، فينزل بعض المواضع التي ذكتها لك أو ينزل على التنزيه فإنه نص على إباحة لعب الشطرنج وذكر أني أكره لعب وتعليله يدل عليه فإنه قال: ليس ذلك من عادة ذوي الدين والمروءة. فهذا يدل على التنزيه. ورده الشهادة بالمواظبة عليه لا يدل على تحريمه أيضاً بل قد ترد الشادة بالأكل في السوق وما يحرم المروءة، بل الحياكة مباحة وليست من صنائع ذوي المروءة، وقد ترد شهادة المحترف بالحرفة الخسيسة فتعليله يدل على أنه أراد بالكراهة التنزيه. وهذا هو الظن أيضاً بغيره من كبار الأئمة. وإن أرادوا التحريم فما ذكرناه حجة عليهم.

بيان حجج القائلين بتحريم السماع والجواب عنها

احتجوا بقوله تعالى "ومن الناس من يشتري لهو الحديث" قال ابن مسعود والحسن البصري والنخعي رضي الله عنهم: إن لهو الحديث هو الغناء. وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي قال: "إن الله تعالى حرم القينة وبيعها وثمنها وتعليمها" فنقول: أما القينة فالمراد بها الجارية التي تغني للرجال في مجلس الشرب. وقد ذكرنا أن غناء الأجنبية للفساق ومن يخاف عليهم الفتنة حرام، وهم لا يقصدون بالفتنة إلا ما هو محظور، فأما غناء الجارية لمالكها فلا يفهم تحريمه من هذا الحديث، بل لغير مالكها سماعها عند عدم الفتنة. بدليل ما روى في الصحيحين من غناء الجاريتين في بيت عائشة رضي الله عنها. وأما شراء لهو الحديث بالدين استبدالاً به ليضل به عن سبيل الله فهو حرام مذموم، وليس النزاع فيه، وليس كل غناء بدلاً عن الدين مشترى به ومضلاً عن سبيل الله تعالى، وهو المراد في الآية. ولو قرأ القرآن ليضل به عن سبيل اله لكان حراماً.

حكى عن بعض المنافقين أنه كان يؤم الناس ولا يقرأ إلا سورة عبس لما فيها من العتاب مع رسول الله فهم عمر بقتله، ورأى فعله حراما لما فيه من الإضلال بالشعر والغناء أولى بالتحريم.

واحتجوا بقوله تعالى: "أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون" قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو الغناء بلغة حمير - يعني السمد - فنقول: ينبغي أن يحرم الضحك وعدم البكاء أيضاً لآن الآية تشتمل عليه.

فإن قيل: إن ذلك مخصوص بالضحك على المسلمين لإسلامهم? فهذا أيضاً مخصوص بأشعارهم وغنائهم في معرض الاستهزاء بالمسلمين كما قال تعالى "والشعراء يتبعهم الغاوون" وأراد به شعراء الكفار. ولم يدل ذلك على تحريم نظم الشعر في نفسه.

واحتجوا بما روى جابر رضي الله عنه أنه قال "كان إبليس أول من ناح وأول من تغنى" فقد جمع بين النياحة والغناء? قلنا: لا جرم كما استثنى منه نياحة داود عليه السلام ونياحة المذنبين على الجاريتين يوم العيد في بيت رسول الله ، وغناؤهن عند قدومه عليه السلام بقولهن: طلع البدر علينا من ثنيات الوداع

واحتجوا بما روى أبو إمامة عنه أنه قال "ما رفع أحد صوته بغناء إلا بعث الله له شيطانين على منكبيه يضربان بأعقابهما على صدره حتى يمسك" هو منزل على بعض أنواع الغناء الذي قدمناه وهو الذي يحرك من القلب وما هو مراد الشيطان من الشهوة وعشق المخلوقين، فأما ما يحرك الشوق إلى الله أو السرور بالعيد أو حدوث الولد أو قدوم الغائب فهذا كله يضاد مراد الشيطان. بدليل قصة الجاريتين والحبشة والأخبار التي نقلناها من الصحاح فالتجويز في موضع واحد نص في الإباحة، والمنع في ألف موضع محتمل التأويل ومحتمل للتنزيل. أما الفعل فلا تأويل له، إذ ما حرم فعله إنما يحل بعارض الإكراه فقط، وما أبيح فعله يحرم بعوارض كثيرة حتى النيات والقصود.

واحتجوا بما روى عقبة بن عامر أن النبي قال "كل شيء يلهو به الرجل فهو باطل إلا تأديبه فرسه ورميه بقوسه وملاعبته لامرأته" قلنا: فقوله باطل لا يدل على التحريم بل يدل على عدم الفائدة وقد يسلم ذلك. على أن التلهي بالنظر إلى الحبشة خارج عن هذه الثلاثة وليس بحرام، بل يلحق بالمحصور غير المحصور قياساً كقوله "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث" فإنه يلحق به رابع وخامس فكذلك ملاعبة امرأته لا فائدة له إلا التلذذ. وفي هذا دليل على أن التفرج في البساتين وسماع أصوات الطيور وأنواع المداعبات مما يلهو به الرجل لا يحرم عليه شيء منها وإن جاز وصفه بأنه باطل.

واحتجوا بقول عثمان رضي الله عنه: ما تغنيت ولا تمنيت ولا مست ذكري بيميني مذ بايعت بها رسول الله . قلنا: فليكن التمني ومس الذكر باليمنى حراماً، إن كان هذا دليل تحريم الغناء فمن أين يثبت أن عثمان رضي الله عنه كان لا يترك إلا الحرام?

واحتجوا بقول ابن مسعود رضي الله عنه: الغناء ينبت في القلب النفاق، وزاد بعضهم كما ينبت الماء البقل ورفعه بعضهم إلى رسول الله وهو غير صحيح. قالوا: ومر على ابن عمر رضي الله عنهما قوم محرمون وفيهم رجل يتغنى فقال: ألا لا أسمع اله لكم ألا لا أسمع الله لكم. وعن نافع أنه قال: كنت مع ابن عمر رضي الله عنهما في طريق فسمع زمارة راع فوضع أصبعيه في أذنيه ثم عدل عن الطريق؛ فلم يزل يقول: يا نافع أتسمع ذلك? حتى قلت: لا فأخرج أصبعيه وقال: هكذا رأيت رسول الله صنع وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: الغناء رقية الزنا. وقال بعضهم: الغناء رائد من رواد الفجور. وقال يزيد بن الوليد: إياكم والغناء فإنه ينقص الحياء ويزيد الشهوة ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر ويفعل ما يفعله السكر، فإن كنتم لا بد فاعلين فجنبوه النساء فإن الغناء داعية الزنا. فنقول: قول ابن مسعود رضي الله عنه "ينبت النفاق" أراد به في حق المغني، فإنه في حقه ينبت النفاق إذ غضه كله أن يعرض نفسه على غيره ويروج صوته عليه، ولا يزال ينافق ويتودد إلى الناس ليرغبوا في غنائه، وذلك أيضاً لا يوجب تحريماً. فإن لبس الثياب الجميلة وركوب الخيل المهملجة وسائر أنواع الزينة والتفاخر بالحرث والأنعام والزرع وغير ذلك ينبت في القلب النفاق والرياء، ولا يطلق القول بتحريم ذلك كله. فليس السبب في ظهور النفاق في القلب المعاصي فقط، بل المباحات التي هي مواقع نظر الخلق أكثر تأثيراً. ولذلك نزل عمر رضي الله عنه عن فرس هملج تحته وقطع ذنبه لأنه استشعر في نفسه الخيلاء لحسن مطيته. فهذا النفاق من المباحات. وأما قول ابن عمر رضي الله عنهما: ألا لا أسمع الله لكم. فلا يدل على التحريم من حيث إنه غناء بل كانوا محرمين ولا يليق بهم الرفث، وظهر له من مخايلهم أن سماعهم لم يكن لوجد وشوق إلى زيارة بيت الله تعالى بل لمجرد اللهو، فأنكر ذلك عليهم لكونه منكراً بالإضافة إلى حالهم وحال الإحرام. وحكايات الأحوال تكثر فيها وجوه الاحتمال. وأما وضعه أصبعيه في أذنيه فيعارضه أنه لم يأمر نافعاً بذلك ولا أنكر عليه سماعه، وإنما فعل ذلك هو لأنه رأى أن ينزه سمعه في الحال وقلبه عن صوت ربما يحرك اللهو ويمنعه عن فكر كان فيه أو ذكر هو أولى منه. وكذلك فعل رسول الله مع أنه لم يمنع ابن عمر، لا يدل أيضاً على التحريم بل يدل على أن الأولى تركه. ونحن نرى أن الأولى تركه في أكثر الأحوال، بل أكثر مباحات الدنيا الأولى تركها إذا علم أن ذلك يؤثر في القلب. فقد خلع رسول الله بعد الفراغ من الصلاة ثوب أبي جهم إذ كان في حالة كان صوت زمارة الراعي يشغله عن تلك الحالة كما شغله العلم عن الصلاة. بل الحاجة إلى استثارة الأحوال الشريفة من القلب بحيلة السماع قصور بالإضافة إلى من هو دائم الشهود للحق. وإن كان كمالاً بالإضافة إلى غيره. ولذلك قال الحصري: ماذا أعمل بسماع ينقطع إذا مات من يسمع منه? إشارة إلى أن السماع من الله تعالى هو الدائم. فالأنبياء عليهم السلام على الدوام في لذة السمع والشهود فلا يحتاجون إلى التحريك بالحيلة. وأما قول الفضيل: هو رقية الزنا. وكذلك ما عداه من الأقاويل القريبة منه. فهو منزل على سماع الفساق والمغتلين من الشبان. ولو كان ذلك عاماً لما سمع من الجاريتين في بيت رسول الله .

وأما القياس: فغاية ما يذكر فيه أن يقاس على الأوتار، وقد سبق الفرق، أو يقال هو لهو ولعب، وهو كذلك ولكن الدنيا كلها لهو ولعب. قال عمر رضي الله عنه لزوجته: إنما أنت لعبة في زاوية البيت. وجميع الملاعبة مع النساء لهو إلا الحراثة التي هي سبب وجود الولد. وكذلك المزح الذي لا فحش فيه حلال. نقل ذلك عن رسول الله وعن الصحابة، كما سيأتي تفصيله في كتاب آفات اللسان. إن شاء الله تعالى وأي لهو يزيد على لهو الحبشة والزنوج في لعبهم وقد ثبت بالنص إباحته? على أني أقول: اللهو مروح للقلب ومخفف عنه أعباء الفكر، والقلوب إذا أكرهت عميت وترويحها إعانة لها على الجد، فالمواظب على التفقه مثلاً ينبغي أن يتعطل يوم الجمعة لأن عطلة يوم تبعث على النشاط في سائر الأيام، والمواظب على نوافل الصلوات في سائر الأوقات ينبغي أن يتعطل في بعض الأوقات، ولأجله كرهت الصلاة في بعض الأوقات. فالعطلة معونة على العمل واللهو معين على الجد، ولا يصبر على الجد المحض والحق المر إلا نفوس الأنبياء عليهم السلام. فاللهو دواء القلب من داء الإعياء والملال، هذا في حق من لا يحرك السماع من قلبه صفة محمودة يطلب تحريكها بل ليس له إلا اللذة والاستراحة المحضة، فينبغي أن يستحب له ذلك ليتوصل به إلى المقصود الذي ذكرناه. نعم هذا يدل على نقصان عن ذروة الكمال فإن الكامل هو الذي لا يحتاج أن يروح نفسه بغير الحق، ولكن حسنات الأبرار سيئات المقربين من أحاط بعلم علاج القلوب ووجوه التلطف بها لسيافتها إلى الحق علم قطعاً أن ترويحها بأمثال هذه الأمور دواء نافع لا غنى عنه.