إحياء علوم الدين/كتاب ذم الجاه والرياء/الشطر الأول



الشطر الأول

في حب الجاه والشهرة


وفيه بيان ذم الشهرة وبيان فضيلة الخمول، وبيان ذم الجاه، وبيان معنى الجاه وحقيقته، وبيان السبب في كونه محبوباً أشد من حب المال، وبيان أن الجاه كمال وهمي وليس بكمال حقيقي، وبيان ما يحمد من حب الجاه وما يذم، وبيان السبب في حب المدح والثناء وكراهية الذم. وبيان العلاج في حب الجاه وبيان علاج حب المدح، وبيان علاج كراهة الذم، وباين اختلاف أحوال الناس في المدح والذم. فهي إثنا عشر فصلاً منها تنشأ معاني الرياء، فلا بد من تقديمها والله الموفق للصواب بلطفه ومنه وكرمه.

بيان ذم الشهرة وانتشار الصيت

اعلم أصلحك الله أن أصل الجاه هو انتشار الصيت والاشتهار وهو مذموم، بل المحمود الخمول إلا من شهرة الله تعالى لنشر دينه م غير تكلف طلب الشهرة منه. قال أنس رضي الله عنه: قال رسو الله "حسب امرئ من الشر أن يشير الناس إليه بالأصابع في دينه ودنياه إلا من عصمه الله وقال جابر بن عبد الله: قال رسول الله "يحسب المرء من الشر إلا من عصمه الله من السوء أن يشير الناس إليه بالأصابع في دينه ودنياه. إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ولكن ذكر الحسن رحمه الله الحديث تأويلاً، ولا بأس به، إذ روى هذا الحديث فقيل له: يا أبا سعيد إن الناس إذا رأوك أشاروا إليك بالأصابع، فقال: إنه لم يعن هذا وإنما عنى به المبتدع في دينه والفاسق في دنياه وقال علي كرم الله وجهه: تبذل ولا تشتهر ولا ترفع شخصك لتذكر، وتعلم واكتم، واصمت تسلم، تسر الأبرار وتغيظ الفجار. وقال إبراهيم ابن أدهم رحمه الله: ما صدق الله من أحب الشهرة. وقال أيوب السختياني: والله ما صدق الله عبد إلا سره أن لا يشعر بمكانه. وعن خالد بن معدان، أنه كان إذا كثرت حلقته قام مخافة الشهرة. وعن أبي العالية أنه كان إذا جلس إليه أكثر من ثلاثة قام. ورأى طلحة قوماً يمشون معه نحواً من عشرة، فقال: ذياب طمع وفراش نار. وقال سليم بن حنظلة: بينا نحن حول أبي بن كعب نمشي خلفه إذ رآه عمر فعلاه بالدرة. فقال أنظر يا أمير المؤمنين ما تصنع? فقال: إن هذه ذلة للتابع وفتنة للمتبوع وعن الحسن قال: خرج ابن مسعود يوماً من منزله فاتبعه ناس فالتفت إليهم فقال: علام تتبعوني فوالله لو تعلمون ما أغلق عليه باب ما اتبعني منكم رجلان? وقال الحسن: إن خفق النعال حول الرجال قلما تلبث عليه قلوب الحمقى. وخرج الحسن ذات يوم فاتبعه قوم فقال: هل لكم من حاجة? وإلا فما عسى أن يبقى هذا من قلب المؤمن. وروي أن رجلاً صحب ابن محيريز في سفر فلما فارقه قال: أوصني، فقال: إن استطعت أن تعرف ولا تعرف وتمشي ولا يمشي إليك وتسأل ولا تسئل فافعل. وخرج أيوب في سفر فشيعه ناس كثيرون فقال: لولا أني أعلم أن الله يعلم من قلبي أني لهذا كاره لخشيت المقت من الله عز وجل. وقال معمر: عاتبت أيوب على طول قميصه فقال. إن الشهرة فيما مضى كانت في طوله وهي اليوم في تشميره. وقال بعضهم: كنت مع أبي قلابة إذ دخل عليه رجل عليه أكسية فقال: إياكم وهذا الحمار الناهق! يشير به إلى طلب الشهرة. وقال الثوري: كانوا يكرهون الشهرة من الثياب الجيدة والثياب الرديئة إذ الأبصار تمتد إليهما جميعاً. وقال رجل لبشر بن الحارث: أوصني، فقال أخمل ذكرك وطيب مطعمك. وكان حوشب يبكي ويقول: بلغ اسمي مسجد الجامع. وقال بشر: ما أعرف رجلاً أحب أن يعرف إلا ذهب دينه وافتضح. وقال أيضاً: لا يجد حلاوة الآخرة رجل يحب أن يعرفه الناس. رحمة الله عليه وعليهم أجمعين.

بيان فضيلة الخمول

قال رسول الله "رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره منهم البراء بن مالك" وقال ابن مسعود: قال النبي "رب ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره لو قال اللهم إني أسألك الجنة لأعطاه الجنة ولم يعطه من الدنيا شيئاً وقال "ألا أدلكم على أهل الجنة: كل ضعيف مستضعف لو أقسم على الله لأبره وأهل النار كل متكبر مستكبر جواظ وقال أبو هريرة: قال "إن أهل الجنة كل أشعث غير ذي طمرين لا يؤبه له الذي إذا استأذنوا على الأمراء لم يؤذن لهم وإذا خطبوا النساء لم ينكحوا وإذا قالوا لم ينصت لقولهم حوائج أحدهم تتخلل في صدره لو قسم نوره يوم القيامة على الناس لوسعهم" وقال "إن من أمتي من لو أتى أحدكم يسأله ديناراً لم يعطه إياه ولو سأله فلساً لم يعطه إياه، ولو سأل الله الجنة لأعطاه إياها، ولو سأله الدنيا لم يعطه إياها، وما منعها إياه إلا لهوانها عليه، رب ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره وروي أن عمر رضي الله عنه دخل المسجد فرأى معاذ بن جبل يبكي عند قبر رسول الله فقال ما يبكيك فقال: سمعت رسول الله يقول "إن اليسير من الرياء شرك وإن الله يحب الأتقياء الأخفياء الذين إن غابوا لم يفتقدوا وإن حضروا لم يعرفوا قلوبهم مصابيح الهدى ينجون من كل غبراء مظلمة .

وقال محمد بن سويد: قحط أهل المدينة وكان بها رجل صالح لا يؤبه له ملازم لمسجد النبي ، فبينما هم في دعائهم إذ جاءهم رجل عليه طمران خلقان فصلى ركعتين أوجز فيهما ثم بسط يديه فقال: يا رب أقسمت عليك إلا أمطرت علينا الساعة! فلم يرد يديه ولم يقطع دعاءه حتى تغشت السماء بالغمام، وأمطروا حتى صاح أهل المدينة من مخافة الغرق، فقال: يا رب إن كنت تعلم أنهم قد اكتفوا فارفع عنهم، وسكن، وتبع الرجل صاحبه الذي استسقى حتى عرف منزله، ثم بكر عليه فخرج إليه فقال إني أتيك في حاجة! فقال ما هي? قال تخصني بدعوة، قال: سبحان الله! أنت أنت وتسألني أن أخصك بدعوة? ثم قال ما الذي بلغك ما رأيت? قال: أطع الله فيما أمرني ونهاني فسألت الله فأعطاني. وقال ابن مسعود: كونوا ينابيع العلم مصابيح الهدى، أحلاس البيوت سرج الليل جدد القلوب خلقان الثياب، تعرفون في أهل السماء وتخفون في أهل الأرض. وقال أبو أمامة: قال رسول الله "يقول الله تعالى إن أغبط أوليائي عبد مؤمن خفيف الحاذر ذو حظ من صلاة أحسن عبادة ربه وأطاعه في السر كان غامضاً في الناس لا يشار إليه بالأصابع ثم صبر على ذلك" قال: ثم نقر رسول الله بيده فقال "عجلت منينه وقل تراثه وقلت بواكيه وقال عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: أحب عباد الله إلى الله الغرباء، قيل: ومن الغرباء: قال: الفارون بدينهم يجتمعون يوم القيامة إلى المسيح عليه السلام. وقال الفضيل بن عياض: بلغني أن الله تعالى يقول في بعض ما يمن به على عبده؛ ألم أنعم عليك! ألم أسترك! ألم أخمل ذكرك! وكان الخليل بن أحمد يقول: اللهم اجعلني عندك من أرفع خلقك، واجعلني عند نفسي من أوضع خلقك، واجعلني عند الناس من أوسط خلقك. وقال الثوري: وجدت قلبي يصلح بمكة والمدينة مع قوم غرباء أصحاب قوت وعناء. وقال إبراهيم بن أدهم: ما قرت عيني يوماً في الدنيا قط إلا مرة، بت ليلة في بعض مساجد قرى الشام وكان بي البطن، فجرني المؤذن برجلي حتى أخرجني من المسجد. وقال الفضيل: إن قدرت على أن لا تعرف فافعل، وما عليك أن لا تعرف وما عليك أن لا يثنى عليك وما عليك أن تكون مذموماً عند الناس إذا كنت محموداً عند الله تعالى? فهذه الآثار والأخبار تعرفك مذمة الشهرة وفضيلة الخمول. وإنما المطلوب بالشهرة وانتشار الصيت هو الجاه والمنزلة في القلوب، وحب الجاه هو منشأ كل فساد.

فإن قلت: فأي شهرة تزيد على شهرة الأنبياء والخلفاء الراشدين وأئمة العلماء! فكيف فاتهم فضيلة الخمول? فاعلم أن المذموم طلب الشهرة، فأما وجودها من جهة الله سبحانه من غير تكلف من العبد فليس بمذموم. نعم فيه فتنة على الضعفاء دون الأقوياء، وهم كالغريق إذا كان معه جماعة منن الغرقى فالأولى به أن لا يعرفه أحد منهم فإنهم يتعلقون به فيضعف عنهم فيهلك معهم، وأما القوي فالأولى أن يعرفه الغرقى ليتعلقوا به فينجيهم ويثاب على ذلك.

بيان ذم الجاه ومعناه

قال الله تعالى "تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً" جمع بين إرادة الفساد والعلو، وبين أن الدار الآخرة للخالي عن الإرادتين جميعاً. وقال عز وجل "من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون. أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون" وهذا أيضاً متناول بعمومه لحب الجاه فإنه أعظم لذة من لذات الحياة الدنيا وأكثر زينة من زينتها. وقال رسول الله "حب المال والجاه ينبتان النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل وقال "ما ذئبان ضاريان أرسلاً في زريبة غنم بأسرع إفساداً من حب الشرف والمال في دين الرجل المسلم وقال لعلي كرم الله وجهه "إنما هلاك الناس باتباع الهوى وحب الثناء نسأل الله العفو والعافية بمنه وكرمه.

بيان معنى الجاه وحقيقته

اعلم أن الجاه والمال هما ركنا الدنيا. ومعنى المال ملك الأعيان المنتفع بها ومعنى الجاه ملك القلوب المطلوب تعظيمها وطاعتها. وكما أن الغني هو الذي يملك الدراهم والدنانير، أي يقدر عليهما ليتوصل بهما إلى الأغراض والمقاصد وقضاء الشهوات وسائر حظوظ النفس، فكذلك ذو الجاه هو الذي يملك قلوب الناس، أي يقدر على أن يتصرف فيها ليستعمل بواسطتها أربابها في أغراضه ومآربه. وكما أنه يكتسب الأموال بأنواع من الحرف والصناعات فكذلك يكتسب قلوب الخلق بأنواع من المعاملات، ولا تصير القلوب مسخرة إلا بالمعارف والاعتقادات، فكل من اعتقد القلب فيه وصفاً من أوصاف الكمال انقاد له وتسخر له بحسب قوة اعتقاد القلب وبحسب درجة ذلك الكمال عنده، وليس يشترط أن يكون الوصف كمالاً في نفسه بل يكفي أن يكون كمالاً عنده وفي اعتقاده، وقد يعتقد ما ليس كمالاً كمالاً، ويذعن قلبه للموصوف به انقياداً ضرورياً بحسب اعتقاده، فإن انقياد القلب حال للقلب. وأحوال القلوب تابعة لاعتقادات القلوب وعلومها وتخيلاتها، وكما أن محب المال يطلب ملك الأرقاء والعبيد فطالب الجاه يطلب أن يسترق الأحرار ويستعبدهم ويملك رقابهم بملك قلوبهم، بل الرق الذي يطلبه صاحب الجاه أعظم، لأن المالك يملك العبد قهراً والعبد متأب بطبعه، ولو خلى ورأيه انسل عن الطاعة وصاحب الجاه يطلب الطاعة طوعاً ويبغي ان كون له الأحرار عبيداً بالطبع والطوع، مع الفرح بالعبودية والطاعة له، فما يطلبه فوق ما يطلبه مالك الرق بكثير. فإذاً معنى الجاه: قيام المنزلة في قلوب الناس، أي اعتقاد القلوب لنعت من نعوت الكمال فيه، فبقدر ما يعتقدون من كماله تذعن له قلوبهم، وبقدر إذعان القلوب تكون قدرته على القلوب وبقدر قدرته على القلوب يكون فرحه وحبه للجاه. فهذا هو معنى الجاه وحقيقته وله ثمرات كالمدح والإطراء، فإن المعتقد للكمال لا يسكت عن ذكر ما يعتقده، فيثني عليه، وكالخدمة والإعانة فإنه لا يبخل ببذل نفسه في طاعته بقدر اعتقاده فيكون سخرة له مثل العبد في أغراضه، وكالإيثار وترك المنازعة والتعظيم والتوقير بالمفاتحة بالسلام وتسليم الصدر في المحافل والتقديم في جميع المقاصد، فهذه آثار تصدر عن قيام الجاه في القلب ومعنى قيام الجاه في القلب اشتمال القلوب على اعتقاد صفات الكمال في الشخص إما بعلم أو عبادة أو حسن خلق أو نسب أو ولاية أو جمال في صورة أو قوة في بدن أو شيء مما يعتقده الناس كمالاً، فإن هذه الأوصاف كلها تعظم محله في القلوب فتكون سبباً لقيام الجاه والله تعالى أعلم.

بيان سبب كون الجاه محبوباً بالطبع

حتى لا يخلو عنه قلب إلا بشديد المجاهدة

اعلم أن السبب الذي يقتضي كون الذهب والفضة وسائر أنواع الأموال محبوباً هو بعينه يقتضي كون الجاه محبوباً، بل يقتضي أن يكون أحب من المال، كما يقتضي أن يكون الذهب أحب من الفضة مهما تساويا في المقدار، وهو أنك تعلم أن الدراهم والدنانير لا غرض في أعيانهما إذ لا تصلح لمطعم ولا مشرب ولا منكح ولا ملبس، وإنما هي والحصباء بمثابة واحدة، ولكنهما محبوبان لأنهما وسيلة إلى جميع المحاب وذريعة إلى قضاء الشهوات، فكذلك الجاه لأن معنى الجاه ملك القلوب من الأحرار والقدرة على استسخارها يفيد قدرة على التوصل إلى جميع الأغراض، فالاشتراك في السبب اقتضى الاشتراك في المحبة، وترجيح الجاه على المال اقتضى أن يكون الجاه أحب من المال، ولملك الجاه ترجيح على ملك المال من ثلاثة أوجه.

الأول: أن التوصل بالجاه إلى المال أيسر من التوصيل بالمال إلى الجاه، فالعالم أو الزاهد الذي تقرر له جاه في القلوب لو قصد اكتساب المال تيسر له، فإن أموال أرباب القلوب مسخرة للقلوب ومبذولة لمن اعتقد فيه الكمال، وأما الرجل الخسيس الذي لا يتصف بصفة كمال إذا وجد كنزاً ولم يكن له جاه يحفظ ماله وأراد أن يتوصل بالمال إلى الجاه لم يتيسر له، فإذاً الجاه آلة ووسيلة إلى المال، فمن ملك الجاه فقد ملك المال، ومن ملك المال لم يملك الجاه بكل حال، فلذلك صار الجاه أحب.

الثاني: هو أن المال معرض للبلوى والتلف بأن يسرق ويغصب ويطمع فيه الملوك والظلمة، ويحتاج فيه إلى الحفظة والحراس والخزائن، ويتطرق إليه أخطار كثيرة، وأما القلوب إذا ملكت فلا تتعرض لهذه الآفات فهي على التحقيق خزائن عتيدة، لا يقدر عليها السراق ولا تتناولاه أيدي النهاب والغصاب، وأثبت الأموال العقار ولا يؤمن فيه الغصب والظلم ولا يستغني عن المراقبة والحفظ، وأما خزائن القلوب فهي محفوظة محروسة بأنفسها، والجاه في أمن وأمان من الغصب والسرقة فيها. نعم إنما تغصب القلوب بالتصريف وتقبيح الحال وتغيير الاعتقاد فيما صدق به من أوصاف الكمال، وذلك مما يهون دفعه ولا يتيسر على محاولة فعله.

الثالث: أن ملك القلوب يسري ونمي ويتزايد منغير حاجة إلى تعب ومقاساة، فإن القلوب إذا أذعنت لشخص واعتقدت كماله بعلم أو عمل أو غيره أفصحت الألسنة لا محالة بما فيها، فيصف ما يعتقده لغيره ويقتنص ذلك القلب أيضاً له، ولهذا المعنى يحب الطبع الصيت وانتشار الذكر. لأن ذلك إذا استطار في الأقطار اقتنص القلوب ودعاها إلى الإذعان والتعظيم، فلا يزال يسري من واحد إلى واحد ويتزايد وليس له مرد معين، وأما المال فمن ملك منه شيئاً فهو مالكه ولا يقدر على استنمائه إلا بتعب ومقاساة، والجاه أبداً في النماء بنفسه ولا مرد لموقعه والمال واقف، ولهذا إذا عظم الجاه وانتشر الصيت وانطلقت الألسنة بالثناء استحقرت الأموال في مقابلته، فهذه مجامع ترجيحات الجاه على المال. وإذا فصلت كثرت وجوه الترجيح.

فإن قلت فالإشكال قائم في المال والجاه جميعاً فلا ينبغي أن يحب الإنسان المال والجاه. نعم القدر الذي يتوصل به إلى جلب الملاذ ودفع المضار معلوم، كالمحتاج إلى الملبس والمسكن والمطعم أو كالمبتلي بمرض أو بعقوبة إذا كان لا يتوصل إلى دفع العقوبة عن نفسه إلا بمال أو جاه، فحبه للمال والجاه معلوم، إذ كل ما لا يتوصل إلى المحبوب إلا به فهو محبوب، وفي الطباع أمر عجيب وراء هذا وهو حب جميع الأموال وكنز الكنوز وادخار الذخائر واستكثار الخزائن وراء جميع الحاجات، حتى لو كان للعبد واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثاً، وكذلك يحب الإنسان اتساع الجاه وانتشار الصيت إلى أقاصي البلاد التي يعلم قطعاً أنه لا يطؤها ولا يشاهد أصحابها، ليعظموه أو ليبرون بمال أو ليعينوه على غرض من أغراضه، ومع اليأس من ذلك فإنه يلتذ به غاية الالتذاذ وحب ذلك ثابت في الطبع، ويكاد يظن أن ذلك جهل فإنه حب لما لا فائدة فيه لا في الدنيا ولا في الآخرة? فنقول: نعم هذا الحب لا تنفك عنه القلوب. وله سببان? أحدهما: جلي تدركه الكافة. والآخر: خفي وهو أعظم السببين ولكنه أدقهما وأخفاهما وأبعدهما عن أفهام الأذكياء فضلاً عن الأغبياء، وذلك لاستمداده من عرق خفي في النفس وطبيعة مستكنة في الطبع لا يكاد يقف عليها إلا الغواصون.

فأما السبب الأول: فهو دفع ألم الخوف، لأن الشفيق بسوء الظن مولع، والإنسان وإن كان مكفياً في الحال فإنه طويل الأمل ويخطر بباله أن المال فيه كفايته ربما يتلف فيحتاج إلى غيره، فإذا خطر ذلك بباله هاج الخوف من قلبه ولا يدفع ألم الخوف إلا الأمن الحاصل بوجود مال آخر يفزغ إليه إن أصابت هذا المال جائحة، فهو أبدا لشفقته على نفسه وحبه للحياة يقدر طول الحياة؛ ويقدر هجوم الحاجات؛ ويقدر إمكان تطرق الآفات إلى الأموال، ويستشعر الخوف من ذلط فيطلب ما يدفع خوفه وهو كثرة المال، حتى إن أصيب بطائفة من ماله استغنى بالآخر، وهذا خوف لا يوقف له على مقدار مخصوص من المال، فلذلك لم يكن لمثله موقف إلى أن يملك جميع ما في الدنيا ولذلك قال رسول الله "منهومان لا يشبعان منهوم العلم ومنهوم المال ومثل هذه العلة تطرد في حبه قيام المنزلة والجاه في قلوب الأباعد عن وطنه وبلده، فإنه لا يخلو عن تقدير سبب يزعجه عن الوطن أو يزعج أولئك عن أوطانهم إلى وطنه، ويحتاج إلى الاستعانة بهم؛ ومهما كان ذلك ممكناً ولم يكن احتياجه إليهم مستحيلاً إحالة ظاهرة كان للنفس فرح ولذة بقيام الجاه في قلوبهم لما فيه من الأمن من هذا الخوف.

وأما السبب الثاني وهو الأقوى: لأن أمر رباني، به وصفه الله تعالى إذ قال سبحانه "ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي" أو معنى كونه ربانياً أنه من أسرار علوم المكاشفة ولا رخصة في إظهاره إذا لم يظهره رسول الله ولكنك قبل معرفة ذلك تعلم أن للقلب ميلاً إلى صفات بهيمية كالأكل والوقاع، وإلى صفات سبعية كالقتل والضرب والإيذاء؛ وإلى صفات شيطانية كالمكر والخديعة والإغواء، وإلى صفات ربوبية كالكبر والعز والتجبر وطلب الاستعلاء، وذلك لأنه مركب من أصول مختلفة يطول شرحها وتفصيلها، فهو لما فيه من الأمر الرباني يحب الربوبية بالطبع، ومعنى الربوبية التوحد بالكمال والتفرد بالوجود على سبيل الاستقلال. فصار الكمال من صفات الإلهية فصار محبوباً بالطبع للإنسان، والكمال بالتفرد بالوجود فإن المشاركة في الوجود نقص لا محالة، فكمال الشمس أنها موجودة وحدها، فلو كان معها شمس أخرى لكان ذلك نقصاً في حقها، إذ لم تكن منفردة بكمال معنى الشمسية، والمنفرد بالوجود هو الله تعالى إذ ليس معه موجود سواه، فإن ما سواه أثر من آثار قدرته لا قوام له بذاته، بل هو قائم به، فلم يكن موجوداً معه لأن المعية توجب المساواة في الرتبة، والمساواة في الرتبة نقصان في الكمال، بل الكامل من لا نظير له في رتبته. وكما أن إشراق نور الشمس في أقطار الآفاق ليس نقصاناً في الشمس بل هو من جملة كمالها، وإنما نقصان الشمس بوجود شمس أخرى تساويها في الرتبة مع الاستغناء عنها، فكذلك وجود كل ما في العالم يرجع إلى إشراق أنوار القدرة فيكون تابعاً ولا يكون متبعاً فإذن معنى الربوبية التفرد بالوجود وهو الكمال. وكل إنسان فإنه بطبعه محب لأن يكون هو المنفرد بالكمال، ولذلك قال بعض مشايخ الصوفية: ما من إنسان إلا وفي باطنه ما صرح به فرعون من قوله "أنا ربكم الأعلى" ولكنه ليس يجد له مجالاً وهو كما قال، فإن العبودية قهر على النفس. والربوبية محبوبة بالطبع وذلك للنسبة الربانية التي أومأ إليها قوله تعالى "قل الروح من أمر ربي" ولكن لما عجزت النفس عن درك منتهى الكمال لمتسقط شهوتها للكمال، فهي محبة للكمال ومشتهية له وملتذة به لذاته لا لمعنى آخر وراء الكمال، وكل موجود فهو محب لذاته ولكمال ذاته؛ ومبغض للهلاك الذي هو عدم ذاته أو عدم صفات الكمال من ذاته. وإنما الكمال بعد أن يسلم التفرد بالوجود في الاستيلاء على كل الموجودات؛ فإن أكمل الكمال أن يكون وجود غيرك منك فإن لم يكن منك إن تكون مستولياً عليه، فصار الاستيلاء على الكل محبوباً بالطبع، لأنه نوع كمال. وكل موجود يعرف ذاته فإنه يحب ذاته ويحب كمال ذاته ويلتذ به، إلا أن الاستيلاء على الشيء بالقدرة على التأثير فيه، وعلى تغييره بحسب الإرادة وكونه مسخراً لك تردده كيف تشاء، فأحب الإنسان أن يكون له استيلاء على كل الأشياء الموجودة مع. إلا أن الموجودات منقسمة إلى ما لا يقبل التغيير في نفسه كذات الله تعالى وصفاته. وإلى ما يقبل التغيير ولكن لا يستولى عليه قدرة الخلق، كالأملاك والكواكب وملكوت السموات ونفوس الملائكة والجن والشياطين؛ وكالجبال والبحار. وإلى ما يقبل التغيير بقدرة العبد كالأرض وأجزائها وما عليها من المعادن والنبات والحيوان ومن جملتها قلوب الناس، فإنها قابلة للتأثير والتغيير مثل أجسادهم وأجساد الحيوانات.

فإذا انقسمت الموجودات إلى ما يقدر الإنسان على التصرف فيه كالأرضيات، وإلى ما لا يقدر عليه كذات الله تعالى والملائكة والسموات، أحب الإنسان أن يستولي على السموات بالعلم والإحاطة والإطلاع على أسرارها فإن ذلك نوع استيلاء؛ إذ المعلوم المحاط به كالداخل تحت العلم، والعالم كالمستولي عليه، فلذلك أحب أن يعرف الله تعالى والملائكة والأفلاك والكواكب، وجميع عجائب السموات، وجميع عجائب البحار والجبال وغيرها لأن ذلك نوع استيلاء عليها، والاستيلاء نوع كمال. وهذا يضاهي اشتياق منن عجز عن صنعة عجيبة إلى معرفة طريق الصنعة فيها، كمن يعجز عن وضع الشطرنج، فإنه قد يشتهي أن يعرف اللعب به وأنه كيف وضع? وكمن يرى صنعة عجيبة في الهندسة أو الشعبذة أو جر الثقيل أو غيره وهو مستشعر في نفسه بعض العجز والقصور عنه ولكنه يشتاق إلى معرفة كيفيته فهو متألم ببعض العجز متلذذ بكمال العلم إن علمه.

وأما القسم الثاني: وهو الأرضيات التي قدر الإنسان عليها، إن يحب بالطبع أن يستولي عليها بالقدرة على التصرف فيها كيف يريد وهي قسمان: أجساد وأرواح.

"أما الأجساد" فهي الدراهم والدنانير والأمتعة فحب أن يكون قادراً عليها يفعل فيها ما شاء من الرفع والوضع والتسليم والمنع، فإن ذلك قدرة والقدرة كمال، والكمال من صفات الربوبية، والربوبية محبوبة بالطبع، فلذلك أحب الأموال وإن كان لا يحتاج إليها في ملبسه ومطعمه وفي شهوات نفسه، وبذلك طلب استرقاق العبيد واستعباد الأشخاص الأحرار ولو بالقهر والغلبة حتى يتصرف في أجسادهم وأشخاصهم بالاستسخار، وإن لم يملك قلوبهم، فإنها ربما لم تعتقد كماله حتى يصير محبوباً لها ويقوم القهر منزلته فيها، إن الحشمة القهرية أيضاً لذيذة لما فيها من القدرة.

"القسم الثاني" نفوس الآدميين وقلوبهم وهي أنفس ما على وجه الأرض، فهو يحب أن يكون له استيلاء وقدرة عليها لتكون مسخرة له متصرفة تحت إشارته وإرادته لما فيه من كمال الاستيلاء والتشبه بصفات الربوبية، والقلوب إنما تتسخر بالحب ولا تحب إلا باعتقاد الكمال، فإن كل كمال محبوب لأن الكمال من الصفات الإلهية والصفات الإلهية كلها محبوبة بالطبع للمعنى الرباني من جملة معاني الإنسان، وهو الذي لا يبليه الموت فيعدمه ولا يتسلط عليه التراب فيأكله، فإنه محل الإيمان والمعرفة وهو الواصل إلى لقاء الله تعالى والساعي إليه فإذن معنى الجاه تسخير القلوب، ومن تسخرت له القلوب كانت له قدرة واستيلاء عليها، والقدرة والاستيلاء كما وهو من أوصاف الربوبية. فإذن محبوب القلب بطبعه الكمال بالعلم والقدرة، والمال والجاه من أسباب القدرة، ولا نهاية للمعلومات ولا نهاية للمقدورات، وما دام يبقى معلوم، أو مقدور فالشوق لا يسكن والنقصان لا يزول. ولذلك قال "منهومان لا يشبعان" فإذن مطلوب القلوب الكمال، والكمال بالعلم والقدرة وتفاوت الدرجات فيه غير محصور، فسرور كل إنسان ولذته بقدر ما يدركه من الكمال، فهذا هو السبب في كون العلم والمال والجاه محبوباً، وهو أمر وراء كونه محبوباً لأجل التوصل إلى قضاء الشهوات فإن هذه العلة قد تبقى مع سقوط الشهوات، بل يحب الإنسان من العلوم ما لا يصلح للتوصل به إلى الأغراض، بل ربما يفوت عليه جملة من الأغراض والشهوات، ولكن الطبع يتقاضى طلب العلم في جميع العجائب والمشكلات، لأن في العلم استيلاء على المعلوم وهو نوع من الكمال الذي هو من صفات الربوبية فكان محبوباً بالطبع، إلا أن في حب كمال العلم والقدرة أغاليط لا بد من بيانها إن شاء الله تعالى.

بيان الكمال الحقيقي والكمال الوهمي

الذي لا حقيقة له

قد عرفت أنه لا كمال بعد فوات التفرد بالوجود إلا في العلم والقدرة، ولكن الكمال الحقيقي فيه متلبس بالكمال الوهمي، وبيانه أن كمال العلم لله تعالى وذلك من ثلاثة أوجه: "أحدها" من حيث كثرة المعلومات وسعتها، فإنه محيط بجميع المعلومات، فلذلك كلما كانت علوم العبد أكثر كان أقرب إلى الله تعالى "الثاني" من حيث تعلق العلم بالمعلوم على ما هو به، وكون المعلوم مكشوفاً به كشفاً تاماً، فإن المعلومات مكشوفة لله تعالى بأتم أنواع الكشف على ما هي عليه، فلذلك مهما كان علم العبد أوضح وأيقن وأصدق وأوفق للمعلوم في تفاصيل صفات العلوم كان أقرب إلى الله تعالى "الثالث" من حيث بقاء العلم أبد الآباد بحيث لا يتغير ولا يزول، فإن علم الله تعالى باق لا يتصور أن يتغير فكذلك مهما كان علم العبد بمعلومات لا يقبل التغير والانقلاب كان أقرب إلى الله تعالى.

والمعلومات قسمان: متغيرات وأزليات.

أما المتغيرات: فمثالها العلم بكون زيد في الدار، فإنه علم له معلوم، ولكنه يتصور أن يخرج زيد من الدار ويبقى اعتقاد كونه في الدار كما كان فينقلب جهلاً، فيكون نقصاناً لا كمالاً، فكلما اعتقدت اعتقاداً موافقاً وتصور أن ينقلب المعتقد فيه عما اعتقدته كنت بصدد أن ينقلب كمالك نقصاً، ويعود علمك جهلاً. ويلتحق بهذا المثال جميع متغيرات العالم، كعلمك مثلاً بارتفاع جبل ومساحة أرض، وبعد البلاد وتباعد ما بينها من الأميال والفراسخ، وسائر ما يذكر في المسالك والممالك، وكذلك العلم باللغات التي هي اصطلاحات تغير بتغير الأعصار والأمم والعادات فهذه علوم معلوماتها مثل الزئبق تتغير من حال إلى حال، فليس فيه كمال إلا في الحال ولا يبقى كمالاً في القلب.

القسم الثاني: هو المعلومات الأزلية وهو جواز الجائزات ووجوب الواجبات واستحالة المستحيلات، فإن هذه معلومات أزلية أبدية، إذ لا يستحيل الواجب قط جائزاً ولا الجاز محالاً ولا المحال واجباً. فكل هذه الأقسام داخلة في معرفة الله وما يجب له، وما يستحيل في صفاته، ويجوز في أفعاله، فالعلم بالله تعالى وبصفاته وأفعاله وحكمته في ملكوت السموات والأرض وترتيب الدنيا والآخرة ومايتعلق به هو الكمال الحقيقي الذي يقرب من يتصف به من الله تعالى، ويبقى كمالاً للنفس بعد الموت، وتكون هذه المعرفة نور للعارفين بعد الموت "يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا" أي تكون هذه المعرفة رأس مال يوصل إلى كشف ما لم ينكشف في الدنيا، كما أنه معه سراج خفي فإنه يجوز أن يصير ذلك سبباً لزيادة النور بسراج آخر يقتبس منه، فيكمل النور الخفي على سبيل الاستتمام، ومن ليس معه أصل السراج فلا مطمع له في ذلك، فمن ليس معه أصل معرفة الله تعالى لم يكن له مطمع في هذا النور، فيبقى كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها بل "كظلمات في بحر لجى يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض" فإذن لا سعادة إلا في معرفة الله تعالى وأما ما عدا ذلك من المعارف فمنها ما لا فائدة له أصلاً كمعرفة الشعر وأنساب العرب وغيرهما، ومنها ما له منفعة في الإعانة على معرفة الله تعالى كمعرفة لغة العرب والتفسير والفقه والأخبار، فإن معرفة لغة العرب تعين على معرفة تفسير القرآن، ومعرفة التفسير تعين على معرفة ما في القرآن من كيفية العبادات والأعمال التي تفيد تزكية النفس، ومعرفة طريق تزكية النفس تفيد استعداد النفس لقبول الهدايا إلى معرفة الله سبحانه وتعالى كما قال تعالى "قد أفلح من زكاها" وقال عز وجل "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا" فتكون جملة هذه المعارف كالوسائل إلى تحقيق معرفة الله تعالى، وإنما الكمال في معرفة الله ومعرفة صفاته وأفعاله، وينطوي فيه جميع المعارف المحيطة بالموجودات إذ الموجودات كلها من أفعاله، فمن عرفها من حيث هي فعل الله تعالى. ومن حيث ارتباطها بالقدرة والإرادة والحكمة، فهي من تكملة معرفة الله تعالى، وهذا حكم كمال العلم ذكرناه وإن لم يكن لائقاً بأحكام الجاه والرياء ولكن أوردناه لاستيفاء أقسام الكمال.

وأما القدرة فليس فيها كمال حقيقي للعبد، بل للعبد علم حقيقي وليس له قدرة حقيقية، وإنما القدرة الحقيقية لله وما يحدث من الأشياء عقيب إرادة العبد وقدرته وحركته فهي حادثة بإحداث الله -كما قررنا في كتاب الصبر والشكر، وكتاب التوكل وفي مواضع شتى من ربع المنجيات- فكمال العلم يبقى معه بعد الموت ويوصله إلى الله تعالى فأما كمال القدرة فلا نعم له كمال من جهة القدرة بالإضافة إلى الحال وهي وسيلة له إلى كمال العلم كسلامة أطرافه وقوة يده للبطش ورجله للمشي وحواسه للإدراك، فإن هذه القوة آلة للوصول بها إلى حقيقة كمال العلم، وقد يحتاج استيفاء هذه القوى إلى القدرة بالمال والجاه للتوصل به إلى المطعم والمشرب والملبس والمسكن، وذلك إلى قدر معلوم، فإن لم يستعمله للوصول به إلى معرفة جلال الله فلا خير فيه البتة إلا من حيث اللذة الحالية التي تنقضي على القرب، ومن ظن ذلك كمالاً فقد جهل، فالخلق أكثرهم هالكون في غمره هذا الجهل، فإنهم يظنون أن القدرة على الأجساد بقهر الحشمة، وعلى أعيان الأموال بسعة الغنى، وعلى تعظيم القلوب بسعة الجاه؛ كمال، فلما اعتقدوا ذلك أحبوه ولما أحبوه طلبوه ولما طلبوه شغلوا به وتهالكوا عليه فنسوا الكمال الحقيقي الذي يوجب القرب من الله تعالى ومن ملائكته وهو العلم والحرية "أما العلم" فما ذكرناه من معرفة الله تعالى "وأما الحرية" فالخلاص من أسر الشهوات وغموم الدنيا والاستيلاء عليها بالقهر تشبهاً بالملائكة الذين لا تستفزهم الشهوة ولا يستهويهم لغضب، فإن دفع آثار الشهوة والغضب عن النفس من الكمال الذي هو من صفات الملائكة. ومن صفات الكمال لله تعالى استحالة التغيير والتأثر عليه فمن كان عن التغير والتأثر بالعوارض أبعد كان إلى الله تعالى أقرب وبالملائكة أشبه، ومنزلته عند الله أعظم. وهذا كمال ثالث سوى كمال العلم والقدر، وإنما لم نورده في أقاسم الكمال لأن حقيقته ترجع إلى عدم ونقصان، فإن التغير نقصان إذ هو عبارة عن عدم صفة كائنة وهلاكها، والهلاك نقص في اللذات وفي صفات الكمال.

فإذن الكمالات ثلاثة -إن عددنا (عدم التغير بالشهوات وعدم الانقياد لها) كمالاً ككمال العلم وكمال الحرية؛ وأعني به عدم العبودية للشهوات وإرادة الأسباب الدنيوية- وكمال القدرة للعبد طريق إلى اكتساب كمال العلم، وكمال الحرية ولا طريق له إلى اكتساب كمال القدرة الباقية بعد موته، إذ قدرته على أعيان الأموال وعلى استسخار القلوب والأبدان تنقطع بالموت، ومعرفته وحريته لا ينعدمان بالموت بل يبقيان كمالاً فيه ووسيلة إلى القرب من الله تعالى. فانظر كيف انقلب الجاهلون وانكبوا على وجوههم انكباب العميان فأقبلوا على طلب كمال القدرة بالجاه والمال، وهو الكمال الذي لا يسلم وإن سلم فلا بقاء له، وأعرضوا عن كمال الحرية والعلم الذي إذا حصل كان أبدياً لا انقطاع له، وهؤلاء هم الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا جرم لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون، وهم الذين لم يفهموا قوله تعالى "المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً" فالعلم والحرية هي الباقيات الصالحات التي تبقى كمالاً في النفس، والمال والجاه هو الذي ينقضي على القرب وهو كما مثله الله تعالى حيث قال "إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض" الآية. وقال تعالى "واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء" إلى قوله "فأصبح هشيماً تذروه الرياح" وكل ما تذروه رياح الموت فهو زهرة الحياة الدنيا، وكل ما لا يقطعه الموت فهو الباقيات الصالحات. فقد عرفت بهذا أن كمال القدرة بالمال والجاه كمال ظني لا أصل له، وأن من قصر الوقت على طلبه وظنه مقصوداً فهو جاهل، وإليه أشار أبو الطيب بقوله: ومن ينفق الساعات في جمع ماله مخافة فقر فالذي فعل: الفقـر

إلا قدر البلغة منهما إلى الكمال الحقيقي اللهم اجعلنا ممن وفقته للخير وهديته بلطفك.

بيان ما يحمد من حب الجاه وما يذم

مهما عرفت أن معنى الجاه مللك القلوب والقدرة عليها فحكمه حكم ملك الأموال فإنه عرض من أعراض الحياة الدنيا، وينقطع بالموت كالمال، والدنيا مزرعة الآخرة، فكل ما خلق في الدنيا فيمكن أن يتزود منه للآخرة، وكما أنه لا بد من أدنى مال لضرورة المطعم والمشرب والملبس، فلا بد من أدنى جاه لضرورة المعيشة مع الخلق، والإنسان كما لا يستغني عن طعام يتناوله فيجوز أن يحب الطعام أو المال الذي يبتاع به الطعام، فكذلك لا يخلو عن الحاجة إلى خادم يخدمه، ورفيق يعينه، وأستاذ يرشده، وسلطان يحرسه ويدفع عنه ظلم الأشرار، فحبه لأن يكون له في قلب خادمه من المحل ما يدعوه إلى الخدمة بمذموم، وحبه لأن يكون له في قلب رفيقه من المحل ما يحسن به مرافقته ومعاونته ليس بمذموم، وحبه لأن يكون له في قلب أستاذه من المحل ما يحسن به إرشاده وتعليمه والعناية به ليس بمذموم، وحبه لأن يكون له من المحل في قلب سلطانه ما يحثه ذلك على دفع الشر عنه ليس بمذموم، فإن الجاه وسيلة إلى الأعراض كالمال، فلا فرق بينهما إلا أن التحقيق في هذا يفضي إلى أن لا يكون المال والجاه بأعيانهما محبوبين له، بل ينزل ذلك منزلة حب الإنسان أن يكون له في داره بيت ماء لأنه مضطر إليه لقضاء حاجته، ويود أن لو استغنى عن قضاء الحاجة حتى يستغني عن بيت الماء، فهذا على التحقيق ليس محباً لبيت المال فكل ما يراد للتوصل به إلى محبوب فالمحبوب هو المقصود المتوصل إليه. وتدرك التفرقة بمثال آخر وهو أن الرجل قد يحب زوجته من حيث إنه يدفع بها فضلة الشهوة، كما يدفع بيت الماء فضلة الطعام، ولو كفى مؤنة الشهوة لكان يهجز زوجته، كما أنه لو كفى قضاء الحاجة لكان لا يدخل بيت الماء ولا يدور به، وقد يحب الإنسان زوجته لذاتها حب العشاق ولو كفى الشهوة لبقي مستصحباً لنكاحها؛ فهذا هو الحب دون الأول، وكذلك الجاه والمال. وقد يجب كل واحد منهما على هذين الوجهين، فحبهما لأجل التوصل بهما إلى مهمات البدن غير مذموم، وحبهما لأعيابهما فيما يجاوز ضرورة البدن وحاجته مذموم، ولكنه لا يوصف صاحبه بالفسق والعصيان ما لم يحمل الحب على مباشرة معصية. وما يتوصل به إلى اكتساب بكذب وخداع وارتكاب محظور وما لم يتوصل إلى اكتسابه بعبادة، فإن التوصل إلى الجاه والمال بالعبادة جناية على الدين وهو حرام، وإليه يرجع معنى الرياء المحظور كما سيأتي.

فإن قلت: طلبه المنزلة والجاه في قلب أستاذه وخادمه ورفيقه وسلطانه ومن يرتبط به أمره مباح على الإطلاق كيفما كان؛ أو يباح إلى حد مخصوص على وجه مخصوص? فأقول: يطلب ذلك على ثلاثة أوجه؛ وجهان مباحان، ووجه محظور.

أما الوجه المحظور: فهو أن يطلب قيام المنزلة في قلوبهم باعتقادهم فيه صفة وهو منفك عنها، مثل العلم والورع والنسب، فيظهر لهم أنه علوي أو عالم أو ورع وهو لا يكون كذلك. فهذا حرام لأنه كذب وتلبيس أما بالقول أو بالمعاملة.

أما أحد المباحين: فهو أن يطلب المنزلة بصفة هو متصف بها كقول يوسف فيما أخبر عنه الرب تعالى "اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم" فإنه طلب المنزلة في قلبه بكونه حفيظاً عليماً، وكان محتاجاً إليه وكان صادقاً فيه "والثاني" أن يطلب إخفاء عيب من عيوبه ومعصية من معاصيه، حتى لا يعلم فلا تزول منزلته به، فهذا أيضاً مباح لأن حفظ الستر على القبائح جائز، ولا يجوز هتك الستر وإظهار القبيح. وهذا ليس فيه تلبيس، بل هو سد لطريق العلم بما لا فائدة في العلم به، كالذي يخفي عن السلطان أنه يشرب الخمر ولا يلقى إليه أنه ورع، فإنه قوله: إني ورع، تلبيس، وعدم إقراره بالشرب لا يوجب اعتقاد الورع بل يمنع العلم بالشرب.

ومن جملة المحظورات تحسين الصلاة بين يديه ليحسن فيه اعتقاده، فإن ذلك رياء، وهو ملبس إذ يخيل إليه أنه من المخلصين الخاشعين لله وهو مراء بما يفعله، فكيف يكون مخلصاً? فطلب الجاه بهذا الطريق حرام وكذا بكل معصية، وذلك يجري مجرى اكتساب المال الحرام من غير فرق، وكما لا يجوز له أن يتملك مال غيره بتلبيس في عوض أو غيره فلا يجوز له أن يتملك قلبه بتزوير وخداع، فإن مللك القلوب أعظم من ملك الأموال.

بيان السبب في حب المدح والثناء

وارتياح النفس به وميل الطبع إليه وبغضها للذم ونفرتها منه

اعلم أن لحب المدح والتذاذ القلب به أربعة أسباب: السبب الأول وهو الأقوى: شعور النفس بالكمال فإنا بينا أن الكمال محبوب، وكل محبوب فإدراكه لذيذ. فمهما شعرت النفس بكمالها ارتاحت واعتزت وتلذذت، والمدح يشعر نفس الممدوح بكمالها، فإن الوصف الذي به مدح لا يخلو إما أن يكون جلياً ظاهراً أو يكون مشكوكاً فيه، فإن كان جلياً ظاهراً محسوساً كانت اللذة به أقل، ولكنه لا يخلو عن لذة كثنائه عليه بأنه طويل القامة أبيض اللون فإن هذا نوع كمال ولكن النفس تغفل عنه فتخلو عن لذته، فإذا استشعرته لم يخل حدوث الشعور عن حدوث لذة، وإن كان ذلك الوصف مما يتطرق إليه الشك فاللذة فيه أعظم كالثناء عليه بكمال العلم أو كمال الورع أو بالحسن المطلق، فإن الإنسان ربما يكون شاكاً في كمال حسنه وفي كمال علمه وكمال ورعه ويكون مشتاقاً إلى زوال هذا الشك بأن يصير مستيقناً لكونه عديم النظير في هذه الأمور إذ تطمئن نفسه إليه، إذا ذكره غيره أورث ذلك طمأنينة وثقة باستشعار ذلك الكمال فتعظم لذاته، وإنما تعظم اللذة بهذه العلة مهما صدر الثناء من بصير بهذه الصفات خبير بها لا يجازف في القول إلا عن تحقيق وذلك كفرح التلميذ بثناء أستاذه عليه بالكياسة والذكاء وغزارة الفضل فإنه في غاية اللذة، وإن صدر ممن يجازف في الكلام أو لا يكون بصيراً بذلك الوصف ضعفت اللذة، وبهذه العلة يبغض الذم أيضاً ويكرهه لأنه يشعره بنقصان نفسه والنقصان ضد الكمال المحبوب فهو ممقوت الشعور به مؤلم، ولذلك يعظم الألم إذا صدر الذم من بصير موثوق به كما ذكرناه في المدح.

السبب الثاني: أن المدح يدل على أن قلب المادح مملوك للممدوح وأنه مريد له ومعتقد فيه ومسخر تحت مشيئته وملك القلوب محبوب والشعور بحصوله لذيذ، وبهذه العلة تعظم اللذة مهما صدر الثناء ممن تتسع قدرته وينتفع باقتناص قلبه كالملوك والأكابر، ويضعف مهما كان المادح ممن لا يؤبه له ولا يقدر على شيء، فإن القدرة عليه بملك قلبه قدرة على أمر حقير فلا يدل المدح إلا على قدرة قاصرة، وبهذه العلة أيضاً يكره الذم ويتألم به القلب، وإذا كان من الأكابر كانت نكايته أعظم لأن الفائت به أعظم.

السبب الثالث: أن ثناء المثني ومدح المادح سبب لاصطياد قلب كل من يسمعه، لا سيما إذ كان ذلك ممن يلتفت إلى قوله ويعتد بثنائه، وهذا مختص بثناء يقع على الملأ فلا جرم كلما كان الجمع أكثر والمثني أجدر بأن يلتفت إلى قوله كان المدح ألذ والذم أشد على النفس.

السبب الرابع: أن المدح يدل على حشمة الممدوح، واضطرار المادح إلى إطلاق اللسان بالثناء على الممدوح إما عن طوع وإما عن قهر، فإن الحشمة أيضاً لذيذة لما فيها من القهر والقدرة، وهذه اللذة تحصل وإن كان المادح لا يعتقد في الباطن ما مدح به، ولكن كونه مضطراً إلى ذكره نوع قهر واستيلاء عليه، فال جرك تكون لذته بقدر تمنع المادح وقوته، فتكون لذة ثناء القوي الممتنع عن التواضع بالثناء أشد.

فهذه الأسباب الأربعة قد تجمع في مدح مادح واحد فيعظم بها الالتذاذ، وقد تفترق فتنقص اللذة بها. أما العلة الأولى وهي استشعار الكمال فتندفع بأن يعلم الممدوح أنه غير صادق في قوله، كما إذا مدح بأنه نسيب أو سخي أو عالم يعلم أو متورع عن المحظورات وهو يعلم من نفسه ضد ذلك، فتزول اللذة التي سببها استشعار الكمال وتبقى لذة الاستيلاء على قلبه وعلى لسانه وبقية اللذات، فإن كان يعلم أن المادح ليس يعتقد ما يقوله ويعلم خلوه عن هذه الصفة بطلت اللذة الثانية وهو استيلاؤه على قلبه، وتبقى لذة الاستيلاء والحشمة على اضطرار لسانه إلى النطق بالثناء فإن لم يكن ذلك عن خوف بل كان بطريق اللعب بطلت اللذات كلها فلم يكن فيه أصلاً لذة لفوات الأسباب الثلاثة فهذا ما يكشف الغطاء عن علة التذاذ النفس بالمدح وتألمها بسبب الذم. وإنما ذكرنا ذلك ليعرف طريق العلاج لحب الجاه وحب المحمدة وخوف المذمة، فإن ما لا يعرف سببه لا يمكن معالجته، إذ العلاج عبارة عن حل أسباب المرض. والله الموفق بكرمه ولطفه وصلى الله على كل عبد مصطفى.

بيان علاج حب الجاه

اعلم ان من غلب على قلبه حب الجاه صار مقصور الهم على مراعاة الخلق مشغوفاً بالتودد إليهم والمراءات لأجلهم، ولا يزال في أقواله وأفعاله ملتفتاً إلى ما يعظم منزلته عندهم وذلك بذر النفاق وأصل الفساد، ويجر ذلك لا محالة إلى التساهل في العبادات والمراءاة بها وإلى اقتحام المحظورات للتوصل إلى اقتناص القلوب، ولذلك شبه رسول الله حب الشرف والمال وإفسادهما للدين بذئبين ضاريين وقال عليه السلام "إنه ينبت النفاق كما ينبت الماء البقل" إذاً النفاق هو مخالفة الظاهر للباطن بالقول أو الفعل، وكل من طلب المنزلة في قلوب الناس فيضطر إلى النفاق معهم وإلى التظاهر بخصال حميدة هو خال عنها، وذلك هو عين النفاق.

فحب الجاه إذن من المهلكات، فجب علاجه وإزالته عن القلب فإنه طبع جبل عليه القلب كما جبل على حب المال؛ وعلاجه مركب من علم وعمل.

أما العلم: فهو أن يعلم السبب الذي لأجله أحب الجاه وهو كمال القدرة على أشخاص الناس وعلى قلوبهم، وقد بينا أن ذلك إن صفا وسلم فآخره الموت، فليس هو من الباقيات الصالحات، بل لو سجد لك كل من على بسيط الأرض من المشرق إلى المغرب فإلى خمسين سنة لا يبقى الساجد ولا المسجود له، ويكون حالك كحال من مات قبلك من ذوي الجاه مع المتواضعين له. فهذا لا ينبغي أن يترك به الدين الذي هو الحياة الأبدية التي لا انقطاع لها، ومن فهم الكمال الحقيقي والكمال الوهمي -كما سبق- صغر الجاه في عينه، إلا أن ذلك إنما يصغر في عين من ينظر إلى الآخرة كأنه يشاهدها ويستحقر العاجلة ويكون الموت كالحاصل عنده، ويكون حاله كحال الحسن البصري حين كتب إلى عمر بن عبد العزيز "أما بعد: فكأنك بآخر من كتب عليه الموت قد مات" فانظر كيف مد نظره نحو المستقبل وقدره كائناً. وكذلك حال عمر بن عبد العزيز حين كتب في جوابه "أما بعد: فكأنك الدنيا لم تكن وكأنك الآخرة لم تزل" فهؤلاء كان التفاتهم إلى العاقبة، فكان عملهم لها بالتقوى إذ علموا أن العاقبة للمتقين، فاستحقروا الجاه والمال في الدنيا. وأبصار أكثر الخلق ضعيفة مقصورة على العاجلة لا يمتد نورها إلى مشاهدة العواقب، ولذلك قال تعالى "بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى" وقال عز وجل "كلا بل تحبون العاجلة، وتذرون الآخرة" فمن هذا حده فينبغي أن يعالج قلبه من حب الجاه بالعلم بالآفات العاجلة، وهو أن يتفكر في الأخطار التي يستهدف لها أرباب الجاه في الدنيا، فإن كل ذي جاه محسود ومقصود بالإيذاء وخائف على الدوام على جاهه ومحترز من أن تتغير منزلته في القلوب، والقلوب أشد تغيراً من القدر في غليانها وهي مترددة بين الإقبال والإعراض، فكل ما يبنى على قلوب الخلق يضاهي ما يبنى على أمواج البحر فإنه لا ثبات له، والاشتغال بمراعاة القلوب وحفظ الجاه ودفع كيد الحساد ومنع أذى الأعداء كل ذلك غموم عاجلة ومكدرة للذة الجاه، فلا يفي في الدنيا مرجوها بمخوفها فضلاً عما يفوت في الآخرة، فبهذا ينبغي أن تعالج البصيرة الضعيفة. وأما من نفذت بصيرته وقوي إيمانه فلا يلتفت إلى الدنيا، فهذا هو العلاج من حيث العلم.

وأما من حيث العمل: فإسقاط الجاه عن قلوب الخلق بمباشرة أفعال يلام عليها حتى يسقط من أعين الخلق وتفارقه لذة القبول ويأنس بالخمول ويرد الخلق ويقنع بالقبول من الخالق. وهذا هو مذهب الملامتية؛ إذ اقتحموا الفواحش في صورتها ليسقطوا أنفسهم من أعين الناس فيسلموا من آفة الجاه، وهذا غير جائز لمن يقتدى به فإنه يوهن الدين في قلوب المسلمين، وأما الذي لا يقتدى به فلا يجوز له أن يقدم على محظور لأجل ذلك، بل له أن يفعل من المباحات ما يسقط قدره عند الناس؛ كما روي أن بعض الملوك قصد بعض الزهاد، فلما علم بقربه منه استدعى طعاماً وبقلاً وأخذ يأكل بشره ويعظم اللقمة، فلما نظر غليه الملك سقط من عينه وانصرف، فقال الزاهد: الحمد لله الذي صرفك عني. ومنهم من شرب شراباً حلالاً في قدح لونه لون الخمر حتى يظن به أنه يشرب الخمر فيسقط من أعين الناس. وهذا في جوازه نظر من حيث الفقه إلا أن أرباب الأحوال ربما يعالجون أنفسهم بما لا يفتي به الفقه مهما رأوا إصلاح قلوبهم فيه ثم يتداركون ما فرط منهم فيه من صورة التقصير، كما فعل بعضهم، فإنه عرف بالزهد وأقبل الناس عليه، فدخل حماماً ولبس ثياب غيره وخرج فوقف في الطريق حتى عرفوه فأخذوه وضربوه واستردوا منه الثياب وقالوا: إنه طرار وهجروه وأقوى الطرق في قطع الجاه الاعتزال عن الناس والهجرة إلى موضع الخمول، فإن المعتزل في بيته في البلد الذي هو به مشهور لا يخلو عن حب المنزلة التي ترسخ له في القلوب بسبب عزلته، فإنه ربما يظن أنه ليس محباً لذلك الجاه وهو مغرور، وإنما سكنت نفسه لأنها قد ظفرت بمقصودها ولو تغير الناس عما اعتقدوه فيه فذموه أو نسبوه إلى أمر غير لائق به جزعت نفسه وتألمت، وربما توصلت إلى الاعتذار عن ذلك وإماطة ذلك الغبار عن قلوبهم، وربما يحتاج في إزالة ذلك عن قلوبهم إلى كذب وتلبيس ولا يبالي به، وبه ويتبين بعد أنه محب للجاه والمنزلة. ومن أحب الجاه والمنزلة فهو كمن أحب المال بل هو شر منه فإن فتنة الجاه أعظم، ولا يمكنه أن لا يحب المنزلة في قلوب الناس ما دام يطمع في الناس، فإذا أحرز قوته من كسبه أو من جهة أخرى وقطع طمعه عن الناس رأساً أصبح الناس كلهم عنده كالأرذال، فلا يبالي أكان له منزلة في قلوبهم أم لم يكن، كما لا يبالي بما في قلوب الذين هم منه في أقصى المشرق لأنه لا يراهم ولا يطمع فيهم، ولا يقطع الطمع عن الناس إلا بالقناعة، فمن قنع استغنى عن الناس وإذا استغنى لم يشتغل قلبه بالناس ولم يكن لقيام منزلته في القلوب عنده وزن، ولا يتم ترك الجاه إلا بالقناعة وقطع الطمع. ويستعين على جميع ذلك بالأخبار الواردة في ذم الجاه ومدح الخمول والذل مثل قولهم: المؤمن لا يخلو من ذلة أو قلة أو علة. وينظر في أحوال السلف وإيثارهم للذل على العز ورغبتهم في ثواب الآخرة رضي الله عنهم أجمعين.

بيان وجه العلاج لحب المدح وكراهة الذم

اعلم أن أكبر الناس إنما هلكوا فخوف مذمة الناس وحب مدحهم، فصار حركاتهم كلها موقوفة على ما يوافق رضا الناس رجاء للمدح وخوفاً من الذم، وذلك من المهلكات فيجب معالجته وطريقة ملاحظة الأسباب التي لأجلها يحب المدح ويكره الذم.

أما السبب الأول: فهو استشعار الكمال بسبب قول المادح فطريقك فيه أن ترجع إلى عقلك وتقول لنفسك: هذه الصفة التي يمدحك بها أنت متصف بها أم لا? فإن كنت متصفاً بها فهي إما صفة تستحق المدح كالعلم والورع، وإما صفة لا تستحق المدح كالثروة والجاه والأعراض الدنيوية فإن كانت من الأعراض الدنيوية فالفرح بها كالفرح بنبات الأرض الذي يصير على القرب هشيماً تذروه الرياح، وهذا من قلة العقل، بل العاقل يقول كما قال المتنبي: أشد الغم عندي في سرور تيقن عنه صاحبه انتقالا

فلا ينبغي أن يفرح الإنسان بعروض الدنيا، وإن فرح فلا ينبغي أن يفرح بمدح المادح بها بوجودها والمدح ليس هو سبب وجودها. وإن كانت الصفة مما يستحق الفرح بها كالعلم والورع فينبغي أن لا يفرح بها لأن الخاتمة غير معلومة، وهذا إنما يفتضي الفرح لأنه يقرب عند الله زلفى، وخطر الخاتمة باق ففي الخوف من سوء الخاتمة شغل عن الفرح بكل ما في الدنيا، بل الدنيا دار أحزان وغموم لا دار فرح وسرور ثم إن كنت تفرح بها على رجاء حسن الخاتمة فينبغي أن يكون فرحك بفضل الله عليك بالعلم والتقوى لا يمدح المادح، فإن اللذة في استشعار الكمال والكمال موجود من فضل الله لا من المدح والمدح تابع له فلا ينبغي أن تفرح بالمدح، والمدح لا يزيدك فضلاً وإن كانت الصفة التي مدحت بها أنت خال عنها ففرحك بالمدح غاية الجنون، ومثالك مثال من يهزأ به إنسان ويقول سبحان الله ما أكثر العطر الذي في أحشائه وما أطيب الروائح التي تفوح منه? إذا قضى حاجته، وهو يعلم ما تشتمل عليه أمعاؤه من الأقذار والأنتان، ثم يفرح بذلك فكذلك إذا ثنوا عليك بالصلاح والورع ففرحت به والله مطلع على خبائث باطنك وغوائل سريرتك وأقذار صفاتك -كان ذلك من غاية الجهل. فإذاً المادح إن صدق فليكن فرحك بصفتتك التي هي من فضل الله عليك، وإن كذب فينبغي أن يغمك ذلك ولا تفرح به.

وأما السبب الثاني: وهو دلالة المدح على تسخين قلب المادح وكونه سبباً لتسخير قلب آخر، فهذا يرجع إلى حب الجاه والمنزلة في القلوب -وقد سبق وجه معالجته، وذلك بقطع الطمع عن الناس وطلب المنزلة عند الله، وبأن تعلم أن طلبة المنزلة في قلوب الناس وفرحك به يسقط منزلتك عند الله! فكيف تفرح به? وأما السبب الثالث: وهو الحشمة التي اضطرت المادح إلى المدح، فهو أيضاً يرجع إلى قدرة عارضة لإثبات لها ولا تستحق الفرح، بل ينبغي أن يغمك مدح المادح وتكرهه وتغضب به -كما نقل ذلك عن السلف- لأن آفة المدح على الممدوح عظيمة -كما ذكرناه في كتاب آفات اللسان- قال بعض السلف: من فرح بمدح فقد مكن الشيطان من أن يدخل في بطنه. وقال بعضهم: نعم الرجل أنت، فكان أحب إليك من أن يقال لك: بئس الرجل أنت، فأنت والله بئس الرجل. وروي في بعض الأخبار -فإن صح فهو قاصم للظهور- أن رجلاً أثنى على رجل خيراً عند رسول الله فقال "لو كان صاحبك حاضراً فرضي الذي قلت فمات على ذلك دخل النار وقال مرة للمادح "ويحك قصمت ظهره لو سمعك ما أفلح إلى يوم القيامة وقال عليه السلام "ألا لا تمادحوا وإذا رأيتم المادحين فاحثوا في وجوههم التراب فلهذا كان الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين على وجل عظيم من المدح وفتنته وما يدخل على القلب من السرور العظيم به، حتى إن بعض الخلفاء الراشدين سأل رجلاً عن شيء فقال: أنت يا أمير المؤمنين خير مني وأعلم، فغضب وقال: إني لم آمرك بأن تزكيني وقيل لبعض الصحابة: لا يزال الناس بخير ما أبقاك الله، فغضب وقال: إني لأحسبك عراقياً. وقال بعضهم -لما مدح- اللهم إن عبدك تقرب إلي بمقتك فأشهدك على مقته. وإنما كرهوا المدح خيفة أن يفرحوا بمدح الخلق وهم ممقوتون عند الخالق، فكان اشتغال قلوبهم بحالهم عند الله تعالى يبغض إليهم مدح الخلق، لأن الممدوح هو المقرب عند الله والمذموم بالحقيقة هو المبعد من الله الملقى في النار مع الأشرار فهذا الممدوح إن كان عند الله من أهل النار فما أعظم جهله إذا فرح بمدح غيره، وإن كان من أهل الجنة فلا ينبغي أن يفرح إلا بفضل الله تعالى وثنائه عليه إذ ليس أمره بيد الخلق. ومهما علم أن الأرزاق والآجال بيد الله تعالى قل التفاته إلى مدح الخلق وذمهم وسقط من قلبه حب المدح واشتغل بما يهمه من أمر دينه. والله الموفق للصواب برحمته.

بيان علاج كراهة الذم

قد سبق أن العلة في كراهة الذم هو ضد العلة في حب المدح، فعلاجه أيضاً يفهم منه. والقول الوجيز فيه أن من ذمك لا يخلو من ثلاثة أحوال.

إما أن يكون قد صدق فيما قال وقصد به النصح والشفقة؛ وإما أن يكون صادقاً ولكن قصده الإيذاء والتعنت وإما أن يكون كاذباً.

فإن كان صادقاً وقصده النصح فلا ينبغي أن تذمه وتغضب عليه وتحقد بسببه، بل ينبغي أن تتقلد منته فإن من أهدى إليك عيوبك فقد أرشدك إلى المهلك حتى تتقيه، فينبغي أن تفرح به وتشتغل بإزالة الصفة المذمومة عن نفسك إن قدرت عليها، فأما اغتمامك بسبب وكراهتك له وذمك إياه فإنه غاية الجهل، وإن كان قصده التعنت فأنت قد انتفعت بقوله إذ أرشدك إلى عيبك إن كنت جاهلاً به، وأذكرك عيبك إن كنت غافلاً عنه، أو قبحه في عينك لينبعث من حرصك على إزالته إن كنت قد استحسنته. وكل ذلك أسباب سعادتك وقد استفدته منه فاشتغل بطلب السعادة فقد أتيح لك أسبابها بسبب ما سمعته من المذمة. فمهما قصدت الدخول على مللك وثوبك ملوث بالعذرة وأنت لا تدري، ولو دخلت عليه كذلك لخفت أن يحز رقبتك لتلويثك مجلسة بالعذرة فقال قائل: أيها الملوث بالعذرة طهر نفسك، فينبغي أن تفرح به لأن تنبيهك بقوله غنيمة، وجميع مساوئ الأخلاق مهلكة في الآخرة والإنسان إنما يعرفها من قول أعدائه فينبغي أن يغتنمه. وأما قصد العدو التعنت فجناية منه على دين نفسه وهو نعمة منه عليك فلم تغضب عليه بقول انتفعت به أنت وتضرر هو به? الحالة الثالثة: أن يفتري عليك بما أنت بريء منه عند الله تعالى فينبغي أن لا تكره ذلك ولا تشتغل بذمه، بل تتفكر في ثلاثة أمور "أحدها" أنك إن خلوت من ذلك العيب فلا تخلو عن أمثاله وأشباهه، وما ستره الله من عيوبك أكثر، فاشكر الله تعالى إذ لم يطلعه على عيوبك ودفعه عنك بذكر ما أنت بريء عنه. "والثاني" أن ذلك كفارات لبقية مساويك وذنوبك فكأنه رماك بعيب أنت بريء منه وطهرك من ذنوب أنت ملوث بها وكل من اغتابك فقد أهدى إليك حسناته وكل من مدحك فقد قطع ظهرك. فما بالك تفرح بقطع الظهر وتحزن لهدايا الحسنات التي تقربك إلى الله تعالى وأنت تزعم أنك تحب القرب من الله. "وأما الثالث" فهو أن المسكين قد جنى على دينه حتى سقط من عين الله وأهلك نفسه بافترائه وتعرض لعقابه الأليم، فلا ينبغي أن تغضب عليه مع غضب الله عليه فتشمت به الشيطان وتقول: اللهم أهلكه، بل ينبغي أن تقول: اللهم أصلحه اللهم تب عليه اللهم ارحمه، كما قال "اللهم اغفر لقومي اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون لما أن كسروا ثنيته وشجوا وجهه وقتلوا عمه حمزة يوم أحد. ودعا إبراهيم بن أدهم لمن شج رأسه بالمغفرة فقيل له في ذلك فقال: علمت أني مأجور بسبب وما نالني منه إلا خير فلا أرضى أن يكون هو معقباً بسببي. ومما يهون عليك كراهة المذمة قطع الطمع فإن من استغنيت عنه مهما ذمك لم يعظم أثر ذلك في قلبه، وأصل الدين القناعة وبها ينقطع الطمع عن المال والجاه، وما دام الطمع قائماً كان حب الجاه والمدح في قلب من طمعت فيه غالباً، وكانت همتك إلى تحصيل المنزلة في قلبه مصروفة، ولا ينال ذلك إلا بهدم الدين، فلا ينبغي أن يطمع طالب المال والجاه ومحب المدح ومبغض الذم في سلامة دينه فإن ذلك بعيد جداً.

بيان اختلاف أحوال الناس في المدح والذم

اعلم أن للناس أربعة أحوال بالإضافة إلى الذام والمادح: الحالة الأولى: أن يفرح بالمدح ويشكر المادح ويغضب من الذم ويحقد على الذام ويكافئه أو يحب مكافأته، وهذا حال أكثر الخلق وهو غاية درجات المعصية في هذا الباب.

الحالة الثانية: أن يمتعض في الباطن على الذام ولكن يمسك لسانه وجوارحه عن مكافاته ويفرح باطنه، ويرتاح للمادح ولكن يحفظ ظاهره عن إظهار السرور، وهذا من النقصان إلا أنه بالإضافة إلى ما قبله كمال.

الحالة الثالثة: وهي أول درجات الكمال أن يستوي عنده ذامه ومادحه فلا تغمه المذمة ولا تسره استثقالاً. وهذا قد يظنه بعض العباد بنفسه ويكون مغروراً إن لم يمتحن نفسه بعلاماته. وعلاماته أن لا يجد في نفسه استثقالاً للذام عند تطويله الجلوس عنده أكثر مما يجده في المادح، وأن لا يجد في نفسه زيادة هزة ونشاط في قضاء حوائج المادح فوق ما يجده في قضاء حاجة الذام، وأن لا يكون انقطاع الذام عن مجلسه أهون عليه من انقطاع المادح، وأن لا يكون موت المادح المطري له أشد نكاية في قلبه من موت الذام، وأن لا يكون غمه بمصيبة المادح وما يناله من أعدائه أكثر مما يكون بمصيبة الذام، وأن لا تكون زلة المادح أخف على قلبه وفي عينه من زلة الذام. فمهما خف الذام على قلبه كما خف المادح واستويا من كل وجه فقد نال هذه الرتبة وما أبعد ذلك وما أشده على القلوب! وأكثر العباد فرحهم بمدح الناس لهم مستبطن في قلوبهم وهم لا يشعرون حيث لا يمتحنون أنفسهم بهذه العلامات، وربما شعر العابد بميل قلبه إلى المادح دون الذام، والشيطان يحسن له ذلك ويقول: الذام قد عصى الله بمذمتك، والمادح قد أطاع الله بمدحك، فكيف تسوي بينهما? وإنما استثقالك للذام من الدين المحض. وهنا محض التلبيس، فإن العابد لو تفكر علم أن في الناس من ارتكب كبائر المعاصي أكثر مما ارتكب الذام في مذمته، ثم إنه لا يستثقلهم ولا ينفر عنهم، ويعلم أن المادح الذي مدح لا يخلو عن مذمة غيره. ولا يجد في نفسه نفرة عنه بمذمة غيره كما يجد لمذمة نفسه، والمذمة من حيث إنها معصية لا تختلف بأن يكون هو المذموم أو غيره. فإذا العابد المغرور لنفسه يغضب ولهواه يمتعض، ثم إن الشيطان يخيل إليه أنه من الدين حتى يعتل على الله بهواه فيزيده ذلك بعداً من الله. ومن لم يطع على مكايد الشيطان وآفات النفوس فأكثر عباداته تعب ضائع يفوت عليه الدنيا ويخسره في الآخرة، وفيهم قال الله تعالى "قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذي ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً".

الحالة الرابعة: وهي الصدق في العبادة؛ أن يكره المدح ويمقت المادح، إذا يعلم أنه فتنة عليه قاصمة للظهر مضرة له في الدين، ويحب الذام إذ يعلم أنه مهد غليه عيبه ومرشد له إلى مهمه ومهد إليه حسناته، فقد قال "رأس التواضع أن تكره أن تذكر بالبر والتقوى وقد روي في بعض الأخبار ما هو قاصم لظهور أمثالنا إن صح، إذ روي أن قال "ويل للصائم وويل للقائم وويل لصاحب الصوف إلا من..." فقيل يا رسول الله إلا من? فقال "إلا من تنزهت نفسه عن الدنيا وأبعض المدحة واستحب المذمة وهذا شديد جداً، وغاية أمثالها الطمع في الحالة الثانية، وهو أن يضمر الفرح والكراهة على الذام والمادح، ولا يظهر ذلك بالقول والعمل، فأما الحالة الثالثة وهي التسوية بين المادح والذام فلسنا نطمع فيها. ثم إن طالبنا أنفسنا بعلامة الحالة الثانية فإنها لا تفي بها، لأنها لا بد وأن تتسارع إلى إكرام المادح وقضاء حاجاته، وتتثاقل على إكرام الذام والثناء عليه وقضاء حوائجه، ولا نقدر على أن نسوي بينهما في الفعل الظاهر كما لا نقدر عليه في سريرة القلب، ومن قدر على التسوية بين المادح والذام في ظاهر الفعل فهو جدير بأن يتخذ قدوة في هذا الزمان إن وجد فإنه الكبريت الأحمر يتحدث الناس به ولا يرى، فكيف بما بعده من المرتبتين? وكل واحدة من هذه الرتب أيضاً فيها درجات. أما الدرجات في المدح فهو أن من الناس من يتمنى المدحة والثناء وانتشار الصيت، فيتوصل إلى نيل ذلك بكل ما يمكن حتى يرائي بالعبادات، ولا يبالي بمفارقة المحظورات لاستمالة قلوب الناس واستنطاق ألسنتهم بالمدح وهذا من الهالكين. ومنهم من يريد ذلك ويطلبه بالمباحات ولا يطلبه بالعبادات، ولا يباشر المحظورات، وهذا على شرف جرف هاو، فإن حدود الكلام الذي يستميل به القلوب وحدود الأعمال لا يمكنه أن يضبطها فيوشك أن يقع فيما لا يحل لنيل الحمد، فهو قريب من الهالكين جداً. ومنهم من لا يريد المدحة ولا يسعى لطلبها، ولكن إذا مدح سبق السرور إلى قلبه فإذا لم يقابل ذلك بالمجاهدة ولم يتكلف الكراهية فهو قريب من أن يستجره فرط السرور إلى الرتبة التي قبلها وإن جاهد نفسه في ذلك وكلف قلبه الكراهية وبغض السرور إليه بالتفكر في آفات المدح، فهو في خطر المجاهدة فتارة تكون اليد له وتارة تكون عليه. ومنهم من إذا سمع المدح لم يسر به ولم يغتم به ولم يؤثر فيه وهذا على خير، وإن كان قد بقي عليه بقية من الإخلاص. ومنهم من يكره المدح إذا سمعه ولكن لا ينتهي به إلى أن يغضب على المادح وينكر عليه، وأقصى درجاته أن يكره ويغضب ويظهر الغضب وهو صادق فيه، لا أن يظهر الغضب وقلبه محب له فإن ذلك عين النفاق، لأنه يريد أن يظهر من نفسه الإخلاص والصدق وهو مفلس عنه؛ وكذلك بالضد من هذا تتفاوت الأحوال في حق الذام، وأول درجاته إظهار الغضب وآخرها إظهار الفرح، ولا يكون الفرح وإظهاره إلا ممن في قلبه حنق وحقد على نفسه لتمردها عليه وكثرة عيوبها ومواعيدها الكاذبة وتلبيساتها الخبيثة فيبغضها بغض العدو، والإنسان يفرح ممن يذم عدوه، وهذا شخص عدوه نفسه فيفرح إذا سمع ذمها ويشكر الذام على ذلك ويعتقد فطنته وذكاءه لما وقف على عيوبها، فيكون ذلك كالتشفي له من نفسه ويكون غنيمة عنده إذ صار بالمذمة أوضع في أبين الناس حتى لا يبتلي بفتنة الناس، وإذا سقيت إليه حسنات لم ينصب فيها فسعاه يكون خيراً لعيوبه التي هو عاجز عن إماطتها، ولو جاهد المريد نفسه طول عمره في هذه الخصلة الواحدة وهو أن يستوي عنده ذامه ومادحه لكان له شغل شاغل فيه لا يتفرغ معه لغيره وبينه وبين السعادة عقبات كثيرة هذه إحداها، ولا يقطع شيئاً منها إلا بالمجاهدة الشديدة في العمر الطويل.