إحياء علوم الدين/كتاب العلم/الباب الثالث



الباب الثالث

فيما يعده العامة من العلوم المحمودة وليس منها


وفيها بيان الوجه الذي قد يكون به بعض العلوم مذموماً وبيان تبديل أسامي العلوم وهو الفقه والعلم والتوحيد والتذكير والحكمة وبيان القدر المحمود من العلوم الشرعية والقدر المذموم منها.

بيان علة ذم العلم المذموم لعلك تقول: العلم هو معرفة الشيء على ما هو به وهو من صفات الله تعالى فكيف يكون الشيء علماً ويكون مع كونه علماً مذموماً? فاعلم أن العلم لا يذم لعينه وإنما يذم في حق العباد لأحد أسباب ثلاثة الأول أن يكون مؤدياً إلى ضرر ما إما لصاحبه أو لغيره، كما يذم علم السحر والطلسمات وهو حق، إذ شهد القرآن له وأنه سبب يتوصل به إلى التفرقة بين الزوجين، وقد سحر رسول الله ومرض بسببه حتى أخبره جبريل عليه السلام بذلك وأخرج السحر من تحت حجر في قعر بئر، وهو نوع يستفاد من العلم بخواص الجواهر وبأمور حسابية في مطالع النجوم، فيتخذ من تلك الجواهر هيكل على صورة الشخص المسحور ويرصد به وقت مخصوص من المطالع وتقرن به كلمات يتلفظ بها من الكفر والفحش المخالف للشرع، ويتوصل بسببها إلى الاستعانة بالشياطين، ويحصل من مجموع ذلك بحكم إجراء الله تعالى العادة أحوال غريبة في الشخص المسحور، ومعرفة هذه الأسباب من حيث إنها معرفة ليست بمذمومة ولكنها ليست تصلح إلا للإضرار بالخلق والوسيلة إلى الشر شر، فكان ذلك هو السبب في كونه علماً مذموماً، بل من اتبع ولياً من أولياء الله ليقتله وقد اختفى منه في موضع حريز إذا سأل الظالم عن محله لم يجز تنبيهه عليه؛ بل وجب الكذب فيه؛ وذكر موضعه إرشاد وإفادة علم بالشيء على ما هو عليه، ولكنه مذموم لأدائه إلى الضرر الثاني أن يكون مضراً بصاحبه في غالب الأمر، كعلم النجوم، فإنه في نفسه غير مذموم لذاته، إذ هو قسمان: قسم حسابي، وقد نطق القرآن بأن مسير الشمس والقمر محسوب، إذ قال عز وجل "الشمس والقمر بحسبان" وقال عز وجل "والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم". والثاني: الأحكام، وحاصله يرجع إلى الاستدلال على الحوادث بالأسباب وهو يضاهي استدلال الطبيب بالنبض على ما سيحدث من المرض، وهو معرفة لمجاري سنة الله تعالى وعادته في خلقه ولكن قد ذمه الشرع. قال "إذا ذكر القدر فأمسكوا، وإذا ذكرت النجوم فأمسكوا، وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا". وقال "أخاف على أمتي بعدي ثلاثاً: حيف الأئمة، والإيمان بالنجوم، والتكذيب بالقدر". وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: تعلموا من النجوم ما تهتدون به في البر والبحر ثم أمسكوا، وإنما زجر عنه من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه مضر بأكثر الخلق، فإنه إذا ألقي إليهم أن هذه الآثار تحدث عقيب سير الكواكب، وقع في نفوسهم أن الكواكب هي المؤثرة، وأنها الآلهة المدبرة لأنها جواهر شريفة سماوية، ويعظم وقعها في القلوب فيبقى القلب ملتفتاً إليها، ويرى الخير والشر محذوراً أو مرجواً من جهتها، ويمنحي ذكر الله سبحانه عن القلب، فإن الضعيف يقصر نظره على الوسائط، والعالم الراسخ هو الذي يطلع على أن الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره سبحانه وتعالى، ومثال نظر الضعيف إلى حصول ضوء الشمس عقيب طلوع الشمس، مثال النملة لو خلق لها عقل وكانت على سطح قرطاس وهي تنظر إلى سواد الخط يتجدد، فتعتقد أنه فعل القلم ولا تترقى في نظرها إلى مشاهدة الأصابع، ثم منها إلى اليد، ثم منها إلى الإرادة المحركة اليد، ثم منها إلى الكاتب القادر المريد، ثم منه إلى خالق اليد والقدرة والإرادة؛ فأكثر نظر الخلق مقصور على الأسباب القريبة السافلة. مقطوع من الترقي إلى مسبب الأسباب؛ فهذا أحد أسباب النهي عن النجوم.

وثانيها: أن أحكام النجوم تخمين محض ليس يدرك في حق آحاد الأشخاص لا يقيناً ولا ظناً، فالحكم به حكم بجهل، فيكون ذمه على هذا من حيث إنه جهل لا من حيث إنه علم، فلقد كان ذلك معجزة لإدريس عليه السلام فيما يحكى وقد اندرس وانمحى ذلك العلم وانمحق، وما يتفق من إصابة المنجم على ندور فهو اتفاق لأنه قد يطلع على بعض الأسباب ولا يحصل المسبب عقيبها غلا بعد شروط كثيرة ليس في قدرة البشر الاطلاع على حقائقها، فإن اتفق أن قدر الله تعالى بقية الأسباب وقعت الإصابة، وإن لم يقدر أخطأ، ويكون ذلك كتخمين الإنسان في أن السماء تمطر اليوم مهما رأى الغيم يجتمع وينبعث من الجبال فيتحرك ظنه بذلك، وربما يحمى النهار بالشمس ويذهب الغيم، وربما يكون بخلافه، ومجرد الغيم ليس كافياً في مجيء المطر وبقية الأسباب لا تدرى، وكذلك تخمين الملاح أن السفينة تسلم اعتماداً على ما ألفه من العادة في الرياح ولتلك الرياح أسباب خفية هو لا يطلع عليها، فتارة يصيب في تخمينه وتارة يخطىء، ولهذه العلة يمنع القول عن النجوم أيضاً. وثانيها: أنه لا فائدة فيه، فأقل أحواله أنه خوض في فضول لا يغني وتضييع العمر الذي هو أنفس بضاعة الإنسان في غير فائدة وذلك غاية الخسران؛ فقد مر رسول الله برجل والناس مجتمعون عليه فقال "ما هذا? فقالوا: رجل علامة. فقال: بماذا? قالوا بالشعر وأنساب العرب. فقال: علم لا ينفع وجهل لا يضر" وقال "إنما العلم آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة" فإذن الخوض في النجوم وما يشبهه اقتحام خطر وخوض في جهالة من غير فائدة، فإن ما قدر كائن، والاحتراز منه غير ممكن، بخلاف الطب فإن الحاجة ماسة إليه وأكثر أدلته بما يطلع عليه، وبخلاف التعبير وإن كان تخميناً لأنه جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة ولا خطر فيه السبب الثالث الخوض في علم لا يستفيد الخائض فيه فائدة علم، فهو مذموم في حقه كتعلم دقيق العلوم قبل جليلها، وخفيها قبل جليها، وكالبحث عن الأسرار الإلهية، إذ يطلع الفلاسفة والمتكلمون إليها ولم يستقلوا بها، ولم يستقل بها وبالوقوف على طرق بعضها إلا الأنبياء والأولياء، فيجب كف الناس عن البحث عنها وردهم إلى ما نطق به الشرع، ففي ذلك مقنع للموفق، فكم من شخص خاض في العلوم واستضر بها ولو لم يخض فيها لكان حاله أحسن في الدين مما صار إليه ولا ينكر كون العلم ضاراً لبعض الناس كما يضر لحم الطير وأنواع الحلوى اللطيفة بالصبي الرضيع، بل رب شخص ينفعه الجهل ببعض الأمور، فلقد حكي أن بعض الناس شكا إلى طبيب عقم امرأته وأنها لا تلد، فجس الطبيب نبضها وقال: لا حاجة لك إلى دواء الولادة فإنك ستموتين إلى أربعين يوماً، وقد دل النبض عليه، فاستشعرت المرأة الخوف العظيم وتنغص عليها عيشها، وأخرجت أموالها وفرقتها، وأوصت، وبقيت لا تأكل ولا تشرب حتى انقضت المدة فلم تمت، فجاء زوجها إلى الطبيب وقال له: لم تمت، فقال الطبيب: قد علمت ذلك فجامعها الآن فإنها تلد؛ فقال: كيف ذاك? قال: رأيتها سمينة وقد انعقد الشحم على فم رحمها، فعلمت أنها لا تهزل إلا بخوف الموت، فخوفتها بذلك حتى هزلت وزال المانع من الولادة: فهذا ينبهك على استشعار خطر بعض العلوم ويفهمك معنى قوله "نعوذ بالله من علم لا ينفع" فاعتبر بهذه الحكاية ولا تكن بحاثاً عن علوم ذمها الشرع وزجر عنها، ولازم الاقتداء بالصحابة رضي الله عنهم، واقتصر على اتباع السنة، فالسلامة في الاتباع، والخطر في البحث عن الأشياء والاستقلال، ولا تكثر اللجج برأيك ومعقولك ودليلك وبرهانك وزعمك أني أبحث عن الأشياء لأعرفها على ما هي عليه، فأي ضرر في التفكر في العلم فإن ما يعود عليك من ضرره أكثر، وكم من شيء تطلع عليه فيضرك اطلاعك عليه ضرراً يكاد يهلكك في الآخرة إن لم يتداركك الله برحمته. واعلم أنه كان يطلع الطبيب الحاذق على أسرار في المعالجات يستبعدها من لا يعرفها فكذلك الأنبياء أطباء القلوب والعلماء بأسباب الحياة الأخروية، فلا تتحكم على سننهم بمعقولك فتهلك، فكم من شخص يصيبه عارض في أصبعه فيقتضي عقله أن يطليه، حتى ينبهه الطبيب الحاذق أن علاجه أن بطلى الكف من الجانب الآخر من البدن فيستبعد ذلك غاية الاستبعاد من حيث لا يعلم كيفية انشعاب الأعصاب ومنابتها ووجه

التفافها على البدن? فهكذا الأمر في طريق الآخرة، وفي دقائق سنن الشرع وآدابه، وفي عقائده التي تعبد الناس بها أسرار ولطائف ليست في سعة العقل وقوته الإحاطة بها، كما أن في خواص الأحجار أموراً عجائب غاب عن أهل الصنعة علمها حتى لم يقدر أحد على أن يعرف السبب الذي به يجذب المغناطيس الحديد؛ فالعجائب والغرائب في العقائد والأعمال، وإفادتها لصفاء القلوب ونقائها وطهارتها وتزكيتها وإصلاحها للترقي إلى جوار الله تعالى وتعرضها لنفحات فضله أكثر وأعظم مما في الأدوية والعقاقير، وكما أن العقول تقصر عن إدراك منافع الأدوية مع أن التجربة سبيل إليها؛ فالعقول تقصر عن إدراك ما ينفع في حياة الآخرة مع أن التجربة غير متطرقة إليها، وإنما كانت التجربة تتطرق إليها لو رجع إلينا بعض الأموات فأخبرنا عن الأعمال المقبولة النافعة المقربة إلى الله تعالى زلفى وعن الأعمال المبعدة عنه، وكذا عن العقائد، وذلك مما لا يطمع فيه فيكفيك من منفعة العقل أن يهديك إلى صدق النبي ويفهمك موارد إرشاراته، فاعزل العقل بعد ذلك عن التصرف ولازم الاتباع فلا تسلم غلا به والسلام؛ ولذلك قال "إن من العلم جهلاً وإن من القول عياً" ومعلوم أن العلم لا يكون جهلاً ولكنه يؤثر تأثير الجهل في الإضرار. وقال أيضاً "قليل من التوفيق خير من كثير من العلم" وقال عيسى عليه السلام: ما أكثر الشجر وليس كلها بمثمر وليس كلها بطيب، وما أكثر العلوم وليس كلها بنافع!

بيان ما بدل من ألفاظ العلوم

عدل

اعلم أن منشأ التباس العلوم المذمومة بالعلوم الشرعية تحريف الأسامي المحمودة وتبديلها ونقلها بالأغراض الفاسدة إلى معان غير ما أراده السلف الصالح والقرن الأول، وهي خمسة ألفاظ: الفقه، والعلم، والتوحيد، والتذكير، والحكمة؛ فهذه أسام محمودة، والمتصفون بها أرباب المناصب في الدين، ولكنها نقلت الآن إلى معان مذمومة، فصارت القلوب تنفر عن مذمة من يتصف بمعانيها لشيوع إطلاق هذه الأسامي عليهم اللفظ الأول الفقه؛ فقد تصرفوا فيه بالتخصيص لا بالنقل والتحويل؛ إذا خصصوه بمعرفة الفروع الغريبة في الفتاوي والوقوف على دقائق عللها واستكثار الكلام فيها وحفظ المقالات المتعلقة بها؛ فمن كان أشد تعمقاً فيها وأكثر اشتغالاً بها يقال هو الأفقه، ولقد كان اسم الفقه في العصر الأول مطلقاً على علم طريق الآخرة ومعرفة دقائق آفات النفوس ومفسدات الأعمال وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة واستيلاء الخوف على القلب؛ ويدلك عليه قوله عز وجل "ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم" وما يحصل به الإنذار والتخويف هو هذا الفقه دون تفريعات الطلاق والعتاق واللعان والسلم والإجارة؛ فذلك لا يحصل به الإنذار والتخويف، بل التجرد له على الدوام يقسي القلب وينزع الخشية منه كما نشاهد الآن من المتجردين له. وقال تعالى "لهم قلوب لا يفقهون بها" وأراد به معاني الإيمان دون الفتاوى؛ ولعمري إن الفقه والفهم في اللغة اسمان بمعنى واحد، وإنما يتكلم في عادة الاستعمال به قديماً وحديثاً. قال تعالى "لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله" الآية؛ فأحال قلة خوفهم من الله واستعظامهم سطوة الخلق على قلة الفقه؛ فانظر إن كان ذلك نتيجة عدم الحفظ لتفريعات الفتاوى، أو هو نتيجة عدم ما ذكرناه من العلوم. وقال "ألا أنبئكم بالفقيه كل الفقيه? قالوا بلى، قال: من لم يقنط الناس من رحمة الله، ولم يؤمنهم من مكر الله، ولم يؤيسهم من روح الله، ولم يدع القرآن رغبة عنه إلى ما سواه" ولما روى أنس بن مالك قوله "لأن أقعد مع قوم يذكرون الله تعالى من غدوة إلى طلوع الشمس أحب إلي من أعتق أربع رقاب" قال: فالتفت إلى زيد الرقاشي وزياد النميري، وقال: لم تكن مجالس الذكر مثل مجالسكم هذه يقص أحدكم وعظه على أصحابه ويسرد الحديث سرداً، إنما كنا نقعد فنذكر الإيمان ونتدبر القرآن ونتفقه في الدين ونعد نعم الله علينا تفقهاً، فسمي تدبر القرآن وعد النعيم تفقهاً. قال "لا يفقه العبد كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله، وحتى يرى للقرآن وجوهاً كثيرة" وروى أيضاً موقوفاً على أبي الدرداء رضي الله عنه مع قوله " ثم يقبل على نفسه فيكون لها أشد مقتاً" وقد سأل فرقد السبخي الحسن عن الشيء فأجابه، فقال: إن الفقهاء يخالفونك؛ فقال الحسن رحمه الله: ثكلتك أمك فريقد، وهل رأيت فقيهاً بعينك? إنما الفقيه الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة البصير بدينه المداوم على عبادة ربه الورع الكاف نفسه عن أعراض المسلمين العفيف عن أموالهم الناصح لجماعتهم؛ ولم يقل في جميع في ذلك: الحافظ لفروع التفاوى، ولست أقول إن اسم الفقه لم يكن متناولاً للفتاوى في الأحكام الظاهرة، ولكن كان بطريق العموم والشمول أو بطريق الاستنابع؛ فكان إطلاقهم له على علم الآخرة أكثر، فبان من هذا التخصيص تلبيس بعث الناس على التجرد له والإعراض عن علم الآخرة وأحكام القلوب، ووجدوا على ذلك معيناً من الطبع، فإن علم الباطن غامض والعمل به عسير، والتوصل به إلى طلب الولاية والقضاء والجاه والمال متعذر، فوجد الشيطان مجالاً لتحسين ذلك في القلوب بواسطة تخصيص اسم الفقه الذي هو اسم محمود في الشرع اللفظ الثاني العلم: وقد كان يطلق ذلك على العلم بالله تعالى وبآياته وبأفعاله في عباده وخلقه، حتى أنه لما مات عمر رضي الله عنه قال ابن مسعود رحمه الله، لقد مات تسعة أعشار العلم فعرفه بالألف واللام ثم فسره العلم بالله سبحانه وتعالى، وقد تصرفوا فيه أيضاً بالتخصيص حتى شهروه في الأكثر بمن يشتغل بالمناظرة مع الخصوم في المسائل الفقهية وغيرها؛ فيقال: هو العالم على الحقيقة، وهو الفحل في العلم، ومن لا يمارس ذلك ولا يشتغل به يعد من جملة الضعفاء ولا يعدونه في زمرة أهل العلم. وهذا أيضاً تصرف بالتخصص، ولكن ما ورد من فضائل العلم والعلماء أكثره في العلماء بالله تعالى وبأحكامه وبأفعاله وصفاته.

وقد صار الآن مطلقاً على من لا يحيط من علوم الشرع بشيء سوى رسوم جدلية في مسائل خلافية، فيعد بذلك من فحول العلماء مع جهله بالتفسير والأخبار وعلم المذهب وغيره، وصار ذلك سبباً مهلكاً لخلق كثير من أهل الطلب للعلم اللفظ الثالث التوحيد: وقد جعل الآن عبارة عن صناعة الكلام ومعرفة طريق المجادلة والإحاطة بطرق مناقضات الخصوم والقدرة على التشدق فيها بتكثير الأسئلة وإثارة الشبهات وتأليف الإلزامات، حتى لقب طوائف منهم أنفسهم بأهل العدل والتوحيد وسمى المتكلمون العلماء بالتوحيد، مع أن جميع ما هو خاصة هذه الصناعة لم يكن يعرف منها شيء في العصر الأول بل كان يشتد منهم النكير على من كان يفتح باباً من الجدل والمماراة؛ فأما ما يشتمل عليه القرآن من الأدلة الظاهرة التي تسبق الأذهان إلى قبولها في أول السماع فلقد كان ذلك معلوماً للكل، وكان العلم بالقرآن هو العلم كله، وكان التوحيد عندهم عبارة عن أمر آخر لا يفهمه أكثر المتكلمين، وإن فهموه لم يتصفوا به: وهو أن يرى الأمور كلها من الله عز وجل رؤية تقطع التفاته عن الأسباب والوسائط، فلا يرى الخير والشر كله غلا منه جل جلاله؛ فهذا مقام شريف إحدى ثمراته التوكل كما سيأتي بيانه في كتاب التوكل. ومن ثمراته أيضاً ترك شكاية الخلق، وترك الغضب عليهم، والرضا والتسليم لحكم الله تعالى. وكانت إحدى ثمراته قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه لما قيل له في مرضه أنطلب لك طبيباً فقال: الطبيب أمرضني، وقول آخر لما مرض فقيل له ماذا قال لك الطبيب في مرضك? فقال: قال لي إني فعال لما أريد. وسيأتي في كتاب التوكل وكتاب التوحيد شواهد ذلك. والتوحيد جوهر نفيس وله قشران: أحدهما أبعد عن اللب من الآخر، فخصص الناس الاسم بالقشر وبضعة الحراسة للقشر وأهملوا اللب بالكلية؛ فالقشر الأول: هو أن تقول بلسانك لا إله إلا الله، وهذا يسمى توحيداً مناقضاً للتثليث الذي صرح به النصارى، ولكنه قد يصدر من المنافق الذي يخالف سره جهره. والقشر الثاني: أن لا يكون في القلب مخالفة وإنكار لمفهوم هذا القول بل يشتمل ظاهر القلب على اعتقاده وكذلك التصديق به وهو توحيد عوام الخلق والمتكلمون كما سبق حراس هذا القشر عن تشويش المبتدعة. والثالث: وهو اللباب - أن يرى الأمور كلها من الله تعالى رؤية تقطع التفاته عن الوسائط، وأن يعبده عبادة يفرده بها فلا يعبد غيره، ويخرج عن هذا التوحيد اتباع الهوى، فكل متبع هواه فقد اتخذ هواه معبوده. قال الله تعالى "أفرأيت من اتخذ إلهه هواه" وقال "أبغض إله عبد في الأرض عند الله تعالى هو الهوى" وعلى التحقيق من تأمل عرف أن عابد الصنم ليس يعبد الصنم وإنما يعبد هواه، إذ نفسه مائلة إلى دين آبائه فيتبع ذلك الميل، وميل النفس إلى المألوفات أحد المعاني التي يعبر عنها بالهوى، ويخرج من هذا التوحيد التسخط على الخلق والالتفات إليهم، فإن من يرى الكل من الله عز وجل كيف يتسخط على غيره، فلقد كان التوحيد عبارة عن هذا المقام وهو مقام الصديقين، فانظر إلى ماذا حول وبأي قشر قنع منه، وكيف اتخذوا هذا معتصماً في التمدح والتفاخر بما اسمه محمود مع الإفلاس عن المعنى الذي يستحق الحمد الحقيقي، وذلك كإفلاس من يصبح بكرة ويتوجه إلى القبلة ويقول "وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً" وهو أول كذب يفاتح الله به كل يوم إن لم يكن وجه قلبه متوجهاً إلى الله تعالى على الخصوص: فإنه إن أراد بالوجه وه الظاهر فما وجهه إلا إلى الكعبة وما صرفه إلا عن سائر الجهات، والكعبة ليست جهة للذي فطر السموات والأرض، حتى يكون المتوجه إليها متوجهاً غليه، تعالى عن أن تحده الجهات والأقطار. وإن أراد به وجه القلب وهو المطلوب المتعبد به فكيف يصدق في قوله وقلبه متردد في أوطاره وحاجاته الدنيوية ومتصرف في طلب الحيل في جمع الأموال والجاه واستكثار الأسباب، ومتوجه بالكلية إليها، فمتى وجه وجهه للذي فطر السموات والأرض وهذه الكلمة خبر عن حقيقة التوحيد، فالموحد هو الذي لا يرى إلا الواحد ولا يوجه وجهه إلا إليه، وهو امتثال قوله تعالى "قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون" وليس المراد به القول باللسان، فإنما اللسان ترجمان يصدق مرة ويكذب أخرى. وإنما موقع نظر الله تعالى المترجم عنه هو القلب، وهو معدن التوحيد ومنبعه اللفظ

الرابع الذكر والتذكير، فقد قال الله تعالى "وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين" وقد ورد في الثناء على مجالس الذكر أخبار كثيرة كقوله "إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا. قيل: وما رياض الجنة? قال. مجالس الذكر" فنقل ذلك إلى ما ترى أكثر الوعاظ في هذا الزمان يواظبون عليه وهو القصص والأشعار والشطح والطامات، أما القصص فهي بدعة، وقد ورد نهي السلف عن الجلوس إلى القصاص وقالوا لم يكن ذلك في زمن رسول الله ولا في زمن أبي بكر ولا عمر رضي الله عنهما، حتى ظهرت الفتنة وظهر القصاص وروي أن ابن عمر رضي الله عنهما خرج من المسجد فقال: ما أخرجني إلا القاص ولولاه لما خرجت. وقال ضمرة: قلت لسفيان الثوري نستقبل القاص بوجوهنا? فقال ولوا البدع ظهوركم، وقال ابن عون: دخلت على ابن سيرين فقال: ما كان اليوم من خبر? فقلت: نهى الأمير القصاص أن يقصوا. فقال: وفق للصواب. ودخل الأعمش جامع البصرة فرأى قاصاً يقص ويقول: حدثنا الأعمش، فتوسط الحلقة وجعل ينتف شعر إبطه، فقال القاص، يا شيخ، ألا تستحي! فقال: لم? أنا في سنة وأنت في كذب، أنا الأعمش وما حدثتك وقال أحمد، أكثر الناس كذباً القصاص والسؤال. وأخرج علي رضي الله عنه القصاص من مسجد جامع البصرة، فلما سمع كلام الحسن البصري لم يخرجه إذا كان يتكلم في علم الآخرة والتفكير بالموت والتنبيه على عيوب النفس وآفات الأعمال وخواطر الشيطان ووجه الحذر منها ويذكر بآلاء الله ونعمائه وتقصير العبد في شكره ويعرف حقارة الدنيا وعيوبها وتصرمها ونكث عهدها وخطر الآخرة وأهوالها، فهذا هو التذكير المحمود شرعاً الذي روى الحث عليه في حديث أبي ذر رضي الله عنه حيث قال "حضور مجلس ذكر أفضل من صلاة ألف ركعة. وحضور مجلس علم أفضل من عيادة ألف مريض، وحضور مجلس علم أفضل من شهود ألف جنازة، فقيل: يا رسول الله، ومن قراءة القرآن? قال: وهل تنفع قراءة القرآن إلا بالعلم" وقال عطاء رحمه الله: مجلس ذكر يكفر سبعين مجلساً من مجالس اللهو، فقد اتخذ المزخرفون هذه الأحاديث حجة على تزكية أنفسهم، ونقلوا اسم التذكير إلى خرافاتهم: وذهلوا عن طريق الذكر المحمود، واشتغلوا بالقصص التي تتطرق إليها الاختلافات والزيادة والنقص وتخرج عن القصص الواردة في القرآن وتزيد عليها، فإن من القصص ما ينفع سماعه، ومنها ما يضر وإن كان صدقاً. ومن فتح ذلك الباب على نفسه اختلط عليه الصدق بالكذب والنافع بالضار، فمن هذا نهي عنه، ولذلك قال أحمد بن حنبل رحمه الله: ما أحوج الناس إلى قاص صادق، فإن كانت القصة من قصص الأنبياء عليهم السلام فيما يتعلق بأمور دينهم وكان القاص صادقاً صحيح الرواية فلست أرى بها بأساً، فليحذر الكذب وحكايات أحوال تومىء إلى هفوات أو مساهلات يقصر فهم العوام عن درك معانيها أو عن كونها هفوة نادرة مردفة بتفكيرات متداركة بحسنات تغطي عليها، فإن العامي يعتصم بذلك في مساهلاته وهفواته، ويمهد لنفسه عذراً فيه، ويحتج بأنه حكى كيت وكيت عن بعض المشايخ وبعض الأكابر، فكلنا بصدد المعاصي، فلا غرو إن عصيت الله تعالى فقد عصاه من هو أكبر مني، ويفيده ذلك جراءة على الله تعالى من حيث لا يدري، فبعد الاحتراز عن هذين المحذورين فلا بأس به، وعند ذلك يرجع إلى القصص المحمودة وإلى ما يشتمل عليه القرآن، ويصح في الكتب الصحيحة من الأخبار، ومن الناس من يستجيز وضع الحكايات المرغبة في الطاعات ويزعم أن قصده فيها دعوة الخلق إلى الحق، فهذه من نزعات الشيطان، فإن في الصدق مندوحة عن الكذب، وفيما ذكر الله تعالى ورسوله غنية عن الاختراع في الوعظ، كيف وقد كره تكلف السجع وعد ذلك من التصنع. قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لابنه عمر - وقد سمعه يسجع -: هذا الذي يبغضك إلا لاقضيت حاجتك أبداً حتى تتوب - وقد كان جاءه في حاجة - وقد قال لعبد الله بن رواحة في سجع من ثلاث كلمات "إياك والسجع يا ابن رواحة" فكأن السجع المحذور المتكلف ما زاد على كلمتين: ولذلك لما قال الرجل في دية الجنين: كيف ندى من لا شرب ولا أكل، ولا صاح ولا استهل، ومثل ذلك بطل. فقال النبي "أسجع كسجع الأعراب" وأما الأشعار فتكثيرها في المواعظ مذموم. قال الله تعالى "والشعراء يتبعهم الغاوون

ألم تر أنهم في كل واد يهيمون" وقال تعالى "وما علمناه الشعر وما ينبغي له" وأكثر ما اعتاده الوعاظ من الأشعار: ما يتعلق بالتواصف في العشق وجمال المعشوق وروح الوصال وألم الفراق، والمجلس لا يحوي إلا أجلاف العوام، وبواطنهم مشحونة بالشهوات، وقلوبهم غير منفكة عن الالتفات إلى الصور المليحة؛ فلا تحرك الأشعار من قلوبهم إلا ما هو مستكن فيها فتشتعل فيها نيران الشهوات، فيزعقون ويتواجدون؛ وأكثر ذلك أو كله يرجع إلى نوع فساد، فلا ينبغي أن يستعمل من الشعر إلا ما فيه موعظة أو حكمة على سبيل استشهاد واستئناس.

وقد قال "إن من الشعر لحكمة" ولو حوى المجلس الخواص الذين وقع الاطلاع على استغراق قلوبهم بحب الله تعالى ولم يكن معهم غيرهم، فإن أولئك لا يضر معهم الشعر الذي يشير ظاهره إلى الخلق، فإن المستمع ينزل كل ما يسمعه على ما يستولي على قلبه، كما سيأتي تحقيق ذلك في كتاب السماع، ولذلك كان الجنيد رحمه الله يتكلم على بضعة عشر رجلاً، فإن كثروا لم يتكلم، وما تم أهل مجلسه قط عشرين. وحضر جماعة باب دار ابن سالم، فقيل له: تكلم فقد حضر أصحابك، فقال: لا، ما هؤلاء أصحابي، إنما هم أصحاب المجلس، إن أصحابي هم الخواص: وأما الشطح: فنعني به صنفين من الكلام أحدثه بعض الصوفية أحدهما الدعاوي الطويلة العريضة في العشق مع الله تعالى والوصال المغني عن الأعمال الظاهرة حتى ينتهي قوم إلى دعوى الاتحاد وارتفاع الحجاب والمشاهدة بالرؤية والمشافهة بالخطاب، فيقولون: قيل لنا كذا، وقلنا كذا، ويتشبهون فيه بالحسين بن منصور الحلاج الذي صلب لأجل إطلاقه كلمات من هذا الجنس، ويستشهدون بقوله أنا الحق، وبما حكي عن أبي يزيد البسطامي أنه قال سبحاني سبحاني، وهذا فن من الكلام عظيم ضرره في العوام، حتى ترك جماعة من أهل الفلاحة فلاحتهم وأظهروا مثل هذه الدعاوي، فإن هذا الكلام يستلذه الطبع إذ فيه البطالة من الأعمال مع تزكية النفس بدرك المقامات والأحوال، فلا تعجز الأغبياء عن دعوى ذلك لأنفسهم ولا عن تلقف كلمات مخبطة مزخرفة، ومهما أنكر عليهم ذلك لم يعجزوا عن أن يقولوا: هذا إنكار مصدره العلم والجدال، والعلم حجاب، والجدل عمل النفس، وهذا الحديث لا يلوح إلا من الباطن بمكاشفة نور الحق، فهذا ومثله مما قد استطار في البلاد شرره وعظم في العوام ضرره، حتى من نطق بشيء منه فقتله أفضل في دين الله من إحياء عشرة، وأما أبو يزيد البسطامي رحمه الله فلا يصح عنه ما يحكى وإن سمع ذلك منه فلعله كان يحكيه عن الله عز وجل في كلام يردده في نفسه، كما لو سمع وهو يقول "إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني" فإنه ما كان ينبغي أن يفهم منه ذلك إلا على سبيل الحكاية الصنف الثاني من الشطح كلمات غير مفهومة لها ظواهر رائقة وفيها عبارات هائلة وليس وراءها طائل، إما أن تكون غير مفهومة عند قائلها بل يصدرها عن خبط في عقله وتشويش في خياله لقلة إحاطته بمعنى كلام قرع سمعه وهذا هو الأكثر. وإما أن تكون مفهومة له ولكنه لا يقدر على تفهيمها وإيرادها بعبارة تدل على ضميره، لقلة ممارسته للعلم وعدم تعلمه طريق التعبير عن المعاني بالألفاظ الرشيقة، ولا فائدة لهذا الجنس من الكلام إلا أنه يشوش القلوب ويدهش العقول ويحير الأذهان، أو يحمل على أن يفهم منها معاني ما أريدت بها ويكون فهم كل واحد على مقتضى هواه وطبعه. وقد قال "ما حدث أحدكم قوماً بحديث لا يفقهونه إلا كان فتنة عليهم" وقال "كلموا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتريدون أن يكذب الله ورسوله" وهذا فيما يفهمه صاحبه ولا يبلغه عقل المستمع، فكيف فيما لا يفهمه قائله. فإن كان يفهمه القائل دون المستمع فلا يحل ذكره. وقال عيسى عليه السلام: لا تضعوا الحكمة عند غير أهلها فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم، كونوا كالطبيب الرفيق يضع الدواء في موضع الداء. وفي لفظ آخر من وضع الحكمة في غير أهلها فقد جهل، ومن منعها أهلها فقد ظلم؛ إن للحكمة حقاً وإن لها أهلاً، فأعط كل ذي حق حقه. وأما الطامات فيدخلها ما ذكرناه في الشطح؛ وأمر آخر يخصها وهو صرف ألفاظ الشرع عن ظواهرها المفهومة إلى أمور باطنة لا يسبق منها إلى الأفهام فائدة، كدأب الباطنية في التأويلات؛ فهذا أيضاً حرام وضرره عظيم؛ فإن الألفاظ إذا صرفت عن مقتضى ظواهرها بغير اعتصام فيه بنقل عن صاحب الشرع ومن غير ضرورة تدعو إليه من دليل العقل اقتضى ذلك بطلان الثقة بالألفاظ وسقط به منفعة كلام الله تعالى وكلام رسوله ؛ فإن ما يسبق منه إلى الفهم لا يوثق به والباطن لا ضبط له، بل تتعارض فيه الخواطر ويمكن تنزيله على وجوه شتى؛ وهذا أيضاً من البدع الشائعة العظيمة الضرر. وإنما قصد أصحابها الإغراب؛ لأن النفوس مائلة إلى الغريب ومستلذة له؛ وبهذا الطريق توصل الباطنية إلى هدم جميع الشريعة بتأويل ظواهرها وتنزيلها على رأيهم

كما حكيناه من مذاهبهم في كتاب المستظهر المصنف في الرد على الباطنية. ومثال تأويل أهل الطامات قول بعضهم في تأويل قوله تعالى "اذهب إلى فرعون إنه طغى" أنه إشارة إلى قلبه وقال هو المراد بفرعون وهو الطاغي على كل إنسان. وفي قوله تعالى "وأن ألق عصاك" أي ما يتوكأ عليه ويعتمده مما سوى الله عز وجل فينبغي أن يلقيه. وفي قوله "تسحروا فإن في السحور بركة" أراد به الاستغفار في الأسحار وأمثال ذلك حتى يحرفون القرآن من أوله إلى آخره عن ظاهره، وعن تفسيره المنقول عن ابن عباس وسائر العلماء وبعض هذه التأويلات يعلم بطلانها قطعاً، كتنزيل فرعون على القلب؛ فإن فرعون شخص محسوس تواتر إلينا النقل بوجوده ودعوة موسى له وكأبي جهل وأبي لهب وغيرهما من الكفار وليس من جنس الشياطين والملائكة مما لم يدرك بالحس حتى يتطرق التأويل إلى ألفاظه، وكذا حمل السحور على الاستغفار" فإنه كان يتناول الطعام ويقول: تسحروا" وهلموا إلى الغذاء المبارك" فهذه أمور يدرك بالتواتر والحس بطلانها نقلاً، وبعضها يعلم بغالب الظن، وذلك في أمور لا يتعلق بها الإحساس؛ فكل ذلك حرام وضلالة وإفساد للدين على الخلق، ولم ينقل شيء من ذلك عن الصحابة ولا عن التابعين ولا عن الحسن البصري مع إكبابه على دعوة الخلق ووعظهم، فلا يظهر لقوله "من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار" معنى إلا هذا النمط: وهو أن يكون غرضه ورأيه تقرير أمر وتحقيقه، فيستجر شهادة القرآن إليه، ويحمله عليه، من غير أن يشهد لتنزيله عليه دلالة لفظية لغوية أو نقلية، ولا ينبغي أن يفهم منه أنه يجب أن لا يفسر القرآن بالاستنباط والفكر، فإن من الآيات ما نقل فيها عن الصحابة والمفسرين خمسة معان وستة وسبعة.

ونعلم أن جميعها غير مسموع من النبي ، فإنها قد تكون متنافية لا تقبل الجمع، فيكون ذلك مستنبطاً بحسن الفهم وطول الفكر، ولهذا قال لابن عباس رضي الله عنه "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" ومن يستجيز من أهل الطامات مثل هذه التأويلات مع علمه بأنها غير مرادة بالألفاظ ويزعم أنه يقصد بها دعوة الخلق إلى الخالق يضاهي من يستجيز الاختراع والوضع على رسول الله لما هو في نفسه حق ولكن لم ينطق به الشرع، كمن يضع في كل مسئلة يراها حقاً حديثاً عن النبي فذلك ظلم وضلال ودخول في الوعيد المفهوم من قوله "من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" بل الشر في تأويل هذه الألفاظ أطم وأعظم، لأنها مبدلة للثقة بالألفاظ، وقاطعة طريق الاستفادة والفهم من القرآن بالكلية فقد عرفت كيف صرف الشيطان دواعي الخلق عن العلوم المحمودة إلى المذمومة، فكل ذلك من تلبيس علماء السوء بتبديل الأسامي فإن اتبعت هؤلاء اعتماداً على الاسم المشهور من غير التفات إلى ما عرف في العصر الأول كنت كمن طلب الشرف بالحكمة باتباع من يسمى حكيماً، فإن اسم الحكيم، صار يطلق على الطبيب والشاعر والمنجم في هذا العصر، وذلك بالغفلة عن تبديل الألفاظ اللفظ الخامس وهو الحكمة، فإن اسم الحكيم صار يطلق على الطبيب والشاعر والمنجم حتى على الذي يدحرج القرعة على أكف السوادية في شوارع الطرق. والحكمة هي التي أثنى الله عز وجل عليها فقال تعالى "يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً" وقال "كلمة من الحكمة يتعلمها الرجل خير له من الدنيا وما فيها" فانظر ما الذي كانت الحكمة عبارة عنه، وإلى ماذا نقل، وقس به بقية الألفاظ واحترز عن الاغترار بتلبيسات علماء السوء، فإن شرهم على الدين أعظم من شر الشياطين، إذ الشيطان بواسطتهم بتدرج إلى انتزاع الدين من قلوب الخلق، ولهذا لما سئل رسول الله عن شر الخلق أبى وقال "اللهم اغفر" حتى كرروا عليه فقال "هم علماء السوء" فقد عرفت العلم المحمود والمذموم ومثار الالتباس وإليك الخيرة في أن تنظر لنفسك فتقتدي بالسلف. أو تتدلى بحبل الغرور وتتشبه بالخلف، فكل ما ارتضاه السلف من العلوم قد اندرس، وما أكب الناس عليه فأكثره مبتدع ومحدث، وقد صح قول رسول الله "بدأ الإسلام غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء" فقيل: ومن الغرباء? قال "الذين يصلحون ما أفسده الناس من سنتي والذين يحيون ما أماتوه من سنتي" وفي آخر "هم المتمسكون بما أنتم عليه اليوم" وفي حديث آخر "الغرباء ناس قليل صالحون بين ناس كثير، من يبغضهم في الخلق أكثر ممن يحبهم" وقد صارت تلك العلوم غريبة بحيث يمقت ذاكرها، ولذلك قال الثوري رحمه الله: إذا رأيت العالم كثير الأصدقاء فاعلم أنه مخلط، لأنه إن نطق بالحق أبغضوه.

بيان القدر المحمود من العلوم المحمودة

عدل

اعلم أن العلم بهذا الاعتبار ثلاثة أقسام: قسم هو مذموم قليله وكثيره وقسم هو محمود قليله وكثيره، وكلما كان أكثر كان أحسن وأفضل وقسم يحمد منه مقدار الكفاية ولا يحمد الفاضل عليه والاستقضاء فيه، وهو مثل أحوال البدن، فإن منها ما يحمد قليله وكثيره كالصحة والجمال، ومنها ما يذم قليله وكثيره كالقبح وسوء الخلق، ومنها ما يحمد الاقتصاد فيه كبذل المال فإن التبذير لا يحمد فيه وهو بذل، وكالشجاعة فإن التهور لا يحمد فيها، وإن كان من جنس الشجاعة فكذلك العلم. فالقسم المذموم منه قليله وكثيره هو ما لا فائدة فيه في دين ولا دنيا، إذ فيه ضرر يغلب نفعه كعلم السحر والطلمسات والنجوم، فبعضه لا فائدة فيه أصلاً، وصرف العمر الذي هو أنفس ما يملكه الإنسان إليه إضاعة، وإضاعة النفيس مذمومة. ومنه ما فيه ضرر يزيد على ما يظن أنه يحصل به من قضاء وطر في الدنيا، فإن ذلك لا يعتد به بالإضافة إلى الضرر الحاصل عنه. وأما القسم المحمود إلى أقصى غايات الاستقصاء فهو العلم بالله تعالى وبصفاته وأفعاله، وسنته في خلقه. وحكمته في ترتيب الآخرة على الدنيا، فإن هذا علم مطلوب لذاته وللتوصل به إلى سعادة الآخرة، وبذل المقدور فيه إلى أقصى الجهد قصور عن حد الواجب، فإنه البحر الذي لا يدرك غوره وإنما يحوم الحائمون على سواحله وأطرافه بقدر ما يسر لهم، وما خاض أطرافه إلا الأنبياء والأولياء والراسخون في العلم على اختلاف درجاتهم بحسب اختلاف قوتهم وتفاوت تقدير الله تعالى في حقهم، وهذا هو العلم المكنون الذي لا يسطر في الكتب، ويعين على التنبه له التعلم ومشاهدة أحوال علماء الآخرة، كما سيأتي علامتهم، هذا في أول الأمر ويعين عليه في الآخرة المجاهدة والرياضة وتصفية القلب وتفريغه عن علائق الدنيا والتشبه فيها بالأنبياء والأولياء، ليتضح منه لكل ساع إلى طلبه بقدر الرزق لا بقدر الجهد ولكن لا غنى فيه عن الاجتهاد، فالمجاهدة مفتاح الهداية لا مفتاح لها سواها وأما العلوم التي لا يحمد منها إلا مقدار مخصوص فهي العلوم التي أوردناها في فروض الكفايات، فإن في كل علم منها اقتصاراً وهو الأقل، واقتصاداً وهو الوسط، واستقصاء وراء ذلك الاقتصاد لا مرد له إلى آخر العمر، فكن أحد رجلين: إما مشغولاً بنفسك، وإما متفرغاً لغيرك بعد الفراغ من نفسك، وإياك أن تشتغل بما يصلح غيرك قبل إصلاح نفسك، فإن كنت المشغول بنفسك فلا تشتغل إلا بالعلم الذي هو فرض عليك بحسب ما يقتضيه حالك، وما يتعلق منه بالأعمال الظاهرة من تعلم الصلاة والطهارة والصوم، وإنما الأهم الذي أهمله الكل علم صفات القلب وما يحمد منها وما يذم، إذ لا ينفك بشر عن الصفات المذمومة مثل الحرص والحسد والرياء والكبر والعجب وأخواتها وجميع ذلك مهلكات، وإهمالها من الواجب، مع أن الاشتغال بالأعمال الظاهرة يضاهي الاشتغال بطلاء ظاهر البدن عند التأذي بالجرب والدماميل والتهاون بإخراج المادة بالفصد والإسهال، وحشوية العلماء يشيرون بالأعمال الظاهرة كما يشير الطرقية من الأطباء بطلاء ظاهر البدن، وعلماء الآخرة لا يشيرون إلا بتطهير الباطن وقطع مواد الشر بإفساد منابتها وقلع مغارسها من القلب، وإنما فزع الأكثرون إلى الأعمال الظاهرة عن تطهير القلوب لسهولة أعمال الجوارح واستصعاب أعمال القلوب، كما يفزع إلى طلاء الظاهر من يستصعب شرب الأدوية المرة، فلا يزال يتعب في الطلاء ويزيد في المواد وتتضاعف به الأمراض، فإن كنت مريداً للآخرة وطالباً للنجاة وهارباً من الهلاك الأبدي فاشتغل بعلم العلل الباطنة وعلاجها على ما فصلناه في ربع المهلكات، ثم ينجق بك ذلك إلى المقامات المحمودة المذكورة في ربع المنجيات لا محالة، فإن القلب إذا فرغ من المذموم امتلأ بالمحمود؛ والأر إذا نقبت من الحشيش نبت فيها أصناف الزرع والرياحين، وإن لم تفرغ من ذلك لم تنبت ذاك، فلا تشتغل بفروض الكفاية لاسيما وفي زمرة الخلق من قد قام بها فإن ملك نفسه فيما به صلاح غيره سفيه، فما أشد حماقة من دخلت الأفاعي والعقارب تحت ثيابه وهمت بقتله وهو يطلب مذبة يدفع بها الذباب عن غيره ممن لا يغنيه ولا ينجيه مما يلاقيه من تلك الحيات والعقارب إذا همت به.

وإن تفرغت من نفسك وتطهيرها وقدرت على ترك ظاهر الإثم وباطنه وصار ذلك ديدناً لك وعادة متيسرة فيك - وما أبعد ذلك منك - فاشتغل بفروض الكفايات وراع التدريج فيها؛ فابتدىء، بكتاب الله تعالى ثم بسنة رسول الله ، ثم بعلم التفسير وسائر علوم القرآن من علم الناسخ والمنسوخ والمفصول والموصول والمحكم والمتشابه وكذلك في السنة، ثم اشتغل بالفروع وهو علم المذهب من علم الفقه دون الخلاف، ثم بأصول الفقه؛ وهكذا إلى بقية العلوم على ما يتسع له العمر ويساعد فيه الوقت؛ ولا تستغرق عمرك في فن واحد منها طلباً للاستقصاء؛ فإن العلم كثير والعمر قصير، وهذه العلوم آلات ومقدمات وليست مطلوبة لعينها بل لغيرها، وكل ما يطلب لغيره فلا ينبغي أن ينسى فيه المطلوب ويستكثر منه؛ فاقتصر من شائع علم اللغة على ما تفهم منه كلام العرب وتنطق به، ومن غريب القرآن وغريب الحديث ودع التعمق فيه، واقتصر من النحو على ما يتعلق بالكتاب والسنة فما من علم إلا وله اقتصار واقتصاد واستقصاء. ونحن نشير إليها في الحديث والتفسير والفقه والكلام لتقيس بها غيرها، فالاقتصار في التفسير ما يبلغ ضعف القرآن في المقدار كما صنفه علي الواحدي النيسابوري وهو الوجيز؛ والاقتصاد ما يبلغ ثلاثة أضعاف القرآن كما صنفه من الوسيط فيه وما وراء ذلك استقصاء مستغنى عنه فلا مرد له إلى انتهاء العمر. وأما الحديث فالاقتصار فيه تحصيل ما في الصحيحين بتصحيح نسخة على رجل خبير بعلم متن الحديث. وأما حفظ أسامي الرجال فقد كفيت فيه بما تحمله عنك من قبلك؛ ولك أن تعول على كتبهم، وليس يلزمك حفظ متون الصحيحين ولكن تحصله تحصيلاً تقدر منه على طلب ما تحتاج إليه عند الحاجة؛ وأما الاقتصاد فيه فأن تضيف إليهما ما خرج عنهما مما ورد في المسندات الصحيحة. وأما الاستقصاء فما وراء ذلك إلى استيعاب كل ما نقل من الضعيف والقوي والصحيح والسقيم مع معرفة الطرق الكثيرة في النقل ومعرفة أحوال الرجال وأسمائهم وأوصافهم. وأما الفقه فالاقتصار فيه على ما يحويه مختصر المزني رحمه الله وهو الذي رتبناه في خلاصة المختصر، والاقتصاد فيه ما يبلغ ثلاثة أمثاله وهو القدر الذي أوردناه في الوسيط من المذهب، والاستقصاء ما أوردناه في البسيط إلى ما وراء ذلك من المطولات. وأما الكلام فمقصوده حماية المعتقدات التي نقلها أهل السنة من السلف الصالح لاغير؛ وما وراء ذلك طلب لكشف حقائق الأمور من غير طريقتها، ومقصود حفظ السنة تحصيل رتبة الاقتصار منه بمعتقد مختصر وهو القدر الذي أوردناه في كتاب قواعد العقائد من جملة هذا الكتاب، والاقتصاد فيه ما يبلغ منه بمعتقد مختصر؛ وهو القدر الذي أوردناه في كتاب قواعد العقائد من جملة هذا الكتاب، والاقتصاد فيه ما يبلغ قدر مائة ورقة وهو الذي أوردناه في كتاب الاقصتاد في الاعتقاد، ويحتاج إليه لمناظرة مبتدع ومعارضة بدعته بما يفسدها وينزعها عن قلب العامي، وذلك لا ينفع إلا مع العوام قبل اشتداد تعصبهم، وأما المبتدع بعد أن يعلم من الجدل ولو شيئاً يسيراً فقلما ينفع معه الكلام؛ فإنك إن أفحمته لم يترك مذهبه وأحال بالقصور على نفسه وقدر أن عند غيره جواباً ما وهو عاجز عنه، وإنما أنت ملبس عليه بقوة المجادلة. وأما العامي إذا صرف عن الحق بنوع جدل يمكن أن يرد إليه بمثله قبل أن يشتد التعصب للأهواء؛ فإذا اشتد تعصبهم وقع اليأس منهم؛ إذ التعصب سبب يرسخ العقائد في النفوس وهو من آفات علماء السوء؛ فإنهم يبالغون في التعصب للحق وينظرون إلى المخالفين بعين الازدراء والاستحقار، فتنبعث منهم الدعوى بالمكافأة والمقابلة والمعاملة، وتتوفر بواعثهم على طلب نصرة الباطل، ويقوى غرضهم في التمسك بما نسبوا إليه، ولو جاءوا من جانب اللطف والرحمة والنصح في الخلوة - لا في معرض التعصب والتحقير - لانجحوا فيه، ولكن لما كان الجاه لا يقوم إلا باستتباع ولا يستميل الأتباع مثل التعصب واللعن والشتم للخصوم، اتخذوا التعصب عادتهم وآلتهم، وسموه ذباً عن الدين ونضالاً عن المسلمين، وفيه على التحقيق هلاك الخلق ورسوخ البدعة في النفوس. وأما الخلافيات التي أحدثت في هذه الأعصار المتأخرة وأبدع فيها من التحريرات والتصنيفات والمجادلات ما لم يعهد مثلها في السلف فإياك وأن تحوم حولها، واجتنبها اجتناب السم القاتل فإنها الداء العضال وهو الذي رد الفقهاء كلهم إلى طلب المنافسة والمباهاة على ما سيأتيك تفصيل غوائلها وآفاتها. وهذا الكلام ربما يسمع من قائله فيقال: الناس أعداء ما جهلوا فلا تظن ذلك، فعلى الخبير سقطت.

فاقبل هذه النصيحة ممن ضيع العمر فيه زماناً، وزاد فيه على الأولين تصنيفاً وتحقيقاً وجدلاً وبياناً، ثم ألهمه الله رشده وأطلعه على عيبه فهجره واشتغل بنفسه: فلا يغرنك قول من يقول الفتوى عماد الشرع ولا يعرف علله إلا بعلم الخلاف، فإن علل المذهب مذكورة في المذهب، والزيادة عليها مجادلات لم يعرفها الأولون ولا الصحابة وكانوا أعلم بعلل الفتاوى من غيرهم، بل هي مع أنها غير مفيدة في علم المذهب ضارة مفسدة لذوق الفقه، فإن الذي يشهد له حدس المفتي إذا صح ذوقه في الفقه لا يمكن تمشيته على شروط الجدل في أكثر الأمر، فمن ألف طبعه رسوم الجدل أذعن ذهنه لمقتضيات الجدل وجبن عن الإذعان لذوق الفقه، وإنما يشتغل به من يشتغل لطلب الصيت والجاه ويتعلل بأنه يطلب علل المذهب، وقد ينقضي عليه العمر ولا تنصرف همته إلى علم المذهب، فكن من شياطين الجن في أمان، واحترز من شياطين الإنس فإنهم أراحوا شياطين الجن من التعب في الإغواء والإضلال، وبالجملة فالمرضي عند العقلاء أن تقدر نفسك في العالم وحدك مع الله وبين يديك الموت والعرض والحساب والجنة والنار، وتأمل فيما يعنيك مما بين يديك، ودع عنك ما سواه والسلام. وقد رأى بعض الشيوخ بعض العلماء في المنام فقال له: ما خبر تلك العلوم التي كنت تجادل فيها وتناظر عليها فبسط يده ونفخ فيها وقال: طاحت كلها هباء منثوراً وما انتفعت إلا بركعتين خلصتا لي في جوف الليل. وفي الحديث "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل" ثم قرأ "ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون" وفي الحديث في معنى قوله تعالى "فأما الذين في قلوبهم زيغ" الآية: "هم أهل الجدل الذين عناهم الله بقوله تعالى: فاحذرهم" وقال بعض السلف: يكون في آخر الزمان قوم يغلق عليهم باب العمل ويفتح لهم باب الجدل. وفي بعض الأخبار إنكم في زمان ألهمتم فيه العمل وسيأتي قوم يلهمون الجدل وفي الخبر المشهور "أبغض الخلق إلى الله تعالى الألد الخصم" وفي الخبر "ما أتى قوم المنطق إلا منعوا العمل" والله أعلم.