إحياء علوم الدين/كتاب العلم/الباب الثاني
بيان العلم الذي هو فرض عين
عدلقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم "طلب العلم فريضة على كل مسلم" وقال أيضاً ﷺ "اطلبوا العلم ولو بالصين" واختلف الناس في العلم الذي هو فرض على كل مسلم، فتفرقوا فيه أكثر من عشرين فرقة، ولا نطيل بنقل التفصيل، ولكن حاصله أن كل فريق نزل الوجوب على العلم الذي هو بصدده، فقال المتكلمون: هو علم الكلام، إذ به يدرك التوحيد ويعلم به ذات الله سبحانه وصفاته، وقال الفقهاء: هو علم الفقهاء: هو علم الفقه إذ به تعرف العبادات والحلال والحرام وما يحرم من المعاملات وما يحل، وعنوا به ما يحتاج إليه الآحاد دون الوقائع النادرة، وقال المفسرون والمحدثون: هو علم الكتاب والسنة، إذ بهما يتوصل إلى العلوم كلها. وقال المتصوفة: المراد به هذا العلم، فقال بعضهم: هو علم العبد بحاله ومقامه من الله عز وجل. وقال بعضهم: هو العلم بالإخلاص وآفات النفوس وتمييز لمة الملك من لمة الشيطان. وقال بعضهم: هو علم الباطن، وذلك يجب على أقوام مخصوصين هم أهل ذلك وصرفوا اللفظ عن عمومه. وقال أبو طالب المكي: هو العلم بما يتضمنه الحديث الذي فيه مباني الإسلام، وهوقوله ﷺ "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله" إلى آخر الحديث، لأن الواجب هذه الخمس فيجب العلم بكيفية العمل فيها وبكيفية الوجوب. والذي ينبغي أن يقطع به المحصل ولا يستريب فيه ما سنذكره: وهو أن العلم كما قدمناه في خطبة الكتاب ينقسم إلى علم معاملة وعلم مكاشفة، وليس المراد بهذا العلم إلا علم المعاملة. والمعاملة التي كلف العبد العاقل البالغ العمل بها ثلاثة: اعتقاد، وفعل، وترك؛ فإذا بلغ الرجل العاقل بالاحتلام أو السن ضحوة نهار مثلاً فأول واجب عليه تعلم كلمتي الشهادة وفهم معناهما وهو قول "لا إله إلا الله، محمد رسول الله" وليس يجب عليه أن يحصل كشف ذلك لنفسه بالنظر والبحث وتحرير الأدلة، بل يكفيه أن يصدق به ويعتقده جزماً من غير اختلاج ريب واضطراب نفس، وذلك قد يحصل بمجرد التقليد والسماع من غير بحث ولا برهان؛ إذ اكتفى رسول الله ﷺ من أجلاف العرب بالتصديق والإقرار من غير تعلم دليل. فإذا فعل ذلك فقد أدى واجب الوقت وكان العلم الذي هو فرض عين عليه في الوقت تعلم الكلمتين وفهمهما، وليس يلزمه أمر وراء هذا في الوقت، بدليل أنه لو مات عقيب ذلك مات مطيعاً لله عز وجل غير عاص له، وإنما يجب غير ذلك بعوارض تعرض وليس ذلك ضرورياً في حق كل شخص بل يتصور الانفكاك وتلك العوارض إما أن تكون في الفعل وإما في الترك وإما في الاعتقاد.
أما الفعل: فبأن يعيش من ضحوة نهاره إلى وقت الظهر فيتجدد عليه بدخول وقت الظهر تعلم الطهارة والصلاة، فإن كان صحيحاً وكان بحيث لو صبر إلى وقت زوال الشمس لم يتمكن من تمام التعلم والعمل في الوقت بل يخرج الوقت لو اشتغل بالتعلم، فلا يبعد أن يقال: الظاهر بقاؤه فيجب عليه تقديم التعلم على الوقت. ويحتمل أن يقال: وجوب العلم الذي هو شرط العمل بعد وجوب العمل فلا يجب قبل الزوال، وهكذا في بقية الصلوات فإن عاش إلى رمضان تجدد بسببه وجوب تعلم الصوم: وهو أن وقته من الصبح إلى غروب الشمس؛ وأن الواجب فيه النية والإمساك عن الأكل والشرب والوقاع، وأن ذلك يتمادى إلى رؤية الهلال أو شاهدين؛ فإن تجدد له مال أو كان له مال عند بلوغه لزمه تعلم ما يجب عليه من الزكاة، ولكن لا يلزمه في الحال إنما يلزمه عند تمام الحول من وقت الإسلام؛ فإن لم يملك إلا الإبل لم يلزمه إلا تعلم زكاة الإبل، وكذلك في سائر الأصناف، فإذا دخل في أشهر الحج فلا يلزمه المبادرة إلى علم الحج مع أن فعله على التراخي فلا يكون تعلمه على الفور، ولكن ينبغي لعلماء الإسلام أن ينبهوه على أن الحج فرض على التراخي على كل من ملك الزاد والراحلة إذا كان هو مالكاً حتى ربما يرى الحزم لنفسه في المبادرة فعند ذلك إذا عزم عليه لزمه تعلم كيفية الحج ولم يلزمه إلا تعلم أركانه وواجباته دون نوافله، فإن فعل ذلك نفل فعلمه أيضاً نفل فعلمه أيضاً نفل فلا يكون تعلمه فرض عين وفي تحريم السكوت عن التنبيه على وجوب أصل الحج في الحال نظر يليق بالفقه، وهكذا التدريج في علم سائر الأفعال التي هي فرض عين. وأما التروك فيجب تعلم علم ذلك بحسب ما يتجدد من الحال، وذلك يختلف بحال الشخص إذ لا يجب على الأبكم تعلم ما يحرم من الكلام، ولا على الأعمى تعلم ما يحرم من النظر، ولا على البدوي تعلم ما يحرم الجلوس فيه من المساكن، فذلك أيضاً واجب بحسب ما يقتضيه الحال، فما يعلم أنه ينفك عنه لا يجب تعلمه وما هو ملابس له يجب تنبيهه عليه كما لو كان عند الإسلام لابساً للحرير، أو جالساً في الغصب، أو ناظراً إلى غير ذي محرم، فيجب تعريفه بذلك وما ليس ملابساً له ولكنه بصدد التعرض له على القرب كالأكل والشرب فيجب تعليمه، حتى إذا كان في بلد يتعاطى فيه شرب الخمر وأكل لحم الخنزير فيجب تعليمه ذلك وتنبيهه عليه، وما وجب تعليمه وجب عليه تعلمه. وأما الاعتقادات وأعمال القلوب فيجب علمها بحسب الخواطر، فإن خطر له شك في المعاني التي تدل عليها كلمتا الشهادة فيجب عليه تعلم ما يتوصل به إلى إزالة الشك. فإن لم يخطر له ذلك ومات قبل أن يعتقد أن كلام الله سبحانه قديم وأنه مرئي وأنه ليس محلاً للحوادث إلى غير ذلك مما يذكر في المعتقدات، فقد مات على الإسلام إجماعاً، ولكن هذه الخواطر الموجبة للاعتقادات بعضها يحظر بالطبع وبعضها يحظر بالسماع من أهل البلد، فإن كان في بلد شاع فيه الكلام وتناطق الناس بالبدع فينبغي أن يصان في أول بلوغه عنها بتلقين الحق، فإنه لو ألقى إليه الباطل لوجبت إزالته عن قلبه وربما عسر ذلك، كما أنه لو كان هذا المسلم تاجراً وقد شاع في البلد معاملة الربا وجب عليه تعلم الحذر من الربا، وهذا هو الحق في العلم الذي هو فرض عين ومعناه العلم بكيفية العمل الواجب، فمن علم العلم الواجب ووقت وجوبه فقد علم العلم الذي هو فرض عين، وما ذكره الصوفية من فهم خواطر العدو ولمة الملك حق أيضاً ولكن في حق من يتصدى له، فإذا كان الغالب أن الإنسان لا ينفك عن دواعي الشر والرياء والحسد فيلزمه أن يتعلم من علم ربع المهلكات ما يرى نفسه محتاجاً إليه، وكيف لا يجب عليه وقد قال رسول الله ﷺ "ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه" ولا ينفك عنها بشر، وبقية ما سنذكره من مذمومات أحوال القلب كالكبر والعجب وأخواتها تتبع هذه الثلاث المهلكات، وإزالتها فرض عين، ولا يمكن إزالتها إلا بمعرةف حدودها ومعرفة أسبابها ومعرةف علاماتها ومعرفة علاجها؛ فإن من لا يعرف الشر يقع فيه، والعلاج هو مقابلة السبب بضده، وكيف يمكن دون معرفة السبب والمسبب، وأكثر ما ذكرناه في ربع المهلكات من فروض الأعيان، وقد تركها الناس كافة اشتغالاً بما لا يعني. ومما ينبغي أن يبادر في إلقائه إليه إذا لم يكن قد انتقل عن ملة إلى ملة أخرى:
الإيمان بالجنة والنار والحشر والنشر حتى يؤمن به ويصدق، وهو من تتمة كلمتي الشهادة، فإنه بعد التصديق بكونه عليه السلام رسولاً ينبغي أن يفهم الرسالة التي هو مبلغها: وهو أن من أطاع الله ورسوله فله الجنة، ومن عصاهما فله النار، فإذا انتبهت لهذا التدريج علمت أن المذهب الحق هو هذا، وتحققت أن كل عبد هو في مجاري أحواله في يومه وليلته لا يخلو من وقائع في عبادته ومعاملاته عن تجدد لوازم عليه فيلزمه السؤال عن كل ما يقع له من النوادر ويلزمه المبادرة إلى تعلم ما يتوقع وقوعه على القرب غالباً؛ فإذا تبين أنه عليه الصلاة والسلام إنما أراد بالعلم المعرف بالألف واللام في قوله ﷺ؛ طلب العلم فريضة على كل مسلم؛ علم العمل الذي هو مشهور الوجوب على المسلمين لا غير؛ فقد اتضح وجه التدريج ووقت وجوبه، والله أعلم.
بيان العلم الذي هو فرض كفاية
عدلاعلم أن الفرض لا يتميز عن غيره إلا بذكر أقسام العلوم والعلوم بالإضافة إلى الغرض الذي نحن بصدده تنقسم إلى شرعية وغير شرعية؛ وأعني بالشرعية ما استفيد من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، ولا يرشد العقل إليه مثل الحساب، ولا التجربة مثل الطب، ولا السماع مثل اللغة: فالعلوم التي ليست بشرعية تنقسم إلى ما هو محمود وإلى ما هو مذموم وإلى ما هو مباح، فالمحمود ما يرتبط به مصالح أمور الدنيا كالطب والحساب وذلك ينقسم إلى ما هو فرض كفاية وإلى ما هو فضيلة وليس بفريضة: أما فرض الكفاية فهو علم لا يستغني عنه في قوام أمور الدنيا كالطب، إذ هو ضروري في حاجة بقاء الأبدان. وكالحساب؛ فإنه ضروري في المعاملات وقسمة الوصايا والمواريث وغيرهما. وهذه هي العلوم التي لو خلا البلد عمن يقوم بها حرج أهل البلد. وإذا قام بها واحد كفى وسقط الفرض عن الآخرين. فلا يتعجب من قولنا إن الطب والحساب من فروض الكفايات فإن أصول الصناعات أيضاً من فروض الكفايات فإن أصول الصناعات أيضاً من فروض الكفايات كالفلاحة والحياكة والسياسة بل الحجامة والخياطة. فإنه لو خلا البلد من الحجام تسارع الهلاك إليهم وحرجوا بتعريضهم أنفسهم للهلاك. فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء وأرشد إلى استعماله وأعد الأسباب لتعاطيه. فلا يجوز التعرض للهلاك بإهماله. وأما ما يعد فضيلة لا فريضة فالتعمق في دقائق الحساب وحقائق الطب وغير ذلك مما يستغنى عنه. ولكنه يفيد زيادة قوة في القدر المحتاج إليه. وأما المذموم فعلم السحر والطلسمات وعلم الشعبذة والتلبيسات. وأما المباح منه فالعلم بالأشعار التي لا سخف فيها. وتواريخ الأخبار وما يجري مجراه.
أما العلوم الشرعية وهي المقصود بالبيان: فهي محمودة كلها ولكن قد يلتبس بها ما يظن أنها شرعية وتكون مذمومة فتنقسم إلى المحمودة والمذمومة. أما المحمودة فلها أصول وفروع ومقدمات ومتممات وهي أربعة أضرب الضرب الأول الأصول: وهي أربعة كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله عليه السلام وإجماع الأمة وآثار الصحابة والإجماع أصل من حيث إنه يدل على السنة فهو أصل في الدرجة الثالثة. وكذا الأثر فإنه أيضاً يدل على السنة. لأن الصحابة رضي الله عنهم قد شاهدوا الوحي والتنزيل وأدركوا بقرائن الأحوال ما غاب عن غيرهم عيانه وربما لا تحيط العبارات بما أدرك بالقرائن. فمن هذا الوجه رأى العلماء الاقتداء بهم والتمسك بآثارهم وذلك بشرط مخصوص على وجه مخصوص عند م يراه ولا يليق بيانه بهذا الفن الضرب الثاني الفروع: وهو ما فهم من هذه الأصول لا بموجب ألفاظها بل بمعان تنبه لها العقول فاتسع بسببها الفهم حتى فهم من اللفظ الملفوظ به غيره كما فهم من قوله عليه السلام "لا يقضي القاضي وهو غضبان" أنه لا يقضي إذا كان خائفاً أو جائعاً أو متألماً بمرض. وهذا على ضربين: أحدهما: يتعلق بمصالح الدنيا ويحويه كتب الفقه والمتكفل به الفقهاء وهم علماء الدنيا. والثاني: ما يتعلق بمصالح الآخرة وهو علم أحوال القلب وأخلاقه المحمودة والمذمومة وما هو مرضي عند الله تعالى، وما هو مكروه وهو الذي يحويه الشطر الأخير من هذا الكتاب، أعني جملة كتاب إحياء علوم الدين، ومنه العلم بما يترشح من القلب على الجوارح في عباداتها وعاداتها، وهو الذي يحويه الشطر الأول من هذا الكتاب. والضرب الثالث المقدمات؛ وهي التي تجري منه مجرى الآلات كعلم اللغة والنحو؛ فإنهما آلة لعلم كتاب الله تعالى وسنة نبيه ﷺ، وليست اللغة والنحو من العلوم الشرعية في أنفسهما، ولكن يلزم الخوض فيهما بسبب الشرع إذ جاءت هذه الشريعة بلغة العرب وكل شريعة لا تظهر إلا بلغة فيصير تعلم تلك اللغة آلة ومن الآلات علم كتابة الخط إلا أن ذلك ليس ضرورياً إذ كان رسول الله ﷺ أمياً. ولو تصور استقلال الحفظ بجميع ما يسمع لاستغنى عن الكتابة، ولكنه صار بحكم العجز في الغالب ضرورياً الضرب الرابع المتممات: وذلك في علم القرآن؛ فإنه ينقسم إلى ما يتعلق باللفظ كتعلم القراءات ومخارج الحروف وإلى ما يتعلق بالمعنى كالتفسير؛ فإن اعتماده أيضاً على النقل، إذ اللغة بمجردها لا تستقل به وإلى ما يتعلق بأحكامه كمعرفة الناسخ والمنسوخ والعام والخاص والنص والظاهر. وكيفية استعمال البعض منه مع البعض، وهو العلم الذي يسمى أصول الفقه ويتناول السنة أيضاً. وأما المتممات في الآثار والأخبار فالعلم بالرجال وأسمائهم وأنسابهم وأسماء الصحابة وصفاتهم، والعلم بالعدالة في الرواة، والعلم بأحوالهم ليميز الضعيف عن القوي، والعلم بأعمارهم ليميز المرسل عن المسند وكذلك ما يتعلق به؛ فهذه هي العلوم الشرعية وكلها محمودة بل كلها من فروض الكفايات. فإن قلت. لم ألحقت الفقه بعلم الدنيا?
فاعلم أن الله عز وجل أخرج آدم عليه السلام من التراب وأخرج ذريته من سلالة من طين ومن ماء دافق، فأخرجهم من الأصلاب إلى الأرحام ومنها إلى الدنيا ثم إلى القبر ثم إلى العرض ثم إلى الجنة أو إلى النار؛ فهذا مبدؤهم وهذا غايتهم وهذه منازلهم. وخلق الدينا زاداً للمعاد ليتناول منها ما يصلح للتزود؛ فلو تناولوها بالعدل لانقطعت الخصومات وتعطل الفقهاء ولكنهم تناولوها بالشهوات فتولدت منها الخصومات فمست الحاجة إلى سلطان يسوسهم واحتاج السلطان إلى قانون يسوسهم به؛ فالفقيه هو العالم بقانون السياسة وطريق التوسط بين الخلق إذا تنازعوا بحكم الشهوات؛ فكان الفقيه معلم السلطان ومرشده إلى طرق سياسة الخلق وضبطهم لينتظم باستقامتهم أمورهم في الدنيا، ولعمري إنه متعلق أيضاً بالدين ولكن لا بنفسه بل بواسطة الدنياح فإن الدنيا مزرعة الآخرة، ولا يتم الدين إلا بالدنيا. والملك والدين توأمان؛ فالدين أصل والسلطان حارس، وما لا أصل له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع، ولا يتم الملك والضبط إلا بالسلطان وطريق الضبط في فصل الحكومات بالفقه. وكما أن سياسة الخلق بالسلطنة ليس من علم الدين في الدرجة الأولى؛ بل هو معين على ما لا يتم الدين إلا به، فكذلك معرفة طريق السياسة فمعلوم أن الحج لا يتم إلا ببذرقة تحرس من العرب في الطريق ولكن الحج شيء وسلوك الطريق إلى الحج شيء ثان، والقيام بالحراسة التي لا يتم الحج إلا بها شيء ثالث، ومعرفعة طرق الحراسة وحيلها وقوانينها شيء رابع، وحاصل فن الفقه معرفة طرق السياسة والحراسة ويدل على ذلك ما روي مسنداً "لا يفتي الناس إلا ثلاثة: أمير أو مأمور أو متكلف" فالأمير هو الإمام وقد كانوا هم المفتون، والمأمور نائبه، والمتكلف غيرهما: وهو الذي يتقلد تلك العهدة من غير حاجة. وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يحترزون عن الفتوى، حتى كان يحيل كل منهم على صاحبه، وكانوا لا يحترزون إذا سئلوا عن علم القرآن وطريق الآخرة. وفي بعض الروايات بدل المتكلف: المرائي؛ فإن من تقلد خطر الفتوى وهو غير متعين للحاجة فلا يقصد به إلا طلب الجاه والمال. فإن قلت: هذا إن استقام لك في أحكام الجراحات والحدود والغرامات وفصل الخومات، فلا يستقيم فيما يشتمل عليه ربع العبادات من الصيام والصلا ولا فيما يشتمل عليه ربع العادات من المعاملات من بيان الحلال والحرام؛ فإذا تأملت منتهى نظر الفقيه فيه من الأعمال التي هي أعمال الآخرة ثلاثة: الإسلام والصلاة والزكاة والحلال والحرام؛ فإذا تأملت منتهى نظر الفقيه فيها علمت أنه لا يجاوز حدود الدنيا إلى الآخرة، وإذا عرفت هذا في هذه الثلاثة فهو في غيرها أظهر. أما الإسلام فيتكلم الفقيه فيما يصح منه وفيما يفسد وفي شروطه وليس يلتفت فيه إلا إلى اللسان. وأما القلب فخارج عن ولاية الفقيه لعزل رسول الله ﷺ أرباب السيوف والسلطنة عنه حيث قال "هلا شققت عن قلبه?" للذي قتل من تكلم بكلمة الإسلام معتذراً بأنه قال ذلك من خوف السيف، بل يحكم الفقيه بصحة الإسلام تحت ظلال السيوف، مع أنه يعلم أن السيف لم يكشف له عن نيته ولم يدفع عن قلبه غشاوة الجهل والحيرة، ولكنه مثير على صاحب السيف فإن السيف ممتد إلى رقبته واليد ممتدة إلى ماله وهذه الكلمة باللسان تعصم رقبته وماله ما دام له رقبة ومال، وذلك في الدنيا، ولذلك قال ﷺ "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم" وجعل أثر ذلك في الدم والمال. وأما الآخرة فلا تنفع فيها الأموال بل أنوار القلوب وأسرارها وإخلاصها، وليس ذلك من الفقه، وإن خاض الفقيه فيه كان كما لو خاض في الكلام والطب وكان خارجاً عن فنه. وأما الصلاة فالفقيه يفتي بالصحة إذا أتى بصورة الأعمال مع ظاهر الشروط وإن كان غافلاً في جميع صلاته من أولها إلى آخرها مشغولاً بالتفكير في حساب معاملاته في السوق إلا عند التكبير، وهذه الصلاة لا تنفع في الآخرة، كما أن القول باللسان في الإسلام لا ينفع، ولكن الفقيه يفتي بالصحة أي أن ما فعله حصل به امتثال صيغة الأمر وانقطع به عنه القتل والتعزير، فأما الخشوع وإحضار القلب الذي هو عمل الآخرة وبه ينفع العمل الظاهر لا يتعرض له الفقيه ولو تعرض له لكان خارجاً عن فنه، وأما الزكاة فالفقيه ينظر إلى
ما يقطع به مطالبة السلطان حتى إنه إذا امتنع عن أدائها فأخذها السلطان قهراً حكم بأنه برئت ذمته. وحكى أن أبا يوسف القاضي كان يهب ماله لزوجته آخر الحول ويستوهب مالها إسقاطاً للزكاة، فحكى ذلك لأبي حنيفة رحمه الله فقال ذلك من فقهه. وصدق فإن ذلك من فقه الدنيا ولكن مضرته في الآخرة أعظم من كل جناية، ومثل هذا هو العلم الضار. وأما الحلال والحرام فالورع عن الحرام من الدين، ولكن الورع له أربع مراتب الأولى الورع الذي يشترط في عدالة الشهادة: وهو الذي يخرج بتركه الإنسان عن أهلية الشهادة والقضاء والولاية وهو الاحتراز عن الحرام الظاهر الثانية ورع الصالحين: وهو التوقي من الشبهات التي يتقابل فيها الاحتمالات. قال ﷺ "دع ما يريبك إلى ما يريبك" وقال ﷺ "الإثم حزاز القلوب" الثالثة ورع المتقين وهو ترك الحلال المحض الذي يخاف مه أداؤه إلى الحرام. قال ﷺ "لا يكون الرجل من المتقين حتى يدع ما لا بأس به مخافة مما به بأس" وذلك مثل التورع عن التحدث بأحوال الناس خيفة م الانجرار إلى الغيبة، والتورع عن أكل الشهوات خيفة من هيجان النشاط والبطر المؤدي إلى مقارفة المحظورات الرابعة ورع الصديقين وهو الإعراض عما سوى الله تعالى خوفاً من صرف ساعة من العمر إلى ما لا يفيد زيادة قرب عند الله عز وجل وإن كان يعلم ويتحقق أنه لا يفضي إلى حرام، فهذه الدرجات كلها خارجة عن نظر الفقيه إلا الدرجة الأولى: وهو ورع الشهود والقضاء وما يقدح في العدالة والقيام بذلك لا ينفي الإثم في الآخرة، قال رسول الله ﷺ لوابصة "استفت قلبك وإن أفتوك وإن أفتوك وإن أفتوك" والفقيه لا يتكلم في حزازات القلوب وكيفية العمل بها بل فيما يقدح في العدالة فقط، فإن جميع نظر الفقيه مرتبط بالدنيا التي بها صلاح طريق الآخرة، فإن تكلم في شيء من صفات القلب وأحكام الآخرة فذلك يدخل في كلامه على سبيل التطفل كما قد يدخل في كلامه شيء من الطب والحساب والنجوم وعلم الكلام، وكما تدخل الحكمة في النحو والشعر. وكان سفيان الثوري وهو إمام في علم الظاهر يقول: إن طلب هذا ليس من زاد الآخرة، كيف وقد اتفقوا على أن الشرف في العلم العمل به فكيف يظن أنه علم الظهار واللعان والسلم والإجارة والصرف، ومن تعلم هذه الأمور ليتقرب بها إلى الله تعالى فهو مجنون، وإنما العمل بالقلب والجوارح في الطاعات، والشرف هو تلك الأعمال. فإن قلت: لم سويت بين الفقه والطب إذ الطب أيضاً يتعلق بالدنيا وهو صحة الجسد وذلك يتعلق به أيضاً صلاح الدين، وهذه التسوية تخالف إجماع المسلمين? فاعلم أن التسوية غير لازمة بل بينهما فرق، وأن الفقه أشرف منه من ثلاثة أوجه أحدها أنه علم شرعي إذ هو مستفاد من النبوة، بخلاف الطب فإنه ليس من علم الشرع والثاني أنه لا يستغني عنه أحد من سالكي طريق الآخرة ألبتة لا الصحيح ولا المريض. وأما الطب فلا يحتاج إليه إلا المرضى وهم الأقلون والثالث أن علم الفقه مجاور لعلم طريق الآخرة لأنه نظر في أعمال الجوارح، ومصدر أعمال الجوارح ومنشؤها صفات القلوب، فالمحمود من الأعمال يصدر عن الأخلاق المحمودة المنجية في الآخرة، والمذموم يصدر من المذموم، وليس يخفى اتصال الجوارح بالقلب. وأما الصحة والمرض فمنشؤهما صفاء في المزاج والأخلاط وذلك من أوصاف البدن لا من أوصاف القلب، فمهما أضيف الفقه إلى الطب ظهر شرفه، وإذا أضيف علم طريق الآخرة إلى الفقه ظهر أيضاً شرف علم طريق الآخرة. فإن قلت: فصل لي علم طريق الآخرة تفصيلاً يشير إلى تراجمه وإن لم يمكن استقصاء تفاصيله. فاعلم أنه قسمان: علم مكاشفة وعلم معاملة، فالقسم الأول علم المكاشفة وهو علم الباطن وذلك غاية العلوم، فقد قال بعض العارفين: من لم يكن له نصيب من هذا العلم أخاف عليه سوء الخاتمة، وأدنى نصيب منه التصديق به وتسليمه لأهله. وقال آخر: من كان فيه خصلتان لم يفتح له بشيء من هذا العلم: بدعة، أو كبر. وقيل: من كان محباً للدنيا أو مصراً على هوى لم يتحقق به وقد يتحقق بسائر العلوم، وأقل عقوبة من ينكره أنه لا يذوق منه شيئاً وينشد على قوله:
وهو علم الصديقين والمقربين، أعني علم المكاشفة فهو عبارة عن نور يظهر في القلب عند تطهيره وتزكيته من صفاته المذمومة، وينكشف من ذلك النور أمور كثيرة كان يسمع من قبل أسماءها فيتوهم لها معاني مجملة غير متضحة، فتتضح إذ ذاك حتى تحصل المعرفة الحقيقية بذات الله سبحانه، وبصفاته الباقيات التامات، وبأفعاله، وبحكمة في خلق الدنيا والآخرة، ووجه ترتيبه للآخرة على الدنيا، والمعرفة بمعنى النبوة والنبي، ومعنى الوحي، ومعنى الشيطان، ومعنى لفظ الملائكة والشياطين للإنسان، وكيفية ظهور الملك للأنبياء، وكيفية وصول الوحي إليهم، والمعرفة بملكوت السموات والأرض، ومعرفة القلب وكيفية تصادم جنود الملائكة والشياطين فيه، ومعرفة الفرق بين لمة الملك ولمة الشيطان، ومعرفة الآخرة والجنة والنار وعذاب القبر والصراط والميزان والحساب، ومعنى قوله تعالى "اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً" ومعنى قوله تعالى "وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون" ومعنى لقاء الله عز وجل والنظر إلى وجهه الكريم ومعنى القرب منه والنزول في جواره، ومعنى حصول السعادة بمرافقة الملأ الأعلى ومقارنة الملائكة والنبيين، ومعنى تفاوت درجات أهل الجنان حتى يرى بعضهم البعض كما يرى الوكب الدري في جوف السماء إلى غير ذلك مما يطول تفصيله، إذ للناس في معاني هذه الأمور بعد التصديق بأصولها مقامات شتى، فبعضه يرى أن جميع ذلك أمثلة وأن الذي أعده الله لعباده الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وأنه ليس مع الخلق من الجنة إلا الصفات والأسماء. وبعضهم يرى أن بعضها أمثلة وبعضها يوافق حقائقها المفهومة من ألفاظها، وكذا يرى بعضهم أن منتهى معرفة الله عز وجل الاعتراف بالعجز عن معرفته، وبعضهم يدعي أموراً عظيمة في المعرفة بالله عز وجل، وبعضهم يقول حد معرفة الله عز وجل ما انتهى إليه اعتقاد جميع العوام: وهو أنه موجود عالم قادر سميع بصير متكلم، فنعني بعلم المكاشفة أن يرتفع الغطاء حتى تنضج له جلية الحق في هذه الأمور اتضاحاً يجري مجرى العيان الذي لا يشك فيه، وهذا ممكن في جوهر الإنسان لولا أن مرآة القلب قد تراكم صدؤها وخبثها بقاذورات الدنيا، وإنما نعني بعلم طريق الآخرة: العلم بكيفية تصقيل هذه المرأة عن هذه الخبائث التي هي الحجاب عن الله سبحانه وتعالى وعن معرفة صفاته وأفعاله، وإنما تصفيتها وتطهيرها بالكف عن الشهوات والافتداء بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم في جميع أحوالهم، فبقدر ما ينجلي من القلب ويحاذي به شطر الحق يتلألأ فيه حقائقه، ولا سبيل إليه إلا بالرياضة التي يأتي تفصيلها في موضعها، وبالعلم والتعليم، وهذه هي العلوم التي لا تسطر في الكتب ولا يتحدث بها من أنعم الله عليه بشيء منها إلا مع أهله، وهو المشارك فيه على سبيل المذاكرة، وبطريق الأسرار، وهذا هو العلم الخفي الذي أراده ﷺ بقوله "إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا أهل المعرفة بالله تعالى، فإذا نطقوا به لم يجهله إلا أهل الاغترار بالله تعالى فلا تحقروا عالماً آتاه الله تعالى علماً منه، فإن الله عز وجل لم يحقره إذ آتاه إياه" وأما القسم الثاني: وهو علم المعاملة، فهو علم أحوال القلب: أما ما يحمد منها فكالصبر، والشكر، والخوف؛ والرجاء، والرضا، والزهد، والتقوى، والقناعة، والسخاء، ومعرفة المنة لله تعالى في جميع الأحوال، والإحسان، وحسن الظن، وحسن الخلق، وحسن المعاشرة، والصدق، والإخلاص، فمعرفة حقائق هذه الأحوال وحدودها وأسبابها التي بها تكتسب وثمرتها وعلامتها ومعالجة ما ضعف منها حتى يقوى ومازال حتى يعود من علم الآخرة، وأما ما يذم، فخوف الفقر، وسخط المقدور، والغل، والحقد، والحسد، والغش، وطلب العلو، وحب الثناء، وحب طول البقاء في الدنيا للتمتع، والكبر، والرياء، والغضب، والأنفة، والعداوة، والبغضاء والطمع، والبخل، والرغبة، والبذخ، والأشر، والبطر، وتعظيم الأغنياء، والاستهانة بالفقراء، والفخر، والخيلاء، والتنافس، والمباهاة والاستكبار عن الحق، والخوض فيما لا يعني، وحب كثرة الكلام، والصلف، والتزين للخلق، والمداهنة، والعجب، والاشتغال عن عيوب النفس بعيوب الناس، وزوال الحزن من القلب، وخروج الخشية منه، وشدة الانتصار للنفس إذا نالها الذل، وضعف الانتصار
للحق، واتخاذ إخوان العلانية على عداوة السر، والأمن من مكر الله سبحانه وتعالى في سلب ما أعطى، والاتكال على الطاعة، والمكر، والخيانة، والمخادعة وطول الأمل، والقسوة، والفظاظة، والفرح بالدنيا والأسف على فواتها، والأنس بالمخلوقين والوحشة لفراقهم والجفاء، والطيش، والعجلة، وقلة الحياء، وقلة الرحمة، فهذه وأمثالها من صفات القلب مغارس الفواحش ومنابت الأعمال المحظورة. وأضدادها - وهي الأخلاق المحمودة - منبع الطاعات والقربات، فالعلم بحدود هذه الأمور وحقائقها وأسبابها وثمراتها وعلاجها هو علم الآخرة، وهو فرض عين في فتوى علماء الآخرة، فالمعرض عنها هالك بسطوة ملك الملوك في الآخرة، كما أن المعرض عن الأعمال الظاهرة هالك بسيف سلاطين الدنيا بحكم فتوى فقهاء الدنيا، فنظر الفقهاء في فروض العين بالإضافة إلى صلاح الدنيا، وهذا بالإضافة إلى صلاح الآخرة.
ولو سئل فقيه عن معنى من هذه المعاني حتى عن الإخلاص مثلاً أو عن التوكل أو عن وجه الاحتراز عن الرياء لتوقف فيه مع أنه فرض عينه الذي في إهماله هلالكه في الآخرة، ولو سألته عن اللعان والظهار والسبق والرمي لسرد عليك مجلدات من التفريعات الدقيقة التي تنقضي الدهور ولا يحتاج إلى شيء منها، وإن احتيج لم تخل البلد عمن يقوم بها ويكفيه مؤنة التعب فيها، فلا يزال يتعب فيها ليلاً ونهاراً وفي حفظه ودرسه يغفل عما هو مهم في نفسه في الدين، وإذا روجع فيه قال: اشتغلت به لأنه علم الدين وفرض الكفاية ويلبس على نفسه وعلى غيره في تعلمه، والفطن يعلم أنه لو كان غرضه أداء حق الأمر في فرض الكفاية لقدم عليه فرض العين، بل قدم عليه كثيراً من فروض الكفايات؛ فكم من بلدة ليس فيها طبيب إلا من أهل الذمة ولا يجوز قبول شهادتهم فيما يتعلق بالأطباء من أحكام الفقه، ثم لا نرى أحداً يشتغل به، ويتهاترون على علم الفقه لاسيما الخلافيات والجدليات والبلد مشحون من الفقهاء بمن يشتغل بالفتوى والجواب عن الوقائع؛ فليت شعري كيف يرخص فقهاء الدين في الاشتغال بفرض كفاية قد قام به جماعة وإهمال ما لا قائم به? هل لهذا سبب إلا أن الطب ليس يتيسر الوصول به إلى تولي الأوقاف والوصايا وحيازة مال الأيتام وتقلد القضاء والحكومة والتقدم به على الأقران والتسلط به على الأعداء? هيهات هيهات، قد اندرس علم الدين بتلبيس العلماء السوء؛ فالله تعالى المستعان وإليه الملاذ في أن يعيذنا من هذا الغرور الذي يسخط الرحمن ويضحك الشيطان، وقد كان أهل الورع من علماء الظاهر مقرين بفضل علماء الباطن وأرباب القلوب: كان الإمام الشافعي رضي الله عنه يجلس بين يدي شيبان الراعي كما يقعد الصبي في المكتب ويسأله: كيف يفعل في كذا وكذا? فيقال له: مثلك يسأل هذا البدوي? فيقول: إن هذا وفق لما أغفلناه. وكان أحمد بن حنبل رضي الله عنه ويحيى بن معين يختلفان إلى معروف الكرخي ولم يكن في علم الظاهر بمنزلتهما وكانا يسألانه، وكيف وقد قال رسول الله ﷺ، لما قيل له كيف نفعل إذا جاءنا أمر لم نجده في كتاب ولا سنة? فقال ﷺ "سلوا الصالحين واجعلوه شورى بينهم" ولذلك قيل: علماء الظاهر زينة الأرض والملك، وعلماء الباطن زينة السماء والملكوت. وقال الجنيد رحمه الله قال لي السري شيخي يوماً: إذا قمت من عندي فمن تجالس? قلت: المحاسبي، فقال: نعم خذ من علمه وأدنه، ودع عنك تشقيقه الكلام ورده على المتكلمين، ثم لما وليت سمعته يقول: جعلك الله صاحب حديث صوفياً ولا جعلك صوفياً صاحب حديث: أشار إلى أن من حصل الحديث والعلم ثم تصوف أفلح، ومن تصوف قبل العلم خاطر بنفسه. فإن قلت: فلم لم تورد في أقسام العلوم: الكلام والفلسفة، وتبين أنهما مذمومان أو محمودان? فاعلم أن حاصل ما يشتمل عليه علم الكلام من لادلة التي ينتفع بها، فالقرآن والأخبار مشتملة عليه، وما خرج عنهما فهو إما مجادلة مذمومة وهي من البدع كما سيأتي بيانه، وإما مشاغبة بالتعلق بمناقضات الفرق لها، وتطويل بنقل لمقالات التي أكثرها ترهات وهذيانات تزدريها الطباع وتمجها الأسماع، وبعضها خوض فيما لا يتعلق بالدين ولم يكن شيء منه مألوفاً في العصر الأول وكان الخوض فيه بالكلية من البدع، ولكن تغير الآن حكمه إذ حدثت البدعة الصارفة عن مقتضى القرآن والسنة، ونجت جماعة لفقهوا لها شبهاً ورتبوا فيها كلاماً مؤلفاً، فصار ذلك المحذور بحكم الضرورة مأذوناً فيه، بل صار من فروض الكفايات وهو القدر الذي يقابل به المبتدع إذا قصد الدعوة إلى البدعة، وذلك إلى حد محدود - سنذكره في الباب الذي يلي هذا إن شاء الله تعالى - وأما الفلسفة فليست علماً برأسها بل هي أربعة أجزاء أحدها الهندسة والحساب، وهما مباحان كما سبق ولا يمنع عنهما إلا من يخاف عليه أن يتجاوز بهما إلى علوم مذمومة؛ فإن أكثر الممارسين لهما قد خرجوا منهما إلى البدع، فيصان الضعيف عنهما - لا لعينهما - كما يصان عصبى عن شاطىء النهر خيفة عليه من الوقوع في النهر وكما يصان حديث العهد بالإسلام عن مخالطة الكفار خوفاً عليه، مع أن القوي لا يندب إلى مخالطتتهم الثاني المنطق وهو بحث عن وجه الدليل وشروطه، ووجه لحد وشروطه، وهما داخلان في علم الكلام أيضاً، والفلاسفة لم ينفردوا فيها بنمط آخر من
العلم، بل انفردوا بمذاهب: بعضها كفر وبعضها بدعة، وكما أن الاعتزال ليس علماً برأسه بل أصحابه طائفة من المتكلمين وأهل البحث والنظر انفردوا بمذاهب باطلة، فكذلك الفلاسفة والرابع الطبيعيات، وبعضها مخالف للشرع والدين والحق، فهو جهل وليس بعلم حتى نورده في أقسام العلوم، وبعضها بحث عن صفات الأجسام وخواصها وكيفية استحالتها وتغيرها، وهو شبيه بنظر الأطباء؛ إلا أن الطبيب ينظر في بدن الإنسان على الخصوص من حيث يمرض ويصح، وهم ينظرون في جميع الأجسام من حيث تتغير وتتحرك؛ ولكن للطب فضل عليه وهو أنه محتاج إليه. وأما علومهم في الطبيعيات فلا حاجة إليها فإذن الكلام صار من جملة الصناعات الواجبة على الكفاية حراسة لقلوب العوام عن تخيلات المبتدعة، وإنما حدث ذلك بحدوث البدع كما حدثت حاجة الإنسان إلى استئجار البذرقة في طريق الحج بحدوث ظلم العرب وقطعهم الطريق؛ ولو ترك العرب عدوانهم لم يكن استئجار الحراس من شروط طريق الحج؛ فلذلك لو ترك المبتدع هذيانه لما افتقر إلى الزيادة على ما عهد في عصر الصحابة رضي الله عنهم؛ فليعلم المتكلم حده من الدين وأن موقعه منه موقع الحارس في طريق الحج؛ فإذا تجرد الحارس للحراسة لم يكن من جملة الحاج، والمتكلم إذا تجرد للمناظرة والمدافعة ولم يسلك طريق الآخرة ولم يشتغل بتعهد القلب وصلاحه لم يكن من جملة علماء الدين أصلاً، وليس عند المتكلم من الدين إلا العقيدة التي شاركه فيها سائر العوام وهي من جملة أعمال ظاهر القلب واللسان، وإنما يتميز عن العامي بصنعة المجادلة والحراسة، فأما معرفة الله تعالى وصفاته وأفعاله وجميع ما أشرنا إليه في علم المكاشفة فلا يحصل من علم الكلام، بل يكاد أن يكون الكلام حجاباً عليه ومانعاً عنه، وإنما الوصول إليه المجاهدة التي جعلها الله سبحانه مقدمة للهداية حيث قال تعالى "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين" فإن قلت: فقد رددت حد المتكلم إلى حراسة عقيدة العوام عن تشويش المبتدعة، كما أن حد البذرقة حراسة أقمشة الحجيج عن نهب العرب، ورددت حد الفقيه إلى حفظ القانون الذي به يكف السلطان شر بعض أهل العدوان عن بعض، وهاتان رتبتان نازلتان بالإضافة إلى علم الدين، وعلماء الأمة المشهورون بالفضل هم الفقهاء والمتكلمون وهم أفضل الخلق عند الله تعالى، فكيف تنزل درجاتهم إلى هذه المنزلة السافلة بالإضافة إلى علم الدين? فاعلم أن من عرف الحق بالرجال حار في متاهات الضلال، فاعرف الحق تعرف أهله إن كنت سالكاً طريق الحق، وإن قنعت بالتقليد والنظر إلى ما اشتهر من درجات الفضل بين الناس فلا تغفل عن الصحابة وعلو منصبهم، فقد أجمع الذين عرضت بذكرهم على تقدمهم وأنهم لا يدرك في الدين شأوهم ولا يشق غبارهم ولم يكن تقدمهم بالكلام والفقه بل بعلم الآخرة وسلوك طريقها، وما فضل أبو بكر رضي الله عنه الناس بكثر صيام ولا صلاة ولا بكثرة رواية ولا فتوى ولا كلام، ولكن بشيء وقر في صدره كما شهد له سيد المرسلين صلى الله تعالى عليه وسلم؛ فليكن حرصك في طلب ذلك السر فهو الجوهر النفيس والدر المكنون، ودع عنك ما تطابق أكثر الناس عليه وعلى تفخيمه وتعظيمه لأسباب ودواع يطول تفصيلها، فلقد قبض رسول اله ﷺ عن آلاف من الصحابة رضي الله عنهم كلهم علماء بالله، أثنى عليهم رسول الله ﷺ، ولم يكن فيهم أحد يحسن صنعة الكلام، ولا نصب نفسه للفتيا منهم أحد إلا بضعة عشر رجلاً، ولقد كان ابن عمر رضي الله عنهما منهم، وكان إذا سئل عن الفتيا يقول للسائل: اذهب إلى فلان الأمير الذي تقلد أمور الناس، وضعها في عنقه إشارة إلى أن الفتيا في القضايا والأحكام م توابع الولاية والسلطنة، ولما مات عمر رضي الله عنه قال ابن مسعود: مات تسعة أعشار العلم، فقيل له: أتقول ذلك وفينا جلة الصحابة? فقال: لم أرد علم الفتيا والاحكام إنما أريد العلم بالله تعالى، أفترى أنه أراد صنعة الكلام والجدل، فما بالك لا تحرص على معرفة ذلك العلم الذي مات بموت عمر تسعة أعشاره، وهو الذي سد باب الكلام والجدل وضرب ضبيعاً بالدرة لما أورد عليه سؤالاً في تعارض آيتين في كتاب الله، وهجره وأمر الناس بهجره وأما قولك إن المشهورين من العلماء هم الفقهاء والمتكلمون، فاعلم أن ما ينال به الفضل عند الله شيء وما ينال به
الشهرة عند الناس شيء آخر؛ فلقد كان شهرة أبي بكر الصديق رضي الله عنه بالخلافة وكان فضله بالسر الذي وقر في قلبه وكان شهرة عمر رضي الله عنه بالسياسة وكان فضله بالعلم الذي مات تسعة أعشاره بموته، وبقصده التقرب إلى الله عز وجل في ولايته وعدله وشفقته على خلقه، وهو أمر باطن في سره، فأما سائر أفعاله الظاهرة فيتصور صدورها من طالب الجاه والاسم والسمعة والراغب في الشهرة، فتكون الشهرة فيما هو المهلك، والفضل فيما هو سر لا يطلع عليه أحد، فالفقهاء والمتكلمون مثل الخلفاء والقضاة والعلماء، وقد انقسموا، فمنهم من أراد الله سبحانه بعلمه وفتواه وذبه عن سنة نبيه ولم يطلب به رياء ولا سمعة، فأولئك أهل رضوان الله تعالى وفضلهم عند الله لعملهم بعلمهم ولإرادتهم وجه الله سبحانه بفتواهم ونظرهم، فإن كل علم عمل فإنه فعل مكتسب، وليس كل عمل علماً، والطبيب يقدر على التقرب إلى الله تعالى بعلمه فيكون مثاباً على علمه من حيث إنه عامل لله سبحانه وتعالى به، والسلطان يتوسط بين الخلق لله فيكون مرضياً عند الله سبحانه ومثاباً، لا من حيث إنه متكفل بعلم الدين، بل من حيث هو متقلد بعمل يقصد به التقرب إلى الله عز وجل بعلمه. وأقسام ما يتقرب به إلى الله تعالى ثلاثة: علم مجرد وهو علم المكاشفة، وعمل مجرد وهو كعدل السلطان مثلاً وضبطه للناس، ومركب من عمل وعلم وهو علم طريق الآخرة فإن صاحبه من العلماء والعمال جميعاً، فانظر إلى نفسك أتكون يوم القيامة في حزب علماء الله، وأعمال الله تعالى، أوفى حزبهما فتضرب بسهمك مع كل فريق منهما، فهذا أهم عليك من التقليد لمجرد الاشتهار كما قيل: خذ ما تراه ودع شيئاً سمـعـت بـه في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل
على أنا سننقل من سيرة فقهاء السلف ما تعلم به أن الذين انتحلوا مذاهبهم ظلموهم وأنهم من أشد خصمائهم يوم القيامة فإنهم ما قصدوا بالعلم إلا وجه الله تعالى، وقد شوهد من أحوالهم ما هو من علامات علماء الآخرة كما سيأتي بيانه في باب علامات علماء الآخرة، فإنهم ما كانوا متجردين لعلم الفقه، بل كانوا مشتغلين بعلم القلوب ومراقبين لها، ولكن صرفهم عن التدريس والتصنيف فيه ما صرف الصحابة عن التصنيف والتدريس في الفقه، مع أنهم كانوا فقهاء مستقلين بعلم الفتوى والصوارف والدواعي متيقنة، ولا حاجة إلى ذكرها.
ونحن الآن نذكر من أحوال فقهاء الإسلام ما تعلم به أن ما ذكرناه ليس طعناً فيهم بل هو طعن فيمن أظهر الاقتداء بهم منتحلاً مذاهبهم وهو مخالف لهم في أعمالهم وسيرهم، فالفقهاء الذين هم زعماء الفقه وقادة الخلق - أعني الذين كثر أتباعهم في المذاهب خمسة: الشافعي، ومالك، وأحمد بن حنبل، وأبو حنيفة، وسفيان الثوري رحمهم الله تعالى. وكل واحد منهم كان عابداً وزاهداً وعالماً بعلوم الآخرة وفقيهاً في مصالح الخلق في الدنيا ومربداً بفقهه وجه الله تعالى، فهذه خمس خصال اتبعهم فقهاء العصر من جملتها على خصلة واحدة وهي التسمير والمبالغة في تفاريع الفقه، لأن الخصال الأربع لا تصلح إلا للآخرة، وهذه الخصلة الواحدة تصلح الدنيا والآخرة، إن أريد بها الآخرة قل صلاحها للدنيا شمروا لها وادعوا بها مشابهة أولئك الأئمة، وهيهات أن تقاس الملائكة بالحدادين، فلنورد الآن من أحوالهم ما يدل على هذه الخصال الأربع، فإن معرفتهم بالفقه ظاهرة.
أما الإمام الشافعي رحمه الله تعالى فيدل على أنه كان عابداً: ما روي أنه كان يقسم الليل ثلاثة أجزاء: ثلثا العلم، وثلثاً للعبادة. وثلثاً للنوم. قال الربيع: كان الشافعي رحمه الله يختم القرآن في رمضان ستين مرة كل ذلك في الصلاة. وكان البويطي أحد أصحابه يختم القرآن في رمضان في كل يوم مرة. وقال الحسن الكرابيسي: بت مع الشافعي غير ليلة فكان يصلي نحواً من ثلث الليل فما رأيته يزيد على خمسين آية، فإذا أكثر فمائة آية، وكان لا يمر بآية رحمة إلا سأل الله لنفسه ولجميع المسلمين والمؤمنين، ولا يمر بآية عذاب غلا تعوذ فيها وسأل النجاة لنفسه وللمؤمنين، وكأنما جمع له الرجاء والخوف معاً، فانظر كيف يدل اقتصاره على خمسين آية على تبحره في أسرار القرآن وتدبره فيها وقال الشافعي رحمه الله: ما شبعت منذ ست عشرة سنة لأن الشبع يثقل البدن ويقسي القلب ويزيل الفطنة ويجلب النوم ويضعف صاحبه عن العبادة، فانظر إلى حكمته في ذكر آفات الشبع، ثم في جده في العبادة، إذ طرح الشبع لأجلها، ورأس التعبد تقليل الطعام. وقال الشافعي رحمه الله: ما حلفت بالله تعالى لا صادقاً ولا كاذباً قط، فانظر إلى حرمته وتوقيره لله تعالى، ودلالة ذلك على علمه بجلال الله سبحانه. وسئل الشافعي رضي الله عنه عن مسئلة فكست، فقيل له: ألا تجيب رحمك الله? فقال: حتى أدري الفضل في سكوتي أو في جوابي? فانظر في مراقبته للسانه مع أنه أشد الأعضاء تسلطاً على الفقهاء وأعصاها على الضبط والقهر، وبه يستبين أنه كان لا يتكلم ولا يسكت لا لنيل الفضل وطلب الثواب. وقال أحمد بن يحيى بن الوزير: خرج الشافعي رحمه الله تعالى يوماً من سوق القناديل فتبعناه فإذا رجل يسفه على رجل من أهل العلم، فالتفت الشافعي إلينا وقال: نزهوا أسماعكم عن استماع الخنا كما تنزهون ألسنتكم عن النطق به، فإن المستمع شريك القائل، وإن السفيه لينظر إلى أخبث شيء في إنائه فيحرص أن يفرغه في أوعيتكم ولو ردت كلمة السفيه لسعد رادها كما شقي بها قائلها. وقال الشافعي رضي الله عنه: كتب حكيم إلى حكيم: قد أوتيت علماً فلا تدنس علمك بظلمة الذنوب فتبقى في الظلمة يوم يسعى أهل العلم بنور علمهم. وأما زهده رضي الله عنه فقد قال الشافعي رحمه الله: من ادعى أنه جمع بين حب الدنيا وحب خالقها في قلبه فقد كذب. وقال الحميدي: خرج الشافعي رحمه الله إلى اليمن مع بعض الولاة فانصرف إلى مكة بعشرة آلاف درهم فضرب له خباء في موضع خارجاً عن مكة فكان الناس يأتونه، فما برح من موضعه ذلك حتى فرقها كلها. وخرج من الحمام مرة فأعطى الحمامي مالاً كثيراً. وسقط سوطه من يده مرة فرفعه إنسان إليه فأعطاه جزاء عليه خمسين ديناراً. وسخاوة الشافعي رحمه الله أشهر من أن تحكى ورأس الزهد السخاء، لأن من أحب شيئاً أمسكه ولم يفارق المال إلا من صغرت الدنيا في عينه وهو معنى الزهد. ويدل على قوة زهده وشدة خوفه من الله تعالى واشتغال همته بالآخرة: ما روي أنه روى سفيان بن عيينة حديثاً في الرقائق فغشي على الشافعي فقيل له: قد مات، فقال: إن مات فقد مات أفضل زمانه. وما روى عبد الله بن محمد البلوي قال: كنت أنا وعمر بن نباتة جلوساً نتذاكر العباد والزهاد فقال لي عمر: ما رأيت أورع ولا أفصح من محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه: خرجت أنا وهو والحارث بن لبيد إلى الصفا وكان الحارث تلميذ الصالح المري فافتتح يقرأ وكان حسن الصوت، فقرأ هذه الآية عليه "هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون" فرأيت الشافعي رحمه الله وقد تغير لونه واقشعر جلده واضطرب اضطراباً شديداً وخر مغشياً عليه فلما أفاق جعل يقول: أعوذ بك من مقام الكاذبين وإعراض الغافلين، اللهم لك خضعت قلوب العارفين وذلت لك رقاب المشتاقين، إلهي هب لي جودك وجللني بسترك واعف عن تقصيري بكرم وجهك. قال: ثم مشى وانصرفنا فلما دخلت بغداد وكان هو بالعراق فقعدت على الشط أتوضأ للصلاة إذ مر بي رجل فقال لي: يا غلام أحسن وضوءك أحسن الله إليك في الدنيا والآخرة، فالتفت فإذا أنا برجل يتبعه جماعة، فأسرعت في وضوئي وجعلت أقفو أثره، فالتفت إلي فقال: هل لك من حاجة? فقلت: نعم، تعلمني مما علمك الله شيئاً، فقال لي اعلم أن من صدق الله نجا، ومن أشفق على دينه سلم من الردى، ومن زهد في الدنيا قرت عيناه مما يراه من ثواب الله
تعالى غداً، أفلا أزيدك? قلت: نعم. قال من كان فيه ثلاث خصال فقد استكمل الإيمان: من أمر بالمعروف وائتمر ونهى عن المنكر وانتهى،، وحافظ على حدود الله تعالى، ألا أزيدك? قلت بلى، فقال: كن في الدنيا زاهداً وفي الآخرة راغباً واصدق الله تعالى في جميع أمورك تنج مع الناجين، ثم مضى، فسألت: من هذا? فقالوا: هو الشافعي فانظر إلى سقطوطه مغشياً عليه ثم إلى وعظه كيف يدل ذلك على زهده وغاية خوفه! ولا يحصل هذا الخوف والزهد إلا من معرفة الله عز وجل فإنه "إنما يخشى الله من عباده العلماء" ولم يستفد الشافعي رحمه الله هذا الخوف والزهد من علم كتاب السلم والإجارة وسائر كتب الفقه، بل هو من علوم الآخرة المستخرجة من القرآن والأخبار إذ حكم الأولين والآخرين مودعة فيهما. وأما كونه عالماً بأسرار القلب وعلوم الآخرة فتعرفه من الحكم المأثورة عنه، روي أنه سئل عن الرياء فقال على البديهة: الرياء فتنة عقدها الهوى حيال أبصار قلوب العلماء فنظروا إليها بسوء اختيار النفوس فأحبطت أعمالهم. وقال الشافعي رحمه الله تعالى: إذا أنت خفت على عملك العجب فانظر رضا من تطلب? وفي أي ثواب ترغب? ومن أي عقاب ترهب? وأي عافية تشكر? وأي بلاء تذكر? فإنك إذا تفكرت في واحد من هذه الخصال صغر في عينك عملك، فانظر كيف ذكر حقيقة الرياء وعلاج العجب وهما من كبار آفات القلب! وقال الشافعي رضي الله عنه: من لم يصن نفسه لم ينفعه علمه. وقال رحمه الله: من أطاع الله تعالى بالعلم نفعه سره. وقال: ما من أحد إلا له محب ومبغض، فإذا كان كذلك فكن مع أهل طاعة الله عز وجل، وروي أن عبد القاهر بن عبد العزيز كان رجلاً صالحاً ورعاً وكان يسأل الشافعي رضي الله عنه عن مسائل في الورع والشافعي رحمه الله يقبل عليه لورعه، وقال للشافعي يوماً: أيما أفضل الصبر أو المحنة أو التمكين، فقال الشافعي رحمه الله: التمكين درجة الأنبياء، ولا يكون التمكين إلا بعد المحنة، فإذا امتحن صبر وإذا صبر مكن؛ ألا ترى أن الله عز وجل امتحن إبراهيم عليه السلام ثم مكنه، وامتحن موسى عليه السلام ثم مكنه، وامتحن أيوب عليه السلام ثم مكنه، وامتحن سليمان عليه السلام ثم مكنه وآتاه ملكاً، والتمكين أفضل الدرجات، قال الله عز وجل "وكذلك مكنا ليوسف في الأرض" وأيوب عليه السلام بعد المحنة العظيمة مكن، قال الله تعالى "وآتيناه أهله ومثلهم معهم - الآية" فهذا الكلام من الشافعي رحمه الله يدل على تبحره في أسرار القرآن واطلاعه على مقامات السائرين إلى الله تعالى من الأنبياء والأولياء، وكل ذلك من علوم الآخرة. وقيل للشافعي رحمه الله: متى يكون الرجل عالماً? قال: إذا تحقق في علم الدين فعلمه وتعرض لسائر العلوم فنظر فيما فاته فعند ذلك يكون عالماً، فإنه قيل لجالينوس إنك تأمر للداء الواحد بالأدوية الكثيرة المجمعة! فقال: إنما المقصود منها واحد وإنما يجعل معه غيره لتسكن حدته لأن الإفراد قاتل، فهذا وأمثاله مما لا يحصى يدل على علو رتبته في معرفة الله تعالى وعلوم الآخرة. وأما إرادته بالفقه والمناظرة فيه وجه الله تعالى: فيدل عليه ما روي عنه قال: وددت أن الناس انتفعوا بهذا العلم وما نسب إلى شيء منه، فانظر كيف اطلع على آفة العلم وطلب الاسم له وكيف الاسم له وكيف كان منزه القلب عن الالتفات إليه مجرد النية فيه لوجه الله تعالى.وقال الشافعي رضي الله عنه. ما ناظرت أحداً قط فأحببت أن يخطىء. وقال: ما كلمت أحداً قط إلا أحببت أن يوفق ويسدد ويعان ويكون عليه رعاية من الله تعالى وحظف، وما كلمت أحداً قط وأنا أبالي أن يبين الله الحق على لساني أو على لسانه: وقال: ما أوردت الحق والحجة على أحد فقبلها مني إلا هبته واعتقدت محبته، ولا كابرني أحد على الحق ودافع الحجة إلا سقط من عيني ورفضته، فهذه العلامات هي التي تدل على إرادة الله تعالى بالفقه والمناظرة، فانظر كيف تابعه الناس من جملة هذه الخصال الخمس على خصلة واحدة فقط، ثم كيف خالفوه فيها أيضاً، ولهذا قال أبو ثور رحمه الله: ما رأيت ولا رأى الراءون مثل الشافعي رحمه الله تعالى.
وقال أحمد بن حنبل رضي الله عنه: ما صليت صلاة منذ أربعين سنة إلا وأنا أدعو للشافعي رحمه الله تعالى، فانظر إلى إنصاف الداعي وإلى درجة المدعو له وقس به الأقران والأمثال من العلماء في هذه الأعصار وما بينهم من المشاحنة والبغضاء لتعلم تقصيرهم في دعوى الاقتداء بهؤلاء، ولكثرة دعائه له قال له ابنه: أي رجل كان الشافعي حتى تدعو له كل هذا الدعاء? فقال أحمد: يا بني كان الشافعي رحمه الله تعالى كالشمس للدنيا وكالعافية للناس، فانظر هل لهذين من خلف وكان أحمد رحمه الله يقول: ما مس أحد بيده محبرة إلا وللشافعي رحمه الله في عنقه منة. وقال يحيى بن سعيد القطان: ما صليت صلاة منذ أربعين سنة إلا وأنا أدعو فيها للشافعي لما فتح الله عز وجل عليه من العلم ووفقه للسداد فيه. ولنقتصر على هذه النبذة من أحواله فإن ذلك خارج عن الحصر، وأكثر هذه المناقب نقلناه من الكتاب الذي صنفه الشيخ نصر بن إبراهيم المقدسي رحمه الله تعالى في مناقب الشافعي رضي الله عنه وعن جميع المسلمين.
وأما الإمام مالك رضي الله عنه فإنه كان أيضاً متحلياً بهذه الخصال الخمس، فإنه قيل له: ما تقول يا مالك في طلب العلم? فقال: حسن جميل ولكن انظر إلى الذي يلزمك من حين تصبح إلى حين تمسي فالزمه، وكان رحمه الله تعالى في تعظيم علم الدين مبالغاً، حتى كان إذا أراد أن يحدث توضأ وجلس على صدر فراشه وسرح لحيته واستعمل الطيب وتمكن من الجلوس على وقار وهيبة ثم حدث، فقيل له في ذلك فقال: أحب أن أعظم حديث رسول الله ﷺ. وقال مالك: العلم نور يجعله الله حيث يشاء وليس بكثرة الرواية، وهذا الاحترام والتوقير يدل على قوة معرفته بجلال الله تعالى. وأما إرادته وجه الله تعالى بالعلم فيدل عليه قوله: الجدال في الدين ليس بشيء. ويدل عليه قول الشافعي رحمه الله: إني شهدت مالكاً وقد سئل عن ثمان وأربعين مسئلة فقال في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري. ومن يرد غير وجه الله تعالى بعلمه فلا تسمح نفسه بأن يقر على نفسه بأنه لا يدري، ولذلك قال الشافعي رضي الله عنه: إذا ذكر العلماء فمالك النجم الثاقب، وما أحد أمن علي من مالك. وروي أن أبا جعفر المنصور منعه من رواية الحديث في طلاق المكره ثم دس عليه من يسأله، فروى على ملأ من الناس: ليس على مستكره طلاق، فضربه بالسياط، ولم يترك رواية الحديث. وقال مالك رحمه الله: ما كان رجل صادقاً في حديثه ولا يكذب إلا متع بعقله ولم يصبه مع الهرم آفة ولا خرف. وأما زهده في الدنيا فيدل عليه ما روي أن المهدي أمير المؤمنين سأله فقال له: هل لك من دار? فقال: لا ولكن أحدثك "سمعت ربيعة بن أبي عبد الرحمن يقول: نسب المرء داره" وسأله الرشيد: هل لك دار? فقال: لا، فأعطاه ثلاثة آلاف دينار وقال: اشتر بها داراً فأخذها ولم ينفقها، فلما أراد الرشيد الشخوص قال لمالك رحمه الله: ينبغي أن تخرج معنا فإني عزمت على أن أحمل الناس على الموطأ كما حمل عثمان رضي الله عنه الناس على القرآن، فقال له: أما حمل الناس على اموطأ فليس إليه سبيل، لأن أصحاب رسول الله ﷺ افترقوا بعده في الأمصار فحدثوا، فعند كل أهل مصر علم وقد قال ﷺ "اختلاف أمتي رحمة" وأما الخروج معك فلا سبيل إليه قال رسول الله ﷺ "المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون" وقال عليه الصلاة والسلام "المدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد" وهذه دنانيركم كما هي إن شئتم فخذوها وإن شئتم فدعوها، يعني أنك إنما تكلفني مفارقة المدينة لما اصطنعته إلي فلا أوثر الدنيا على مدينة رسول الله ﷺ، فهكذا كان زهد مالك في الدنيا. ولما حملت إليه الأموال الكثيرة من أطراف الدنيا لانتشار علمه وأصحابه كان يفرقها في وجوه الخير ودل سخاؤه على زهده وقلة حبه للدنيا وليس الزهد فقد المال: وإنما الزهد فراغ القلب عنه ولقد كان سليمان عليه السلام في ملكه من الزهاد. ويدل على احتقاره للدنيا ما روي عن الشافعي رحمه الله أنه قال: رأيت على باب مالك كراعاً من أفراس خراسان ويقال مصر ما رأيت أحسن منه فقلت لمالك رحمه الله: ما أحسنه فقال: هو هدية مني إليك يا أبا عبد الله، فقلت: دع لنفسك منها دابة تركبها فقال: إني أستحي من الله تعالى أن أطأ تربة فيها نبي الله ﷺ بحافر دابة فانظر إلى سخائه إذ وهب جميع ذلك دفعة واحدة وإلى توقيره لتربة المدينة. ويدل على إرادته بالعلم وجه الله تعالى واستحقار للدنيا: ما روي أنه قال دخلت على هرون الرشيد فقال لي: يا أبا عبد الله ينبغي أن تختلف إلينا حتى يسمع صبيانك منك الموطأ. قال: فقلت أعز الله مولانا الأمير، إن هذا العلم منكم خرج فإن أنتم أعززتموه عز وإن أنتم أذللتموه ذل والعلم يؤتى ولا يأتي، فقال: صدقت، اخرجوا إلى المسجد حتى تسمعوا مع الناس.
وأما أبو حنيفة رحمه الله تعالى فلقد كان أيضاً عابداً زاهداً، بالله تعالى، خائفاً منه، مريداً وجه الله تعالى بعلمه، فأما كونه عابداً فيعرف بما روي عن ابن المبارك أنه قال: كان أبو حنيفة رحمه الله له مروءة وكثرة صلاة. وروى حماد بن أبي سليمان أنه كان يحيي الليل كله. وروي أنه كان يحيي نصف الليل فمر يوماً في طريق فأشار إليه إنسان وهو يمشي فقال لآخر: هذا هو الذي يحي الليل كله، فلم يزل بعد ذلك يحيي الليل كله وقال: أنا أستحيي من الله سبحانه أن أوصف بما ليس في من عبادته. وأما زهده فقد روي عن الربيع بن عاصم قال: أرسلني يزيد بن عمر بن هبيرة فقدمت بأبي حنيفة عليه، فأراده أن يكون حاكماً على بيت المال فأبى، فضربه عشرين سوطاً. فانظر كيف هرب من الولاية واحتمل العذاب! قال الحكم بن هشام الثقفي: حدثت بالشام حديثاً في أبي حنيفة أنه كان من أعظم الناس أمانة وأراده السلطان على أن يتولى مفاتيح خزائنه أو يضرب ظهره فاختار عذابهم له على عذاب الله تعالى. وروي أنه ذكر أبو حنيفة عند ابن المبارك، فقال: أتذكرون رجلاً عرضت عليه الدنيا بحذافيرها ففر منها. وروي عن محمد بن شجاع عن بعض أصحابه أنه قيل لأبي حنيفة: قد أمر لك أمير المؤمنين أبو جعفر المنصور بعشرة آلاف درهم. قال: فما رضي أبو حنيفة، قال: فلما كان اليوم الذي توقع أن يؤتى بالمال فيه صلى الصبح ثم تغشى بثوبه فلم يتكلم، فجاء رسول الحسن بن قحطبة بالمال، فدخل عليه، فلم يكلمه، فقال بعض من حضر: ما يكلمنا إلا بالكلمة بعد الكلمة، أي هذه عادته. فقال: ضعوا المال في هذا الجراب في زاوية البيت، ثم أوصى أبو حنيفة بعد ذلك بمتاع بيته وقال لابنه: إذا مت ودفنتموني فخذ هذه البدرة واذهب بها إلى الحسن ابن قحطبة فقل له خذ وديعتك التي أودعتها أبا حنيفة. قال ابنه: ففعلت ذلك، فقال الحسن: رحمة الله على أبيك فلقد كان شحيحاً على دينه. وروي أنه دعي إلى ولاية القضاء فقال: أنا لا أصلح لهذا، فقيل له: لم? فقال: إن كنت صادقاً فما أصلح لها، وإن كنت كاذباً فالكاذب لا يصلح للقضاء. وأما علمه بطريق الآخرة وطريق أمور الدين ومعرفته بالله عز وجلفيدل عليه شدة خوفه من الله تعالى وزهده في الدنيا، وقد قال ابن جريج: قد بلغني عن كوفيكم هذا النعمان بن ثابت أنه شديد الخوف لله تعالى. وقال شريك النخعي: كان أبو حنيفة طويل الصمت دائم الفكر قليل المحادثة، فهذا من أوضح الأمارات على العلم الباطني والاشتغال بمهمات الدين، فمن أوتي الصمت والزهد فقد أوتي العلم كله، فهذه نبذة من أحوال الأئمة الثلاثة.
وأما الإمام أحمد بن حنبل وسفيان الثوري رحمهما الله تعالى فأتباعهما أقل من أتباع هؤلاء، وسفيان أقل أتباعاً من أحمد، ولكن اشتهارهما بالورع والزهد أظهر، وجميع هذا الكتاب مشحون بحكايات أفعالهما وأقوالهما فلا حاجة إلى التفصيل الآن، فانظر الآن في غير هؤلاء الأئمة الثلاثة وتأمل أن هذه الأحوال والأقوال والأفعال في الإعراض عن الدنيا والتجرد لله عز وجل هل يثمرها مجرد العلم بفروع الفقه من معرفة السلم والإجارة والظهار والإيلاء واللعان، أو يثمرها علم آخر أعلى وأشرف منه، وانظر إلى الذين ادعوا الاقتداء بهؤلاء أصدقوا في دعواهم أم لا.