إحياء علوم الدين/كتاب ذم الجاه والرياء/الشطر الثاني



الشطر الثاني من الكتاب

في طلب الجاه والمنزلة بالعبادات


وهو الرياء: وفيه بيان ذم الرياء، وبيان حقيقة الرياء وما يرائى، وبيان درجات الرياء؛ وبيان الرياء الخفي؛ وبيان ما يحبط العمل من الرياء وما لا يحبط؛ وبيان دواء الرياء وعلاجه؛ وبيان الرخصة في إظهار الطاعات وبيان الرخصة في كتمان الذنوب؛ وبيان ترك الطاعات خوفاً من الرياء والآفات، وبيان ما يصح من نشاط العبد للعبادات بسبب رؤية الخلق؛ وبيان ما يجب على المريد أن يلزمه قلبه قبل الطاعة وبعدها. وهي عشرة فصول وبالله التوفيق.

بيان ذم الرياء

اعلم أن الرياء حرام والمرائي عند الله ممقوت، وقد شهدت لذلك الآيات والأخبار والآثار.

أما الآيات: فقوله تعالى "فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون" وقوله عز وجل "والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور" قال مجاهد هم أهل الرياء. وقال تعالى "إنما نعطمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا" فمدح المخلصين ينفي كل إرادة سوى وجه الله، والرياء ضده وقال تعالى "فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحدا نزل بعد ذلك فيمن يطلب الأجر والحمد بعباداته وأعماله.

وأما الأخبار: فقد قال حيث سأله رجل فقال: يا رسول الله فيم النجاة? فقال "أن لا يعمل العبد بطاعة الله يريد بها الناس" وقال أبو هريرة في حديث الثلاثة -المقتول في سبيل الله والمتصدق بماله والقارئ لكتاب الله، كما أوردناه في كتاب الإخلاص-: وإن الله عز وجل يقول لكل واحد منهم: كذبت بل أردت أن يقال فلان جواد، كذبت بل أردت أن يقال فلان شجاع، كذبت بل أردت أن يقال فلان قارئ. فأخبر أنهم يثابوا وأن رياءهم هو الذي أحبط أعمالهم وقال ابن عمر رضي الله عنهما: قال النبي "من راءى راءى الله به ومن سمع سمع الله به وفي حديث آخر طويل "إن الله تعالى يقول لملائكته إن هذا لم يردني بعمله فاجعلوه في سجين وقال "إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا وما الشرك الأصغر يا رسول الله? "قال الرياء" يقول الله عز وجل يوم القيامة إذا جازى العباد بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا عل تجدون عندهم الجزاء وقال "استعيذوا بالله عز وجل من جب الحزن، قيل وما هو يا رسول الله? قال "واد جهنم أعد للقراء المرائين وقال "يقول الله عز وجل: من عمل لي عملاً أشرك فيه غيري فهو له كله وأنا منه بريء وأنا أغنى الأغنياء عن الشرك وقال عيسى المسيح : إذا كان يوم صوم أحدكم فليدهن رأسه ولحيته ويمسح شفتيه لئلا يرى الناس أنه صائم، وإذا أعطى بيمينه فليخف عن شماله، وإذا صلى فليرخ ستر بابه فإن الله يقسم الثناء كما يقسم الرزق وقال نبينا "لا يقبل الله عز وجل عملاً فيه مثقال ذرة من رياء وقال عمر لمعاذ بن جبل حين رآه يبكي: ما يبكيك? قال: حديث سمعته من صاحب هذا القبر يعني النبي يقول "إن أدنى الرياء شرك وقال "أخوف ما أخاف عليكم الرياء والشهرة الخفية وهي أيضاً ترجع إلى خطايا الرياء ودقائقه وقال "إن في ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله رجلاً تصدق بيمينه فكاد يخفيها عن شماله ولذلك ورد "أن فضل عمل السر على عمل الجهر بسبعين ضعفاً وقال "إن المرائي ينادى عليه يوم القيامة يا فاجر يا غادر يا مرائي ضل عملك وحبط أجرك اذهب فخذ أجرك ممن كنت تعمل له وقال شداد بن أوس: رأيت النبي يبكي فقلت ما يبكيك يا رسول الله? قال "إني تخوفت على أمتي الشرك أما إنهم لا يعبدون صنماً ولا شمساً ولا قمراً ولا حجراً ولكنهم يراءون بأعمالهم وقال "لما خلق الله الأرض مادت بأهلها فخلق الجبال فصيرها أوتاداً للأرض. فقالت الملائكة: ما خلق ربنا خلقاً هو أشد من الجبال" فخلق الله الحديد فقطع الجبال، ثم خلق النار فأذابت الحديد، ثم أمر الله الماء بإطفاء النار، وأمر الريح فكدرت الماء، فاختلفت الملائكة فقالت: نسأل الله تعالى، قالوا: يا رب ما أشد ما خلقت من خلقك? قال الله تعالى لم أخلق خلقاً هو أشد على من قلب ابن آدم حين يتصدق بصدقة بيمينه فيخفيها عن شماله فهذا أشد خلقاً خلقه وروى عبد الله بن المبارك بإسناده عن رجل أنه قال لمعاذ بن جبل: حدثني حديثاً سمعته من رسول الله قال: فبكى معاذ حتى ظننت أنه لا يسكت ثم سكت ثم قال سمعت النبي قال لي "يا معاذ" قلت لبيك بأبي أنت وأمي يا رسول الله قال "إني محدثك حديثاً إن أنت حفظته نفعك وإن أنت ضيعته ولم تحفظه انقطعت حجتك عند الله يوم القيامة، يا معاذ إن الله تعالى خلق سبعة أملاك قبل أن يخلق السموات والأرض، ثم خلق السموات فجعل لكل سماء من السبعة ملكاً بواباً عليها قد جللها عظماً فتصعد الحفظة بعمل العبد من حين أصبح إلى حين أمسى، له نور كنور الشمس، حتى إذا صعدت به إلى السماء الدنيا زكته فكثرته فيقول الملك للحفظة: اضربوا بهذا العمل وجه صاحبه، أنا صاحب الغيبة أمرني ربي أن لا أدع عمل من اغتاب الناس يجاوزني إلى غيري" قال "ثم تأتي الحفظة بعمل صالح من أعمال العبد فتمر به فتزكيه وتكثره حتى تبلغ به إلى السماء الثانية فيقول لهم الملك الموكل بها: قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه إنه أراد بعمله هذا عرض الدنيا أمرني ربي أن لا أدع

عمله يجاوزني إلى غيري إنه كان يفتخر به على الناس في مجالسهم" قال "وتصعد الحفظة يعمل يبتهج نوراً من صدقة وصيام وصلاة قد أعجب الحفظة فيجاوزون به إلى السماء الثالثة فيقول لهم الملك الموكل بها: قفوا واضربوا بها العمل وجه صاحبه، أنا ملك الكبر أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري إنه كان يتكبر على الناس في مجالسهم" قال "وتصعد الحفظة بعمل العبد يزهر كما يزهر الكوكب الدري له دوى من تسبيح وصلاة وحج وعمرة حتى يجاوزوا به السماء الرابعة فيقول لهم الملك الموكل بها:قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه اضربوا به ظهره وبطنه، أنا صاحب العجب أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري إنه كان إذا عمل عملاً أدخل العجب في عمله" قال "وتصعد الحفظة بعمل العبد حتى تجاوزوا به السماء الخامسة كأنه العروس المزفوفة إلى أهلها فيقول لهم الملك الموكل بها: قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه واحملوه على عاتقه أنا ملك الحسد إنه كان يحسد الناس من يتعلم ويعمل بمثل عمله وكل من كان يأخذ فضلاً من العبادة يحسدهم ويقع فيها أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري" قال "وتصعد الحفظة بعمل العبد من صلاة وزكاة وحج وعمرة وصيام فيجاوزون بها إلى السماء السادسة فيقول لهم الملك الموكل بها: قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه إنه كان لا يرحم إنساناً قط من عباد الله أصابه بلاء أو ضر أضر به بل كان يشمت به، أنا ملك الرحمة أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري" قال "وتصعد الحفظة بعمل العبد إلى السماء السابعة من صوم وصلاة ونفقة وزكاة واجتهاد وورع له دوي كدوي الرعد وضوء كضوء الشمس معه ثلاثة آلاف ملك فيجاوزون به إلى السماء السابعة فيقول لهم الملك الموكل بها: قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه، اضربوا به جوارحه اقفلوا به على قلبه إني أحجب عن ربي كل عمل لم يرد به وجه ربي إنه أراد بعمله غير الله تعالى، إنه أراد رفعة عن الفقهاء وذكراً عند العلماء وصيتاً في المدائن، أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري، وكل عمل لم لله خالصاً فهو رياء ولا يقبل الله عمل المرائي" قال "وتصعد الحفظة بعمل العبد من صلاة وزكاة وصيام وحج وعمرة وخلق حسن وصمت وذكر لله تعالى وتشيعه ملائكة السموات حتى يقطعوا به الحجب كلها إلى الله عز وجل فيقفون بين يديه ويشهدون له بالعمل الصالح المخلص لله" قال "فيقول الله لهم أنتم الحفظة على عمل عبدي وأنا الرقيب على نفسه إنه لم يردني بهذا العمل وأراد به غيري فعليه لعنتي، فتقول الملائكة كلهم: عليه لعنتك ولعنتنا، وتقول السماوات كلها: عليه لعنة الله ولعنتنا وتلعنه السماوات السبع والأرض ومن فيهن" قال معاذ: قلت يا رسول الله أنت رسول الله وأنا معاذ قال "اقتد بي وإن كان في عملك نقص، يا معاذ حافظ على لسانك من الوقيعة في إخوانك من حملة القرآن واحمل ذنوبك عليك ولا تحملها عليهم ولا تزك نفسك بذمهم ولا ترفع نفسك عليهم ولا تدخل عمل الدنيا في عمل الآخرة ولا تتكبر في مجلسك لكي يحذر الناس من سوء خلقك، ولا تناج رجلاً وعندك آخر، ولا تتعظم على الناس فينقطع عنك خير الدنيا، ولا تمزق الناس فتمزقك كلاب النار يوم القيامة في النار قال الله تعالى "والناشاطات نشطاً" أتدري من هن يا معاذ"? قلت: ما هن بأبي أنت وأمي يا رسول الله? قال "كلاب في النار تنشط اللحم والعظم" قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله فمن يطيق هذه الخصال ومن ينجو منها? قال "يا معاذ إنه ليسير على من يسره الله عليه قال فما رأيت أكثر تلاوة للقرآن من معاذ للحذر مما في هذا الحديث.

وأما الآثار: فيروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى رجلاً يطأطئ رقبته فقال: يا صاحب الرقبة ارفع ركبتك ليس الخشوع في الرقاب إنما الخشوع في القلوب ورأى أبو أمامة البلقلي رجلاً في المسجد يبكي في سجوده فقال: أنت أنت لو كان هذا في بيتك. وقال علي كرم الله وجهه: للمرائي ثلاث علامات؛ يكسل إذا كان وحده وينشط إلى كان في الناس يزيد في العمل إذا أثني عليه وينقص إذا ذم. وقال رجل لعبادة بن الصامت: أقاتل بسيفي في سبيل الله أريد به وجه الله تعالى ومحمدة الناس، قال: لا شيء لك، فسأله ثلاث مرات كل ذلك يقول: لا شيء لك، ثم قال في الثالثة: إن الله يقول أنا أغنى الأغنياء عن الشرك... الحديث. وسأل رجل سعيد بن المسيب فقال: إن أحدثنا يصطنع المعروف يحب أن يحمد ويؤجر، فقال له: أتحب أن تمقت? قال: لا، قال: فإذا عملت لله عملاً فأخلصه. وقال الضحاك: لا يقولن أحدكم هذا لوجه الله ولوجهك ولا يقولن هذا لله وللرحم، فإن الله تعالى لا شريك له. وضرب عمر رجلاً بالدرة ثم قال له: اقتص مني! فقال: لا بل أدعها لله ولك. فقال له عمر: ما صنعت شيئاً إما أن تدعها لي فأعر فذلك أو تدعها لله وحده، فقال: ودعتها لله وحده، فقال: فنعم إذن. وقال الحسن: لقد صحبت أقواماً إن كان أحدهم لتعرض له الحكمة لو نطق بها لنفعته ونفعت أصحابه وما يمنعه منها إلا مخافة الشهرة وإن كان أحدهم ليمر فيرى الأذى في الطريق فما يمنعه أن ينحيه إلا مخافة الشهرة ويقال: إن المرائي ينادى يوم القيامة بأربعة أسماء: يا مرائي يا غادر يا خاسر يا فاجر اذهب فخذ أجرك ممن عملت له فلا أجر لك عندنا. وقال الفضيل بن عياض: كانوا يراءون بما يعملون وصاروا اليوم يراءون بما لا يعملون. وقال عكرمة: إن الله يعطي العبد على نيته ما لا يعطيه على عمله لأن النية لا رياء فيها. وقال الحسن رضي الله: المرائي يريد أن يغلب قدر الله تعالى وهو رجل سوء يريد أن يقول الناس هو رجل صالح، وكيف يقولون وقد حل من ربه محل الأردياء? فلا بد لقلوب المؤمنين أن تعرفه. وقال قتادة: إذا راءى العبد يقول الله تعالى انظروا إلى عبدي يستهزئ بي. وقال مالك بن دينار الفراء: ثلاثة قراء الرحمن وقراء الدنيا وقراء الملوك، وأن محمد بن واسع من قراء الرحمن. وقال الفضل: من أراد أن ينظر إلى مراء فلينظر إلي. وقال محمد بن المبارك الصوري: أظهر السمت بالليل فإنه أشرف من سمتك بالنهار لأن السمت بالنهار للمخلوقين وسمت الليل لرب العالمين. وقال أبو سليمان: التوقي عن العمل أشد من العمل. وقال ابن المبارك: إن كان الرجل ليطوف بالبيت وهو بخراسان، فقيل له وكيف ذاك? قال يحب أن لا يذكر أنه مجاور بمكة. وقال إبراهيم بن أدهم: ما صدق الله من أراد أن يشتهر.

بيان حقيقة الرياء وما يراءى به

اعلم أن الرياء مشتق من الرؤية، والسمعة مشتقة من السماع، وإنما الرياء أصله طلب المنزلة في قلوب الناس بإبراءهم خصال الخير إلا أن الجاه والمنزلة تطلب في القلب بأعمال سوى العبادات وتطلب بالعبادات. واسم الرياء مخصوص بحكم العادة بطلب المنزلة في القلوب بالعبادة وإظهارها فحد الرياء هو إرادة العباد بطاعة الله، فالمرائي هو العابد والمرائي هو الناس المطلوب رؤيتهم بطلب المنزلة في قلوبهم، والمرائي به هو الخصال التي قصد المرائي إظهارها، والرياء هو قصده إظهار ذلك، والمراءى به كثير وتجمعه خمسة أقسام وهي مجامع ما يتزين به العبد للناس وهو: البدن، والزي والقول، والعمل والأتباع والأشياء الخارجة. وكذلك أهل الدنيا يراءون بهذه الأسباب الخمسة غلا أن طلب الجاه وقصد الرياء بأعمال ليست من جملة الطاعات أهون من الرياء بالطاعات.

"القسم الأول" الرياء في الدين بالبدن: وذلك بإظهار النحول والصفار ليوهم بذلك شدة الاجتهاد وعظم الحزن على أمر الدين وغلبة خوف الآخرة، وليدل بالنحول على قلة الأكل وبالصفار على سهر الليل وكثرة الاجتهاد وعظم الحزن على الدين، وكذلك يرائي بتشعيث الشعر ليدل به على استغراق الهم بالدين وعدم التفرغ لتسريح الشعر. وهذه الأسباب مهما ظهرت استدل الناس بها على هذه الأمور فارتاحت النفس لمعرفتهم، فلذلك تدعوه النفس إلا إظهارها لنيل تلك الراحة. ويقرب من هذا خفض الصوت وإغارة العينين وذبول الشفتين، ليستدل بذلك على أنه مواظب على الصوم، وأن وقار الشرع هو الذي خفض من صوته أو ضعف الجوع هو الذي ضعف من قوته. وعن هذا قال المسيح عليه السلام: إذا صام أحدكم فليدهن رأسه ويرجل شعره ويكحل عينيه. وكذلك روي عن أبي هريرة وذلك كله لما يخاف عليه من نزغ الشيطان بالرياء؛ ولذلك قال ابن مسعود أصبحوا صياماً مدهنين. فهذه مراءاة أهل الدين بالبدن.

فأما أهل الدنيا فيراءون بإظهار السمن وصفاء اللون واعتدال القامة وحسن الوجه ونظافة البدن وقوة الأعضاء وتناسبها.

"الثاني" الرياء بالهيئة والزي: أما الهيئة فبتشعيث شعر الرأس وحلق الشارب وإطراق الرأس في المشي والهدوء في الحركة وإبقاء أثر السجود على الوجه وغلظ الثياب ولبس الصوف وتشميرها إلى قريب من الساق وتقصير الأكمام وترك تنظيف الثوب وتركه مخرقاً، كل ذلك يرائي به ليظهر من نفسه أنه متبع للسنة فيه ومقتد فيه بعباد الله الصالحين، ومن ذلك لبس المرقعة والصلاة على السجادة ولبس الثياب الزرق تشبهاً بالصوفية مع الإفلاس من حقائق التصوف في الباطن. ومنه التقنع بالإزار فوق العمامة وإسبال الرداء على العينين ليرى به أنه قد انتهى تقشفه إلى الحذر من غبار الطريق، ولتنصرف إليه الأعين بسبب تميزه بتلك العلامة. ومنه الدراعة والطيلسان يلبسه من هو خال عن العلم ليوهم أنه من أهل العلم.

والمراءون بالزي على طبقات: فمنهم من يطلب المنزلة عند أهل الصلاة بإظهار الزهد فيلبس الثياب المخرقة الوسخة القصيرة الغليظة ليرائي بغلظها ووسخها وقصرها وتخرقها أنه غير مكترث بالدنيا، ولو كلب أن يلبس ثوباً وسطاً نظيفاً مما كان السلف يلبسه لكان عنده بمنزلة الذبح، وذلك لخوفه أن يقول الناس قد بدا له من الزهد ورجع عن تلك الطريق ورغب في الدنيا: وطبقة أخرى يطلبون القبول عن أهل الصلاح وعند أهل الدنيا من الملوك والوزراء والتجار، ولو لبسوا الثياب الفاخرة ردهم القراء ولو لبسوا الثياب المخرقة البذلة ازدرتهم أعين الملوك والأغنياء، فهم يريدون الجمع بين قبول أهل الدين والدنيا، فلذلك يطلبون الأصواف الدقيقة والأكسية الرقيقة والمرقعات المصبوغة والفوط الرفيعة فيلبسونها، ولعل قيمة ثوب أحد الأغنياء ولونه وهيأته لون ثياب الصلحاء فيلتمسون القبول عند الفريقين، وهؤلاء إن كلفوا لبس ثوب خشن أو وسخ لكان عندهم الذبح خوفاً من السقوط من أعين الملوك والأغنياء، ولو كلفوا لبسوا الديبقى والكتان الدقيق الأبيض والمقصب المعلم -وإن كانت قيمته دون قيمة ثيابهم- لعظم ذلك عليهم خوفاً من أن يقول أهل الصلاح قد رغبوا في زي أهل الدنيا. وكل طبقة منهم رأى منزلته في زي مخصوص فيثقل عليهم الانتقال إلى ما دونه وإن كان مباحاً خيفة من المذمة.

وأما أهل الدنيا فمراءاتهم بالثياب النفيسة والمراكب الرفيعة وأنواع التوسع والتجمل في الملبس والمسكن وأثاث البيت وفره الخيول وبالثياب المصبغة والطيالسة النفيسة، وذلك ظاهر بين الناس فإنهم يلبسون في بيوتهم الثياب الخشنة ويشتد عليهم لو برزوا للناس على تلك الهيئة ما لم يبالغوا في الزينة.

"الثالث" الرياء بالقول: ورياء أهل الدين بالوعظ والتذكير والنطق بالحكمة وحفظ الأخبار والآثار، لأجل الاستعمال في المحاورة وإظهاراً لغزارة العلم ودلالة على شدة العناية بأحوال السلف الصالحين، وتحريك الشفتين بالذكر في محضر الناس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمشهد الخلق، وإظهار الغضب للمنكرات وإظهار الأسف على مقارفة الناس للمعاصي وتضعيف الصوت في الكلام وترقيق الصوت بقراءة القرآن، ليدل بذلك على الخوف والحزن، وادعاء حفظ لحديث ولقاء الشيوخ والدق على من يروي الحديث ببيان خلل في لفظه ليعرف أنه بصير بالأحاديث والمبادرة إلى أن الحديث صحيح أو غير صحيح لإظهار الفضل فيه، والمجادلة على قصد إفحام الخصم ليظهر للناس قوته علم الدين. والرياء بالقول كثير وأنواعه لا تنحصر.

وأما أخل الدنيا فمراءاتهم بالقول بحفظ الأشعار والأمثال والتفاصح في العبارات وحفظ النحو الغريب للأغراب على أهل الفضل وإظهار التودد إلى الناس لاستمال القلوب.

"الرابع" الرياء بالعمل: كمراءاة المصلي بطول القيام ومد الظهر وطول السجود والركوع وإطراق الرأس وترك الالتفات وإظهار الهدوء والسكون وتسوية القدمين واليدين، وكذلك بالصوم والغزو والحج وبالصدقة وبإطعام الطعام، وبالإخبات في المشي عند اللقاء كإرخاء الجفون وتنكيس الرأس والوقار في الكلام، حتى إن المرائي قد يسرع في المشي إلى حاجته فإذا طلع عليه أحد من أهل الدين رجع إلى الوقار وإطراق الرأس خوفاً من أن ينسبه إلى العجلة وقلة الوقار، فإن غاب الرجل عاد إلى عجلته، فإذا رآه عاد إلى خشوعه ولم يحضر ذكر الله حتى يكون يجدد الخشوع له، بل هو لإطلاع إنسان عليه يخشى أن لا يعتقد فيه أنه من العباد والصلحاء، ومنهم من إذا سمع هذا استحيا من أن تخالف مشيته في الخلوة مشيته بمرأى من الناس، فيكلف نفسه المشية الحسنة في الخلوة حتى إذا رآه الناس لم يفتقر إلى التغيير ويظن أنه يتخلص به عن الرياء وقد تضاعف به رياؤه، فإنه صار في خلوته أيضاً مرائياً، فإنه إنما يحسن مشيته في الخلوة ليكون كذلك في الملأ لا لخوف من الله وحياء منه.

وأما أهل الدنيا فمراءاتهم بالتبختر والاختيال وتحريك اليدين وتقريب الخطا والأخذ بأطراف الذيل وإدارة العطفين ليدلوا بذلك على الجاه والحشمة.

"الخامس" المراءاة بالأصحاب والزائرين والمخالطين: كالذي يتكلف أن يستزير عالماً من العلماء ليقال إن فلاناً قد زار فلاناً، أو عابداً من العباد ليقال إن أهل الدين يتبركون بزيارته ويترددون إليه، أو ملكاً من الملوك أو عاملاً من عمال السلطان ليقال إنهم يتبركون به لعظم رتبته في الدين. وكالذي يكثر ذكر الشيوخ ليرى أنه لقي شيوخاً كثيرة واستفاد منهم فيباهي بشيوخه ومباهاته ومراءاته تترشح منه عند مخاصمته، فيقول لغيره: من لقيت من الشيوخ وأنا قد لقيت فلاناً وفلاناً ودرت البلاد وخدمت الشيوخ? وما يجري مجراه. فهذه مجامع ما يرائي به المراءون وكلهم يطلبون بذلك الجاه والمنزلة في قلوب العباد. ومنهم من يقنع بحسن الاعتقادات فيه فكم من راهب انزوى إلى ديره سنين كثيرة? وكم من عابد اعتزل إلى قلة جبل مدة مديدة، وإنما خبأته من حيث علمه بقيام جاهه في قلوب الخلق ولو عرف أنهم نسبوه إلى جريمة في ديره أو صومعته لتشوش قلبه ولم يقنع بعلم الله ببراءة ساحته، بل يشتد لذلك غمه ويسعى بكل حيلة في إزالة ذلك من قلوبهم، مع أنه قد قطع طمعه من أموالهم ولكنه يحب مجرد الجاه -فإنه لذيذ كما ذكرناه في أسبابه- فإنه نوع قدرة وكمال في الحال وإن كان سريع الزوال لا يغتر به إلا الجهال ولكن أكثر الناس جهال، ومن المرائين من لا يقنع بقيام منزلته بل يلتمس من ذلك إطلاق اللسان بالثناء والحمد. ومنهم من يريد انتشار الصيت في البلاد لتكثر الرحلة إليه. ومنهم من يريد الاشتهار عند الملوك لتقبل شفاعته وتنجز الحوائج على يده فيقوم له بذلك جاه عند العامة، ومنهم من يقصد التوصل بذلك إلى جمع حطام وكسب مال ولو من الأوقاف وأموال اليتامى وغير ذلك من الحرام، وهؤلاء شر طبقات المرائين الذين يراءون بالأسباب التي ذكرناها. فهذه حقيقة الرياء وما به يقع الرياء.

فإن قلت: فالرياء حرام أو مكروه أو مباح أو فيه تفصيل? فأقول فيه تفصيل فإن الرياء هو طلب الجاه، وهو إما أن يكون بالعبادات أو بغير العبادات، فإن كان بغير العبادات فهو طلب المال فلا يحرم من حيث إنه طلب منزلة في قلوب العباد، ولكن كما يمكن كسب المال بتلبيسات وأسباب محظورات فكذلك الجاه، وكما أن كسب قليل من المال هو ما يحتاج إليه الإنسان محمود فكسب قليل من الجاه وهو ما يسلم به عن الآفات أيضاً محمود، وهو الذي طلبه يوسف عليه السلام حيث قال "إني حفيظ عليم" وكما أن المال فيه سم ناقع ودرياق نافع فكذلك الجاه، وكما أن كثير المال يلهي ويطغى وينسي ذكر الله والدار الآخرة فكذلك كثير الجاه بل أشد، وفتنة الجاه أعظم من فتنة المال، وكما أنا نقول تملك المال الكثير حرام فلا نقول أيضاً تملك القلوب الكثيرة حرام إلا إذا حملته كثرة المال وكثرة الجاه على مباشرة ما لا يجوز. نعم انصراف الهم إلى سعة الجاه مبدأ الشرور كانصراف الهم إلى كثرة المال، ولا يقدر محب الجاه والمال على ترك معاصي القلب واللسان وغيرها، وأما سعة الجاه من غير حرص منك على طلبه ومن غير اغتمام بزواله إن زال فلا ضرر فيه، فلا جاه أوسع من جاه رسول الله وجاه الخلفاء الراشدين ومن بعدهم من علماء الدين، ولكن انصراف الهم إلى طلب الجاه نقصان في الدين ولا يوصف بالتحريم، فعلى هذا نقول: تحسين الثوب الذي يلبسه الإنسان عند الخروج إلى الناس مراءاة وهو ليس بحرام لأنه ليس رياء بالعبادة بل بالدنيا، وقس على هذا كل تجمل للناس وتزين لهم. والدليل عليه ما روي عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله أراد أن يخرج يوماً إلى الصحابة فكان ينظر في جب الماء ويسوي عمامته وشعره فقالت: أو تفعل ذلك يا رسول الله? قال "نعم إن الله تعالى يحب من العبد أن يتزين لإخوانه إذا خرج إليهم نعم هذا كان من رسول الله عبادة لأنه كان مأموراً بدعوة الخلق وترغيبهم في الاتباع واستمالة قلوبهم، ولو سقط من أعينهم لو يرغبوا في اتباعه، فكان يجب عليه أن يظهر لهم محاسن أحواله لئلا تزدريه أعينهم، فإن أعين عوام الخلق تمتد إلى الظواهر دون السرائر، فكان ذلك قصد رسول الله ولكن لو قصد قاصد به أن يحسن نفسه في أعينهم حذراً من ذمهم ولومهم واسترواحاً إلى توقيرهم واحترامهم كان قد قصد أمراً مباحاً، إذ للإنسان أن يحترز من ألم المذمة ويطلب راحة الأنس بالإخوان. ومهما استثقلوه واستقذروه لم يأنس بهم.

فإذن المراءاة بما ليس من العبادات قد تكون مباحة، وقد تكون طاعة، وقد تكون مذمومة، وذلك بحسب الغرض المطلوب بها. ولذلك نقول: الرجل إذا أنفق ماله على جماعة من الأغنياء لا في معرض العبادة والصدقة ولكن ليعتقد الناس أنه سخي فهذا مراءاة وليس بحرام وكذلك أمثاله.

أما العبادات كالصدقة والصلاة والصيام والغزو والحج فللمرائي فيه حالتان إحداهما: أن لا يكون له قصد إلا الرياء المحض دون الأجر، وهذا يبطل عبادته لأن الأعمال بالنيات، وهذا ليس بقصد العبادة، لا يقتصر، على إحباط عبادته حتى نقول صار كما كان قبل العبادة بل يعصي بذلك ويأثم كما دلت عليه الأخبار والآيات.

والمعنى فيه أمران "أحدهما" يتعلق بالعباد وهو التلبيس والمكر لأنه خيل إليهم أنه مخلص مطيع لله وأنه من أهل الدين وليس كذلك، والتلبيس في أمر الدنيا حرام أيضاً، حتى لو قضى دين جماعة وخيل للناس أنه متبرع عليهم ليعتقدوا سخاوته أثم به لما فيه من التلبيس وتملك القلوب بالخداع والمكر. "والثاني" يتعلق بالله وهو أنه مهما قصد بعبادة الله تعالى خلق الله فهو مستهزئ بالله. ولذلك قال قتادة: إذا راءى العبد قال الله لملائكته انظروا إليه كيف يستهزئ بي.

ومثاله أن يتمثل بين يدي ملك من الملوك طول النهار كما جرت عادة الخدم وإنما وقوفه لملاحظة جارية من جواري الملك أو غلام من غلمانه، فإن هذا استهزاء بالملك إذ لم يقصد التقريب إلى الملك بخدمته بل قصد بذلك عبداً من عبيده، فأي استحقار يزيد على أن يقصد العبد بطاعة الله تعالى مراءاة عبد ضعيف لا يملك له ضراً ولا نفعاً? وهل ذلك إلا لأنه يظن أن ذلك العبد أقدر على تحصيل أغراضه من الله? وأنه أولى بالتقريب إليه من الله إذ آثره على ملك الملوك فجعله مقصود عبادته? وأي استهزاء يزيد على رفع العبد فوق المولى? فهذا من كبائر المهلكات ولهذا سماه رسول الله الشرك الأصغر .

نعم بعض درجات الرياء أشد من بعض -كما سيأتي بيانه في درجات الرياء إن شاء الله تعالى- ولا يخلو شيء منه عن إثم غليظ أو خفيف بحسب ما به المراءاة ولو لم يكن في الرياء إلا أنه يسجد ويركع لغير الله لكان فيه كفاية، فإنه وإن لم يقصد التقرب إلى الله فقد قصد غير الله، ولعمري لو عظم غير الله بالسجود لكفر كفراً جلياً، إلا أن الرياء هو الكفر الخفي لأن المرائي عظم في قلبه الناس، فاقتضت تلك العظمة أن يسجد ويركع فكان الناس هم المعظمون بالسجود من وجه، ومهما زال قصد تعظيم الله بالسجود وبقي تعظيم الخلق كان ذلك قريباً من الشرك، إلا أنه قصد تعظيم نفسه في قلب من عظم عنده بإظهاره من نفسه صورة التعظيم لله، فعن هذا كان شركاً خفياً لا شركاً جلياً، وذلك غاية الجهل ولا يقدم عليه إلا من خدعه الشيطان وأوهم عنده أن العباد يملكون من ضره ونفعه ورزقه وأجله ومصالح حاله ومآله أكثر مما يملكه الله تعالى، فلذلك عدل بوجهه عن الله إليهم وأقبل بقلبه عليهم ليستميل بذلك قلوبهم، ولو وكله الله تعالى إليهم في الدنيا والآخرة لكان ذلك أقل مكافأة له على صنيعه، فإن العباد كلهم عاجزون عن أنفسهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً فكيف يملكون لغيرهم هذا في الدنيا? فكيف في يوم لا يجزى والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً بل تقول الأنبياء فيه نفسي نفسي? فكيف يستبدل الجاهل عن ثواب الآخرة ونيل القرب عند الله ما يرتقبه بطمعه الكاذب في الدنيا من الناس? فلا ينبغي أن نشك في أن المرائي بطاعة الله في سخط الله من حيث النقل والقياس جميعاً هذا إذا لم يقصد الأجر فأما إذا قصد الأجر والحمد جميعاً في صدقته أو صلاته فهو الشرك الذي يناقض الإخلاص. وقد ذكرنا حكمه في كتاب الإخلاص، ويدل على ما نقلناه من الآثار قول سعيد بن المسيب وعبادة بن الصامت. إنه لا أجر له فيه أصلاً.

بيان درجات الرياء

اعلم أن بعض أبواب الرياء أشد وأغلظ من بعض، واختلافه باختلاف أركانه وتفاوت الدرجات فيه. وأركانه ثلاثة: المرائي به والمرائي لأجله ونفس قصد الرياء.

الركن الأول: نفس قصد الرياء وذلك لا يخلوا إما أن يكون مجرداً دون إرادة عبادة الله تعالى والثواب، وإما أن يكون مع إرادة الثواب، فإن كان كذلك فلا يخلو إما أن تكون إرادة الثواب أقوى وأغلب أو أضعف أو مساوية لإرادة العبادة فتكون الدرجات أربعاً: "الأولى" وهي أغلظها أن لا يكون مراده الثواب أصلاً، كالذي يصلي بين أظهر الناس ولو انفرد لكان لا يصلي، ربما يصلي من غير طهارة مع الناس، فهذا جرد قصده إلى الرياء فهو الممقوت عن الله تعالى. وكذلك من يخرج الصدقة خوفاً من مذمة الناس وهو لا يقصد الثواب ولا خلا بنفسه لما أداها فهذه الدرجة العليا من الرياء.

"الثانية" أن يكون له قصد الثواب أيضاً ولكن قصداً ضعيفاً، بحيث لو كان في الخلوة لكان لا يفعله ولا يحمله ذلك القصد على العمل، ولو لم يكن قصد الثواب لكان الرياء يحمله على العمل، فهذا قريب مما قبله وما فيه من شائبة قصد ثواب لا يستقل بحمله على العمل لا ينفي عنه المقت والإثم.

"الثالثة" أن يكون له قصد الثواب وقصد الرياء متساويين، بحيث لو كان كل واحد منهما خالياً عن الآخر لم يبعثه على العمل فلما اجتمعا انبعثت الرغبة، أو كان كل واحد منهما لو انفرد لاستقل بحمله على العمل؛ فهذا قد أفسد مثل ما أصلح فنرجو أن يسلم رأساً برأس لا له ولا عليه، أو يكون له من الثواب مثل ما عليه من العقاب وظواهر الأخبار تدل على أنه لا يسلم، وقد تكلمنا عليه في كتاب الإخلاص.

"الرابعة: أن يكون اطلاع الناس مرجحاً ومقوياً لنشاطه ولو لم يكن لكان لا يترك العبادة ولو كان قصد الريا وحده لما أقدم عليه فالذي نظنه والعلم عند الله أنه لا يحبط أصل الثواب ولكنه ينقص منه أو يعاقب على مقدار قصد الرياء ويثاب على مقدار قصد الثواب وأما قوله "يقول الله تعالى أنا أغنى الأغنياء عن الشرك" فهو محمول على ما إذا تساوى القصدان أو كان قصد الرياء أرجح.

الركن الثاني: المرائي به وهو الطاعات وذلك ينقسم إلى الرياء بأصول العبادات وإلى الرياء بأوصافها.

القسم الأول وهو الأغلظ: الرياء بالأصول وهو على ثلاث درجات.

"الأولى" الرياء بأصل الإيمان وهذا أغلظ أبواب الرياء وصاحبه مخلد في النار، وهو الذي يظهر كلمتي الشهادة وباطنه مشحون بالتكذيب ولكنه يرائي بظاهر الإسلام، وهو الذي ذكره الله تعالى في كتابه في مواضع شتى كقوله عز وجل "إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون" أي في دلالتهم بقولهم على ضمائرهم وقال تعالى "ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها" الآية وقال تعالى "وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ" وقال تعالى "يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً مذبذبين بين ذلك" والآيات فيهم كثيرة. وكان النفاق يكثر في ابتداء الإسلام ممن يدخل في ظاهر الإسلام ابتداء لغرض، وذلك مما يقل في زماننا، ولكن يكثر نفاق من ينسل عن الدين باطناً فيجحد الجنة والنار والدار الآخرة ميلاً إلى قول الملحدة، أو يعتقد على بساط الشرع والأحكام ميلاً إلى أهل الإباحة، أو يعتقد كفراً أو بدعة وهو يظهر خلافه، فهؤلاء من المنافقين والمرائين المخلدين في النار، وليس وراء هذا الرياء رياء، وحال هؤلاء أشد حالاً من الكفار المجاهرين، فإنهم جمعوا بين كفر الباطن ونفاق الظاهر.

"الثانية" الرياء بأصول العبادات مع التصديق بأصل الدين، وهذا أيضاً عظيم عند الله ولكنه دون الأول بكثير. ومثاله: أن يكون مال الرجل في يد غيره فيأمره بإخراج الزكاة خوفاً من ذمه، والله يعلم منه أنه لو كان في يده لما أخرجه، أو يدخل وقت الصلاة وهو في جمع وعادته ترك الصلاة في الخلوة، وكذلك يصوم رمضان وهو يشتهى خلوة من الخلق ليفطر، وكذلك يحضر الجمعة ولولا خوف المذمة لكان لا يحضرها، أو يصل رحمه أو يبر والديه لا عن رغبة ولكن خوفاً من الناس، أو يغزو أو يحج كذلك. فهذا مراء معه أصل الإيمان بالله يعتقد أنه لا معبود سواه، ولو كلف أن يعبد غير الله أو يسجد لغيره لم يفعل، ولكنه يترك العبادات للكسل وينشط عند اطلاع الناس فتكون منزلته عند الخلق أحب من منزلته عند الخالق، وخوفه من مذمة الناس أعظم من خوفه من عقاب الله، ورغبته في محمدتهم أشد من رغبته في ثواب الله، وهذا غاية الجهل وما أجدر صاحبه بالمقت وإن كان غير منسل عن أصل الإيمان من حيث الاعتقاد.

"الثالثة" لا يرائي بالإيمان ولا بالفرائض، ولكنه يرائي بالنوافل والسنن التي لو تكرها لا يعصى، ولكنه يكسل عنها في الخلوة لفتور رغبته في ثوابها ولإيثار لذة الكسل على ما يرجى من الثواب، ثم يبعثه الرياء على فعلها، وذلك كحضور الجماعة في الصلاة وعيادة المريض واتباع الجنازة وغسل الميت، وكالتجهد بالليل وصيام يوم عرفة وعاشوراء ويوم الاثنين والخميس. فقد يفعل المرائي جملة ذلك خوفاً من المذمة أو طلب للمحمدة، ويعلم الله تعالى منه أنه لو خلا بنفسه لما زاد على أداء الفرائض. فهذا أيضاً عظيم ولكنه دون ما قبله، فإن الذي قبله آثر حمد الخلق على حمد الخالق، وهذا أيضاً قد فعل ذلك واتق ذم الخلق دون ذم الخالق، فكان ذم الخلق أعظم عنده من عقاب الله، وأما هذا فلم يفعل ذلك لأنه لم يخف عقاباً على ترك النافلة لو تركها، وكأنه على شطر من الأول وعقابه نصف عقابه. فهذا هو الرياء بأصول العبادات.

القسم الثاني: الرياء بأوصاف العبادات لا بأصولها، وهو أيضاً على ثلاثة درجات.

"الأولى" أن يرائي بفعل ما في تركه نقصان العبادة، كالذي غرضه أن يخفف الركوع والسجود ولا يطول القراءة، فإذا رآه الناس أحسن الركوع والسجود وترك الالتفات وتمم القعود بين السجدتين، وقد قال ابن مسعود من فعل ذلك فهو استهانة يستهين بها ربه عز وجل؛ أي أنه ليس يبالي باطلاع الله عليه في الخلوة، فإذا اطلع عليه آدمي أحسن الصلاة، ومن جلس بين يدي إنسان متربعاً أو متكئاً فدخل غلامه فاستوى وأحسن الجلسة كان ذلك منه تقديماً للغلام على السيد واستهانة بالسيد لا محالة، وهذا حال المرائي بتحسين الصلاة في الملأ دون الخلوة. وكذلك الذي يعتاد إخراج الزكاة من الدنانير الرديئة أو من الحب الرديء فإذا اطلع عليه غيره أخرجها من الجيد خوفاً من مذمته، وكذلك الصائم يصون صومه عن الغيبة والرفث لأجل الخلق لا إكمالاً لعبادة الصوم خوفاً من المذمة، فهذا أيضاً من الرياء المحظور لأن فيه تقديماً للمخلوقين على الخالق، ولكنه دون الرياء بأصول العبادات.

إن قال المرائي: إنما فعلت ذلك صيانة لألسنتهم عن الغيبة، فإنهم إذا رأوا تخفيف الركوع والسجود والكثرة الالتفات أطلقوا اللسان بالذم والغيبة، وإنما قصدت صيانتهم عن هذه المعصية? فيقال له: هذه مكيدة للشيطان عندك وتلبيس، وليس الأمر كذلك، فإنضررك من نقصان صلاتك وهي خدمة منك لمولاك أعظم من ضررك بغيبة غيرك، فلو كان باعثك الدين لكان شفقتك على نفسك أكثر، وما أنت في هذا إلا كمن يهدي وصيفة إلى ملك لينال منه فضلاً وولاية يتقلدها، فيهديها إليه وهي عوراء قبيحة مقطوعة الأطراف ولا يبالي به إذا كان الملك وحده، وإذا كان عند بعض غلمانه امتنع خوفاً من مذمة غلمانه، وذلك محال بل من يراعي جانب غلام الملك ينبغي أن تكون مراقبته للملك أكثر.

نعم للمرائي فيه حالتان: إحداهما أن يطلب بذلك المنزلة والمحمدة عند الناس وذلك حرام قطعاً. والثانية: أن يقول ليس يحضرني الإخلاص في تحسين الركوع والسجود، ولو خففت كانت صلاتي عندهم ناقصة وآذاني الناس بذمهم وغيبتهم، فأستفيد بتحسين الهيبة دفع مذمتهم ولا أرجو الله عليه ثواباً، فهو خير من أن أترك تحسين الصلاة فيفون الثواب وتحصل المذمة فهذا فيه أدنى نظر. والصحيح أن الواجب عليه أن يحسن ويخلص، فإن لم تحضره النية فينبغي أن يستمر على عادته في الخلوة فليس له أن يدفع الذم بالمراءاة بطاعة الله فإن ذلك استهزاء كما سبق.

"الدرجة الثانية" أن يرائي بفعل ما لا نقصان في تركه ولكن فعله في حكم التكملة والتتمة لعبادته، كالتطويل في الركوع والسجود ومد القيام وتحسين الهيئة ورفع اليدين والمبادرة إلى التكبيرة الأولى وتحسين الاعتدال والزيادة على السور المعتادة، وكذلك كثرة الخلوة في صوم رمضان وطول الصمت، وكاختيار الأجود على الجيد في الزكاة وإعتاق الرقبة الغالية في الكفارة. وكل ذلك مما لو خلا بنفسه لكان لا يقدر عليه.

"الثالثة" أن يرائي بزيادات خارجة عن نفس النوافل أيضاً كحضوره الجماعة قبل القوم وقصده للصف الأول وتوجهه إلى يمين الإمام وما يجري مجراه. وكل ذلك مما يعلم الله منه أنه لو خلا بنفسه لكان لا يبالي أين وقف ومتى يحرم بالصلاة? فهذه درجات الرياء بالإضافة إلى ما يرائي به وبعضه أشد من بعض. والكل مذموم.

الركن الثالث: المرائي لأجله، فإن للمرائي مقصوداً لا محالة، وإنما يرائي لإدراك مال أو جاه أو غرض من الأغراض لا محالة، وله أيضاً ثلاث درجات:

"الأولى" وهي أشدها وأعظمها أن يكون مقصوده التمكن من معصية، كالذي يرائي بعبادته ويظهر التقوى والورع بكثرة النوافل والامتناع عن أكل الشبهات وغرضه أن يعرف بالأمانة فيولى القضاء أو الأوقاف أو الوصايا أو مال الأيتام فيأخذها أو يسلم إليه تفرقة الزكاة أو الصدقات ليستأثر بما قدر عليه منها، أو يودع الودائع فيأخذها ويجحدها، أو تسلم إليه الأموال التي تنفق في طريق الحج فيختزل بعضها أو كلها، أو يتوصل بها إلى استتباع الحجيج ويتوصل بقوتهم إلى مقاصدة الفاسدة في المعاصي. وقد يظهر بعضهم زي التصوف وهيئة الخشوع وكلام الحكمة على سبيل الوعظ والتذكير وإنما قصده التحبب إلى امرأة أو غلام لأجل الفجور، وقد يحضرون مجالس العلم والتذكير وحلق القرآن يظهرون الرغبة في سماع العلم والقرآن وغرضهم ملاحظة النساء والصبيان، أو يخرج إلى الحج ومقصوده الظفر بمن في الرفقة من امرأة أو غلام. وهؤلاء أبغض المرائين إلى الله تعالى لأنهم جعلوا طاعة ربهم سلماً إلى معصية واتخذوها آلة ومتجراً وبضاعة لهم في فسقهم، ويقرب من هؤلاء وإن كان دونهم من هو مقترف جريمة اتهم بها وهو مصر عليها ويريد أن ينفي التهمة عن نفسه فيظهر التقوى لنفي التهمة كالذي جحد وديعة واتهمه الناس بها فيتصدق بالمال ليقال إنه يتصدق بمال نفسه فكيف يستحل مال غيره وكذلك من ينسب إلى فجور بامرأة أو غلام فيدفع التهمة عن نفسه بالخشوع وإظهار التقوى.

"الثانية" أن يكون غرضه نيل حظ مباح من حظوظ الدنيا من مال أو نكاح امرأة جميلة أو شريفة، كالذي يظهر الحزن والبكاء ويشتغل بالوعظ والتذكير لتبذل له الأموال ويرغب في نكاحه النساء، فيقصد إما امرأة بعينها لينكحها أو امرأة شريفة على الجملة، وكالذي يرغب أن يتزوج بنت عالم عابد فيظهر له العلم والعبادة ليرغب في تزويجه ابنته. فهذا رياء محظور لأنه طلب بطاعة الله متاع الحياة الدنيا ولكنه دون الأول، فإن المطلوب بهذا مباح في نفسه.

"الثالثة" أن لا يقصد نيل حظ وإدراك مال أو نكاح، ولكن يظهر عبادته خوفاً من أن ينظر إليه بعين النقص ولا يعد من الخاصة والزهاد ويعتقد أنه من جملة العامة كالذي يمشي مستعجلاً فيطلع عليه الناس فيحسن المشي ويترك العجلة كيلا يقال إنه من أهل اللهو والسهو لا من أهل الوقار، وكذلك إن سبق إلى الضحك أو بدا منه المزاح فيخاف أن يظهر إليه بعين الاحتقار فيتبع ذلك بالاستغفار وتنفس الصعداء وإظهار الحزن، ويقول ما أعظم غفلة الآدمي عن نفسه، والله يعلم منه أنه لو كان في خلوة لما كان يثقل عليه ذلك، وإنما يخاف أن ينظر إليه بعين الاحتقار لا بعين التوقير، وكالذي يرى جماعة يصلون التراويح أو يتهجدون أو يصومون الخميس والاثنين أو يتصدقون فيوافقهم خيفة أن ينسب إلى الكسل ويلحق بالعوام، ولو خلا بنفسه لكان لا يفعل شيئاً من ذلك، وكالذي يعطش يوم عرفة أو عاشوراء أو في الأشهر الحرم فلا يشرب خوفاً من أن يعلم الناس أنه غير صائم، فإذا ظنوا به الصوم امتنع عن الأكل لأجله، أو يدعى إلى طعام فيمتنع ليظن أنه صائم وقد لا يصرح بأن صائم ولكن يقول: لي عذر، وهو جمع بين خبيثين، فإنه يرى أنه صائم ثم يرى أنه مخلص ليس بمراء، وأنه يحترز من أن يذكر عبادته للناس فيكون مرائياً فيريد أن يقال إنه ساتر لعبادته، ثم إن اضطر إلى شرب لم يصبر عن أن يذكر لنفسه فيه عذراً تصريحاً أو تعريضاً بأن يتعلل بمرض يقتضي فرط العطش ويمنع من الصوم، أو يقول أفطرت تطييباً لقلب فلان، ثم قد لا يذكر ذلك متصلاً بشربه كي لا يظن به أن يعتذر رياء، ولكنه يصبر ثم يذكر عذره في معرض حكاية عرضا؛ مثل أن يقول: إن فلاناً محب للإخوان شديد الرغبة في أن يأكل الإنسان من طعامه وقد ألح علي اليوم ولم أجد بداً من تطييب قلبه. ومثل أن يقول: إن أمي ضعيفة القلب مشفقة علي تظن أني لو صمت يوماً مرضت فلا تدعني أصوم، فهذا وما يجري مجراه من آفات الرياء فلا يسبق إلى اللسان إلى لرسوخ عرق الرياء في الباطن. أما المخلص فإنه لا يبالي كيف نظر الخلق إليه? فإن لم يكن له رغبة في الصوم وقد علم الله ذلك منه فلا يريد أن يعتقد غيره ما يخالف علم الله فيكون ملبساً، وإن كان له رغبة في الصوم لله قنع بعلم الله تعالى ولم يشرك فيه عنده، وقد يخطر له أن في إظهاره اقتداء غيره به وتحريك رغبة الناس فيه وفيه مكيدة وغرور - وسيأتي شرح ذلك وشروطه -.

فهذه درجات الرياء ومراتب أصناف المرائين وجميعهم تحت مقت الله وغضبه، وهو من أشد المهلكات وإن من شدته أن فيه شوائب هي أخفى من دبيب النمل كما ورد به الخبر، يزل فيه فحول العلماء فضلاً عن العباد الجهلاء بآفات النفوس وغوائل القلوب والله أعلم.

بيان الرياء الخفي الذي هو أخفى من دبيب النمل

اعلم أن الرياء جلي وخفي، فالجلي هو الذي يبعث على العمل ويحمل عليه ولو قصد الثواب وهو أجلاه، وأخفى منه قليلاً هو ما لا يحمل على العمل بمجرده، إلا أنه يخفف العمل الذي يريد به وجه الله، كالذي يعتاد التهجد كل ليلة ويثقل عليه فإذا نزل عنده ضيف تنشط له وخف عليه وعلم أنه لولا رجاء الثواب لكان لا يصلي لمجرد رياء الضيفان وأخفى من ذلك ما لا يؤثر في العمل ولا بالتسهيل والتخفيف أيضاً ولكنه مع ذلك مستطبن في القلب، ومهما لم يؤثر في الدعاء إلى العمل لم يكن يعرف إلا بالعلامات، وأجلى علاماته أن يسر باطلاع الناس على طاعته فرب عبد يخلص في عمله ولا يعتقد الرياء بل يكرهه ويرده ويتمم العمل كذلك، ولكن إذا اطلع عليه الناس سره ذلك وارتاح له وروح ذلك عن قلبه شدة العبادة، وهذا السرور يدل على رياء خفي منه يرشح السرور، ولولا التفات القلب إلى الناس لما ظهره سروره عند اطلاع الناس، فلقد كان الرياء مستكناً في القلب استكنان النار في الحجر فأظهر عنه اطلاع الخلق أثر الفرح والسرور، ثم إذا استشعر لذة السرور بالاطلاع ولم يقابل ذلك بكراهية فيصير ذلك قوتاً وغذاء للعرق الخفي من الرياء حتى يتحرك على نفسه حركة خفية، فيتقاضى تقاضياً خفياً أن يتكلف سبباً يطلع عليه بالتعريض وإلقاء الكلام عرضاً وإن كان لا يدعو إلى التصريح، وقد يخفى فلا يدعو إلى الإظهار بالنطق تعريضاً وتصريحاً ولكن بالشمائل، كإظهار النحول والصفار وخفض الصوت ويبس الشفتين وجفاف الريق وآثار الدموع وغلبة النعاس الدال على طول التهجد، وأخفى من ذلك أن يختفي بحيث لا يريد الاطلاع ولا يسر بظهور طاعته، ولكنه مع ذلك إذا رأى الناس أحب أن يبدءوه بالسلام وأن يقابلوه بالبشاشة والتوقير وأن يثنوا عليه وأن ينشطوا في قضاء حوائجه وأن يسامحوه في البيع والشراء وأن يوسعوا له في المكان، فإن قصر فيه مقصر ثقل ذلك على قلبه ووجد لذلك استبعاداً في نفسه كأنه يتقاضى الاحترام مع الطاعة التي أخفاها مع أنه لم يطلع عليه، ولو لم يكن قد سبق منه تلك الطاعة لما كان يستبعد تقصير الناس في حقه، ومهما لم يكن وجود العبادة كعدمها في كل ما يتعلق بالخلق لم يكن قد قنع بعلم الله ولم يكن خالياً عن شوب خفي من الرياء أخفى من دبيب النمل وكل ذلك يوشك أن يحبط الأجر ولا يسلم منه إلا الصديقون.

وقد روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال: إن الله عز وجل يقول للقراء يوم القيامة، ألم يكن يرخص عليكم السعر ألم تكونوا تبتدءون بالسلام ألم تكونوا تقضى لكم الحوائج. وفي الحديث "لا أجر لكم قد استوفيتم أجوركم" وقال عبد الله بن المبارك. روي عن وهب بن منبه أنه قال إن رجلاً من السواح قال لأصحابه إنا إنما فارقنا الأموال والأولاد مخافة الطغيان فنخاف أن نكون قد دخل علينا في أمرنا هذا من الطغيان أكثر مما دخل على أهل الأموال في أموالهم، إن أحدنا إذا لقي أحب أن يعظم لمكان دينه، فبلغ ذلك ملكهم فركب في موكب من الناس فإذا السهل والجبل قد امتلأ بالناس، فقال السائح ما هذا? قيل هذا الملك قد أظللك، فقال للغلام ائتني بطعام فأتاه ببقل وزيت وقلوب الشجر، فجعل يحشو شدقه ويأكل أكلاً عنيفاً فقال المالك أين صاحبكم? فقالوا هذا، قال كيف أنت? قال كالناس، وفي حديث آخر: بخير، فقال الملك ما عند هذا من خير! فانصرف عنه، فقال السائح الحمد لله الذي صرفك عني وأنت لي ذام. فلم يزل المخلصون خائفين من الرياء الخفي مجتهدون لذلك في مخادعة الناس عن أعمالهم الصالحة يحرصون على إخفائها أعظم مما يحرص الناس على إخفاء فواحشهم، كل ذلك رجاء أن تخلص أعمالهم الصالحة فيجازيهم الله في القيامة بإخلاصهم على ملأ من الخلص، إذ علموا أن الله لا يقبل في القيامة إلا الخالص وعلموا شدة حاجتهم وفاقتهم في القيامة وأنه يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون ولا يجزى والد عن ولده، ويشتغل الصديقون بأنفسهم فيقول كل واحد. نفسي نفسي! فضلاً عن غيرهم فكانوا كزوار بيت الله إذا توجهوا إلى مكة فإنهم يستصحبون مع أنفسهم الذهب المغربي الخالص لعلمهم أن أرباب البوادي لا يروج عندهم الزائف والبهرج، والحاجة تشتد في البادية ولا وطن يفزع إليه ولا حميم يتمسك به فلا ينجى إلا الخالص من النقد، فكذا يشاهد أرباب القلوب يوم القيامة والزاد الذي يتزودونه له من التقوى. فإذن شوائب الرياء الخفي كثيرة لا تنحصر، ومهما أدرك من نفسه تفرقه بين أن يطلع على عبادته إنسان أو بهيمة ففيه شعبة من الرياء فإنه لما قطع طمعه عن البهائم لم يبال حضره البهائم أو الصبيان الرضع أم غابوا، اطلعوا على حركته أم لم يطلعوا، فلو كان مخلصاً قانعاً بعلم الله لاستحقر عقلاء العباد كما استحقر صبيانهم ومجانينهم، وعلم أن العقلاء لا يقدرون له على رزق ولا أجل ولا زيادة ثواب ونقصان عقاب كما لا يقدر عليه البهائم والصبيان والمجانين، فإذا لم يجد ذلك ففيه شوب خفي، ولكن ليس كل شوب محبطاً للأجر مفسداً للعمل بل فيه تفضيل.

فإن قلت: فما نرى أحداً ينفك عن السرور إذا عرفت طاعاته، فالسرور مذموم كله أو بعضه محمود وبعضه مذموم? فنقول: أولاً، كل سرور فليس بمذموم بل السرور منقسم إلى محمود وإلى مذموم.

فأما المحمود فأربعة أقسام "الأول" أن يكون قصده إخفاء الطاعة والإخلاص لله، ولكن لما اطلع عليه الخلق علم أن الله أطلعهم وأظهر الجميل من أحواله، فيستدل به على حسن صنع الله به ونظره إليه وإلطافه به، فإنه يستر الطاعة والمعصية ثم الله يستر عليه المعصية ويظهر الطاعة، ولا لطف أعظم من ستر القبيح وإظهار الجميل، فيكون فرحه بجميل نظر الله لا بحمد الناس وقيام المنزلة في قلوبهم وقد قال تعالى "قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا" فكأنه ظهر له أنه عند الله مقبول ففرح به.

"الثاني" أن يستدل بإظهار الله الجميل وستره القبيح عليهفي الدنيا أنه كذلك يفعل في الآخرة إذ قال رسول الله "ما ستر الله على عبد ذنباً في الدنيا إلى ستره عليه في الآخرة فيكون الأول فرحاً بالقبول في الحال من غير ملاحظة المستقبل، وهذا التفات إلى المستقبل.

"الثالث" أن يظن رغبة المطلعين على الاقتداء به في الطاعة فيتضاعف بذلك أجره، فيكون له أجر العلانية بما أظهر آخراً وأجر السر بما قصده أولاً، ومن اقتدى به في طاعة فله مثل أجر أعمال المقتدين به من غير أن يقنص من أجورهم شيء، وتوقع ذلك جدير بأن يكون سبب السرور، فإن ظهور مخايل الربح لذيذ وموجب للسرور لا محالة.