إقامة الدليل على إبطال التحليل/15


-مسألة: في قصة إبليس وإخباره النبي وهو في المسجد مع جماعة من أصحابه، وسؤال النبي له عن أمور كثيرة والناس ينظرون إلى صورته عيانا، ويسمعون كلامه جهرا، فهل ذلك حديث صحيح أم كذب مختلق ؟ وهل جاء ذلك في شيء من الصحاح، والمسانيد، والسنن أم لا ؟ وهل يحل لأحد أن يروي ذلك ؟ وماذا يجب على من يرى ذلك ويحدثه للناس ويزعم أنه صحيح شرعي ؟ الجواب: الحمد لله، بل هذا حديث مكذوب مختلق، ليس هو في شيء من كتب المسلمين المعتمدة، لا الصحاح ولا السنن ولا المسانيد، ومن علم أنه كذب على النبي لم يحل له أن يرويه عنه، ومن قال إنه صحيح فإنه يعلم بحاله، فإن أصر عوقب على ذلك، ولكن فيه كلام كثير قد جمع أحاديث نبوية، فالذي كذبه واختلقه جمعه من أحاديث بعضها كذب، وبعضها صدق، فلهذا يوجد فيه كلمات متعددة صحيحة، وإن كان أصل الحديث، وهو مجيء إبليس عيانا إلى النبي بحضرة أصحابه وسؤاله له كذبا مختلقا، لم ينقله أحد من علماء المسلمين، والله سبحانه وتعالى أعلم .

-مسألة: فيمن سمع رجلا يقول: لو كنت فعلت كذا لم يجر عليك شيء من هذا، فقال له رجل آخر سمعه: هذه الكلمة قد نهى النبي عنها، وهي كلمة تؤدي قائلها إلى الكفر، فقال رجل آخر: قال النبي في قصة موسى مع الخضر: { يرحم الله موسى وددنا لو كان صبر حتى يقص الله علينا من أمرهما } واستدل الآخر بقوله : { المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف إلى أن قال فإن كلمة لو تفتح عمل الشيطان } فهل هذا ناسخ لهذا أم لا ؟، الجواب: الحمد لله، جميع ما قاله الله ورسوله حق، " ولو " تستعمل على وجهين: أحدهما: على وجه الحزن على الماضي والجزع من المقدور، فهذا هو الذي نهى عنه، كما قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم }، وهذا هو الذي نهى عنه النبي حيث قال: { وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن - اللو - تفتح عمل الشيطان } أي تفتح عليك الحزن والجزع، وذلك يضر ولا ينفع بل اعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، كما قال تعالى: { ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه }، قالوا: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم، والوجه الثاني: أن يقال " لو " لبيان علم نافع، كقوله: { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا }، ولبيان محبة الخير وإرادته، كقوله: " لو أن لي مثل ما لفلان لعملت مثل ما يعمل " ونحوه جائز، وقول النبي : { وددت لو أن موسى صبر ليقص الله علينا من خبرهما } هو من هذا الباب، كقوله: { ودوا لو تدهن فيدهنون } فإن نبينا أحب أن يقص الله خبرهما، فذكرها لبيان محبته للصبر المترتب عليه، فعرفه ما يكون لما في ذلك من المنفعة، ولم يكن في ذلك جزع ولا حزن ولا ترك لما يجب من الصبر على المقدور، وقوله: { وددت لو أن موسى صبر } قال النحاة: تقديره وددت أن موسى صبر، وكذلك قوله: { ودوا لو تدهن فيدهنون } تقديره ودوا أن تدهن وقال بعضهم بل هي لو شرطية وجوابها محذوف، والمعنى على التقديرين معلوم وهي محبة ذلك الفعل وإرادته، ومحبة الخير وإرادته محمود، والحزن والجزع وترك الصبر مذموم، والله أعلم . فصل وأما شرط البخاري ومسلم، فلهذا رجال يروي عنهم يختص بهم، ولهذا رجال يروي عنهم يختص بهم، وهما مشتركان في رجال آخرين، وهؤلاء الذين اتفقا عليهم مدار الحديث المتفق عليه، وقد يروي أحدهم عن رجل في المتابعات والشواهد دون الأصل، وقد يروي عنه ما عرف من طريق غيره ولا يروي ما انفرد به، وقد يترك من حديث الثقة ما علم أنه أخطأ فيه، فيظن من لا خبرة له أن كل ما رواه ذلك الشخص يحتج به أصحاب الصحيح، وليس الأمر كذلك، فإن معرفة علل الحديث علم شريف يعرفه أئمة الفن، كيحيى بن سعيد القطان، وعلي بن المديني، وأحمد بن حنبل، والبخاري صاحب الصحيح، والدارقطني وغيرهم، وهذه علوم يعرفها أصحابها، والله أعلم .

" والخلة " هي كمال المحبة المستلزمة من العبد كمال العبودية لله، ومن الرب سبحانه كمال الربوبية لعباده الذين يحبهم ويحبونه، ولفظ العبودية يتضمن كمال الذل، وكمال الحب، فإنهم يقولون: قلب متيم إذا كان متعبدا للمحبوب، والمتيم المتعبد، وتيم الله عبده، وهذا على الكمال حصل لإبراهيم ومحمد  ; ولهذا لم يكن له من أهل الأرض خليل ; إذ الخلة لا تحتمل الشركة فإنه كما قيل في المعنى، قد تخللت مسلك الروح مني وبذا سمي الخليل خليلا بخلاف أصل الحب فإنه قد قال في الحديث الصحيح { في الحسن وأسامة: اللهم إني أحبهما فأحبهما وأحب من يحبهما } { وسأله عمرو بن العاص أي الناس أحب إليك ؟ قال: عائشة قال: فمن الرجال ؟ قال: أبوها وقال لعلي رضي الله عنه: لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله } وأمثال ذلك كثير، وقد أخبر تعالى أنه يحب المتقين، ويحب المحسنين، ويحب المقسطين، ويحب التوابين، ويحب المتطهرين، ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص، وقال: { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } فقد أخبر بمحبته لعباده المؤمنين، ومحبة المؤمنين له، حتى قال: { والذين آمنوا أشد حبا لله }، وأما الخلة فخاصة، وقول بعض الناس: إن محمدا حبيب الله، وإبراهيم خليل الله، وظنه أن المحبة فوق الخلة قول ضعيف، فإن محمدا أيضا خليل الله كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة المستفيضة، وما يروى " أن العباس يحشر بين حبيب وخليل " وأمثال ذلك، فأحاديث موضوعة لا تصلح أن يعتمد عليها، وقد قدمنا أن من محبة الله تعالى محبة ما أحب، كما في الصحيحين: عن النبي أنه قال: { ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار } أخبر النبي أن هذه الثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان ; لأن وجود الحلاوة بالشيء يتبع المحبة له، فمن أحب شيئا أو اشتهاه إذا حصل له مراده، فإنه يجد الحلاوة واللذة والسرور بذلك، واللذة أمر يحصل عقيب إدراك الملائم الذي هو المحبوب أو المشتهي، ومن قال إن اللذة إدراك الملائم كما يقوله من يقوله من المتفلسفة والأطباء، فقد غلط في ذلك غلطا مبينا ; فإن الإدراك يتوسط بين المحبة واللذة، فإن الإنسان مثلا يشتهي الطعام فإذا أكله حصل له عقيب ذلك اللذة، فاللذة تتبع النظر إلى الشيء، فإذا نظر إليه التذ، فاللذة تتبع النظر ليس نفس النظر، وليست هي رؤية الشيء ; بل تحصل عقيب رؤيته، وقال تعالى: { وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين } وهكذا جميع ما يحصل للنفس من اللذات، والآلام من فرح وحزن ونحو ذلك يحصل بالشعور بالمحبوب، أو الشعور بالمكروه، وليس نفس الشعور هو الفرح ولا الحزن، فحلاوة الإيمان المتضمنة من اللذة به والفرح ما يجده المؤمن الواجد من حلاوة الإيمان تتبع كمال محبة العبد لله، وذلك بثلاثة أمور تكميل هذه المحبة، وتفريعها، ودفع ضدها، " فتكميلها " أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، فإن محبة الله ورسوله لا يكتفى فيها بأصل الحب، بل لا بد أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما كما تقدم، " وتفريعها " أن يحب المرء لا يحبه إلا لله، " ودفع ضدها " أن يكره ضد الإيمان أعظم من كراهته الإلقاء في النار، فإذا كانت محبة الرسول والمؤمنين من محبة الله، وكان رسول الله يحب المؤمنين الذين يحبهم الله ; لأنه أكمل الناس محبة لله، وأحقهم بأن يحب ما يحبه الله، ويبغض ما يبغضه الله، " والخلة " ليس لغير الله فيها نصيب، بل قال: { لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا } علم مزيد مرتبة الخلة على مطلق المحبة، والمقصود هو أن " الخلة " " والمحبة لله " تحقيق عبوديته ; وإنما يغلط من يغلط في هذه من حيث يتوهمون أن العبودية مجرد ذل وخضوع فقط، لا محبة معه، أو أن المحبة فيها انبساط في الأهواء، أو إذلال لا تحتمله الربوبية ; ولهذا يذكر عن " ذي النون " أنهم تكلموا عنده في مسألة المحبة، فقال: أمسكوا عن هذه المسألة لا تسمعها النفوس فتدعيها، وكره من كره من أهل المعرفة والعلم مجالسة أقوام يكثرون الكلام في المحبة بلا خشية ; وقال من قال من السلف: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد، ولهذا وجد في المستأخرين من انبسط في دعوى المحبة حتى أخرجه ذلك إلى نوع من الرعونة، والدعوى التي تنافي العبودية وتدخل العبد في نوع من الربوبية التي لا تصلح إلا لله ; ويدعي أحدهم دعاوى تتجاوز حدود الأنبياء والمرسلين، أو يطلبون من الله ما لا يصلح - بكل وجه - إلا لله لا يصلح للأنبياء والمرسلين، وهذا باب وقع فيه كثير من الشيوخ وسببه ضعف تحقيق العبودية التي بينتها الرسل وحررها الأمر والنهي الذي جاءوا به، بل ضعف العقل الذي به يعرف العبد حقيقته ; وإذا ضعف العقل وقل العلم بالدين وفي النفس محبة انبسطت النفس بحمقها في ذلك، كما ينبسط الإنسان في محبة الإنسان مع حمقه وجهله، ويقول: أنا محب فلا أؤاخذ بما أفعله من أنواع يكون فيها عذر أو جهل، فهذا عين الضلال، وهو شبيه بقول اليهود والنصارى: { نحن أبناء الله وأحباؤه } قال الله تعالى: { قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء } فإن تعذيبه لهم بذنوبهم يقتضي أنهم غير محبوبين ولا منسوبين إليه بنسبة البنوة، بل يقتضي أنهم مربوبون مخلوقون، فمن كان الله يحبه استعمله فيما يحبه محبوبه، لا يفعل ما يبغضه الحق، ويسخطه من الكفر والفسوق والعصيان، ومن فعل الكبائر، وأصر عليها ولم يتب منها، فإن الله يبغض منه ذلك ; كما يحب منه ما يفعله من الخير ; إذ حبه للعبد بحسب إيمانه وتقواه، ومن ظن أن الذنوب لا تضره لكون الله يحبه مع إصراره عليها كان بمنزلة من زعم أن تناول السم لا يضره مع مداومته عليه، وعدم تداويه منه بصحة مزاجه، ولو تدبر الأحمق ما قص الله في كتابه من قصص أنبيائه ; وما جرى لهم من التوبة والاستغفار ; وما أصيبوا به من أنواع البلاء الذي فيه تمحيص لهم وتطهير بحسب أحوالهم ; علم بعض ضرر الذنوب بأصحابها ولو كان أرفع الناس مقاما، فإن المحب للمخلوق إذا لم يكن عارفا بمصلحته ولا مريدا لها ; بل يعمل بمقتضى الحب - وإن كان جهلا وظلما - أن ذلك سببا لبغض المحبوب له ونفوره عنه ; بل لعقوبته .

وكثير من السالكين سلكوا في دعوى حب الله أنواعا من أمور الجهل بالدين ; إما من تعدي حدود الله ; وإما من تضييع حقوق الله، وإما من ادعاء الدعاوى الباطلة التي لا حقيقة لها، كقول بعضهم: أي مريد لي ترك في النار أحدا فأنا منه بريء ; فقال الآخر: أي مريد لي ترك أحدا من المؤمنين يدخل النار فأنا منه بريء، فالأول جعل مريده يخرج كل من في النار ; والثاني جعل مريده يمنع أهل الكبائر من دخول النار، ويقول بعضهم: إذا كان يوم القيامة نصبت خيمتي على جهنم حتى لا يدخلها أحد، وأمثال ذلك من الأقوال التي تؤثر عن بعض المشايخ المشهورين ; وهي إما كذب عليهم، وإما غلط منهم ; ومثل هذا قد يصدر في حال سكر وغلبة وفناء يسقط فيها تمييز الإنسان ; أو يضعف حتى لا يدري ما قال، " والسكر " هو لذة مع عدم تمييز ولهذا كان بين هؤلاء من إذا صحا استغفر من ذلك الكلام، والذين توسعوا من الشيوخ في سماع القصائد المتضمنة للحب، والشوق، واللوم، والعذل، والغرام كان هذا أصل مقصدهم ; ولهذا أنزل الله للمحبة محنة يمتحن بها المحب فقال: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } فلا يكون محبا لله إلا من يتبع رسوله، وطاعة الرسول ومتابعته تحقيق العبودية، وكثير ممن يدعي المحبة يخرج عن شريعته وسنته، ويدعي من الخيالات ما لا يتسع هذا الموضع لذكره، حتى قد يظن أحدهم سقوط الأمر وتحليل الحرام له وغير ذلك مما فيه مخالفة شريعة الرسول وسنته، وطاعته، بل قد جعل محبة الله ومحبة رسوله الجهاد في سبيله، " والجهاد " يتضمن كمال محبة ما أمر الله به، وكمال بغض ما نهى الله عنه، ولهذا قال في صفة من يحبهم ويحبونه: { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله }، ولهذا كانت محبة هذه الأمة لله أكمل من محبة من قبلها، وعبوديتهم لله أكمل من عبودية من قبلهم، وأكمل هذه الأمة في ذلك أصحاب محمد ومن كان بهم أشبه كان ذلك فيه أكمل، فأين هذا من قوم يدعون المحبة ؟، ، [ وفي ] كلام بعض الشيوخ: المحبة نار تحرق في القلب ما سوى مراد المحبوب، وأرادوا أن الكون كله قد أراد الله وجوده، فظنوا أن كمال المحبة أن يحب العبد كل شيء، حتى الكفر والفسوق والعصيان، ولا يمكن لأحد أن يحب كل موجود بل يحب ما يلائمه وينفعه ويبغض ما ينافيه ويضره، ولكن استفادوا بهذا الضلال اتباع أهوائهم، فهم يحبون ما يهوونه كالصور والرئاسة وفضول المال، والبدع المضلة، زاعمين أن هذا من محبة الله، ومن محبة الله بغض ما يبغضه الله ورسوله، وجهاد أهله بالنفس والمال، وأصل ضلالهم أن هذا القائل الذي قال: " إن المحبة نار تحرق ما سوى مراد المحبوب " قصد بمراد الله تعالى الإرادة الدينية الشرعية التي هي بمعنى محبته ورضاه، فكأنه قال: تحرق من القلب ما سوى المحبوب لله، وهذا معنى صحيح، فإن من تمام الحب أن لا يحب إلا ما يحبه الله، فإذا أحببت ما لا يحب كانت المحبة ناقصة، وأما قضاؤه وقدره فهو يبغضه، ويكرهه، ويسخطه، وينهى عنه، فإن لم أوافقه في بغضه وكراهته وسخطه لم أكن محبا له، بل محبا لما يبغضه، فاتباع الشريعة، والقيام بالجهاد من أعظم الفروق بين أهل محبة الله وأوليائه الذين يحبهم ويحبونه، وبين من يدعي محبة الله ناظرا إلى عموم ربوبيته، أو متبعا لبعض البدع المخالفة لشريعته، فإن دعوى هذه المحبة لله من جنس دعوى اليهود والنصارى المحبة لله، بل قد تكون دعوى هؤلاء شرا من دعوى اليهود والنصارى لما فيهم من النفاق الذين هم به في الدرك الأسفل من النار، كما قد تكون دعوى اليهود والنصارى شر من دعواهم إذا لم يصلوا إلى مثل كفرهم، وفي التوراة والإنجيل من محبة الله ما هم متفقون عليه، حتى إن ذلك عندهم أعظم وصايا الناموس، ففي الإنجيل أن المسيح قال: " أعظم وصايا المسيح أن تحب الله بكل قلبك وعقلك ونفسك "، والنصارى يدعون قيامهم بهذه المحبة، وأن ما هم فيه من الزهد والعبادة هو من ذلك، وهم براء من محبة الله إذ لم يتبعوا ما أحبه، بل اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم، والله يبغض الكافرين ويمقتهم، ويلعنهم، وهو سبحانه يحب من يحبه، لا يمكن أن يكون العبد محبا لله والله تعالى غير محب له، بل بقدر محبة العبد لربه يكون حب الله له ; وإن كان جزاء الله لعبده أعظم، كما في الحديث الصحيح الإلهي عن الله تعالى أنه قال: { من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة }، وقد أخبر سبحانه أنه يحب المتقين، والمحسنين والصابرين، ويحب التوابين، ويحب المتطهرين، بل هو يحب من فعل ما أمر به من واجب ومستحب، كما في الحديث الصحيح: { لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به } الحديث، وكثير من المخطئين الذين اتبعوا أشياخا في " الزهد والعبادة " وقعوا في بعض ما وقع فيه النصارى: من دعوى المحبة لله مع مخالفة شريعته، وترك المجاهدة في سبيله ونحو ذلك، ويتمسكون في الدين الذي يتقربون به إلى الله بنحو ما تمسك به النصارى من الكلام المتشابه، والحكايات التي لا يعرف صدق قائلها، ولو صدق لم يكن قائلها معصوما، فيجعلون متبوعيهم شارعين لهم دينا، كما جعل النصارى قسيسيهم ورهبانهم شارعين لهم دينا، ثم إنهم ينتقصون العبودية ويدعون أن الخاصة يتعدونها كما يدعي النصارى في المسيح، ويثبتون للخاصة من المشاركة في الله من جنس ما تثبته النصارى في المسيح وأمه إلى أنواع أخر يطول شرحها في هذا الموضع، وإنما دين الحق هو تحقيق العبودية لله بكل وجه، وهو تحقيق محبة الله بكل درجة وبقدر تكميل العبودية تكمل محبة العبد لربه، وتكمل محبة الرب لعبده، وبقدر نقص هذا يكون نقص هذا ; وكلما كان في القلب حب لغير الله كانت فيه عبودية لغير الله بحسب ذلك، وكلما كان فيه عبودية لغير الله كان فيه حب لغير الله بحسب ذلك، وكل محبة لا تكون لله فهي باطلة، وكل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل، فالدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان لله، ولا يكون لله إلا ما أحبه الله ورسوله، وهو المشروع، فكل عمل أريد به غير الله لم يكن لله، وكل عمل لا يوافق شرع الله لم يكن لله، بل لا يكون لله إلا ما جمع الوصفين: أن يكون لله، وأن يكون موافقا لمحبة الله ورسوله، وهو الواجب والمستحب، كما قال: { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا }، فلا بد من العمل الصالح، وهو الواجب والمستحب، ولا بد أن يكون خالصا لوجه الله تعالى، كما قال تعالى: { بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون }، وقال النبي : { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } وقال النبي : { إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ; فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه }، وهذا الأصل هو أصل الدين، وبحسب تحقيقه يكون تحقيق الدين وبه أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب، وإليه دعا الرسول، وعليه جاهد ; وبه أمر، وفيه رغب ; وهو قطب الدين الذي تدور عليه رحاه، والشرك غالب على النفوس، وهو كما جاء في الحديث، { وهو في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل } وفي حديث آخر { قال أبو بكر: يا رسول الله، كيف ننجو منه، وهو أخفى من دبيب النمل ؟ فقال النبي لأبي بكر: ألا أعلمك كلمة إذا قلتها نجوت من دقه وجله ؟ قل: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم }، وكان عمر يقول في دعائه: اللهم اجعل عملي كله صالحا، واجعله لوجهك خالصا، ولا تجعل لأحد فيه شيئا، وكثيرا ما يخالط النفوس من الشهوات الخفية ما يفسد عليها تحقيق محبتها لله وعبوديتها له، وإخلاص دينها له، كما قال شداد بن أوس: يا بقايا العرب إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية، قيل لأبي داود السجستاني: وما الشهوة الخفية ؟ قال: حب الرئاسة، وعن كعب بن مالك عن النبي أنه قال: { ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه } قال الترمذي حديث حسن صحيح، فبين أن الحرص على المال والشرف في فساد الدين لا ينقص عن فساد الذئبين الجائعين لزريبة الغنم، وذلك بين ; فإن الدين السليم لا يكون فيه هذا الحرص، وذلك أن القلب إذا ذاق حلاوة عبوديته لله ومحبته له لم يكن شيء أحب إليه من ذلك حتى يقدمه عليه، وبذلك يصرف عن أهل الإخلاص لله السوء والفحشاء، كما قال تعالى: { كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين }، فإن المخلص لله ذاق من حلاوة عبوديته لله ما يمنعه من عبوديته لغيره، ومن حلاوة محبته لله ما يمنعه عن محبة غيره، إذ ليس عند القلب لا أحلى ولا ألذ ولا أطيب ولا ألين ولا أنعم من حلاوة الإيمان المتضمن عبوديته لله، ومحبته له، وإخلاصه الدين له، وذلك يقتضي انجذاب القلب إلى الله فيصير القلب منيبا إلى الله خائفا منه راغبا راهبا، كما قال تعالى: { من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب }، إذ المحب يخاف من زوال مطلوبه وحصول مرغوبه، فلا يكون عبدا لله ومحبه إلا بين خوف ورجاء ; قال تعالى: { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا }، وإذا كان العبد مخلصا له اجتباه ربه فيحيي قلبه، واجتذبه إليه فينصرف عنه ما يضاد ذلك من السوء والفحشاء، ويخاف من حصول ضد ذلك ; بخلاف القلب الذي لم يخلص لله، فإنه في طلب وإرادة وحب مطلق، فيهوى ما يسنح له ويتشبث بما يهواه، كالغصن أي نسيم مر بعطفه أماله فتارة تجتذبه الصور المحرمة وغير المحرمة ; فيبقى أسيرا عبدا لمن لو اتخذه هو عبدا له لكان ذلك عيبا ونقصا وذما، وتارة يجتذبه الشرف والرئاسة، فترضيه الكلمة وتغضبه الكلمة ويستعبده من يثني عليه ولو بالباطل، ويعادي من يذمه ولو بالحق، وتارة يستعبدهم الدرهم والدينار، وأمثال ذلك من الأمور التي تستعبد القلوب، والقلوب تهواها فيتخذ إلهه هواه ويتبع هواه بغير هدى من الله، ومن لم يكن خالصا لله عبدا له قد صار قلبه معبدا لربه وحده لا شريك له، بحيث يكون الله أحب إليه من كل ما سواه، ويكون ذليلا له خاضعا وإلا استعبدته الكائنات، واستولت على قلبه الشياطين، وكان من الغاوين إخوان الشياطين، وصار فيه من السوء والفحشاء ما لا يعلمه إلا الله، وهذا أمر ضروري لا حيلة فيه ; فالقلب إن لم يكن حنيفا مقبلا على الله معرضا عما سواه وإلا كان مشركا، قال تعالى: { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون } إلى قوله: { كل حزب بما لديهم فرحون }، وقد جعل الله سبحانه إبراهيم وآل إبراهيم أئمة لهؤلاء الحنفاء المخلصين أهل محبة الله وعبادته وإخلاص الدين له ; كما جعل فرعون وآل فرعون أئمة المشركين المتبعين أهواءهم، قال تعالى في إبراهيم: { ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين، وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين }، وقال في فرعون وقومه: { وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين }، ولهذا يصير أتباع فرعون أولا إلى أن لا يميزوا بين ما يحبه الله ويرضاه، وبين ما قدر الله وقضاه ; بل ينظرون إلى المشيئة المطلقة الشاملة، ثم في آخر الأمر لا يميزون بين الخالق والمخلوق، بل يجعلون وجود هذا وجود هذا، ويقول محققوهم الشريعة فيها طاعة ومعصية، والحقيقة فيها معصية بلا طاعة ;

والتحقيق ليس فيه طاعة ولا معصية، وهذا تحقيق مذهب فرعون وقومه الذين أنكروا الخالق وأنكروا تكليمه لعبده موسى وما أرسله به من الأمر والنهي، وأما إبراهيم وآل إبراهيم الحنفاء والأنبياء فهم يعلمون أنه لا بد من الفرق بين الخالق والمخلوق، ولا بد من الفرق بين الطاعة والمعصية، وأن العبد كلما ازداد تحقيقا ازدادت محبته لله وعبوديته له وطاعته له وإعراضه عن عبادة غيره ومحبة غيره وطاعة غيره، وهؤلاء المشركون الضالون يسوون بين الله وبين خلقه، والخليل يقول: { أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين } ويتمسكون بالمتشابه من كلام المشايخ كما فعلت النصارى، مثال ذلك اسم " الفناء " فإن " الفناء ثلاثة أنواع ": نوع للكاملين من الأنبياء والأولياء ; ونوع للقاصدين من الأولياء والصالحين ; ونوع للمنافقين الملحدين المشبهين، فأما الأول: فهو " الفناء عن إرادة ما سوى الله " بحيث لا يحب إلا الله، ولا يعبد إلا إياه ولا يتوكل إلا عليه، ولا يطلب غيره ; وهو المعنى الذي يجب أن يقصد بقول الشيخ أبي يزيد حيث قال: أريد أن لا أريد إلا ما يريد، أي المراد المحبوب المرضي ; وهو المراد بالإرادة الدينية وكمال العبد أن لا يريد ولا يحب ولا يرضى إلا ما أراده الله ورضيه وأحبه، وهو ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب ; ولا يحب إلا ما يحبه الله كالملائكة والأنبياء والصالحين، وهذا معنى قولهم في قوله: { إلا من أتى الله بقلب سليم }، قالوا: هو السليم مما سوى الله، أو مما سوى عبادة الله، أو مما سوى إرادة الله، أو مما سوى محبة الله، فالمعنى واحد وهذا المعنى إن سمي فناء أو لم يسم هو أول الإسلام وآخره، وباطن الدين وظاهره، وأما النوع الثاني: فهو " الفناء عن شهود السوى "، وهذا يحصل لكثير من السالكين، فإنهم لفرط انجذاب قلوبهم إلى ذكر الله وعبادته ومحبته وضعف قلوبهم عن أن تشهد غير ما تعبد وترى غير ما تقصد ; لا يخطر بقلوبهم غير الله ; بل ولا يشعرون ; كما قيل في قوله: { وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها } قالوا: فارغا من كل شيء إلا من ذكر موسى، وهذا كثير يعرض لمن فقمه أمر من الأمور إما حب وإما خوف، وإما رجاء يبقى قلبه منصرفا عن كل شيء إلا عما قد أحبه أو خافه أو طلبه ; بحيث يكون عند استغراقه في ذلك لا يشعر بغيره، فإذا قوي على صاحب الفناء هذا فإنه يغيب بموجوده عن وجوده، وبمشهوده عن شهوده، وبمذكوره عن ذكره، وبمعروفه عن معرفته، حتى يفنى من لم يكن وهي المخلوقات المعبدة ممن سواه، ويبقى من لم يزل وهو الرب تعالى، والمراد فناؤها في شهود العبد وذكره، وفناؤه عن أن يدركها أو يشهدها، وإذا قوي هذا ضعف المحب حتى اضطرب في تمييزه فقد يظن أنه هو محبوبه، كما يذكر: أن رجلا ألقى نفسه في اليم فألقى محبه نفسه خلفه، فقال: أنا وقعت فما أوقعك خلفي قال: غبت بك عني، فظننت أنك أني، " وهذا الموضع " يزل فيه أقوام وظنوا أنه اتحاد، وأن المحب يتحد بالمحبوب حتى لا يكون بينهما فرق في نفس وجودهما، وهذا غلط ; فإن الخالق لا يتحد به شيء أصلا، بل لا يتحد شيء بشيء إلا إذا استحالا وفسدا وحصل من اتحادهما أمر ثالث لا هو هذا ولا هذا، كما إذا اتحد الماء واللبن، والماء والخمر، ونحو ذلك، ولكن يتحد المراد والمحبوب والمكروه ويتفقان في نوع الإرادة والكراهة، فيحب هذا ما يحب هذا، ويبغض هذا ما يبغض هذا، ويرضى ما يرضى ويسخط ما يسخط ويكره ما يكره، ويوالي من يوالي ويعادي من يعادي وهذا الفناء كله فيه نقص، وأكابر الأولياء كأبي بكر، وعمر، والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار: لم يقعوا في هذا الفناء، فضلا عمن هو فوقهم من الأنبياء وإنما وقع شيء من هذا بعد الصحابة، وكذلك كل ما كان من هذا النمط مما فيه غيبة العقل والتمييز لما يرد على القلب من أحوال الإيمان ; فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا أكمل وأقوى وأثبت في الأحوال الإيمانية من أن تغيب عقولهم، أو يحصل لهم غشي أو صعق أو سكر أو فناء أو وله أو جنون، وإنما كان مبادئ هذه الأمور في التابعين من عباد البصرة، فإنه كان فيهم من يغشى عليه إذا سمع القرآن ومنهم من يموت: كأبي جهير الضرير وزرارة بن أبي أوفى قاضي البصرة، وكذلك صار في شيوخ الصوفية من يعرض له من الفناء والسكر ما يضعف معه تمييزه، حتى يقول في تلك الحال من الأقوال ما إذا صحا عرف أنه غالط فيه، كما يحكى نحو ذلك عن مثل أبي يزيد، وأبي الحسن الثوري، وأبي بكر الشبلي، وأمثالهم، بخلاف أبي سليمان الداراني، ومعروف الكرخي، والفضيل بن عياض بل وبخلاف الجنيد وأمثالهم ممن كانت عقولهم وتمييزهم يصحبهم في أحوالهم فلا يقعون في مثل هذا الفناء والسكر ونحوه، بل الكمل تكون قلوبهم ليس فيها سوى محبة الله وإرادته وعبادته، وعندهم من سعة العلم والتمييز ما يشهدون الأمور على ما هي عليه، بل يشهدون المخلوقات قائمة بأمر الله مدبرة بمشيئته بل مستجيبة له قانتة له، فيكون لهم فيها تبصرة وذكرى، ويكون ما يشهدونه من ذلك مؤيدا وممدا لما في قلوبهم من إخلاص الدين، وتجريد التوحيد له، والعبادة له وحده لا شريك له، وهذه " الحقيقة " التي دعا إليها القرآن، وقام بها أهل تحقيق الإيمان، والكمل من أهل العرفان، ونبينا إمام هؤلاء وأكملهم ; ولهذا لما عرج به إلى السموات وعاين ما هنالك من الآيات وأوحى إليه ما أوحى من أنواع المناجاة أصبح فيهم وهو لم يتغير حاله، ولا ظهر عليه ذلك، بخلاف ما كان يظهر على موسى من التغشي - أجمعين .

وخاتمة المجلس: " سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك " إن كان مجلس رحمة كانت كالطابع عليه، وإن كان مجلس لغو كانت كفارة له، وقد روي أيضا أنها تقال في آخر الوضوء بعد أن يقال: { أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين }، وهذا الذكر يتضمن التوحيد والاستغفار ; فإن صدره الشهادتان اللتان هما أصلا الدين وجماعه ; فإن جميع الدين داخل في " الشهادتين " إذ مضمونهما أن لا نعبد إلا الله، وأن نطيع رسوله، " والدين " كله داخل في هذا في عبادة الله بطاعة الله وطاعة رسوله، وكل ما يجب أو يستحب داخل في طاعة الله ورسوله، وقد روي أنه يقول: { سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك } وهذا كفارة المجلس، فقد شرع في آخر المجلس وفي آخر الوضوء، وكذلك كان النبي يختم الصلاة كما في الحديث الصحيح أنه { كان يقول في آخر صلاته: اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت } وهنا قدم الدعاء وختمه بالتوحيد ; لأن الدعاء مأمور به في آخر الصلاة، وختم بالتوحيد ليختم الصلاة بأفضل الأمرين وهو التوحيد، بخلاف ما لم يقصد فيه هذا فإن تقديم التوحيد أفضل، فإن جنس الدعاء الذي هو ثناء وعبادة أفضل من جنس الدعاء الذي هو سؤال وطلب، وإن كان المفضول قد يفضل على الفاضل في موضعه الخاص، بسبب وبأشياء أخر، كما أن الصلاة أفضل من القراءة، والقراءة أفضل من الذكر الذي هو ثناء، والذكر أفضل من الدعاء الذي هو سؤال، ومع هذا فالمفضول له أمكنة وأزمنة وأحوال يكون فيها أفضل من الفاضل، لكن أول الدين وآخره وظاهره وباطنه هو التوحيد، وإخلاص الدين كله لله هو تحقيق قول لا إله إلا الله، فإن المسلمين وإن اشتركوا في الإقرار بها، فهم متفاضلون في تحقيقها تفاضلا لا نقدر أن نضبطه، حتى أن كثيرا منهم يظنون أن التوحيد المفروض هو الإقرار والتصديق بأن الله خالق كل شيء وربه ولا يميزون بين الإقرار بتوحيد الربوبية الذي أقر به مشركو العرب، وبين توحيد الإلهية الذي دعاهم إليه رسول الله ولا يجمعون بين التوحيد القولي والعملي، فإن المشركين ما كانوا يقولون: إن العالم خلقه اثنان، ولا إن مع الله ربا ينفرد دونه بخلق شيء ; بل كانوا كما قال الله عنهم: { ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله } وقال تعالى: { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } قال تعالى: { قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون }، وكانوا مع إقرارهم بأن الله هو الخالق وحده يجعلون معه آلهة أخرى، يجعلونهم شفعاء لهم إليه، ويقولون: { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى }، ويحبونهم كحب الله، والإشراك في الحب والعبادة والدعاء والسؤال غير الإشراك في الاعتقاد والإقرار، كما قال تعالى: { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله، والذين آمنوا أشد حبا لله } فمن أحب مخلوقا كما يحب الخالق فهو مشرك به، قد اتخذ من دون الله أندادا يحبهم كحب الله، وإن كان مقرا بأن الله خالقه، ولهذا فرق الله ورسوله بين من أحب مخلوقا لله، وبين من أحب مخلوقا مع الله، فالأول يكون الله هو محبوبه ومعبوده الذي هو منتهى حبه وعبادته لا يحب معه غيره ; لكنه لما علم أن الله يحب أنبياءه وعباده الصالحين أحبهم لأجله، وكذلك لما علم أن الله يحب فعل المأمور وترك المحظور أحب ذلك، فكان حبه لما يحبه تابعا لمحبة الله وفرعا عليه وداخلا فيه، بخلاف من أحب مع الله فجعله ندا لله يرجوه ويخافه، أو يطيعه من غير أن يعلم أن طاعته طاعة لله، ويتخذه شفيعا له من غير أن يعلم أن الله يأذن له أن يشفع فيه قال تعالى: { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله } وقال تعالى: { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون }، وقد { قال عدي بن حاتم للنبي: ما عبدوهم، قال: أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم، فكانت تلك عبادتهم إياهم }، وقال تعالى: { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } وقال تعالى: { ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلانا خليلا لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا }، فالرسول وجبت طاعته ; لأنه من يطع الرسول فقد أطاع الله، فالحلال ما حلله، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، ومن سوى الرسول من العلماء والمشايخ والأمراء والملوك إنما تجب طاعتهم إذا كانت طاعتهم طاعة لله، وهم إذا أمر الله ورسوله بطاعتهم فطاعتهم داخلة في طاعة الرسول، قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم }، فلم يقل وأطيعوا الرسول وأطيعوا أولي الأمر منكم ; بل جعل طاعة أولي الأمر داخلة في طاعة الرسول ; وطاعة الرسول طاعة لله، وأعاد الفعل في طاعة الرسول دون طاعة أولي الأمر ; فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله ; فليس لأحد إذا أمره الرسول بأمر أن ينظر هل أمر الله به أم لا، بخلاف أولي الأمر فإنهم قد يأمرون بمعصية الله، فليس كل من أطاعهم مطيعا لله، بل لا بد فيما يأمرون به أن يعلم أنه ليس معصية لله، وينظر هل أمر الله به أم لا، سواء كان أولي الأمر من العلماء أو الأمراء، ويدخل في هذا تقليد العلماء وطاعة أمراء السرايا وغير ذلك، وبهذا يكون الدين كله لله قال تعالى: { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } وقال النبي : { لما قيل له: يا رسول الله، الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، فأي ذلك في سبيل الله ؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله }، ثم إن كثيرا من الناس يحب خليفة أو عالما أو شيخا أو أميرا فيجعله ندا لله، وإن كان قد يقول: إنه يحبه لله، فمن جعل غير الرسول تجب طاعته في كل ما يأمر به وينهى عنه، وإن خالف أمر الله ورسوله فقد جعله ندا، وربما صنع به كما تصنع النصارى بالمسيح، ويدعوه ويستغيث به، ويوالي أولياءه، ويعادي أعداءه مع إيجابه طاعته في كل ما يأمر به وينهى عنه ويحلله ويحرمه، ويقيمه مقام الله ورسوله فهذا من الشرك الذي يدخل أصحابه في قوله تعالى { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله }، فالتوحيد والإشراك يكون في أقوال القلب، ويكون في أعمال القلب ; ولهذا قال الجنيد: التوحيد قول القلب، والتوكل عمل القلب أراد بذلك التوحيد الذي هو التصديق، فإنه لما قرنه بالتوكل جعله أصله، وإذا أفرد لفظ التوحيد فهو يتضمن قول القلب وعمله، والتوكل من تمام التوحيد، وهذا كلفظ " الإيمان " فإنه إذا أفرد دخلت فيه الأعمال الباطنة والظاهرة، وقيل الإيمان قول وعمل، أي قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح، ومنه قول النبي في الحديث المتفق عليه: { الإيمان بضع وستون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان }، ومنه قوله تعالى: { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } وقوله: { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، أولئك هم المؤمنون حقا } وقوله: { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه } .

فصل وأما قول السائل: هل الاعتراف بالخطيئة بمجرده مع التوحيد موجب لغفرانها وكشف الكربة الصادرة عنها ; أم يحتاج إلى شيء آخر ؟ فجوابه: أن الموجب للغفران مع التوحيد هو التوبة المأمور بها ; فإن الشرك لا يغفره الله إلا بتوبة ; كما قال تعالى: { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } في موضعين من القرآن وما دون الشرك فهو مع التوبة مغفور ; وبدون التوبة معلق بالمشيئة، كما قال تعالى: { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذبوب جميعا } فهذا في حق التائبين، ولهذا عمم وأطلق، وختم أنه يغفر الذنوب جميعا، وقال في تلك الآية: { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } فخص ما دون الشرك وعلقه بالمشيئة فإذا كان الشرك لا يغفر إلا بتوبة ; وأما ما دونه فيغفره الله للتائب ; وقد يغفره بدون التوبة لمن يشاء، فالاعتراف بالخطيئة مع التوحيد إن كان متضمنا للتوبة أوجب المغفرة ; وإذا غفر الذنب زالت عقوبته ; فإن المغفرة هي وقاية شر الذنب، ومن الناس من يقول الغفر الستر، ويقول: إنما سمي المغفرة والغفار لما فيه من معنى الستر، وتفسير اسم الله الغفار بأنه الستار وهذا تقصير في معنى الغفر ; فإن المغفرة معناها وقاية شر الذنب بحيث لا يعاقب على الذنب فمن غفر ذنبه لم يعاقب عليه، وأما مجرد ستره فقد يعاقب عليه في الباطن، ومن عوقب على الذنب باطنا أو ظاهرا فلم يغفر له، وإنما يكون غفران الذنب إذا لم يعاقب عليه العقوبة المستحقة بالذنب، وأما إذا ابتلي مع ذلك بما يكون سببا في حقه لزيادة أجره فهذا لا ينافي المغفرة، وكذلك إذا كان من تمام التوبة أن يأتي بحسنات يفعلها فإن من يشترط في التوبة من تمام التوبة ; وقد يظن الظان أنه تائب ولا يكون تائبا بل يكون تاركا، والتارك غير التائب، فإنه قد يعرض عن الذنب لعدم خطوره بباله أو المقتضى لعجزه عنه، أو تنتفي إرادته له بسبب غير ديني، وهذا ليس بتوبة، بل لا بد من أن يعتقد أنه سيئة ويكره فعله لنهي الله عنه ويدعه لله تعالى: لا لرغبة مخلوق ولا لرهبة مخلوق ; فإن التوبة من أعظم الحسنات ; والحسنات كلها يشترط فيها الإخلاص لله وموافقة أمره، كما قال الفضيل بن عياض، في قوله: { ليبلوكم أيكم أحسن عملا } قال: أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه ؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل ; حتى يكون خالصا صوابا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في دعائه: اللهم اجعل عملي كله صالحا، واجعله لوجهك خالصا، ولا تجعل لأحد فيه شيئا، وبسط الكلام في التوبة له موضع آخر، وأما الاعتراف بالذنب على وجه الخضوع لله من غير إقلاع عنه فهذا في نفس الاستغفار المجرد الذي لا توبة معه، وهو كالذي يسأل الله تعالى أن يغفر له الذنب مع كونه لم يتب منه، وهذا يأس من رحمة الله، ولا يقطع بالمغفرة له فإنه داع دعوة مجردة، وقد ثبت في الصحيحين: عن النبي أنه قال: { ما من داع يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم، إلا كان بين إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخر له من الجزاء مثلها ; وإما أن يصرف عنه من الشر مثلها قالوا: يا رسول الله، إذا نكثر قال: الله أكثر } فمثل هذا الدعاء قد تحصل معه المغفرة وإذا لم تحصل، فلا بد أن يحصل معه صرف شر آخر أو حصول خير آخر، فهو نافع كما ينفع كل دعاء، وقول من قال من العلماء: الاستغفار مع الإصرار توبة الكذابين، فهذا إذا كان المستغفر يقوله على وجه التوبة أو يدعي أن استغفاره توبة، وأنه تائب بهذا الاستغفار فلا ريب أنه مع الإصرار لا يكون تائبا، فإن التوبة والإصرار ضدان: الإصرار يضاد التوبة، لكن لا يضاد الاستغفار بدون التوبة . وقول القائل: هل الاعتراف بالذنب المعين يوجب دفع ما حصل بذنوب متعددة أم لا بد من استحضار جميع الذنوب ؟ فجواب هذا مبني على أصول: أحدهما: أن التوبة تصح من ذنب مع الإصرار على ذنب آخر إذا كان المقتضي للتوبة من أحدهما أقوى من المقتضي للتوبة من الآخر، أو كان المانع من أحدهما أشد، وهذا هو القول المعروف عند السلف والخلف، وذهب طائفة من أهل الكلام كأبي هاشم إلى أن التوبة لا تصح من قبيح مع الإصرار على الآخر، قالوا: لأن الباعث على التوبة إن لم يكن من خشية الله لم يكن توبة صحيحة، والخشية مانعة من جميع الذنوب لا من بعضها، وحكى القاضي أبو يعلى، وابن عقيل هذا رواية عن أحمد ; لأن المروذي نقل عنه أنه سئل عمن تاب من الفاحشة وقال: لو مرضت لم أعد لكن لا يدع النظر، فقال أحمد: أي توبة هذه ؟، قال { جرير بن عبد الله سألت رسول الله عن نظرة الفجأة فقال: اصرف بصرك }، والمعروف عن أحمد وسائر الأئمة هو القول بصحة التوبة، وأحمد في هذه المسألة إنما أراد أن هذه ليست توبة عامة يحصل بسببها من التائبين توبة مطلقا، لم يرد أن ذنب هذا كذنب المصر على الكبائر، فإن نصوصه المتواترة عنه وأقواله الثابتة تنافي ذلك، وحمل كلام الإمام على ما يصدق بعضه بعضا أولى من حمله على التناقض، لا سيما إذا كان القول الآخر مبتدعا لم يعرف عن أحد من السلف، وأحمد يقول: إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام، وكان في المحنة يقول: كيف أقول ما لم يقل، واتباع أحمد للسنة والآثار وقوة رغبته في ذلك وكراهته لخلافه من الأمور المتواترة عنه يعرفها من يعرف من الخاصة والعامة وما ذكروه من أن الخشية توجب العموم، فجوابه: أنه قد يعلم قبح أحد الذنبين دون الآخر، وإنما يتوب مما يعلم قبحه، وأيضا: فقد يعلم قبحها ولكن هواه يغلبه في إحداهما دون الآخر فيتوب من هذا دون ذاك، كمن أدى بعض الواجبات دون بعض ; فإن ذلك يقبل منه، ولكن المعتزلة لهم أصل فاسد وافقوا فيه الخوارج في الحكم وإن خالفوهم في الاسم، فقالوا: إن أصحاب الكبائر يخلدون في النار ولا يخرجون منها بشفاعة ولا غيرها، وعندهم يمتنع أن يكون الرجل الواحد ممن يعاقبه الله ثم يثيبه ; ولهذا يقولون: بحبوط جميع الحسنات بالكبيرة، وأما الصحابة وأهل السنة والجماعة فعلى أن أهل الكبائر يخرجون من النار ويشفع فيهم، وأن الكبيرة الواحدة لا تحبط جميع الحسنات ولكن قد يحبط ما يقابلها عند أكثر أهل السنة، ولا يحبط جميع الحسنات إلا الكفر، كما لا يحبط جميع السيئات إلا التوبة، فصاحب الكبيرة إذا أتى بحسنات يبتغي بها رضا الله أثابه الله على ذلك، وإن كان مستحقا للعقوبة على كبيرته، وكتاب الله عز وجل يفرق بين حكم السارق والزاني وقتال المؤمنين بعضهم بعضا، وبين حكم الكفار في " الأسماء، والأحكام "، والسنة المتواترة عن النبي وإجماع الصحابة يدل على ذلك، كما هو مبسوط في غير هذا الموضع، وعلى هذا تنازع الناس في قوله: { إنما يتقبل الله من المتقين }، فعلى قول الخوارج والمعتزلة لا تقبل حسنة إلا ممن اتقاه مطلقا فلم يأت كبيرة، وعند المرجئة إنما يتقبل ممن اتقى الشرك، فجعلوا أهل الكبائر داخلين في اسم " المتقين " وعند أهل السنة والجماعة يتقبل العمل ممن اتقى الله فيه فعمله خالصا لله موافقا لأمر الله، فمن اتقاه في عمل تقبله منه، وإن كان عاصيا في غيره، ومن لم يتقه فيه لم يتقبله منه وإن كان مطيعا في غيره، والتوبة من بعض الذنوب دون بعض كفعل بعض الحسنات المأمور بها دون بعض إذا لم يكن المتروك شرطا في صحة المفعول كالإيمان المشروط في غيره من الأعمال، كما قال الله تعالى: { ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا }، وقال تعالى { من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة }، وقال: { ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }، الأصل الثاني: أن من له ذنوب فتاب من بعضها دون بعض فإن التوبة إنما تقتضي مغفرة ما تاب منه أما ما لم يتب منه فهو باق فيه على حكم من لم يتب، لا على حكم من تاب، وما علمت في هذا نزاعا إلا في الكافر إذا أسلم، فإن إسلامه يتضمن التوبة من الكفر فيغفر له بالإسلام الكفر الذي تاب منه، وهل تغفر له الذنوب التي فعلها في حال الكفر ولم يتب منها في الإسلام ؟ هذا فيه قولان معروفان، أحدهما: يغفر له الجميع، لإطلاق قوله { الإسلام يهدم ما كان قبله } رواه مسلم،. مع قوله تعالى: { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف }، والقول الثاني: إنه لا يستحق أن يغفر له بالإسلام إلا ما تاب منه ; فإذا أسلم وهو مصر على كبائر دون الكفر فحكمه في ذلك حكم أمثاله من أهل الكبائر، وهذا القول هو الذي تدل عليه الأصول والنصوص، فإن في الصحيحين: أن { النبي : قال له حكيم بن حزام: يا رسول الله، أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية ؟ فقال: من أحسن منكم في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر } فقد دل هذا النص على أنه إنما ترفع المؤاخذة بالأعمال التي فعلت في حال الجاهلية عمن أحسن لا عمن لا يحسن ; وإن لم يحسن أخذ بالأول والآخر، ومن لم يتب منه فلم يحسن، وقوله تعالى: { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } يدل على أن المنتهي عن شيء يغفر له ما قد سلف منه، لا يدل على أن المنتهي عن شيء يغفر له ما سلف من غيره ; وذلك لأن قول القائل لغيره: إن انتهيت غفرت لك ما تقدم، ونحو ذلك يفهم منه عند الإطلاق أنك إن انتهيت عن هذا الأمر غفر لك ما تقدم منه، وإذا انتهيت عن شيء غفر لك ما تقدم منه، كما يفهم مثل ذلك في قوله: " إن تبت "، لا يفهم منه أنك بالانتهاء عن ذنب يغفر لك ما تقدم من غيره، وأما قول النبي : { الإسلام يهدم ما قبله } وفي رواية { يجب ما كان قبله } فهذا قاله لما أسلم عمرو بن العاص وطلب أن يغفر له ما تقدم من ذنبه فقال له: { يا عمرو، أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن التوبة تهدم ما كان قبلها، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها } ومعلوم أن التوبة إنما توجب مغفرة ما تاب منه، لا توجب التوبة غفران جميع الذنوب، الأصل الثالث: إن الإنسان قد يستحضر ذنوبا فيتوب منها وقد يتوب توبة مطلقة لا يستحضر معها ذنوبه، لكن إذا كانت نيته التوبة العامة فهي تتناول كل ما يراه ذنبا ; لأن التوبة العامة تتضمن عزما عاما بفعل المأمور وترك المحظور، وكذلك تتضمن ندما عاما على كل محظور، " والندم " سواء قيل: إنه من باب الاعتقادات، أو من باب الإرادات، أو قيل: إنه من باب الآلام التي تلحق النفس بسبب فعل ما يضرها ; فإذا استشعر القلب أنه فعل ما يضره، حصل له معرفة بأن الذي فعله كان من السيئات، وهذا من باب الاعتقادات، وكراهية لما كان فعله، وهو من جنس الإرادات ; وحصل له أذى وغم لما كان فعله ; وهذا من باب الآلام، كالغموم والأحزان، كما أن الفرح والسرور هو من باب اللذات ليس هو من باب الاعتقادات والإرادات، ومن قال من المتفلسفة ومن اتبعهم: إن اللذة هي إدراك الملائم من حيث هو ملائم، وإن الألم هو إدراك المنافر من حيث هو منافر فقد غلط في ذلك، فإن اللذة والألم حالان يتعقبان إدراك الملائم والمنافر فإن الحب لما يلائمه، كالطعام المشتهى مثلا له ثلاثة أحوال، أحدها: الحب، كالشهوة للطعام، والثاني: إدراك المحبوب، كأكل الطعام، والثالث: اللذة الحاصلة بذلك، واللذة أمر مغاير للشهوة ولذوق المشتهي، بل هي حاصلة لذوق المشتهي ; ليست نفس ذوق المشتهى، وكذلك " المكروه " كالضرب مثلا، فإن كراهته شيء، وحصوله شيء آخر، والألم الحاصل به ثالث، وكذلك ما للعارفين أهل محبة الله من النعيم والسرور بذلك ; فإن حبهم لله شيء، ثم ما يحصل من ذكر المحبوب شيء، ثم اللذة الحاصلة بذلك أمر ثالث، ولا ريب أن الحب مشروط بشعور المحبوب، كما أن الشهوة مشروطة بشعور المشتهي ; لكن الشعور المشروط في اللذة غير الشعور المشروط في المحبة، فهذا الثاني يسمى إدراكا وذوقا ونيلا ووجدا ووصالا، ونحو ذلك مما يعبر به عن إدراك المحبوب، سواء كان بالباطن أو الظاهر، ثم هذا الذوق يستلزم اللذة، واللذة أمر يحسه الحي باطنا وظاهرا، وقد قال النبي في الحديث الصحيح { ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا } وفي الصحيحين: عنه أنه قال: { ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه من سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار }، فبين أن ذوق طعم الإيمان لمن رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، وإن وجد حلاوة الإيمان حاصل لمن كان حبه لله ورسوله أشد من حبه لغيرهما، ومن كان يحب شخصا لله لا لغيره، ومن كان يكره ضد الإيمان، كما يكره أن يلقى في النار ; فهذا الحب للإيمان، والكراهية للكفر استلزم حلاوة الإيمان، كما استلزم الرضى المتقدم ذوق طعم الإيمان، وهذا هو اللذة ; وليس هو نفس التصديق والمعرفة الحاصلة في القلب، ولا نفس الحب الحاصل في القلب ; بل هذا نتيجة ذاك وثمرته ولازم له، وهي أمور متلازمة، فلا توجد اللذة إلا بحب وذوق، وإلا فمن أحب شيئا ولم يذق منه شيئا لم يجد لذة، كالذي يشتهي الطعام ولم يذق منه شيئا، ولو ذاق ما لا يحبه لم يجد لذة، كمن ذاق ما لا يريده، فإذا اجتمع حب الشيء وذوقه حصلت اللذة بعد ذلك، وإن حصل بغضه: وبذوق البغيض حصل الألم، فالذي يبغض الذنب ولا يفعله لا يندم، والذي لا يبغضه لا يندم على فعله، فإذا فعله وعرف أن هذا مما يبغضه ويضره ندم على فعله إياه، وفي المسند عن ابن مسعود عن النبي أنه قال: { الندم توبة }، إذا تبين هذا، فمن تاب توبة عامة كانت هذه التوبة مقتضية لغفران الذنوب كلها، وإن لم يستحضر أعيان الذنوب إلا أن يعارض هذا العام معارض يوجب التخصيص، مثل أن يكون بعض الذنوب لو استحضره لم يتب منه ; لقوة إرادته إياه أو لاعتقاده أنه حسن ليس بقبيح، فما كان لو استحضره لم يتب منه لم يدخل في التوبة، وأما ما كان لو حضر بعينه لكان مما يتوب منه فإن التوبة العامة شاملته، وأما " التوبة المطلقة ": وهي أن يتوب توبة مجملة، ولا تستلزم التوبة من كل ذنب، فهذه لا توجب دخول كل فرد من أفراد الذنوب فيها ولا تمنع دخوله كاللفظ المطلق ; لكن هذه تصلح أن تكون سببا لغفران المعين، كما تصلح أن تكون سببا لغفران الجميع ; بخلاف العامة فإنها مقتضية للغفران العام، كما تناولت الذنوب تناولا عاما، وكثير من الناس لا يستحضر عند التوبة إلا بعض المتصفات بالفاحشة أو مقدماتها أو بعض الظلم باللسان أو اليد، وقد يكون ما تركه من المأمور الذي يجب لله عليه في باطنه وظاهره من شعب الإيمان وحقائقه أعظم ضررا عليه مما فعله من بعض الفواحش، فإن ما أمر الله به من حقائق الإيمان التي بها يصير العبد من المؤمنين حقا أعظم نفعا من نفع ترك بعض الذنوب الظاهرة، كحب الله ورسوله ; فإن هذا أعظم الحسنات الفعلية حتى ثبت في الصحيح { أنه كان على عهد النبي رجل يدعى حمارا، وكان يشرب الخمر، وكان كلما أتي به إلى النبي جلده الحد، فلما كثر ذلك منه أتي به مرة فأمر بجلده فلعنه رجل فقال النبي : لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله }، فنهى عن لعنه مع إصراره على الشرب لكونه يحب الله ورسوله، مع أنه لعن في الخمر عشرة: { لعن الخمر، وعاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وساقيها، وحاملها، والمحمولة إليه، وبائعها، ومبتاعها وآكل ثمنها }، ولكن لعن المطلق لا يستلزم لعن المعين الذي قام به ما يمنع لحوق اللعنة له، وكذلك " التكفير المطلق " " والوعيد المطلق "، ولهذا كان الوعيد المطلق في الكتاب والسنة مشروطا بثبوت شروط وانتفاء موانع، فلا يلحق التائب من الذنب باتفاق المسلمين، ولا يلحق من له حسنات تمحو سيئاته، ولا يلحق المشفوع له، والمغفور له ; فإن الذنوب تزول عقوبتها التي هي جهنم بأسباب التوبة والحسنات المادية والمصائب المكفرة - لكنها من عقوبات الدنيا - وكذلك ما يحصل في البرزخ من الشدة، وكذلك ما يحصل في عرصات القيامة، وتزول أيضا بدعاء المؤمنين: كالصلاة عليه وشفاعة الشفيع المطاع، كمن يشفع فيه سيد الشفعاء محمد تسليما، وحينئذ فأي ذنب تاب منه ارتفع موجبه، وما لم يتب منه فله

حكم الذنوب التي لم يتب منها، فالشدة إذا حصلت بذنوب وتاب من بعضها خفف منه بقدر ما تاب منه، بخلاف ما لم يتب منه ; بخلاف صاحب التوبة العامة، والناس في غالب أحوالهم لا يتوبون توبة عامة مع حاجتهم إلى ذلك فإن التوبة واجبة على كل عبد في كل حال ; لأنه دائما يظهر له ما فرط فيه من ترك مأمور أو ما اعتدى فيه من فعل محظور، فعليه أن يتوب دائما، والله أعلم .

فصل في العيوب المثبتة للفسخ والاستحاضة عيب يثبت به فسخ النكاح في أظهر الوجهين وإذا كان الزوج صغيرا أو به جنون أو جذام أو برص فالمسألة التي في الرضاع تقتضي أن لها الفسخ في الحال ولا ينتظر وقت إمكان الوطء وعلى قياسه الزوجة إذا كانت صغيرة أو مجنونة أو عقلاء أو قرناء ويتوجه أن لا فسخ إلا عند عدم إمكان الوطء في الحال وإذا لم يقر بالعنة ولم ينكر أو قال لست أدري أعنين أنا أم لا، فينبغي أن يكون كما لو أنكر العنة ونكل عن اليمين فإن النكول عن الجواب كالنكول عن اليمين فإن قلنا يحبس الناكل عن الجواب فالتأجيل أيسر من الحبس ولو نكل عن اليمين فيما إذا ادعى الوطء قبل التأجيل فينبغي أن يؤجل هنا كما لو نكل عن اليمين في العنة، والسنة المعتبرة في التأجيل هي الهلالية هذا هو المفهوم من كلام العلماء لكن تعليلهم بالفصول يوهم خلاف ذلك لكن ما بينهما متقارب ويتخرج إذا علمت بعنته أو اختارت المقام معه على عسرته هل لها الفسخ على روايتين ولو خرج هذا في جميع العيوب لتوجه وترد المرأة بكل عيب ينفر عن كمال الاستمتاع ولو بان الزوج عقيما فقياس قولنا بثبوت الخيار للمرأة أن لها حقا في الولد ولهذا قلنا لا يعزل عن الحرة إلا بإذنها وعن الإمام أحمد ما يقتضيه، وروي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيضا وتعليل أصحابنا توقف الفسخ على الحاكم باختلاف أهل العلم فإنه إن أريد كل خيار مختلف فيه قومه يتوقف على الحاكم فخيار المعتقة يجب وهو مختلف فيه وخيارها بعد الثلاث مختلف فيه وهما لا يتوقفان على الحاكم ثم خيار امرأة المجبوب متفق عليه وهو من جملة العيوب التي قال: لا تتوقف على الحاكم ولا لما يعني الاعتذار فإن أصل خيار العنت الشرط مختلف فيه بخلاف أصل خيار المعتقة لأن أصل خيار العيب ثم خيارات البيع لا تتوقف على الحاكم مع الاختلاف والواجب أولا التفريق بين النكاح والبيع ثم لو علل بخفاء الفسخ وظهوره فإن العيوب وفوات الشرط قد تخفى وقد يتنازعون فيها بخلاف إعتاق السيد لكان أولى من تعليله بالاختلاف، ولو قيل بأن الفسخ يثبت بتراضيهما تارة وبحكم الحاكم أخرى أو بمجرد فسخ المستحق ثم الآخر إن أمضاه وإلا أمضاه الحاكم لتوجه وهو الأقوى ومتى أذن الحاكم أو حكم لأحد باستحقاق عقد أو فسخ مأذون لم يحتج بعد ذلك إلى حكم بصحته بلا نزاع لكن لو عقد الحاكم أو فسخ فهو فعله وإلا صح أنه حكم وإذا اعتبر تفريق الحاكم ولم يكن في الموضع حاكم، فالأشبه أن لها الامتناع، وكذلك تملك الانتقال من منزله، فإن من ملك الفسخ ملك الامتناع من التسليم وينبغي أن تملك النفقة في هذه المدة لأن المانع منه وإذا أعتقت الأمة تحت عبد ثبت لها الخيار اتفاقا وكذلك تحت حر وهو رواية عن الإمام أحمد ومذهب أبي حنيفة وإن كان الزوج عبدا لملكها رفقها وبضعها ولو شرط عليها سيدها دوام النكاح تحت حر أو عبد فرضيت لزمها ذلك ومذهب الإمام أحمد يقتضيه فإنه يجوز العتق بشرط، ذكر أبو محمد المقدسي إذا أسلمت الأمة أو ارتدت أو أرضعت من يفسخ نكاحها إرضاعه قبل الدخول سقط المهر وجعله أصلا قائما عليه ما إذا أعتقت قبل الدخول واختارت الفراق معه أن المهر يسقط على رواية لنا، قال أبو العباس: والتنصيف في مسألة الإسلام ونظائرها أولى فإنها إنما فسخت لإعتاقه لها فالإعتاق سبب للفسخ ومن أتلف حقه متسببا سقط وإن كان المباشر غيره بخلاف ما إذا كان السبب والمباشرة من الغير فإذا قيل في مسألة العتق بالتنصيف فالردة والإسلام والرضاع أولى بلا شك وإذا دخل النقص على الزوج بالمرأة وفوات صفة أو شرط صحيح أو باطل فإنه ينقص من المسمى بنسبة ما نقص وهذا النقص من مهر المثل لو لم يسلم لها ما شرطته أو كان الزوج معيبا فيقال ألف درهم وإذا أسلم لها ذلك أو كان الزوج سليما فيقال ثمانمائة درهم فيكون فوات الصفة والعيب قد صار من مهر المثل الخمس فينقصها من المسمى بحسب ذلك فيكون بقيمته مال ذهب منه فيزاد عليه مثل ربعه فإذا كان ألفين استحق ألفين وخمسمائة وهذا هو المهر الذي رضيت به ولو كان الزوج معيبا أو لم يشترط صفة وهذا هو العدل ويرجع الزوج المغرور بالصداق على من غره من المرأة أو الولي في أصح قول العلماء .

ويتحرر لأصحابنا فيما إذا زوج ابنه الصغير بمهر المثل أو أزيد روايات، إحداهن: أنه على الابن مطلقا إلا أن يضمنه الأب فيكون عليهما، الثانية: أن يضمنه فيكون عليه وحده، الثالثة: أنه على الأب ضمانا، الرابعة: أنه عليه أصالة، الخامسة: أنه إذا كان الابن مقرا فهو على الأب أصالة، السادسة: الفرق بين رضا الابن وعدم رضاه وضمان الأب المهر والنفقة على الابن قد يكون بلفظ الضمان وقد يكون بلفظ آخر، مثل أن يقول الذي لي لابني أو أنا وابني شيء واحد، وهل يترك والد ولده ونحو ذلك من الألفاظ التي تغرهم حتى يزوجوا ابنه، وقد يكون بدلالة الكلام وقد يذكر الأب ما يقتضي أنه قد ملك ابنه مالا أو يخبرهم بذلك فيزوجوه على ذلك، مثل أن يقول أنا أعطيته عشرة آلاف درهم أو له عشرة آلاف درهم ونحو ذلك، فهذا ينبغي أن يتعلق حقهم بهذا القدر من مال الأب ونفقة الزوجة قبل بلوغ الزوج أو قبل رضاه ينبغي أن تكون كالمهر قال القاضي في الجامع إذا مات الأب الذي عليه مهر ابنه فأخذ من تركته فإنه يرجع به على الابن نص عليه في رواية ابن منصور والبرزلي قال القاضي: يحتمل أن يكون أثبت له ذلك بناء على الرواية الأخرى وأنه تطوع بذلك لكن لم يحصل القبض منه وعلى هذا حمله أبو حفص، قال أبو العباس: ولا يتم الجواب إلا بالمأخذين جميعا وذلك أن الأب قائم مقام ابنه فلو ضمنه أجنبي بإذنه صح فإذا ضمنه هو فأولى أن يكون ضمانا لازما للابن وإذا كان له أن يثبت المال في ذمته بدون ضمانه فضمانه وقضاؤه أولى قال القاضي في الجامع إذا ضمنه الأب لزمه كما لو ضمنه أجنبي وإذا أقبضها إياه فهل يملك الرجوع به على الأب على روايتين أصلهما ضمان الأجنبي عن غيره بغير إذنه، قال أبو العباس: بل يرجع قولا واحدا لأنه قائم مقام ابنه في الإذن لنفسه كما لو ضمن أجنبي بإذن نفسه وإذا وفى الإنسان عن غيره دينا من صداق أو غيره كان للمستوفي أخذه له وفاء عن دينه وبدلا عنه وأما الموفى عنه إذا لم يرجع به عليه فهو متبرع عليه ثم هل يقال لو انفسخ يثبت الاستحقاق أو بعضه كالطلاق قبل الدخول وفسخ البيوع للموفى عنه أو لم يملك فيعود إلى الموفى، الراجح أن لا يجب انتقاله ويتقرر المهر بالخلوة وإن منعته الوطء وهو ظاهر كلام أحمد في رواية حرب، وقيل له فإن أخذها وعندها نسوة وقبض عليها ونحو ذلك من غير أن يخلو بها قال: إذا نال منها شيئا لا يحل لغيره فعليه المهر، وإن قلنا لا مهر بالخلوة في النكاح الفاسد على قولنا بوجوب العدة فيه والفسخ لاعتبار الزوج بالمهر أو النفقة نظير الفسخ لعنة بالزوج فيتخرج منه التنصيف على الرواية المنصوصة عنه فيه فإن لها نصف المهر لكونها معذورة في الفسخ ويتخرج ذلك ويلزم من قال إن خروج البضع من ملك الزوج يتقوم وتجب المتعة لكل مطلقة وهو رواية عن الإمام أحمد نقلها حنبل وهو ظاهر دلالة القرآن، واختار أبو العباس في " الاعتصام بالكتاب والسنة ": أن لكل مطلقة متعة إلا التي لم يدخل بها وقد فرض لها وهو رواية عن الإمام أحمد وقاله عمر وإذا أوجبنا المتعة للمدخول بها وكان الطلاق بائنا أو رجعيا فينبغي أن تجب لها أيضا مع نفقة العقد حيث أوجبناها وتكون نفقة الرجعية متعينة عن متاع آخر بحيث لا تجب لها كسوتان، ولا بد من اعتبار العصر في مهر المثل فإن الزمان إن كان زمان رخص رخص وإن زادت المهور، وإن كان زمن غلاء وخوف نقص وقد تعتبر عادة البلد والقبيلة في زيادة المهر ونقصه وينبغي أيضا اعتبار الصفات المعتبرة في الكفاءة فإذا كان أبوها موسرا ثم افتقر أو ذا صنعة جيدة ثم تحول إلى دونها أو كانت له رئاسة أو ملك ثم زالت عنه تلك الرئاسة والملك فيجب اعتبار مثل هذا وكذلك لو كان أهلهما لهم عز في أوطانهم ورئاسة فانقلبوا إلى بلد ليس لهم عز فيه ولا رئاسة فإن المهر يختلف بمثل ذلك في العادة وإن كانت عادتهم يسمون مهرا ولكن لا يستوفونه قط مثل عادة أهل الجفاء مثل الأكراد وغيرهم فوجوده كعدمه والشرط المتقدم كالمقارن والإطراد العرفي كالمقضي، وقال أبو العباس: وقد سئلت عن مسألة من هذا وقيل لي ما مهر مثل هذه فقلت ما جرت العادة بأنه يؤخذ من الزوج فقالوا إنما يؤخذ المنحل قبل الدخول فقلت هو مهر مثلها .

ولا يقع الطلاق بالكناية إلا بنية إلا مع قرينة إرادة الطلاق فإذا قرن الكنايات بلفظ يدل على أحكام الطلاق مثل أن يقول: فسخت النكاح وقطعت الزوجية ورفعت العلاقة بيني وبين زوجتي وقال الغزالي في المستصفى في ضمن مسألة القياس يقع الطلاق بالكناية حتى ينويه، قال أبو العباس: هذا عندي ضعيف على المذاهب كلها فإنهم مهدوا في كتاب الوقف أنه إذا قرن بالكناية بعض أحكامه صارت كالصريح ويجب أن يفرق بين قول الزوج لست لي بامرأة وما أنت لي بامرأة وبين قوله ليس لي امرأة وبين قوله إذا قيل له لك امرأة فقال لا فإن الفرق ثابت بينهما وصفا وعددا إذ الأول نفي لنكاحها ونفي النكاح عنها كإثبات طلاقها ويكون إنشاء ويكون إخبارا بخلاف نفي المنكوحات عموما فإنه لا يستعمل إلا إخبارا وفي المغني والكافي وغيرهما أنه لو باع زوجته لا يقع به طلاق وقال ابن عقيل وعندي أنه كناية، قال أبو العباس: وهذا متوجه إذا قصد الخلع لا بيع الرقبة، قال القاضي: إن قال لها: اختاري نفسك، فذكرت أنها اختارت نفسها، فأنكر الزوج فالقول قوله ; لأن الاختيار مما يمكنها إقامة البينة عليه فلا يقبل قوله في اختيارها، قال أبو العباس : يتوجه أن يقبل قولها كالوكيل على ما ذكره أصحابنا في أن الوكيل يقبل قوله في كل تصرف وكل فيه ولو ادعى الزوج أنه رجع قبل إيقاع الوكيل لم يقبل قوله إلا ببينة نص عليه الإمام أحمد في رواية أبي الحارث ذكره القاضي في المجرد وإذا قال لزوجته إن أبرأتيني فأنت طالق فقالت أبرأك الله مما تدعي النساء على الرجال إذا كانت رشيدة .

باب الوليمة وتختص بطعام العرس في مقتضى كلام أحمد في رواية المروزي وقيل تطلق على كل طعام لسرور حادث وقاله في " الجامع ": وقيل: تطلق على ذلك إلا أنه في العرس أظهر ووقت الوليمة في حديث زينب وصفته تدل على أنه عقب الدخول والأشبه جواز الإجابة لا وجوبها إذا كان في مجلس الوليمة من يهجر وأعدل الأقوال أنه إذا حضر الوليمة وهو صائم إن كان ينكسر قلب الداعي بترك الأكل فالأكل أفضل وإن لم ينكسر قلبه فإتمام الصوم أفضل ولا ينبغي لصاحب الدعوة الإلحاح في الطعام للمدعو إذا امتنع فإن كلا الأمرين جائز فإذا ألزمه بما لا يلزمه كان من نوع المسألة المنهي عنها ولا ينبغي للمدعو إذا رأى أنه يترتب على امتناعه مفاسد أن يمتنع فإن فطره جائز، فإن كان ترك الجائز مستلزما لأمور محذورة ينبغي أن يفعل ذلك الجائز وربما يصير واجبا وإن كان في إجابة الداعي مصلحة الإجابة فقط وفيها مفسدة الشبهة فالمنع أرجح، قال أبو العباس: هذا فيه خلاف فيما أظنه والدعاء إلى الوليمة إذن في الأكل والدخول قاله في المغني وقال في المحرر لا يباح الأكل إلا بصريح إذن أو عرف، وكلام الشيخ عبد القادر يوافقه وما قالاه مخالف قاله عامة الأصحاب: والحضور مع الإنكار المزيل على قول عبد القادر هو حرام، وعلى قول القاضي والشيخ أبي محمد هو واجب وإلا قيس بكلام الإمام أحمد في التخيير عند المنكر المعلوم غير المحسوس أن يتخيرهما أيضا وإن كان الترك أشبه بكلامه لزوال المفسدة بالحضور والإنكار لكن لا يجب لما فيه من تكليف الإنكار ولأن الداعي أسقط حرمته باتخاذه المنكر ونظير هذا إذا مر بمتلبس بمعصية هل يسلم عليه أو يترك التسليم وإن خافوا أن يأتوا بالمحرم ولم يغلب على ظنهم أحد الطرفين فقد تعارض الموجب وهو الدعوة والمبيح وهو خوف شهود الخطيئة فينبغي أن لا يجب لأن الموجب لم يسلم عن المعارض المساوي ولا يحرم لأن المحرم كذلك فينتفي الوجوب والتحريم وينبغي الجواز، ونصوص الإمام أحمد كلها تدل على المنع من اللبث في المكان المضر وقاله القاضي وهو لازم للشيخ أبي محمد حيث جزم بمنع اللبث في مكان فيه الخمر وآنية الذهب والفضة ولذلك مأخذان أحدهما أن إقرار ذلك في المنزل منكر فلا يدخل إلى مكان فيه ذلك وعلى هذا فيجوز الدخول إلى دور أهل الذمة وكنائسهم وإن كانت فيها صور لأنهم يقرون على ذلك فإنهم لا ينهون عن ذلك كما ينهون عن إظهار الخمر وبهذا يخرج الجواب عن جميع ما احتج به أبو محمد ويكون منع الملائكة سببا لمنع كونها في المنزل وعلى هذا فلو كان في الدعوة كلب لا يجوز اقتناؤه لم تدخل الملائكة أيضا بخلاف الجنب فإن الجنب لا يطول بقاؤه جنبا فلا تمتنع الملائكة عن الدخول إذا كان هناك زمنا يسيرا والثاني أن يكون نفس اللبث محرما أو مكروها ويستثنى من ذلك أوقات الحاجة كما في حديث عمر وغيره وتكون العلة ما يكتسبه المنزل من الصورة المحرمة حتى أنه لا يدخل منازل أهل الذمة، ورجح أبو العباس في موضع آخر عدم الدخول إلى بيعة فيها صور وأنها كالمسجد على القبر، والكنائس ليست ملكا لأحد وأهل الذمة ليس لهم منع من يعبد الله فيها لأنا لحناهم عليه والعابد بينهم وبين الغافلين أعظم أجرا ويحرم شهود عيد اليهود والنصارى ونقله مهنا عن أحمد وبيعة لهم فيه ويخرج من رواية منصوصة عن الإمام أحمد في منع التجارة إلى دار الحرب إذا لم يلزموه بفعل محرم أو ترك واجب وينكر ما يشاهده من المنكر بحسبه ويحرم بيعهم ما يعلمونه كنيسة أو تمثالا ونحوه وكل ما فيه تخصص لعيدهم أو ما هو بمنزلته، قال أبو العباس: لا أعلم خلافا أنه من التشبه بهم والتشبه بهم منهي عنه إجماعا وتجب عقوبة فاعله ولا ينبغي إجابة هذه الدعوة، ولما صارت العمامة الصفراء أو الزرقاء من شعارهم حرم لبسها ويحرم الأكل والذبح الزائد على المعتاد في بقية الأيام ولو العادة فعله أو لتفريح أهله ويعزر إن عاد ويكره موسم خاص: كالرغائب، وليلة القدر، وليلة النصف من شعبان، وهو بدعة، وأما ما يروى في الكحل يوم عاشوراء، أو الخضاب أو الاغتسال، أو المصافحة، أو مسح رأس اليتيم، أو أكل الحبوب، أو الذبح، ونحو ذلك: فكل ذلك كذب على النبي ومثل ذلك بدعة لا يستحب منه شيء عند أئمة الدين، وما يفعله أهل البدع فيه من النياحة والندب والمأتم، وسب الصحابة رضي الله عنهم هو أيضا من أعظم البدع والمنكرات وكل بدعة ضلالة، هذا وهذا وإن كان بعض البدع والمنكرات أغلظ من بعض والخلاف في كسوة الحيطان إذا لم تكن حريرا أو ذهبا، فأما الحرير والذهب فيحرم كما تحرم سيور الحرير والذهب على الرجال والحيطان والأثواب التي تختص بالمرأة ففي كون ستورها وكسوتها كفرشها نظر إذ ليس هو من اللباس ولا ريب في تحريم فرش الثياب تحت دابة الأمير لا سيما إن كانت خزا أو مغصوبة ورخص أبو محمد ستر الحيطان لحاجة من وقاية حر أو برد ومقتضى كلام القاضي المنع لإطلاقه على مقتضى كلام الإمام أحمد ويكره تعليق الستور على الأبواب من غير حاجة لوجود أغلاق غيرها من أبواب ونحوها، وكذلك الستور في الدهليز لغير حاجة فإن ما زاد على الحاجة فهو سرف وهل يرتقي إلى التحريم ؟ فيه نظر قال المروزي: سألت أبا عبد الله عن الجوز ينثر فكرهه وقال يعطون أو يقسم عليهم وقال في رواية إسحاق بن هانئ لا يعجبني انتهاب الجوز وأن يوكل السكر كذلك قال القاضي يكره الأكل التقاطا من النثار سواء أخذه أو أخذه ممن أخذه، وقول الإمام أحمد هذه نهبة تقتضي التحريم وهو قوي وأما الرخصة المحضة فتبعد جدا ويكره الأكل والشرب قائما لغير حاجة ويكره القران فيما جرت العادة بتناوله إفرادا واختلف كلام أبي العباس في أكل الإنسان حتى يتخم هل يكره أو يحرم، وجزم أبو العباس: في موضع آخر بتحريم الإسراف وفسر بمجاوزة الحد وإذا قال عند الأكل بسم الله الرحمن الرحيم كان حسنا فإنه أكمل بخلاف الذبح فإنه قد قيل إن ذلك لا يناسب ويلم الإنسان من بيت صديقه وقريبه بغير إذنه إذا لم يحزه عنه . وإرضاع الطفل واجب على الأم بشرط أن تكون مع الزوج، وهو قول ابن أبي ليلى وغيره من السلف ولا تستحق أجرة المثل زيادة على نفقتها وكسوتها وهو اختيار القاضي في المجرد، وقول الحنفية ; لأن الله تعالى يقول: { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن، بالمعروف } فلم يوجب لهن إلا الكسوة والنفقة بالمعروف وهو الواجب بالزوجية وما عساه يتجرد من زيادة خاصة للمرتضع كما قال في الحامل: { فإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن }، فدخلت نفقة الولد في نفقة أمه لأنه يتغذى بها، وكذلك المرتضع وتكون النفقة هنا واجبة بشيئين حتى لو سقط الوجوب فأحدهما ثبت الآخر، كما لو نشزت وأرضعت ولدها فلها النفقة للإرضاع لا للزوجية، فأما إذا كانت بائنا وأرضعت له ولده فإنها تستحق أجرها بلا ريب، كما قال الله تعالى: { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } وهذا الأجر هو النفقة والكسوة وقاله طائفة منهم الضحاك وغيره، وإذا كانت المرأة قليلة اللبن وطلقها زوجها فله أن يكتري

مرضعة لولده وإذا فعل ذلك فلا فرض للمرأة بسبب الولد ولها حضانته، ويجب على القريب افتكاك قريبه من الأسر وإن لم يجب عليه استنقاذه من الرق وهو أولى من حمل العقل . كتاب الديات المعروف أن الحر يضمن بالإتلاف لا باليد إلا الصغير ففيه روايتان كالروايتين في سرقته فإن كان الحر قد تعلق برقبته حق لغيره مثل أن يكون عليه حق قود أو في ذمته مال أو منفعته أو عنده أمانات أو غصوب تلفت بتلفه مثل أن يكون حافظا عليها وإذا تلف زال الحفظ فينبغي أنه إن أتلف فما ذهب لإتلافه من عين أو منفعة مضمونة ضمنت كالقود فإنه مضمون لكن هل ينتقل الحق إلى القاتل فيخير الأولياء بين قتله والعفو عنه أو إلى ترك الأول ففيه روايتان، وأما إذا تلف تحت اليد العادية فالمتوجه أن يضمن ما تلف بذلك من مال أو بدل قود بحيث يقال إذا كان عليه قود فحال بين أهل الحق والقود حتى مات ضمن لهم الدية ومن جنى على سنه اثنان واختلفوا فالقول قول المجني عليه في قدر ما أتلفه كل منهما، قاله أصحابنا ويتوجه أن يقترعا على القدر المتنازع فيه لأنه ثبت على أحدهما لا بعينه كما لو ثبت الحق لأحدهما لا بعينه .

وإذا أخذ من لحيته ما لا جمال فيه فهل يجب القسط أو الحكومة .

كتاب الحدود قوله تعالى: { فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا } قد يستدل بذلك على أن المذنب إذا لم يعرف فيه حكم الشرع فإنه يمسك فيحبس حتى يعرف فيه الحكم الشرعي فينفذ فيه وإذا زنى الذمي بالمسلمة قتل ولا يصرف عنه القتل الإسلام ولا يعتبر فيه أداء الشهادة على الوجه المعتبر في المسلم، بل يكفي استفاضته واشتهاره، وإن حملت امرأة لا زوج لها ولا سبب حدت إن لم تدع الشبهة، وكذا من وجد منه رائحة الخمر، وهو رواية عن أحمد فيهما وغلظ المعصية وعقابها بقدر فضيلة الزمان والمكان والكبيرة الواحدة لا تحبط جميع الحسنات لكن قد تحبط ما يقابلها عند أهل السنة، ولا يشترط في القطع بالسرقة مطالبة المسروق منه بماله وهو رواية عن أحمد اختارها أبو بكر ومذهب مالك كإقراره بالزنا بأمة غيره ومن سرق تمرا أو ماشية من غير حرز أضعفت عليه القيمة وهو مذهب أحمد وكذا غيرها وهو رواية عنه، واللص الذي غرضه سرقة أموال الناس ولا غرض له في شخص معين فإن قطع يده واجب ولو عفا عنه رب المال .

لا يجوز التداوي بالخمر ولا بغيرها من المحرمات وهو مذهب أحمد ويجوز شرب لبن الخيل إذ لم يصر مسكرا، والصحيح في حد الخمر أحد الروايتين الموافقة لمذهب الشافعي وغيره أن الزيادة على الأربعين إلى الثمانين ليست واجبة على الإطلاق بل يرجع فيها إلى اجتهاد الإمام كما جوزنا له الاجتهاد في صفة الضرب فيه بالجريد والنعال وأطراف الثياب في بقية الحدود، ومن التعزير الذي جاءت به السنة ونص عليه أحمد والشافعي: نفي المخنث، وحلق عمر رأس نصر بن حجاج ونفاه لما افتتن به النساء، فكذا من افتتن به الرجال من المردان ولا يقدر التعزير، بل بما يردع المعزر، وقد يكون بالعمل والنيل من عرضه مثل أن يقال له: يا ظالم يا معتدي وبإقامته من المجلس، والذين قدروا التعزير من أصحابنا إنما هو فيما إذا كان تعزيرا على ما مضى من فعل أو ترك فإن كان تعزيرا لأجل ترك ما هو فاعل له فهو بمنزلة قتل المرتد والحربي وقتال الباغي والعادي وهذا التعزير ليس يقدر بل ينتهي إلى القتل، كما في الصائل لأخذ المال يجوز أن يمنع من الأخذ ولو بالقتل وعلى هذا فإذا كان المقصود دفع الفساد ولم يندفع إلا بالقتل قتل، وحينئذ فمن تكرر منه فعل الفساد ولم يرتدع بالحدود المقدرة بل استمر على ذلك الفساد فهو كالصائل الذي لا يندفع إلا بالقتل فيقتل قيل ويمكن أن يخرج شارب الخمر في الرابعة على هذا، ويقتل الجاسوس الذي يكرر التجسس وقد ذكر شيئا من هذا الحنفية والمالكية وإليه يرجع قول ابن عقيل وهو أصل عظيم في صلاح الناس، وكذلك تارك الواجب فلا يزال يعاقب حتى يفعله، ومن قفز إلى بلاد العدو أو لم يندفع ضرره إلا بقتله قتل والتعزير بالمال سائغ إتلافا وأخذا وهو جار على أصل أحمد لأنه لم يختلف أصحابه أن العقوبات في الأموال غير منسوخة كلها وقول الشيخ أبي محمد المقدسي ولا يجوز أخذ مال المعزر فإشارة منه إلى ما يفعله الولاة الظلمة .

وإن اشترى اليهودي نصرانيا فجعله يهوديا عزر على جعله يهوديا ولا يكون مسلما ولا يجوز للجذماء مخالطة الناس عموما ولا مخالطة الناس لهم بل يسكنون في مكان مفرد لهم ونحو ذلك كما جاءت به سنة رسول الله وخلفائه وكما ذكره العلماء، وإذا امتنع ولي الأمر من ذلك أو المجذوم أثم بذلك وإذا أصر على ترك الواجب مع علمه به فسق ومن دعا عليه ظلما له أن يدعو على ظالمه بمثل ما دعا به عليه نحو أخزاك الله أو لعنك أو يشتمه بغير فرية نحو يا كلب يا خنزير فله أن يقول له مثل ذلك وإذا كان له أن يستعين بالمخلوق من وكيل ووال وغيرهما فاستعانته بخالقه أولى بالجواز ومن وجب عليه الحد بقتل أو غيره يسقط عنه بالتوبة وظاهر كلام أصحابنا لا يجب عليه التعزير كقولهم هو واجب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة، وذكر أبو العباس: في موضع آخر أن المرتد إذا قبلت توبته ساغ تعزيره بعد التوبة .

كتاب القاضي إلى القاضي ويقبل كتاب القاضي إلى القاضي في الحدود والقصاص وهو قول مالك وأبي ثور في الحدود وقول مالك والشافعي وأبي ثور ورواية عن أحمد في القصاص، والمحكوم إذا كان عينا في بلد الحاكم فإنه يسلمه إلى المدعي ولا حاجة إلى كتاب وأما إن كان دينا أو عينا في بلد أخرى فهنا يقف على الكتاب وههنا ثلاث مسائل متداخلات مسألة إحضار الخصم إذا كان غائبا ومسألة الحكم على الغائب ومسألة كتاب القاضي إلى القاضي ولو قيل: إنما نحكم على الغائب إذا كان المحكوم به حاضرا لأن فيه فائدة وهي تسليمه، وأما إذا كان المحكوم به غائبا فينبغي أن يكاتب الحاكم بما ثبت عنده من شهادة الشهود حتى يكون الحكم في بلد التسليم لكان متوجها وهل يقبل كتاب القاضي بالثبوت أو الحكم من حاكم غير معين مثل أن يشهد شاهدان أن حاكما نافذ الحكم حكم بكذا وكذا، القياس أنه لا يقبل بخلاف ما إذا كان المكاتب معروفا لأن مراسلة الحاكم ومكاتبته بمنزلة شهادة الأصول للفروع وهذا لا يقبل في الحكم والشهادات وإن قبل في الفتاوى والإخبارات، وقد ذكر صاحب " المحرر ": ما ذكره القاضي من أن الخصمين إذا أقر بحكم حاكم عليهما خير الثاني بين الإمضاء والاستئناف لأن ذلك بمنزلة قول الخصم شهد علي شاهدان ذوي عدل فهنا قد يقال بالتخيير أيضا ومن عرف خطه بإقراره أو إنشاء أو عقد أو شهادة عمل به كالميت، فإن حضر وأنكر مضمونه فكاعترافه بالصوت وإنكار مضمونه وللحاكم أن يكتب للمدعى عليه إذا ثبت براءته محضرا بذلك إن تضرر بتركه وللمحكوم عليه أن يطالب الحاكم عليه بتسمية البينة ليتمكن من القدح فيها باتفاق .

ومن وطئ امرأة مشركة قدح ذلك في عدالته وأدب والتعزير يكون على فعل المحرمات وترك الواجبات فمن جنس ترك الواجبات من كتم ما يجب بيانه كالبائع المدلس والمؤجر والناكح وغيرهم من العاملين وكذا الشاهد والمخبر والمفتي والحاكم ونحوهم فإن كتمان الحق مشبه بالكذب وينبغي أن يكون سببا للضمان كما أن الكذب سبب للضمان فإن الواجبات عندنا في الضمان كفعل المحرمات حتى قلنا لو قدر على إنجاء شخص بإطعام أو سقي فلم يفعل فمات ضمنه فعلى هذا فلو كتم شهادة كتمانا أبطل بها حق مسلم ضمنه مثل أن يكون عليه حق بينه وقد أداه حقه وله بينة بالأداء فكتم الشهادة حتى يغرم ذلك الحق، وكما لو كانت وثائق لرجل فكتمها أو جحدها حتى فات الحق ولو قال أنا أعلمها ولا أؤديها فوجوب الضمان ظاهر، وظاهر نقل ابن حنبل وابن منصور سماع الدعوى من الأعداء والتحليف في الشهادة، ومن هذا الباب لو كان في القرية أو المحلة أو البلدة رجل ظالم فسأل الوالي أو الغريم عن مكانه ليأخذ منه الحق فإنه يجب دلالته عليه بخلاف ما لو كان قصده أكثر من الحق فعلى هذا إذا كتموا ذلك حتى تلف الحق ضمنوه ويملك السلطان تعزير من ثبت عنده أنه كتم الخبر الواجب كما يملك تعزير المقر قرارا محمولا حتى يفسره أو من كتم الإقرار وقد يكون التعزير بتركه المستحب كما يعزر العاطس الذي لم يحمد الله بترك تشميته، وقال أبو العباس: في موضع آخر والتعزير على الشيء دليل على تحريمه من هذا الباب ما ذكره أصحابنا وأصحاب الشافعي من قتل الداعية من أهل البدع كما قتل الجعد بن درهم والجهم بن صفوان وغيلان القدري وقتل هؤلاء له مأخذان، أحدهما: كون ذلك كفرا كقتل المرتد أو جحودا أو تغليظا وهذا المعنى يعم الداعي إليها وغير الداعي وإذا كفروا فيكون قتلهم من باب قتل المرتد، والمأخذ الثاني: لما في الدعاء إلى البدعة من إفساد دين الناس ولهذا كان أصل الإمام أحمد وغيره من فقهاء الحديث وعلمائهم يفرقون بين الداعي إلى البدعة وغير الداعي في رد الشهادة وترك الرواية عنه والصلاة خلفه وهجره، ولهذا ترك في الكتب الستة ومسند أحمد الرواية عن مثل عمر وابن عبيد ونحوه ولم يترك عن القدرية الذين ليسوا بدعاة وعلى هذا المأخذ فقتلهم من باب قتل المفسدين المحاربين لأن المحاربة باللسان كالمحاربة باليد ويشبه قتل المحاربين للسنة بالرأي قتل المحاربين لها بالرواية وهو قتل من يتعمد الكذب على رسول الله كما قتل النبي الذي كذب عليه في حياته، وهو حديث جيد لما فيه من تغيير سنته، وقد قرر أبو العباس هذا مع نظائر له في " الصارم المسلول " كقتل الذي يتعرض لحرمه أو يسبه ونحو ذلك وكما أمر النبي بقتل المفرق بين المسلمين لما فيه من تفريق الجماعة، ومن هذا الباب الجاسوس المسلم الذي يخبر بعورات المسلمين ومنه الذي يكذب بلسانه أو بخطه أو يأمر بذلك حتى يقتل به أعيان الأمة علماءها وأمراءها فتحصل أنواع من الفساد كثيرة فهذا متى لم يندفع فساده إلا بقتله فلا ريب في قتله وإن جاز أن يندفع وجاز أن لا يندفع قتل أيضا وعلى هذا جاء قوله تعالى {: من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض } وقوله: { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا } وأما إن اندفع الفساد الأكبر بقتله لكن قد بقي فساد دون ذلك فهو محل نظر، قال أبو العباس: وأفتيت أميرا مقدما على عسكر كبير في الحربية إذ نهبوا أموال المسلمين ولم ينزجروا إلا بالقتل أن يقتل من يكفون بقتله ولو أنهم عشرة إذ هو من باب دفع الصائل قال وأمر أميرا خرج لتسكين الفتنة الثائرة بين قيس يمن وقد قتل بينهم ألفان أن يقتل من يحصل بقتله كف الفتنة ولو أنهم مائة، قال: وأفتيت ولاة الأمور في شهر رمضان سنة أربع بقتل من أمسك في سوق المسلمين وهو سكران وقد شرب الخمر مع بعض أهل الذمة وهو مجتاز بشقة لحم يذهب بها إلى ندمائه وكنت أفتيتهم قبل هذا بأنه يعاقب عقوبتين: عقوبة على الشرب وعقوبة على الفطر فقالوا ما مقدار التعزير فقلت هذا يختلف باختلاف الذنب وحال المذنب وحال الناس، وتوقفت عن القتل فكبر هذا على الأمراء والناس حتى خفت أنه إن لم يقتل ينحل نظام الإسلام على انتهاك المحارم في نهار رمضان فأفتيت بقتله فقتل ثم ظهر فيما بعد أنه كان يهوديا وأنه أظهر الإسلام، والمطلوب له ثلاثة أحوال: أحدها: براءته في الظاهر فهل يحضره الحاكم على روايتين، وذكر أبو العباس في موضع آخر أن المدعي حيث ظهر كذبه في دعواه بما يؤذي به المدعى عليه عزر لكذبه ولأذاه وأن طريقة القاضي رد هذه الدعوى على الروايتين بخلاف ما إذا كانت ممكنة، ونص أحمد في رواية عبد الله فيما إذا علم بالعرف المطرد أنه لا حقيقة للدعوى لا يعذبه وفيما لم يعرف واحد من الأمرين يعذبه، كما في رواية الأثرم وهذا التفريق حسن، والحال الثاني: احتمال الأمرين وأنه يحضره بلا خلاف، والحال الثالث: تهمته وهو قياس سبب يوهم أن الحق عنده فإن الاتهام افتعال من الوهم وحبسه هنا بمنزلة حبسه بعد إقامة البينة وقبل التعزير أو بمنزلة حبسه بعد شهادة أحد الشاهدين فأما امتحانه بالضرب كما يجوز ضربه لامتناعه من أداء الحق الواجب دينا أو عينا ففي المسألة حديث النعمان بن بشير في سنن أبي داود لما قال: { إن شئتم ضربته، فإن ظهر الحق عنده وإلا ضربتكم }، وقال: هذا قضاء الله ورسوله، وهذا يشبه تحليف المدعي إذا كان معه لون فإن اقتران اللون بالدعوى جعل جانبه مرجحا فلا يستبعد أن يكون اقترانه بالتهمة يبيح مثل ذلك والمقصود أنه إذا استحق التعزير وكان متهما بما يوجب حقا واحدا مثل أن يثبت عليه هتك الحرز ودخوله ولم يقر بأخذ المال وإخراجه ويثبت عليه الحراب خروجه بالسلاح وشهره له ولم يثبت عليه القتل والأخذ فهذا يعزر لما فعله من المعاصي وهل يجوز أن يفعل ذلك أيضا امتحانا لا غير فيجمع بين المصلحتين ؟، هذا قوي في حقوق الآدميين، فأما في حدود الله تعالى عند الحاجة إلى إقامتها فيحتمل ويقوي ذلك أن يعاقب الإمام من استحق العقوبة بقتل وتوهم العامة أنه عاقبه على بعض الذنوب التي يريد الحذر عنها وهذا شبه أنه إذا أراد غزوا ورى بغيرها والذي لا ريب فيه أن الحاكم إذا علم كتمانه الحق عاقبه حتى يقر به كما يعاقب كاتم المال الواجب أداؤها فأما إذا احتمل أن يكون كاتما فهذا كالمتهم سواء، وخبر من قال له جني بأن فلانا سرق كذا كخبر إنسي مجهول فيفيد تهمة، وإذا طلب المتهم بحق فمن عرف مكانه دل عليه .

فأما طلاق الهازل فيقع عند العامة، وكذلك نكاحه صحيح كما هو في متن الحديث المرفوع وهذا هو المحفوظ عن الصحابة والتابعين وهو قول الجمهور، وحكاه أبو حفص العكبري عن أحمد بن حنبل نفسه وهو قول أصحابه، وقول طائفة من أصحاب الشافعي، وذكر بعضهم أن نص الشافعي أن نكاح الهازل لا يصح بخلاف طلاقه، ومذهب مالك الذي رواه ابن القاسم وعليه العمل عند أصحابه أن هزل النكاح والطلاق لازم ; فلو خطب رجل امرأة ووليها حاضر وكانت فوضت ذلك إليه، فقال: قد فعلت، أو كانت بكرا وخطبت إلى أبيها، فقال: قد أنكحت، فقال: لا أرضى لزمه النكاح بخلاف البيع، وروي عن علي بن زياد في السليمانية، عن مالك أنه قال: نكاح الهازل لا يجوز، قال سليمان: إذا علم الهزل، وإن لم يعلم فهو جائز، وقال بعض المالكية: فإن قام دليل الهزل لم يلزمه عتق ولا طلاق ولا نكاح، ولا شيء عليه من الصداق، وإن قام دليل ذلك في الباطن لزمه نصف الصداق ولم يمكن منها لإقراره على نفسه أن لا نكاح بينهما، وأما بيع الهازل ونحوه من التصرفات المالية المحضة، فإنه لا يصح عند القاضي أبي يعلى وأكثر أصحابه، وهذا قول الحنفية فيما أظن ، وهو قول المالكية، وهو قول أبي الخطاب في خلافه الصغير وقال في خلافه الكبير وهو الانتصار يصح بيعه كطلاقه، وكذلك خرج بعض أصحاب الشافعي هذه المسألة على وجهين، ومن قال بالصحة قاس سائر التصرفات على النكاح والطلاق والرجعة، والفقه فيه أن الهازل أتى بالقول غير ملتزم لحكمه، وترتب الأحكام على الأسباب للشارع لا للعاقد، فإذا أتى بالسبب لزمه حكمه شاء، أو أبى ; لأن ذلك لا يقف على اختياره، وذلك أن الهازل قاصد للقول مريد له مع علمه بمعناه وموجبه وقصد اللفظ المتضمن المعنى قصد لذلك المعنى لتلازمهما إلا أن يعارضه قصد آخر، كالمكره والمحلل، فإنهما قصدا شيئا آخر غير معنى القول، وموجبه، فكذلك جاء الشرع بإبطالهما، ألا ترى أن المكره قصد دفع العذاب عن نفسه، فلم يقصد المسبب ابتداء، والمحلل قصده إعادتها إلى المطلق، وذلك ينافي قصده لموجب السبب، والهازل قصد السبب ولم يقصد حكمه ولا ما ينافي حكمه، ولا ينتقض هذا بلغو اليمين فإنه في لغو اليمين لم يقصد اللفظ، وإنما جرى على لسانه من غير قصد لكثرة اعتياد اللسان لليمين، وأيضا فإن الهزل أمر باطن لا يعلم إلا من جهته، فلا يقبل قوله في إبطال حق العاقد الآخر، ومن فرق بين النكاح وبابه وبين البيع وبابه، قال: الحديث والآثار تدل على أن من العقود ما يكون جده وهزله سواء، ومنها ما لا يكون كذلك، وإلا لقيل: إن العقود كلها والكلام كله جده وهزله سواء، وفرق من جهة المعنى بأن النكاح والطلاق والعتق والرجعة ونحو ذلك فيها حق الله سبحانه وهذا في العتق ظاهر وكذلك في الطلاق فإنه يوجب تحريم البضع في الجملة على وجه لا يمكن استباحته، ولهذا تجب إقامة الشهادة فيه، وإن لم تطلبها الزوجة، وكذلك في النكاح فإنه يفيد حل ما كان حراما على وجه لو أراد العبد حله بغير ذلك الطريق لم يمكن ولو رضي الزوجان ببذل البضع لغير الزوج لم يجز ويفيد حرمة ما كان حلالا وهو التحريم الثابت بالمصاهرة فالتحريم حق لله سبحانه ولهذا لم يستبح إلا بالمهر، وإذا كان كذلك لم يكن للعبد مع تعاطي السبب الموجب لهذا الحكم أن يقصد عدم الحكم، كما ليس له ذلك في كلمات الكفر قال سبحانه: { أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } لأن الكلام المتضمن لمعنى فيه حق لله سبحانه لا يمكن قبوله مع دفع ذلك الحق، فإن العبد ليس له أن يهزل مع ربه ولا يستهزئ بآياته، ولا يتلاعب بحدوده ولعل حديث أبي موسى عن النبي : { ما بال أقوام يلعبون بحدود الله ويستهزئون بآياته } في الهازلين بمعنى أنهم يقولونها لعبا غير ملتزمين لحكمها، وحكمها لازم لهم، بخلاف البيع ونحوه، فإنه تصرف في المال الذي هو محض حق الآدمي، ولهذا يملك بذله بعوض وبغير عوض، والإنسان قد يلعب مع الإنسان ويتبسط معه، فإذا تكلم على هذا الوجه لم يلزمه حكم الجاد ; لأن المزاح معه جائز، وحاصل الأمرين اللعب والهزل والمزاح في حقوق الله غير جائز فيكون جد القول في حقوقه وهزله سواء بخلاف جانب العباد، ألا ترى أن النبي قال لأعرابي يمازحه: { من يشتري مني العبد ؟ فقال: تجدني رخيصا، فقال: بل أنت عبد الله غال } وقصد النبي أنه عبد الله والصيغة صيغة استفهام، فلا يضر، لأنه يمزح ولا يقول إلا حقا، ولو أن أحدا قال على سبيل المزاح: من يتزوج امرأتي، ونحو ذلك لكان من أقبح الكلام، بل قد عاب الله من جعل امرأته كأمه، وكان عمر رضي الله عنه يضرب من يدعو امرأته أخته، وجاء ذلك في حديث مرفوع، وإنما جاز ذلك لإبراهيم عند الحاجة لا في المزاح، فإذا كان المزاح في البيع في غير محله جائزا، وفي النكاح ومثله لا يجوز فظهر الفرق، ومما يوضح ذلك: أن عقد النكاح يشبه العبادات في نفسه بل هو مقدم على النوافل ألا ترى أنه يستحب عقده في المساجد - والبيع قد نهي عنه في المسجد - ولهذا اشترط من اشترط له العربية من الفقهاء إلحاقا له بالأذكار المشروعة مثل الأذان والتكبير في الصلاة والتلبية والتسمية على الذبيحة، ونحو ذلك، ومثل هذا لا يجوز الهزل فيه، فإذا تكلم الرجل فيه رتب الشارع على كلامه وحكمه، وإن لم يقصد هو الحكم بحكم ولاية الشارع على العبد، فالمكلف قصد القول والشارع قصد الحكم له فصار الجميع مقصودا، وفي الجملة فهذا لا ينقض ما ذكرناه من أن القصد في العقود معتبر ; لأنا إنما قصدنا بذلك أن الشارع لا يصحح بعض الأمور إلا مع العقد، وبعض الأمور يصححها إلى أن يقترن بها قصد يخالف موجبها، وهذا صحيح في الجملة كما قد تبين، وبهذا يظهر أن نكاح المحلل إما بطل ; لأن الناكح قصد ما يناقض النكاح، لأنه قصد أن يكون نكاحه لها وسيلة إلى ردها إلى الأول، والشيء إذا فعل لغيره كان المقصود بالحقيقة هو ذلك الغير لا إياه، فيكون المقصود بنكاحها أن تكون منكوحة للغير لا أن تكون منكوحة له، وهذا القدر ينافي قصد أن تكون منكوحة له، إذ الجمع بينهما متناف، وهو لم يقصد أن تكون منكوحة له بحال حتى يقال: قصد أن تكون منكوحة له في وقت ولغيره في وقت آخر، إذ لو كان كذلك يشبه قصد المتعة من غير شرط، ولهذا لو فعله فقد قيل هو كقصد التحليل وهو المشهور عندنا كما تقدم، وقيل ليس كذلك، وإذا لم يكن كذلك لم يصح إلحاقه بمن لم يقصد ما ينافي النكاح في الحال، ولا في المآل بوجه، مع كونه قد أتى بالقول المتضمن في الشرع لقصد النكاح، وسيأتي تحرير الكلام في هذا الموضع إن شاء الله تعالى، وأما التلجئة: فالذي، عليه أصحابنا أنهما إذا اتفقا على أن يتبايعا شيئا بثمن ذكراه على أن ذلك تلجئة لا حقيقة معها، ثم تعاقدا البيع قبل أن يبطلا ما تراضيا عليه، فالبيع تلجئة وهو باطل، وإن لم يقولا في العقد قد تبايعناه تلجئة، قال القاضي: وهذا قياس قول أحمد ; لأنه قال فيمن تزوج امرأة، واعتقد أنه يحلها للأول لم يصح هذا النكاح .

وكذلك إذا باع عنبه ممن يعلم أنه يعصره خمرا، وقال: وقد قال أحمد في رواية ابن منصور - إذا أقر لامرأة بدين في مرضه، ثم تزوجها ومات وهي وارثة فهذه قد أقر لها وليست بزوجة يجوز ذلك إلا أن يكون أراد تلجئة فيرد، ونحو هذا نقل إسحاق بن إبراهيم المروزي، وهذا قول أبي يوسف ومحمد، وهو قياس قول مالك، وقال أبو حنيفة والشافعي لا يكون تلجئة حتى يقولا في العقد قد تبايعنا هذا العقد تلجئة، ومأخذ من أبطله أنهما لم يقصدا العقد حقيقة والقصد معتبر في صحته وأنهما يمكنهما أن يجعلاه هزلا بعد وقوعه فكذلك إذا اتفقا عليه قبل وقوعه، ومأخذ من يصححه أن هذا شرط متقدم على العقد والمؤثر في العقد إنما هو الشرط المقارن، والأولون منهم من يمنع المقدمة الأولى، ويقول لا فرق بين الشرط المقارن والمتقدم، ومنهم من يقول إنما ذاك في الشرط الزائد على العقد بخلاف الرافع له، فإن التشارط هنا يجعل العقد غير مقصود وهناك هو مقصود، وقد أطلق عن شرط مقارن، فأما نكاح التلجئة فذكر القاضي وغيره أنه صحيح، كنكاح الهازل، لأن أكثر ما فيه أنه غير قاصد للعقد بل هازل له، ونكاح الهازل يصح .

ويؤيد هذا أن المشهور عندنا أنه لو شرط في العقد رفع موجبه، مثل: أن يشرط أن لا يطأها أو أنها لا تحل له، أو أنه لا ينفق عليها ونحو ذلك يصح العقد دون الشرط فالإنفاق على التلجئة حقيقته أنهما اتفقا على أن يعقدا عقدا لا يقتضي موجبه وهذا لا يبطله بخلاف المحلل فإنه قصد رفعه بعد وقوعه وهذا أمر ممكن فصار قصده مؤثرا في رفع العقد وهذا فرق ثان وهو في الحقيقة تحقيق للفرق الأول بين نكاح المحلل والهازل، فإن الهازل قصد قطع موجب السبب عن السبب وهذا غير ممكن فإن ذلك قصد لإبطال حكم الشارع فيصح النكاح ولا يقدح هذا القصد في مقصود النكاح إذا لم يترتب عليه حكم، والمحلل قصد رفع الحكم بعد وقوعه وهذا ممكن فيكون قصدا مؤثرا فيقدح في مقصود النكاح فيبطل النكاح ; لأنه قصد فيه على وجه ممكن، ألا ترى أن الهازل يلزمه النكاح فإن أحب قطعه احتاج إلى قصد ثان، والمحلل من أول الأمر قد عزم على رفعه، ويوضح هذا أنهما لو شرطا في العقد رفع العقد وهو نكاح المحلل، أو المتعة كان باطلا، ولو شرطا فيه رفع حكمه، مثل عدم الحيل ونحوه لكان يصححه من لم يصحح الأول ومن قال هذا فينبغي أن يقول: لو قال زوجتك هازلا فقال قبلت أن يصح النكاح كما لو قال طلقت هازلا ويتخرج في نكاح التلجئة أنه باطل ; لأن الاتفاق الموجود قبل العقد بمنزلة المشروط في العقد في أظهر الطريقين لأصحابنا ولو اشترطا في العقد أنه نكاح تلجئة لا حقيقة لكان نكاحا باطلا، وإن قيل: إن فيه خلافا فإن أسوأ الأحوال أن يكون كما لو شرطا أنها لا تحل له وهذا الشرط مفسد للعقد على الخلاف المشهور وهذا بخلاف الهزل فإنه قصد محض لم يتشارطا عليه، وإنما قصده أحدهما وليس للرجل أن يهزل فيما يخاطب به غيره والمسألة محتملة .

الوجه الثاني عشر، أن المقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرفات والعادات، كما هي معتبرة في التقربات والعبادات، فيجعل الشيء حلالا، أو حراما، أو صحيحا، أو فاسدا أو صحيحا من وجه، فاسدا من وجه، كما أن القصد في العبادة يجعلها واجبة، أو مستحبة أو محرمة، أو صحيحة، أو فاسدة، ودلائل هذه القاعدة كثيرة جدا، منها قوله سبحانه: { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا }، وقوله سبحانه: { ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا } فإن ذلك نص في أن الرجعة إنما ثبتت لمن قصد الصلاح دون الضرار، ومنها قوله سبحانه: { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا } - إلى قوله: - { فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به } - إلى قوله - { فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله } فإنه دليل على أن الخلع المأذون فيه إذا خيف أن لا يقيم الزوجان حدود الله، وأن النكاح الثاني إنما يباح إذا ظنا أن يقيما حدود الله، ومنها قوله سبحانه: { من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار }، فإن الله سبحانه إنما قدم على الميراث وصية من لم يضار الورثة بها، فإذا وصى ضرارا كان ذلك حراما، وكان للورثة إبطاله، وحرم على الموصى له أخذه بدون رضاهم، ولذلك قال بعد ذلك: { تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله } إلى قوله: { ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا }، وإنما ذكر الضرار في هذه الآية دون التي قبلها ; لأن الأولى تضمنت ميراث العمودين، والثانية تضمنت ميراث الأطراف من الزوجين والإخوة والعادة أن الموصي قد يضار زوجته، وإخوته، ولا يكاد يضار ولده لكن الضرار نوعان حيف، وإثم، فإنه قد يقصد مضارتهم وهو الإثم وقد يضارهم من غير قصد، وهو الحيف فمتى أوصى بزيادة على الثلث فهو مضار قصد، أو لم يقصد، فترد هذه الوصية، وإن وصى بدونه ولم يعلم أنه قصد الضرار فيمضيها، فإن علم الموصى له إنما أوصى له ضرارا لم يحل له الأخذ، ولو اعترف الموصي: إني إنما أوصيت ضرارا لم تجز إعانته على إمضاء هذه الوصية ووجب ردها في مقتضى هذه الآية، ومن ذلك أن جذاذ النخل عمل مباح في أي وقت شاء صاحبه، ولما قصد أصحابه به في الليل حرمان الفقراء عاقبهم الله بإهلاكه، وقال: { ولعذاب الآخرة أكبر } ثم جاءت السنة، عن النبي عاقبهم بكراهة الجذاذ في الليل لكونه مظنة لهذا الفساد وذريعة إليه ونص عليه العلماء أحمد وغيره، ومن ذلك ما روى وكيع بن الجراح، عن العزيز بن عمر بن عبد العزيز، عن أبي طعمة مولاهم وعبد الرحمن بن عبد الله الغافقي أنهما سمعا ابن عمر يقول: قال رسول الله : { لعنت الخمر على عشرة وجوه: لعنت الخمر لعينها، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وآكل ثمنها } رواه الإمام أحمد، وابن ماجه، وأبو داود، ولفظه: { لعن الله الخمر } - ولم يذكر " وآكل ثمنها "، ولم يقل عشرة، وقال بدل أبي طعمة، أو علقمة، والصواب أبو طعمة، وأبو طعمة هذا قال فيه محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي: ثقة، ولم نعلم أحدا طعن فيه، وعبد العزيز ووكيع ثقتان نبيلان، فثبت أنه حديث جيد، وقد رواه الجوزجاني وغيره من حديث عبد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه، ومن حديث ثابت بن يزيد عفير عن ابن عمر، وهذه طرق يصدق بعضها بعضا، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي مثل هذا الحديث رواه الترمذي وابن ماجه، وعن ابن عباس نحوه رواه الإمام أحمد، وفي الباب ابن مسعود أيضا، فوجه الدلالة أن النبي لعن عاصر الخمر ومعتصرها، ومعلوم أنه إنما يعصر عنبا فيصير عصيرا، ثم بعد ذلك قد يخمر، وقد لا يخمر، ولكن لما قصد بالاعتصار تصييره خمرا استحق اللعنة، وذلك إنما يكون على فعل محرم، فثبت أن عصير العنب لمن يتخذه خمرا محرم، فتكون الإجارة عليه باطلة والأجرة محرمة، وإذا كانت الإجارة على منفعته التي يعين بها غيره في شيء قصد به المعصية إجارة محرمة باطلة، فبيع نفس العنب، أو العصير لمن يتخذه خمرا أقرب إلى التحريم والبطلان ; لأنه أقرب إلى الخمر من عمل العاصر، وقد يدخل ذلك في قوله: { وبائعها ومبتاعها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها } يدخل في هذا عين الخمر وعصيرها وعنبها، كما دخل العنب والعصير في العاصر والمعتصر، لأن من هؤلاء الملعونين من لا يتصرف إلا في عين الخمر، كالساقي، والشارب، ومنهم من لا يتصرف إلا في العنب والعصير كالعاصر والمعتصر، ومنهم من يتصرف فيهما جميعا، يبين ذلك ما روى الإمام أحمد بإسناده، عن مصعب بن سعيد، قال: قيل لسعد يعني ابن أبي وقاص أحد العشرة: تبيع عنبا لك لمن يتخذه عصيرا، فقال: بئس الشيخ

أنا إن بعت الخمر، وعن محمد بن سيرين قال: كانت لسعد بن مالك أرض فيها عنب فجاء قيمه عليها، فقال: إن عنبها قد أدرك فما نصنع به، قال: بيعوه، قال: إنه أكثر من ذلك، قال: اصنعوه زبيبا، قال: إنه لا يجيء زبيب، قال: فركب سعد وركب معه ناس حتى إذا أتوا الأرض التي فيها العنب أمر بعنبها فنزع من أصوله وحرثها، وعن عقار بن المغيرة بن شعبة قال: سألت ابن عمر: أتبيع عنبا لي عصيرا ؟ فقال: لا، ولكن زببه، ثم بعه، وفي رواية أن عبد الله بن عمر سئل عن بيع العصير، فقال: لا يصلح قال: فقلت: فشربه، قال: لا بأس به، وقال أحمد { نهى رسول الله عن بيع السلاح في الفتنة }، ثم في معنى هؤلاء كل بيع، أو إجارة، أو هبة، أو إعارة تعين على معصية إذا ظهر القصد، وإن جاز أن يزول قصد المعصية، مثل بيع السلاح للكفار، أو للبغاة، أو لقطاع الطريق، أو لأهل الفتنة، وبيع الرقيق لمن يعصي الله فيه إلى غير ذلك من المواضع، فإن ذلك قياس بطريق الأولى على عاصر الخمر، ومعلوم أن هذا إنما استحق اللعنة وصارت إجارته وبيعه باطلا إذا ظهر له أن المشتري، أو المستأجر يريد التوسل بماله ونفعه إلى الحرام فيدخل في قوله - سبحانه وتعالى -: { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان }، ومن لم يراع المقاصد في العقود يلزمه أن لا يلعن العاصر، وأن يجوز له أن يعصر العنب لكل أحد، وإن ظهر له أن قصده التخمير لجواز تبدل القصد، ولعدم تأثير القصد عنده في العقود، وقد صرحوا بذلك، وهذا مخالف بنيته لسنة رسول الله ، ويؤيد هذا ما رواه الإمام أبو عبد الله بن بطة بإسناده، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال: { قال رسول الله : من حبس العنب أيام القطاف حتى يبيعه من يهودي، أو نصراني، أو ممن يتخذه خمرا فقد تقحم النار على بصيرة }، ومن ذلك ما روي عن عمرو بن أبي عمرو، عن المطلب بن عبد الله بن حنطب، عن جابر بن عبد الله، عن النبي أنه قال: { صيد البر لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوه، أو يصاد لكم } رواه الخمسة إلا ابن ماجه، وقال الشافعي رضي الله عنه هذا أحسن حديث في هذا الباب وأقيس، وهو كما قال الشافعي، فإنه قد صح عن النبي حديث الصعب بن جثامة، أنه أهدى له لحم حمار وحشي فرده وقال: { إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم }، وكذلك صح هذا المعنى من حديث زيد بن أرقم، وصح عنه حديث أبي قتادة، لما صاد لحم الحمار الوحشي، فأذن النبي لأصحابه المحرمين في الأكل منه، وكذلك صح هذا المعنى من حديث طلحة وغيره ولا محمل لهذه الأحاديث المختلفة إلا أن يكون أباحه لمحرم لم يصد له، ورده حيث ظن أنه قد صيد له، ولهذا ذهب طائفة من السلف إلى تحريم لحم الصيد على المحرم مطلقا، وذهب آخرون منهم أبو حنيفة إلى إباحته للمحرم مطلقا، وكان هذا القول أقيس عند من لم يعتبر المقاصد ; لأن الله سبحانه قال: { أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما }، فحرم على المحرم صيد البر دون طعامه، وصيده ما صيد منه حيا وطعامه ما كان قد مات فظهر أنه لم يحرم أكل لحمه لا سيما، وقد قال: { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا }، وإنما أراد بالصيد نفس الحيوان الحي، فعلم أنه هو المحرم ولو قصد تحريمه مطلقا لقال: لحم الصيد، كما قال: لحم الخنزير، فلما بينت سنة رسول الله معنى كتاب الله، ودلت على أن الصيد إذا صاده الحلال للحرام وذبحه لأجله، كان حراما على المحرم، ولو أنه اصطاده اصطيادا مطلقا، وذبحه لكان حلالا له، وللمحرم مع أن الاصطياد والزكاة عمل حسي أثرت النية فيه بالتحليل والتحريم، علم بذلك أن القصد مؤثر في تحريم العين التي تباح بدون القصد، وإذا كان هذا في الأفعال الحسية ففي الأقوال والعقود أولى، يوضح ذلك أن المحرم إذا صاد الصيد، أو أعان عليه بدلالته، أو إعارة آلة، أو نحو ذلك صدر منه فعل ظهر به تحريم الصيد عليه، لكونه استحل بفعل محرم، فصار كذكاته مع القدرة عليه في غير الحلق، أما إذا لم يعلم ولم يشعر، وإنما الحلال قصد أن يصيده ليضيفه به، أو ليهبه له أو ليبيعه إياه فإن الله سبحانه حرمه عليه بنية صدرت من غيره لم يشعر بها، لئلا يكون للمحرم سبب في قتل الصيد بوجه من الوجوه، وليتم حرمة الصيد وصيانته من جهة المحرم بكل طريق، فإذا ذبح الصيد بغير سبب منه ظاهرا ولا باطنا جاز له أن يأكل لحمه ضمنا وتبعا لا أصلا وقصدا، فإذا كان هذا في الصيد فمعلوم أن من حرم الله سبحانه عليه امرأته بعد الطلاق وأباحها له إذا تزوجت بغيره، فهو بمنزلة من حرم الله سبحانه عليه الصيد وأحله له إذا ذبحه غيره، فإذا كان ذلك الغير إنما قصد بالنكاح أن تعود إلى الأول، فهو كما إذا قصد ذلك الغير بالذبح أن يحل للمحرم، فإن المناكح والذبائح من باب واحد كل منهما على الحظر حتى يفعل السبب المبيح على الوجه المشروع، ويتأيد هذا من وجه آخر وهو أن الذبح لا يحلل البهيمة حتى يقصد به أكلها فلو قصد به جعلها غرضا ونحو ذلك لم يحل فكذلك النكاح والبيع وغيرهما إن لم يقصد به الملك المقصود بهذه العقود لم يفد حكمه إذا قصد الإحلال للغير، أو إجازة قرض بمنفعة، أو غير ذلك، ومن ذلك ما روي، عن أبي هريرة، عن النبي أنه قال: { من تزوج امرأة بصداق ينوي أن لا يؤديه إليها فهو زان ومن أدان دينا ينوي أن لا يقضيه فهو سارق }، رواه أبو حفص العكبري، بإسناده، فجعل النبي المشتري والمستنكح إذا قصدا أن لا يؤديا العوض بمنزلة من استحل الفرج والمال بغير عوض، فيكون كالزاني والسارق في الإثم، ويؤيد هذا ما خرجه البخاري في صحيحه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : { من أخذ أموال الناس يريد أداءها أداها الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله }، فهذه النصوص كلها تدل على أن المقاصد تفيد أحكام التصرفات من العقود وغيرها، والأحكام تقتضي ذلك أيضا، فإن الرجل إذا اشترى، أو استأجر، أو اقترض ونوى أن ذلك لموكله، أو لموليه كان له، وإن لم يتكلم به في العقد، وإن لم ينوه له وقع الملك للعاقد، وكذلك لو تملك المباحات من الصيد والحشيش وغير ذلك، ونوى أنه لموكله وقع الملك له عند أكثر الفقهاء، والدليل عليه حديث سعد لما اشترك هو وابن مسعود وعمار في غنيمة بدر، نعم لا بد في النكاح من تسمية الموكل، لأنه معقود عليه بمنزلة السلعة في البيع فافتقر العقد إلى تعيينه لذلك، لا لأجل كونه معقودا له، وإذا كان القول والفعل الواحد يوجب الملك لمالكين مختلفين عند تغير النية ثبت أن للنية تأثيرا في التصرفات، ومن ذلك أنه لو قضى عن غيره دينا، أو أنفق عليه نفقة واجبة ونحو ذلك ينوي التبرع والهبة لم يملك الرجوع بالبذل، وإن لم ينو فله الرجوع إن كان قد علم بإذنه وفاقا، وبغير، إذنه على خلاف فيه، فصورة الفعل واحدة، وإنما اختلف، هل هو من باب المعاوضات، أو من باب أكثر التبرعات بالنية ؟ ومن ذلك أن الله سبحانه حرم أن يدفع الرجل إلى غيره مالا ربويا بمثله على وجه البيع إلا أن يتقابضا، وجوز الدفع على وجه القرض، وقد اشتركا في أن هذا يقبض دراهم، ثم يعطي مثلها بعد العقد، وإنما فرق بينهما للمقاصد، فإن مقصود القرض إرفاق المقترض ونفعه ليس مقصوده المعاوضة والربح، ولهذا شبه بالعارية حتى سماه رسول الله منيحة ورق، فكأنه أعاره الدراهم، ثم استرجعها منه لكن لم يمكن استرجاع العين فاسترجع المثل، فهو بمنزلة من تبرع لغيره بمنفعة حاله، ثم استعاد العين، وكذلك لو باعه درهما بدرهمين كان ربا محرما، ولو باعه درهما بدرهم ووهبه درهما هبة مطلقة لا تعلق لها بالبيع ظاهرا ولا باطنا كان ذلك جائزا، فلولا اعتبار المقاصد والنيات لأمكن كل مرب إذا أراد أن يبيع ألفا بألف وخمسمائة لاختلاف النقد أن يقول: بعتك ألفا بألف، ووهبتك خمسمائة لكن باعتبار المقاصد، فعلم أن هذه الهبة إنما كانت لأجل اشترائه منه تلك الألف فتصير داخلة في المعاوضة، وذلك أن الواهب لا يهب إلا للأجر فتكون صدقة، أو لكرامة الموهوب له فتكون هدية، أو لمعنى آخر فيعتبر ذلك المعنى كما لو وهب للمقرض، أو وهب لعامل الزكاة شيئا ونحو ذلك كما سنذكره إن شاء الله تعالى في حديث ابن اللتبية، والمقرض المحض ليس له غرض أن يرجع إليه إلا مثل ماله جنسا ونوعا وقدرا بخلاف البائع، فإنه لا يبيع درهما بدرهم يساويه من كل جهة نسيئة، فإن العاقل لا غرض له في مثل هذا، وإنما يبيع أحدهما بالآخر لاختلاف الصفة، مثل أن يكون أحدهما أرفع سكة، أو مصوغا، أو أجود فضة إلى غير ذلك من الصفات، فإذا قابلت الصفة جنسها في البيع لم يكن لها قيمة - في باب الغصب والإتلاف والقرض - يعتبرها الشارع لأن العوض هناك ثبت شرعا لا شرطا فصار ما اعتبره الشارع في القرض والإتلاف لا يقصد في البيع وما يقصد في البيع أهدره الشارع، ثم الذي يميز بين هذا التصرف وهذا هو القصد والنية، فلولا مقاصد العباد ونياتهم لما اختلفت هذه الأحكام ثم الأسماء تتبع المقاصد، ولا يجوز لأحد أن يظن أن الأحكام اختلفت بمجرد اختلاف ألفاظ لم تختلف معانيها ومقاصدها، بل لما اختلفت المقاصد بهذه الأفعال اختلفت أسماؤها وأحكامها، وإنما المقاصد حقائق الأفعال وقوامها، وإنما الأعمال بالنيات، ومما يدل على عقود المكره وأقواله مثل: بيعه، وقرضه، ورهنه، ونكاحه، وطلاقه، ورجعته، ويمينه، ونذره، وشهادته، وحكمه، وإقراره، وردته، وغير ذلك من أقواله، فإن هذه الأقوال كلها منه ملغاة مهدرة وأكثر ذلك مجمع عليه، وقد دل على بعضه القرآن مثل قوله: { إلا من أكره } وقوله سبحانه: { إلا أن تتقوا منهم تقاة }، والحديث المأثور: { عفي لأمتي عن الخطإ والنسيان وما استكرهوا عليه }، وقوله : { لا طلاق ولا عتاق في غلاق } - أي إكراه، إلى ما في ذلك من آثار الصحابة، فنقول: معلوم أن المكره قد أتى باللفظ المقتضي للحكم، ولم يثبت حكم اللفظ ; لأنه لم يقصد الحكم، وإنما قصد دفع الأذى عن نفسه فصار عدم الحكم لعدم قصده، وإرادته بذلك اللفظ وكونه إنما قصد به شيئا آخر غير حكمه، فعلم أن نفس اللفظ ليس مقتضيا للحكم اقتضاء الفعل أثره، فإنه لو قتل، أو غصب، أو أتلف أو بخس البائع مكرها لم نقل إن ذلك القتل أو الغصب، أو الإتلاف، أو البخس فاسد بخلاف ما لو عقد، فكذلك المحتال لم يقصد الحكم المقصود بذلك اللفظ الذي احتال به، وإنما قصد معنى آخر مثل البيع الذي يتوسل به إلى الربا والتحليل الذي يتوسل به إلى رد المرأة إلى زوجها لكن المكره قصده دفع الظلم عن نفسه وهذا قصده التوسل إلى غرض رديء فالمكره والمحتال يشتركان في أنهما لم يقصدا بالسبب حكمه ولا باللفظ معناه، وإنما قصدا التوسل بذلك اللفظ وظاهر ذلك السبب إلى شيء آخر غير حكم السبب لكن أحدهما راهب - قصده دفع الضرر - ولهذا يحمد على ذلك والآخر راغب - قصده إبطال حق، أو إثبات باطل ولهذا يذم على ذلك، فالمكره يبطل حكم السبب فيما عليه وفيما له ; لأنه لم يقصد واحدا منهما، وأما المحتال فيبطل حكم السبب فيما احتال عليه، وأما فيما سوى ذلك فقد تختلف الحال فيه كما سننبه عليه إن شاء الله تعالى، ومن ظهر أنه محتال كمن ظهر أنه مكره ومن ادعى ذلك كمن ادعى ذلك، لكن المكره لا بد أن يظهر كراهة بخلاف المحتال، ومما يدخل في هذا الباب عقود الهزل، وعقود التلجئة، إلا أن في ذلك تفصيلا وخلافا يحتاج بعضه إلى أن يحتج له لا أن يحتج به، ويحتاج بعضه إلى أن يجاب عنه، فنقول: الهازل هو الذي يتكلم بالكلام من غير قصد لموجبه، وإرادة لحقيقة معناه بل على وجه اللعب، ونقيضه الجاد: وهو الذي يقصد حقيقة الكلام - كأنه مشتق من جد فلان إذا عظم واستغنى وصار ذا حظ، والهزل من هزل إذا ضعف وضؤل، كأن الكلام الذي له معنى بمنزلة الذي له قوام من مال، أو شرف والذي لا معنى له بمنزلة الخلق فما يقيمه ويمسكه - والتلجئة هو: أن يتواطأ اثنان على إظهار العقد، أو صفة فيه، أو الإقرار ونحو ذلك صورة من غير أن يكون له حقيقة، مثل الرجل الذي يريد ظالم أن يأخذ ماله فيواطئ بعض من يخاف على أن يبيعه إياه صورة ليندفع ذلك الظالم ولهذا سمي تلجئة - وهو في الأصل مصدر ألجأته إلى هذا الأمر تلجئة - ; لأن الرجل ألجئ إلى هذا الأمر، ثم صار كل عقد قصد به السمعة دون الحقيقة يسمى تلجئة وإن قصد به دفع حق، أو قصد به مجرد السمعة عند الناس، وأما الهازل فقد جاء في الحديث المشهور عن أبي هريرة قال قال رسول الله : { ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة }، رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن غريب، وعن الحسن قال: قال رسول الله : { من نكح لاعبا، أو طلق لاعبا، أو أعتق لاعبا فقد جاز }، وعن عمر بن الخطاب قال: أربع جائزات إذا تكلم بهن: الطلاق، والعتاق، والنكاح، والنذر، وعن علي: ثلاث لا لعب فيهن الطلاق والعتاق والنكاح، وعن أبي الدرداء قال: ثلاث اللعب فيهن كالجد الطلاق والنكاح والعتق، وعن عبد الله بن مسعود قال: النكاح جده ولعبه سواء، رواهن أبو حفص العكبري .

الوجه الثالث عشر أن عائشة رضي الله عنها، روت عن النبي أنه قال: { من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد } رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لمسلم: { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } وفي صحيح مسلم، عن جابر أن رسول الله كان يقول في خطبته: { أما بعد فأحسن الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة }، وفي لفظ كان يخطب الناس فيحمد الله ويثني عليه بما هو أهله، ثم يقول { من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة } رواه النسائي بإسناد صحيح وزاد: " { فكل بدعة في النار } وكان عمر رضي الله عنه يخطب بهذا الخطبة، وعن ابن مسعود رضي الله عنه موقوفا ومرفوعا أنه كان يقول: { إنما هما اثنتان الكلام والهدي فأحسن الكلام كلام الله وأحسن الهدي هدي محمد ألا، وإياكم ومحدثات الأمور فإن شر الأمور محدثاتها وإن كل محدثة بدعة } وفي لفظ: { غير أنكم ستحدثون ويحدث لكم فكل محدثة ضلالة وكل ضلالة في النار }، وهذا مشهور، عن ابن مسعود، وكان يخطب به كل خميس، كما كان النبي يخطب به في الجمع، وقد رواه ابن ماجه، وابن أبي عاصم بأسانيد جيدة إلى محمد بن جعفر بن أبي كثير، عن موسى بن عقبة، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود، { أن رسول الله قال: إياكم ومحدثات الأمور فإن شر الأمور محدثاتها وإن كل محدثة بدعة وإن كل بدعة ضلالة }، وهذا إسناد جيد لكن المشهور أنه موقوف على ابن مسعود - وعن العرباض بن سارية، وهو ممن نزل فيه: { ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه }، الآية: قال: صلى بنا رسول الله ذات يوم أقبل علينا، فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا، فقال: { أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن كان عبدا حبشيا فإنه من يعش منكم بعدي سيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة }، رواه الإمام أحمد وأبو داود، وابن ماجه ، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح في لفظ: { تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك - وفيه - عليكم بما عرفتم من سنتي }، فهذه الأحاديث وغيرها تبين أن رسول الله حذر الأمة الأمور المحدثة وبين أنها ضلالة وأن من أحدث في أمر الدين ما ليس منه فهو مردود وهذه الجملة لا تنحصر دلائلها وكثرة وصايا السلف بمضمونها وكذلك الأدلة على لزوم طريقة الصحابة والتابعين لهم ومجانبة ما أحدث بعدهم مما يخالف طريقهم من الكتاب والسنة، والآثار كثيرة جدا، وإذا كان كذلك فهذه الحيل من الأمور المحدثة ومن البدع الطارئة، أما الإفتاء بها وتعليمها للناس، وإنفاذها في الحكم واعتقاد جوازها فأول ما حدث في الإسلام في أواخر عصر صغار التابعين بعد المائة الأولى بسنين كثيرة، وليس فيها - ولله الحمد - حيلة واحدة تؤثر عن أصحاب رسول الله بل المستفيض عن الصحابة أنهم كانوا إذا سئلوا عن فعل شيء من ذلك أعظموه وزجروا عنه، وفي هذا الكتاب عن الصحابة في مسألتين العينة والتحليل وغيرهما ما بين قولهم في هذا الجنس، وأما فعلها من بعض الجهال، فقد كان يصدر القليل منه في العصر الأول، لكنه ينكره الفقهاء من الصحابة والتابعين على من يفعله كما كانوا ينكرون عليهم الكذب والربا وسائر المحرمات ويرونها داخلة في قوله : { من أحدث في ديننا ما ليس منه فهو رد } . وأما إذا اتفقا في السر من غير عقد على أن الثمن ألف وأظهرا في العقد ألفين فقال القاضي في التعليق القديم والشريف أبو جعفر وغيرهما الثمن ما أظهراه على قياس المشهور عنه في المهر أن العبرة بما أظهراه وهو الأكثر، وفرقوا بين التلجئة في الثمن والتلجئة في البيع بأن التلجئة في البيع تجعله في نفسه غير مقصود والقصد معتبر في صحته وهنا العقد مقصود وما تقدمه شرط مفسد متقدم على العقد فلم يؤثر فيه وهذا هو المشهور عن الشافعي بناء على أن العبرة في الجميع بما أظهراه، وفي المهر عنه خلاف مشهور، وقال القاضي في التعليق الجديد هو وأكثر أصحابه مثل أبي الخطاب وأبي الحسين وغيرهم: الثمن ما أسراه والزيادة سمعة ورياء بخلاف المهر إلحاقا للعوض في البيع بنفس البيع، وإلحاقا للمهر بالنكاح، وجعلا الزيادة فيه بمنزلة الزيادة بعد العقد وهي لاحقة، وقال أبو حنيفة عكس هذا بناء على أن تسمية العوض شرط في صحة البيع دون النكاح، وقال صاحباه: العبرة في الجميع بما أسراه، وإنما يتحرر الكلام في هذا بمسألة المهر، ولها في الأصل صورتان ; وكلام عامة الفقهاء فيها عام فيهما، أو مجمل، إحداهما: أن يعقدوه في العلانية بألفين وقد اتفقوا قبل ذلك أن المهر ألف وأن الزيادة سمعة من غير أن يعقدوه بالأقل، فالذي عليه القاضي وأصحابه من بعده من الأصحاب أن المهر هو المسمى في العقد ولا اعتبار بما اتفقوا عليه قبل ذلك، وإن قامت به البينة، أو تصادقوا عليه وسواء كانت العلانية من جنس السر، وهو أكثر منه أو كانت من غير جنسه، وهو ظاهر كلام كثير من المتقدمين، قالوا: وهذا ظاهر كلام أحمد في مواضع، قال في رواية ابن المنذر في الرجل يصدق صداقا في السر وفي العلانية شيئا آخر يؤاخذ بالعلانية، وقال في رواية أبي الحارث: إذا تزوجها في العلانية على شيء وأسر غير ذلك أوخذ بالعلانية، وإن كان قد أشهر في السر بغير ذلك، وقال في رواية الأثرم في رجل أصدق صداقا سرا وصداقا علانية يؤاخذ بالعلانية إذا كان قد أقر به قيل له فقد أشهد شهودا في السر بغيره قال: وإن ; أليس قد أقر بهذا أيضا عند شهود ؟ يؤاخذ بالعلانية ومعنى قوله - رضي الله عنه - أقر به أي رضي به والتزمه لقوله سبحانه: { أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري }، وهذا يعم التسمية في العقد والاعتراف بعده ويقال أقر بالجزية وأقر للسلطان بالطاعة وهذا كثير في كلامهم، وقال في رواية صالح في الرجل يعلن مهرا ويخفي آخر أوخذ بما يعلن ; لأنه بالعلانية قد أشهد على نفسه وينبغي لهم أن يفوا له بما كان أسره، وقال في رواية ابن منصور إذا تزوج امرأة في السر وأعلنوا مهرا آخر ينبغي لهم أن يفوا، وأما هو فيؤاخذ بالعلانية، قال القاضي وغيره: قد أطلق القول بمهر العلانية، وإنما قال ينبغي لهم أن يفوا بما أسر على طريق الاختيار لئلا يحصل منهم غرور له في ذلك وهذا القول هو قول الشعبي وأبي قلابة وابن أبي ليلى وابن شبرمة والأوزاعي، وهو قول الشافعي المشهور عنه، وقد نص في موضع على أنه يؤاخذ بمهر السر، فقيل في هذه المسألة قولان، وقيل: بل ذاك في الصورة الثانية كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وقال كثير من أهل العلم أو أكثرهم: إذا علم المشهود أن المهر الذي يظهره سمعة، وأن أصل المهر كذا وكذا ثم تزوج وأعلن الذي قال فالمهر هو السر والسمعة باطلة، وهذا قول الزهري، والحكم بن عتبة، ومالك والثوري، والليث، وأبي حنيفة وأصحابه، وإسحاق، وعن شريح والحسن كالقولين، وذكر القاضي في موضع عن أبي حنيفة أنه يبطل المهر ويجب مهر المثل وهو خلاف ما حكاه عنه أصحابه وغيرهم، ونقل عن أحمد ما يقتضي أن الاعتبار بالسر إذا ثبت أن العلانية تلجئة، فقال: إذا كان الرجل قد أظهر صداقا وأسر غير ذلك نظر في البينات والشهود وكان الظاهر أوكد إلا أن تقوم بينة تدفع العلانية، قال القاضي: وقد تأول أبو حفص العكبري هذا على أن بينة السر عدول وبينة العلانية، غير عدول حكم بالعدول قال القاضي وظاهر هذا أنه حكم بنكاح السر إذا لم تقم بينة عادلة بنكاح العلانية، وقال أبو حفص: إذا تكافأت البينات وقد شرطوا في السر أن الذي يظهر في العلانية للرياء والسمعة فينبغي لهم أن يفوا له بهذا الشرط ولا يطالبوه بالظاهر لقول النبي : { المؤمنون عند شروطهم } فإن القاضي، وظاهر هذا الكلام من أبي حفص أنه قد جعل للسر حكما قال والمذهب على ما ذكرناه، قلت: كلام أبي حفص الأول فيما إذا قامت البينة بأن النكاح عقد في السر بالمهر القليل ولم يثبت نكاح العلانية، وكلامه الثاني فيما إذا ثبت نكاح العلانية، ولكن تشارطوا إنما يظهرون الزيادة على ما اتفقوا عليه للرياء والسمعة، وهذا الذي ذكره أبو حفص أشبه بكلام الإمام أحمد وأصوله، فإن عامة كلامه في هذه المسألة إنما هو إذا اختلف الزوج والمرأة، ولم يثبت بينة ولا اعتراف أن مهر العلانية سمعة، بل شهدت البينة أنه تزوجها بالأكثر، وادعي عليه ذلك، فإنه يجب أن يؤاخذ بما أقر به إنشاء، أو إخبارا، وإذا أقام شهودا يشهدون أنهم تراضوا بدون ذلك حكم بالبينة للأولى ; لأن التراضي بالأقل في وقت لا يمنع التراضي بما زاد عليه في وقت آخر، ألا ترى أنه قال: " أوخذ بالعلانية ; لأنه بالعلانية قد أشهد على نفسه وينبغي لهم أن يفوا بما كان أسره "، فقوله: " لأنه أشهد على نفسه " دليل على أنه إنما يلزمه في الحكم فقط، وإلا فما يجب فيما بينه وبين الله لا يعلل بالإشهاد، وكذلك قوله: " ينبغي لهم أن يفوا له وأما هو فيؤاخذ بالعلانية " دليل على أنه يحكم عليه به وأن أولئك يجب عليهم الوفاء، وقوله " ينبغي " تستعمل في الواجب أكثر مما تستعمل في المستحب ويدل على ذلك أنه قد قال أيضا في امرأة زوجت في العلانية على ألف وفي السر على خمسمائة فاختلفوا في ذلك فإن كانت البينة في السر والعلانية سواء أخذنا بالعلانية ; لأنه أحوط وهو خرج: يؤاخذ بالأكثر وقيدت المسألة بأنهم اختلفوا وأن كليهما قامت به بينة عادلة، وإنما يظهر ذلك بالكلام في الصورة الثانية: وهو ما إذا تزوجها في السر بألف، ثم تزوجها في العلانية بألفين مع بقاء النكاح الأول، فهنا قال القاضي، - في المجرد والجامع: إن تصادقا على نكاح السر لزم نكاح السر بمهر السر ; لأن النكاح المتقدم قد صح ولزوم النكاح المتأخر عنه لا يتعلق به حكم، وحمل مطلق كلام أحمد والخرقي على مثل هذه الصورة، وهذا مذهب الشافعي، وقال الخرقي: إذا تزوجها على صداقين سر وعلانية أخذنا بالعلانية، وإن كان السر قد انعقد النكاح به، وهذا منصوص كلام الإمام أحمد في قوله: تزوجت في العلانية على ألف وفي السر على خمسمائة، وعموم كلامه المتقدم يشمل هذه الصورة والتي قبلها، وهذا هو الذي ذكره القاضي في خلافه وعليه أكثر الأصحاب، ثم طريقه وطريقة جماعة في ذلك أن يجعلوا ما أظهراه زيادة في المهر والزيادة فيه بعد لزومه لازمة، وعلى هذا فلو كان السر هو الأكثر، أوخذ به أيضا، وهو معنى قول أحمد أوخذ بالعلانية يؤاخذ بالأكثر، ولهذا القول طريقة ثانية: وهو أن نكاح السر إنما يصح إذا لم يكتموه على إحدى الروايتين بل أنصهما، فإذا تواصوا بكتمان النكاح الأول كانت العبرة إنما هي بالثاني فقد تحرر أن أصحابنا مختلفون، هل يؤاخذ بصداق العلانية ظاهرا وباطنا أو ظاهرا فقط فيما إذا كان السر تواطئا من غير عقد ؟ وإن كان السر عقدا، فهل هي كالتي قبلها أو يؤاخذ هنا بالسر في الباطن بلا تردد على وجهين: فمن قال: إنه يؤاخذ به ظاهرا فقط، وإنهم في الباطن لا ينبغي لهم أن يؤاخذوا إلا بما اتفقوا عليه لم يرد نقضا، وهذا قول قوي له شواهد كثيرة، ومن قال: إنه يؤاخذ به ظاهرا وباطنا بنى ذلك على أن المهر من توابع النكاح وصفاته فيكون ذكره سمعة كذكره هزلا والنكاح جده وهزله سواء فكذلك ذكر ما هو فيه، يحقق ذلك أن حل البضع مشروط بالشهادة على العقد والشهادة وقعت على ما أظهراه فيكون وجوب المشهود به شرطا في الحل، فهذا الذي ذكرناه من عقود الهزل والتلجئة قد يعارض بما يصح منها على قولنا: إن المقاصد معتبرة في العقود والتصرفات فإنها تصح مع عدم قصد الحكم، وهي في الحقيقة تحقيق ما مهدناه من اعتبار المقاصد، فنقول: الجواب عن ذلك من وجوه، أحدها: أن السنة وأقوال الصحابة فرقت بين قصد التحليل وبين نكاح الهازل، وقد ذكرنا هنا السنة والآثار الدالة على صحة نكاح الهازل، ثم السنة وأقوال الصحابة نصوص في أن قصد التحليل مانع من حلها للزوج الأول على ما سيأتي إن شاء الله تعالى، وممن نقل عنه الفرق عمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم مع السنة، ونكاح المحلل من أجود الحيل عند القائلين بها فإذا بطل فما سواه من الحيل أبطل، فعلم أن الهزل لا يقدح في اعتبار القصد لئلا تتناقض الأدلة الشرعية، الثاني: إنما ذكرنا أن القصد معتبر في، العقود ومؤثر فيها، ولم نقل إن عدم القصد مؤثر فيها، والهازل ونحوه لم يوجد منهم قصد يخالف موجب العقد، ولكن لم يوجد منهم القصد إلى موجب العقد، وفرق بين عدم قصد الحكم وبين وجود قصد ضده، وهذا ظاهر، فإنه لا بد في العقود وغيرها من قصد التكلم، وإرادته، فلو فرض أن الكلمة صدرت من نائم، أو ذاهل، أو قصد كلمة فجرى على لسانه بأخرى، أو سبق بها لسانه من غير قصد لها لم يترتب على مثل هذا حكم في نفس الأمر قط، وأما في الظاهر ففيه تفصيل ليس هذا موضعه، والكلام يكون بقدرة الله تعالى عن عمل اللسان وحركته، وإن كان نفس الحركة المقتضية تسمى كلاما أيضا، فإذا عمله لم يقصد موجبه ومقتضاه كان هازلا لاعبا، فإنه عمل عملا لم يقصد به شيئا من فوائده الشرعية ولم يقصد ما ينافي فوائده الشرعية، فهنا أمكن ترتب الفائدة على قوله من غير قصد ; لأنه أتى بالقول المقتضي فترتب عليه مقتضاه ترتبا شرعيا لوجود المقتضي السالم عن المعارض، وإذا قصد المنافي فقد عارض المقتضي ما يخرجه عن أن يكون مقتضيا، فكذلك لم يصح، وقد تقدم بسط هذا الوجه، الثالث: أن الهازل لو وصل قوله بلفظ الهزل مثل أن يقول: طلقتك هازلا، أو طلقتك غير قاصد لوقوع الطلاق، ونحو ذلك لم يمتنع وقوع الطلاق، وكذلك على قياسه لو قال: زوجتك هازلا، أو زوجتك غير قاصد لأن تملك المرأة، فأما لو قال زوجتك على أن تحلها بالطلاق بعد الدخول، أو على أن تطلقها إذا أحللتها لم يصح، فإذا ثبت الفرق بينهما لفظا فثبوته بالبينة مثله سواء بل أولى، وسر هذا الفرق مبني على ما قبله فإن الهازل مع عدم قصد مقتضى اللفظ والعدم لو أظهره لم يكن شرطا في العقد، والمحلل ونحوه معه قصد ينافي المقتضي وما ينافي المقتضي لو أظهره كان شرطا فالهازل عقد عقدا ناقصا فكمله الشارع، والمحلل زاد على العقد الشرعي ما أوجب عدمه، الوجه الرابع: أن نكاح الهازل ونحوه حجة لاعتبار القصد، وذلك أن الشارع منع أن تتخذ آيات الله هزوا، وأن يتكلم الرجل بآيات الله التي هي العقود إلا على وجه الجد الذي يقصد به موجباتها الشرعية، ولهذا ينهى عن الهزل بها، وعن التلجئة، كما ينهى عن التحليل، وقد دل على ذلك قوله سبحانه { ولا تتخذوا آيات الله هزوا } وقول النبي : { ما بال أقوام يلعبون بحدود الله ويستهزئون بآياته طلقتك راجعتك طلقتك راجعتك }، فعلم أن اللعب بها حرام، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه، ومعنى فساده عدم ترتب أثره الذي يريده المنهي، مثل نهيه عن البيع والنكاح المحرم، فإن فساده عدم حصول الملك، والهازل اللاعب بالكلام غرضه التفكه والتلهي والتمضمض بمثل هذا الكلام من غير لزوم حكمه له، فأفسد الشارع عليه هذا الغرض بأن ألزمه الحكم متى تكلم بها، فلم يترتب غرضه من التلهي بها واللعب والخوض، بل لزمه النكاح وثبت في حقه النكاح ومتى ثبت النكاح في حقه تبعته أحكامه، والمحتال كالمحلل مثل غرضه إعادة المرأة إلى الأول فيجب فساد هذا الغرض عليه بأن لا يحل عودها، وإنما لا يحل عودها إذا كان نكاحه فاسدا فيجب إفساد نكاحه، فتبين أن اعتبار الشارع للمقاصد هو الذي أوجب صحة نكاح الهازل وفساد نكاح المحلل، وإيضاح هذا: أن الله حرم أن تتخذ آياته هزوا بعد أن ذكر النكاح والخلع والطلاق، وفسر النبي أن من المحرمات أن يلعب بحدود الله ويستهزأ بآياته فيقال: طلقتك، راجعتك، خلعتك، راجعتك، ومعلوم أن الاستهزاء بالكلام الحق المعتبر أن يقال لا على هذا الوجه، إما أن يقصد به مقصود غير حقيقة ككلام المنافق، أو لا يقصد إلا مجرد ذكره على وجه اللعب، ككلام السفهاء، وكلام الوجهين حرام وهو كذب ولعب، فيجب أن يمنع من هذا الفساد، فيمنع الأول من حصول مقصوده المباين لمقصود الشارع، ويمنع الثاني من حصول مقصوده الذي هو اللعب، ثم إن كان منعه من مقصوده بإبطال العقد من جميع الوجوه، أو من بعضها، أو بصحة العقد شرع ذلك، والمحلل إنما يمنع المقصود الباطل بإبطال العقد مطلقا، وإلا فتصحيح النكاح مستلزم لحصول مقصوده، ولما لحظ بعض أهل الرأي هذا رأى أن يصحح النكاح ويمنع حصول الحل، كما يوقع الطلاق في المرض ويوجب الميراث، لكن هذا ضعيف هنا، لأنه كان ينبغي أن لا يلعن إلا المحلل له فقط، إذا كان نكاح المحلل صحيحا مفيدا للحل لنفسه، ولكان لا ينبغي أن يسمى تيسا مستعارا ; لأنه زوج من الأزواج، غير أن نكاحه لم يفد الحل المطلق كالنكاح قبل الدخول، ثم إن مادة الفساد إنما تنحسم بتحريم العقدين معا، والطلاق لا ينقسم إلى صحيح وفاسد، ولهذا إذا وقع مع التحريم وقع كطلاق البدعة بخلاف النكاح، فإنه إذا وقع مع التحريم كان فاسدا كالنكاح في العدة، فلما منع الشارع مقصود المحلل منع أيضا مقصود الهازل وهو اللعب بالعقود من غير اقتضاء لأحكامها فأوجب أحكامها معها، وهذا كلام متين إذا تأمله اللبيب تفقه في الدين وعلم أن من أمعن النظر وجد الشريعة متناسبة، وأن تصحيح نكاح الهازل ونحوه من أقوى الأدلة على بطلان الحيل، وكذلك نكاح التلجئة إذا قيل بصحته، فإن

التلجئة نوع من الحيل بإظهار صورة العقد لسمعة، ولا يلتزمون موجبها بإبطال هذه الحيل، بأن يلتزموا موجبه حتى لا يجترئ أحد أن يعقد العقد إلا على وجه لرغبة في مقصودها دون الاحتيال بها إلى غير مقاصدها، ومما يقارب هذا أن كلمتي الكفر والإيمان إذا قصد الإنسان بهما غير حقيقتهما صح كفره ولم يصح إيمانه، فإن المنافق قصد بالإيمان مصالح دنياه من غير حقيقة لمقصود الكلمة فلم يصح إيمانه، والرجل لو تكلم بكلمة الكفر لمصالح دنياه من غير حقيقة اعتقاد صح كفره باطنا وظاهرا ; وذلك لأن العبد مأمور بأن يتكلم بكلمة الإيمان معتقدا لحقيقتها، وأن لا يتكلم بكلمة الكفر أو الكذب جادا ولا هازلا، فإذا تكلم بالكفر أو الكذب جادا، أو هازلا كان كافرا، أو كاذبا حقيقة ; لأن الهزل بهذا الكلمات غير مباح، فيكون وصف الهزل مهدرا في نظر الشرع ; لأنه محرم فتبقى الكلمة موجبة لمقتضاها، ونظير هذا الذي ذكرناه أن قصد اللفظ بالعقود معتبر عند جميع الناس، بحيث لو جرى اللفظ في حال نوم، أو جنون، أو سبق اللسان بغير ما أراده القلب لم يترتب عليه حكم في نفس الأمر، ثم إن أكثرهم صححوا عقود السكران مع

عدم قصده اللفظ قالوا: لأنه لما كان محرما عليه أن يزيل عقله كان في حكم من بقي عقله، ومما يوضح هذا: أن كل واحد من الهازل والمخادع لما أخرجا العقد عن حقيقته، فلم يكن مقصودهما منه مقصود الشارع عوقبا بنقيض قصدهما، ومقصود الهازل نفي ثبوت الملك لنفسه فيثبت، ومقصود المحلل ثبوت الحل للمطلق، وثبوت الحل له ليكون وسيلة فلا يثبت شيء من ذلك، واعلم أن من الفقهاء من قال بعكس السنة في هاتين المسألتين فصحح نكاح المحلل دون نكاح الهازل، نظرا إلى أن الهازل لم يقصد موجب العقد، فصار كلامه لغوا والمحلل قصد موجبه ليتوصل به إلى غرض آخر، وهذا مخيل في بادئ الرأي، لكن يصد عن اعتباره مخالفته للسنة، وبعد إمعان النظر يتبين فساده نظرا كما تبين أثرا، فإن التكلم بالعقد مع عدم قصده محرم، فإذا لم يترتب عليه الحكم فقد أعين على التحريم المحرم، فيجب أن يترتب عليه إفساد لهذا الهزل المحرم وإبطال اللعب يجعل الهزل بآيات الله جدا، كما جعل مثل ذلك في الاستهزاء بالله وبآياته ورسوله، وقصد المحلل في الحقيقة ليس بقصد الشارع، فإنه إنما قصد الرد إلى الأول، وهذا لم يقصده الشارع، فقد قصد ما لم يقصده الشارع، ولم يقصد ما قصده، فيجب إبطال قصده بإبطال وسيلته، والله سبحانه أعلم، وإذا ثبت بما ذكرنا من الشواهد أن المقاصد معتبرة في التصرفات من العقود وغيرها، فإن هذا يجتث قاعدة الحيل ; لأن المحتال هو الذي لا يقصد بالتصرف مقصودها الذي جعل لأجله، بل يقصد به إما استحلال محرم، أو إسقاط واجب أو نحو ذلك، مثل المحلل الذي لا يقصد مقصود النكاح من الألفة والسكن التي بين الزوجين، وإنما يقصد نقيض النكاح وهو الطلاق لتعود إلى الأول، وكذلك المعين لا يقصد مقصود البيع من نقل الملك في المبيع إلى المشتري، وإنما يقصد أن يعطي ألفا حالة بألف ومائتين مؤجلة، وكذلك المخالع خلع اليمين لا يقصد مقصود الخلع من الفرقة والبينونة، وإنما يقصد حل يمينه بدون الحنث بفعل المحلوف عليه وليس هذا مقصود الخلع وهذا بين في جميع التصرفات، وهذا يوجب فساد الحيل من وجهين: أحدهما: أنه لم يقصد بتلك التصرفات موجباتها الشرعية، بل قصد خلافها ونقيضها، الثاني: أنه قصد بها إسقاط واجب واستحلال محرم دون سببه الشرعي، لكن من التصرف ما يمكن إبطاله كالعقود التي قد تواطأ المتعاقدان عليها ونحو ذلك، ومنه ما يمكن إبطاله بالنسبة إلى المحتال عليه دون غيره فيبطل الحكم الذي احتيل عليه، مثل أن يبيع النصاب فرارا من الزكاة، أو يطلق زوجته فرارا من الإرث، فإن البيع صحيح في حق المشتري، وكذلك الطلاق واقع لكن تجب الزكاة ويثبت الإرث إبطالا للتصرف في هذا الحكم، وإن صح في حكم آخر، كما أن صيد الحلال للمحرم وذبحه يجعل اللحم ذكيا في حق الحلال ميتا في حق المحرم، وكما أن بيع المعيب والمدلس إذا صدر ممن يعلم بذلك لمن لا يعلمه كان حراما في حق البائع حلالا في حق المشتري، وكذلك رشوة العامل لدفع الظلم ومن هذا إعطاء النبي لمن كان يسأله ما لا يستحقه فيعطيه العطية يخرج بها يتأبطها نارا تأليفا لقلبه ونظائره كثيرة، والله سبحانه أعلم، واعلم أنا إنما ذكرنا هنا اعتقاد الفعل الذي هو العزم والإرادة، فأما اعتقاد الحكم بأن يعتقد أن الفعل حلال أو حرام فتأثير هذا في الحكم في الجملة مجمع عليه، فإن من وطئ فرجا يعتقده حلالا له، وليس هو في الحقيقة حلالا، مثل أن يشتري جارية اشتراها، أو اتهبها، أو ورثها، ثم تبين أنها غصب ، أو حرة، أو يتزوجها تزوجا فاسدا لا يعلم فساده، إما بأن لا يعلم السبب المفسد، مثل أن تكون أخته من الرضاعة ولم يعلم، أو علم السبب ولم يعلم أنه مفسد لجهل كمن يتزوج المعتدة معتقدا أنه جائز، أو لتأويل، كمن يتزوج بلا ولي، أو وهو محرم، فإن حكم هذا الوطء حكم الحلال في درء الحد ولحوق النسب وحرية الولد ووجوب المهر وفي ثبوت المصاهرة والعدة بالاتفاق، وكذلك لو اعتقد أنها زوجته، أو سريته ولم تكن كذلك، وكذلك لهذا الاعتقاد تأثير في سقوط ضمان الدم والمال على المشهور الذي دل عليه اتفاق الصحابة فيما أتلفه أهل البغي على أهل العدل حال القتال، وكذلك له تأثير في ثبوت الملك وسقوط العزم فيما ملكه الكفار وأتلفوه، ثم أسلموا فإنهم لا يضمنون ما أتلفوه وفاقا ولا يسلبون ما ملكوه على المشهور الذي دلت عليه السنة في ديار المهاجرين وغيرها، وله تأثير في الأقوال فيما إذا حلف على شيء يعتقده كما حلف عليه فبان بخلافه فإنه لا كفارة عليه عند الجمهور، وهذا كثير في أبواب الفقه لكن هذا الاعتقاد ليس هو الذي قصدنا الكلام فيه هنا وإن كان يقوي ما ذكرناه في الجملة .

وهذا الذي ذكرناه من حدوث الفتوى بهذه الحيل، وكونها بدعة أمر لا يشك فيه أدنى من له علم بآثار السلف وأيام الإسلام وترتيب طبقات المفتين والحكام ويستبان ذلك بأشياء، منها: أن الكتب المصنفة في أحاديث رسول الله وفتاوى الصحابة والتابعين، وقضاياهم ليس فيها عن أحد منهم شيء من ذلك ولو كانوا يفتون بشيء من ذلك لنقل كما نقل غيره، والذين صنفوا في الحيل من المتأخرين حرصوا على أثر يقتدون به في ذلك، فلم يجدوا شيئا من ذلك إلا ما حكي عن بعضهم من التعريض واللحن، وقولهم إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب، والكلام أوسع من أن يكذب ظريف، وليس هذا من الحيل التي قلنا إنها محدثة ولا من جنسها، فإن المعاريض عند الحاجة والتأويل في الكلام، وفي الحلف للمظلوم بأن ينوي بكلامه ما يحتمله اللفظ، وهو خلاف الظاهر، كما فعل الخليل ، وكما فعل الصحابي الذي حلف أنه أخوه وعنى أخوه في الدين، وكما قال أبو بكر رضي الله عنه، عن النبي : " رجل يهديني السبيل "، وكما قال النبي للكافر الذي سأله ممن أنت ؟ فقال: { نحن من ماء } إلى غير ذلك أمر جائز، وليس هو من الأمر الذي نحن فيه بسبيل فإن أكثر ما في ذلك أنه كتم عن المخاطب ما أراد معرفته، أو فهمه خلاف ما في نفسه مع أنه صادق فيما عناه والمخاطب ظالم في تعرف ذلك الشيء بحيث يكون جهله به خيرا له من معرفته به، وهذا فعل خير ومعروف مع نفسه، ومع المخاطب وسيأتي إن شاء الله عقيب هذا الوجه والذي يلي هذا ذكر أقسام الحيل، وأن هذا الضرب المأثور عن السلف من المعاريض جائز، وأنه ليس مثل الحيل التي تكلمنا عليها التي مضمونها الاحتيال على محرم، إما بسبب لا يباح به قط، أو يباح به إذا قصد بذلك السبب مقصوده الأصلي وكانت له حقيقة، أو الاحتيال على مباح بسبب محرم أو الاحتيال على محرم بحرام، وما أشبه هذه الأصول، فهذه الحيل التي قلنا لم يكن في أصحاب رسول الله من يفتي بها، أو يعلمها بل كانوا ينهون عنها، وأما تعريف الطريق الذي ينال به الحلال، والاحتيال للتخلص من المأثم بطريق مشروع يقصد به ما شرع له، فهذا هو الذي كانوا يفتون به وهو من الدعاء إلى الخير، والدلالة عليه، كما قال النبي لبلال: { بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا }، وكما قال عبد الرحمن بن عوف لعمر بن الخطاب: " إن أوراقنا تزيف علينا أفنزيد عليها ونأخذ ما هو أجود منها قال: لا، ولكن ائت النقيع فاشتري بها سلعة، ثم بعها بما شئت، وكما قال علي رضي الله عنه: " إذا كان لأحدكم دراهم لا تنفق فليبتع بها ذهبا وليبتع به ما شاء " رواهما سعيد، فهذا يبيع بيعا بتاتا مقصودا، ويستوفي الثمن، ثم يشتري به ما أحب من غير ذلك المشتري، فأما إن كان من ذلك المشتري فإنهم كرهوه حيث يكون في مظنة أن يبتاع البيع الأول، ورخص فيه من لم يعتبر ذلك، قال محمد بن سيرين: كان يكره للرجل أن يبتاع من الرجل الدراهم بالدنانير، ثم يشتري منه بالدراهم دنانير، والبيع طريق مشروع لحصول الملك ظاهرا وباطنا بحيث لا يبقى للبائع فيه علاقة فإذا سلك وقصد به ذلك، فهذا جائز، وليس مما نحن فيه فإنه يقصد به المقصود الشرعي، وليس هذا موضع تفصيل ذلك فإنه سيأتي إن شاء الله إيضاح ذلك .

فإن قيل: فإذا ملك الرجل غيره شيئا ليقفه عليه، ثم على جهة متصلة من بعده فما حكم هذا في نفس الأمر، وكيف حكم على من علم أن هذا هو حقيقة هذا الوقف ؟ قيل: هذا التمليك والشرط يضمن شيئين، أحدهما: لا حقيقة له وهو انتقال الملك إلى المالك، والثاني: الإذن له في الوقف على هذا الوجه وموافقته عليه، وهذا في المعنى توكيل له في الوقف: فحكم هذا الملك قبل التمليك وبعده سواء لم يملكه المملك، ولو مات قبل وقفه لم يحل لورثته أخذه، ولو أخذه ولم يقفه على صاحبه ولم يرده إليه كان ظالما عاصيا، ولو تصرف فيه صاحبه بعد هذا التمليك لكان تصرفه فيه نافذا لنفوذه قبل التمليك - وهذا كله فيما بينه وبين الله، وكذلك في الظاهر إن قامت بينة بما تواطآ عليه، أو اعترف له المملك بذلك، أو كانت دلالة الحال تقتضي ذلك، لكن المالك قد أذن لهذا في أن يقفه وهو راض بذلك، وهذا الإذن والتوكيل، وإن كان قد حصل في ضمن عقد فاسد فإنه لا يفسد بفساد العقد كما لو فسدت الشركة، أو المضاربة، فإن تصرف الشريك والعامل صحيح بما تضمنه العقد مع الإذن مع فساد العقد، بل الإذن في مثل هذه الهبة الباطلة أولى من وجهين: أحدهما: أنهما قد اتفقا قبل العقد على أن يقفه على صاحبه وتراضيا على ذلك واتفقا على أن هذه الهبة ليست هبة بتاتا بل هي مثل هذه التلجئة فيكون الاتفاق للأول إذنا صحيحا، ورده بعده عقد فاسد، وكان مثل هذا مثل أن يتفقا على بيع تلجئة، أو هبة تلجئة، وإن لم يفعل في المبيع والموهوب كذا وكذا، فإن جميع تلك التصرفات المأذون فيها تقع صحيحة ; لأنها وكالة صحيحة في الباطن لم يرد بعدها ما يناقضها في الحقيقة، الثاني: أنا إنما أبطلنا هذا العقد لكونه قد اشترط على الموهب له أنه لا يتصرف فيه إلا بالوقف الذي هو في الظاهر واهب، والتصرف في العين لا يتوقف على الملك، بل يصح بطريق الوكالة وبطريق الولاية، فلا يلزم من بطلان الملك بطلان الإذن الذي تضمنه الشرط ; لأن الإذن مستند غير الملك ولا يقال: لما بطل الملك بطل التصرف الذي هو من توابعه التصرف في مثل هذه الصورة، وليس هو من توابع الملك وإنما هو من توابع ما هو في الظاهر ملك للثاني وفي الحقيقة ليس ملكا للثاني، بل هو باق على ملك الأول، وإذا كان من توابع ما هو في الحقيقة باق على ملك الأول، وفي الظاهر ملك للثاني فبطلان هذا

الثاني لا يستلزم بطلان الملك الحقيقي، ولا بطلان توابعه، يؤيد هذا أن الحيل التي استحلت بأسماء باطلة يجب أن تسلب تلك الأسماء المنحولة وتعطى الأسماء الحقيقية كما يسلب منها ما يسمى بيعا، أو نكاحا، أو هدية وهذه الأسماء تسمى ربا وسفاحا ورشوة، فكذلك هذه الهبة تسلب اسم الهبة وتسمى توكيلا، وإذنا، فإن صحة الوكالة لا تتوقف على لفظ مخصوص بل بكل قول دل على الإذن في التصرف فهو وكالة، وهذه المواطأة على هذه الهبة لا ريب أنها تدل على الإذن في هذا الوقف فتكون وكالة، وإذا كان كذلك فمن اعتقد صحة وقف الإنسان على نفسه كما بينا مأخذه، واعتقد صحة هذا الوقف، كان هذا الوقف لازما إذا وقفه ذلك المالك الموكل كلزومه لو وقفه المالك نفسه، أو وكيل محض، وينبني، على ذلك سائر أحكام الوقف الصحيح من حل التناول منه ونحو ذلك، ومن اعتقد وقف الإنسان على نفسه باطلا كان هذا وقفا منقطع الابتداء لكونه وقف على نفسه والوقف لا يجوز عليها، ثم على غيره والوقف جائز عليه، وفي هذه المسألة خلاف مشهور فقيل لا يصح الوقف بخلاف المنقطع الانتهاء ; لأن الطبقة الثانية والثالثة تبع للأولى فإذا لم تصح الأولى فما بعدها أولى، ولأن الواقف لم يرض أن يصير للثانية إلا بعد الأولى وما رضي به لم يرض به الشارع فالذي رضيه الشارع لم يرضه والذي رضيه لم يرضه الشارع، ولا بد في صحة التصرف من رضى المتصرف وموافقة الشرع، فعلى هذا هو باق على ملك الواقف، فإذا مات انبنى على أنه إذا قال هذا وقف بعد موتي صح، أو هو كالمعلق بالشرط، فإن قيل: هو كالمعلق بشرط، فلا كلام، وإن قيل بصحته أمكن أن يقال بصحة هذا الوقف بعد موته من الثلث، وأنه فيما زاد على الثلث موقوف على إجازة الورثة بخلاف ما لو وقف على حربي، أو مرتد وبعد موته على من يصح لأنه إذا وقف على نفسه وبعد موته على جهة متصلة أمكن أن يلغى قوله " على نفسي " ويجعل كأنه قال بعد موتي على كذا وهذا يصححه من لا يصحح الوقف على تلك الجهة بعد موت فلان إلحاقا للوقف بالوصية فإنه من جنس العطايا، والعطية يصح تعليقها بشرط، وإنما جاز هذا في الوصايا إلحاقا بالميراث، وقيل إن هذا الوقف المنقطع الابتداء صحيح، ثم فيه وجهان: أحدهما: أنه يصرف في الحال مصرف الوقف المنقطع الابتداء فإذا مات هذا الواقف صرف إلى تلك الجهة الباطلة .

والثاني: أنه يصرف في الحال فإذا مات الواقف صرف إلى تلك الجهة الصحيحة جعلا له بمنزلة المعلق على شرط - وكذلك جعل في تعليق الواقف بالشرط وجهان لتردده بين شبه العتق والتحرير وبين شبه الهبة والتمليك، فإن قيل: فإن أقر من في يده عقار أنه وقف عليه من غيره، ثم على جهة متصلة وكان قد جعل هذا حيلة لوقفه على نفسه من غير أن يكون قد وقفه عليه أحد فما حكم ذلك في الباطن وحكم من علم ذلك من الموقوف عليه ؟ قيل: هذا أيضا إنما قصد إنشاء الوقف فيكون كمن أقر بطلاق، أو عتاق ينوي به الإنشاء ; لأن الوقف ينعقد باللفظ الصريح وباللفظ الكناية مع النية ويصح أيضا بالفعل مع النية عند الأكثرين، فإذا كان مقصوده هو الوقف على نفسه وتكلم بقوله هذا وقف علي، ثم على كذا وكذا وميزه بالفعل عن ملكه صار كما لو قال وقفته على نفسي، ثم على كذا وكذا ; لأن الإقرار يجوز أن يكون كتابة في الإنشاء، يجوز أن يقصد به الإخبار فإذا قصد به دين، بخلاف ما لو كان إقرارا محضا وهو يعلم كذب نفسه فيه كان وجود هذا الإقرار كعدمه فيما بينه وبين الله: ففرق بين إقرار قصد به الإخبار عما مضى، وإقرار قصد به الإنشاء وإنما ذكر بصيغة الإخبار لغرض من الأغراض، ومما يوضح هذا أن صيغ العقود قد قيل: هي إنشاءات، وقيل: إخبارات - وهي في الحقيقة إخبار عن المعاني التي في القلب وتلك المعاني أنشئت فاللفظ خبر والمعنى إنشاء إنما يتم حكمه باللفظ، فإذا أخبر أن هذا المكان وقف عليه وهو يعلم أن غيره لم يقفه عليه بل هو كاذب في هذا، وإنما مقصوده أن يصير هو واقفا له فقد أجمع لفظ الإخبار، وإرادته الوقف، فلو كان أخبر عن هذه الإرادة لم يكن فيه ريب أنه إنشاء وقف، لكن لما كان اللفظ إخبارا عن غير ما عناه والذي عناه لم يلفظ به صارت المسألة محتملة، لكن هذه النية مع هذا اللفظ ونحوه ومع الفعل الذي لو تجرد عن لفظ لكان مع النية بمنزلة المتكلم بالوقف يوجب جعل هذا وقفا، وهذا المعنى ينبني على ما تقدم قبل هذا -، وإذا كان هذا إنشاء للوقف فحكمه على ما تقدم والله سبحانه أعلم، وإذا كان الرجل ممن يعتقد مثلا بطلان وقف الإنسان على نفسه، وبطلان استثناء منفعة الوقف، فالواجب مع هذا الاعتقاد إما الوقف على غيره ظاهرا وباطنا، أو الوصية بالوقف بعد موته فيما يسوغ الوصية فيه والإمساك عما زاد، أو ترك الوقف وكذلك كل من اعتقد اعتقادا يرى أنه لا يسوغ له الخروج عنه فإنه يجب الوفاء بموجبه كالأمور التي لا شك في تحريمها من الربا والسفاح وغير ذلك، فإنه يجب الإمساك عما حرم الله سبحانه وأنه لا يستحل محارمه بأدنى الحيل ولا يتوهم الإنسان أن في الإمساك عن المحرم ضيقا، أو ضررا، أو في فعل الواجب فإنه من يتق الله تعالى يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه ولا بد أن يبتلى المرء في أمر الله ونهيه تارة يترك ما يهوى وتارة يفعل ما يكره، كما يبتلى في الحوادث المقدرة بمثل ذلك، وقد قال سبحانه: { الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين }، وقال سبحانه: { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما }، وقال سبحانه: { واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون }، وقال تعالى: { ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله } الآيات ومن هنا ينشأ .