إحياء علوم الدين/كتاب الحلال والحرام/الباب الأول



الباب الأول

في فضيلة الحلال ومذمة الحرام وبيان أصناف الحلال

ودرجاته وأصناف الحرام ودرجات الورع فيه

فضيلة الحلال ومذمة الحرام


قال الله تعالى "كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً" أمر بالأكل من الطيبات قبل العمل. وقيل: إن المراد به الحلال. وقال تعالى: "ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل" وقال تعالى: "إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً" -الآية -. وقال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين" ثم قال: "فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله" ثم قال: "وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم" ثم قال: "ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون" جعل آكل الربا أول الأمر مؤذناً بمحاربة الله، وفي آخره متعرضاً للنار، والآيات الواردة في الحلال والحرام لا تحصى. وروى ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي أنه قال: "طلب الحلال فريضة على كل مسلم" ولما قال : "طلب العلم فريضة على كل مسلم". قال بعض العلماء: أراد به طلب علم الحلال والحرام، وجعل المراد بالحديثين واحداً.

وقال : "من سعى على عياله من حله فهو كالمجاهد في سبيل الله، ومن طلب الدنيا حلالاً في عفاف كان في درجة الشهداء" وقال : " من أكل الحلال أربعين يوماً نور الله قلبه وأجرى ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه". وفي رواية: "زهده الله في الدنيا" وروي أن سعداً سأل رسول الله أن يشأل الله تعالى أن يجعله مجاب الدعوة، فقال له: "أطب طعمتك تستجب دعوتك". ولما ذكر الحريص على الدنيا قال: "رب أشعث أغبر مشرد في الأسفار مطعمه حرام وغذي بالحرام، يرفع يديه فيقول: يارب، يارب فأنى يستجاب لذلك". وفي حديث ابن عباس عن النبي " إن لله ملكاً على بيت المقدس ينادي كل ليلة: من أكل حراماً لم يقبل منه صرف ولا عدل". فقيل: الصرف النافلة، والعدل الفريضة. وقال : "من اشترى ثوباً بعشرة دراهم وفي ثمنه درهم حرام لم يقبل الله صلاته مادام عليه منه شيء". وقال : "كل لحم نبت من حرام فالنار أولى به" وقال : "من لم يبال من أين اكتسب المال لم يبال الله من أين أدخله النار". وقال : "العبادة عشرة أجزاء: تسعة منها في طلب في طلب الحلال" روي هذا الحديث مرفوعاً وموقوفاً على بعض الصحابة أيضاً. وقال : "من أصاب مالاً من مأثم فوصل به رحماً أو تصدق به أو أنفقه في سبيل الله جمع الله ذلك جميعاً ثم قذفه في النار" وقال عليه السلام: "خير دينكم الورع". وقال : "من لقي الله ورعاً أعطاه الله ثواب الإسلام كله". ويروى أن الله تعالى قال في بعض كتبه: وأما الورعون فأنا أستحي أن أحاسبهم. وقال : درهم من ربا أشد عند الله من ثلاثين زنية في الإسلام". وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: المعدة حوض البدن والعروق إليها واردة، فإذا صحت المعدة صدرت العروق بالصحة، وإذا سقمت صدرت بالسقم. ومثل الطعمة من الدين مثل الأساس من البنيان، فإذا ثبت الأساس وقوي استقام البنيان وارتفع، وإذا ضعف الأساس واعوج انهار البنيان ووقع. وقال الله عز وجل : "أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله" الآية، وفي الحديث: "من اكتسب مالاً من حرام فإن تصدق به لم يقبل منه، وإن تركه وراءه كان زاده إلى النار". وقد ذكرنا جملة من الأخبار في كتاب آداب الكسب تكشف عن فضيلة الكسب الحلال.

وأما الآثار: فقد ورد أن الصديق رضي الله عنه شرب لبناً من كسب عبده ثم سأل عبده فقال: تكهنت لقوم فأعطوني، فأدخل أصابعه في فيه وجعل يقيء حتى ظننت أن نفسه ستخرج، ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما حملت العروق وخالط الأمعاء. وفي بعض الأخبار أنه أخبر بذلك فقال: "أو ما علمتم أن الصديق لا يدخل جوفه إلا طيباً" وكذلك شرب عمر رضي الله عنه من لبن إبل الصدقة غلطاً، فأدخل إصبعه وتقيأ. وقالت عائشة رضي الله عنها: إنكم لتغفلون عن أفضل العبادة، هو الورع. وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: لو صليتم حتى تكونوا كالحنايا، وصمتم حتى تكونوا كالأوتار، لم يقبل ذلك منكم إلا بورع حاجز. وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: ما أدراك من أدرك إلا من كان يعقل ما يدخل جوفه. وقال الفضيل: من عرف ما يدخل جوفه كتبه الله صديقاً، فانظر عند من تفطر يا مسكين. وقيل لإبراهيم بن أدهم رحمه الله: لم لا تشرب من ماء زمزم? فقال: لو كان لي دلو شربت منه. وقال سفيان الثوري رضي الله عنه: من أنفق من الحرام في طاعة الله كان كمن طهر الثوب النجس بالبول والثوب النجس لا يطهره إلا الماء والذنب لا يكفره إلا الحلال. وقال يحيى بن معاذ: الطاعة خزانة من خزائن الله إلا أن مفتاحها الدعاء، وأسنانه لقم الحلال. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لا يقبل الله صلاة امرىء في جوفه حرام، وقال سهل التستري لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يكون فيه أربع خصال: أداء الفرائض بالسنة، وأكل الحلال بالورع، واجتناب النهي من الظاهر والباطن، والصبر على ذلك إلى الموت. وقال من أحب أن يكاشف بآيات الصديقين فلا يأكل إلا حلالاً ولا يعمل إلا في سنة أو ضرورة. ويقال من أكل الشبهة أربعين يوماً أظلم قلبه، وهو تأويل قوله تعالى: "كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون" وقال ابن المبارك: رد ردهم من شبهة أحب إلي من أن أتصدق بمائة ألف درهم ومائة ألف ألف ومائة ألف، حتى بلغ إلى ستمائة ألف. وقال بعض السلف: إن العبد يأكل أكلة فينقلب قلبه، فينغل كما ينغل الأديم ولا يعود إلى حاله أبداً. وقال سهل رضي الله عنه: من أكل الحرام عصت جوارحه شاء أم أبى، علم أو لم يعلم. ومن كانت طعمته حلالاً أطاعته جوارحه ووفقت للخيرات وقال بعض السلف: إن أول لقمة يأكلها العبد من حلال يغفر له ما سلف من ذنوبه، ومن أقام نفسه مقام ذل في طلب الحلال تساقطت عنه ذنوبه كتساقط ورق الشجر.

وروي في آثار السلف أن الواعظ كان إذا جلس للناس قال العلماء: تفقدوا منه ثلاثاً، فإن كان معتقداً لبدعة فلا تجالسوه فإنه عن لسان الشيطان ينطق، وإن كان سيىء الطعمة فعن الهوى ينطق، فإن لم يكن مكين العقل فإنه يفسد بكلامه أكثر مما يصلح فلا تجالسوه. وفي الأخبار المشهورة عن على عليه السلام وغبره: إن الدنيا حلالها حساب وحرامها عذاب. وزاد آخرون: وشبهتها عتاب. وروي أن بعض الصالحين دفع طعاماً إلى بعض الأبدال فلم يأكل، فسأله عن ذلك فقال: نحن لا نأكل إلا حلالاً، فلذلك تستقيم قلوبنا، فقال له الرجل: فإني أصوم الدهر وأختم القرآن في كل شهر ثلاثين مرة، فقال له البدال: هذه الشربة التي رأيتني شربتها من الليل أحب إلي من ثلاثمائة ركعة من أعمالك، وكانت شربته من لبن ظبية وحشية. وقد كان بين أحمد بن حنبل ويحيى بن معين صحبة طويلة، فهجره أحمد إذ سمعه يقول: إني لا أسأل أحداً شيئاً، ولو أعطاني الشيطان شيئاً لأكلته، حتى اعتذر يحيى وقال: كنت أمزح، فقال: تمزح بالدين، أما علمت أن الأكل من الدين قدمه الله تعالى على العمل الصالح فقال: "كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً" وفي الخبر: أنه مكتوب في التوراة: "من لم يبالي من أين مطعمه لم يبالي الله من أي أبواب النيران أدخله" وعن علي رضي الله عنه أنه لم يأكل بعد قتل عثمان ونهب الدار طعاماً إلا مختوماً حذراً من الشبهة، واجتمع الفضيل بن عياض وابن عيينة وابن المبارك عند وهيب بن الورد بمكة، فذكروا الرطب، فقال وهيب، وهو من أحب الطعام إلي، إلا أني لا آكله لاختلاط رطب مكة ببساتين زبيدة وغيرها، فقال له ابن المبارك: إن نظرت في مثل هذا ضاق عليك الخبز. قال: وما سببه? قال: إن أصول الضياع قد اختلط بالصوافي، فغشي على وهيب، فقال سفيان: قلت الرجل، فقال ابن المباركك ما أردت إلا أن أهون عليه، فلما أفاق قال: لله علي أن لا آكل خبزاً أبداً حتى ألقاه. قال: فكان يشرب اللبن، فأتته أمه بلبن فسألها فقالت: هو من شاة بني فلان، فسأل عن ثمنها وأنه من أين كان لهم فذكرت، فلما أدناه من فيه قال: بقي أنها من أين كانت ترعى? فسكتت، فلم يشرب لأنها كانت ترعى من موضع فيه حق للمسلمين، فقالت أمه: اشرب فإن الله يغفر لك، فقال: ما أحب أن يغفر لي وقد شربته فأنال مغفرته بمعصيته. وكان بشر الحافي رحمه الله من الورعين، فقيل له: من أين تأكل، فقال: من حيث تأكلون، ولكن ليس من يأكل وهو يبكي كمن يأكل وهو يضحك. وقال: يد أقصر من يد ولقمة أصغر من لقمة وهكذا كانوا يحترزون من الشبهات.

أصناف الحلال ومداخله اعلم أن تفصيل الحلال والحرام إنما يتولى بيانه كتب الفقه، ويستغني المريد عن تطويله بأن تكون له طعمة معينة يعرف بالفتوى حلها لا يأكل من غيرها، فأما من يتوسع في الأكل من وجوه متفرقة فيفتقر إلى علم الحلال والحرام كله كما فصلناه في كتاب الفقه. ونحن الآن نشير إلى مجامعه في سياق تقسيم: وهو أن المال إنما يحرم إما لمعنى في عينه أو لخلل في جهة اكتسابه.

القسم الأول الحرام لصفة في عينه كالخمر والخنزير وغيرهما وتفصيله أن الأعيان المأكولة على وجه الأرض لا تعدو ثلاثة أقسام، فإنها إما أن تكون من المعادن كالملح والطين وغيرهما، أو من النبات، أو من الحيوانات.

أما المعادن: فهي أجزاء الأرض وجميع ما يخرج منها، فلا يحرم أكله إلا من حيث أنه يضر بالآكل. وفي بعضها ما يجري مجرى السم، والخبز لو كان مضراً لحرم أكله، والطين الذي يعتاد أكله لا يحرم إلا من حيث الضرر. وفائدة قولنا: إنه لا يحرم مع أنه لا يؤكل، أنه لو وقع شيء منها في مرقة أو طعام مائع لم يصر به محرماً.

وأما النبات: فلا يحرم منه إلا ما يزيل العقل أو يزيل الحياة أو الصحة، فمزيل العقل:البنج والخمر وسائر المسكرات، ومزيل الحياة: السموم، ومزيل الصحة: الأدوية في غير وقتها، وكأن مجموع هذا يرجع إلى الضرر إلا الخمر والمسكرات فإن الذي لا يسكر منها أيضاً حرام مع قلته لعينه ولصفته، وهي الشدة المطربة، وأما السم فإذا خرج عن كونه مضراً لقلته أو لعجنه بغيره فلا يحرم.

وأما الحيوانات: فتنقسم إلى ما يؤكل وإلى ما لا يؤكل، وتفصيله في كتاب الأطعمة، والنظر يطول في تفصيله، لا سيما في الطيور الغريبة وحيوانات البر والبحر، وما يحل أكله منها فإنما يحل إذا ذبح ذبحاً شرعياً روعي فيه شروط الذابح والآلة والمذبح، وذلك مذكور في كتاب الصيد والذبائح، وما لم يذبح ذبحاً شرعياً أو مات فهو حرام، ولا يحل إلا ميتتان: السمك والجراد، وفي معناهما ما يستحيل من الأطعمة كدود التفاح والخل والجبن، فإن الاحتراز منهما غير ممكن، فأما إذا أفردت وأكلت فحكمها حكم الذباب والخنفساء والعقرب وكل ما ليس له نفس سائلة، لا سبب في تحريمها إلا الاستقذار، ولو لم يكن لكان لا يكره، فإن وجد شخص لا يستقذره لم يلتفت إلى خصوص طبعه فإنه التحق بالخبائث لعموم الاستقذار، فيكره أكله، كما لو جمع المخاط وشربه كره ذلك، وليست الكراهة لنجاستها فإن الصحيح أنها لا تنجس بالموت، إذ أمر رسول الله بأن يمقل الذباب في الطعام إذا وقع فيه، وربما يكون حاراً ويكون ذلك سبب موته، ولو تهرت نملة أو ذبابة في قدر لم يجب إراقتها، إذ المستقذر هو جرمه إذا بقي له جرم، ولم ينجس حتى يحرم بالنجاسة، وهذا يدل على أن تحريمه للاستقذار، ولذلك نقول: لو وقع جزء من آدمي ميت في قدر ولو وزن دانق حرم الكل لا لنجاسته، فإن الصحيح أن الآدمي لا ينجس بالموت،ولكن لأن أكله محرم احتراماً لا استقذاراً. وأما الحيوانات المأكولة إذا ذبحت بشرط الشرع فلا تحل جميع أجزائها بل يحرم منها الدم والفرث وكل ما يقضى بنجاسته منها، بل تناول النجاسة مطلقاً محرم، ولكن ليس في الأعيان شيء محرم نجس إلا من الحيوانات. وأما من النبات فالمسكرات فقط دون ما يزيل العقل ولا يسكر كالبنج، فإن نجاسة المسكر تغليظ للزجر عنه لكونه في مظنة التشوف، ومهما وقعت قطرة من النجاسة أو جزء من نجاسة جامدة في مرقة أو طعام أو دهن حرم أكله جميعه، ولا يحرم الانتفاع به لغير الأكل، فيجوز الاستصباح بالدهن النجس، وكذا طلاء السفن والحيوانات وغيرها، فهذه مجامع ما يحرم لصفة في ذاته القسم الثاني ما يحرم لخلل في وجهة إثبات اليد عليه وفيه يتسع النظر فنقول: أخذ المال إما أن يكون باختيار المالك أو بغير اختياره فالذي يكون بغير اختياره كالإرث، والذي يكون باختياره إما أن لا يكون من مالك كنيل المعادن، أو يكون من مالك، والذي أخذ من مالك فإما أن يؤخذ قهراً أو يؤخذ تراضياً، والمأخوذ قهراً إما أن يكون لسقوط عصمة المالك كالغنائم، أو لاستحقاق الأخذ كزكاة الممتنعين والنفقات الواجبة عليهم، والمأخوذ تراضياً إما أن يؤخذ بعرض كالبيع والصداق والأجرة، وإما أن يؤخذ بغير عوض كالهبة والوصية، فيحصل من السياق ستة أقسام:

الأول: ما يؤخذ من غير مالك: كنيل المعادن، وإحياء الموات، والاصطياد والاحتطاب، والاستقاء من الأنهار، والاحتشاش، فهذا حلال بشرط أن لا يكون المأخوذ مختصاً بذي حرمة من الآدميين، فإذا انفك من الاختصاصات ملكها آخذها. وتفضيل ذلك في كتاب إحياء الموات.

الثاني: المأخوذ قهراً ممن لا حرمة له وهو الفيء والغنيمة وسائر أموال الكفار والمحاربين، وذلك حلال المسلمين إذا أخرجوا منها الخمس وقسموها بين المستحقين بالعدل ولم يأخذها من كافر له حرمة وأمان وعهد. وتفصيل هذه الشروط في كتاب السير من كتاب الفيء والغنيمة وكتاب الجزية.

الثالث: ما يؤخذ قهراً باستحقاق عند امتناع من وجب عليه، فيؤخذ دون رضاه، وذلك حلال إذا تم سبب الاستحقاق وتم وصف المستحق الذي به استحقاقه واقتصر على القدر المستحق، واستوفاه ممن يملك الاستيفاء من قاض أو سلطان أو مستحق، وتفصيل ذلك في كتاب تفريق الصدقات وكتاب الوقف وكتاب النفقات، إذ فيها النظر في صفة المستحقين للزكاة والوقف والنفقة وغيرها من الحقوق، فإذا استوفيت شرائطها كان المأخوذ حلالاً.

الرابع: ما يؤخذ تراضياً بمعاوضة، وذلك حلال إذا روعي شرط العوضين وشرط العاقدين وشرط اللفظين. أعني الإيجاب والقبول، مع ما تعبد الشرع به من اجتناب الشروط المفسدة. وبيان ذلك في كتاب البيع والسلم والإجازة والحوالة والضمان والقراض والشركة والمساقاة والشفعة والصلح والخلع والكتابة والصدق وسائر المعاوضات.

الخامس: ما يؤخذ عن رضا من غير عوض، وهو حلال إذا روعي فيه شرط المعقود عليه وشرط العاقدين وشرط العقد ولم يؤد إلى ضرر بوارث أو غيره وذلك مذكور في كتاب الهبات والوصايا والصدقات.

السادس: ما يحصل نغير اختيار كالميراث، وهو حلال إذا كان الموروث قد اكتسب المال من بعض الجهات الخمس على وجه حلال، ثم كان ذلك بعد قضاء الدين وتنفيذ الوصايا وتعديل القسمة بين الورثة وإخراج الزكاة والحج والكفارة إن كان واجباً، وذلك مذكور في كتاب الوصايا والفرائض، فهذه مجامع مداخل الحلال والحرام أومأنا إلى جملتها ليعلم المريد أنه إن كانت طعمته متفرقة لا من جهة معينة فلا يستغني عن علم هذه الأمور، فكل ما يأكله من جهة من هذه الجهات ينبغي أن يستفتي فيه أهل العلم ولا يقدم عليه بالجهل، فإنه كما يقال للعالم: لم خالفت علمك? يقال للجاهل: لم لازمت جهلك ولم تتعلم بعد أن قيل لك طلب العلم فريضة على كل مسلم? درجات الحلال والحرام اعلم أن الحرام كله خبيث، لكن بعضه أخبث من بعض، والحلال كله طيب، ولكن بعضه أطيب من بعض وأصفى من بعض، وكما أن الطبيب يحكم على كل حلو بالحرارة ولكن يقول: بعضها حار في الدرجة الأولى كالسكر، وبعضها حار في الثانية كالفانيذ، وبعضها حار في الثالثة كالدبس، وبعضها حار في الرابعة كالعسل. كذلك الحرام بعضه خبيث في الدرجة الأولى، وبعضه في الثانية أو الثالثة أو الرابعة، وكذا الحلال تتفاوت درجات صفاته وطيبه، فلنقتد بأهل الطب في الاصطلاح على أربع درجات تقريباً. وإن كان التحقيق لا يوجب هذا الحصر، إذ يتطرق إلى كل درجة من الدرجات أيضاً تفاوت لا ينحصر، فإن من السكر ما هو أشد حرارة من سكر آخر، وكذا غيره، فلذلك نقول: الورع عن الحرام على أربع درجات:

الأولى: ورع العدول، وهو الذي يجب الفسق باقتحامه وتسقط العدالة به ويثبت اسم العصيان والتعرض للنار بسببه وهو الورع عن كل ما تحرمه فتاوى الفقهاء.

الثانية: ورع الصالحين، وهو الامتناع عما يتطرق إليه احتمال التحريم، ولكن المفتي يرخص في التناول بناء على الظاهر، فهو من مواقع الشبهة على الجملة، فلنسم التحرج عن ذلك ورع الصالحين وهو في الدرجة الثانية.

الثالثة: ما لا تحرمه الفتوى ولا شبهة في حله، ولكن يخاف منه أداؤه إلى محرم، وهو ترك ما لا بأس به مخافة مما به باس ، وهذا ورع المتقين. قال : "لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى ما لا بأس به مخافة ما به بأس".

الرابعة:ما لا بأس به أصلاً ولا يخاف منه أن يؤذي إلى ما به بأس، ولكنه يتناول لغير الله وعلى غير نية التقوى به على عبادة الله، أو تتطرق إلى أسبابه المسهلة له كراهية أو معصية، والامتناع منه رع الصديقين، فهذه درجات الحلال جملة إلى أن نفصلها بالأمثلة والشواهد.

وأما الحرام الذي ذكرناه في الدرجة الأولى وهو الذي يشترط التورع عنه في العدالة وإطراح سمة الفسق، فهو أيضاً على درجات في الخبث، فالمأخوذ بعقد فاسد كالمعاطاة مثلاً فيما لا يجوز فيه المعاطاة حرام، ولكن ليس في درجة المغصوب على سبيل القهر، بل المغضوب أغلظ، إذ فيه ترك طريق الشرع في الاكتساب وإيذاء الغير، وليس في المعاطاة إيذاء، وإنما فيه ترك التعبد فقط، ثم ترك طريق التعبد بالمعاطاة أهون من تركه بالربا، وهذا التفاوت يدرك بتشديد الشرع ووعيده وتأكيده في بعض الناهي، على ما سيأتي في كتاب التوبة عند ذكر الفرق بين الكبيرة والصغيرة، بل المأخوذ ظلماً من فقير أو صالح أو من يتيم أخبث وأعظم من المأخوذ من قوي أو غني أو فاسق، لأن درجات الإيذاء تختلف باختلاف درجات المؤذي ، فهذه دقائق في تفاصيل الخبائث لا ينبغي أن يذهب عنها، فلولا اختلاف درجات العصاة لما اختلفت درجات النار وإذا عرفت مثارات التغليظ فلا حاجة إلى حصره في ثلاثة درجات أو أربع، فإن ذلك جار مجرى التحكم والتشهي، وهو طلب حصر فيما لا حصر له، ويدلك على اختلاف درجات الحرام في الخبث ما سيأتي في تعارض المحذورات وترجيح بعضها على بعض، حتى إذا اضطر إلى أكل الميتة أو أكل طعام الغير أو أكل صيد الحرم فإنا نقدم بعض هذا على بعض.

أمثلة الدرجات الأربع في الورع وشواهدها عدل

أما الدرجة الأولى: وهي ورع العدول، فكل ما اقتضى الفتوى تحريمه مما يدخل في المداخل الستة التي ذكرناها في مداخل الحرام لفقد شرط من الشروط، فهو الحرام المطلق الذي ينسب مقتحمه إلى الفسق والمعصية، وهو الذي نريده بالحرام المطلق ولا يحتاج إلى أمثلة وشواهد.

وأما الدرجة الثانية: فأمثلتها: كل شبهة لا نوجب اجتنابها ولكن يستحب اجتنابها لما سيأتي في باب الشبهات إذ من الشبهات ما يجب اجتنابها فتلحق بالحرام. ومنها ما يكره اجتنابها فالورع عنها ورع الموسوسين، كمن يمتنع من الاصطياد خوفاً من أن يكون الصيد قد أفلت من إنسان أخذه وملكه، وهذا وسواس. ومنها: ما يستحب اجتنابها ولا يجب وهو الذي ينزل عليه قوله : "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" ونحمله على نهي التنزيه، وكذلك قوله : "كل ما أضميت ودع ما أنميت" والإنماء: أن يجري الصيد فيغيب عنه ثم يدركه ميتاً، إذ يحتمل أنه مات بسقطة أو بسبب آخر، والذي نختاره كما سيأتي: أن هذا ليس بحرام ولكن تركه من ورع الصالحين. وقوله: "دع ما يريبك" أمر تنزيه، إذ ورد في بعض الروايات: "كل منه وإن غاب عنك ما لم تجد فيه أثراً غير سهمك"، ولذلك قال لعدي بن حاتم في الكلب المعلم: "وإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه" على سبيل التنزيه لأجل الخوف. إذ قال لأبي ثعلبة الخشني: "كل منه" فقال: وإن أكل منه? فقال: "وإن أكل"، وذلك لأن حالة أبي ثعلبة وهو فقير مكتسب لا تحتمل هذا الورع، وحال عدي كان يحتمله. يحكى عن ابن سيرين أنه ترك لشريك له أربعة آلاف درهم لأنه حاك في قلبه شيء، مع اتفاق العلماء على أنه لا بأس به، فأمثلة هذه الدرجة نذكرها في التعرض لدرجات الشبهة فكل ما هو شبهة لا يجب اجتنابه فهو مثال هذه الدرجة.

أما الدرجة الثانية: وهي ورع المتقين، فيشهد لها قوله : "لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به مخافة ما به بأس". وقال عمر رضي الله عنه كنا ندع تسعة أعشار الحلال مخافة أن نقع في الحرام وقيل: إن هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقال أبو الدرداء: إن من تمام التقوى أن يتقي العبد في مثقال ذرة حتى يدرك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراماً حتى يكون حجاباً بينه وبين النار، ولهذا كان لبعضهم مائة درهم على إنسان، فحملها إليه، فأخذ تسعة وتسعين وتورع عن استيفاء الكل خيفة الزيادة. وكان ما يستوفيه يأخذه بنقصان حبت وما يعطيه يوفيه بزيادة حبة، ليكون ذلك حاجزاً من النار، ومن هذه الدرجة الاحتراز عما يتسامح به الناس، فإن ذلك حلال في الفتوى ولكن يخاف من فتح بابه أن ينجر إلى غيره وتألف النفس الاسترسال وتترك الورع.

فمن ذلك ما روي عن على بن معبد أنه قال: كنت ساكناً في بيت بكراء، فكتبت كتاباً وأردت أن آخذ من تراب الحائط لأتربه وأجففه، ثم قلت: الحائط ليس لي، فقالت لي نفسي: وما قدر تراب من الحائط؛ فأخذت من التراب حاجتي، فلما نمت فإذا أنا بشخص واقف يقول: يا علي بن معبد، سيعلم غداً الذي يقول: وما قدر تراب من حائط، ولعل معنى ذلك أن يرى كيف يحط من منزلته، فإن للتقوى درجة تفوت بفوات ورع المتقين، وليس المراد به أن يستحق عقوبة على فعله.

ومن ذلك ما روي أن عمر رضي الله عنه وصله مسك من البحرين فقال: وددت لو أن امرأة وزنته حتى أقسمه بين المسلمين، فقالت امرأته عاتكة:أنا أجيد الوزن فسكت عنها، ثم أعاد لبقول فأعادت الجواب، فقال لا أحببت أن تضعيه بكفة ثم تقولين فيها أثر الغبار فتمسحين بها عنقك فأصيب بذلك فضلاً على المسلمين. وكان يوزن بين يدي عمر بن عبد العزيز مسك للمسلمين. فأخذ بأنفه حتى لا تصيبه الرائحة وقال: وهل ينتفع منه إلا بريحه لما استبعد ذلك منه. وأخذ الحسن رضي الله عنه تمرة من تمر الصدقة وكان صغيراً فقال النبي : "كخ كخ" أي ألقها.

ومن ذلك ما روى بعضهم أنه كان عند محتضر، فمات ليلاً فقال: أطفئوا السراج فقد حدث للورثة حق في الدهن. وروى سليمان التيمي عن نعيمة العطارة قالت: كان عمر رضي الله عنه يدفع إلى امرأته طيباً من طيب المسلمين لتبيعه، فباعتني طيباً فجعلت تقوم وتزيد وتنقص وتكسر بأسنانها، فتعلق بإصبعها شيء منه فقالت به هكذا بإصبعها، ثم مسحت به خمارها فدل عمر رضي الله عنه فقال: ما هذه الرائحة? فأخبرته فقال: طيب المسلمين تأخذينه، فانتزع الخمار من رأسها وأخذ جرة من الماء فجعل يصب على الخمار ثم يدلكه في التراب ويشمه، حتى لم يبق به ريح، قالت:ثم أتيتها مرة أخرى فلما وزنت علق منه شيء بإصبعها، فأدخلت إصبعها في فيها ثم مسحت به التراب، فهذا من عمر رضي الله عنه ورع التقوى، لخوف أداء ذلك إلى غيره، وإلا فغسل الخمار ما كان يعيد الطيب إلى المسلمين، ولكن أتلفه عليها زجراً وردعاً واتقاء من أن يتعدى الأمر إلى غيره.

ومن ذلك ما سئل أحمد بن حنبل رحمه الله عن رجل يكون في المسجد يحمل مجمرة لبعض السلاطين ويبخر المسجد بالعود فقال: ينبغي أن يخرج من المسجد، فإنه لا ينتفع من العود إلا برائحته، وهذا قد يقارب الحرام، فإن القدر الذي يعبق بثوبه من رائحة الطيب قد يقصد وقد يبخل به، فلا يدري أنه يتسامح به أم لا. وسئل أحمد بن حنبل عمن سقطت منه ورقة فيها أحاديث، فهل لمن وجدها أن يكتب منها ثم يردها? فقال: لا بل يستأذن ثم يكتب، وهذا أيضاً قد يشك في أن صاحبها هل يرضى به أم لا، فما هو في محل الشك والأصل تحريمه فهو حرام، وتركه من الدرجة الأولى. ومن ذلك التورع عن الزينة لأنه يخاف منها أن تدعو إلى غيرها، وإن كانت الزينة مباحة في نفسها. وقد سئل أحمد بن حنبل عن النعال السبتية فقال: أما أنا فلا استعملها ولكن إن كان للطين فأرجو، وأما من أراد الزينة فلا، ومن ذلك أن عمر رضي الله عنه لما ولي الخلافة كانت له زوجة يحبها، فطلقها خيفة أن تشير عليه بشفاعة في باطل فيطيعها ويطلب رضاها، وهذا من ترك لا بأس به مخافة مما به البأس. أي مخافة من أن يفضي إليه، وأكثر المباحات داعية إلى المحظورات، حتى استكثار الأكل واستعمال الطيب للمغترب فإنه يحرك الشهوة، ثم الشهوة تدعو إلى الفكر، والفكر يدعو إلى النظر، والنظر يدعو إلى غيره،وكذلك النظر إلى دور الأغنياء وتجملهم، مباح في نفسه ولكن يهيج الحرص ويدعو إلى طلب مثله، ويلزم منه ارتكاب ما لا يحل في تحصيله، وهكذا المباحات كلها إذا لم تؤخذ بقدر الحاجة مع التحرز من غوائلها بالمعرفة أولاً ثم بالحذر ثانياً، فقلما تخلو عاقبتها عن خطر، وكذا كل ما أخذ بالشهوة فقلما يخلو عن خطر، حتى كرهه أمد بن حنبل تجصيص الحيطان وقال: أما تجصيص الأرض فيمنع التراب، وأما تجصيص الحيطان فزينة لا فائدة فيه، حتى أنكر تجصيص المساجد وتزيينها، واستدل بما روي عن النبي ك أنه أن يكحل المسجد، فقال: "لا، عريش كعريش موسى" وإنما هو شيء مثل الكحل يطلى به،فلم يرخص رسول الله فيه، وكره السلف الثوب الرقيق وقالوا: من رق ثوبه رق دينه، وكل ذلك خوفاً من سريان اتباع الشهوات في المباحات إلى غيرها، فإن المحظور والمباح تشتهيهما النفس بشهوة واحدة، وإذا تعودت الشهوة المسامحة استرسلت، فاقتضى خوف التقوى الورع عن هذا كله، فكل حلال انفك عن مثل هذه المخافة فهو الحلال الطيب في الدرجة الثالثة، وهو كل ما لا يخاف أداؤه إلى معصية البتة.

أما الدرجة الرابعة: وهو ورع الصديقين، فالحلال عندهم كل ما لا تتقدم في أسبابه معصية ولا يستعان به على معصية ولا يقصد منه في الحال والمال قضاء وطر، بل يتناول لله تعالى فقط وللتقوي على عبادته واستبقاء الحياة لأجله، وهؤلاء هم الذين يرون كل ما ليس لله حراماً، امتثالاً لقوله تعالى: "قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون" وهذه رتبة الموحدين المتجردين عن حظوظ أنفسهم، المنفردين لله تعالى بالقصد، ولا شك في أن من يتورع عما يوصل إليه أو يستعان عليه بمعصية ليتورع عما يقترن بسبب اكتسابه معصية أو كراهية، فمن ذلك ما روي عن يحيى بن كثير أنه شرب الدواء، فقالت له امرأته: لو تمشيت في الدار قليلاً حتى يعمل الدواء، فقال: هذه مشية لا أعرفها، وأنا أحاسب نفسي منذ ثلاثين سنة، فكأنه لم تحضره نية في هذه المشية تتعلق بالدين، فلم يجز الإقدام عليها. وعن سري رحمه الله أنه قال: انتهيت إلى حشيش في جبل وماء يخرج منه، فتناولت من الحشيش وشربت من الماء، وقلت في نفسي: إن كنت قد أكلت في يوم حلالاً طيباً فهو هذا اليوم، فهتف بي هاتف: إن القوة التي أوصلتك إلى هذا الموضع من أين هي? فرجعت وندمت. ومن هذا ما روي عن ذي النون المصري أنه كان جائعاً محبوساً، فبعثت إليه امرأة صالحة طعاماً على يد السجان، فلم يأكل، ثم اعتذر وقال: جاءني على طبق ظالم، يعني أن القوة التي أوصلت الطعام إلي لم تكن طيبة، وهذه الغاية القصوى في الورع. ومن ذلك أن بشراً رحمه الله كان لا يشرب الماء من الأنهار التي حفرها الأمراء، فإن النهر سبب لجريان الماء ووصوله إليه وإن كان الماء مباحاً في نفسه فيكون كالمنتفع بالنهر المحفور بأعمال الأجراء وقد أعطوا الأجرة من الحرام، ولذلك امتنع بعضهم من العنب الحلال من الكرم الحلال، وقال لصاحب: أفسدته إذ سقيته من الماء الذي يجري في النهر الذي حفرته الظلمة، وهذا أبعد عن الظلم من شرب نفس الماء، لأنه احتراز من استمداد العنب من ذلك الماء، وكان بعضهم إذا مر في طريق الحج لم يشرب من المصانع التي عملتها الظلمة، مع أن الماء مباح، ولكنه بقي محفوظاً بالمصنع الذي عمل به بمال حرام، فكأنه انتفاع به. وامتناع ذي النون من تناول الطعام من يد السجان أعظم من هذا كله، لأن يد السجان لا توصف بأنها حرام، بخلاف الطبق المغصوب إذا حمل عليه، ولكنه وصل إليه بقوة اكتسبت بالغذاء الحرام، ولذلك تقيأ الصديق رضي الله عنه من اللبن خيفة من أن يحدث الحرام فيه قوة مع أنه شربه عن جهل، وكان لا يجب إخراجه ولكن تخلية البطن عن الخبيث من ورع الصديقين، ومن ذلك التورع من كسب حلال اكتسبه خياط يخيط في المسجد، فإن أحمد رحمه الله كره جلوس الخياط في المسجد. وسئل عن المغازلي يجلس في قبة في المقابر في وقت يخاف من المطر، فقال: إنما هي من أمر الآخرة وكره جلوسه فيها. وأطفأ بعضهم سراجاً أسرجه غلامه من قوم يكره مالهم. وامتنع من تسجير تنور للخبز وقد بقي فيه جمر من حطب مكروه. وامتنع بعضهم من أن يحكم شسع نعله في مشعل السلطان، فهذه دقائق الورع عند سالكي طريق الآخرة.

والتحقيق فيه أن الورع له أول وهو الامتناع عما حرمته الفتوى وهو ورع العدول وله غاية وهو ورع الصديقين، وذلك هو الامتناع من كل ما ليس لله مما أخذ بشهوة أو توصل إليه بمكروه، أو اتصل بسببه مكروه وبينهما درجات في الاحتياط، فكلما كان العبد أشد تشديداً على نفسه كان أخف ظهراً يوم القيامة وأسرع جوازاً على الصراط، وأبعد عن أن تترجح كفة سيئاته على كفة حسناته، وتتفاوت المنازل في الآخرة بحسب تفاوت هذه الدرجات في الورع، كما تتفاوت درجات النار في حق الظلمة بحسب تفاوت درجات الحرام في الخبث، وإذا علمت حقيقة الأمر فإليك الخيار، فإن شئت فاستكثر من الاحتياط، وإن شئت فرخص فلنفسك تحتاط وعلى نفسك ترخص، والسلام.