إحياء علوم الدين/كتاب الحلال والحرام/الباب الثاني



الباب الثاني

في مراتب الشبهات ومثاراتها

وتمييزها عن الحلال والحرام


قال رسول الله : "الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرئ لعرضه ودينه، ومن وقع في الشبهات واقع الحرام، كالراعي حول الحمى وشك أن يقع فيه" فهذا الحديث نص في إثبات الأقسام الثلاثة، والمشكل منها القسم المتوسط الذي لا يعرفه كثير من الناس وهو الشبهة، فلا بد من بيانها وكشف الغطاء عنها، فإن ما لا يعرفه الكثير فقد يعرفه القليل، فنقول: الحلال المطلق: هو الذي خلا عن ذاته الصفات الموجبة للتحريم في عينه، وانحل عن أسبابه ما تطرق إليه تحريم أو كراهية، ومثاله الماء الذي يأخذه الإنسان من المطر قبل أن يقع على ملك أحد يكون هو واقفاً عند جمعه وأخذه من الهواء في ملك نفسه أو في أرض مباحة.

والحرام المحض: هو ما فيه صفة محرمة لا يشك فيها، كالشدة المطربة في الخمر، والنجاسة في البول، أو حصل بسبب منهي عنه قطعاً كالمحصل بالظلم والربا ونظائره، فهذان طرفان ظاهران، ويلتحق بالطرفين مل تحقق أمره ولكنه احتمل تغيره، ولم يكن لذلك الاحتمال سبب يدل عليه، فإن صيد البر والبحر حلال، ومن أخذ ظبية فيحتمل أن يكون قد ملكها صياد ثم أفلتت منه، وكذلك السمك يحتمل أن يكون قد تزلق من الصياد بعد وقوعه في يده وخريطته، فمثل هذا الاحتمال لا يتطرق إلى ماء المطر المختطف من الهواء، ولكنه في معنى ماء المطر، والاحتراز منه وسواس، ولنسم هذا الفن ورع الموسوسين، حتى تلتحق به أمثاله وذلك لأن هذا وهم مجرد لا دلالة عليه، نعم لو دل عليه دليل. فإن كان قاطعاً كما لو وجد حلقة في أذن السمكة، أو كان محتملاً كما لو وجد على الظبية جراحة يحتمل أن يكون كياً لا يقدر عليه إلا بعد الضبط. ويحتمل أن يكون جرحاً، فهذا موضع الورع، وإذا انتفت الدلالة من كل وجه فالاحتمال المعدوم دلالته كالاحتمال المعدوم في نفسه، ومن هذا الجنس من يستعير داراً فيغيب عنه المعير فيخرج ويقول: لعله مات وصار الحق للوارث، فهذا وسواس إذا لم يدل على موته سبب قاطع أو مشكك إذ الشبهة المحذورة ما تنشأ من الشك، والشك عبارة عن اعتقادين متقابلين نشآ عن سببين، فما لا سبب له لا يثبت عقده في النفس حتى يساوي العقد المقابل له فيصير شكاً، ولهذا نقول: من شك أنه صلى ثلاثاً أو أربعاً أخذ بالثلاث إذ الأصل عدم الزيادة. ولو سئل إنسان أن صلاة الظهر التي أداها قبلهذا بعشر سنين كانت ثلاثاً أو أربعاً لم يتحقق قطعاً أنها أربعة، وإذا لم يقطع جوز أن تكون ثلاثة، وهذا التجويز لا يكون شكاً، إذا لم يحضره سبب أوجب اعتقاد كونها ثلاثاً، فلتفهم حقيقة الشك حتى لا يشتبه الوهم والتجويز بغير سبب فهذا يلتحق بالحلال المطلق. ويلتحق بالحرام المحض ما تحقق تحريمه وإن أمكن طريان محلل ولكن لم يدل عليه سبب، كمن يدل طعام لمورثه الذي لا وارث له سواه، فغاب عنه فقال: يحتمل أنه مات وقد انتقل الملك إلي فآكله، فإقدامه عليه إقدام على حرام محض لأنه احتمال لا مستند له، فلا ينبغي أن يعد هذا النمط من أقسام الشبهات، وإنما الشبهة نعني بها ما اشتبه علينا أمره بأن تعارض لنا فيه اعتقادان صدرا عن سببين مقتضيين للاعتقادين. ومثارات الشبهة خمسة:

المثار الأول

الشك في السبب المحلل والمحرم

وذلك لا يخلو إما أن يكون متعادلاً، أو غلب أحد الاحتمالين، فإن تعادل الاحتمالان كان الحكم لما عرف قبله فيستصحب ولا يترك بالشك، وإن غلب أحد الاحتمالين عليه بأنه صدر عن دلالة معتبرة كان الحكم للغالب، ولا يتبين هذا إلا بالأمثال والشواهد، فلنقسمه إلى أقسام أربعة:

القسم الأول: أن يكون التحريم معلوماً من قبل ثم يقع الشك في المحلل، فهذه شبهة يجب اجتنابها ويحرم الإقدام عليها. مثاله أن يرمي إلى صيد فيخرجه ويقع في الماء فيصادفه ميتاً ولا يدري أنه مات بالغرق أو بالجرح، فهذا حرام لأن الأصل التحريم إلا إذا مات بطريق معين وقد وقع الشك في الطريق فلا يترك اليقين بالشك، كما في الأحداث والنجاسات وركعات الصلاة وغيرها، وعلى هذا ينزل قوله : "لا تأكله فلعله قتله غير كلبك" فلذلك كان إذا أتي بشيء اشتبه عليه أنه صدقة أو هدية سأل عنه حتى يعلم أيهما هو. وروي: "أنه أرق ليلة فقالت له بعض نسائه: أرقت يا رسول الله، فقال: "أجل وجدت تمرة فخشيت أن تكون من الصدقة" وفي رواية: "فأكلتها فخشيت أن تكون من الصدقة" ومن ذلك ما روي عن بعضهم أنه قال: "كنا في سفر مع رسول الله فأصابنا الجوع، فزلنا منزلاً كثير الضباب فبينا القدور تغلي بها إذ قال رسول الله : "أمة مسخت من بني إسرائيل أخشى أن تكون هذه" فأكفأنا القدور، ثم أعلمه الله بعد ذلك أنه لم يمسخ الله خلقاً فجعل له نسلاً. وكان امتناعه أولاً لأن الأصل عدم الحل وشك في كون الذبح محللاً.

القسم الثاني: أن يعرف الحل ويشك في المحرم، فالأصل الحل وله الحكم. كما إذا نكح امرأتين رجلان وطار طائر، فقال أحدهما: إن كان هذا غراباً فامرأتي طالق، وقال الآخر: إن لم يكن غراباً فامرأتي طالق. والتبس أمر الطائر فلا يقضى بالتحريم في واحدة منهما ولا يلزمهما اجتنابها، ولكن الورع اجتنابهما وتطليقهما حتى يحلا لسائر الأزواج، وقد أمر مكحول بالاجتناب في هذه المسألة، وأفتى الشعبي بالاجتناب في هذه المسألة، وأفتى الشعبي بالاجتناب في رجلين كانا قد تنازعا، فقال أحدهما للآخر: أنت حسود، فقال الآخر: أحسدنا زوجته طالق ثلاثاً، فقال الآخر: نعم، وأشكل الأمر، وهذا إن أرادا به اجتناب الورع فصحيح، وإن أراد التحريم المحقق فلا وجه له، إذ ثبت في المياه والنجاسات والأحداث والصلوات أن اليقين لا يجب تركه بالشك، وهذا في معناه.

فإن قلت: وأي مناسبة بين هذا وبين ذلك? فاعلم أنه لا يحتاج إلى المناسبة، فإنه لازم من غير ذلك في بعض الصور، فإنه مهما تيقن طهارة الماء ثم شك في نجاسته جاز له أن توضأ به، فكيف لا يجوز أن يشربه? وإذا جوز الشرب فقد سلم أن اليقين لا يزال بالشك، إلا أن ههنا دقيقة: وهو أن وزان الماء أن يشك في أنه طلق زوجته أم لا? فيقال: الأصل أنه ما طلق ووزان مسألة الطائر أن يتحقق نجاسة أحد الإناءين ويشتبه عينه، فلا يجوز أن يستعمل أحدهما بغير اجتهاد، لأنه قابل يقين النجاسة بيقين الطهارة فيبطل الاستصحاب، فكذلك ههنا قد وقع الطلاق على إحدى الزوجتين قطعاً، والتبس عين المطلقة بغير المطلقة، فنقول: اختلف أصحاب الشافعي في الإناءين على ثلاثة أوجه، فقال قوم: يستصحب بغير اجتهاد، وقال قوم: بعد حصول يقين النجاسة في مقابلة يقين الطهارة يجب الاجتناب ولا يغني الاجتهاد، وقال المقتصدون: يجتهد وهو الصحيح، ولكن وزانه أن تكون له زوجتان فيقول إن كان غراباً فزينب طالق، وإن لم يكن فعمرة طالق، فلا جرم ولا يجوز له غشيانهما بالاستصحاب ولا يجوز الاجتهاد، إذ لا علامة، ونحرمهما عليه لأنه لو وطئهما كان مقتحماً للحرام قطعاً، وإن وطئ إحداهما وقال: أقتصر على هذه، كان متحكماً بتعيينها من غير ترجيح. ففي هذا افترق حكم شخص واحد أو شخصين، لأن التحريم على شخص واحد متحقق، بخلاف الشخصين، إذ كل واحد شك في التحريم في حق نفسه.

فإن قيل: فلو كان الإناءان لشخصين فينبغي أن يستغني عن الاجتهاد ويتوضأ كل واحد بإنائه لأنه تيقن طهارته وقد شك الآن فيه، فنقول: هذا محتمل في الفقه والأرجح في ظني المنع، وأن تعدد الشخصين ههنا كاتحاده، لأن صحة الوضوء لا تستدعي ملكاً، بل وضوء الإنسان بماء غيره في رفع الحدث كوضوئه بماء نفسه، فلا يتبين لاختلاف الملك واتحاده أثر بخلاف الوطء لزوجة الغير فإنه لا يحل، ولأن للعلامات مدخلاً في النجاسات، والاجتهاد فيه ممكن بخلاف الطلاق، فوجب تقوية الاستصحاب بعلامة ليدفع بها قوة يقين النجاسة المقابلة ليقين الطهارة، وأبواب الاستصحاب والترجيحات من غوامض الفقه ودقائقه، وقد استقضيناه في كتاب الفقه، ولسنا نقصد الآن إلا التنبيه على قواعدها.

القسم الثالث: أن يكون الأصل التحريم، ولكن طرأ ما أوجب تحليله بظن غالب، فهو مشكوك فيه، والغالب حله، فهذا ينظر فيه؛ فإن استند غلبة الظن إلى سبب معتبر شرعاً فالذي نختار فيه أنه يحل، واجتنابه من الورع. مثاله: أن يرمي إلى صيد فيغيب ثم يدركه ميتاً وليس عليه أثر سوى سهمه، ولكن يحتمل أنه مات بسقطة أو بسبب آخر، فإن ظهر عليه أثر صدمة أو جراحة أخرى التحق بالقسم الأول. ولقد اختلف الشافعي رحمه الله في هذا القسم، والمختار أنه حلال، لأن الجرح سبب ظاهر وقد تحقق، والأصل أنه لم يطرأ عليه غيره، فطريانه مشكوك فيه، فلا يدع اليقين بالشك. فإن قيل: فقد قال ابن عباس: كل ما أصميت ودع ما أنميت. وروت عائشة رضي الله عنها: أن رجلاً أتى النبي بأرنب فقال: رميتي عرفت فيها سهمي، فقال: "أصميت أو أنميت?" فقال: بل أنميت، قال: "إن الليل خلق من خلق الله لا يقدره إلا الذي خلقه، فلعله أعان على قتله شيء" وكذلك قال لعدي بن حاتم في كلبه المعلم: "وإن أكل فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه" والغالب أن الكلب المعلم لا يسيء خلقه ولا يمسك إلا على صاحبه، ومع ذلك نهى عنه، وهذا التحقيق : وهو أن الحل إنما يتحقق إذا تحقق تمام السبب، وتمام السبب بأن يفضي إلى الموت سليماً من طريان غيره عليه، وقد شك فيه فهو شك في تمام السبب حتى اشتبه أن موته على الحل أو على الحرمة، فلا يكون هذا في معنى ما تحقق موته على الحل في ساعته ثم شك فيما يطرأ عليه.

فالجواب: أن نهي ابن عباس ونهي رسول الله محمول على الورع والتنزيه، بدليل ما روي في بعض الروايات أنه قال "كل منه وإن غاب عنك ما لم تجد فيه أثراً غير سهمك" وهذا تنبيه على المعنى الذي ذكرناه؛ وهو أنه إن وجد أثراً آخر فقد تعارض السببان بتعارض الظن، وإن لم يجد سوى جرحه حصل غلبة للظن فيحكم به على الأصحاب، كما يحكم على الأصحاب بخبر الواحد والقياس المظنون والعمومات المظنونة وغيرها. وأما قول القائل: إنه لم يتحقق موته على الحل في ساعة فيكون شكاً في السبب فليس كذلك، بل السبب قد تحقق، إذ الجرح سبب الموت، فطريان الغير شك فيه، ويدل على صحة هذا: الإجماع، على أن من جرح وغاب فوجد ميتاً فيجب القصاص على جارحه، بل إن لم يغتب يحتمل أن يكون موته بهيجان خلط في باطنه، لما يموت الإنسان فجأة، فينبغي أن لا يجب القصاص إلا بحز الرقبة والجرح المذفف، لأن العلل القاتلة في الباطن لا تؤمن، ولأجلها يموت فجأة، ولا قائل بذلك، مع أن القصاص مبناه على الشبهة، وكذلك جنين المذكاة حلال، ولعله مات قبل ذبح الأصل لا بسبب ذبحه أو لم ينفخ فيه الروح، وغرة الجنين تجب، ولعل الروح لم ينفخ فيه، أو كان قد مات قبل الجناية بسبب آخر، ولكن يبني على الأسباب الظاهرة، فإن الاحتمال الآخر إذا لم يستند إلى دلالة تدل عليه التحق بالوهم والوسواس كما ذكرناه، فكذلك هذا. وأما قوله : "أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه" فللشافعي رحمه الله في هذه الصورة قولان، والذي نختاره الحكم بالتحريم، لأن السبب قد تعارض،إذ الكلب المعلم كالآلة والوكيل يمسك عل صاحبه فيحل ، ولو استرسل المعلم بنفسه فأخذ، لم يحل؛ لأنه يتصور منه أن يصطاد لنفسه، ومهما انبعثت بإشارته ثم أكل دل ابتداء انبعاثه على أنه نازل منزلة آلته وأنه يسعى في وكالته ونيابته، ودل أكله آخراً على أنه أمسك لنفسه لا لصاحبه، فقد تعارض السبب الدال فيتعارض الاحتمال والأصل التحريم فيستصحب، ولا يزال بالشك، وهو كما لو وكل رجلاً بأن يشتري له جارية فاشترى جارية ومات قبل أن يبين أنه اشتراها لنفسه أو لموكله يحل للموكل وطؤها، لأن للوكيل قدرة على الشراء لنفسه ولموكله جميعاً، ولا دليل مرجح والأصل التحريم؛ فهذا يلتحق بالقسم الأول لا بالقسم الثالث.

القسم الرابع:أن يكون الحل معلوماً ولكن يغلب على الظن طريان محرم بسبب معتبر في غالبة الظن شرعاً، فيرفع الاستصحاب ويقضي بالتحريم،إذ بان لنا أن الاستصحاب ضعيف ولا يبقى له حكم مع غالب الظن، ومثاله أن يؤدي اجتهاده إلى نجاسة أحد الإنائين بالاعتماد على علامة معينة توجب غلبة الظن فتوجب تحريم شربه كما أوجبت منع الوضوء به،وكذا إذ قال: إن قتل زيد عمراً أو قتل زيد صيداً منفرداً بقتله فامرأتي طالق فجرحه وغاب عنه فوجده ميتاً حرمت زوجته، لأن الظاهر أنه منفرد بقتله كما سبق، وقد نص الشافعي رحمه الله أن من وجد في الغدران ماء متغير بالبول أو بطول المكث لم يجز استعماله، إذ صار البول المشاهد دلالة مغلبة لاحتمال النجاسة وهو مثال ما ذكرنا وهذا في غلبة ظن استند إلى علامة متعلقة بعين الشيء، فأما غلبة الظن استند إلى علامة متعلقة بعين الشيء، فأما غلبة الظن لا من جهة علامة تتعلق بعين الشيء فقد اختلف قول الشافعي رضي الله عنه في أصل الحل هل يزال به إذا اختلف قوله في التوضىء من أواني المشركين، ومدمن الخمر والصلاة في المقابر المنبوشة والصلاة مع طين الشوارع، أعني المقدار الزائر على ما يتعذر الاحتراز عنه، وعبر الأصحاب عنه بأنه إذا تعارض الأصل والغالب فأيهما يعتبر وهذا جار في حل الشرب من أواني الخمر والمشركين، لأن النجس لا يحل شربه، فإذن مأخذ النجاسة والحل واحد، فالتردد في أحدهما يوجب التردد في الآخر، والذي اختاره أن الثاني للشبهة وهي شبهة الخلط، فقد اتضح من هذا حكم حلال شك في طريان محرم عليه أو ظن، وحكم حرام شك في طريان محلل عليه أو ظن، وبان الفرق بين ظن يستند إلى علامة في عين الشيء وبين ما لا يستند إليه، وكل ما حكمنا في هذه الأقسام الأربعة بحله فهو حلال في الدرجة الأولى والاحتياط تركه، فالمقدم عليه لا يكون من زمرة المتيقن والصالحين بل من زمرة العدول الذين لا يقضى في فتوى الشرع بفسقهم وعصيانهم واستحقاقهم العقوبة، إلا ما ألحقناه برتبة الوسواس فإن الاحتراز عنه ليس من الورع أصلاً.

المثار الثاني للشبهة

شك منشؤه الاختلاط

وذلك بأن يختلط الحرام بالحلال ويشتبه الأمر ولا يتميز، والخلط لا يخلو: إما أن يقع بعدد لا يحصر من الجانبين أو من إحداهما، أو بعدد محصور، فإن اختلط بمحصور فلا يخلو: إما أن يكون اختلاط امتزاج بحيث لا يتميز بالإشارة كاختلاط المائعات. أو يكون اختلاط استبهام مع التميز للأعيان كاختلاط الأعبد والدور والأفراس، والذي يختلط بالاستبهام فلا يخلو: إما أن يكون مما يقصد عينه كالعروض، أو لا يقصد كالنقود، فيخرج من هذا التقسيم ثلاثة أقسام: القسم الأول: أن تستبهم العين بعدد محصور، كما لو اختلطت الميتة بمذكاة أو بعشر مذكيات، أو اختلطت رضيعة بعشر نسوة، أو يتزوج إحدى الأختين ثم تلتبس، فهذه شبهة يجب اجتنابها بالإجماع، لأنه لا مجال للاجتهاد والعلامات في هذا، وإذا اختلطت بعدد محصور صارت الجملة كالشيء الواحد، فتقابل فيه يقين التحريم والتحليل، ولا فرق في هذا بين أن يثبت حل فيطرأ اختلاط بمحرم، كما لو أوقع الطلاق على إحدى زوجتين في مسألة الطائر، أو يختلط قبل الاستحلال كما لو اختلطت رضيعة بأجنبية فأراد استحلال واحدة، وهذا قد يشكل في طريان التحريم كطلاق إحدى الزوجتين لما سبق من الاستصحاب. وقد نبهنا على وجه الجواب: وهو أن يقين التحريم قابل يقين الحل فضعف الاستصحاب وجانب الحظر أغلب في نظر الشرع، فلذلك يرجح، وهذا إذا اختلط حلال محصور بحرام محصور. فإن اختلط حلال محصور بحرام غير محصور، فلا يخفى أن وجوب الاجتناب أولى.

القسم الثاني: حرام محصور بحلال غير محصور، كما لو اختلطت رضيعة أو عشر رضائع بنسوة بلد كبير، فلا يلزم بهذا اجتناب نكاح نساء أهل البلد، بل له أن ينكح من شاء منهن، وهذا لا يجوز أن يعلل بكثرة الحلال، إذ يلزم عليه أن يجوز النكاح إذا اختلطت واحدة حرام بتسع حلال ولا قائل به، بل العلة الغلبة والحاجة جميعاً، إذ كل من ضاع له رضيع أو قريب أو محرم بمصاهرة أو سبب من الأسباب فلا يمكن أن يسد عليه باب النكاح، وكذلك من علم أن مال الدنيا خالطه حرام قطعاً لا يلزمه ترك الشراء والأكل، فإن كل ذلك حرج، وما في الدين من حرج. ويعلم هذا بأنه لما سرق في زمان رسول الله مجن، وغل واحد في الغنيمة عباءة، لم يمتنع أحد من شراء المجان والعباء في الدنيا، وكذلك كل ما سرق، وكذلك كان يعرف أن في الناس من يربي في الدراهم والدنانير، وما ترك رسول الله ولا الناس الدراهم والدنانير بالكلية. وبالجملة إنما تنفك عن الحرام إذا عصم الخلق كلهم عن المعاصي، وهو محال. وإذا لم يشترط هذا في الدنيا لم يشترط أيضاً في بلد إلا إذا وقع بين جماعة محصورين، بل اجتناب هذا من ورع الموسوسين،إذ لم ينقل ذلك عن رسول الله ولا عن أحد من الصحابة، ولا يتصور الوفاء به في ملة من الملل ولا في عصر من الأعصار.

فإن قلت: فكل عدد محصور في علم الله، فما حد المحصور? ولو أراد الإنسان أن يحصر أهل بلد لقدر عليه أيضاً إن تمكن منه، فاعلم أن تحديد أمثال هذه غير ممكن، وإنما يضبط بالتقريب. فنقول: كل عدد لو اجتمع على صعيد واحد لعسر على الناظر عدهم بمجرد النظر، كالألف والألفين فهو غير محصور، وما سهل كالعشرة والعشرين فهو محصور، وبين الطرفين أوساط متشابهة تلحق بأحد الطرفين بالظن، وما وقع الشك فيه استفتى فيه القلب، فإن الإثم حزاز القلوب. وفي مثل هذا المقام قال رسول الله لوابصة: "استفت قلبك وإن أفتوك وأفتوك وأفتوك" وكذا الأقسام الأربعة التي ذكرناها في المثار الأول يقع فيها أطراف متقابلة واضحة في النفي والإثبات وأوساط متشابهة، فالمفتي يفتي بالظن، وعلى المستفتي أن يستفتي قلبه، فإن حاك في صدره شيء فهو الآثم بينه وبين الله، فلا ينجيه في الآخرة فتوى المفتي، فإنه يفتي بالظاهر والله يتولى السرائر.

القسم الثالث: أن يختلط حرام لا يحصر بحلال لا يحصر، كحكم الأموال في زماننا هذا، فالذي يأخذ الأحكام من الصور قد يظن أن نسبة غير المحصور كنسية المحصور إلى المحصور، وقد حكمنا ثم بالتحريم، فلنحكم هنا به، والذي نختاره خلاف ذلك: وهو أنه لا يحرم بهذا الاختلاط أن يتناول شيء بعينه احتمل أنه حرام وأنه حلال، إلا أن يقترن بتلك العين علامة تدل على أنه من الحرام، فإن لم يكن في العين علامة تدل على أنه من الحرام فتركه ورع وأخذه حلال لا يفسق به آكله. ومن العلامات: أن يأخذه من يد سلطان ظالم، إلى غير ذلك من العلامات التي سيأتي ذكرها، ويدل عليه الأثر والقياس، فأما الأثر: فما علم في زمن رسول الله والخلفاء الراشدين بعده، إذ كانت أثمان الخمور ودراهم الربا من أيدي أهل الذمة مختلطة بالأموال، وكذا غلول الأموال، وكذا غلول الغنيمة، ومن الوقت الذي نهى عن الربا إذ قال: "أول ربا أضعه ربا العباس" ما ترك الناس الربا بأجمعهم كما لم يتركوا شرب الخمور وسائر المعاصي، حتى روي أن بعض أصحاب النبي باع الخمر، فقال عمر رضي الله عنه: لعن الله فلاناً هو أول من سن بيع الخمر، إذ لم يكن قد فهم أن تحريم الخمر تحريم لثمنها. وقال : "إن فلاناً يجر في النار عباءة قد غلها" وقتل رجل ففتشوا متاعه فوجدوا فيه خرزات من خرز اليهود لا تساوي درهمين قد غلها، وكذلك أدرك أصحاب رسول الله الأمراء الظلمة ولم يمتنع أحد منهم عن الشراء والبيع في السوق بسبب نهب المدينة وقد نهبها أصحاب يزيد ثلاثة أيام، وكان من يمتنع من تلك الأموال مشاراً إليه في الورع، والأكثرون لم يمتنعوا مع الاختلاط وكثرة الأموال المنهوبة في أيام الظلمة. ومن أوجب ما لم يوجبه السلف الصالح وزعم أنه تفطن من الشرع ما لم يتفطنوا له فهو موسوس مختل العقل، ولو جاز أن يزاد عليهم في أمثال هذا لجاز مخالفتهم في مسائل لا مستند فيها سوى اتفاقهم كقولهم: "إن الجدة كالأم في التحريم وابن الابن كالابن وشعر الخنزير وشحمه كاللحم المذكور تحريمه في القرآن، والربا جار فيما عدا الأشياء الستة. وذلك محال فإنهم أولى بفهم الشرع من غيرهم. وأما القياس: فهو أنه لو فتح هذا الباب لانسد باب جميع التصرفات وخرب العالم إذ الفسق يغلب على الناس ويتساهلون بسببه في شروط الشرع في العقود ويؤدي ذلك لا محالة إلى الاختلاط.

"فإن قيل: فقد نقلتم أنه امتنع من الضب وقال: "أخشى أن يكون مما مسخه الله" وهو في اختلاط غير المحصور? قلنا يحمل ذلك على التنزه والورع أو نقول الضب شكل غريب ربما يدل على أنه من المسخ فهي دلالة في عين المتناول.

فإن قيل: هذا معلوم في زمان رسول الله وزمان الصحابة بسبب الربا والسرقة والنهب وغلول الغنيمة وغيرها، ولكن كانت هي الأقل بالإضافة إلى الحلال. فماذا تقول في زماننا وقد صار الحرام أكثر ما في أيدي الناس لفساد المعاملات وإهمال شروطها وكثرة الربا وأموال السلاطين الظلمة، فمن أخذ مالاً لم يشهد عليه علامة معينة في عينة للتحريم فهل هو حرام أم لا? فأقول الجواب عن هذا أن قول القائل أكثر الأموال حرام في زماننا غلط محض ومنشؤه الغفلة عن الفرق بين الكثير والأكثر فأكثر الناس بل أكثر الفقهاء يظنون أن ما ليس بنادر فهو الأكثر ويتوهمون أنهما قسمان متقابلان ليس بينهما ثالث، وليس كذلك بل الأقسام ثلاثة: قليل وهو النادر وكثير وأكثر. ومثاله أن الخنثى فيما بين الخلق نادر وإذا أضيف إليه المريض وجدت كثيراً وكذا السفر حتى يقال المرض والسفر من الأعذار العامة والاستحاضة من الأعذار النادرة، ومعلوم أن المريض ليس بنادر وليس بالأكثر أيضاً بل هو كثير. والفقيه إذا تساهل وقال المرض والسفر غالب وهو عذر عام أراد به أنه ليس بنادر فإن لم يرد هذا فهو غلط والصحيح والمقيم هو الأكثر والمسافر والمريض كثير والمستحاضة والخنثى نادر. فإذا فهم هذا فنقول: قول القائل الحرام أكثر باطل لأن مستند هذا القائل إما أن يكون كثرة الظلمة والجندية أو كثرة الربا والمعاملات الفاسدة أو كثرة الأيدي التي تكررت من أول الإسلام إلى زماننا هذا على أصول الأموال الموجودة اليوم.

أما المستند الأول، فباطل فإن الظالم كثير وليس هو بالأكثر فإنهم الجندية إذ لا يظلم إلا ذو غلبة وشوكة وهم إذا أضيفوا إلى كل العالم لم يبلغوا عشر عشريهم، فكل سلطان يجتمع عليه من الجنود مائة ألف مثلاً فيملك إقليماً يجمع ألف ألف وزيادة ولعل بلدة واحدة من بلاد مملكته يزيد عددها على جميع عسكره، ولو كان عدد السلاطين أكثر من عدد الرعايا لهلك الكل إذ كان يجب على كل واحد من الرعية أن يقوم بعشرة منهم مثلاً مع تنعمهم في المعيشة ولا يتصور ذلك بل كفاية الواحد منهم تجمع من ألف من الرعية وزيادة، وكذا القول في السراق فإن البلدة الكبيرة تشتمل منهم على قدر قليل.

وأما المستند الثاني: وهو كثرة الربا والمعاملات الفاسدة فهي أيضاً كثيرة وليست بالأكثر إذ أكثر المسلمين يتعاملون بشروط الشرع فعدد هؤلاء أكثر والي يعامل بالربا أو غيره فلو عددت معاملاته وحده لكان عدد الصحيح منها يزيد على الفاسد غلا أن يطلب الإنسان بوهمه في البلد مخصوصاً بالمجانة والخبث وقلة الدين حتى يتصور أن يقال معاملاته الفاسدة أكثر، ومثل ذلك المخصوص نادر وإن كان كثيراً فليس بالأكثر لو كان كل معاملاته فاسدة كيف ولا يخلو هو أيضاً عن معاملاته صحيحة تساوي الفاسدة أو تزيد عليها وهذا مقطوع به لمن تأمله وإنما غلب هذا على النفوس الفاسدة لاستكثار النفوس الفساد واستبعادها إياه واستعظامها له وإن كان نادراً حتى ربما يظن أن الربا وشرب الخمر قد شاع كما شاع الحرام فيتخيل أنهم الأكثرون وهو خطأ فإنهم الأقلون وإن كان فيهم كثرة.

وأما المستند الثالث: وهو أخيلها أن يقال الأموال إنما تحصل من المعادن والنبات والحيوان، والنبات والحيوان حاصلاً بالتوالد، فإذا نظرنا إلى شاة مثلاً وهي تلد في كل سنة فيكون عدد أصولها إلى زمان رسول الله قريباً من خمسمائة، ولا يخلو هذا أن يتطرق إلى أصل من تلك الأصول غصب أو معاملة فاسدة، فكيف يقدر أن تسلم أصولها عن تصرف باطل إلى زماننا هذا? وكذا بذور الحبوب والفواكه تحتاج إلى خمسمائة أصل أو ألف أصل مثلاً إلى أول زمان الشرع ولا يكون هذا حلالاً ما لم يكن أصله وأصل أصله كذلك إلى أول زمان النبوة حلالاً، وأما المعادن فهي التي يمكن نيلها على سبيل الابتداء وهي أقل الأموال وأكثر ما يستعمل منها الدراهم والدنانير ولا تخرج إلا من دار الضرب وهي في أيدي الظلمة مثل المعادن في أيديهم يمنعون الناس منها ويلزمون الفقراء استخراجها بالأعمال الشاقة، ثم يأخذونها منهم غصباً فإذا نظر إلى هذا علم أن بقاء دينار واحد بحيث لا يتطرق إليه عقد فاسد ولا ظلم وقت النيل ولا وقت الضرب في دار الضرب ولا بعده في معاملات الصرف، والربا بعيد نادر أو محال فلا يبقى إذن حلال إلا الصيد والحشيش في الصحاري الموات والمفاوز والحطب المباح، ثم من يحصله لا يقدر على أكله فيفتقر إلى أن يشتري به الحبوب والحيوانات التي لا تحصل إلا بالاستنبات والتوالد، فيكون قد بذل حلالاً في مقابلة حرام فهذه هو أشد الطرق تخيلاً. والجواب أن هذه الغلبة لم تنشأ من كثرة الحرام المخلوط بالحلال فخرج عن النمط الذي نحن فيه والتحقق بما ذكرناه من قبل وهو تعارض الأصل والغالب. إذ الأصل في هذه الأموال قبولها للتصرفات وجواز التراضي عليها وقد عارضه سبب غالب يخرجه عن الصلاح له فيضاهي هذا محل القولين للشافعي رضي الله عنه في كم النجاسات، والصحيح عندنا أنه تجوز الصلاة في الشوارع إذا لم يجد فيها نجاسة فإن طين الشوارع طاهر، وأن الوضوء من أواني المشركين جائز، وأن الصلاة في المقابر المنبوشة جائزة، فنثبت هذا أولاً ثم نقيس ما نحن فيه عليه، ويدل على ذلك توضؤ رسول الله من مزادة مشركة، وتوضؤ عمر رضي الله عنه من جرة نصرانية مع أن مشربهم الخمر ومطعمهم الخنزير ولا يحترزون عما نجسه شرعنا، فكيف تسلم أوانيهم من أيديهم? بل نقول: نعلم قطعاً أنهم كانوا يلبسون الفراء المدبوغة والثياب المصبوغة والمقصورة، ومن تأمل أحوال الدباغين والقصارين والصباغين علم أن الغالب عليهم النجاسة، وأن الطهارة في تلك الثياب محال أو نادر، بل نقول نعلم أنهم كانوا يأكلون خبز البر والشعير ولا يغسلونه مع أنه يداس بالبقر والحيوانات وهي تبول عليه وتروث وقلما يخلص منها، وكانوا يركبون الدواب وهي تعرق وما كانوا يغسلون ظهورها مع كثرة تمرغها في النجاسات بل كل دابة تخرج من بطن أمها وعليها رطوبات نجسة قد تزيلها الأمطار وقد لا تزيلها وما كان يحترز عنها، وكانوا يمشون حفات في الطرق وبالنعال ويصلون معها ويجلسون على التراب ويمشون في الطين من غير حاجة، وكانوا لا يمشون في البول والعذرة ولا يحاسبون عليهما ويستنزهون منه، ومتى تسلم الشوارع عن النجاسات مع كثرة الكلاب وأبوالها وكثرة الدواب وأرواثها? ولا ينبغي أن نظن أن الأعصار أو الأمصار تختلف في مثل هذا حتى يظن أن الشوارع كانت تغسل في عصرهم أو كانت تحرس من الدواب هيهات، فذلك معلوم استحالته بالعادة قطعاً فدل على أنهم لم يحترزوا إلا من نجاسة مشاهدة أو علامة على النجاسة دالة على العين. فأما الظن الغالب الذي يستثار من رد الدراهم إلى مجاري الأحوال فلم يعتبروه وهذا عند الشافعي رحمه الله وهو يرى أن الماء القليل ينجس من غير تغير واقع إذ لم يزل الصحابة يدخلون الحمامات ويتوضؤون من الحياض وفيها المياه القليلة والأيدي المختلفة تغمس فيها على الدوام، وهذا قاطع في هذا الغرض. ومهما ثبت جواز التوضؤ من جرة نصرانية ثبت جواز شربه والتحق حكم الحل بحكم النجاسة.

فإن قيل: لا يجوز قياس الحل على النجاسة إذ كانوا يتوسعون في أمور الطهارات ويحترزون من شبهات الحرام غاية التحرز فكيف يقاس عليها? قلنا إن أريد به أنهم صلوا معها مع النجاسة والصلاة معها معصية وهي عماد الدين فبئس الظن، بل يجب أن نعتقد فيهم أنهم احترزوا عن كل نجاسة وجب اجتنابها وإنما تسامحوا حيث لم يجب وكان في محل تسامحهم هذه الصورة التي تعارض فيها الأصل والغالب، فبان أن الغالب الذي لا يستند إلى علامة تتعلق بعيني ما فيه النظر مطرح، وأما تورعهم في الحلال فكان بطريق التقوى وهو ترك ما لا بأس به مخافة ما به بأس لأن أمر الأموال مخوف والنفس تميل إليها إن لم تضبط عنها، وأمر الطهارة ليس كذلك فقد امتنع طائفة منهم عن الحلال المحض خيفة أن يشغل قلبه وقد حكي عن واحد منهم أنه احترز من الوضوء بماء البحر وهو الطهور المحض، فالافتراق في ذلك لا يقدح في الغرض الذي أجمعنا فيه، على أن نجري في هذا المستند على الجواب الذي قدمنا في المستندين السابقين، ولا نسلم ما ذكروه من أن الأكثر هو الحرام لأن المال وإن كثرت أصوله فليس بواجب أن يكون في أصوله حرام بل الأموال الموجودة اليوم مما تطرق الظلم إلى أصول بعضها دون بعض، وكما أن الذي يبتدأ غصبه اليوم هو الأقل بالإضافة إلى ما لا يغصب ولا يسرق، فهكذا كل مال في كل عصر وفي كل أصل فالمغصوب من مال الدنيا والمتناول في كل زمان بالفساد بالإضافة إلى غيره أقل. ولسنا ندري أن هذا الفرع بعينه من أي القسمين? فلا نسلم أن الغالب تحريمه فإنه كما يزيد المغصوب بالتوالد يزيد غير المغصوب بالتوالد فيكون فرع الأكثر لا محالة في كل عصر وزمان أكثر، بل الغالب أن الحبوب المغصوبة تغصب للأكل لا للبذر، وكذا الحيوانات المغصوبة أكثرها يؤكل ولا يقتنى للتوالد فكيف يقال إن فروع الحرام أكثر ولم تزل أصول الحلال أكثر من أصول الحرام? وليتفهم المسترشد من هذا طريق معرفة الأكثر فإنه مزلة قدم وأكثر العلماء يغلطون فيه فكيف العوام? هذا في المتولدات من الحيوانات والحبوب فأما المعادن فإنها مخلاة مسبلة يأخذها في بلاد الترك وغيرها من شاء ولكن قد يأخذ السلاطين بعضها منهم أو يأخذون الأقل لا محالة لا الأكثر،ومن حاز من السلاطين معدناً فظلمه يمنع الناس منه فأما ما يأخذه الآخذ منه فيأخذه من السلطان بأجرة، والصحيح أنه يجوز الاستنابة في إثبات اليد على المباحات والاستئجار عليها، فالمستأجر على الاستقاء إذا جاز الماء دخل في ملك المستقي له واستحق الأجرة، فكذلك النيل، فإذا فرغنا على هذا لم تحرم عين الذهب إلا أن يقدر ظلمه بنقصان أجرة العمل وذلك قليل بالإضافة ثم لا يوجب تحريم عين الذهب بل يكون ظالماً ببقاء الأجرة في ذمته، وأما دار الضرب فليس الخرج منها من أعيان ذهب السلطان الذي غصبه وظلم به الناس بل التجار يحملون إليهم الذهب المسبوك أو النقد الرديء ويستأجرونهم على السبك والضرب ويأخذون مثل وزن ما سلموه إليهم إلا شيئاً قليلا يتركونه أجرة لهم على العمل وذلك جائز، وإن فرض دنانير مضروبة من دنانير السلطان فهو بالإضافة إلى مال التجار أقل لا محالة، نعم السلطان يظلم أجراء دار الضرب بأن يأخذ منهم ضريبة لأنه خصصهم بها من بين سائر الناس حتى توفر عليهم مال بحشمة السلطان فما يأخذه السلطان عوض عن حشمته وذلك من باب الظلم وهو قليل بالإضافة إلى ما يخرج من دار الضرب فلا يسلم لأهل دار الضرب والسلطان من جملة ما يخرج منه من المائة واحد وهو عشر العشير فكيف يكون هو الأكثر? فهذه أغاليط سبقت إلى القلوب بالوهم وتشمر لتزيينها جماعة ممن رق دينهم حتى قبحوا الورع وسدوا بابه واستقبحوا تمييز من يميز بين مال ومال وذلك عين البدعة والضلال.

فإن قيل: فلو قدر غلبة الحرام وقد اختلط غير محصور بغير محصور فماذا تقولون فيه إذا لم يكن في العين المتناولة علامة خاصة? فنقول الذي نراه أن تركه ورع وأن أخذه ليس بحرام، لأن الأصل الحل ولا يرفع إلا بعلامة معينة كما في طين الشوارع ونظائرها. بل أزيد وأقول: لو طبق الحرام الدنيا حتى علم يقيناً أنه لم يبق في الدنيا حلال لكنت أقول نستأنف تمهيد الشروط من وقتنا ونعفو عما سلف ونقول ما جاوز حده انعكس إلى ضده فمهما حرم الكل حل الكل. وبرهانه أنه إذا وقعت هذه الواقعة فالاحتمالات خمسة:

أحدها: أن يقال يدع الناس الأكل حتى يموتوا من عند آخرهم. الثاني: أن يقتصروا منها على قدر الضرورة وسد الرمق يزجون عليها أياماً إلى الموت. الثالث: أن يقال يتناولون قدر الحاجة كيف شاؤوا سرقة وغضباً وتراضياً من غير تمييز بين مال ومال وجهة وجهة. الرابع: أن يتبعوا شروط الشرع ويستأنفوا قواعده من غير اقتصار على قدر الحاجة. الخامس: أن يقتصروا مع شروط الشرع على قدر الحاجة.

أما الأول؛ فلا يخفى بطلانه. وأما الثاني؛ فباطل قطعاً لأنه إذا اقتصر الناس على سد الرمق وزجوا أوقاتهم على الضعف فشا فيهم الموتان وبطلت الأعمال والصناعات وخربت الدنيا بالكلية. وفي خراب الدنيا خراب الدين لأنها مزرعة الآخرة. وأحكام الخلافة والقضاء والسياسات بل أكثر أحكام الفقه مقصودها حفظ مصالح الدنيا ليتم بها مصالح الدين. وأما الثالث وهو الاقتصار على قدر الحاجة من غير زيادة عليه مع التسوية بين مال ومال بالغضب والسرقة والتراضي وكيفما اتفق فهو رفع لسد الشرع بين المفسدين فتمتد الأيدي بالغضب والسرقة وأنواع الظلم ولا يمكن زجرهم منه إذ يقولون ليس بتمييز صاحب اليد باستحقاق عنا فإنه حرام عليه وعلينا، وذو اليد له قدر الحاجة فقط فإن كان هو محتاجاً فإنهم أيضاً محتاجون وإن كان الذي أخذته في حقي زائداً على الحاجة فقد سرقته ممن هو زائداً على الحاجة فقد سرقته ممن هو زائداً على حاجته يومه، وإذا لم يراع حاجة اليوم والسنة فما الذي يراعي وكيف يضبط? وهذا يؤدي إلى بطلان سياسة الشرع وإغواء أهل الفساد بالفساد، فلا يبقى إلا الاحتمال الرابع وهو أن يقال كل ذي يد على ما في يده وهو أولى به لا يجوز أن يؤخذ منه سرقة وغضباً بل يؤخذ برضاه والتراضي هو طريق الشرع، وإذا لم يجز إلا بالتراضي فللتراضي أيضاً منهاج في الشرع تتعلق به المصالح، فإن لم يعتبر فلم يتعين أصل التراضي وتعطل تفصيله? وأما الاحتمال الخامس وهو الاقتصار على قدر الحاجة مع الاكتساب بطريق الشرع من أصحاب الأيدي فهو الذي نراه لائقاً بالورع لمن يريد سلوك طريق الآخرة ولكن لا وجه لإجابه على الكافة ولا لإدخاله في فتوى العامة لأن أيدي الظلمة تمتد إلى الزيادة على قدر الحاجة في أيدي الناس وكذا أيدي السراق، وكل من غلب سلب وكل من وجد فرصة سرق ويقول لا حق له إلا في قدر الحاجة وأنا محتاج ولا يبقى إلا أن يجب على السلطان أن يخرج كل زيادة على قدر الحاجة من أيدي الملاك، ويستوعب بها أهل الحاجة ويدر على القيام بهذه مع كثرة الخلق بل لا يتصور ذلك أصلاً، وأما التضييع فهو أن ما فضل عن الحاجة من الفواكه واللحوم والحبوب ينبغي أن يلقى في البحر أو أن يترك حتى يتعفن فإن الذي خلقه الله من الفواكه والحبوب زائد عن قدر توسع الخلق وترفههم فكيف على قدر حاجتهم? ثم يؤدي ذلك إلى سقوط الحج والزكاة والكفارات المالية وكل عبادة نيطت بالغنى عن الناس إذا أصبح الناس لا يملكون إلا قدر حاجتهم وهو في غاية القبح، بل أقول لو ورد نبي في مثل هذا الزمان لوجب عليه أن يستأنف الأمر ويمهد تفصيل أسباب الأملاك بالتراضي وسائر الطرق ويفعل ما يفعله لو وجد جميع الأموال حلالاً من غير فرق. وأعني بقولي:يجب عليه، إذا كان النبي ممن بعث لمصلحة الخلق في دينهم ودنياهم إذ لا يم الصلاح برد الكافة إلى قدر الضرورة والحاجة إليه فإن لم يبعث للصلاح لم يجب هذا. ونحن نجوز أن يقدر الله سبباً يهلك به الخلق عن آخرهم فيفوت دنياهم ويضلون في دينهم فإنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء ويميت من يشاء ويحيي من يشاء ولكننا نقدر الأمر جارياً على ما ألف من سنة الله تعالى في بعثة الأنبياء لصلاح الدين والدنيا. وما لي أقدر هذا وقد كان ما أقدره، فلقد بعث الله نبينا على فترة من الرسل وكان شرع عيسى عليه السلام قد مضى عليه قريب من ستمائة سنة والناس منقسمون إلى مكذبين له من اليهود وعبدة الأوثان وإلى مصدقين له قد شاع الفسق قيهم كما شاع في زماننا الآن والكفار مخاطبون بفروع الشريعة. والأموال كانت في أيدي المكذبين له والمصدقين، أما المكذبون فكانوا يتعاملون بغير شرع عيسى عليه السلام وأما المصدقون فكانوا يتساهلون مع أصل التصديق كما يتساهل الآن المسلمون مع أن العهد بالنبوة أقرب فكانت الأموال كلها أو أكثرها أو كثير منها حراماً. وعفا عما سلف ولم يتعرض له وخصص أصحاب الأيدي بالأموال ومهد الشرع وما ثبت تحريمه في شرع لا ينقلب حلالاً لبعثة رسول ولا ينقلب حلالاً بأن يسلم الذي في يده الحرام، فإنا لا نأخذ في الجزية من أهل الذمة ما نعرفه بعينه أنه ثمن خمر أو مال ربا فقد كانت أموالهم في ذلك الزمان كأموالنا الآن، وأمر العرب كان أشد لعموم النهب والغارة فيهم. فبان أن الاحتمال الرابع متعين في

الفتوى، والاحتمال الخامس هو طريق الورع، بل تمام الورع الاقتصار في المباح على قدر الحاجة وترك التوسع في الدنيا بالكلية وذلك طريق الآخرة. ونحن الآن نتكلم في الفقه المنوط بمصالح الخلق وفتوى الظاهر له حكم ومنهاج على حسب مقتضى المصالح وطريق الدين الذي لا يقدر على سلوكه إلا الآحاد ولو اشتغل الخلق كلهم به لبطل النظام وخرب العالم فإن ذلك طلب ملك كبير في الآخرة ولو اشتغل كل الخلق بطلب ملك الدنيا وتركوا الحرف الدنيئة والصناعات الخسيسة لبطل النظام ثم يبطل بطلانه الملك أيضاً. فالمحترفون إنما سخروا لينتظم الملك للملوك وكذلك المقبلون على الدنيا سخروا ليسلم طريق الدين لذوي الدين وهو ملك الآخرة ولولاه لما سلم لذوي الدين أيضاً دينهم فشرط سلامة الدين لهم أن يعرض الأكثرون عن طريقهم ويشتغلوا بأمور الدنيا وذلك قسمة سبقت بها المشيئة الأزلية وإليه الإشارة بقوله تعالى: " نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعضهم درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً".

فإن قيل: لا حاجة إلى تقدير عموم التحريم حتى لا يبقى حلال فإن ذلك غير واقع وهو معلوم ولا شك في أن البعض حرام وذلك البعض هو الأقل أو الأكثر فيه نظر، وما ذكرتموه من أنه الأقل بالإضافة إلى الكل جلي ولكن لا بد من دليل محصل على تجويزه ليس من المصالح المرسلة وما ذكرتموه من التقسيمات كلها مصالح مرسلة فلا بد لهل من شاهد معين تقاس عليه حتى يكون الدليل مقبولاً بالاتفاق فإن بعض العلماء لا يقبل المصالح المرسلة?.

فأقول: إن سلم أن الحرام هو الأقل فيكفينا برهاناً عصر رسول الله والصحابة مع وجود الربا والسرقة والغلول والنهب وإن قدر زمان يكون الأكثر الحرام هو فيحل التناول أيضاً فبرهانه ثلاثة أمور: الأول: التقسيم الذي حصناه وأبطلنا منه أربعة وأثبتنا القسم الخامس فإن ذلك إذا أجرى فيما إذا كان الكل حراماً كان أحرى فيما إذا كان الحرام هو الأكثر أو الأقل، وقول القائل، هو مصلحة مرسلة: هوس، فإن ذلك إنما تخيل من تخيله في أمور مظنونة وهذا مقطوع به فإنا لا نشك في أن مصلحة الدين والدنيا مراد الشرع وهو معلوم بالضرورة، وليس بمظنون ولا شك في أن رد كافة الناس إلى قدر الضرورة أو الحاجة أو إلى الحشيش والصيد مخرب للدنيا أولاً وللدين بواسطة الدنيا ثانياً، فما لا يشك فيه لا يحتاج إلى أصل يشهد له وإنما يستشهد على الخيالات المظنونة المتعلقة بآحاد الأشخاص.

البرهان الثاني: أن يعلل بقياس محرر مردود إلى أصل يتفق الفقهاء الآنسون بالأقيسة الجزئية عليه وإن كانت الجزئيات مستحقرة عند المحصلين بالإضافة إلى مثل ما ذكرناه من الأمر الكلي الذي هو ضرورة النبي لو بعث في زمان عم التحريم فيه حتى لو حكم بغيره لخرب العالم، والقياس المحرر الجزئي هو أنه قد تعارض أصل وغالب فيما انقطعت فيه العلامات المعينة من الأمور التي ليست محصورة فيحكم بالأصل لا بالغالب قياساً على طين الشوارع وجرة النصرانية وأواني المشركين، وذلك قد أثبتناه من قبل بفعل الصحابة، وقولنا: انقطعت العلامات المعينة، احتراز عن الأواني التي يتطرق الاجتهاد إليها. وقولنا ليست محصورة، احتراز عن التباس الميتة والرضيعة بالذكية والأجنبية.

فإن قيل كون الماء طهوراً مستيقن وهو الأصل ومن يسلم أن الأصل في الأموال الحل بل الأصل فيها التحريم. فنقول:الأمور التي لا تحرم لصفة في عينها حرمة الخمر والخنزير خلقت على صفة تستعد لقبول المعاملات بالتراضي كما خلق الماء للوضوء وقد وقع الشك في بطلان هذا الاستعداد منهما فلا فرق بين الأمرين فإنهما تخرج عن قبول المعاملة بالتراضي بدخول الظلم عليها كما يخرج الماء عن قبول الوضوء بدخول النجاسة عليه ولا فرق بين الأمرين. والجواب الثاني: أن اليد دلالة ظاهرة دالة على الملك نازلة منزلة الاستصحاب وأقوى منه بدليل ان الشرع ألحقه به إذ من ادعى عليه دين فالقول قوله لأن الأصل براءة ذمته وهذا استصحاب. ومن ادعى ملك في يده فالقول أيضاً قوله إقامة لليد مقام الاستصحاب فكا ما وجد في يد إنسان فالأصل أنه ملكه ما لم يدل على خلافه علامة معينة.

البرهان الثالث: هو أن ما دل على جنس لا يحصر ولا يدل على معين لم يعتبر وإن كان قطعاً فبأن لا يعتبر إذا دل بطريق الظن أملى وبيانه أن ما علم أنه ملك زيد فحقه يمنع من التصرف فيه بغير إذنه، ولو علم أن له مالكاً في العالم ولكن وقع اليأس عن الوقوف عليه وعلى وارثه فهو مال مرصد لمصالح المسلمين يجوز التصرف فيه بحكم المصلحة، ولو دل على أن له مالكاً محصوراً في عشرة مثلاً أو عشرين امتنع التصرف فيه بحكم المصلحة، فالذي يشك في أن له مالكاً سوى صاحب اليد أم لا? لا يزيد على الذي يتيقن قطعاً أن له مالكاً ولكن لا يعرف عينه فليجز التصرف فيه بالمصلحة والمصلحة ما ذكرناه في الأقسام الخمسة، فيكون هذا الأصل شاهداً له وكيف لا وكل مال ضائع فقد مالكه يصرفه السلطان إلى المصالح ومن المصالح الفقراء وغيرهم، فلو صرف إلى فقير ملكه ونفذ فيه تصرفه، فلو سرقه منه سارق قطعت يده فكيف نفذ تصرفه في ملك الغير? ليس ذلك إلا لحكمنا بأن المصلحة تقتضي أن ينتقل الملك إليه ويحل له فقضينا بموجب المصلحة.

فإن قيل: ذلك يختص بالتصرف فيه السلطان? فنقول: والسلطان لم يجوز له التصرف في ملك غيره بغير إذنه لا سبب له إلا المصلحة، وهو أنه لم ترك لضاع فهو مردد بين تضييعه وصرفه إلى مهم، والصرف إلى مهم أصلح من التضييع فرجع عيه، والمصلحة فيما يشك فيه ولا يعلم تحريمه أن يحكم فيه بدلالة اليد ويترك على أرباب الأيدي إذ انتزاعها بالشك وتكليفهم الاقتصار على الحاجة يؤدي إلى الضرر الذي ذكرناه، وجهات المصلحة تختلف فإن السلطان تارة يرى أن المصلحة أن يبني بذلك المال قنطرة وتارة أن يصرفه إلى جند الإسلام وتارة الفقراء ويدور مع المصلحة كيفما دارت، وكذلك الفتوى في مثل هذا تدور على المصلحة وقد خرج من هذا أن الخلق غير مأخوذين في أعيان الأموال يظنون لا تستند إلى خصوص دلالة في ملك الأعيان كما لم يؤاخذ السلطان والفقراء الآخذون منه بعلمهم أن المال له مالك حيث لم يتعلق العلم بعين مالك مشار إليه، ولا فرق بين عين المالك وبين عين الأملاك في هذا المعنى، فهذا بيان شبهة الاختلاط ولم يبق إلا النظر في امتزاج المائعات والدراهم والعروض في يد مالك واحد سيأتي بيانه في باب تفصيل طريق الخروج من المظالم.

المثار الثالث للشبهة

أن يتصل بالسبب المحلل معصية

إما في قرائنه وإما في لواحقه وإما في سوابقه أو في عوضه وكانت من المعاصي التي لا توجب فساد العقد وإبطال السبب المحلل.

مثال المعصية في القرائن: البيع في وقت النداء يوم الجمعة، والذبح بالسكينة المغصوبة، والاحتطاب بالقدوم المغصوب، والبيع على بيع الغير، والسوم على سومه فكل نهي ورد في العقود ولم يدل على فساد العقد فإن الامتناع من جميع ذلك ورع، وإن لم يكن المستفاد بهذه الأساليب محكوماً بتحريمه. وتسمية هذا النمط شبهة فيه تسامح لأن الشبهة في غالب الأمر تطلق لإرادة الاشتباه والجهل ولا اشتباه ههنا، بل العصيان بالذبح بسكين الغير معلوم وحل الذبيحة أيضاً معلوم ولكن قد تشتق الشبهة من المشابهة، وتناول الحاصل من هذه الأمور مكروه والكراهة تشبه التحريم فإن أريد بالشبهة هذا فتسمية هذا شبهة له وجه، وإلا فينبغي أن يسمى هذا كراهة لا شبهة، وإذا عرف المعنى فلا مشاحة في الأسامي فعادة الفقهاء التسامح في الإطلاقات. ثم اعلم أن هذه الكراهة لها ثلاث درجات: الأولى منها تقرب من الحرام والورع عنه مهم والأخيرة تنتهي إلى نوع من المبالغة تكاد تلتحق بورع الموسوسين وبينهما أوساط نازعة إلى الطرفين، فالكراهة في صيد كلب مغصوب أشد منها في الذبيحة بسكين مغصوب أو المقتص بسهم مغصوب إذ الكلب له اختيار، وقد اختلف في أن الحاصل به لمالك الكلب أو للصياد، ويليه شبهة البذر المزروع في الأرض المغصوبة فإن الزرع لمالك البذر ولكن فيه شبهة، ولو أثبتنا حق الحبس لمالك الأرض في الزرع لكان كالثمن الحرام، ولكن الأقيس أن لا يثبت حق حبس كما لو طحن بطاحونة مغصوبة واقتنص بشبكة مغصوبة إذ لا يتعلق صاحب الشبكة في منفعتها بالصيد، ويليه الاحتطاب بالقدوم المغصوب ثم ذبحه ملك نفسه بالسكين المغصوب إذ لم يذهب أحد إلى تحريم الذبيحة، ويليه البيع في وقت النداء فإنه ضعيف التعلق بمقصود العقد وإن ذهب قوم إلى فساد العقد إذ ليس فيه إلا أنه اشتغل بالبيع عن واجب آخر كان عليه، ولو أفسد البيع بمثله لأفسد بيع كل من عليه درهم زكاة أو صلاة فائتة وجوبها على الفور أو في ذمته مظلمة دانق فإن الاشتغال بالبيع مانع له عن القيام بالواجبات فليس للجمعة إلا الوجوب بعد النداء، وينجر ذلك إلى أن لا يصح نكاح أولاد الظلمة وكل من في ذمته درهم لأنه اشتغل بقوله عن الفعل الواجب عليه، إلا من حيث ورد في يوم الجمعة نهي على الخصوص ربما سبق إلى الأفهام خصوصية فيه فتكون الكراهة أشد ولا بأس بالحذر منه، ولكن قد ينجر إلى الوسواس حتى يتحرج عن نكاح بنات أرباب المظالم وسائر معاملاتهم.

وقد حكي عن بعضهم أنه اشترى شيئاً من رجل فسمع أنه اشتراه يوم الجمعة، فرده خيفة أن يكون ذلك مما اشتراه وقت النداء وهذا غاية المبالغة أنه رد بالشك. ومثل هذا الوهم في تقدير المناهي أو المفسدات لا ينقطع عن يوم السبت وسائر الأيام والورع حسن والمبالغة فيه أحسن ولكن إلى حد معلوم، فقد قال : "هلك المتنطعون" فليحذر من أمثال هذه المبالغات فإنها وإن كانت لا تضر صاحبها ربما أوهم عند الغير أن مثل ذلك مهم ثم يعجز عما هو أيسر منه فيترك أصل الورع وهو مستند أكثر الناس في زماننا هذا إذ ضيق عليهم الطريق فأيسوا عن القيام به فاطرحوه، فكما أن الموسوس في الطهارة قد يعجز عن الطهارة فيتركها فكذا بعض الموسوسين في الحلال سبق إلى أوهامهم أن مال الدنيا كله حرام فتوسعوا فتركوا التمييز وهو عين الضلال.

وأما مثال اللواحق: فهو كل تصرف يفضي في سياقه إلى معصية وأعلاه بيع العنب من الخمار وبيع الغلام من المعروف بالفجور بالغلمان وبيع السيف من قطاع الطريق. وقد اختلف العلماء في صحة ذلك وفي حل الثمن المأخوذ منه. والأقيس أن ذلك صحيح والمأخوذ حلال والرجل عاص بعقده كما يعصى بالذبح بالسكين المغصوب والذبيحة حلال، ولكنه يعصى عصيان الإعانة على المعصية إذ لا يتعلق ذلك بعين العقد فالمأخوذ من هذا مكروه كراهية شديدة وتركه من الورع المهم وليس بحرام، ويليه في الرتبة بيع العنب ممن يشرب الخمر ولم يكن خماراً وبيع السيف ممن يغزو ويظلم أيضاً لأن الاحتمال قد تعارض، وقد كره السلف بيع السيف في وقت الفتنة خيفة أن يشتريه ظالم فهذا ورع فوق الأول والكراهية فيه أخف، ويليه ما هو مبالغة ويكاد يلتحق بالوسواس وهو قول جماعة أنه لا تجوز معاملة الفلاحين بآلات الحرث لأنهم يستعينون بها على الحراثة ويبيعون الطعام من الظلمة ولا يباع منهم البقر الفدان وآلات الحرث، وهذا ورع الوسوسة إذ ينجز إلى أن لا يباع من الفلاح طعام لأنه يتقوى به على الحراثة ولا يسقى من الماء العام لذلك، وينتهي هذا إلى حد التنطع المنهي عنه. وكل متوجه إلى شيء على قصد خير لابد وأن يسرف إن لم يذمه العلم المحقق، وربما يقدم على ما يكون بدعة في الدين ليستضر الناس بعده بها وهو يظن أنه مشغول بالخير، ولهذا قال : "فضل العالم على العابد كفضلي على أدنى رجل من أصحابي" والمتنطعون هم الذين يخشى عليهم أن يكونوا ممن قيل فيهم: " الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً" وبالجملة، لا ينبغي للإنسان أن يشتغل بدقائق الورع إلا بحضرة عالم متقن فإنه إذا جاوز ما رسم له وتصرف بذهنه من غير سماع كان ما يفسده أكثر مما يصلحه. وقد روي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه أحرق كرمه خوفاً من أن، يباع العنب ممن يتخذه خمراً. وهذا لا أعرف له وجهاً إن لم يعرف هو سبباً خاصاً يوجب الإحراق? إذ ما أحرق كرمه ونخله من كان أرفع قدراً منه من الصحابة ولو جاز هذا قطع الذكر خيفة من الزنى وقطع اللسان خيفة من الكذب إلى غبر ذلك من الإتلافات.

وأما المقدمات: فلتطرق المعصية إليها ثلاث درجات: الدرجة العليا: التي تشتد الكراهة فيها: ما بقي أثره في المتناول كالأكل من شاة علفت بعلف مغصوب أو رعت في مرعى حرام، فإن ذلك معصية وقد كان سبباً لبقائها وربما يكون الباقي من دمها ولحمها وأجزائها من ذلك العلف، وهذا الورع مهم وإن لم يكن واجباً، ونقل عن ذلك عن جماعة من السلف. وكان لأبي عبد الله الطوسي التروغندي شاة يحملها على رقبته كل يوم إلى الصحراء ويرعاها وهو يصلي وكان يأكل من لبنها فغفل عنها ساعة فتناولت من ورق كرم على طرف بستان فتركها في البستان ولم يستحل أخذها.

فإن قيل: فقد روي عن عبد الله بن عمر وعبيد الله أنهما اشتريا إبلاً فبعثاها إلى الحمى فرعته إبلهما حتى سمنت، فقال عمر رضي الله عنه: أرعيتماها في الحمى? فقالا: نعم فشارطهما. فهذا يدل على أنه رأى اللحم الحاصل من العلف لصاحب العلف فليوجب هذا تحريماً.

قلنا: ليس كذلك فإن العلف يفسد بالأكل واللحم خلق جديد وليس عين العلف فلا شركة لصاحب العلف شرعاً، ولكن عمر غرمهما قيمة الكلأ ورأى ذلك مثل شطر الإبل فأخذ الشطر بالاجتهاد، كما شاطر سعد بن أبي وقاص ماله لما أن قدم من الكوفة، وكذلك شاطر أبا هريرة رضي الله عنه إذ رأى أن كل ذلك لا يستحقه العامل ورأى شطر ذلك كافياً على حق عملهم وقدره بالشطر اجتهاداً.

الرتبة الوسطى: ما نقل عن بشر بن الحارث من امتناعه عن الماء المساق في نهر احتفره الظلمة لأن النهر موصل إليه وقد عصى الله بحفره. وامتنع آخر عن عنب كرم يسقى بماء يجري في نهر حفر ظلماً وهو أرفع منه وأبلغ في الورع. وامتنع آخر من الشرب من مصانع السلاطين في الطرق. وأعلى من ذلك امتناع ذي النون من طعام حلال أوصل إليه على يد سجان، وقوله: إنه جاءني على يد ظالم، ودرجات هذه الرتب لا تنحصر.

الرتبة الثالثة: وهي قريب من الوسواس والمبالغة: أن يمتنع من حلال وصل على يد رجل عصى الله بالزنى أو القذف وليس هو كما لو عصى بأكل الحرام، فإن الموصل قوته الحاصلة من الغذاء الحرام والزنى والقذف لا يوجب قوة يستعان بها على الحمل بل الامتناع من أخذ حلال وصل على يد كافر وسواس، بخلاف أكل الحرام إذ الكفر لا يتعلق بحمل الطعام وينجز هذا إلى أن لا يؤخذ من يد من عصى الله ولو بغيبة أو كذبة وهو غاية التنطع والإسراف فليضبط ما عرف من ورع ذي النون وبشر بالمعصية في السبب الموصل كالنهر وقوة اليد المستفادة بالغذاء الحرام. ولو امتنع عن الشرب بالكوز لأن صانع الفخار الذي عمل الكوز كان قد عصى الله يوماً بضرب إنسان أو شتمه لكان هذا وسواساً. ولو امتنع من لحم شاة ساقها آكل حرام فهذا أبعد من يد السجان لأن الطعام يسوقه قوة السجان والشاة تمشي بنفسها والسائق يمنعها عن العدول في الطريق فقط فهذا قريب من الوسواس. فانظر كيف تدرجنا في بيان ما تتداعى إليه هذه الأمور. واعلم أن كل هذا خارج عن فتوى علماء الظاهر فإن فتوى الفقيه تختص بالدرجة الأولى التي يمكن تكليف عامة الخلق بها ولو اجتمعوا عليه لم يخرب العالم درن ما عداه من ورع المتقين والصالحين. والفتوى في هذا ما قاله لوابصة إذ قال: " استفت قلبك وإن أفتوك وأفتوك وأفتوك"، وعرف ذلك إذ قال: "الإثم حزاز القلوب" وكل ما حاك في صدر المريد من هذه الأسباب فلو أقدم عليه مع حزازة القلب استضر به وأظلم قلبه بقدر الحزازة التي يجدها بل لو أقدم على حرام في علم الله وهو يظن أنه حلال لم يؤثر ذلك في قساوة قلبه، ولو أقدم على ما هو حلال في فتوى علماء الظاهر ولكنه يجد حزازة في قلبه فلذلك يضره. وإنما الذي ذكرناه في النهي عن المبالغة أردنا به أن القلب الصافي المعتدل هو الذي لا يجد حزازة في مثل تلك الأمور فإن مال قلب موسوس عن الاعتدال ووجد الحزازة فأقدم مع ما يجد في قلبه فلذلك يضره لأنه مأخوذ في حق نفسه بينه وبين الله تعالى بفتوى قلبه. وكذلك يشدد على الموسوس في الطهارة ونية الصلاة فإنه إذا غلب على قلبه أن الماء لم يصل إلى جميع أجزائه بثلاث مرات لغلبة الوسوسة فيجب عليه أن يستعمل الرابعة وصار ذلك حكماً في حقه وإن كان مخطئاً في نفسه، أولئك قوم شددوا فشدد الله عليهم، ولذلك شدد على قوم موسى عليه السلام لما استقصوا في السؤال عن البقرة ولو أخذوا أولاً بعموم لفظ البقرة وكل ما ينطلق عليه السلام لأجزأهم ذلك فلا تغفل عن هذه الدقائق التي رددناها نفياً وإثباتاً فإن من لا يطلع على كنه الكلام ولا يحيط بمجامعه يوشك أن يزل في درك مقاصده.

وأما المعصية في العوض فله أيضاً درجات.

الدرجة العليا: التي تشتد الكراهة فيها أن يشتري شيئاً في الذمة ويقضي ثمنه من غصب أو مال حرام فينظر فإن سلم إليه البائع الطعام قبل قبض الثمن بطيب قلبه فأكله قبل قضاء الثمن فهو حلال وتركه ليس بواجب بالإجماع أعني قبل قضاء الثمن ولا هو أيضاً من الورع المؤكد فإن قضى الثمن بعد الأكل من الحرام فكأنه لم يقض الثمن، ولو لم يقضه أصلاً لكان متقلداً للمظلمة بترك ذمته مرتهنة بالدين ولا ينقلب ذلك حراماً. فإن قضى الثمن من الحرام وأبرأه البائع مع العلم بأنه حرام فقد برئت ذمته ولم يبق عيه إلا مظلمة تصرفه في الدراهم الحرام بصرفها إلى البائع وإن أبرأه على ظن أن الثمن حلال فلا تحصل البراءة لأنه يبرئه مما أخذه إبراء استيفاء ولا يصلح ذلك للإبقاء. هذا حكم المشتري والأكل منه وحكم الذمة وإن لم يسلم إليه بطيب قلب ولكن لآخذه فأكله حرام سواء أكله قبل توفية الثمن من الحرام أو بعده لأن الذي تومئ الفتوى به ثبوت حق الحبس للبائع حتى يتعين ملكه بإقباض النقد كما تعين ملك المشتري، وإنما يبطل حق حبسه إما بالإبراء أو الاستيفاء ولم يجر شيء منهما ولكنه أكل ملك نفسه وهو عاص به عصيان الراهن للطعام إذا أكله بغير إذن المرتهن، وبينه وبين أكل طعام الغير فرق ولكن أصل التحريم شامل، هذا كله إذا قبض قبل توفية الثمن إما بطيبة قلب البائع أو من غير طيبة قلبه. فأما إذا وفى الثمن الحرام أولاً ثم قبض فإن كان البائع عالماً بأن الثمن حرام ومع هذا أقبض المبيع بطل حق حبسه وبقي له الثمن في ذمته غذ ما أخذ ليس بثمن ولا يصير أكل المبيع حراماً بسبب بقاء الثمن فأما إذا لم يعلم أنه حرام وكان بحيث لو علم لما رضي به ولا أقبض المبيع فحق حبسه لا يبطل بهذا التلبيس فأكله حرام تحريم أكله المرهون إلى أن يبرئه أو يوفى من حلال أو يرضى هو بالحرام ويبرئ فيصح إبراؤه ولا يصح رضاه بالحرام فهذا مقتضى الفقه وبيان الحكم في الدرجة الأولى من الحلل والحرمة، فأما الامتناع عنه فمن الورع المهم لأن المعصية إذا تمكنت من السبب الموصل إلى الشيء تشتد الكراهية فيه. كم سبق. وأقوى الأسباب الموصلة الثمن ولولا الثمن الحرام لما رضي البائع بتسليمه إليه فرضاه لا يخرجه عن كونه مكروهاً كراهية شديدة ولكن العدالة لا تنخرم به وتزول به درجة التقوى والورع. ولو اشترى سلطان مثلاً ثوباً أو أرضاً في الذمة وقبضه برضا البائع قبل توفية الثمن وسلمه إلى فقيه أو غيره صلة أو خلعة وهو شاك في أنه سيقضي ثمنه من الحلال أو الحرام فهذا أخف إذ وقع الشك في تطرق المعصية إلى الثمن وتفاوت خفته بتفاوت كثرة الحرام وقلته في مال ذلك السلطان وما يغلب على الظن فيه وبعضه أشد من بعض والرجوع فيه إلى ما ينقدح في القلب.

الرتبة الوسطى: أن لا يكون العوض غصباً ولا حراماً ولكن يتهيأ لمعصية، كما لو سلم عوضاً عم الثمن عنباً والآخذ شارب الخمر أو سيفاً وهو قاطع طريق فهذا لا يوجب تحريماً في مبيع اشتراه في الذمة ولكن يقتضي فيه كراهية دون الكراهية التي في الغصب. وتتفاوت درجات هذه الرتبة أيضاً بتفاوت غلبة المعصية على قابض الثمن وندوره ومهما كان العوض حراماً فبذله حرام وإن احتمل تحريمه ولكن أبيح بظن فبذله مكروه وعليه ينزل عندي النهي عن كسب الحجام وكراهته. إذ نهى عنه عليه السلام مرات ثم أمر بأن يعلف الناضج، وما سبق إلى الوهم من أن سببه مباشرة النجاسة والقذر فاسد إذ يجب طرده في الدباغ والكناس ولا قائل به، وإن قيل به فلا يمكن طرده في القصاب إذ كيف يكون كسبه مكروهاً وهو بدل عن اللحم واللحم في نفسه غير مكروه ومخامرة القصاب النجاسة أكثر منه للحجام والفصاد فإن الحجام يأخذ الدم بالمحجمة ويمسحه بالقطنة، ولكن السبب أن في الحجامة والفصد تخريب بنية الحيوان وإخراجها لدمه وبه قوام حياته والأصل فيه التحريم، وإنما يحل بضرورة وتعلم الحاجة والضرورة بحدس واجتهاد وربما يظن نافعاً ويكون ضاراً فيكون حراماً عند الله تعالى ولكن يحكم بحله بالظن والحدس. ولذلك لا يجوز للفصاد فقد صبي وعبد ومعتوه إلا بإذن وليه وقول طبيب ولولا أنه حلال في الظاهر لما أعطي عليه السلام أجرة الحجام ولولا أنه يحتمل التحريم لما نهى عنه فلا يمكن الجمع بين إعطائه ونهيه إلا باستنباط هذا المعنى. وهذا كان ينبغي أن نذكره في القرائن المقرونة بالسبب فإنه أقرب إليه.

الرتبة السفلى: وهي درجة الموسوسين، وذلك أن يحلف إنسان على أن لا يلبس من غزل أمه فباع غزلها واشترى به ثوباً فهذا لا كراهة فيه والورع عنه وسوسة. وروي عن المغيرة أنه قال في هذه الواقعة: لا يجوز واستشهد بأن النبي قال: "لعن الله اليهود حرمت عليهم الخمور فباعوها وأكلوا أثمانها" وهذا غلط لأن بيع الخمور باطل إذ لم يبق للخمر منفعة في الشرع وثمن البيع الباطل حرام، وليس هذا من ذلك بل مثال هذا أن يملك الرجل جارية هي أخته من الرضاع فتباع بجارية أجنبية فليس لأحد أن يتورع منه وتشبيه ذلك ببيع الخمر غاية السرف في هذا الطرف. وقد عرفنا جميع الدرجات وكيفية التدريج فيها وإن كان تفاوت هذه الدرجات لا ينحصر في ثلاث أو أربع ولا في عدد ولكن المقصود من التعديد التقريب والتفهيم.

فإن قيل: فقد قال : "من اشترى ثوباً بعشرة دراهم فيها درهم حرام لم يقبل الله صلاة ما كان عليه" ثم أدخل ابن عمر أصبعيه في أذنيه وقال: صمتاً إن لم أكن سمعته منه. قلنا: ذلك محمول على ما لو أشترى بعشرة بعينها لا في الذمة وإذا اشترى في الذمة فقد حكمنا بالتحريم في أكثر الصور فليحمل عليها، ثم كم من ملك يتوعد عليه بمنع قبول الصلاة لمعصية تطرقت إلى سببه وإن لم يدل ذلك على فساد العقد كالمشتري في وقت النداء وغيره.

المثار الرابع

الاختلاف في الأدلة

فإن ذلك كالاختلاف في السبب لأن السبب سبب لحكم الحل والحرمة. والدليل سبب لمعرفة الحل والحرمة فهو سبب في حق المعرفة ولم يثبت في معرفة الغير فلا فائدة لثبوته في نفسه وإن جرى في علم الله، وهو إما أن يكون لتعارض أدلة الشرع أو لتعارض العلامات الدالة أو لتعارض التشابه.

القسم الأول: أن تتعارض أدلة الشرع مثل تعارض عمومين من القرآن أو السنة أو تعارض قياسين أو تعارض قياس وعموم. وكل ذلك يورث الشك ويرجع فيه إلى الاستصحاب أو الأصل المعلوم قبله إن لم يكن ترجيح، فإذا ظهر ترجيح في جانب الحذر وجب الأخذ به، وإن ظهر في جانب الحل جاز الأخذ به ولكن الورع تركه. واتقاء مواضع الخلاف مهم في الورع في حق المفتي والمقلد. وإن كان المقلد يجوز له أن يأخذ بما أفتى له مقلده الذي يظن أنه أفضل علماء بلده ويعرف ذلك بالتسامع كما يعرف أفضل أطباء البلد بالتسامع والقرائن وإن كان لا يحسن الطب. وليس للمستفتي أن ينتقد من المذاهب أوسعها عليه، بل عليه أن يبحث حتى يغلب على ظنه الأفضل ثم يتبعه فلا يخالفه أصلاً، نعم، إن أفتى له إمامه بشيء ولإمامه فيه مخالف فالقرار من الخلاف إلى الإجماع من الورع المؤكد، وكذا المجتهد إذا تعارضت عنده الأدلة ورجح جانب الحل بحدس وتخمين وظن فالورع له الاجتناب. فلقد كان المفتون يفتون بحل أشياء لا يقدمون عليها قط تورعاً منها وحذراً من الشبهة فيها فلنقسم هذا أيضاً على ثلاث مراتب:

الرتبة الأولى: ما يتأكد الاستحباب في التورع عنه وهو ما يقوى فيه دليل المخالف ويدق وجه ترجيح المذهب الآخر عليه. فمن المهمات التورع عن فريسة الكلب المعلم إذا أكل منها وإن أفتى المفتي بأنه حلال لأن الترجيح فيه غامض، وقد اخترنا أن ذلك حرام وهو أقيس قولي الشافعي رحمه الله. ومهما وجد للشافعي قول جديد موافق لمذهب أبي حنيفة رحمه الله أو غيره من الأئمة كان الورع فيه مهماً وإن أفتى بالقول الآخر. ومن ذلك الورع عن متروك التسمية وإن لم يختلف فيه قول الشافعي رحمه الله لأن الآية ظاهرة في إيجابها والأخبار متواترة فيه فإنه قال لكل من سأل عن الصيد: " إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت عليه اسم الله فكل" ونقل ذلك على التكرر وقد شهر الذبح بالبسملة وكل ذلك يقوي دليل الاشتراط ولكن لما صح قوله : "المؤمن يذبح على اسم الله تعالى سمى أو لم يسم" واحتمل أن يكون هذا عاماً موجباً لصرف الآية وسائر الأخبار عن ظواهرها، ويحتمل أن يخصص هذا بالناسي ويترك الظواهر ولا تأويل، وكان حمله على الناسي ممكنا تمهيداً لعذره في ترك التسمية بالنسيان وكان تعميمه وتأويل الآية ممكناً إمكاناً أقرب رجحنا ذلك ولا ننكر رفع الاحتمال المقابل له فالورع عن مثل هذا مهم واقع في الدرجة الأولى.

الرتبة الثانية: وهي مزاحمة لدرجة الوسواس أن يتورع الإنسان عن أكل الجنين الذي يصادف في بطن الحيوان المذبوح وعن الضب. وقد صح في الصحاح من الأخبار حديث الجنين، إن ذكاته ذكاة أمه، صحة لا يتطرق احتمال إلى متنه ولا ضعف إلى سنده، وكذلك صح أنه أكل الضب على مائدة رسول الله ، وقد نقل ذلك في الصحيحين. وأظن أن أبا حنيفة لم تبلغه هذه الأحاديث ولو بلغته لقلا بها إن أنصف وإن لم ينصف منصف فيه كان خلافه غلطاً لا يعتد به ولا يورث شبهة كما لو يخالف وعلم الشيء بخبر الواحد

الرتبة الثالثة: أن لا يشتهر في المسألة خلاف أصلاً ولكن يكون الحل معلوماً بخبر الواحد فيقول القائل قد اختلف الناس في خبر الواحد فمنهم من لا يقبله فأنا أتورع. فإن النقلة وإن كانوا عدولاً فالغلط جائز عليهم والكذب لغرض خفي جائر عليهم، لأن العدل أيضاً قد يكذب والوهم جائز عليه فإنه قد يسبق إلى سمعهم خلاف ما يقوله القائل وكذا إلى فهمهم فهذا ورع لم ينقل مثله عن الصحابة فيما كانوا يسمعونه من عدل تسكن نفوسهم إليه. وأما إذا تطرقت شبهة بسبب خاص ودلالة معينة في حق الراوي فللتوقف وجه ظاهر وإن كان عدلاً. وخلاف من خالف في أخبار الآحاد غير معتد به وهو كخلاف النظام في أصل الإجماع. وقوله: إنه ليس بحجة ولو جاز مثل هذا الورع لكان من الورع أن يمتنع الإنسان من أن يأخذ ميراث الجد أبي الأب ويقول ليس في كتاب الله إلا ذكر إلا للبنين وإلحاق ابن الابن بالابن بإجماع الصحابة وهم غير معصومين والغلط عليهم جائز إذ خالف النظام فيه، وهذا هوس ويتداعى إلى أن يترك ما علم بعمومات القرآن إذ من المتكلمين من ذهب إلى أن العمومات لا صيغة لها وإنما يحتج بما فهمه الصحابة منها بالقرائن والدلالات وكل ذلك وسواس، فإذن لا طرف من أطراف الشبهات إلا وفيها غلو وإسراف فليفهم ذلك. ومهما أشكل أمر من هذه الأمور فليستفت فيه القلب وليدع الورع ما يريبه إلى ما لا يريبه، وليترك حزاز القلوب وحكاكات الصدور وذلك يختلف بالأشخاص والوقائع، ولكن ينبغي أن يحفظ قلبه عن دواعي الوسواس حتى لا يحكم إلا بالحق فلا ينطوي على حزازة في فتوى القلب وإنما قال ذلك لوابصة لما كان قد عرف من حاله.

القسم الثاني: تعارض العلامات الدالة على الحل والحرمة فإنه قد ينهب نوع من المتاع في وقت وتندر وقوع مثله في غير النهب فيرى مثلاً في يد رجل من أهل الصلاح، فيدل صلاحه على أنه حلال ويدل نوع المتاع وندوره من غير المنهوب على أنه حرام فيتعارض الأمران. وكذلك يخبر عدل أنه حرام وآخر أنه حلال أو تتعارض شهادة فاسقين أو قول صبي وبالغ، فإن ظهر ترجيح حكم به والورع الاجتناب، وإن لم يظهر ترجيح وجب التوقف وسيأتي تفصيله في باب التعارف والبحث والسؤال.

القسم الثالث: تعارض الأشباه في الصفات التي تناط بها الأحكام. مثاله أن يوصى بمال للفقهاء فيعلم أن الفاضل في الفقه داخل فيه وأن الذي ابتدأ التعلم من يوم أو شهر لا يدخل فيه وبينهما درجات لا تحصى يقع الشك فيها، فالمفتي يفتي بحسب الظن والورع والاجتناب، وهذا أغمض مثارات الشبهة فإن فيها صوراً يتحير المفتي فيها تحيراً لازماً لا حيلة له فيه إذ يكون المتصف بصفة في درجة متوسطة بين الدرجتين المتقابلتين لا يظهر له ميله إلى أحدهما. وكذلك الصدقات المصروفة إلى المحتاجين فإن من لا شيء له معلوم أنه محتاج ومن له مال كثير معلوم أنه غني ويتصدى بينهما مسائل غامضة كمن له دار وأثاث وثياب وكتب فإن قدر الحاجة منه لا يمنع من الصرف إليه والفاضل يمنع والحاجة ليست محدودة وإنما تدرك بالتقريب، ويتعدى منه النظر في مقدار سعة الدار وأبنيتها ومقدار قيمتها لكونها في وسط البلد ووقوع الاكتفاء بدار دونها، وكذلك في نوع أثاث البيت إذا كان من الصفر لا من الخزف وكذلك في عددها وكذلك في قيمتها وكذلك فيما لا يحتاج إليه كل يوم وما يحتاج إليه كل سنة من آلات الشتاء وما لا يحتاج إليه إلا في سنين، وشيء من ذلك لا حد له. والوجه في هذا مقاله عليه السلام: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك". وكل ذلك في محل الريب إن توقف المفتي فلا وجه إلا التوقف وإن أفتى المفتي بظن وتخمين فالورع التوقف وهو أهم مواقع الورع. وكذلك ما يجب بقدر الكفاية من نفقة الأقارب وكسوة الزوجات وكفاية الفقهاء والعلماء على بيت المال إذ فيه طرفان يعلم أن أحدها قاصر وأن الآخر زائد وبينهما أمور متشابهة تختلف باختلاف الشخص والحال. والمطلع على الحاجات هو الله تعالى وليس للبشر وقوف على حدودها، فما دون الرطل المكي في اليوم قاصر عن كفاية الرجل الضخم وما فوق ثلاثة أرطال زائد على الكفاية وما بينهما لا يتحقق له حد. فليدع الورع ما يريبه إلى ما لا يريبه وهذا جار في كل حكم نيط بسبب يعرف ذلك السبب بلفظ العرب، إذ العرب وسائر أهل اللغات لم يقدروا متضمنات اللغات بحدود محدودة تنقطع أطرافها عن مقابلاتها كلفظ الستة فإنه لا يحتمل ما دونها وما فوقها من الأعداد وسائر ألفاظ الحساب والتقديرات، فليست الألفاظ اللغوية كذلك فلا لفظ في كتاب الله وسنة رسول الله إلا ويتطرق الشك إلى أوساط في مقتضياتها تدور بين أطراف متقابلة فتعظم الحاجة إلى هذا الفن في الوصايا والأوقاف فالوقف على الصوفية مثلاً مما يصح ومن الداخل تحت موجب هذا اللفظ هذا من الغوامض، فكذلك سائر الألفاظ. وسنشير إلى مقتضى لفظ الصوفية على الخصوص ليعلم به طريق التصرف في الألفاظ وإلا فلا مطمع في استيفائها، فهذه اشتباهات تثور من علامات متعارضة يجذب إلى طرفين متقابلين، وكل ذلك من الشبهات يجب اجتنابها إذا لم يترجح جانب الحل بدلالة يغلب على الظن أو باستصحاب بموجب قوله : "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" وبموجب سائر الأدلة التي سبق ذكرها. فهذه مثارات الشبهات وبعضها أشد من بعض ولو تظاهرت شبهات شتى على شيء واحد كان الأمر أغلظ، مثل أن يأخذ طعاماً مختلفاً فيه عوضاً عن عنب باعه من خمار بعد النداء يوم الجمعة والبائع قد خلط ماله حرام وليس هو أكثر ماله، ولكنه صار مشتبهاً به فقد يؤدي ترادف الشبهات إلى أن يشتد الأمر في اقتحامها، فهذه مراتب عرفنا طريق الوقوف عليها وليس في قوة البشر حصرها فما اتضح من هذا الشرح أخذ به وما التبس فليجتنب فإن الإثم حزاز القلب. وحيث قضينا باستفتاء القلب أردنا به حيث أباح المفتي أما حيث حرمه فيجب الامتناع. ثم لا يعول على كل قلب فرب موسوس ينفر عن كل شيء ورب شره متساهل يطمئن إلى كل شيء ولا اعتبار بهذين القلبين، وإنما الاعتبار بقلب العالم الموفق المراقب لدقائق الأحوال وهو المحك الذي يمتحن به خفايا الأمور، وما أعز هذا القلب في القلوب فمن لم يثق بقلب نفسه فليلتمس النور من قلب بهذه الصفة وليعرض عليه واقعته، وجاء في الزبور: "إن الله تعالى أوحى إلى داوود عليه السلام: قيل لبني إسرائيل إني لا أنظر إلى صلاتكم ولا صيامكم ولكن أنظر إلى من شك في شيء فتركه لأجلي فذاك الذي أنظر غليه وأؤيده بنصري وأباهي به ملائكتي".