إحياء علوم الدين/كتاب الحلال والحرام/الباب الثالث



الباب الثالث

في البحث والسؤال والهجوم والإهمال ومظانها


اعلم أن كل من قدم إليك طعاماً أو هدية أو أردت أن تشتري منه أو تنهب فليس لك أن تفتش عنه وتسأل وتقول: هذا مما لا أتحقق حله فلا أخذه بل أفتش عنه، وليس لك أيضاً أن تترك البحث فتأخذ كل ما لا تتيقن تحريمه بل السؤال واجب مرة وحرام مرة ومندوب مرة ومكروه مرة فلا بد من تفصيله، والقول الشافي فيه هو أن مظنة السؤال مواقع الريبة. ومنشأ الريبة ومثارها إما أمر يتعلق بالمال أو يتعلق بصاحب المال.

المثار الأول

أحوال المالك

وله بالإضافة إلى معرفتك ثلاثة أحوال: إما أن يكون مجهولاً، أو مشكوكاً فيه أو معلوماً بنوع ظن يستند إلى دلالة: الحالة الأولى: أن يكوم مجهولاً. هو الذي ليس معه قرينة تدل على فساده وظلمه كزي الأجناد، ولا ما يدل على صلاحه كثياب أهل التصوف والتجارة والعلم وغيرها من العلامات. فإذا دخلت قرية لا تعرفها فرأيت رجلاً لا تعرف من حاله شيئاً ولا عليه علامة تنسبه إلى أهل صلاح أو أهل فساد فهو مجهول، وإذا دخلت بلدة غريبة ودخلت سوقاً ووجدت رجلاً خبازاً أو قصاباً أو غيره ولا علامة تدل على كونه مريباً أو خائناً ولا ما يدل على نفيه فهو مجهول ولا يدرى حاله، ولا نقول إنه مشكوك فيه لأن الشك عبارة عن اعتقادين متقابلين لهما سببان متقابلان، وأكثر الفقهاء لا يدركون الفرق بين ما لا يدري وبين ما يشك فيه، وقد عرفت مما سبق أن الورع ترك ما لا يدرى. قال يوسف بن أسباط: منذ ثلاثين سنة ما حاك في قلبي شيء إلا تركته. وتكلم جماعة في أشق الأعمال فقالوا: هو الورع، فقال لهم حان بن أبي سنان: ما شيء عندي أسهل من الورع، إذا حاك في صدري تركته. فهذا شرط الورع، وإنما نذكر الآن حكم الظاهر، فنقول: حكم هذه الحالة أن المجهول إن قدم إليك طعاماً أو حمل إليك هدية أو أردت أن تشتري من دكانه شيئاً فلا يلزمك السؤال بل يده وكونه مسلماً دلالتان كافيتان في الهجوم على أخذه. وليس لك أن تقول الفساد والظلم غالب على الناس فهذه وسوسة وسوء الظن بهذا المسلم بعينه وإن بعض الظلم إثم. وهذا المسلم يستحق بإسلامه عليك ألا نسيء الظن به فإن أسأت الظن به في عينه لأنك رأيت فساداً من غيره فقد جنيت عليه وأثمت به في الحال نقداً من غير شك، ولو أخذت المال لكان كونه حرماً مشكوكاً فيه. ويدل عليه أنا نعلم ان الصحابة رضي الله عنهم في غزواتهم واسفارهم كانوا ينزلون في القرى ولا يردون القرى ويدخلون البلاد ولا يحترزون من الأسواق، وكان الحرام أيضاً موجوداً في زمانهم وما نقل عنهم سؤال إلا عن ريبة إذ كنا لا يسأل عن كل ما يحمل إليه بل سأل في أول قدومه إلى المدينة عما يحمل إليه: أصدقة أم هدية? لأن قرينة الحال تدل وهو دخول المهاجرين المدينة وهم فقراء فغلب على الظن أن ما يحمل إليهم بطريق الصدقة، ثم إسلام المعطي ويده لا يدلان على أنه ليس بصدقة. وكان يدعى إلى الضيافات فيجيب ولا يسأل: أصدقة أم لا? إذ العادة ما جرت بالتصدق بالضيافة. ولذلك دعته أم سليم، ودعاه الخياط، كما في الحديث الذي رواه أنس بن مالك رضي الله عنه وقدم إليه طعاماً فيه قرع، ودعاه الرجل الفارسي فقال عليه الصلاة والسلام: "أنا وعائشة?" فقال: لا، فقال: "فلا" ثم أجابه بعد فذهب هو وعائشة يتساوقان فقرب إليهما إهالة ولم ينقل السؤال في شيء من ذلك، وسأل أبو بكر رضي الله عنه عبده عن كسبه لما رابه من أمره، وسأل عمر رضي الله عنه الذي سقاه من لبن إبل الصدقة إذ رابه وكان أعجبه طعمه ولم يكن على ما كان يألفه كل مرة. وهذه أسباب الريبة وكل من وجد ضيافة عند رجل مجهول لم يكن عاصياً بإجابته من غير تفتيش، بل لو رأى في داره تجملاً ومالاً كثيراً فليس له أن يقول الحلال عزيز وهذا كثير فمن أين يجتمع هذا من الحلال? بل هذا الشخص بعينه يحتمل ان يكون ورث مالاً أو اكتسبه فهو بعينه يستحق إحسان الظن به، وأزيد على هذا القول: ليس له أن يسأله بل إن كان يتورع فلا يدخل جوفه إلا ما يدري من أين هو فهو حسن فليتلطف في الترك وإن كان لا بد له من أكله فليأكل بغير سؤال إذ السؤال إيذاء وهتك ستر وإيحاش وهو حرام بلا شك.

فإن قلت: لعله لا يتأذى? فأقول: لعله يتأذى فأنت تسأل حذراً من "لعل" فإن قنعت فلعل ماله حلال وليس الإثم المحذور في إيذاء مسلم بأقل من الإثم في أكل الشبهة والحرام، والغالب على الناس الاستيحاش بالتفتيش ولا يجوز له أن يسأل من غيره من حيث يدري هو به لأن الإيذاء في ذلك اكثر. وإن سأل من حيث لا يدري هو ففيه إساءة ظن وهتك ستر وفيه تجسس وفيه تشبث بالغيبة وإن لم يكن ذلك صريحاً. وكل ذلك منهي عنه في آية واحدة قال الله تعالى: "اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً" وكم زاهد جاهل يوحش القلوب في التفتيش ويتكلم الكلام الخشن المؤذي وإنما يحسن الشيطان ذلك عنده طلباً للشهرة بأكل الحلال، ولو كان باعثه محض الدين لكان خوفه على قلب مسلم أن يتأذى أشد من خوفه على بطنه أن يدخله ما لا يدري وهو غير مؤاخذ بما لا يدري إذ لم يكن ثم علامة توجب الاجتناب فليعلم أن طريق الورع الترك دون التجسس، وإذا لم يكن بد من الأكل فالورع الأكل وإحسان الظن، هذا هو المألوف من الصحابة رضي الله عنهم ومن زاد عليهم في الورع فهو ضال مبتدع وليس بمتبع فلن يبلغ أحد مد أحدهم ولا نصيفه ولو انفق ما في الأرض جميعاً كيف وقد أكل رسول الله طعام بريرة فقيل: إنه صدقة، فقال: "هو لها صدقة ولنا هدية" ولم يسأل على المتصدق عليها فكان مجهولاً عنده ولم يمتنع.

الحالة الثانية: أن يكون مشكوكاً فيه بسبب دلالة أورثت ريبة فلنذكر صورة ريبة ثم حكمها.

أما الخلقة: فبأن يكون على خلقه الأتراك والبوادي والمعروفين بالظلم وقطع الطريق، وأن يكون طويل الشارب، وأن يكون الشعر مفرقاً على رأسه على دأب أهل الفساد.

وأما الثياب: بالقباء والقلنسوة وزي أهل الظلم والفساد من الأجناد وغيرهم.

وأما الفعل والقول: فهو إن يشاهد منه الإقدام على ما لا يحل، فإن ذلك يدل على أنه يتساهل أيضاً في المال ويأخذ ما لا يحل، فهذه مواضع الريبة. فإذا أراد أن يشتري من مثل هذا شيئاً ويأخذ منه هدية أو يجيبه إلى ضيافة وهو غريب مجهول عنده لم يظهر له منه إلا هذه العلامات، فيحتمل أن يقال إن اليد تدل على الملك وهذه الدلالات ضعيفة بالإقدام جائز والترك من الورع. ويحتمل أن يقال: إن اليد دلالة ضعيفة وقد قابلها مثل هذه الدلالة فأورثت ريبة فالهجوم غير جائز، وهو الذي نختاره ونفتي به لقوله صلى الله عله وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" فظاهره أمر وإن كان يحتمل الاستحباب لقوله : "الإثم حزاز القلوب" وهذا له وقع في القلب لا ينكر ولأن النبي سأل: أصدقة هو أو هدية وسأل أبو بكر رضي الله عنه غلامه. وسأل عمر رضي الله عنه. وكل ذلك كان في موضع الريبة وحمله على الورع، وإن كان ممكناً ولكن لا يحمل عليه إلا بقياس حكمي، والقياس ليس يشهد بتحليل هذا فإن دلالة اليد والإسلام وقد عارضتها هذه الدلالات أورثت ريبة فإذا تقبلا فالاستحلال لا مستند له. وإنما لا يترك حكم اليد والاستصحاب بشك لا يستند إلى علامة كما وجدنا الماء متغيراً واحتمل أن يكون بطول المكث، فإن رأينا ظبية بالت فيه ثم احتمل التغيير به تركنا الاستصحاب وهذا قريب منه. ولكن بين هذه الدلالات تفاوت فإن طول الشوارب ولبس القباء وهيئة الأجناد يدل على الظلم بالماء. أما القول والفعل المخالفان للشرع إن تعلقا بظلم المال فهو أيضا دليل ظاهر كما لو سمعه يأمر بالغضب والظلم أو يعقد عقد الربا. فأما إذا رآه قد شتم غيره في غضبه أو اتبع نظره امرأة مرت به فهذه الدلالة ضعيفة فكم من إنسان يتحرج في طلب المال ولا يكتسب إلا الحلال ومع ذلك فلا يملك نفسه عند هيجان الغضب والشهوة? فليتنبه لهذا التفاوت ولا يمكن أن يضبط هذا بحد فليستفت العبد في مثل ذلك قلبه. وأقول إن هذا إن رآه من مجهول فله حكم،وإن رآه ممن عرفه بالورع في الطهارة والصلاة وقراءة القرآن فله حكم آخر إذا تعارضت الدلالتان بالإضافة إلى المال وتساقطتا وعاد الرجل كالمجهول إذ ليست إحدى الدلالتين تناسب المال على الخصوص، فكم من متحرج في المال لا يتحرج في غيره وكم من محسن للصلاة والوضوء والقراءة ويأكل من حيث يجد فالحكم في هذه المواقع ما يميل إليه القلب فإن هذا أمر بين العبد وبين الله فلا يبعد أن يناط بسبب خفي لا يطلع عليه إلا ورب الأرباب وهو حكم حزازة القلب. ثم ليتنبه لدقيقة أخرى وهو أن هذه الدلالة ينبغي أن تكون بحيث تدل على أن أكثر ماله حرام بأن يكون جندياً أو عامل سلطان أو نائحة أو مغنية فإن دل على أن في ماله حراماً قليلاً لم يكن السؤال من الورع.

الحالة الثالثة: أن تكون الحالة معلومة بنوع خبرة وممارسة بحيث يوجب ذلك ظناً في حل المال أو تحريمه. مثل أن يعرف صلاح الرجل وديانته وعدالته في الظاهر وجوز أن يكون الباطن بخلافه فههنا لا يجب السؤال ولا يجوز كما في المجهول، فالأولى الإقدام. والإقدام ههنا أبعد عن الشبهة من الإقدام على طعام المجهول فإن ذلك بعيد عن الورع وإن لم يكن حراماً. وأما أكل طعام أهل الصلاح فدأب الأنبياء والأولياء قال : "لا تأكل إلا طعام تقي ولا يأكل طعامك إلا تقي"، فإما إذا علم بالخبرة أنه جندي أو مغن أو مرب واستغنى عن الاستدلال عليه بالهيئة والشكل والثياب، فههنا السؤال واجب لا محالة كما في موضع الريبة بل أولى.

المثار الثاني

ما يستند الشك فيه إلى سبب في حال المالك

وذلك بأن يختلط الحلال بالحرام كما إذا طرح في سوق أحمال من طعام غصب واشتراها أهل السوق فليس يجب على من يشتري في تلك البلدة وذلك السوق أن يسأل عما يشتريه إلا أن يظهر أن أكثر مل في أيديهم حرام فعند ذلك يجب السؤال فإن لم يكن هو الأكثر فالتفتيش من الورع وليس بواجب. والسوق الكبير حكمه حكم بلد.

والدليل على أنه لا يجب السؤال والتفتيش إذا لم يكن الأغلب الحرام أن الصحابة رضي الله عنهم لم يمتنعوا من الشراء من الأسواق وفيها دراهم الربا وغلول الغنيمة وغيرها، وكانوا لا يسألون في كل عقد، وإنما السؤال نقل عن آحادهم نادراً في بعض الأحوال وهي محال الريبة في حق ذلك في حق ذلك الشخص المعين، وكذلك كانوا يأخذون الغنائم من الكفار الذين كانوا قد قاتلوا المسلمين، وربما أخذوا أموالهم واحتمل أن يكون في تلك الغنائم شيء مما أخذوه من المسلمين وذلك لا يحل أخذه مجاناً بالاتفاق بل يرد على صاحبه عند الشافعي رحمه الله، وصاحبه أولى به بالثمن عند أبي حنيفة رحمه الله، ولم ينقل قط التفتيش عن هذا. وكتب عمر رضي الله عنه إلى أزربيجان: إنكم في بلاد تذبح فيها الميتة فانظروا ذكيه من ميته. أذن في السؤال وأمر به ولم يأمر بالسؤال عن الدراهم التي هي أثمانها لأن أكثر دراهمهم لم تكن أثمان الجلود وإن كانت هي أيضاً تباع وأكثر الجلود كان كذلك. وكذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه: إنكم في بلاد أكثر قصابيها المجوس فانظروا الذكي من الميتة فخص بالأكثر الأمر بالسؤال، ولا يتضح مقصود هذا الباب إلا بذكر صور وفرض مسائل يكثر وقوعها في العادات فلنفرضها:

مسألة: شخص معين خالط ماله الحرام مثل أن يباع على دكان طعام مغصوب أو مال منهوب، ومثل أن يكون القاضي أو الرئيس ا العامل أو الفقيه الذي له إدرار على سلطان ظالم له أيضاً مال موروث ودهقنة أو تجارة أو رجل تاجر يعامل بمعاملات صحيحة ويربي أيضاً، فإن ظهر أن المأخوذ من وجه حلال فذاك وإلا ترك، وإن كان الحرام أقل والمأخوذ مشتبه فهذا في محل النظر لأنه على رتبة بين الرتبتين، إذ قضينا بأنه لو اشتبه ذكية بعشر ميتات مثلاً وجب اجتناب الكل وهذا يشبه من وجه من حيث إن مال الرجل الواحد كالمحصور لا سيما إذا لم يكن كثير المال مثل السلطان، ويخالفه من وجه إذ الميتة يعلم وجودها في الحال يقيناً والحرام الذي خالطه ماله يحتمل أن يكون قد خرج من يده وليس موجودأً في الحال وإن كان المال قليلاً وعلم قطعاً أن الحرام موجود في الحال فهو ومسألة اختلاط الميتة واحد. وإن كثر المال واحتمل أن يكون الحرام غير موجود في الحال فهذا أخف من ذلك ويشبه من وجه الاختلاط بغير محصور كما في الأسواق والبلاد ولكنه أغلظ منه لاختصاصه بشخص واحد، ولا يشك في أن الهجوم عليه بعيد من الورع جداً ولكن النظر في كونه فسقاً مناقض للعدالة، وهذا من حيث النقل أيضاً غامض لتجاذب الأشياء، ومن حيث النقل أيضاً غامض لأن ما ينقل فيه عن الصحابة من الامتناع في مثل هذا، وكذا عن التابعين يمكن حمله على الورع ولا يصادف فيه نص على التحريم. وما ينقل من إقدام على الأكل كأكل أبي هريرة رضي الله عنه طعام معاوية مثلاً إن قدر في جملة ما في يده حرام فذلك أيضاً يحتمل أن يكون إقدامه بعد التفتيش واستبانة أن عين ما يأكله من وجه مباح. فالأفعال في هذا ضعيفة الدلالة ومذاهب العلماء المتأخرين مختلفة حتى قال بعضهم: لو أعطاني السلطان شيئاً لأخذته وطرد الإباحة فيما إذا كان الأكثر أيضاً حراماً مهماً لم يعرف عين المأخوذ واحتمل أن يكون حلالاً، واستدل بأخذ بعض السلف جوائز السلاطين. كما سيأتي في باب بيان أموال السلاطين. فأما إن كان الحرام هو الأقل واحتمل أن لا يكون الأكل حراماً، وإن تحقق وجوده في الحال. كما في مسألة اشتباه الكية بالميتة. فهذا مما لا أدري ما أقول فيه وهو من المتشابهات التي يتحير المفتي فيها لأنها مترددة بين مشابهة المحصور وغير المحصور. والرضيعة إذا اشتبهت بقرية فيها عشر نسوة وجب الاجتناب وإن كانت ببلدة فيها عشرة آلاف لم يجب. وبينهما أعداد، ولو سئلت عنها لكنت لا أدري ما أقول فيها، ولقد توقف العلماء في مسائل هي أوضح من هذه إذ سئل أحمد بن حنبل رحمه الله عن رجل رمى صيداً فوقع في ملك غيره أيكون الصيد للرامي أو لمالك الأرض? فقال: لا أدري، فروجع فيه مرات فقال: لا أدري. وكثيراً من ذلك حكيناه عن السلف في كتاب العلم فليقطع المفتي طمعه عن درك الحكم في جميع الصور. وقد سأل ابن المبارك صاحبه من البصرة عن معاملته قوماً يعاملون السلاطين، فقال: إن لم يعاملوا سوى السلطان فلا تعاملهم وإن عاملوا السلطان وغيره فعاملهم وهذا يدل على المسامحة في الأقل ويحتمل السامحة في الأكثر أيضاً. وبالجملة: فلم ينقل عن الصحابة أنهم كانوا يهجرون بالكلية معاملة القصاب والخباز والتاجر لتعاطيه عقداً واحداً فاسداً أو لمعاملة السلطان مرة، وتقدير ذلك فيه بعد والمسألة مشكلة في نفسها.

فإن قيل فقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه رخص فيه وقال: خذ ما يعطيك السلطان فإنما يعطيك من الحلال وما يأخذ من الحلال أكثر من الحرام. وسئل ابن مسعود رضي الله عنه في ذلك فقال له السائل: إن لي جاراً لا أعلمه إلا خبيثا يدعونا أو نحتاج فنستسلفه فقال: إذا دعاك فأجبه وإذا احتجت فاستسلفه فإن لك المهنأ وعليه المأثم وأفتي سلمان بمثل ذلك. وقد علل علي بالكثرة وعلل ابن مسعود رضي الله عنه بطريق الإشارة بأن عليه المأثم لأنه يعرفه ولك المهنأ أي أنت لا تعرفه. وروي أنه قال رجل لابن مسعود رضي الله عنه: إن لي جاراً يأكل الربا فيدعونا إلى طعامه أفنأتيه? فقال: نعم. وروي في ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه روايات كثيرة مختلفة، وأخذ الشافعي ومالك رضي الله عنهما جوائز الخلفاء والسلاطين مع العلم بأنه قد خالط مالهم الحرام? قلنا: أما ما روي عن علي رضي الله عنه فقد اشتهر من ورعه ما يدل على خلاف ذلك فإنه كان يمتنع من مال بيت المال حتى يبيع سيفه ولا يكون له إلا قميص واحد في وقت الغسل لا يجد غيره، ولست أنكر أن رخصته صريح في الجواز وفعله محتمل للورع. ولكنه لو صح فمال السلطان له حكم آخر فإنه بحكم كثرته يكاد يلتحق بما لا يحصر. وسيأتي بيان ذلك. وكذا فعل الشافعي ومالك رضي الله عنهما بمال السلطان. وسيأتي حكمه. وإنما كلامنا في آحاد الخلق وأموالهم قريبة من الحصر. وأما قول ابن مسعود رضي الله عنه: فقيل إنه إنما نقله خوات التيمي وإنه ضعيف الحفظ، والمشهور عنه ما يدل على توقي الشبهات إذ قال: لا يقولن أحدكم أخاف وأرجو فإن الحلال بين والحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهات فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك. وقال: اجتنبوا الحكاكات ففيها الإثم.

فإن قيل: فلم قلتم إذا كان الأكثر حراماً لم يجز الأخذ مع أن المأخوذ ليس فيه علامة تدل على تحريمه على الخصوص، واليد علامة على الملك حتى أن من سرق مال مثل هذا الرجل قطعت يده والكثرة توجب ظناً مرسلاً لا يتعلق بالعين فليكن كغالب الظن في طين الشوارع وغالب الظن في الاختلاط بغير محصور إذا كان الأكثر هو الحرام، ولا يجوز أن يستدل على هذا بعموم قوله : "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" لأنه مخصوص ببعض المواضع بالاتفاق وهو أن يريبه بعلامة في عين الملك بدليل اختلاط القليل بغير المحصور فإن ذلك يوجب ريبة ومع ذلك قطعتم بأنه لا يحرم?.

فالجواب: أن اليد دلالة ضعيفة كالاستصحاب وإنما تؤثر إذا سلمت عن معارض قوي. فإذا تحققنا الاختلاط وتحققنا إن الحرام المخالط موجود في الحال، والمال غير خال عنه، وتحققنا أن الأكثر هو الحرام وذلك في حق شخص معين يقرب ماله من الحصر ظهر وجوب الإعراض عن مقتضى اليد وإن لم يحمل عليه قوله عليه السلام: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" لا يبقى له محمل إذ لا يمكن أن يحمل على اختلاط قليل بحلال غير محصور إذ كان ذلك موجوداً في زمانه وكان لا يدعه. وعلى أي موضع حمل هذا كان هذا في معناه. وحمله على التنزيه صرف له عن ظاهره بغير قياس فإن تحريم هذا غير بعيد عن قياس العلامات والاستصحاب. وللكثرة تأثير في تحقيق الظن وكذا للحصر، وقد اجتمعا حتى قال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا تجتهد في الأواني إلا إذا كان الطاهر هو الأكثر. فاشترط اجتماع الاستصحاب والاجتهاد بالعلامة وقوة الكثرة: ومن قال يأخذ أي آنية أراد بلا اجتهاد بناء على مجرد الاستصحاب فيجوز الشرب أيضاً فيلزمه التجويز ههنا بمجرد علامة اليد. ولا يجري ذلك في بول اشتبه بماء إذ لا استصحاب فيه ولا نطرده أيضاً في ميتة اشتبهت بذكية إذ لا استصحاب في الميتة، واليد لا تدل على أنه غير ميتة وتدل في الطعام المباح على أنه ملك. فههنا أربع متعلقات: استصحاب، وقلة في المخلوط أو كثرة، وانحصار أو اتساع في المخلوط، وعلامة خاصة في عين الشيء يتعلق بها الاجتهاد فمن يغفل عن مجموع الأربعة ربما يغلط فيشبه بعض المسائل بما لا يشبه. فحصل مما ذكرناه ان المختلط في ملك شخص واحد إما أن يكون الحرام أكثره أو اقله وكل واحد إما أن يعلم بيقين أو بظن عن علامة أو توهم. فالسؤال يجب في موضعين: وهو أن يكون الحرام أكثر يقيناً أو ظناً كما لو رأى تركياً مجهولاً يحتمل أن يكون كل ماله من غنيمة وإن كان الأقل معلوماً باليقين فهو محل التوقف وتكاد تسير سير أكثر السلف وضرورة الأحوال إلى الميل إلى الرخصة. وأما الأقسام الثلاثة الباقية فالسؤال واجب فيها أصلاً.

مسألة: إذا حضر طعام إنسان علم أنه دخل في يده حرام من إدرار كان قد أخذه أو وجه آخر ولا يدري أنه بقي إلى الآن أم لا، فله الأكل ولا يلزمه التفتيش وإنما التفتيش فيه من الورع، ولو علم أنه بقي منه شيء ولكن لم يدر أنه الأقل أو الأكثر فله أن يأخذ بأنه الأقل. وقد سبق أن الأمر مشكل وهذا يقرب منه.

مسألة: إذا كان يد المتولي للخبرات أو الأوقاف أو الوصايا مالان يستحق هو أحدهما ولا يستحق الثاني لأنه غير موصوف بتلك الصفة، فهل له أن يأخذ مل يسلمه إليه صاحب الوقف? نظر، فإن كانت تلك الصفة ظاهرة يعرفها المتولي وكان المتولي ظاهر العدالة فله أن يأخذ بغير بحث، لأن الظن بالمتولي أنه لا يصرف إليه ما يصرفه إلا من المال الذي يستحقه، وإن كانت الصفة خفية وإن كان المتولي ممن عرف حاله أنه يخلط ولا يبالي كيف يفعل فعليه السؤال، إذ ليس ههنا يد ولا استصحاب يعول عليه، وهو وزان سؤال رسول الله عن الصدقة والهدية عند تردده فيهما، لأن اليد لا تخصص الهدية عن الصدقة ولا الاستصحاب فلا ينجي منه إلا السؤال، فإن السؤال حيث أسقطناه في المجهول أسقطناه بعلامة اليد والإسلام، حتى لو لم يعلم أنه مسلم وأراد أن يأخذ من يده لحماً من ذبيحته واحتمل أن يكون مجوسياً لم يجز له ما لم يعرف أنه مسلم إذ اليد لا تدل في الميتة ولا الصورة تدل على الإسلام إلا إذا كان أكثر أهل البلدة مسلمين، فيجوز أن يظن بالذي ليس عليه علامة الكفر أنه مسلم وإن كان الخطأ ممكناً فيه فلا ينبغي أن تلتبس المواضع التي تشهد فيها اليد والحال بالتي لا تشهد.

مسألة: له أن يشتري في البلد داراً وغن علم أنها تشتمل على دور مغصوبة لأن ذلك اختلاط بغير محصور ولكن السؤال احتياط وورع. وإن كان في سكة عشر دور مثلاً إحداهما مغصوب أو وقف لم يجز الشراء ما لم يتميز ويجب البحث عنه. ومن دخل بلدة وفيها رباطات خصص بوقفها أرباب المذاهب وهو على مذهب واحد من جملة تلك المذاهب فليس له أن يسكن أيها شاء ويأكل من وقفها بغير سؤال، لأن ذلك من باب اختلاط المحصور فلا بد من التمييز، ولا يجوز الهجوم مع الإبهام لأن الرباطات والمدارس في البلد لا بد أن تكون محصورة.

مسألة: حيث جعلنا السؤال من الورع فليس له أن يسأل صاحب الطعام والمال إذا لم يأمن غضبه وإنما أوجبنا السؤال إذا تحقق أن أكثر ماله حرام وعند ذلك لا يبالي بغضب مثله، إذ يجب إيذاء الظالم بأكثر من ذلك، والغالب أن مثل هذا لا يغضب من السؤال. نعم إن كان يأخذ من يد وكيله أو غلامه أو تلميذه أو بعض أهله ممن هو تحت رعايته فله أن يسأل مهما استراب لأنهم لا يغضبون من سؤاله، ولأن عليه أن يسأل ليعلمهم طريق الحلال، ولذلك سأل أبو بكر رضي الله عنه غلامه، وسأل عمر من سقاه من إبل الصدقة، وسأل أبا هريرة رضي الله عنه أيضاً لما أن قدم عليه بمال كثير فقال: ويحك أكل طيب? من حيث إنه تعجب من كثرته وكان هو من رعيته لا سيما وقد رفق في صيغة السؤال، وكذلك قال علي رضي الله عنه: ليس شيء أحب إلى الله تعالى من عدل إمام ورفقه ولا شيء أبغض إليه من جوره وخرقه.

مسألة: قال الحارث المحاسبي رحمه الله: لو كان له صديق أو أخ وهو يأمن غضبه لو سأله فلا ينبغي أن يسأله لأجل الورع، لأنه ربما يبدو له ما كان مستوراً عنه فيكون قد حمله على هتك الستر ثم يؤدي ذلك إلى البغضاء، وما ذكره حسن لأن السؤال إذا كان من الورع لا من الوجوب فالورع في مثل هذه الأمور الاحتراز عن هتك الستر، وإثارة البغضاء أهم. وزاد على هذا فقال: وإن رابه منه شيء أيضاً لم يسأله ويظن به أنه يطعمه من الطيب ويجنبه الخبيث فإن كان لا يطمئن قلبه إليه فيحترز متلطفاً ولا يهتك ستره بالسؤال، قال: لأني لم أر أحداً من العلماء فعله، فهذا منه عم ما اشتهر به من الزهد يدل على مسامحة فيما إذا خالط المال الحارم القليل ولكن ذلك عند التوهم لا عند التحقيق لأن لفظ الريبة يدل على التوهم بدلالة تدل عليه ولا يوجب اليقين فليراع هذه الدقائق بالسؤال.

مسألة:ربما يقول القائل: أي فائدة في سؤال ممن بعض ماله حرام ومن يستحل المال الحرام ربما يكذب فإن وثق بأمانته فليتق بديانته في الحلال? فأقول: مهما علم مخالطة الحرام لمال إنسان وكان له غرض في حضورك ضيافته أو قبولك هديته فلا تحصل الثقة بقوله فلا فائدة للسؤال منه، فينبغي أن يسأل من غيره، وكذا إن كان بائعاً وهو يرغب في البيع لطلب الربح فلا تحصل الثقة بقوله إنه حلال ولا فائدة في السؤال منه وإنما يسأل من غيره. وإنما يسأل من صاحب اليد إذا لم يكن متهماً كما يسأل المتولي على المال الذي يسلمه أنه من أي جهة، وكما سأل رسول الله عن الهدية والصدقة فإن ذلك لا يؤذي ولا يتهم القائل فيه، وكذلك إذا اتهمه بأنه ليس يدري طريق كسب الحلال؛ فلا يتهم في قوله إذا أخبر عن طريق صحيح، وكذلك يسأل عبده وخادمه ليعرف طريق اكتسابه. فههنا يفيد السؤال فإذا كان صاحب المال متهماً فليسأل من غيره فإذا أخبره عدل واحد قبله وإن أخبره فاسق يعلم من قرينه حاله أنه لا يكذب حيث لا غرض له فيه جاز قبوله لأن هذا أمر بينه وبين الله تعالى والمطلوب ثقة النفس، وقد يحصل من الثقة بقول فاسق ما لا يحصل بقول عدل في بعض الأحوال، وليس كل من فسق يكذب ولا كل من ترى العدالة في ظاهره يصدق. وإنما نيطت الشهادة بالعدالة الظاهرة لضرورة الحكم فإن البواطن لا يطلع عليها، وقد قبل أبو حنيفة رحمه الله شهادة الفاسق، وكم من شخص تعرفه وتعرف أنه قد يقتحم المعاصي ثم إذا أخبرك بشيء وثقت به. وكذلك إذا أخبر به صبي مميزممن عرفته بالتثبيت فقد تحصل الثقة بقوله فيحل الاعتماد عليه. فأما إذا أخبر به مجهول لا يدري من حاله شيء أصلاً فهذا ممن جوزنا الأكل من يده لأن يده دلالة ظاهرة على ملكه. وربما يقال إسلامه دلالة ظاهرة على صدقه؛ وهذا فيه نظر، ولا يخلو قوله عن أثر ما في النفس حتى لو اجتمع منهم جماعة تفيد ظناً قويأ إلا أن أثر الواحد فيه في غاية الضعف فلينظر إلى حد تأثيره في القلب فإن المفتي هو القلب في مثل هذا الموضع وللقلب التفاتات إلى قرائن خفية يضيق عنها نطاق النطق فليتأمل فيه. ويدل على وجوب الالتفات إليه ما روي عن عقبة بن الحارث "أنه جاء إلى رسول الله فقال: إني تزوجت امرأة فجاءت أمة سوداء فزعمت أنها أرضعتنا وهي كاذبة، فقال:"دعها" فقال: إنها سوداء. يصغر من شأنها فقال عليه السلام: "فكيف وقد زعمت أنها قد أرضعتكما? لا خير لك فيها دعها عنك"، وفي لفظ آخر "كيف وقد قيل?" ومهما لم يعلم كذب المجهول ولم تظهر أمارة غرض له فيه كان له وقع في القلب لا محالة؛ فلذلك يتأكد الأمر بالاحتراز فإن اطمأن إليه القلب كان الاحتراز حتماً واجباً.

مسألة: حيث يجب السؤال فلو تعارض قول عدلين تساقط قول فاسقين، ويجوز أن يترجح في قلبه أحد العدلين أو أحد الفاسقين، ويجوز أن يرجح أحد الجانبين بالكثرة أو بالاختصاص بالخبرة والمعرفة وذلك مما يتشعب تصويره.

مسألة:لو نهب متاع مخصوص فصادف من ذلك النوع متاعاً في يد إنسا وأراد أن يشتريه واحتمل أن لا يكون من المغصوب فإن كان ذلك الشخص ممن عرفه بالصلاح جاز الشراء وكان تركه من الورع. وإن كان الرجل مجهولاً لا يعرف منه شيئاً فإن كان ذلك المتاع من غير المغصوب فله أن يشتري. وإن كان لا يوجد ذلك المتاع في تلك البقعة إلا نادراً وإنما كثر بسبب الغصب فليس يدل على الحل إلا اليد وقد عارضته علامة خاصة من شكل المتاع ونوعه، فالامتناع عن شرائه من الورع المهم، ولكن الوجوب فيه نظر فإن العلامة متعارضة. ولست أقدر على أن أحكم فيه بحكم إلا إن أرده إلى قلب المستفتي لينظر ما الأقوى في نفسه فإن كان الأقوى أنه مغصوب لزمه تركه وإلا حل شراؤه، وأكثر هذه الوقائع يلتبس الأمر فيها فهي من المتشابهات التي لا يعرفها كثير من الناس فمن توقاها فقد إسبرأ لعرضه ودينه ومن اقتحمها فقد حام حول الحمى وخاطر بنفسه.

مسألة: لو قال قائل: قد سأل رسول الله عن لبن قدم إليه فذكر أنه من شاة فسأل عن الشاة من أين هي فذكر له فسكت عن السؤال، فيجب السؤال عن أصل المال أم لا، وإن وجب فعن أصل واحد أو اثنين أو ثلاثة وما الضبط فيه? فأقول: لا ضبط فيه ولا تقدير، بل ينظر إلى الريبة المقتضية للسؤال إما وجوباً أو ورعاً. ولا غاية للسؤال إلا حيث تنقطع الريبة المقتضية له وذلك يختلف باختلاف الأحوال، فإن كانت التهمة من حيث لا يدري صاحب اليد كيف عن طريق الكسب الحلال فإن قال: اشتريت، انقطع بسؤال واحد، وإن قال: من شاتي، وقع الشك في الشاة. فإذا قال: اشتريت، انقطع وإن كانت الريبة من الظلم وذلك مما في أيدي العرب ويتوال في أيديهم المغصوب فلا تنقطع الريبة بقوله: إنه من شاتي، ولا بقوله: إن الشاة ولدتها شاتي، فإن أسنده إلى الوراثة من أبيه وحالة أبيه مجهولة انقطع السؤال، وإن كان يعلم أن جميع مال أبيه حرام فقد ظهر التحريم وإن كان يعلم أن أكثره حرام فبكثرة التوالد وطول الزمان وتطرق الإرث إليه لا يغير حكمه فلينظر في هذه المعاني.

مسألة: سئلت عن جماعة من سكان خانقاه الصوفية وفي يد خادمهم الذي يقدم إليهم الطعام وقف على ذلك المسكن ووقف آخر على جهة أخرى غير هؤلاء، وهو يخلط الكل وينفق على هؤلاء وهؤلاء فأكل طعامه حلال أو حرام أو شبهة? فقلت: إن هذا يلتفت إلى سبعة أصول:

الأصل الأول: أن الطعام الذي يقدم إليهم في الغالب يشتريه بالمعاطاة والذي اخترناه صحة المعاطاة لا سيما في الأطعمة والمستحقرات فليس في هذا إلا شبهة الخلاف.

الأصل الثاني: أن ينظر الخادم هل يشتريه بعين المال الحرام أو في الذمة? فإن اشتراه بعين المال الحرام فهو حرام، وإن لم يعرف فالغالب أنه يشتري في الذمة ويجوز الأخذ بالغالب، ولا ينشأ من هذا تحريم بل شبهة احتمال بعيد وهو شراؤه بعين مال حرام.

الأصل الثالث: أنه من أين يشتريه فإن اشترى ممن أكثر ماله حرام لم يجز وإن كان أقل ماله ففيه نظر قد سبق؛ وإذا لم يعرف جاز له الأخذ بأنه يشتريه ممن ماله حلال أو ممن لا يدري المشتري حاله بيقين كالمجهول، وقد سبق جواز الشراء من المجهول لأن ذلك هو الغالب فلا ينشأ من هذا تحريم بل شبهة احتمال.

الأصل الرابع: أن يشتريه لنفسه أو للقوم فإن المتولي والخادم كالنائب وله أن يشتري له ولنفسه ولكن يكون ذلك بالنية أو صريح اللفظ،، وإذا كان الشراء يجري بالمعاطاة فلا يجري اللفظ، والغالب أنه لا ينوي عند المعاطاة والقصاب والخباز ومن يعامله يعول عليه ويقصد البيع منه لا ممن لا يحضرون فيقع عن جبهته ويدخل في ملكه، وهذا الأصل ليس فيه تحريم ولا شبهة ولكن يثبت أنهم يأكلون من ملك الخادم.

الأصل الخامس: أن الخادم يقدم الطعام إليهم فلا يمكن أن يجعل ضيافة وهدية بغير عوض فإنه لا يرضى بذلك وإنما يقدم اعتماداً على عوضه من الوقف، فهو معارضة ولكن ليس ببيع ولا إقراض لأنه لو انتهض لمطالبتهم بالثمن استبعد ذلك وقرينة الحال لا تدل عليه. فأشبه أصل ينزل عليه هذه الحالة الهبة بشرط الثواب. أعني هدية لا لفظ فيها من شخص تقتضي قرينة حاله أنه يطمع في ثواب. وذلك صحيح والثواب لازم وههنا ما طمع الخادم في أن يأخذ ثوابا فيما قدمه إلا حقهم من الوقف ليقضي به دينه من الخباز والقصاب والبقال، فهذا ليس فيه شبهة إذ لا يشترط لفظ في الهدية ولا في تقديم الطعام وإن كان مع انتظار الثواب، ولا مبالاة بقول من لا يصحح هدية في انتظار ثواب.

الأصل السادس: أن الثواب الذي يلزم فيه خلاف، فقيل إنه أقل متمول وقيل قدر القيمة وقيل ما يرضى به الواهب حتى له أن لا يرضى بأضعاف القيمة، والصحيح أنه يتبع رضاه فإذا لم يرضى يرد عليه وههنا الخادم قد رضي بما يأخذ من حق السكان على الوقف، فإن كان لهم من الحق بقدر ما أكلوه فقد تم الأمر وإن كان ناقصاً ورضي به الخادم صح أيضاً، وإن علم أن الخادم لا يرضى لولا أن في يده الوقف الآخر الذي يأخذه بقوة هؤلاء السكان فكأنه رضي في الثواب بمقدار بعضه حلال وبعضه حرام، والحرام لم يدخل في أيدي السكان، فهذا كالخلل المتطرق إلى الثمن. وقد ذكرنا حكمه من قبل. وأنه متى يقتضي التحريم ومتى يقتضي الشبهة? وهذا لا يقتضي تحريماً على ما فصلناه فلا تنقلب الهدية حراماً يتوصل المهدي بسبب الهدية إلى حرام.

الأصل السابع: أنه يقتضي دين الخباز والقصاب والبقال من ريع الواقفين فإن وفى ما أخذ من حقهم بقيمة ما أطعمهم فقد صح الأمر، وإن قصر عنه فرضي القصاب والخباز بأي ثمن كان حراماً أو حلالاً، فهذا خلل تطرق إلى ثمن الطعام أيضاً فليلتفت إلى ما قدمناه من الشراء في الذمة ثم قضاء الثمن من الحرام، هذا إذا علم أنه قضاه من حرام، فإن احتمل ذلك واحتمل غيره فالشبهة أبعد، وقد خرج من هذا أن أكل هذا ليس بحرام ولكنه أكل شبهة وهو بعيد من الورع، لأن هذه الأصول إذا كثرت وتطرق إلى كل واحد احتمال صار احتمال الحرام بكثرته أقوى في النفس، كما أن الخبر إذا طال إسناده صار احتمال الكذب والغلط فيه أقوى مما إذا قرب إسناده فهذا حكم هذه الواقعة وهي من الفتاوى وإنما أوردناها ليعرف كيفية تخريج الوقائع المتلفة الملتبسة وأنها كيف ترد إلى الأصول فإن ذلك مما يعجز عنه أكثر المفتين.