إحياء علوم الدين/كتاب أسرار الطهارة/القسم الأول



القسم الأول

في طهارة الخبث

والنظر فيه يتعلق بالمزال والمزال به والإزالة


الطرف الأول عدل

في المزال عدل

وهي النجاسة. والأعيان ثلاثة: جمادات وحيوانات وأجزاء حيوانات. أما الجمادات فطاهرة كلها إلا الخمر وكل منتبذ مسكر، والحيوانات طاهرة كلها إلا الكلب والخنزير وما تولد منهما أو من أحدهما. فإذا ماتت فكلها نجسة إلا خمسة: الآدمي والسمك والجراد ودود التفاح - وفي معناه كل ما يستحل من الأطعمة - وكل ما ليس له نفس سائلة كالذباب والخنفساء وغيرهما فلا ينجس الماء بوقوع شيء منها فيه. وأما أجزاء الحيوانات فقسمان، أحدهما: ما يقطع منه وحكمه حكم الميت. والشعر لا ينجس بالجز، والموت والعظم ينجس. الثاني: الرطوبات الخارجة من باطنه فكل ما ليس مستحيلاً ولا له مقر فهو طاهر كالدمع والعرق واللعاب والمخاط، وما له مقر وهو مستحي فنجس، إلا ما هو مادة الحيوان كالمني والبيض. والقيح والدم والروث والبول نجس من الحيوانات كلها. ولا يعفى عن شيء م هذه النجاسات قليلها وكثيرها إلا عن خمسة، الأول: أثر النجو بعد الاستجمار بالأحجار يعفى عنه ما لم يعد المخرج والثاني: طين الشوارع وغبار الروث في الطريق يعفى عنه مع تيقن النجاسة بقدر ما يتعذر الاحتراز عنه، وهو الذي لا ينسب المتلطلخ به إلى تفريط أو سقطة. الثالث: ما على أسفل الخف من نجاسة لا يخلو الطريق عنها فيعفى عنه بعد الدلك للحاجة: الرابع: دم البراغيث ما قل منه أو كثر إلا إذا جاوز حد العادة سواء كان في ثوبك أو في ثوب غيرك فلبسته. الخامس: دم البثرات وما ينفصل منها من قيح وصديد. ودلك ابن عمر رضي الله عنه بثرة على وجهه فخرج منها الدم وصلى ولم يغتسل. وفي معناه ما يترشح من لطخات الدماميل التي تدوم غالباً وكذلك أثر الفصد إلا ما يقع نادراً من خراج أو غيره فيلحق بدم الاستحاضة، ولا يكون في معنى البثرات التي لا يخلو الإنسان عنها في أحواله. ومسامحة الشرع في هذه النجاسات الخمس تعرفك أن أمر الطهارة على التساهل وما ابتدع فيها وسوسة لا أصل لها.

الطرف الثاني عدل

في المزال به عدل

وهو إما جامد وإما مائع؛ فحجر الاستنجاء وهو مطهر تطهير تخفيف بشرط أن يكون صلباً طاهراً منشفاً غير محترم، وأما المائعات فلا تزال النجاسات بشيء منها إلا الماء؛ ولا كل ماء بل الطاهر الذي لم يتفاحش تغيره بمخالطة ما يستغنى عنه. ويخرج الماء عن الطهارة بأن يتغير بملاقاة النجاسة طعمه أو لونه أو ريحه. فإن لم يتغير وكان قريباً من مائتين وخمسين منا - وهو خمسمائة رطل برطل العراق - لم ينجس لقوله "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثاً" وإن كان دونه صار نجساً عند الشافعي رضي الله عنه هذا في الماء الراكد. وأما الماء الجاري إذا تغير بالنجاسة فالجرية المتغيرة نجسة دون ما فوقها وما تحتها لأن جريات الماء متفاصلات. وكذا النجاسة الجارية إذا جرت بمجرى الماء فالنجس موقعها من الماء وما عن يمينها وشمالها إذا تقاصر عن قلتين. وإن كان جري الماء أقوى من جري النجاسة فما فوق النجاسة طاهر وما سفل عنها فنجس وإن تباعد وكثر إلا إذا اجتمع في حوض قدر قلتين. وإذا اجتمع قلتان من ماء نجس طهر ولا يعود نجساً بالتفريق. هذا هو مذهب الشافعي رضي الله عنه. وكنت أود أن يكون مذهبه كمذهب مالك رضي الله عنه في أن الماء وإن قل لا ينجس إلا بالتغير إذ الحاجة ماسة إليه ومثار الوسواس اشترط القلتين. ولأجله شق على الناس ذلك: وهو لعمري سبب المشقة ويعرفه من يجربه ويتأمله. ومما لا أشك فيه أن ذلك لو كان مشروطاً لكان أولى المواضع بتعسر الطهارة: مكة والمدينة؛ إذ لا يكثر فيهما المياه الجارية ولا الراكدة الكثيرة. ومن أول عصر رسول الله إلى آخر عصر أصحابه لم تنقل واقعة في الطهارة ولا سؤال عن كيفية حفظ الماء عن النجاسات. وكانت أواني مياههم يتعاطاها الصبيان والإماء الذين لا يحترزون عن النجاسات. وقد توضأ عمر رضي الله عنه بماء في جرة نصرانية، وهذا كالصريح في أنه لم يعول إلا على عدم تغير الماء وإلا فنجاسة النصرانية وإنائها غالبة تعلم بظن قريب، فإذا عسر القيام بهذا المذهب. وعدم وقوع السؤال في تلك الأعصار؛ دليل أول. وفعل عمر رضي الله عنه: دليل ثان. والدليل الثالث: إصغاء رسول الله الإناء للهرة وعدم تغطية الأواني منها: بعد أن يرى أنها تأكل الفأرة ولم يكن في بلادهم حياض تلغ السنانير فيها وكانت لا تنزل الآبار والرابع: أن الشافعي رضي الله عنه نص على أن غسالة النجاسة طاهرة إذا لم تتغير ونجسة إن تغيرت، وأي فرق بين أن يلاقي الماء النجاسة بالورد عليها أو بورودها عليه? وأي معنى لقول القائل إن قوة الورود تدفع النجاسة مع ان الورود لم يمنع مخالطة النجاسة? وإن أحيل ذلك على الحاجة فالحاجة أيضاً ماسة إلى هذا فلا فرق بين طرح الماء في إجانة فيها ثوب نجس أو طرح الثوب النجس في الإجانة وفيها ماء? وكل ذلك معتاد في غسل الثياب والأواني، والخامس: أنهم كانوا يستنجون على أطراف المياه الجارية القليلة، ولا خلاف في مذهب الشافعي رضي الله عنه إذا وقع بول في ماء جار ولم يتغير أنه يجوز التوضؤ به وإن كان قليلاً. وأي فرق بين الجاري والراكد? وليت شعري هل الحوالة على عدم التغير أولى أو على قوة الماء بسبب الجريان? ثم ما حد تلك القوة أتجري في المياه من الأواني على الأبدان وهي أيضاً جارية? ثم البول أشد اختلاطاً بالماء الجاري من نجاسة جامدة ثابتة إذا قضى بأن ما يجري عليها وإن لم يتغير نجس أن يجتمع في مستنقع قلتان، فأي فرق بين الجامد والمائع والماء واحد والاختلاط أشد من المجاورة? والسادس: أنه إذا وقع رطل من البول في قلتين ثم فرقتا فكل كوز يغترف منه طاهر، ومعلوم أن البول منتشر فيه وهو قليل وليت شعري هل تعليل طهارته بعدم التغير أولى أو بقوة الماء بعد انقطاع الكثرة وزوالها مع تحقق بقاء أجزاء النجاسة فيها? والسابع: أن الحمامات لم تزل في الأعصار الخالية يتوضأ فيها المتقشفون ويغمسون الأيدي والأواني في تلك الحياض مع قلة الماء ومع العلم بأن الأيدي النجسة والطاهرة كانت تتوارد عليها. فهذه الأمور مع الحاجة الشديدة تقوى في النفس أنهم كانوا ينظرون إلى عدم التغير معولين على قوله خلق الماء طهوراً لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه وهذا فيه تحقيق، وهو أن طبع كل مائع أن يقلب إلى صفة نفسه كل ما يقع فيه وكان مغلوباً من جهته؛ فكما ترى الكلب يقع في المملحة فيستحيل ملحاً ويحكم بطهارته بصيرورته ملحاً وزوال صفة الكلبية عنه، فكذلك الخل يقع في الماء وكذا اللبن يقع فيه وهو قليل فتبطل صفته ويتصور بصفة الماء وينطبع بطبعه إلا إذا كثر وغلب وتعرف غلبته بغلبة طعمه أو لونه أو ريحه فهذا المعيار. وقد أشار الشرع إليه في الماء القوي على إزالة النجاسة وهو جدير بأن يعول عليه فيندفع به الحرج ويظهر به معنى كونه طهوراً إذ يغلب عليه فيطهره، كما صار كذلك فيما بعد القلتين وفي الغسالة وفي الماء الجاري وفي إصغاء الإناء للهرة ولا تظن ذلك عفواً إذ لو كان كذلك لكان كأثر الاستنجاء ودم البراغيث حتى يصير الماء الملاقي له نجساً ولا ينجس بالغسالة ولا بولوغ السنور في الماء القليل. وأما قوله "لا يحمل خبثاً" فهو في نفسه مبهم فإنه يحمل إذا تغير. فإن قيل. أراد به إذا لم يتغير فيمكن أن يقال إنه أراد به أنه في الغالب لا يتغير بالنجاسات المعتادة? ثم هو تمسك بالمفهوم فيما إذا يبلغ قلتين، وترك المفهوم بأقل من ألأدلة التي ذكرناها ممكن وقوله "لا يحمل خبثاً" ظاهره نفي الحمل أي يقلبه إلى صفة نفسه، كما يقال للملحة لا تحمل كلباً ولا غيره أي ينقلب، وذلك لأن الناس قد يستنجون في المياه القليلة وفي الغدران ويغمسون الأواني النجسة فيها ثم يترددون في أنها تغيرت تغيراً مؤثراً أم لا? فتبين أنه إذا كان قلتين لا يتغير بهذه النجاسة المعتادة. فإن قلت: فقد قال النبي "لا يحمل خبثاً" ومهما كثرت حملها فهذا ينقلب عليك فإنها مهما كثرة حملها حكماً كما حملها حساً. فلابد من التخصيص بالنجاسات المعتادة على المذهبين جميعاً. وعلى الجملة فميلي في أمور النجاسات المعتادة إلى التساهل فهما من سيرة الأولين وحسماً لمادة الوسواس وبذلك أفتيت بالطهارة فيما وقع الخلاف فيه في مثل هذه المسائل.

الطرف الثالث عدل

في كيفية الإزالة عدل

والنجاسة إن كانت حكمية وهي التي لها جرم محسوس فيكفي إجراء الماء على جميع مواردها، وإن كانت عينية فلابد من إزالة العين، وبقاء الطعم يدل على بقاء العين وكذا بقاء اللون إلا فيما يلتصق به فهو معفو عنه بعد الحت والقرص. أما الرائحة فبقاؤها يدل على بقاء العين ولا يعفى عنها إلا إذا كان الشيء له رائحة فائحة بعسر إزالتها فالدلك والعصر مرات متواليات يقوم مقام الحت والقرص في اللون، والمزيل للوسواس أن يعلم أن الأشياء خلقت طاهرة بيقين فما لا يشاهد عليه نجاسة ولا يعلمها يقيناً يصلي معه، ولا ينبغي أن يتوصل بالاستنباط إلى تقدير النجاسات.