إحياء علوم الدين/كتاب أسرار الطهارة



كتاب أسرار الطهارة

وهو الكتاب الثالث من ربع العبادات


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي تلطف بعباده فتعبدهم بالنظافة، وأفاض على قلوبهم تزكية لسرائرهم أنواره وألطافه، وأعد لظواهرهم تطهيراً لها الماء المخصوص بالرقة واللطافة، وصلى الله على النبي محمد المستغرق بنور الهدى أطراف العالم وأكنافه، وعلى آله الطيبين الطاهرين صلاة تنجينا بركاتها يوم المخافة، وتنتصب جنة بيننا وبين كل آفة. أما بعد. فقد قال النبي "بني الدين على النظافة" وقال "مفتاح الصلاة الطهور" وقال الله تعالى "فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين" وقال النبي "الطهور نصف الإيمان" وقال الله تعالى "ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم" فتفطن ذوو البصائر بهذه الظواهر أن أهم الأمور تطهير السرائر إذ يبعد أن يكون المراد بقوله "الطهور نصف الإيمان" عمارة الظاهر بالتنظيف بإفاضة الماء وإلقائه وتخريب الباطن وإبقائه مشحوناً بالأخباث والأقذار هيهات هيهات! والطهارة لها أربع مراتب المرتبة الأولى تطهير الظاهر عن الأحداث وعن الأخباث والفضلات المرتبة الثانية تطهير الجوارح عن الجرائم والآثام المرتبة الثالثة تطهير القلب عن الأخلاق المذمومة والرذائل الممقوتة المرتبة الرابعة تطهير السر عما سوى الله تعالى وهي طهارة الأنبياء صلوات الله عليهم والصديقين، والطهارة في كل رتبة نصف العمل الذي فيها فإن الغاية القصوى في عمل السر أن ينكشف له جلال الله تعالى وعظمته ولن تحل معرفة الله تعالى بالحقيقة في السر ما لم يرتحل ما سوى الله تعالى عنه. ولذلك قال الله عز وجل "قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون" لأنهما لا يجتمعان في قلب "وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه" وأما عمل القلب فالعناية القصوى عمارته بالأخلاق المحمودة والعقائد المشروعة ولن يتصف بها ما لم ينظف عن نقائضها من العقائد الفاسدة والرذائل الممقوتة، فتطهيره أحد الشطرين وهو الشطر الأول الذي هو شرط في الثاني فكان الطهور شطر الإيمان بهذا المعنى، وكذلك تطهير الجوارح عن المناهي أحد الشطرين وهو الشطر الأول الذي هو شرط في الثاني، فتطهيره أحد الشطرين وهو الشرط الأول وعمارتها بالطاعات الشطر الثاني فهذه مقامات الإيمان ولكل مقام طبقة ولن ينال العبد الطبقة العالية إلا أن يجاوز الطبقة السافلة، فلا يصل إلى طهارة السر عن الصفات المذمومة وعمارته بالمحمودة ما لم يفرغ من طهارة القلب عن الخلق المذموم وعمارته بالخلق المحمود، ولن يصل إلى ذلك من لم يفرغ عن طهارة الجوارح عن المناهي وعمارتها بالطاعات، وكلما عز المطلوب وشرف صعب مسلكه وطال طريقه وكثرت عقباته فلا تظن أن هذا الأمر يدرك وينال بالهوينى، نعم من عميت بصيرته عن تفاوت هذه الطبقات لم يفهم من مراتب الطهارة إلا الدرجة الأخيرة التي هي كالقشرة الأخيرة الظاهرة بالإضافة إلى اللب المطلوب، فصار يمعن فيها ويستقصى في مجاريها ويستوعب جميع أوقاته في الاستنجاء وغسل الثياب وتنظيف الظاهر وطلب المياه الجارية الكثيرة ظناً منه بحكم الوسوسة وتخيل العقل أن الطهارة المطلوبة الشريفة هي هذه فقط وجهالة بسيرة الأولين واستغراقهم جميع الهم والفكر في تطهير القلب وتساهلهم في أمر الظاهر، حتى إن عمر رضي الله عنه مع علو منصبه توضأ من ماء في جرة نصرانية، وحتى إنهم ما كانوا يغسلون اليد من الدسومات والأطعمة بل كانوا يمسحون أصابعهم بأخمص أقدامهم وعدوا الأشنان من البدع المحدثة، ولقد كانوا يصلون على الأرض في المساجد ويمشون حفاة في الطرقات، ومن كان لا يجعل بينه وبين الأرض حاجزاً في مضجعه كان من أكابرهم، وكانوا يقتصرون على الجارة في الاستنجاء. وقال أبو هريرة وغيره من أهل الصفة: "كنا نأكل الشواء فتقام الصلاة فندخل أصابعنا في الحصى ثم نفركها بالتراب ونكبر" وقال عمر رضي الله عنه: "ما كنا نعرف الأشنان في عرص رسول الله وإنما كانت مناديلنا بطون أرجلنا كنا إذا أكلنا الغمر مسحنا بها" ويقال أول ما ظهر من البدع بعد رسول الله أربع: المناخل والأشنان والموائد والشبع. فكانت عنايتهم كلها بنظافة الباطن حتى قال بعضهم: الصلاة في النعلين أفضل "لأن رسول الله لما نزع نعليه في صلاته بإخبار جبريل عليه السلام له أن بهما نجاسة وخلع الناس نعالهم قال لم خلعتم نعالكم"? وقال النخعي في الذين يخلعون نعالهم "وددت لو أن محتاجاً جاء إليها فأخذها" منكراً لخلع النعال. فهكذا كان تساهلهم في هذه الأمور بل كانوا يمشون في طين الشوارع حفاة ويجلسون عليها ويصلون في المساجد على الأرض، ويأكلون من دقيق البر والشعير وهو يداس بالدواب وتبول عليه، ولا يحترزون من عرق الإبل والخيل مع كثرة تمرغها في النجاسات، ولم ينقل قط عن أحد منهم سؤال في دقائق النجاسات فهكذا كان تساهلهم فيها. وقد انتهت النوبة الآن إلى طائفة يسمون الرعونة نظافة فيقولون هو مبنى الدين فأكثر أوقاتهم في تزيينهم الظواهر، كفعل الماشطة بعروسها والباطن خراب مشحون بخبائث الكبر والعجب والجهل والرياء والنفاق ولا يستنكرون ذلك ولا يتعجبون منه! ولو اقتصر مقتصر على الاستنجاء بالحجر أو مشى على الأرض حافياً أو صلى على الأرض أو على بواري المسجد من غير سجادة مفروشة أو مشى على الفرش من غير غلاف للقدم من أدم أو توضأ من آنية عجوز أو رجل غير متقشف أقاموا عليه القيامة وشدوا عليه النكير ولقيوه بالقذر وأخرجوه من زمرتهم واستنكفوا عن مؤاكلته ومخالطته. فسموا البذاذة التي هي من الإيمان قذارة والرعونة نظافة فانظر كيف صار المنكر معروفاً والمعروف منكراً! وكيف اندرس من الدين رسمه كما اندرس حقيقته وعلمه. فإن قلت: أفتقول إن هذه العادات التي أحدثها الصوفية في هيئاتهم ونظافتهم من المحظورات أو المنكرات? فأقول حاش لله أن أطلق القول فيه من غير تفصيل ولكني أقول إن هذا التنظيف والتكلف وإعداد الأواني والآلات واستعمال غلاف القدم والإزار المقنع به لدفع الغبار وغير ذلك من هذه الأسباب إن وقع النظر إلى ذاتها على سبيل التجرد فهي من المباحات وقد يقترن بها أحوال ونيات تلحقها تارة بالمعروفات وتارة بالمنكرات، فأما كونها مباحة في نفسها فلا يخفى أن صاحبها متصرف بها في ماله وبدنه وثيابه فيفعل بها ما يريد إذا لم يكن فيه إضاعة وإسراف، وأما مصيرها منكراً فبأن يجعل ذلك أصل الدين ويفسر به قوله "بني الدين على النظافة" حتى ينكر به على من يتساهل فيه الأولين أو يكون القصد به تزيين الظاهر للخلق وتحسين موقع نظرهم، فإن ذلك هو الرياء المحظور فيصير منكراً بهذين الاعتبارين، أما كونه معروفاً فبأن يكون القصد منه الخير دون التزين وأن لا ينكر على من ترك ذلك ولا يؤخر بسببه الصلاة عن أوائل الأوقات ولا يشتغل به عن عمل هو أفضل منه أو عن علم أو غيره، فإذا لم يقترن به شيء من ذلك فهو مباح يمكن أن يجعل قربة بالنية ولكن لا يتيسر ذلك إلا للبطالين الذين لم يشتغلوا بصرف الأوقات فيه لاشتغلوا بنوم أو حديث فيما لا يعني فيصير شغلهم به أولى لأن الاشتغال بالطهارات يجدد ذكر الله تعالى وذكر العبادات فلا بأس به إذا لم يخرج إلى منكر أو إسراف. وأما أهل العلم والعمل فلا ينبغي أن يصرفوا من أوقاتهم إليه إلا قدر الحاجة فالزيادة عليه منكر في حقهم وتضييع العمر الذي هو أنفس الجواهر وأعزها في حق من قدر على الانتفاع به. ولا يتعجب من ذلك فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين. ولا ينبغي للبطال أن يترك النظافة وينكر على المتصوفة ويزعم أنه يتشبه بالصحابة إذ التشبه بهم في أن لا يتفرغ إلا لما هو أهم منه، كما قيل لداود الطائي لم لا تسرح لحيتك? قال: إنذ إذن لفارغ. فلهذا لا أرى للعالم ولا للمتعلم ولا للعامل أن يضيع وقته في غسل الثياب إحترازاً من أن يلبس الثياب المقصورة وتوهماً بالقصار تقصيراً في الغسل؛ فقد كانوا في العصر الأول يصلون في الفراء المدبوغة ولم يعلم منهم من فرق بين المقصورة والمدبوغة في الطهارة والنجاسة، بل كانوا يجتنبون النجاسة إذا شاهدوها ولا يدققون نظرهم في استنباط الاحتمالات الدقيقة، بل كانوا يتأملون في دقائق الرياء والظلم حتى قال سفيان الثوري لرفيق كان يمشي معه فنظر إلى باب دار مرفوع معمور: لا تفعل ذلك فإن الناس لو لم ينظروا إليه لكان صاحبه لا يتعاطى هذا الإسراف. فالناظر إليه معين له على الإسراف. فكانوا يعدون جمام الذهن لاستنابط مثل هذه الدقائق لا في احتمالات النجاسة. فلو وجد العالم عامياً يتعاطى له غسل الثياب محتاطاً فهو أفضل فإنه بالإضافة إلى التساهل خير. وذلك العامي ينتفع بتعاطيه إذ يشغل نفسه الأمارة بالسوء بعمل المباح في نفسه فيمتنع عليه المعاصي في تلك الحال. والنفس إن لم تشغل بشيء شغلت صاحبها وإذا قصد به التقرب إلى العالم صار ذلك عنده من أفضل القربات. فوقت العالم أشرف من أن يصرفه إلى مثله فيبقى محفوظاً عليه، وأشرف وقت العامي أن يشتغل بمثله فيتوفر الخير عليه من الجوانب كلها. وليتفطن بهذا المثل لنظائره من الأعمال وترتيب فضائلها ووجه تقديم البعض منها على بعض، فتدقيق الحساب في حفظ لحظات العمر بصرفها إلى الأفضل أهم من التدقيق في أمور الدنيا بحذافيرها. وإذا عرفت هذه المقدمة واستبنت أن الطهارة لها أربع مراتب. فاعلم أنا في هذا الكتاب لسنا نتكلم إلا في المرتبة الرابعة وهي نظافة الظاهر لأنا في الشطر الأول من الكتاب لا نتعرض قصداً إلا للظواهر. فنقول طهارة الظاهر ثلاثة أقسام: طهارة عن الخبث وطهارة عن الحدث وطهارة عن فضلات البدن، وهي التي تحصل بالقلم والاستحداد واستعمال النورة والختان وغيره.