إقامة الدليل على إبطال التحليل/16


أقسام الحيل فنقول هي أقسام: أحدها: الطرق الخفية التي يتوسل بها إلى ما هو محرم في نفسه بحيث لا تحل بمثل ذلك السبب بحال فمتى كان المقصود بها حراما في نفسه فهي حرام باتفاق المسلمين وصاحبها يسمى داهية ومكارا وذلك من جنس الحيل على هلاك النفوس وأخذ الأموال وفساد ذات البين وحيل الشيطان على إغواء بني آدم وحيل المخادعين بالباطل على إدحاض حق، وإظهار باطل في الأمور الدينية والخصومات الدنيوية، وبالجملة فكل ما هو محرم في نفسه فالتوسل إليه بالطرق الظاهرة محرم فكيف بالطرق الخفية التي لا تعلم وهذا مجمع عليه بين المسلمين، ثم من هذه الحيلة ما يقصد بها حصول المقصود، وإن ظهر أنه محرم كحيل اللصوص ولا مدخل لهذا في الفقه، ومنها ما يقصد به مع ذلك إظهار الحيل في الظاهر وهذه الحيل لا يظهر صاحبها أن مقصوده بها شر وقد لا يمكن الاطلاع على ذلك غالبا ففي مثل هذا قد تسد الذرائع إلى تلك المقاصد الخبيثة ومثال هذا إقرار المريض لوارث لا شيء له عنده، فيجعله حيلة إلى الوسيلة له وهذا محرم باتفاق المسلمين، وتعليمه هذا الإقرار حرام والشهادة عليه مع العلم بكذبه حرام والحكم بصحته مع العلم ببطلانه حرام فإن هذا كاذب غرضه تخصيص بعض الورثة بأكثر من حقه، فالحيلة نفسها محرمة والمقصود بها محرم، لكن لما أمن أن يكون صادقا اختلف العلماء في إقرار المريض لوارث: هل هو باطل سدا للذريعة وردا لإقرار الذي صادف حق المورث فيما هو متهم فيه، لأنه شاهد على نفسه فيما يتعلق به حقهم فترد التهمة كالشاهد على غيره، أو هو مقبول إحسانا للظن بالمقر عند الخاتمة، ؟، ومن هذا الباب احتيال المرأة على فسخ نكاح الزوج مع إمساكه بالمعروف بإنكارها للإذن للولي، أو بإساءة عشرته بمنع بعض حقوقه أو فعل ما يؤذيه، أو غير ذلك، واحتيال البائع على فسخ البيع بدعواه أنه كان محجوزا عليه، أو احتيال المشتري بدعواه أنه لم ير المبيع، واحتيال المرأة على مطالبة الرجل بمال بإنكارها الإنفاق أو إعطاء الصداق إلى غير ذلك من الصور فهذا لا يستريب أحد في أن هذا من كبائر الإثم ومن أقبح المحرمات وهي بمنزلة لحم خنزير ميت حرام من جهة أنها في نفسها محرمة، لأنها كذب على مسلم، أو فعل معصية ومن جهة أنها ترسل بها إلى إبطال حق ثابت، أو إثبات باطل، ويندرج في هذا القسم ما هو من نفسه مباح لكن بقصد المحرم صار حراما كالسفر لقطع الطريق ونحو ذلك فصار هذا القسم مشتملا على قسمين .

وأما بيان الوجه الثاني فإن المحلل إنما يقصد أن ينكحها ليطلقها وكذلك المختلعة إنما تختلع، لأن تراجع العقد لا يقصد به ضده ونقيضه فإن الطلاق ليس مما يقصد في النكاح أبدا كما أن البيع لا يعقد للفسخ قط والهبة لا تعقد للرجوع فيها قط ولهذا قلنا: إنه ليس للإنسان أن يحرم منفردا، أو قارنا لقصد فسخ الحج والتمتع بالعمرة إلى الحج فإن الفسخ إعدام العقد ورفعه فإذا عقد العقد لأن يفسخه كان المقصود هو عدم العقد وإذا كان المقصود عدمه لم يقصد وجوده فلا يكون العقد مقصودا أصلا فيكون عبثا إذ العقود إنما تعقد لفوائدها وثمراتها والفسوخ رفع للثمرات والفوائد فلا يقصد أن يكون الشيء الواحد موجودا معدوما، فعلم أنه إنما قصد التكلم بصورة العقد والفسخ ولم يقصد حكم العقد فلا يثبت حكمه، ولهذا جاء في الآثار تسميته مخادعا ومدلسا، ولا يقال: مقصوده ما يحصل بعد الفسخ من الحل للمطلق لأن الحل إنما يثبت إذا ثبت العقد ثم انفسخ ومقصود العقد حصول موجبه ومقصود الفسخ زوال موجب العقد فإذا لم يقصد ذلك فلا عقد فلا فسخ فلا يترتب عليه تابعه وهذا بين لمن تأمله ولهذا يسمى مثل هذا متلاعبا مستهزئا بآيات الله سبحانه، وبهذا يظهر الجواب عن المقاصد الفرعية في النكاح مثل مصاهرة الأول وتربية الأخوات فإن تلك المقاصد لا تنافي النكاح بل تستدعي بقاءه ودوامه فهي مستلزمة لحصول موجب العقد وهكذا كل ما يذكر من هذا الباب فإن الشيء يفعل لأغلب فوائده ولا تزال فوائده بحيث لا تكون تلك المقاصد مبينة لحقيقته بل مجامعة لها مستلزمة إياها أما أن تفعل لرفع حقيقته وتوجد لمجرد أن تعدم فهذا هو الباطل وبهذا يظهر الفرق بين هذا وبين شراء العبد ليعتقه، أو الطعام ليتلفه فإن قصد العتق والإتلاف لا ينافي قصد البيع ولهذا لا يقال: إن هذا رفع للعقد وفسخ له، وإنما ينافي بقاء الملك ودوامه والأموال لا يقصد بملكها بقاؤها فإن الانتفاع بأعيانها ومنافعها لا يكون إلا بإزالة المالية عن الشيء المنتفع به، فإنها تقصد للانتفاع بذاتها كالأكل، أو ببذلها الديني أو الدنيوي كالبيع والعتق، أو بمنفعتها كالسكن، وجميع هذه الأشياء لا توجب فسخ العقد والإيضاح ولا ينتفع بها إلا مع بقاء الملك عليها فلهذا امتنع أن يقصد بملكها الانتفاع بتلف عينها، أو ببذل العين، وإن ذلك غير واقع في الشريعة، وقصد الفسخ في العقد محال في النكاح والبيع لم يبق إلا قصد الانتفاع مع بقاء الملك ونكاح المحلل ليس كذلك على ما لا يخفى، وقولهم: إن قصد تراجعهما قصد صالح لما فيه المنفعة، قلنا: هذه مناسبة شهد لها الشارع بالإلغاء والإهدار ومثل هذا القياس والتعليل هو الذي يحل الحرام ويحرم الحلال، والمصالح والمناسبات التي جاءت الشريعة بما يخالفها إذا اعتبرت فهي مراغمة بينة للشارع مصدرها عدم ملاحظة حكمة التحريم، وموردها عدم مقابلته بالرضى والتسليم وهي في الحقيقة لا تكون مصالح، وإن ظنها مصالح، ولا تكون مناسبة للحكم، وإن اعتقدها معتقد مناسبة بل قد علم الله ورسوله ومن شاء من خلقه خلاف ما رآه هذا القاصر في نظره ولهذا كان الواجب على كل مؤمن طاعة الله ورسوله فيما ظهر له حسنه وما لم يظهر، وتحكيم علم الله وحكمه على علمه وحكمه فإن خير الدنيا والآخرة وصلاح المعاش والمعاد في طاعة الله ورسوله، ومن رأى أن الشارع الحكيم قد حرم هذه عليه حتى تنكح زوجا غيره وعلم أن النكاح الحسن الذي لا ريب في حله هو نكاح الرغبة علم قطعا أن الشارع ليس متشوقا إلى رد هذه إلى زوجها إلا أن يقضي الله سبحانه ذلك بقضاء ييسره ليس للخلق فيه صنع وقصد لذلك، ولو كان هذا معنى مطلوبا لسنه الله - سبحانه - وندب إليه، كما ندب إلى الإصلاح بين الخصمين وكما كره الاختلاع والطلاق الموجب لزوال الألفة، وقد قال من لا ينطق عن الهوى : { ما تركت من شيء يقربكم إلى الجنة إلا وقد حدثتكم به ولا تركت من شيء يباعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم به تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك }، وقد علم الله سبحانه كثرة وقوع الطلقات الثلاث فهلا ندب إلى التحليل وحض عليه كما حض على الإصلاح بين الناس، وإصلاح ذات البين ولما زجر النبي وخلفاؤه الراشدون عن ذلك ولعنوا فاعله من غير استثناء نوع ولا ندب إلى شيء من أنواعه -، ثم لو كان مقصود الشارع تيسير عودها إلى الأول لم يحرمها عليه ولم يحوجه إلى هذا العناء فإن الدفع أسهل من الرفع - وأما ما يحصل من ذلك من الضرر فالمطلق هو الذي جلبه على نفسه { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير }، وقد ذكر ذلك غير واحد من الصحابة منهم ابن عباس لما سألوا عن المطلق ثلاثا فقالوا: لو اتقى الله لجعل له فرجا ومخرجا ولكنه لم يتق الله فلم يجعل له فرجا ومخرجا ومن فعل فعلا جر على نفسه به ضررا مثل قتل، أو قذف، أو غير ذلك مما يوجب عقوبة مطلقة، أو عقوبة محدودة لم يمكن الاحتيال في إسقاط تلك العقوبة ولو فعل ما عليه فيه كفارة لم يكن إلى رفعها سبيل، ولو ظاهر من امرأته وبه شبق وهو لا يجد رقبة لم يمكن وطؤها حتى يصوم شهرين متتابعين إلى غير ذلك من الأمور، فإنما يسعى الإنسان في مصلحة أخيه بما أحله الله وأباحه وأما مساعدته على أغراضه ما كرهه الله فهو إضرار به في دينه ودنياه وما هذه إلا بمنزلة أن يعين الرجل من يهوى امرأة محرمة على نيل غرضه، والخير كله في لزوم التقوى واجتناب المحرمات ألا ترى أن أهل السبت استحلوا ما استحلوا لما قامت في نفوسهم هذه الشهوات والشبهات ولعل الزوجين إذا اتقيا الله سبحانه جمع بينهما على ما أذن الله به ورسوله كما هو الواقع لعامة المتقين، وهذا الكلام كله إنما هو في التحليل المكتوم وهو الذي حكي وقوع الشبهة فيه عن بعض المتقدمين فأما إذا ظهر ذلك وتواطآ عليه فالأمر فيه ظاهر كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وبهذا الكلام ظهر أن هذا القسم من الحيل ملحق بالأول منها لكن الأول كل واحد من المحتال به، والمحتال عليه محرم في نفسه لو فرض تجرده عن الآخر وهنا إنما صار المحتال به محرما لاقترانه بالآخر فإنه لو جرد النكاح مثلا عن هذا القصد لكان حلالا والمحتال عليه لو حصل السبب المبيح له مجردا عن الاحتيال لكان مباحا، ثم هذا القسم فيه أنواع، أحدها: الاحتيال لحل ما هو يحرم في الحال كنكاح المحلل، الثاني: الاحتيال لحل ما انعقد سبب تحريمه وهو ما يحرم إن تجرد عن الحيلة كالاحتيال على حل اليمين فإن يمين الطلاق يوجب تحريم المرأة إذا حنث فإن المحتال يريد إزالة التحريم مع وجود السبب المحرم وهو الفعل المحلوف عليه وكذلك الحيل الربوية كلها فإن المحتال يريد مثلا أخذ مائة مؤجلة ببذل ثمانين حالة فيحتال ليزيل التحريم مع بقاء السبب المحرم وهو هذا المعنى .

النوع الثالث: الاحتيال على إسقاط واجب قد وجب، مثل أن يسافر في أثناء يوم في رمضان ليفطر، ومثل الاحتيال على إزالة ملك مسلم من نكاح، أو مال، أو نحوهما، الرابع: الاحتيال لإسقاط ما انعقد سبب وجوبه، مثل الاحتيال لإسقاط الزكاة، أو الشفعة أو الصوم في رمضان وفي بعضها يظهر أن المقصود خبيث، مثل الاحتيال لإسقاط الزكاة، أو صوم الشهر بعينه، أو الشفعة لكن شبهة المرتكب أن هذا منع للوجوب لا رفع له وكلاهما في الحقيقة واحد وفي بعضها يظهر أن السبب المحتال به لا حقيقة له، مثل الإفراد لابنه أو تمليكه ناويا للرجوع، أو تواطؤ المتعاقدين على خلاف ما أظهراه كالتواطؤ على التحليل وفي بعضها يظهر كلا الأمرين وفي بعضها يخفى كلاهما كالتحليل وخلع اليمين .

الوجه الثالث والعشرون: إنك إذا تأملت عامة الحيل وجدتها رفعا للتحريم أو الوجوب مع قيام المعنى المقتضي للوجوب أو التحريم فتصير حراما من وجهين، من جهة أن فيها فعل المحرم وترك الواجب، ومن جهة أنها مع ذلك تدليس وخداع وخلابة ومكر ونفاق واعتقاد فاسد وهذا الوجه أعظمها إثما فإن الأول بمنزلة سائر العصاة وأما الثاني فبمنزلة البدع والنفاق، ولهذا كان التغليظ على من يأمر بها ويدل عليها متبوعا في ذلك أعظم من التغليظ على من يعمل بها مقلدا، فأما إذا عمل بها معتقدا جوازها فهذا هو النهاية في الشر وهذا معنى قول أيوب لو أتوا الأمر على وجهه كان أهون علي وإن كان المجتهد معذورا إذا استفرغ وسعه في طلب الحق فذاك من باب المانع للحوق الذم وإلا فالمقتضي للذم قائم في مثل هذا الموضع، إذا خفي على بعض الناس ما في الفعل من القبح كان ذلك مؤكدا لإيضاح قبحه وهذا الوجه مما اعتمد عليه الإمام أحمد رضي الله عنه قال أبو طالب سمعت أبا عبد الله قال له رجل في كتاب الحيل إذا اشترى الرجل أمة فأراد أن يقع بها يعتقها ثم يتزوجها فقال أبو عبد الله: بلغني أن المهدي اشترى جارية فأعجبته فقيل له أعتقها وتزوجها فقال سبحان الله ما أعجب هذا أبطلوا كتاب الله والسنة جعل الله على الحرائر العدة من جهة الحمل فليس من امرأة تطلق أو يموت زوجها إلا تعتد من جهة الحمل ففرج يوطأ يشتريه ثم يعتقه على المكان فيتزوجها فيطأها فإن كانت حائلا كيف يصنع يطؤها رجل اليوم ويطأها الآخر غدا هذا نقض للكتاب والسنة، قال النبي : { لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير حامل حتى تحيض }، ولا يدرى حامل أم لا سبحان الله ما أسمج هذا، وقال في رواية أبي داود وذكر الحيل من أصحاب الرأي فقال يحتالون لنقض سنن رسول الله وقال في رواية صالح وأبي الحارث هذه الحيل التي وضعوها عمدوا إلى السنن فنقضوها والشيء الذي قيل لهم إنه حرام احتالوا فيه حتى أحلوه وسبق تمام كلامه وهذا كثير في كلامه، وبيان ذلك: أنا نعلم باضطرار أن النبي لما نهى عن وطء الحبالى وقال: { لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تستبرئ بحيضة }، إن من أكثر المقاصد بالاستبراء أن لا يختلط الماءان ولا يشتبه النسب، ثم إن الشارع بالغ في هذه الصيانة حتى جعل العدة ثلاثة قروء وأوجب العدة على الكبيرة والصغيرة وإن كان له مقصود آخر غير استبراء الرحم، فإذا ملك أمة يطؤها سيدها وأعتقها عقب ملكها وتزوجها ووطئها الليلة صار الأول قد وطئها البارحة وهذا قد وطئها الليلة وباضطرار نعلم أن المفسدة التي من أجلها وجب الاستبراء قائمة في هذا الوطء، ومن توقف في هذا كان في الشرعيات بمنزلة التوقف في الضروريات من العقليات، وكذلك نعلم أن الشارع حرم الربا لما فيه من أخذ فضل على ماله مع بقاء ماله في المعنى فيكون أكلا للمال بالباطل كأخذه بالقمار وهو يسد طريق المعروف والإحسان إلى الناس، فإنه متى جوز لصاحب المال الربا لم يكن أحد يفعل معروفا من قرض ونحوه إذا أمكنه أن يبذل له كما يبذل القروض مع أخذ فضل له ولهذا قال سبحانه: { يمحق الله الربا ويربي الصدقات } فجعل الربا نقيض الصدقة ; لأن المربي يأخذ فضلا في ظاهر الأمر يزيد به ماله والمتصدق ينقص ماله في الظاهر لكن يمحق الله الربا ويربي الصدقات، وقال سبحانه في الآية الأخرى: { وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون }، فكما أن الشارع أوجب الصدقة التي فيها الإعطاء للمحتاجين حرم الربا الذي فيه أخذ المال من المحتاجين ; لأنه سبحانه علم أن صلاح الخلق في أن الغني يؤخذ منه ما يعطى للفقير وأن الفقير لا يؤخذ منه ما يعطى للغني، ثم رأيت هذا المعنى مأثورا على علي بن موسى الرضى رضي الله عنه وعن آبائه أنه سئل لم حرم الله الربا ؟ فقال: لئلا يتمانع الناس المعروف، فهذا في الجملة ينبه على بعض علل الربا، فحرم أن يعطي الرجل آخر ألفا على أن يأخذ منه بعد شهر ألفا ومائة وعلى أن يأخذ منه كل شهر مائة غير الألف، وربا النساء هو الذي يتم به غرض المربي في أكثر الأمور، وإنما حرم ربا الفضل ; لأنه قد يفضي إلى الربا ولهذا روي عن النبي أنه قال: { لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين ولا الدينار بالدينارين إني أخاف عليكم الرماء } - والرما هو الربا - رواه الإمام أحمد، وهذه الزيادة وهي قوله، إني أخاف عليكم الرما محفوظة عن عمر بن الخطاب من غير وجه، وأسقط اعتبار الصفات مع إيجاد الجنس وإن كانت مقصودة لئلا يفضي اعتبارها إلى الربا ولهذا قال : { إنما الربا في النسيئة } متفق عليه، وبالجملة فلا يشك المؤمن أن الله إنما حرم على الرجل أن يعطي درهما ليأخذ درهمين إلى أجل إلا لحكمة فإذا جاز أن يقول بعني ثوبك بألف حالة ثم يبيعه إياه بألف ومائتين ومؤجلة بالغرض الذي كان للمتعاقدين في إعطاء ألف بألف ومائتين هو بعينه موجود هاهنا وما أظهراه من صورة العقد لا غرض لهما فيه بحال وليس عقدا ثابتا، ومعلوم أن الله سبحانه إنما حرم الربا وعظمه زجرا للنفوس عما تطلبه من أكل المال بالباطل فإذا كانت هذه الحيلة يحصل معها غرض النفوس من الربا علم قطعا أن مفسدة الربا موجودة فيها فتكون محرمة، وكذلك السفاح حرمه الله تعالى بحكم كثيرة وقطع تشبيهه بالنكاح بكل طريق فأوجب في النكاح الولي والشاهدين والعدة وغير ذلك، ومعلوم أن الرجل لو تزوج المرأة ليقيم معها ليلة أو ليلتين ثم يفارقها بولي وشاهدين وغير ذلك كان سفاحا وهو المتعة المحرمة فإذا لم يكن له غرض معها ألم يكن أولى باسم السفاح ؟ وكذلك نعلم أن الله سبحانه إنما أوجب الشفعة للشريك لعلمه بأن مصير هذا الشقص للشريك مع حصول مقصود البائع من الثمن خير من حصوله لأجنبي ينشأ بسببه ضرر الشركة والقسمة فأوجب هذا الخير الذي لا شر فيه، فإذا سوغ الاحتيال على إسقاطها ألم يكن فيه بقاء فساد الشركة والقسمة وعدم صلاح الشفعة والتكميل مع وجود حقيقة سببها وهو البيع، وهذا كثير في جميع الشرعيات فكل موضع ظهرت للمكلفين حكمته أو غابت عنهم لا يشك مستبصر أن الاحتيال يبطل تلك الحكمة التي قصدها الشارع فيكون المحتال مناقضا للشارع مخادعا في الحقيقة لله ورسوله وكلما كان المرء أفقه في الدين وأبصر بمحاسنه كان فراره عن الحيل أشد، واعتبر هذا بسياسة الملوك بل بسياسة الرجل أهل بيته فإنه لو عارضه بعض الأذكياء المحتالين في أوامره ونواهيه بإقامة صورها دون حقائقها لعلم أنه ساع في فساد أوامره، وأظن كثيرا من الحيل إنما استحلها من لم يفقه حكمة الشارع ولم يكن له بد من التزام ظاهر الحكم فأقام رسم الدين دون حقيقته ولو هدي رشده لسلم لله ورسوله وأطاع الله ظاهرا وباطنا في كل أمره وعلم أن الشرائع تحتها حكم وإن لم يهتد هو لها فلم يفعل سببا يعلم أنه مزيل لحكمة الشارع من حيث الجملة وإن لم يعلم حقيقة ما أزال إلا أن يكون منافقا يعتقد أن رأيه أصلح في هذه القضية خصوصا أو فيها وفي غيرها عموما لما جاءت به الشريعة أو صاحب شهوة قاهرة تدعوه إلى تحصيل غرضه ولا يمكنه الخروج عن ظاهر رسم الإسلام، أو يكون ممن يحب الرياسة والشرف بالفتيا التي ينقاد له بها الناس ويرى أن ذلك لا يحصل عند الذين اتبعوا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين إلا بهذه الحيل أو يعتقد أن الشيء ليس محرما في هذه القضية المخصوصة لمعنى رآه لكنه لا يمكنه إظهار ذلك ; لأن الناس لا يوافقونه عليه ويخاف الشناعة فيحتال بحيلة يظهر بها ترك الحرام ومقصوده استحلاله فيرضي الناس ظاهرا أو يعمل بما يراه باطنا ولهذا قال : { من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين }، وإنما الفقه في الدين فهم معاني الأمر والنهي ليستبصر الإنسان في دينه ألا ترى قوله تعالى: { ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } فقرن الإنذار بالفقه فدل على أن الفقه ما وزع عن محرم أو دعا إلى واجب وخوف النفوس مواقعه المحظورة لا ما هون عليها استحلال المحارم بأدنى الحيل ومما يقضي منه العجب أن الذين ينتسبون إلى القياس واستنباط معاني الأحكام والفقه من أهل الحيل هم أبعد الناس عن رعاية مقصود الشارع وعن معرفة العلل والمعاني وعن الفقه في الدين، فإنك تجدهم يقطعون عن الإلحاق بالأصل ما يعلم بالقطع أن معنى الأصل موجود فيه، ويهدرون اعتبار تلك المعاني، ثم يربطون الأحكام بمعاني لم يومئ إليها شرع ولم يستحسنها عقل، { ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور } وإنما سبب نسبة بعض الناس لهم إلى الفقه والقياس ما انفردوا به من الفقه وليس له أصل في كتاب ولا سنة، وإنما هو رأي محض صدر عن فطنة وذكاء كفطنة أهل الدنيا في تحصيل أغراضهم فتسموا بأشرف صفاتهم وهو الفهم الذي هو مشترك في الأصل بين فهم طرق الخير وفهم طرق الشر إذ أحسن ما فيهم من هذا الوجه فهمهم لطرق تلك الأغراض والتوصل إليها بالرأي، فأما أهل العلم بالله وبأمره فعلمهم متلقى عن النبوة إما نصا أو استنباطا فلا يحتاجون إلى أن يضيفوه إلى أنفسهم وإنما لهم فيه الاتباع فمن فهم حكمة الشارع منهم كان هو الفقيه حقا ومن اكتفى بالاتباع لم يضره أن لا يتكلف علم ما لا يلزمه إذا كان على بصيرة من أمره مع أنه هو الفقه الحقيقي والرأي السديد والقياس المستقيم - والله سبحانه أعلم .

واعلم أن تجويز الحيل يناقض سد الذرائع مناقضة ظاهرة، فإن الشارع سد الطريق إلى ذلك المحرم بكل طريق، والمحتال يريد أن يتوسل إليه، ولهذا لما اعتبر الشارع في البيع والصرف والنكاح وغيرها شروطا سد ببعضها التذرع إلى الزنا والربا وكمل بها مقصود العقود لم يمكن المحتال الخروج عنها في الظاهر، فإذا أراد الاحتيال ببعض هذه العقود على ما منع الشارع منه أتى بها مع حيلة أخرى توصله بزعمه إلى نفس ذلك الشيء الذي سد الشارع ذريعته فلا يبقى لتلك الشروط التي تأتي بها فائدة ولا حقيقة، بل يبقى بمنزلة العبث واللعب وتطويل الطريق إلى المقصود من غير فائدة، ولهذا تجد الصحيح الفطرة لا يحافظ على تلك الشروط لرؤيته أن مقصود الشروط تحقيق حكم ما شرطت له والمنع من شيء آخر وهو إنما قصده ذاك لا الآخر ولا ما شرطت له، ولهذا تجد المحتالين على الربا وعلى حل المطلقة وعلى حل اليمين لا يتمسكون بشروط البيع والنكاح والخلع لعدم فائدة تتعلق لهم بذلك ولتعلق رغبتهم بما منعوا منه من الربا وعود المرأة إلى زوجها وإسقاط الثمن المعقودة، واعتبر هذا بالشفعة فإن الشارع أباح انتزاع الشقص من مشتريه وهو لا يخرج الملك عن مالكه بقيمة أو بغير قيمة إلا لمصلحة راجحة، وكانت المصلحة هنا تكميل العقار للشريك فإنه بذلك يزول ضرار الشركة والقسمة وليس في هذا التكميل ضرر على الشريك البائع ; لأن مقصوده من الثمن يحصل بأخذه من المشتري والشريك أو الأجنبي والذي يحتال لإسقاطها بأن يكون البائع غرضه بيعه للأجنبي دون الشريك إما ضرارا للشريك أو نفعا للأجنبي ليس هو مناقضا لمقصود الشارع مضادا له في حكمه، فالشارع يقول لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن شاء أخذ وإن شاء ترك ; وهذا يقول لا تلتفت إلى الشريك وأعطه لمن شئت، ثم إذا كان الثمن مثلا ألف درهم فعاقده على ألفين وقبض منه تسعمائة وصارفه عن الألف ومائة بعشرة دنانير فتعذر على الشريك الأخذ أليس عين مقصود الشارع فوته مع إظهاره أنه إنما فعل ما أذن الشارع فيه وهذا بين لمن تأمله، واعلم أن المقصود هنا بيان تحريم الحيل وأن صاحبها متعرض لسخط الله سبحانه وأليم عقابه، ويترتب على ذلك أن ينقض على صاحبها مقصوده منها بحسب الإمكان وذلك في كل حيلة بحسبها، فلا يخلو الاحتيال أن يكون من واحد أو من اثنين فأكثر، فإن كان الاحتيال من اثنين فأكثر، فإن كانا عقدا بيعين تواطآ عليهما تحيلا إلى الربا كما في العينة حكم بفساد ذينك العقدين ويرد إلى الأول رأس ماله كما ذكرت عائشة لأم زيد بن أرقم، وكان بمنزلة المقبوض بعقد ربا لا يحل الانتفاع به بل يجب رده إن كان باقيا وبدله إن كان فائتا، وكذلك إن جمعا بين بيع وقرض، أو إجارة وقرض، أو مضاربة أو شركة، أو مساقاة أو مزارعة مع قرض حكم بفسادهما فيجب أن يرد عليه بدل ماله فيما جعلاه قرضا، والعقد الآخر فاسد له حكم الأنكحة الفاسدة، وكذلك إن كان نكاحا تواطآ عليه كان نكاحا فاسدا له حكم الأنكحة الفاسدة، وكذلك إذا تواطآ على بيع أو هبة لإسقاط الزكاة، أو على هبة لتصحيح نكاح فاسد أو وقف فساد، مثل أن تريد مواقعة مملوكها فتواطئ رجلا على أن تهبه العبد فيزوجها به ثم يهبها إياه لينفسخ النكاح فإن هذا البيع والهبة فاسدان في جميع الأحكام، فإن كان الاحتيال من واحد فإن كانت حيلة يستقل بها لم يحصل بها غرضه، فإن كانت عقدا كان عقدا فاسدا مثل أن يهب لابنه هبة يريد أن يرجع فيها لئلا تجب عليه الزكاة فإن وجود هذه الهبة كعدمها ليست هبة في شيء من الأحكام، لكن إن ظهر المقصود ترتب عليه الحكم ظاهرا وباطنا وإلا بقيت فاسدة في الباطن فقط، وإن كانت حيلة لا يستقل بها مثل أن ينوي التحليل ولا يظهر للزوجة، أو يرتجع المرأة ضرارا بها، أو يهب ماله ضرارا لورثته ونحو ذلك كانت هذه العقود بالنسبة إليه وإلى من علم غرضه باطلة فلا يحل له وطء المرأة ولا يرثها لو ماتت، وإذا علم الموهوب له أو الموصى له غرضه لم يحصل له الملك في الباطن فلا يحل الانتفاع به بل يجب رده إلى مستحقه لولا العقد المحتال به، وأما بالنسبة إلى العاقد الآخر الذي لم يعلم فإنه صحيح يفيد مقصود العقود الصحيحة، ولهذا نظائر في الشريعة كثيرة، وإن كانت الحيلة له وعليه كطلاق المريض صحح الطلاق من جهة أنه أزال ملكه ولم يصحح من حيث إنه يمنع الإرث، فإنه إنما منع من قطع الإرث لا من إزالة ملك البضع، وأما إذا كانت الحيلة فعلا يفضي إلى غرض له مثل أن يسافر في الصيف ليتأخر عنه للصوم إلى الشتاء لم يحصل غرضه، بل يجب عليه الصوم في هذا السفر، فإن كان يفضي إلى سقوط حق غيره مثل أن يطأ امرأة أبيه أو ابنه لينفسخ نكاحه، أو مثل أن يباشر المرأة ابن زوجها أو أبوه عند من يرى ذلك محرما فهذه الحيلة بمنزلة الإتلاف للملك بقتل أو غصب لا يمكن إبطالها ; لأن حرمة المرأة بهذا السبب حق لله يترتب عليها فسخ النكاح ضمنا، والأفعال الموجبة للتحريم لا يعتبر لها العقل فضلا عن القصد، وصار هذا بمنزلة أن يحتال على نجاسة دهنه أو خله أو دبسه بأن يلقي فيه نجاسة، فإن نجاسة المائعات بالمخالطة وتحريم المصاهرة بالمباشرة أحكام تنبت بأمور حسية لا ترفع الأحكام مع وجوب تلك الأسباب .

الطريق الثاني: إبطال التحليل في النكاح، فصل: وأما الطريق الثاني في إبطال التحليل في النكاح فهو الدلالة على عين المسألة وذلك من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والقياس، الواجب عند تساوي الدلالة الابتداء بالكتاب، ولكن لكون دلالة السنة أبين ابتدأنا بها، وفي هذا الطريق مسالك، المسلك الأول ما رواه سفيان الثوري عن ابن قيس الأزدي عن هذيل بن شرحبيل عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: { لعن رسول الله الواشمة والموشومة والواصلة والموصولة والمحلل والمحلل له وآكل الربا، وموكله }، رواه أحمد والنسائي، وروى الترمذي منه: { لعن المحلل والمحلل له } وقال: حديث حسن صحيح، والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي منهم عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبد الله بن عمر، وهو قول الفقهاء من التابعين، وروي ذلك عن علي وابن مسعود وابن عباس، ورواه أحمد من حديث أبي الواصل عن ابن مسعود عن النبي: { لعن الله المحلل والمحلل له } وعن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن الحارث عن ابن مسعود قال: { آكل الربا وموكله وشاهداه وكاتبه إذا علموا به والواصلة والمستوصلة ولاوي الصدقة والمتعدي فيها والمرتد على عقبيه أعرابيا بعد هجرته والمحلل والمحلل له ملعونون على لسان محمد يوم القيامة } رواه أحمد، والنسائي، ورواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي من حديث الشعبي عن الحارث عن علي عن النبي : { أنه لعن المحلل والمحلل له }، وروي عن عثمان بن يثعب عن المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : { لعن الله المحلل والمحلل له } رواه أحمد وابن أبي شيبة والجوزجاني وإسناده جيد، وقال يحيى بن معين وعثمان بن الأخنس ثقة، والذي رواه عن عبد الله بن جعفر القرشي وهو ثقة من رجال مسلم وثقه الإمام أحمد ويحيى وعلي وغيرهم، وعن ابن عباس عن النبي نحو ذلك رواه ابن ماجه، وروى ابن ماجه والجوزجاني من حديث عثمان بن صالح قال سمعت الليث بن سعد يقول قال مشرح بن هاعان قال عقبة بن عامر قال رسول الله : { ألا أخبركم بالتيس المستعار ؟ قالوا بلى يا رسول الله قال: هو المحلل لعن الله المحلل والمحلل له }، وفي لفظ الجوزجاني: " الحال " بدل " المحلل " رواه الجوزجاني عن عثمان، وقال كانوا ينكرون على عثمان هذا الحديث إنكارا شديدا، قلت: وإنكار من أنكر هذا الحديث على عثمان غير جيد إنما هو لتوهم انفراده به عن الليث وظنهم أنه لعله أخطأ فيه حيث لم يبلغهم عن غيره من أصحاب الليث، كما قد يتوهم بعض من يكتب الحديث أن الحديث إذا انفرد به عن الرجل من ليس بالمشهور من أصحابه كان ذلك شذوذا فيه وعلة قادحة - وهذا لا يتوجه هاهنا لوجهين، أحدهما: أنه قد تابعه عليه أبو صالح كاتب الليث عنه، رويناه من حديث أبي بكر القطيعي أحمد بن جعفر بن حمدان قال حدثنا جعفر بن محمد الفريابي: حدثني العباس المعروف بابن فريق: وحدثنا أبو صالح: حدثني الليث به فذكره، ورواه أيضا الدارقطني في سننه، وحدثنا أبو بكر الشافعي: حدثنا إبراهيم بن الهيثم: أخبرنا أبو صالح فذكر، الثاني: أن عثمان بن صالح هذا المصري ثقة، روى عنه البخاري في صحيحه، وروى عنه ابن معين وأبو حاتم الرازي، وقال الشيخ صالح سليم الناحية قيل له: كان يلقن قال: لا، ومن كان بهذه المثابة كان ما ينفرد به حجة، وإنما الشاذ ما خالف به الثقات لا ما انفرد به عنهم، فكيف إذا تابعه مثل أبي صالح وهو كاتب الليث وأكثر الناس حديثا عنه وهو ثقة أيضا وإن كان قد وقع في بعض حديثه غلط، ومشرح بن هاعان قال فيه ابن معين، ثقة، وقال الإمام أحمد هو معروف، فثبت أن هذا الحديث جيد وإسناده حسن، وقال سعيد في سننه حدثنا محمد بن نشيط البصري: سألت بكر بن عبد الله المزني عن رجل طلق امرأته ألبتة قال: { لعن المحلل والمحلل له } أولئك كانوا يسمون في الجاهلية بالتيس المستعار، وعن الحسن البصري قال كان المسلمون يقولون هو التيس المستعار، وقياس العربية أن يقال أو محل كما يجيء في أكثر الروايات وأما ما وقع في بعضها من لفظ الحال ووقع مثله في كلام أحمد فإن كان لغة لم تبلغنا، وإلا فيجوز أن يسمى حالا لأنه قصد حل عقدة التحريم فيكون الاسم الأول من التحليل الذي هو ضد التحريم وهذا الاسم من الحل الذي هو ضد العقد، ويحتمل أن يسمى حالا على معنى النسب من الحل كما يقال لابن وتامر نسبة إلى التمر واللبن ولم يقصد به اسم الفاعل من التحليل، ويؤيد هذا: أنه إذا قيل والمحلل له ولم يقل المحلول له، ويجوز أن يكون سمي بذلك لأنه قصد تحليلها لغيره بواسطة حلها له وحله لها فيكون اسم الفاعل من حل يحل فهو حال ضد حرم يحرم، ولأنه توسط أن يكون حلالا لها إلى أن تصير حلالا للغير ثم وجدناه لغة منقولة ذكرها ابن القطاع في أفعاله وغيره يقال حل المرأة لزوجها وأحلها وحلها له إذا تزوجها ليحلها، فهذه سنن رسول الله بينة في أنه لعن المحلل والمحلل له وذلك من أبين الأدلة على أن التحليل حرام باطل ; لأنه لعن المحلل فعلم أن فعله حرام ; لأن اللعن لا يكون إلا على معصية، بل لا يكاد يلعن إلا على فعل كبيرة إذ الصغيرة تقع مكفرة بالحسنات إذا اجتنبت الكبائر، - واللعنة هي الإقصاء والإبعاد عن رحمة الله ولن يستوجب ذلك إلا بكبيرة، وكذلك روي عن ابن عباس أنه قال: كل ذنب ختم بغضب أو لعنة أو عذاب أو نار فهو كبيرة رواه عنه ابن أبي طلحة، وهذا دليل على بطلان العقد ; لأن النكاح المحرم باطل باتفاق الفقهاء، كيف وقد حملوا نهيه أن تنكح المرأة على عمتها أو على خالتها على التحريم والفساد، وليس هذا موضع استقصاء ذلك، ثم إنه لعن المحلل له فتبين بذلك أيضا أنها لم تحل له بذلك التحليل إذ لو حلت له لكان نكاحه مباحا فلم يستحق اللعن عليه، فعلم أن الذي فعله المحلل حرام باطل، وأن تزوج المطلق ثلاثا لأجل هذا التحليل حرام باطل، ومع أن مجرد تحريم عقد النكاح كاف في بطلانه ففي خصوص هذا الحديث ما يدل على فساد العقدين لأنه لعن المحلل له، فلا يخلو إما أن يكون حل للثاني تزوجها، وإما أن لا يكون حل، والأول باطل ; لأن النبي لعنه ولو كانت قد حلت له لكان تزوجه بها جائزا ولم يجز لعنه فتعين الثاني، وإذا لم تكن حلالا للثاني فكل امرأة يحرم التزوج بها فالعقد عليها باطل، وهذا ثابت بالإجماع المتيقن بل بالعلم الضروري من الدين، وذلك أن محل العقد كالمبيع والمنكوحة إذا لم يكن مباحا كالميتة والدم والمعتدة والمزوجة كان العقد عليه باطلا بالضرورة والإجماع، وإذا ثبت أنها لم تحل للثاني وجب أن يكون العقد الأول عليه باطلا ; لأنه لو كان صحيحا لحصل به الحل كسائر الأنكحة الصحيحة والكلام المحفوظ لفظا ومعنى في قوله: { حتى تنكح زوجا غيره } ومن قال إن النكاح صحيح وهي لا تحل به فقد أثبت حكما بلا أصل ولا نظير، وهذا لا يجوز، وقولهم تعجل ما أجل الله فعوقب بنقيض قصده، قلنا إن كان المتعجل به مما لا يمكن إبطاله كالقتل قطعنا عنه حكمه، وكذلك إن كان مما لا يمكن رفعه كالطلاق في المرض فإنا نقطع عنه حكمه، والمقصود رفعه وهو الإرث ونحوه، وأما النكاح فإنه عقد قابل للإبطال فيبطل، ثم إذا عاقبنا المحلل له ; لأنه تعجل المؤجل فكيف لا نعاقب المحلل الذي هو معجل المؤجل، وهو أحق بالعقوبة لعدم الغرض له في هذا الفعل، وإذا انتفى الداعي إلى المعصية كانت أقبح كزنا الشيخ وزهو الفقير وكذب الملك، فإن قيل: إلا أن التحريم وإن اقتضى فساد العقد فإنما ذاك إذا كان التحريم ثابتا من الطرفين، فإذا كان التحريم من أحدهما لم يوجب الفساد كبيع المصراة والمدلس ونحو ذلك، وهنا التحليل المكتوم إنما هو حرام على الزوج المحلل، فأما المرأة ووليها فليس حراما عليهما إذا لم يعلما بقصد الزوج فلا يكون العقد فاسدا كما ذكرنا من النظائر، إذ في إفساده إضرار المغرور من المرأة والولي، وصار هذا كما لو اشترى سلعة ليستعين بها على معصية والبائع لا يعلم قصده فإن هذا العقد لا يحكم بفساده وإن حرم على المشتري وكذلك المستأجر ونحوه، فالموجب للتحريم كتمان أحدهما لنقص المعقود عليه أو كذبه في وصفه، وإذا كان هذا العقد غير فاسد أثبت الحل ; لأنه مقتضى العقد الصحيح، ثم قد يقال تحل به للأول عملا بالعموم اللفظي والمعنوي وطردا للنظام القياسي، وقد يقال بل لا تحل له كما قاله محمد بن الحسن وغيره، بناء على أن السبب معصية والمعصية لا تكون سببا للاستحقاق، والحل وإن حكم بصحة العقد ووقوع السبب إذا كان ممكنا لا يمكن إبطاله كالطلاق والقتل للمورث، ولا يلزم من حلها للزوج المحلل حلها للزوج المطلق ; لأن الحل الأول حصل ضرورة تصحيح العقد لأجل حق العاقد الآخر ومتى صح بالنسبة إلى المرأة فقد استحقت الصداق والنفقة واستحلت الاستمتاع ; ولا يثبت هذا إلا مع استحقاق الزوج ملك النكاح واستحلاله الاستمتاع بخلاف المطلق فإنه لا ضرورة هناك تدعو إلى تصحيح عقده، ويؤيد هذا القول: أن بعض السلف منهم عمر وعطاء وقد روي عنهم جواز إمساك الثاني لها إذا حدثت له الرغبة ومنعوا عودها للأول، قلنا: إذا انفرد أحد العاقدين بعلمه بسبب التحريم ; فإما أن يكون التحريم لأجل حق العاقد الآخر، وإما أن يكون لحق الله مثلا، فإن كان لأجل حق العاقد الآخر كما في بيع المدلس والمصراة ونكاح المعيبة المدلسة ونحو ذلك فهذا العقد صحيح في حق هذا المغرور باطنا وظاهرا بحيث يحل له ما ملكه بالعقد وإن علم فيما بعد أنه كان مغرورا، وإما في حق القار فهل يكون باطلا في الباطن بحيث يحرم عليه الانتفاع أو لا يكون باطلا أو يقال ملكه ملكا حسيا ؟ هذا مما قد يختلف فيه الفقهاء، ومسألتنا ليست من هذا الضرب، وإن كان التحريم لغير حق المتعاقدين بل لحق الله سبحانه، أو لحق غيرهما مثل أن يبيعه ما لا يملكه والمشتري لا يعلم، أو يبيعه لحما يقول هو ذكي وهو ذبيحة مجوسي أو وثني، ومثل أن يتزوج امرأة وهو يعلم أنها أخته من الرضاعة وهي لا تعلم ذلك ; أو يكون أحد المبايعين محجورا عليه وهو يعلم بالحجر والآخر لا يعلم أو بالعكس، أو لا يعلم أن هذا الحجر يبطل التصرف، أو يكون العقد مشتملا على شرط أو وقت أو وصف، أو أحدهما لا يعلم حكمه والآخر يعلم، إلى نحو هذه الصور التي يكون العقد ليس محلا في نفس الأمر، أو العاقد ليس أهلا من الطرفين فهنا العقد باطل في حق العالم بالتحريم باطنا وظاهرا، وإن كان الفقهاء قد اختلفوا هل تستحق المرأة في مثل هذا مهرا، وفيه عن أحمد روايتان، إحداهما: تستحقه وأظنه قول الشافعي، والأخرى: لا تستحقه وأظنه قول مالك فإنما ذاك عند من أوجبه لئلا يخلو الوطء الملحق للنسب عن عوض، ووجوب المهر والعدة والنسب ليست من خصائص العقد الصحيح فإنما يثبت في وطء الشبهة، أفلم يكن في إيجاب من أوجب المهر ما يقتضي صحة العقد بوجه ما كما أنهم يوجبون العدة في مثل هذا ويلحقون بهم النسب مع بطلان العقد، بل كل نكاح فاسد يثبت فيه ذلك وإن كان مجمعا على فساده، وأما في حق من يعلم التحريم كالزوج والمشتري المغرورين فالعقد في حقهما باطل وإن لم يعلما بطلانه، وما علمت أحدا من العلماء يصفه بالصحة من وجه ما، وإن كان مقتضى أصول بعض الكلاميين أن يكون صحيحا في حق المشتري إما ظاهرا وإما باطنا، لكن الفقهاء على أنه فاسد، فلا يثبت له بهذا العقد ملك ولا إباحة شيء كان حراما عليه في الباطن، لكنه لا يعاقب بالوطء ولا بان بالانتفاع بما ابتاعه ; لأنه لا يعلم التحريم، وكونه لم يعلم التحريم لا يوجب أن يكون مباحا له كما أن من لم يعلم تحريم الزنا والخمر وتناولهما لا نقول إنه فعل مباحا له فإن الله سبحانه ما أباح هذا لأحد قط لكن نقول فعل ما لم يعلم تحريمه، ويتحرر الكلام في مثل هذا بنظرين، أحدهما: في الفعل في الباطن هل هو حرام أو ليس بحرام بل مباح ؟ والثاني: في الظاهر هل هو مباح أو ليس بحرام بل عفو ؟ النظر الأول: هل يقال الفعل حرام عليه في الباطن لكنه لما لم يعلم التحريم عذر لعدم علمه، والفقهاء من أصحابنا وغيرهم ومن يخوض معهم من أهل الكلام ونحوهم يتنازعون في مثل هذا، فكثير من المتكلمين وبعض الفقهاء يقولون: هذا ليس بحرام عليه في هذه الحال أصلا، وإن كان حراما في الأصل وفي غير هذه الحال كالميتة للمضطر ; لأن التحريم هو المنع من الفعل والمنع لا يثبت حكمه إلا بإعلام الممنوع أو تمكنه من العلم وهذا لم يعلم التحريم ولا أمكنه علمه فلا تحريم في حقه، قالوا والتحريم الثابت في الباطن دون الظاهر لا يعقل فإن حد المحرم ما ذم فاعله أو عوقب أو ما كان سببا للذم أو العقاب أو ما استحق به ذما أو عقابا، وهذا الفعل لم يثبت فيه شيء من هذه الخصائص، نعم وهذا القول يقوى عند من لا يرى التحريم والتحليل يوجب إلا مجرد نسبة وإضافة تثبت للفعل لتعلق الخطاب به، وهذا أيضا قول من يقول كل مجتهد مصيب باطنا وظاهرا، ثم إن كان قد استحله بناء على إمارة شرعية قالوا هو حلال باطنا وظاهرا حلا شرعيا، وإن استحله لعدم المحرم قالوا ليس بحرام باطنا ولا ظاهرا، ولم يقولوا هو حلال، وأما أكثر الفقهاء والمتكلمين فيقولون إنه حرام عليه في الباطن، لكن عدم التحريم منع من الذم والعقاب لفوات شرط الذم والعقاب الذي هو العلم، وتخلف المقتضي عن المقتضى لفوات شرط أو وجود مانع لا يقدح في كونه مقتضيا، وهذا ينبني على حكم العلة إذا تخلف عنها لفوات شرط أو وجود مانع هل يقدح في كونها علة ويؤخذ من الشرط وعدم المانع قيود تضم إلى تلك الأوصاف فيجعل الجميع علة ولكن يضاف التخلف إلى المانع وفوات الشرط .

المسلك الخامس: أن الله سبحانه قال بعد قوله الطلاق مرتان وبعد ذكر الخلع: { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره }، ونكاح المحلل والمتعة ليس بنكاح عند الإطلاق، وليس المحلل والمتمتع بزوج، وذلك ; لأن النكاح في اللغة الجمع والضم على أتم الوجوه، فإن كان اجتماعا بالأبدان فهو الإيلاج الذي ليس بعده غاية في اجتماع البدنين، وإن كان اجتماعا بالعقود فهو الجمع بينهما على وجه الدوام واللزوم، ولهذا يقولون استنكحه المذي إذا لازمه وداومه، يدل على ذلك أن ابن عباس سئل عن المتعة وكان يبيحها أنكاح هي أم سفاح فقال ليست بنكاح ولا سفاح ولكنها متعة، فأخبر عمر رضي الله عنه أنها ليست بنكاح لما لم يكن مقصودها الدوام واللزوم، ولهذا لم يكن يثبت فيها أحكام النكاح المختصة بالعقد من الطلاق والعدة والميراث وإنما كان يثبت فيها أحكام الوطء وكذلك قال غير ابن عباس مثل ابن مسعود وغيره من الصحابة والتابعين نسخ المتعة النكاح والطلاق والعدة والميراث فإذا كان المستمتع الذي له قصد في الاستمتاع بها إلى أجل ليس بناكح حيث لم يقصد دوام الاستمتاع ولزومه، فالمحلل الذي لم يقصد شيئا من ذلك، أولى أن لا يكون ناكحا وقوله بعد هذا نكحت أو تزوجت وهو يقصد أن يطلقها بعد ساعة أو ساعتين، وليس له فيها غرض أن تدوم معه ولا تبقى، كذب منه وخداع، وكذلك قول الولي له زوجتك أو أنكحتك وقد شارطه أنه يطلقها إذا وطئها، وهذا هو المعنى الذي ذكره ابن عمر رضي الله عنه حين سئل عن تحليل المرأة لزوجها فقال، ذلك السفاح لو أدرككم عمر لنكل بكم، وقال لا يزالان زانيين وإن مكثا عشرين سنة، إذا علم الله أنهما أرادا أن يحلها له، وهو معنى قول عمر لو أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما، وبين هذا أن الزوج المطلق في الخطاب إنما يعقل منه الرجل الذي يقصد مقامه ودوامه مع المرأة، بحيث نرضى مصاهرته وتعتبر كفاءته وتطيق المرأة ووليها أن يملكها، وهذا المحلل الذي جيء به للتحليل ليس بزوج وإنما هو تيس استعير لضرابه، والله عز وجل قد علم من المرأة ووليها أنهم لا يرضونه زوجا فإذا أظهروا في العقد قولهم زوجناك وأنكحناك وهم غير راضين بكونه زوجا، كان هذا خداعا واستهزاء بآيات الله سبحانه، يؤيد هذا: أن الله سبحانه حرم هذه المطلقة حتى تنكح زوجا غيره، والنكاح

المفهوم في عرف أهل الخطاب إنما هو نكاح الرغبة، لا يعقلون عند الإطلاق إلا هذا، ولو أن الرجل قال لابنه اذهب فانكح فصار محللا لعده أهل العرف غير ممتثل لأمر أبيه، وإنما يسمى ما دون هذا نكاحا بالتقييد، مثل أن يقال نكاح المتعة نكاح المحلل كما يقال بيع الخمر وبيع الخنزير وفرق بين ما يقتضيه مطلق اللفظ وما يقتضيه مع التقييد، والله سبحانه قد قال { حتى تنكح زوجا غيره }، ولم يرد به كل ما يسمى نكاحا مع الإطلاق أو التقييد بإجماع الأمة، فإن ذلك يدخل فيه نكاح ذوات المحارم، فلا بد أن يراد به ما يفهم من لفظ النكاح عند الإطلاق في عرف المسلمين، يقوي هذا: أن التحريم قبل هذا النكاح ثابت بلا ريب، ونكاح الرغبة رافع لهذا التحريم بالاتفاق، وأما نكاح المحلل فلم نعلمه مرادا من هذا الخطاب ولا هو مفهوم منه عند الإطلاق، فيبقى التحريم ثابتا حتى يقول الدليل على أنه نكاح مباح، ومعلوم أنه لا يمكن أحد أن يذكر نصا يحل هذا النكاح، ولم يثبت دخوله في اسم النكاح المطلق، ولا يمكن حله بالقياس، فإنه لا يلزم من حل نكاح الرغبة حل نكاح المحلل، كما لا يخفى فإن الراغب مريد للنكاح، فناسب أن يباح له ذلك، وأما المحلل فليس له غرض في النكاح، ولا إرادة فلا يلزم أن يباح له ما لا رغبة له فيه، إذ الإرادة مظنة الحاجة، فلا يلزم من إباحة الشيء للمحتاج إليه، أو لمن هو في مظنة الحاجة إليه إباحته لم يعلم من نفسه أنه لا إرادة له، ولا قصد في ذلك، بل هو راغب عنه زاهد فيه، لولا تطليق ذلك المطلق الأول وإعادتها إليه، لم يكن له غرض في أن ينكح، وحل المرأة للمطلق الأول ليس هو المقصود بالنكاح حتى يقول هذه حاجة للناكح، وإنما الحاجة هنا للمطلق، وذلك قد حرم عليه هذا، ثم إن تلك الحاجة لا تحصل بالنكاح وإنما تحصل برفعه بعد وقوعه، فلم يكن له غرض في النكاح ولا فيما هو من توابع زائل، وإنما غرضه نكاح زائل، والنكاح ليس مما يقصد بعقده الانتفاع بإزالة الملك كعقد البيع وإنما منفعته منوطة بوجوده فإذا لم يقصد به إلا أن يزيله لمنفعة الأول فليس عاقدا لشيء من مقاصد النكاح، فلا يصح إلحاقه بمن يعقد النكاح لمقاصده أو بعضها، يوضح ذلك: أن ما هو محظور في الأصل لا يباح منه إلا ما فيه منفعة، كذبح الحيوان فإنه قبل القتل محرم وإنما أبيح مثله لمنفعة الأكل ونحوها، فإذا قتل لا للانتفاع به كان ذلك القتل محرما، وكذلك الإبضاع حرام قبل العقد، وإنما أبيحت بعد العقد، وأبيح العقد عليها للانتفاع بمقاصد النكاح والنفع بها فإذا عقد لغير شيء من مقاصد النكاح كان ذلك حراما عبثا، وإن كان قد قصد بهذا تحليلها لمن حرمت عليه، فإن التحليل فرع لزوال النكاح، وزوال النكاح فرع لحصول النكاح، والنكاح فرع لإرادة مقاصده، فإذا جعل مقصوده التحليل الذي هو فرع فرعه صار فرع فرع الفرعي أصلا، وصار هذا كرجل قال لامرأته أنت علي كظهر أمي حتى تذبح هذه الشاة، أو آلى من امرأته حتى تذبح هذه الشاة، فقام هو أو غيره فذبحها لغير الأكل ولم يقصد بها التذكية المبيحة للحم، وإنما قصد مجرد حل اليمين، فإن هذا الذبح لا يبيح اللحم ; لأن الذبح إنما أباحه الشارع لمقصود حل اللحم، ثم قد يحصل في ضمن ذلك حل يمين وغيرها، فإن فات ذلك المقصود لم يثبت الحل بحال وإن قصد شيء آخر كذلك هذا النكاح له مقصود فإذا لم يقصد كان الفرج حراما وإن قصد باستحلال الفرج شيء آخر، وقد سوى الله سبحانه بين الفروج والذبائح في قوله تعالى: { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب }، وكذلك سوت السنة والإجماع القديم بينهما في تحريمهما من المجوس ونحوهم، وفي الاحتياط فيهما إذا اشتبه مباح أحدهما بمحظوره أو اشتبه السبب المبيح بغيره، أو اختلط كما دل عليه حديث عدي بن حاتم وغيره، بل مسألة التحليل أقبح من هذا فإن الذبائح هنا يمكنه أن يقصد الذبح المشروع، ويحصل في ضمنه حل اليمين، وحيث لم تقصد التذكية المبيحة فلم يقصد بالذبح أن يزيل التذكية بعد هذا، والمحلل لم يقصد شيئا من مقاصد النكاح، بل قصد رفع النكاح وإزالته، يقرر هذا أن الله سبحانه أطلق النكاح في هذه الآية وفسره رسول الله المبين مراده بأن النكاح التام الذي يحصل فيه مقصود النكاح، وهو الجماع المتضمن ذوق العسيلة فعلم أنه لم يكتف بمجرد ما يسمى نكاحا مع التقييد، وإنما أراد ما هو النكاح المعروف، الذي يفهم عند الإطلاق، وذلك إنما هو نكاح الرغبة المتضمن ذوق العسيلة، وهذا بين إن شاء الله تعالى، وإذا ثبت أن هذا ليس بنكاح ثبت أنه حرام ; لأن الفرج حرام إلا بنكاح أو ملك يمين، وثبت أنها لا تحل للمطلق إذ الله حرمها عليه حتى تنكح زوجا غيره .

المسلك الحادي عشر أن الله سبحانه حرم المطلقة ثلاثا حتى تنكح زوجا غيره، ومعلوم أن الله سبحانه إنما حرم ذلك لاشتمال هذا التحريم على مصلحة لعباده، وحصول مفسدة في حلها له بدون الزوج الثاني، وابتلاء وامتحانا لهم ليميز من يطيعه ممن يعصيه، وقد قيل كان الطلاق في الجاهلية من غير عدد كلما شاء الرجل طلق المرأة ثم راجعها فقصر الله الأزواج على ثلاث تطليقات ليكف الناس عن الطلاق إلا عند الضرورة فإذا علم الرجل أن المرأة تحرم عليه بالطلاق كف عن ذلك، إلا إذا كان زاهدا في المرأة، فإذا كان هذا التحريم يزول بأن يرغب إلى بعض الأراذل في أن يطأ المرأة ويعطي شيئا على ذلك، كان زوال هذا التحريم من أيسر الأشياء، فما أكثر من يريد أن يطأ ويبذل، فكيف إذا أعطي على ذلك جعلا، ولهذا قال : { لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلون محارم الله بأدنى الحيل }، فإن أدنى الحيلة من الحيل يمكن استحلال المحارم بها، وإذا كان التحريم المتضمن لجلب مصالح خلقه ودفع المفاسد عنهم يزول بأدنى سعي غير مقصود، لم يكن فيه كبير فائدة ولا مصلحة، وكان إلى اللعب أقرب منه إلى الجد كما تقدم تقرير ذلك في الأدلة العامة، فإذا قيل: إن هذا حلال كان حقيقته أن المرأة تحرم على زوجها حتى ينزل عليها فحل من الفحول، وإن لم يكن له رغبة في نكاحها بل يعطى على ذلك جعلا، لكن لا بد أن يظهر صورة العقد والتزام المهر، والأعمال بالنيات فيكون قائل هذا قد ادعى أن الله حرم المطلقة ثلاثا حتى توطأ وطئا شبيها بالزنا بل هو زنا، فإن هذا معناه معنى الزنا إذ الزاني هو من يريد وطء المرأة، بدون النكاح الذي هو النكاح، ولهذا قال ابن عمر رضي الله عنهما وقد سئل عن التحليل، هو السفاح لو أدرككم عمر لنكلكم، وفي رواية عنه { كنا نعده على عهد رسول الله سفاحا }، وقال عمر رضي الله عنه لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما وشبهه النبي بالتيس المستعار إذ المقصود وطؤه لا ملكه، كذلك هذا المحلل إنما يقصد منه الوطء المجرد لا أحكام العقد الذي هو الملك، ولما رأى كثير من أهل الكتاب أن بعض المسلمين يقول إن المطلقة تحرم حتى توطأ على هذا الوجه، وقد رأى أن معنى هذا معنى الزنا، وحسب أن هذا من الدين المأخوذ عن رسول الله أو تجاهل بإظهار ذلك أخذ يعير المسلمين بهذا ويقول، إن دينهم أن المطلقة تحرم حتى تزني فإذا زنت حلت، ذكر ذلك أبو يعقوب الجوزجاني وبعض المالكية وغيرهم حتى اعتمد بعض أعداء الله النصارى فيما يهجو به شرائع الإسلام على مسألة التحليل، وأخذ ينفر أهل دينه عن الإسلام بالتشنيع بها، ولم يعلم عدو الله أن هذا لا أصل له في الدين ولا هو مأخوذ عن السابقين، ولا عن التابعين لهم بإحسان، بل قد حرمه الله ورسوله، قال أبو يعقوب الجوزجاني وأقول إن الإسلام دين الله الذي اختاره واصطفاه وطهره، وهو حقيق بالتوقير والصيانة من علة تشينه، وأن ينزه عما أصبح أمناء الملل من أهل الذمة، يعيرون به المسلمين على ما تقدم فيه من النهي عن رسول الله ، وبالجملة: فهذا بين لمن تأمل وأنصف فإن دين الله أزكى وأطهر من أن يحرم فرجا من الفروج حتى يستعار له من تيس من التيوس، لا يرغب في نكاحه ولا في مصاهرته ولا يرغب بقاؤه مع المرأة أصلا فينزو عليها وتحل بذلك، فإن هذا بالسفاح أشبه منه بالنكاح، بل هو سفاح وزنا كما سماه أصحاب رسول الله فكيف يكون الحرام محللا ؟ أم كيف يكون الخبيث مطيبا ؟ أو كيف يكون النجس مطهرا، ؟ وغير خاف على من شرح الله صدره للإسلام ونور قلبه بالإيمان أن هذا من أقبح القبائح التي لا تأتي بها سياسة عاقل فضلا عن شرائع الأنبياء لا سيما أفضل الشرائع وأشرف المناهج والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم من أن يشرع مثل هذا ولما رأت القلوب السليمة والفطر المستقيمة أن حقيقة هذا حقيقة السفاح لا النكاح، لم تلق له بالا فصار يتولد من فعل هذا من المفاسد أضعاف مفاسد المتعة .

المسلك السادس أنه سبحانه قال: { فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون }، يعني فإن طلقها هذا الزوج الثاني الذي نكحته فلا جناح عليهما، وعلى المطلق الأول أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله، وحرف إن في لسان العرب لما يمكن وقوعه وعدم وقوعه، فأما ما يقع لازما أو غالبا فيقولون فيه إذا فإنهم يقولون إذا احمر البسر فائتني ولا يقولون إن احمر البسر ; لأن احمراره واقع فلما قال فإن طلقها علم أن ذلك النكاح المتقدم نكاح يقع فيه الطلاق تارة ولا يقع أخرى، ونكاح المحلل يقع فيه الطلاق لازما أو غالبا، وإنما يقال في مثله فإذا طلقها ولا يقال فالآية عمت كل نكاح، فلهذا قيل فإن طلقها إذ من الناكحين أن يطلق ومنهم من لا يطلق، وإن كان غالب المحللين يطلق ; لأنا نقول لو أراد سبحانه ذلك لقال فإن فارقها ; لأنه قد يموت عنها، وقد تفارقه بانفساخ النكاح بحدوث مهر أو رضاع أو لعان أو بفسخه لعسرة أو غيرها فتحل، لكن هذه الأشياء ليست بيد الزوج وإنما بيده الطلاق خاصة، فهو الذي إذا قيل فيه إن طلق حلت للأول، دل على أن النكاح نكاح رغبة قد يقع فيه الطلاق وقد لا يقع، لا نكاح دلسة يستلزم وقوع الطلاق إلا نادرا، ولو قيل فإن فارقها دل ذلك على أن النكاح تقع فيه الفرقة تارة ولا تقع أخرى، ومعلوم أن نكاح الرغبة والدلسة بهذه المثابة، فيشبه - والله أعلم - أن يكون إنما عدل عن لفظ فارق إلى لفظ طلق للإيذان بأنه نكاح قد يكون فيه الطلاق، لا نكاح معقود لوقوع الطلاق، يؤيد هذا: أن لفظة الفراق أعم فائدة وبه جاء القرآن في مثل قوله سبحانه: { فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف } فلو لم يكن في لفظ الطلاق خصيصة لكان ذكره أولى، وما ذكرناه فائدة مناسبة يتبين بملاحظتها كمال موضع الخطاب، يبين هذا: أن الغاية المؤقتة بحرف حتى تدخل في حكم المحدود المغيا لا نعلم بين أهل اللغة خلافا فيه، وإنما اختلف الناس في الغاية المؤقتة بحرف إلى ولهذا قالوا في قولهم أكلت السمكة حتى رأسها وقدم الحاج حتى الشاة وغير ذلك أن الغايات داخلة في حكم ما قبلها فقوله سبحانه: { فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } يقتضي أنها لا تحل له حتى توجد الغاية التي هي نكاح زوج غيره، وأن هذه الغاية إذا وجدت انتهى ذلك التحريم المحدود إليها، وانقضى، وهذا القدر وحده كاف في بيان حلها للأول إذا فارقها الثاني بموت أو فسخ أو طلاق ; لأنه إذا نكحها زوج غيره فقد زال التحريم الذي كان وجد بالطلقات الثلاث، وبقيت كسائر المحصنات فيها تحريم آخر من غير جهة الطلاق، فإذا زال هذا التحريم بالفرقة لم يبق فيها واحد من التحريمين، فتعود كما كانت، أو أنه أريد بنكاح زوج غيره، مجموع مدة النكاح بناء على أن النكاح اسم لمجموع ذلك، كما يقال لا أكلمك حتى تصلي، فإن كان المراد هذا كان التقدير أنها لا تحل له إلا بعد انقضاء نكاح زوج غيره، ومعناه كمعنى الأول، فلما قيل بعد هذا فإن طلقها فلا بد أن يكون فيه فائدة جديدة غير بيان توقف الحل على الطلاق، وهو - والله أعلم - التنبيه على أن ذلك الزوج موصوف بجواز التطليق، وعدم جوازه أعني وقوعه تارة وعدم وقوعه أخرى، وإذا أردت وضوح ذلك فتأمل قوله سبحانه: { ولا تقربوهن حتى يطهرن } { فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله } لما كان التطهير فعلا مقصودا جيء فيه بحرف التوقيت ; ولما كان الطلاق هنا غير مقصود جيء فيه بحرف التعليق، فلو كان نكاح المحلل ما يدخل في قوله حتى تنكح لكان هو الغالب على نكاح المطلقات، وكان الطلاق فيه مقصودا فكان بمنزلة تلك الآية، لكن لما لم يكن كذلك فرق الله بينهما في تلك الآية، إلا أنه لما توقف الحل على شرطين قال: { ولا تقربوهن حتى يطهرن }، فبين أن ذلك التحريم الثابت بفعل الله زال بوجود الطهر، ثم بقي نوع آخر أخف منه، يمكن زواله بفعل الآدمي بين حكمه بقوله: { فإذا تطهرن فأتوهن }، وهنا لم يرد بقوله فإن طلقها بيان توقف الحل على طلاقها ; لأن ذلك معلوم قد بينه بقوله في المحرمات { والمحصنات من النساء } ; ولأن الطلاق ليس هو الشرط وإنما الشرط أي فرقة حصلت ولأن الطلاق وحده لا يكفي في الحل حتى تنقضي عدة المطلق، وعلم الأئمة بأن المتزوجة لا تحل أظهر من علمهم بأن المعتدة لا تحل، فلو أريد هذا المعنى لكان ذكره العدة أوكد، فظهر أنه لا بد من فائدة في ذكر هذا الشرط، ثم في تخصيص الطلاق، ثم ذكره بحرف إن وما ذاك - والله أعلم - إلا لبيان أن النكاح المتقدم المشروط هو الذي يصح أن يقال فيه، فإن طلقها ونكاح المحلل ليس كذلك والله أعلم .

المسلك الثاني عشر وهذا هو المسلك الثاني عشر وهو أن جواز التحليل قد أفضى إلى مفاسد كثيرة وصار مظنة لها ولما هو أكبر منها، وهو أن بعض التيوس المستعارة صار يحلل الأم وبنتها على ما أخبرني به من صدقته ; لأنه قد نصب نفسه لهذا السفاح، فلا يميز من المنكوحة ولا له غرض في المصاهرة حتى يجتنب ما حرمته، ومنها: أنه يجمع ماءه في أكثر من أربع نسوة بل أكثر من عشر وهو ما أجمع الصحابة على تحريمه، كما رواه عبيدة السلماني وغيره وأجمع المسلمون على أنه لا يجوز إذا كان الطلاق رجعيا، ومنها: أن كثيرا ما يتواطؤ هو والمرأة على أن لا يطأها إذ ليس له رغبة في ذلك، والمرأة لا تعده زوجا فتنكشف أو تستحي أو تهاب أن تمكنه من نفسها لاستشعارها أنه لم يتخذ زوجا، ومنها: أنه غالبا لا يكون كفئا للمرأة ونكاح المرأة من غير كفء مكروه أو مشروط فيه رضا الأولياء، أو باطل وغالبا لا يراعى فيه شيء من ذلك، ومنها: أن المطلقين لما ألقي إليهم خفة مئونة الطلاق المحرم، إذا كان التحريم يزول بتيس يعطي ثلاثة دراهم أو أقل أو أكثر، حتى لقد بلغني ممن صدقته أن بعض التيوس طلب أكثر ما بذل له، فقالت له المرأة وأي شيء تريد فعلت وأخذت سامح الناس في ذلك، حتى ربما كتم الزوج الطلاق وحللها بدون إذن الولي لعلمه بأن الولي لا يزوجها من ذلك الرجل، ونكاح المرأة من غير كفء بدون إذن الولي من أبطل النكاح وأعظمه مراغمة للشريعة ومما آل به استخفاف شأن التحليل أن الأمر أفضى إلى أن صار كثير من الناس يحسب أن مجرد وطء الذكر مبيح حتى اعتقدوا أنها إذا ولدت ذكرا حلت، واعتقد بعضهم أنه إذا وطئها بقدمه حلت، واعتقد بعضهم أنه إذا صب دهنا فوق رأسها حلت كأنهم شبهوه بصب المني، حدثني بهذه الأشياء من له خبرة بهذه الأشياء من النساء اللواتي تفضي النساء إليهن أسرارهن، وحله بالأول مستقر في نفوس كثير من الجهال، حتى بلغني أن الشيخ أبا حكيم النهرواني صاحب أبي الخطاب حضر حلقة شيخ نبيل الصورة فأكرمه، وسأل الشيخ أبو حكيم عن المطلقة ثلاثا إذا ولدت ولدا ذكرا هل تحل فقال لا، فقال له الشيخ أنا أفتي أنها تحل من البصرة إلى هنا فقال له الشيخ أبو حكيم ما زلت تفتي بغير دين الإسلام، أو كما قال، فانظر إلى هذه الفضائح التي فيها انهدام شريعة الإسلام عند كثير من العامة، أصلها والله أعلم ما ألقي إليهم ابتداء من أن المطلقة ثلاثا تحل بنكاح خارج عن النكاح المعروف، وإلا فلو أن المطلقة لا تنكح إلا كما تنكح المرأة ابتداء لم يشتبه النكاح الذي هو النكاح بشيء من هذه القبائح كاشتباه التحليل به، ومن مفاسده أن المرأة المطلقة إذا لم تنكح التيس نكاح رغبة لم يكن لها غرض في الولادة منه، ولا في أن يبقى بينهما علاقة، فربما قتلت الولد بل لعل هذا أوقع كثيرا ودائما وكثير منهن يستطيل العدة فإما أن تكذب أو تكتم، وما ذاك إلا ; لأنه يتوالى عليها عدتان ليس بينهما نكاح وهي شديدة الرغبة في العودة إلى الأول، ولو أنها ألقي إليها اليأس من العود إلى الأول، إلا بعد نكاح تام كالنكاح المبتدإ لم يكن شيء من هذا، ومن ذاك ما بلغني أن رجلا ترك من حلل امرأة في بيته فلما خرج دعته نفسه إلى أن راود المرأة عن نفسها وقال إن الحل لا يتم إلا برجلين، وما ذاك إلا لأنه رأى غيره قد أتى بالسفاح دعته نفسه إلى التشبه به إذ النفوس مجبولة على التشبه، ولو أن ذلك الرجل أحصن فرج المرأة ونكحها نكاح المسلمين لم يحدث هذا نفسه بالتشبه به في تلك المرأة .

فصل وقد أخرج الشيطان للتحليل حيلة أخرى وهي أن يزوجها الرجل المطلق من عبده بنية أن يبيعه منها أو يهبه لها، فإذا وطئها العبد باعها ذلك العبد أو بعضه أو وهبها ذلك والمرأة إذا ملكت زوجها أو شقصا منه انفسخ النكاح، والمخادعون يؤثرون هذه الحيلة لشيئين: أحدهما: أن الفرقة هنا تكون بيد الزوج المطلق أو الزوجة، فلا يتمكن الزوج من الامتناع من الفرقة، بخلاف الصورة الأولى فإنه قد يمتنع من الطلاق، فيمكنه ذلك على القول بصحة النكاح، الثاني: زعموا أنه أستر لهما من إدخال أجنبي على المرأة، فإن إيطاء عبده ليس كإيطاء من يساميه في الحرية، ثم ذهب بعد الشذوذ إلى أن وطء الصغير الذي لا يجامع مثله يحلها، فإذا انضم إلى ذلك أنه يجبره على النكاح صار بيد المطلق العقد والفسخ من غير ما يعارضه، وإن كان كبيرا فمنهم من يجبره على النكاح فيصير بيد السيد العقد والفسخ أيضا، وجعل بعض أصحابنا في هذه الصورة أعني فيما إذا زوجها من عبده الكبير احتمالا ; لأن الزوج لم ينو التحليل وإنما نواه غيره، والعبرة في التحليل بنية الزوج لا بنية غيره، وهذه الصورة أبلغ في المخادعة لله تبارك وتعالى والاستهزاء بآيات الله والتلاعب بحدود الله، فإنه هناك كان المحلل هو الذي بيده الفرقة لا بيد غيره، وهنا جعلت الفرقة بيد المطلق والمرأة، لا سيما إن كانت الزوجة تحت حجر الزوج بأن يكون وصيا لها، فيرى أن يهبها العبد ويقبله هو أو يبيعها إياه إن كان ممن يستحل أن يبيع الوصي لليتيم، فإن من فتح باب المخادعة لم يقف عند حد يتعدى ما أمكنه من حدود الله، وينتهك ما استطاع من محارم الله، فإنه في مثل هذه الصورة يبقى المطلق مستقلا بفسخ النكاح، ثم إنه من المعلوم أن العبد لا يمكنه النكاح الصحيح إلا بإذن سيده، فإذا أذن السيد له في النكاح ومن نية هذا السيد أن يفسخ نكاحه كان الزوج أيضا مخدوعا ممكورا به، حيث أذن له في نكاح باشره وليس القصد به نكاحا، وإنما القصد به سفاح، فهناك إنما وقعت المخادعة في حق الله فقط، وهنا وقعت المخادعة في حق الله وحق آدمي وهذا هو الزوج، واللعنة التي وجبت هناك على المحلل والمحلل له يصير كلتاهما هنا على المطلق وهو المحلل له وعلى الزوجة فيقتسمان لعنة المحلل، وينفرد المطلق بلعنة المحلل له أو تشركه المرأة فيها، ومن أسرار الحديث أنه يعم هذا لفظا كما يعمه معنى، فإن العطف قد يكون للتغاير في الصفات كما يكون للتغاير في الذوات، فيقال لهذا لعن الله المحلل والمحلل له وإن كانا وصفين لشيء واحد، فلهذا قلنا هذا أغلظ في التحريم، حيث اجتمع عليه لعنتان، فإن كان هذا العبد قد واطأهم أخذ بنصيبه من اللعنة من غير أن ينقص من نصيب السيد شيئا ; لأن عقد التحليل إنما تم برضاه ورضا السيد، كما لو كان المحلل عبدا لغير المطلق، فإنه إذا حلل بإذن السيد حقت اللعنة عليهما، ويزيده قبحا أن الزوج هنا عبد ليس بكفء ونكاحه إما منقوص أو باطل على ما فيه من الاختلاف، ومن يصححه فمنهم من يشترط رضا جميع الأولياء، ثم اعلم أن التحليل بالعبد قد يكون من غير المطلق بل من صديق له يزوجها بعبده، ويواطئها على أن يملكها إياه، فإن لم يعلم الزوج المطلق بذلك فهو كما لو اعتقد الزوج التحليل هناك وعلمت به المرأة دون المطلق، وإن علم فهو كما لو علم هناك، وكما ذكرناه من الأدلة على التحليل فهي حاصلة هنا، فإن قول النبي { لعن الله المحلل }، وإن كان الغالب إنما يقصد به الزوج فالسيد هنا بمنزلته واللفظ يشمله، وإن كان النبي لم يقصده بلفظ المحلل فلا ريب أنه في معناه وأولى ونظير هذا أن يزوجها رجل بعبده الصغير أو ابنه الصغير أو المجنون، بقصد أن يطلق عليهما عند من يقول إن له أن يطلق على عبده وابنه الصغيرين أو المجنونين، أو بنية أن يخلعها منه، بأن يواطئها أو يواطئ غيرها على الخلع، فإن جواز الخلع لولي الصبي والمجنون أقوى من جواز الطلاق، ونظير هذا أن يعقد ولي الصبي والمجنون له عقود حيل من بيع أو إجارة أو قرض، فإن الحيل التي يحتالها الولي لليتيم في ماله بمنزلة ما يحتاله المرء في مال نفسه، وقريب منه إذا أذن السيد لعبده في معاملات من الحيل، فإنه بمنزلة أن يعامل السيد نفسه تلك المعاملة، حيث حصل غرضه بفعل عبده، كحصوله بفعل نفسه، والاحتمال الذي جعل في مذهبنا غير محتمل أصلا فإن قوله المعتبر في التحليل بنية الزوج كلام غير سديد فمن الذي سلم ذلك، أو ما الذي دل على ذلك بل المعتبر نية من يملك فرقة بقول أو فعل، فإن التحليل دائر مع ذلك، وإذا كان الزوج الذي يقصد التحليل ملعونا، فالذي يقصد أن يحلل بالزوج ويفسخ نكاحه أولى أن يكون ملعونا، فإنه يخادع الله ورسوله وعبده المؤمن، وهو نظير الرجل يقدم إلى العطشاء الماء فإذا شرب منه قطرة انتزعه من فيه، ولو أن السيد أنكح عبده نكاحا يقصد به أن يفرق بينهما بعد يوم من غير تحليل لكان خادعا له ماكرا به ملعونا، فكيف إذا قصد مع ذلك التحليل، واعلم أن التحليل هنا لا يتم إلا بأن يتواطأ السيد المطلق أو غيره مع المرأة على أن يملكها الزوج، أو يعلم أن حال المرأة تقتضي أنه إذا عرض عليها ملك الزوج لينفسخ النكاح ملكته، فإنا قد ذكرنا أن العرف في الشروط كاللفظ، فأما لو لم يكن للمرأة رغبة في العود إلى المطلق، ولا هي ممن يغلب على الظن ملكها للعبد إذا عرض عليها فهنا نية السيد وحده نية من لا فرقة بيده، ثم العبد إذا لم يعلم بما تواطأ عليه الزوجان، يكون كالمرأة إذا لم تعلم بنية الزوج التحليل لا إثم عليه، فإن علم ووافق فهو آثم وعلى التقديرين فنكاحه باطل ; لأن إذن السيد شرط في صحة النكاح، والسيد إنما أذن في نكاح تحليل لا في نكاح صحيح، فيكون النكاح الذي أجازه الشرع وقصده العبد لم يأذن فيه السيد، والذي أذن فيه السيد لم يجزه الشرع ثم إن أخبر العبد فيما بعد بما تواطأ عليه الزوجان وغلب على ظنه أن الأمر كذلك لم يحل له المقام على هذا النكاح لكن لا يقبل قول السيد وحده في إبطال نكاحه، وسائر الفروع التي ذكرناها في نية الزوج بالنسبة إلى المرأة تجيء في نية الزوجين بالنسبة إلى العبد والله أعلم .

الوجه الثاني: أن القصد لا يقدح في اقتضاء السبب حكمه ; لأنه وراء ما يتم به العقد، فيصير كما لو اشترى عصيرا ومن نيته أن يتخذه خمرا أو جارية ومن نيته أن يكرهها على البغاء أو يجعلها مغنية قنية أو سلاحا ومن نيته أن يقتل به معصوما، فكل ذلك لا أثر له من جهة أنه منقطع عن السبب، فلا يخرج المسبب عن اقتضاء حكمه، وبهذا يظهر الفرق بين هذا القصد وبين الإكراه، فإن الرضا شرط في صحة العقد، والإكراه ينافي الرضا، وبه يظهر الفرق بينه وبين الشروط المقترنة، فإنها تقدح في مقصود العقود وصاحب هذا الوجه يقول هب أنه قصد محرما لكن ذلك لا يمنع ثبوت الملك كما ذكرناه، وكما لو تزوجها ليضارها أو ليضار زوجة له أخرى، الوجه الثالث: أن النية إنما تعلم في اللفظ المحتمل، مثل أن يقول اشتريت هذا فإنه متردد بين الاشتراء له أو لموكله، وإذا نوى أحدهما صح، واللفظ هنا صريح في المقصود الصحيح، والنية الباطنة لا أثر لها في مقتضيات الأسباب الظاهرة، الوجه الرابع: أن النية إما أن تكون بمنزلة الشروط أو لا تكون، فإن كانت بمنزلة الشرط لزم أنه إذا نوى أن لا يبيع المشترى ولا يهبه ولا يخرجه عن ملكه، أو نوى أن يخرجه عن ملكه أو نوى أن لا يطلق الزوجة أو أن يبيت عندها كل ليلة أو لا يسافر عنها بمنزلة أن يشترط ذلك في العقد وهو خلاف الإجماع، وإن لم تكن بمنزلة الشرط فلا تأثير لها حينئذ وهذا عمدة بعض الفقهاء، الوجه الخامس: أنا إنما أمرنا أن نحكم بالظاهر والله عز وجل يتولى السرائر فهذه خلاصة ما قيل في هذه المسألة ولولا أنه كلام يخيل لمن لا فقه له حقيقة لكان الإضراب عنه أولى، فإنه كلام مبناه على دعاوى محضة لم يعضد بحجة، فنقول في الجواب: لا نسلم أن هذا تصرف شرعي ولا نسلم وجود الإيجاب والقبول، وذلك لأن الإيجاب والقبول إن عنى به مجرد اللفظ فيجب أن يقيد حكمه، وإن صدر عن معتوه أو مكره أو نائم أو أعجمي لا يفقهه، وإن عنى به اللفظ المقصود لم يخرج عن المكره ; لأنه قصد اللفظ أيضا، ثم لا نسلم أن هذا بمجرد تصرف شرعي ولا إيجاب ولا قبول، بل اللفظ المراد به خلاف معناه مكر وخداع وتدلس ونفاق، فإن كان من الألفاظ الشرعية فالتكلم به بدون معناه استهزاء بآيات الله سبحانه وتلاعب بحدوده ومخادعة الله ورسوله كما تقدم تقريره، وإن عنى بالسبب اللفظ الذي يقصد به معناه الذي وضع اللفظ له في الشرع، سواء كان المعنى اللغوي مقررا أو مغيرا، أو عنى به اللفظ لم يقصد به ما يخالف معناه، أو اللفظ الذي قصد معناه حقيقة أو حكما، وذكرنا هذين ليدخل فيهما الهازل، فهذا صحيح لكن هذا حجة لنا ; لأن المحلل إذا قال تزوجت فلانة وهو لا يقصد إلا أن يطلقها ليحلها فلم يقصد بلفظ التزوج المعنى الذي جعل له في الشرع ; لأننا نعلم أن هذا اللفظ لم يقع في الشرع ولا في العرف ولا في اللغة لمن قصده رد المطلقة إلى زوجها وليس له قصد في النكاح الذي هو النكاح، ولا في شيء من توابعه حقيقة ولا حكما، فإن النكاح مقصوده الاستمتاع والصلة والعشرة والصحبة، بل هو أعلى درجات الصحبة، فمن ليس قصده أن يصحب ولا يستمتع ولا أن يواصل ويعاشر بل أن يفارق لتعود إلى غيره فهو كاذب في قوله تزوجت بإظهاره خلاف ما في قلبه، وإنما هو بمنزلة من قال لرجل وكلتك أو شاركتك أو ضاربتك أو ساقيتك، وهو يقصد رفع هذا العقد وفسخه ليس له غرض في شيء من مقاصد هذه العقود، فإنه كاذب في هذا القول بمنزلة قول المنافقين نشهد إنك لرسول الله وقولهم آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين، فإن هذه الصيغ إخبارات عما في النفس من المعاني التي هي أصل العقود، ومبدأ الكلام والحقيقة التي بها يصير اللفظ قولا، ثم إنها إنما تتم قولا وكلاما باللفظ المقترن بذلك المعنى، فتصير الصيغ إنشاءات للعقود، والتصرفات من حيث إنها هي التي أثبتت الحكم وبها تم، وهي إخبارات من حيث دلالتها على المعاني التي في النفس، فهي تشبه في اللفظ أحببت وأبغضت وأردت وكرهت، وهي تشبه في المعنى قم واقعد، وهذه الأقوال إنما تفيد الأحكام إذا قصد المتكلم بها حقيقة أو حكما ما جعلت له، أو إذا لم يقصد بها ما يناقض معناها، وهذا فيما بينه وبين الله سبحانه، وأما في الظاهر فالأمر محمول على الصحة الذي هو الأصل والغالب، وإلا لما تم تصرف، فإذا قال: بعت وتزوجت كان هذا اللفظ دليلا على أنه قصد به معناه الذي هو المقصود به، وجعله الشارع بمنزلة القاصد إذا هزل، وباللفظ والمعنى جميعا يتم الحكم، وإن كان العبرة في الحقيقة بمعنى اللفظ حتى ينعقد النكاح بالإشارة إذا تعذرت العبارة، وينعقد بالكتابة أيضا، ومعلوم أن حقيقة العقد لم يختلف وإنما اختلفت دلالته وصفته، وهذا شأن عامة أنواع الكلام، فإنه محمول على معناه المفهوم منه عند الإطلاق، لا سيما الأسماء الشرعية، أعني التي علق الشارع بها أحكاما، فإن المتكلم عليه أن يقصد تلك المعاني الشرعية، والمستمع عليه أن يحملها على تلك المعاني، فإن فرض أن المتكلم لم يقصد بها ذلك لم يضر ذلك المستمع شيئا وكان معذورا في حملها على معناها المعروف، وكان المتكلم آثما فيما بينه وبين الله تعالى، إنما يبطل الشارع معه ما نهاه عنه فإن كان لاعبا أبطل لعبه وجعله جادا وإن كان مخادعا أبطل خداعه، فلم يحصل له موجب ذلك القول عند الله ولا شيء منه كالمنافق الذي قال أشهد أن محمدا رسول الله وقلبه لا يطابق لسانه، وتحرير هذا الموضع يقطع مادة الشغب فإن لفظ الإنكاح والتزويج موضوعهما ومفهومهما شرعا وعرفا نكاح وانضمام وازدواج، موجبه التأبيد إلا لمانع وحقيقته نكاح مؤبد يقبل الانقطاع أو القطع، ليس مفهومهما وموضوعهما نكاحا يقصد به رفعه ووصلا المطلوب منه قطعه، وفرق بين اتصال يقبل الانقطاع واتصال يقصد به الانقطاع وكما أن هذا المعنى ليس هو معنى اللفظ ومفهومه، فلا يجوز أن يراد به أصلا ولا يجوز أن يكون موضوعا له حقيقة ولا مجازا بخلاف استعماله في المتعة، فإنه يصح مجازا، وذلك ; لأن اللفظ الواحد لا يجوز أن يكون موضوعا لإثبات الشيء ونفيه، على سبيل الجمع باتفاق العقلاء، وإن كان كثير منهم أو أكثرهم يحيله على سبيل البدل أيضا ; لأن الجمع بين الإثبات والنفي جمع بين النقيضين وهو محال، واللفظ لا يوضع لإرادة المحال، والنكاح هو صلة بين الزوجين يتضمن عشرة ومودة ورحمة وسكنا وازدواجا، وهو مثل الأخوة والصحبة والموالاة ونحو ذلك من الصلات التي تقتضي رغبة كل واحد من المتواصلين في الآخر، بل هو من أوكد الصلات فإن صلاح الخلق وبقاءه لا يتم إلا بهذه الصلة، بخلاف تلك الصلات فإنها مكملات للمصالح، فإذا كان مقصود الزوج حين عقده فسخه ورفعه صار قوله تزوجت معناه قصدت أن أصل إلى قطع وأوالي لا أعادي وأحب لا أبغض، ومعلوم أن من قصد القطع والمعاداة والبغض لم يقصد الوصل والموالاة والمحبة، فلا يكون اللفظ دالا على شيء من معناه إلا على جهة التهكم والتشبه في الصورة، بخلاف نكاح المتعة فإن غرضه وصل إلى حين وهذا نوع وصل مقصود فجاز أن يراد باللفظ، ثم إن الشارع جعل موجب اللفظ هو الوصل المؤبد، ومنع التوقيت لما أنه يخل بمقاصد النكاح، ويشبه الإجارة والسفاح فكيف بالتحليل، فالمنع من دلالة هذا اللفظ على المتعة شرعي، ولهذا جاز ورود الشرع بإباحة نكاح المتعة، والمنع من دلالته على التحليل عقلي، ولهذا لم يرد به الشرع بل لعن فاعله، فهذا يبين فقه المسألة ويبين أن القول بجواز مثل هذا النكاح في غاية الفساد والمناقضة للشرع والعقل واللغة والعرف، وأنه ليس له حظ من نظر ولا أثر أصلا خلاف ما ظنه بعض من لم يتفقه في الدين من أن القياس جوازه، وكان هذا اعتقاد أن الحلال والحرام فيما بين العبد وبين ربه عز وجل إنما يرتبط بمجرد لفظ يخذل به لسانه، وإن قصد بقلبه خلاف ما دل عليه لفظه بلسانه، وهذا ظن من يرى النفاق نافعا عند الله تعالى، ونظير هذا ما يذكر أن بعض الناس بلغه أنه من أخلص لله أربعين صباحا تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه، فأخلص في ظنه أربعين صباحا لينال الحكمة، فلم ينلها فشكا ذلك إلى بعض حكماء الدين فقال إنك لم تخلص لله سبحانه وإنما أخلصت للحكمة يعني أن الإخلاص لله سبحانه وتعالى إرادة وجهه فإذا حصل ذلك حصلت الحكمة تبعا، فإذا كانت الحكمة هي المقصود ابتداء لم يقع الإخلاص لله سبحانه، وإنما وقع ما يظن أنه إخلاص لله سبحانه، وكذلك قوله { ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله } فلو تواضع ليرفعه الله سبحانه لم يكن متواضعا، فإنه يكون مقصوده الرفعة، وذلك ينافي التواضع، وهكذا إذا تزوجها ليطلقها كان مقصوده هو الطلاق، فلم يكن ما يقتضيه وهو النكاح مقصودا فلم يكن اللفظ مطابقا للقصد، واعلم أن الكذب وإن كان يغلب في صيغ الأخبار وهذه صيغ إنشاء فإن الصيغ الدالة على الطلب والإرادة إذا لم يكن المتكلم بها طالبا مريدا كان عابثا مستهزئا أو ماكرا خادعا، وأن الرجل لو قال لعبده اسقني ماء وهو لا يطلبه بقلبه ولا يريده فأتاه، فقال ما طلبت ولا أردت، كان مستهزئا به كاذبا في إظهاره خلاف ما في قلبه، وإن قصد أن يجيبه ليضربه كان ماكرا خادعا، فكيف بمن يقول تزوجت ونكحت وفي قلبه أنه ليس مريدا للنكاح ولا راغبا فيه، وإنما هو مريد للإعادة إلى الأول فهو متصور بصورة المتزوج كما أن الأول متصور بصورة الآمر، وبصورة المؤمن، وبهذا ظهر الجواب عن قوله إن السبب تام، فإنها مجرد دعوى باطلة، وقوله لم يبق إلا القصد المقترن بالعقد قلنا: لا نسلم أن هنا عقدا أصلا وإنما هو صورة عقد، أما إن كانا متواطئين فلا عقد أصلا وإن كان الزوج عازما على التحليل فليس بعاقد، بل هذا القصد يمنع العقد أن يكون عقدا في الحقيقة، وإن كانت صورته صورة العقد، وقوله وذلك لا تأثير له في الأسباب الظاهرة، قلنا إن عنيت بالأسباب الظاهرة اللفظ المجرد كان التقدير أن المقاصد والنيات لا تأثير لها في الألفاظ، وبطلان هذا معلوم بالاضطرار فإن المؤثر في صفاته اللفظ وأحكامه، إنما هو عناية المتكلم وقصده وإلا فاللفظ وحده لا يقتضي شيئا، وإن عنيت بالأسباب الظاهرة الألفاظ الدوال على معان فلا ريب أن القصد يؤثر فيها أيضا ; لأنه إذا قصد بها خلاف تلك المعاني كان صاحبها مدلسا ملبسا، لكن الحكم في الظاهر يتبع الظاهر وليس القصد إشاعة الحكم بالصحة ظاهرا، وإنما الكلام في الحل فيما بينه وبين الله سبحانه، وقوله إنما نوى الطلاق وهو مملوك له بالعقد فهو كما لو نوى إخراج البيع عن ملكه وإحراقه أو إتلافه ونحو ذلك، قلنا: هذا منشأ الغلط فإن قصد الطلاق لم يناف النكاح من حيث هو قصد تصرفه في المملوك بإخراجه عن الملك ، وإنما نافاه من حيث إن قصد النكاح وقصد الطلاق لا يجتمعان، فإن النكاح معناه الاجتماع والانضمام على سبيل انتفاع كل من المجتمعين بصاحبه وألفه به وسكونه إليه، وهذا ممن ليس له قصد إلا قطع هذا الوصل وفرق هذا الجمع مع عدم الرغبة في المؤالفة، وانتفاء الغرض من المعاشرة لا يصح، والطلاق ليس هو التصرف المقصود بالملك ولا شيئا منه، وإنما هو رفع سبب الملك، فلا يقاس بتلك التصرفات وإنما ليرها من النكاح، أن يقصد بالنكاح بعض مقاصده من النفع بها أو نفعها ونحو ذلك، ونظير الطلاق أن لا يعقد البيع إلا لأن يفسخه بخيار شرط أو مجلس أو عيب أو فوات صفة أو إقالة، فهل يجوز أن يقصد بالبيع أن يفسخ بعد عقده بأحد هذه الأسباب،

المرتبة الثانية: إن تسبب إلى أن يفارقها من غير معصية غير الاختلاع، ولا خديعة توجب فراقها مثل أن تسأله أن يطلقها أو أن يخلعها، وتبذل له مالا على الفرقة أو تظهر له محبتها للأول أو بغضها المقام معه حتى يفارقها، فهذا ينبني على الانتزاع والاختلاع من الرجل، فنقول إذا كانت المرأة تخاف أن لا تقيم حدود الله جاز لها الاختلاع، وإلا نهيت عنه نهي تحريم أو تنزيه، فإن كانت لم تنو هذا الفعل إلا بعد العقد فهي كسائر المختلعات يصح الخلع ويباح أن تتزوج بغيره، هذا إذا كان مقصودها مجرد فرقته، وهنا مقصودها التزوج بغيره فتصير بمنزلة المرأة التي تختلع من زوجها لتتزوج بغيره وهذا أغلظ من غيره كما سيأتي، وإن كانت حين العقد تنوي أن تتسبب إلى الفرقة بهذه الطرق فهذه أسوأ حالا من التي حدث لها إرادة الاختلاع لتتزوج بغيره، مع استقامة الحال، فإذا كان النبي قد قال { المختلعات والمنتزعات هن المنافقات }، فالتي تختلع لتتزوج بغيره، لا لكراهته أشد وأشد، ومن كانت من حين العقد تريد أن تختلع وتنتزع لتتزوج بغيره، فهي أولى بالذم والعقوبة ; لأن هذه غارة للرجل مدلسة عليه، ولو علم أنها تريد أن تتسبب في فرقته لم يتزوجها، فكيف إذا علم أن غرضها أن تتزوج بغيره، بخلاف التي حدث لها الانتزاع، فإنها لم تخدعه ولم تغره، وهذا نوع من الخلابة بل هو أقبح الخلابة، ولا تحل الخلابة لمسلم، وهذه الصورة لا يجب إدخالها في كلام أحمد رضي الله عنه، فإنه إنما رخص في مطلق نية المرأة ونية المرأة المطلقة إنما تتعلق بأن تتزوج الأول، وذلك لا يستلزم أن تنوي اختلاعا من الثاني لتتزوج الأول، فإن هذا نية فعل محرم في نفسه لو حدث وغايته أن يقال هو نية مكروهة تسوية بينه وبين الاختلاع المطلق على إحدى الروايتين فأما إذا قارن العقد فتحريمه ظاهر ; لأن ذلك يمنع رغبتها في النكاح وقصدها له، والزوجة أحد المتعاقدين، فإذا قصدت بالعقد أن تسعى في فسخه لم يكن العقد مقصودا، بخلاف من قصدت أن العقد إذا انفسخ تزوجت الأول، وتحريم هذا أشد من تحريم نية الرجل من وجه، وذلك التحريم أشد من وجه آخر، فإن المحلل إذا نوى الطلاق، فقد نوى شيئا يملكه، والمرأة تعلم أنه يملك ذلك، وهذه المرأة نوت الاختلاع والانتزاع لتعود إلى غيره، وكراهة الاختلاع أشد من كراهة طلاق الرجل ابتداء، والاختلاع لتتزوج غيره أشد من مطلق الاختلاع، وإرادة الرجل الطلاق لا يوقعه في محرم، فإنه يملك ذلك فيفعله، وإرادة المرأة الاختلاع قد يوقعها في محرم، فإنها إذا لم تختلع ربما تعدت حدود الله، ونية التحليل ليس فيها من خديعة المرأة ما في نية المرأة من خديعة الرجل، وإنما حرمت تلك النية لحق الله سبحانه، فإن الله حرم استباحة البضع إلا بملك بنكاح أو ملك يمين، والعقد الذي يقصد رفعه ليس بعقد نكاح، وهذا حال المرأة إذا تزوجت بمن تريد أن يطلقها كحالها إذا تزوجت بمن بدا له طلاقها فيما بعد، من حيث إنه في كلا الموضعين قطع النكاح عليها، وهذا جائز له وليس تعلق حقها بعينه كتعلق حقه بعينها، فإن له أن يتزوج غيرها ولا حرام عليه إذا كانت محبته لتلك واستمتاعه بها أكثر إذا عدل بينهما في القسم، والمرأة إذا تزوجت قاصدة للتسبب في الفرقة فهذا التحريم لحق الزوج لما في ذلك من الخلابة والخديعة له، وإلا فهو يملكها بهذا العقد ويملك أن لا يطلقها بحال، ومن هذا الوجه صارت نية التحليل أشد، فإن تلك النية تمنع كون العقد ثابتا من الطرفين وهنا العقد ثابت من جهة الزوج، بأنه نكح نكاح رغبة، ومن جهة المرأة فإنها لا تملك الفرقة، فصار الذي يملك الفرقة لم يقصدها، والذي قصدها لم يملكها، لكن لما كان من نية المرأة التسبب إلى الفرقة، صار هذا بمنزلة العقد الذي حرم على أحد المتعاقدين لإضراره بالآخر، مثل بيع المصراة وبيع المدلس من المعيب وغيره، وهذا النوع صحيح لمجيء السنة بتصحيح بيع المصراة، ولم نعلم مخالفا في أن أحد الزوجين إذا كان معيبا بعيب مشترك كالجنون والجذام والبرص أو مختص كالجب والعنة أو الرتق والفتق ولم يعلم الآخر أن النكاح صحيح مع أن تدليس هذا العيب عليه حرام، وإن كان أحد الزوجين هو المدلس، حتى قلنا على الصحيح إنه يرجع بالمهر على من غره، فإن كان الغرور من الزوجة سقط المهر، مع أن العقد حرام على المدلس بلا تردد، ولكن التدليس هناك وقع في المعقود عليه، وهنا وقع في نفس العقد، والخلل في العقد قد يؤثر في فساده ما لا يؤثر في بعض حله، فأما المطلق الأول إذا طلب منه أن يطلقها أو يخلعها أو دس إليه من يفعل ذلك فهذا بمنزلة ما لو حدث إرادة ذلك للمرأة بعد العقد، فإن المطلق ليس له سبب في العقد الثاني، وقد نص أحمد على أن ذلك لا يحل، فنقل ههنا عنه في رجل قال للرجل طلق امرأتك حتى أتزوجها ولك ألف درهم، فأخذ منه الألف ثم قال لامرأته أنت طالق فقال سبحان الله رجل يقول لرجل طلق امرأتك حتى أتزوجها لا يحل هذا، فقد نص على أنه لو اختلعها ليتزوجها لم يحل له، وإن كان يجوز أن يختلعها ليتخلص من النكاح، لكن إذا سمى في عقد الخلع أنه يريد التزوج بها فهو أقبح من أن يقصد ذلك بقلبه، والصورة الأولى هي التي دل عليها كلام أحمد، فالمرأة إذا اختلعت لأن تتزوج أشد فإن الأذى بطلب المرأة ذلك أكثر من الأذى بطلب الأجنبي، فإذا كان هذا الفعل حراما لو حدث القصد فكيف إذا كان مقصودا من حين العقد وفعل بعده فظهر أنه لا يجوز اختلاعها رغبة في نكاح غيره، ولا العقد بهذه النية، ولا يحل أمرها بذلك ولا تعليمها إياه، ولكن لو فعلته لم يقدح في صحة العقد فيما ذكره بعض أصحابنا لما تقدم، فلو رجعت عن هذه النية جاز لها المقام معه، فإن اختلعت منه ففارقها وقعت الفرقة، وأما العقد الثاني فنقل عن بعض أصحابنا أنه صحيح، ولأصحابنا في صحة نكاح الرجل إذا خطب على خطبة أخيه وبيعه إذا ابتاع على بيع أخيه قولان، والكلام في هذه المسألة يحتاج إلى معرفة تلك، فنقول قد صح عن النبي من غير وجه النهي عن أن يستام الرجل على سوم أخيه أو يخطب على خطبة أخيه، وعن أن يبيع على بيع أخيه، أو تنكح المرأة بطلاق أختها، فروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي { نهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه أو يبيع على بيع أخيه، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفئ ما في صحفتها أو إنائها، فإنما رزقها على الله }، وفي رواية أن النبي : { نهى عن التلقي، وعن أن يبيع حاضر لباد، وأن تشترط المرأة طلاق أختها، وأن يستام الرجل على سوم أخيه، ونهى عن النجش والتصرية }، وفي رواية أن النبي قال: { لا يخطب الرجل على خطبة أخيه ولا يسوم على سومه } متفق عليهن، وفي رواية لأحمد: { لا يبتاع الرجل على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه } وعن عقبة بن عامر أن رسول الله قال: { المؤمن أخو المؤمن فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه ولا يخطب على خطبته حتى يذره }، رواه مسلم وأحمد، وفي لفظ: { لا

يحل لمؤمن أن يبيع على بيع أخيه حتى يذره }، وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله قال: { لا يبع أحدكم على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه إلا أن يأذن } متفق عليه، وهذا نهي تحريم في ظاهر المذهب المنصوص، وهو قول الجماعة ; لأنه قد جاء مصرحا { لا يحل لمؤمن } كما تقدم، ومن أصحابنا من حمله على أنه نهي تأديب لا تحريم وهو باطل ; فإذا ثبت أنه حرام فهل العقد الثاني صحيح أو فاسد ؟ ذكر القاضي في غير موضع وجماعة مع المسألة على روايتين، ومن أصحابنا من يحكيها على وجهين: أحدهما: أنه باطل وهو الذي ذكره أبو بكر في الخلاف ورواه عن أحمد في مسائل محمد بن الحكم في البيع على بيع أخيه، وهو الذي ذكره ابن أبي موسى أيضا، والثانية: أنه صحيح قال أحمد في رواية علي بن سعيد لا يخطب الرجل على خطبة أخيه ولا يستام على سوم أخيه، هذا للمسلمين، قيل له فإن خطب على خطبة أخيه فتزوجها يفرق بينهما ؟ قال: لا، وهذا اختيار أبي حفص، لكن بناه على أن النهي تأديب، وهو اختيار القاضي وابن عقيل وغيرهما، وقد خرج القاضي جواب أحمد في مسألة البيع إلى مسألة الخطبة فجعلهما على روايتين كما

تقدم عنه، ويتوجه إقرار النصين مكانهما كما سنذكره، والقول بصحة العقد مذهب أبي حنيفة والشافعي، والقول بفساده محكي عن مالك وغيره، وحكي عنه الصحة، ودليل هذا النهي عنه فإنه يقتضي الفساد على قاعدة الفقهاء المقررة في موضعها كسائر عقود الأنكحة والبياعات أو للأولين طرق: أحدها: حمل النهي على التأديب كما ذهب إليه أبو حفص، وأومأ إليه ابن عقيل، إذا كثر ما فيه أن للخاطب رغبة في المرأة، وهذا لا يحرمها على غيره كما لو علم أن له رغبة ولم يتم ولم يخطب، وهذا القول مخالف لنص الرسول، الطريق الثانية: أن هذا التحريم لم يقارن النكاح الثاني والبيع الثاني، وإنما هو متقدم عليهما ; لأن المحرم إنما هو منع للأول من النكاح والبيع، وهذا متقدم على بيع الثاني ونكاحه، والتحريم المقتضي للفساد، وهو ما قارن العقد كعقود الربا وبيع الحاضر للبادي والبيع وقت النداء، ألا ترى أنها لو قالت لا أتزوجك حتى أراك مجردا لم يقدح ذلك في صحة العقد، وكذلك لو ذهب على الجمعة على دابة مغصوبة وهذه طريقة القاضي وغيره، ولهذا فرقوا بين هذا وبين البيع وقت النداء، قالوا ولو خطبها في العدة وتزوجها بعد العدة صح ; لأن المحرم متقدم على العقد، الطريقة الثالثة: أن التحريم هنا حق لآدمي فلم يقدح في صحة العقد كبيع المصراة بخلاف التحريم لحق الله تعالى كبيوع الغرر والربا، والمعنى لحق الآدمي المعين الذي لو رضي بالعقد لصح كالخاطب الأول هنا، فإنه لو أذن للثاني جاز فإن التحريم إذا كان لآدمي معين أمكن أن يزول برضاه، ولو فيما بعد، فلم يكن التحريم في نفس العقد، ولهذا جوز في مواضع التصرف في حق الغير موقوفا على إجازته كالوصية، وإذا كان بحق الله صار بمنزلة الميتة والدم، لا سبيل إلى حلها بحال، فيكون التحريم في العقد، وهذه طريقة القاضي في الفرق بين بيعه على بيع أخيه، وبين بيع الحاضر للبادي، والبيع وقت النداء أيضا، الطريقة الرابعة: أن التحريم هنا ليس لمعنى في العاقد، ولا في المعقود عليه، كما في بيع المحرمات أو بيع الصيد للمحرم، وبيع المسلم للكافر، وإنما هو لمعنى خارج عنهما، وهو الضرر الذي لحق الخاطب والمستام أولا، وهذه طريقة من يفرق بين أن يكون النهي لمعنى في المنهي عنه، أو لمعنى في غيره فيصحح الصلاة في الدار المغصوبة بناء على هذا، ومن ينصر الأول يقول لا نسلم أن التحريم ليس مقارنا للعقد، فإن النبي { نهى أن يبيع الرجل على بيع أخيه، وعن أن يبتاع أيضا }، وهذا نهي عن نفس العقد، { ونهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه }، منبها بذلك على النهي عن عقد النكاح، فإنه هو المقصود الأكبر بالنهي، كما أنه لما { نهى عن قربان مال اليتيم } كان ذلك تنبيها على النهي عن أخذه فإن النهي عن مقدمات الفعل أبلغ من النهي عن عينه، وهذا بخلاف النهي عن التصريح بخطبة المعتدة فإنه إذا تزوجها بعد العدة لم يكن حينئذ قد حرم عليه العقد، ولا الخطبة، وكذلك في رؤيته متجردا قبل النكاح، أو المشي إلى الجمعة على حمار مغصوب فإن تلك المحرمات انتقضت أسبابها، وهذا سبب التحريم تعلق حق الغير بهذه المرأة، وهو موجود، فإن عودها إليه ممكن، ثم لو سلمنا أن المحرم متقدم فلم قيل إن الفرق مؤثر، فإن الأدلة الدالة على كون العقود المحرمة فاسدة لا تفرق، والفعل المحرم يتضمن مفسدة، فتصحيحه يقتضي إيقاع تلك المفسدة، وهذا غير جائز، ومعصية الله فساد لا صلاح فيها، فإن الله سبحانه لا ينهى عن الصلاح، وهذا العقد هنا مستلزم لوجود المفسدة، وهو إضرار الأول، بخلاف صلاة الجمعة فإنها في نفسها غير مستلزمة لركوب ولا مشي، ونقول أيضا لا فرق بين ما حرم لحق الله تعالى أو لحق عباده، إذ الأدلة لا تفرق ونقول التفريق بين ما حرم الله لنفسه أو لغيره غير مسلم، وبتقدير تسليمه فالنهي هنا لمعنى في المعقود عليه، وهو تعلق حق الأول بالعين المعقود عليها، فإن الشارع جعل تقدم خطبته وبيعه حقا له مانعا من مزاحمة الثاني له ; كمن سبق إلى مباح فجاء آخر يزاحمه ; وصار هذا لحق المرتهن وغيره ; وإذا كان سبب النهي تعلق حق للأول بهذه العين فإذا أزيل على الوجه المحرم لم يؤثر هذا في الحل المزيل، فإنه كالقاتل لموروثه فإنه لما أزال تعلق حق الموروث بالمال بفعله المحرم، لم يؤثر هذا الزوال في الحل له ولهذا لا يبارك لأحد في شيء قطع حق غيره عنه بفعل محرم، ثم اقتطعه لنفسه، وقد تقدم في أقسام الحيل تنبيه على هذا النوع، ومن فرق بين أن يخطب على خطبة أخيه ويستام على سومه وبين أن يبيع على بيعه أو يبتاع على بيعه، فإن الخاطب والمستام لم يثبت لهما حق، وإنما ثبت لهما رغبة ووعد بخلاف الذي قد باع أو ابتاع فإن حقه قد ثبت على السلعة أو الثمن، فإذا تسبب الثاني في فسخ هذا العقد كان قد زال حقه الذي انعقد، وهذا يؤثر ما لا يؤثر الأول فإن تصرف الإنسان متى استلزم إبطال حق غيره بطل كرجوع الأب فيما وهبه لولده وتعلق به حق مرتهن أو مشتر أو نحو ذلك، وكذلك رجوع البائع في المبيع إذا أفلس المشتري وتعلق به حق ذي جناية أو مرتهن أو نحو ذلك، بخلاف تعلق رغبة الغرماء بالسلعة فإنها لا تمنع رجوع البائع وفي رجوع الواهب خلاف معروف، ثم اعلم أن بيع الإنسان على بيع أخيه أن يقول لمن اشترى من رجل شيئا أنا أبيعك مثل هذه السلعة بدون هذا الثمن، وأبيعك خيرا منها بمثل هذا الثمن، فيفسخ المشتري بيع الأول ويبتاع منه، وكذلك ابتياعه على ابتياع أخيه أن يقول لمن باع رجلا شيئا أنا اشتريه منك بأكثر من هذا الثمن، وقد اشترط طائفة من متأخري أصحابنا أن يقول ذلك في مدة الخيار خيار المجلس أو الشرط ليتمكن الآخر من الفسخ، وإلا فبعد لزوم العقد لا يؤثر هذا القول شيئا، وكذلك ذكره القاضي في موضع من الجامع، وفي كلام الشافعي رضي الله عنه ما يدل عليه، وأما قدماء أصحابنا فأطلقوا البيع على بيع أخيه ولم يقيدوه بهذا الخيار، وكذلك ذكر القاضي في موضع آخر، وأبو الخطاب فسخ البيع الثاني من غير تقييد بهذا الخيار، وكلام أحمد أيضا مطلق لم يقيده بهذه الصورة، وهذا أجود لوجهين: أحدهما: أن المشتري قد يمكنه الفسخ بأسباب غير خيار المجلس والشرط مثل خيار العيب والتدليس والخلف في الصفة والغبن وغير ذلك، ثم لا يريد الفسخ فإذا جاء البائع على بيع أخيه ورغبته في أن يفسخ ويعقد معه، كان هذا بمنزلة أن يأتيه في زمن خيار المجلس، الثاني: أن العقد الأول وإن لم يمكن أحدهما فسخه فإنه قد يجيء إليه فيقول له قايل هذا البيع وأنا أبيعك ; فيحمله على استقالة الأول، والإلحاح عليه في المقايلة فيجيبه عن غير طيب نفس كما هو الواقع كثيرا إن لم يخدعه خديعة توجب فسخ البيع، وهذا قد يكون أشد تحريما لما فيه من مسألة الغني ما لا حاجة له به، ومخالفة قوله { دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض } وغير ذلك، وقد يقال المستقال غير راض فلا يبارك للمستقيل، كالذين كانوا يسألون النبي أشياء فيعطيهم إياها، فيخرج بها أحدهم يتأبطها نارا وقد بين ذلك في غير حديث، فيكون المعطي مثابا والسائل معاقبا وهذا بيع حقيقة على بيع أخيه، وهو واقع فلا معنى لإخراجه من الحديث، وإذا كان النبي من جملة ما نهى عنه في هذا الحديث { أن تسأل المرأة طلاق أختها، لتكتفئ ما في صحفتها }، فمسألة البائع للمشتري أن يقيله البيع ليبيعها البائع لغيره كذلك، وقول الرجل البائع استقل المشتري هذا البيع لتبيعه لهذا، كما يقال للمرأة سلي هذا الخاطب أن يطلق تلك ليتزوجك، إذا تقرر هذا فتقول إذا كان النبي قد حرم أن يخطب الرجل على خطبة أخيه وأن يستام على سومه لما فيه من المزاحمة المخرجة له عما قد وعد به ; فكيف بمن نكح على نكاح أخيه، بأن يقول للمرأة طلقي هذا الرجل وأنا أتزوجك ; أو أزوجك فلانا، إن أمكنها أن تفسخ النكاح بأن يكون الرجل قد جعل أمرها بيدها، أو علق طلاقها بأمر يمكنها فعله، فهذه بمنزلة البائع في مدة الخيار، وإلا فاختلاعها منه بمنزلة استقالة المشتري، وهذا أعظم من حيث إنها قد تسيء عشرته إساءة تحمله على طلاقها ; بخلاف البيع فإن حقوق العقد لا تنقضي بالتقابض منهما فكل من قال إن ابتياع الإنسان على بيع أخيه باطل قال هنا إن نكاح الثاني باطل بطريق الأولى ; ومن قال بالصحة هناك فقد يقول هنا بالبطلان ; لأن الزوج خدع حين العقد وتسبب في إزالة نكاحه، وزوال النكاح أشد ضررا من الإقالة في بيع أو فسخه، ولو أن الرجل طلب من الرجل أن يبيعه سلعة لجاز ; ولو طلب أن يخلع امرأته ليتزوجها لكان من القبيح المنكر، وقد نص أحمد على أنه لا يجوز، واعلم أنه إذا قيل لا يصح البيع الثاني ولا نكاح الثاني لم يقدح ذلك في فسخ العقد الأول، ولكن تعود السلعة إلى صاحبها، والمرأة إلى يد نفسها، ويعاقب الثاني بأن يبطل عقده مناقضة لقصده، وهذا نظير منع القاتل الميراث، ونظير توريث المبتوتة في المرض، فإن ملك النكاح والمال زال حقيقة عن الميت والمطلق، ولم يؤثر ذلك في انتقال المال إلى القاتل، ومنع ميراث المطلقة، وهو نظير المسائل التي ذكرناها في أثناء أقسام الحيل، مثل أن يقتل الرجل رجلا ليتزوج امرأته وبينا وجه تحريمها على هذا القاتل مع حلها لغيره، وكذلك ذبيحة الغاصب والسارق كذلك هنا يحرم شراء العين بعد الفسخ على هذا المتسبب في ذلك مع حله لغيره، وقد يضر هذا بالذي فسخ البيع، لكن هذا جزاء فعله فإنه وإن جاز له الفسخ ابتداء، لكن ما كان له أن يعين هذا على ما طلبه فإن الإعانة على الحرام حرام، فإذا كان هذا فيمن يجوز له الاستقالة فكيف المرأة المنهية عن الانتزاع والاختلاع، ومما هو كالبيع بطريق الأولى إجارته على إجارة أخيه، مثل أن يكون الرجل مستقلا في داره حانوت أو مزدرع، وأهله قد ركنوا إلى أن يؤجروه السنة الثانية فيجيء الرجل فيستأجر على إجارته، فإن ضرره بذلك أشد من ضرر البيع غالبا، وأقبح منه أن يكون متوليا ولاية أو منزلا في مكان يأوي إليه أو يرتزق منه، فيطلب آخر مكانه والله أعلم . قال حنبل: سألت أبا عبد الله عن الأحاديث التي تروى أن الله تبارك وتعالى ينزل إلى سماء الدنيا وأن الله يرى وأن الله يضع قدمه، وما أشبه هذه الأحاديث فقال أبو عبد الله: نؤمن بها ونصدق بها ولا كيف ولا معنى ولا نرد منها شيئا، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق إذا كانت بأسانيد صحاح، ولا نرد على الله قوله ولا يوصف الله تبارك وتعالى بأكثر مما وصف به نفسه، بلا حد ولا غاية { ليس كمثله شيء }، وقال حنبل في موضع آخر قال: ليس كمثله شيء في ذاته كما وصف به نفسه وقد أجمل تبارك وتعالى بالصفة لنفسه، فحد لنفسه صفة ليس يشبهه شيء فنعبد الله بصفات غير محدودة ولا معلومة إلا بما وصف به نفسه، قال الله تبارك وتعالى: { وهو السميع البصير }، قال حنبل في موضع آخر: وهو سميع بصير، بصير بلا حد ولا تقدير ولا يبلغه الواصفون وصفاته منه وله ولا نتعدى القرآن والحديث، فنقول كما قال، ونصفه كما وصف نفسه، ولا نتعدى ذلك ولا تبلغه صفة الواصفين، نؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابهه، ولا نزيل عنه صفة من صفاته بشناعة شنعت ووصف وصف به نفسه من كلام ونزول وخلوه بعبده يوم القيامة ووضعه كنفه عليه، هذا كله يدل على أن الله تبارك وتعالى يرى في الآخرة، والتحديد في هذا بدعة والتسليم لله بأمره بغير صفة ولا حد إلا بما وصف به نفسه سميع بصير لم يزل متكلما عالما غفورا عالم الغيب والشهادة علام الغيوب، فهذه صفات وصف بها نفسه لا ترد ولا تدفع وهو على العرش بلا حد، كما قال تعالى { ثم استوى على العرش } كيف شاء، المشيئة إليه عز وجل والاستطاعة له، { ليس كمثله شيء }، وهو خالق كل شيء، وهو كما وصف نفسه سميع بصير بلا حد ولا تقدير، وقال تعالى حكاية عن قول إبراهيم لأبيه، { لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر } فثبت أن الله سميع بصير صفاته منه لا نتعدى القرآن والحديث، والخبر بضحك الله، ولا نعلم كيف ذلك إلا بتصديق الرسول وتبيين القرآن، لا يصفه الواصفون ولا يحده أحد تعالى الله عما يقول الجهمية والمشتبهة قلت له: والمشبهة ما يقولون ؟ قال: من قال بصر كبصري، ويد كيدي - وقال حنبل في موضع آخر - وقدم كقدمي، فقد شبه الله بخلقه وهذا يحده، وهذا كلام سوء وهذا محدود الكلام في هذا لا أحبه، قال: عبد الله جردوا القرآن، وقال النبي - - " يضع قدمه "، نؤمن به ولا نحده ولا نرده على رسول - بل نؤمن به، قال الله تبارك وتعالى: { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } فقد أمرنا الله عز وجل بالأخذ بما جاء والنهي عما نهى، وأسماؤه وصفاته غير مخلوقة، ونعوذ بالله من الزلل والارتياب والشك إنه على كل شيء قدير، قال الخلال: وناداني أبو القاسم بن الجبلي من حنبل في هذا الكلام وقال تبارك وتعالى: { لا إله إلا هو الحي القيوم } { لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر } هذه صفات الله عز وجل وأسماؤه تبارك وتعالى .

وقد روى البخاري في صحيحه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رجل لابن عباس إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي، قال: { فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون } { وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون }، { ولا يكتمون الله حديثا } { والله ربنا ما كنا مشركين }، فقد كتموا في هذه الآية وقال { أم السماء بناها } - إلى قوله - { دحاها } فذكر خلق السماء قبل خلق الأرض، ثم قال: { أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين } - إلى - { طائعين } فذكر في هذه الآية خلق الأرض قبل السماء وقال: { وكان الله غفورا رحيما } { عزيزا حكيما } { سميعا بصيرا } فكأنه كان ثم مضى، فقال لا أنساب في النفخة الأولى { ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله } فلا أنساب عند ذلك ولا يتساءلون، في النفخة الآخرة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون، وأما قوله: { ما كنا مشركين } { ولا يكتمون الله حديثا }، فإن الله لا يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم قال المشركون تعالوا نقل لم نكن مشركين فختم على أفواههم فتنطق أيديهم فعند ذلك عرفوا أن الله لا يكتم حديثا وعنده { يود الذين كفروا، .، } الآية، وخلق الأرض في يومين ثم خلق السماء، ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين ثم دحا الأرض ودحاها أن أخرج منها الماء والمرعى وخلق الجبال والآكام وما بينهما في يومين آخرين فخلقت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام وخلقت السماوات في يومين وكان الله غفورا رحيما سمى نفسه ذلك، وذلك قوله إني لم أزل كذلك، فإن الله لم يرد شيئا إلا أصاب فيه الذي أراد فلا يختلف عليك القرآن فإن كلا من عند الله هكذا رواه البخاري مختصرا ورواه البرقاني في صحيحه من الطريق الذي أخرجها البخاري بعينها من طريق شيخ البخاري بعينه بألفاظه التامة أن ابن عباس جاءه رجل فقال: يا ابن عباس إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي فقد وقع ذلك في صدري فقال ابن عباس: أتكذيب ؟ فقال الرجل: ما هو بتكذيب ولكن اختلاف قال: فهلم ما وقع في نفسك فقال له الرجل: اسمع، الله يقول: { فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون }، وقال في آية أخرى: { فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون }، وقال في آية أخرى: { ولا يكتمون الله حديثا }، وقال في آية أخرى: { والله ربنا ما كنا مشركين } فقد كتموا في هذه الآية وفي قول: { أم السماء بناها، رفع سمكها فسواها، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها، والأرض بعد ذلك دحاها } فذكر في هذه الآية: " خلق السماء قبل الأرض "، وقال في الآية الأخرى: { أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين } وقوله: { وكان الله غفورا رحيما } { وكان الله عزيزا حكيما } { وكان الله سميعا بصيرا }، وكأن كان ثم انقضى، فقال ابن عباس: هات ما في نفسك من هذا، فقال السائل: إذا أنبأتني بهذا فحسبي، قال ابن عباس، قوله: { فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون }، فهذا في النفخة الأولى ينفخ في الصور فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ثم إذا كان في النفخة الأخرى قاموا فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون، وأما قول الله عز وجل: { والله ربنا ما كنا مشركين } وقوله: { ولا يكتمون الله حديثا } فإن الله تعالى يوم القيامة يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم لا يتعاظم عليه ذنب أن يغفره ولا يغفر شركا، فلما رأى المشركون قالوا إن ربنا يغفر الذنوب ولا يغفر الشرك تعالوا نقول إنا كنا أهل ذنوب ولم نكن مشركين، فقال الله تعالى أما إذا كتموا الشرك فاختم على أفواههم فيختم على أفواههم فتنطق أيديهم وأرجلهم بما كانوا يكسبون، فعند ذلك عرف المشركون أن الله لا يكتم حديثا، فذلك قوله { يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا }، وأما قوله: { أم السماء بناها، رفع سمكها فسواها، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها، والأرض بعد ذلك دحاها } فإنه خلق الأرض في يومين قبل خلق السماء، ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين يعني ثم دحى الأرض ودحيها أن أخرج منها الماء والمرعى وشق فيها الأنهار وجعل فيها السبل وخلق الجبال والرمال والآكام وما فيها في يومين آخرين، فذلك قوله: { والأرض بعد ذلك دحاها } وقوله: { أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين } وجعلت السماوات في يومين آخرين، وأما قوله: { وكان الله سميعا بصيرا }، { غفورا رحيما } { وكان الله عزيزا حكيما }، فإن الله جعل نفسه ذلك، وسمى نفسه ذلك ولم ينحله أحد غيره وكان الله أي لم يزل كذلك، ثم قال ابن عباس: احفظ عني ما حدثتك واعلم أن ما اختلف عليك من القرآن أشباه ما حدثتك، فإن الله لم ينزل شيئا إلا أصاب به الذي أراد ولكن الناس لا يعلمون، فلا يختلف عليك القرآن فإن كلا من عند الله، وهكذا رواه يعقوب بن سفيان في تاريخه عن شيخ البخاري كما رواه البرقاني وإنما يختلفان في يسير من الأحرف، وما ذكره أئمة السنة والحديث متعين لما جاء في الآثار من أنه سبحانه لم يزل كاملا بصفاته، لم تحدث له صفة ولا تزول عنه صفة، ليس هو بمخالف لقولهم أنه ينزل كما يشاء ويجيء يوم القيامة كما يشاء وأنه استوى على العرش بعد أن خلق السماوات، وأنه يتكلم إذا شاء، وأنه خلق آدم بيديه ونحو ذلك من الأفعال القائمة بذاته فإن الفعل الواحد من هذه الأفعال ليس مما يدخل في مطلق صفاته ; ولكن كونه بحيث يفعل إذا شاء هو صفته، والفرق بين الصفة والفعل ظاهر، فإن تجدد الصفة أو زوالها يقتضي تغير الموصوف واستحالته، ويقتضي تجدد كمال له بعد نقص، أو تجدد نقص له بعد كمال، كما في صفات الموجودات كلها إذا حدث للموصوف ما لم يكن عليه من الصفات، مثل تجدد العلم بما لم يكن يعلمه، والقدرة على ما لم يكن يقدر عليه، ونحو ذلك، أو زال عنه ذلك بخلاف الفعل، وهكذا يقوله طوائف من أهل الكلام المخالفين للمعتزلة، والذين هم أقرب إلى السنة منهم، من المرجئة والكرامية وطوائف من الشيعة كما نقلوا عن الكرامية الذين يقولون إنه تحله الحوادث من القول والإرادة والاستمتاع والنظر، ويقولون مع ذلك: لم يزل الله متكلما ولم يزل بمشيئته القديمة ولم يزل سميعا بصيرا أجمعوا على أن هذه الحوادث لا توجب لله سبحانه وصفا ولا هي صفات له سبحانه، والذين ينازعون في هذا من المعتزلة ومن اتبعهم من الأشعرية وغيرهم، فيقولون لو قام فعل حادث بذات القديم لاتصف به وصار الحادث صفة له إذ لا معنى لقيام المعاني واختصاصها بالذوات إلا كونها صفات لها، فلو قامت الحوادث من الأفعال والأقوال والإرادات بذات القديم لاتصف بها كما اتصف بالحياة والقدرة والعلم والمشيئة، ولو اتصف بها لتغير بها، والتغير عليه ممتنع، وهذا نزاع لفظي فإن تسمية هذا صفة وتغيرا لا يوافقهم الأولون عليه وليست اللغة أيضا موافقة عليه، فإنها لا تسمي قيام الإنسان وقعوده تغيرا له، ولا يطلق القول بأنه صفة له وإن أطلق ذلك فالنزاع اللفظي لا يضر إلا إذا خولفت ألفاظ الشريعة، وليس في الشريعة ما يخالف ذلك ولكن هؤلاء كثيرا ما يتنازعون في الألفاظ المجملة المتشابهة وقد قيل أكبر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء، قال الإمام أحمد في وصف أهل البدع فهم مخالفون الكتاب مختلفون في الكتاب مجتمعون على مفارقة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم ويتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم والذي يبين أن مجرد الحركة في الجهات ليست تغيرا ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي سعيد عن النبي أنه قال: { من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ; فإن لم يستطع فبلسانه ; فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان } ( ) فأمر بتغيير المنكر باليد أو اللسان ومعلوم أن تغيير المنكر هو ما يخرجه عن أن يكون منكرا وذلك لا يحصل إلا بإزالة صورته وصفته بتحريكه من حيز إلى حيز، فتغيير الخمر لا يحصل بمجرد نقلها من حيز إلى حيز، بل بإراقتها أو إفسادها مما فيه استحالة صورتها وذلك من رأى من يقتل غيره لم يكن تغيير ذلك بمجرد النقل الذي ليس فيه زوال صورة القتل بل لا بد من زوال صورة القتال وكذلك الزانيان وكذلك المتكلم بالبدعة والداعي ليس تغيير هذا المنكر بمجرد التحويل من حيز إلى حيز وأمثال ذلك كثيرة فإذا كان النبي قد أمر بتغيير المنكر وذلك لا يحصل قط بمجرد النقل في الأحياز والجهات إذ الأحياز والجهات متساوية فهو منكر هنا كما أنه منكر هناك علم أن هذا لا يدخل في مسمى التغيير بل لا بد في التغيير من إزالة صورة موجودة وإن ذاك قد يحصل بالنقل لكن العرض أن مجرد الحركة كحركة الشمس والقمر والكواكب لا يسمى تغيرا بخلاف ما يعرض للجسد من الخوف والمرض والجوع ونحو ذلك مما يغير صفته .

وقد جاء في الأحاديث المرفوعة في تجليه سبحانه للجبل ما رواه الترمذي في جامعه، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن يعني الدارمي أنبأنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس { أن النبي - قرأ هذه الآية: { فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا } قال حماد هكذا وأمسك سليمان بطرف إبهامه على أنملة أصبعه اليمنى قال فساخ الجبل وخر موسى صعقا }، قال الترمذي هذا حديث حسن غريب صحيح لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة، وقال أبو بكر بن أبي عاصم في كتاب السنة حدثنا حسين بن الأسود، حدثنا عمرو بن محمد العنقزي، حدثنا أسباط عن السدي عن عكرمة عن ابن عباس: { فلما تجلى ربه للجبل } قال ما تجلى منه إلا مثل الخنصر قال فجعله دكا، قال ترابا وخر موسى صعقا، غشي عليه، فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك عن أن أسألك الرؤية وأنا أول المؤمنين، قال: أول من آمن بك من بني إسرائيل، ورواه الطبراني قال حدثنا محمد بن إدريس بن عاصم الحمال، حدثنا إسحاق بن راهويه، حدثنا عمرو بن محمد العنقري فذكره عن ابن عباس: { فلما تجلى ربه للجبل }، قال ما تجلى منه إلا مثل الخنصر فجعله دكا قال ترابا، ورواه البيهقي في كتاب إثبات الرؤية له أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن إسحاق يعني العدفاني، حدثنا عمرو بن طلحة في التفسير، حدثنا أسباط عن السدي عن عكرمة عن ابن عباس، أنه قال: تجلى منه مثل طرف الخنصر فجعله دكا، والصفاني ومن فوقه إلى عكرمة روى لهم مسلم في صحيحه ؟ وعكرمة روى له البخاري في صحيحه، وروى الثوري وحماد بن سلمة وسفيان بن عيينة بعضهم عن ابن أبي نجيح وبعضهم عن منصور عن مجاهد عن عبيد بن عمير في قوله في قصة داود: { وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب } قال يدنيه حتى يمس بعضه، وهذا متواتر عن هؤلاء، وممن رواه الإمام أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل في كتاب السنة حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة عن وكيع عن سفيان عن منصور عن مجاهد عن عبيد بن عمير { وإن له عندنا لزلفى } قال ذكر الدنو منه حتى أنه يمس بعضه، وقال حدثنا أبو بكر حدثنا ابن فعنيل عن ليث عن مجاهد: { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } قال: يقعده معه على العرش، وقال الإمام أبو بكر بن أبي عاصم في كتاب السنة، حدثنا فضيل بن سهل، حدثنا عمرو بن طلحة القناد، حدثنا أسباط بن نصر عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: { ولقد رآه نزلة أخرى } قال إن النبي - رأى ربه فقال له رجل أليس قد قال الله تعالى: { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } فقال له عكرمة أليس ترى السماء ؟ قال بلى، قال أفكلها ترى ؟ ففي هذه أن عكرمة أخبر قدام ابن عباس، أن إدراك البصر هو رؤية المدرك كله دون رؤية بعضه، فالذي يرى السماء ولا يراها كلها ولا يكون مدركا لها، وجعل هذا تفسيرا لقوله: { لا تدركه الأبصار } وأقره ابن عباس على ذلك ومع هذا هؤلاء الذين نقل عنهم هذا اللفظ فقد نقل عنهم أيضا إنكار تبعضه سبحانه وتعالى، وبين الناقلون معنى ذلك، قال الحافظ أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب السنة حدثني عبد الرحمن بن محمد الآملي عن موسى بن عيسى بن حماد بن زغبة، حدثنا نعيم بن حماد، حدثنا نوح ابن مريم عن إبراهيم بن ميمون عن عكرمة قال: جاء نجدة الحروري إلى ابن عباس فقال يا أبا عباس، نبئنا كيف معرفتك بربك تبارك وتعالى فإن من قبلنا اختلفوا علينا فقال ابن عباس: من نصب دينه على القياس لم يزل الدهر في التباس، مائلا عن المنهاج، ظاعنا في الاعوجاج، ضالا عن السبيل، قائلا غير جميل، أعرفه بما عرف به نفسه تبارك وتعالى من غير رؤية، قال نعيم يعني في الدنيا وأصفه بما وصف به نفسه، لا يدرك بالحواس، ولا يقاس بالناس، معروف بغير شبيه، ومتدان في بعده، قال نعيم: يقول هو على العرش، ولا يخفى عليه خافية، لا تتوهم ديمومته ولا يمثل بخليقته، ولا يجور في قضية، الخلق إلى ما علم منقادون، وعلى ما سطر في المكنون من كتابه ماضون، لا يعلمون بخلاف ما منهم علم ولا غيره، يريدون فهو قريب غير ملتزق يعني قريبا بعلمه وبعيدا غير منقض يحقق ولا يمثل ويوجد ولا يبعض، قال نعيم لا يقال بعضه على العرض وبعضه على الأرض يدرك بالآيات، ويثبت بالعلامات، هو الكبير المتعال تبارك وتعالى، قلت: هذا الكلام في صحته عن ابن عباس نظر والذي يغلب على الظن أنه ليس من كلام ابن عباس، ونوح بن أبي مريم له مفاريد من هذا النمط، ولكن لا ريب أن نعيم بن حماد ذكر ذلك في كتبه التي صنفها في الرد على الجهمية، وهو قد نفى تبعيضه بالمعنى الذي فسره، وهذا ما لا يستريب فيه المسلمون، وهذا مما دل عليه قوله تعالى: { قل هو الله أحد، الله الصمد } كما قد بسطنا الكلام فيه في موضعه في الكلام على من تأول هذه السورة على غير تأويلها ولا ريب أن لفظ البعض والجزء والغير ألفاظ مجملة فيها إيهام وإبهام فإنه قد يقال ذلك على ما يجوز أن يوجد منه شيء دون شيء بحيث يجوز أن يفارق بعضه بعضا، وينفصل بعضه عن بعض أو يمكن ذلك فيه، كما يقال: حد الغيرين ما جاز مفارقة أحدهما للآخر كصفات الأجسام المخلوقة من أجزائها وأعراضها فإنه يجوز أن تتفرق وتنفصل، والله سبحانه منزه عن ذلك كله مقدس عن النقائص والآفات، وقد يراد بذلك ما يعلم منه شيء دون شيء فيكون المعلوم ليس هو غير المعلوم وإن كان لازما له لا يفارقه والتغاير بهذا المعنى ثابت لكل موجود فإن العبد قد يعلم وجود الحق ثم يعلم أنه قادر ثم أنه عالم ثم أنه سميع بصير وكذلك رؤيته تعالى كالعلم به فمن نفى عنه وعن صفاته التغاير والتبعيض بهذا المعنى فهو معطل جاحد للرب فإن هذا التغاير لا ينتفي إلا عن المعدوم، وهذا قد بسطناه في كتاب بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية في الكلام على سورة الإخلاص وغير ذلك بسطا بينا ومن علم ذلك زالت عنه الشبهات في هذا الباب، فقول السلف والأئمة ما وصف الله من الله وصفاته منه، وعلم الله من الله وله نحو ذلك مما استعملوا فيه لفظ من، وإن قال قائل معناها التبعيض فهو تبعيض بهذا الاعتبار كما يقال إنه تغاير بهذا الاعتبار ثم كثيرا من الناس يمتنع أو ينفي لفظ التغاير والتبعيض ونحو ذلك، وبعض الناس لا يمتنع من لفظ التغاير ويمتنع من لفظ التبعيض، وبعضهم لا يمتنع من اللفظين إذا فسر المعنى وأزيلت عنه الشبهة والإجمال الذي في اللفظ، ولا ريب أن الجهمية تقول في هذا الباب ما هم متناقضون فيه تناقضا معلوما بالبديهة ثم إن الذين ينفون أن لا يتصف إلا بالمعدوم فيتناقضون ويعطلون فإنهم يقولون إن كونه واحدا يمتنع أن يكون له صفة بوجه من الوجوه، لأن ذلك يوجب الكثرة والعددية قالوا ويجب تنزيهه عن ثبوت عدد وكثرة في وصف أو قدرة ثم إنهم يضطرون إلى أن يقولوا هو قديم حق رب حي عليم قدير ونحو ذلك من المعاني التي يمكن علمنا ببعضها دون بعض والمعلوم ليس هو الذي ليس بمعلوم، وذلك يقتضي ما فروا منه مما سموه تعددا وكثرة وتبعيضا وتغايرا، فهذا تناقضهم ثم إن سلب ذلك لا يكون إلا عن المعدوم وأما الموجود فإما قديم وإما محدث وإما موجود بنفسه وإما ممكن مفتقر إلى غيره وأن الموجود إما قائم بنفسه وإما قائم بغيره إلى غير ذلك من المعاني التي تميز بها الموجودات بعضها عن بعض إذ لكل موجود حقيقة خاصة يميز بها يعلم منها شيء دون شيء وذلك هو التبعيض والتغاير الذي يطلقون إنكاره وهذا أصل نفاة الجهمية المعطلة وهم كما قال الأئمة لا يثبتون شيئا في الحقيقة، ولهذا قال الإمام أبو عمر بن عبد البر الذي أقول إنه إذا نظر إلى إسلام أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد وسعيد وعبد الرحمن وسائر المهاجرين والأنصار وجميع الوفود الذين دخلوا في دين الله أفواجا علم أن الله عز وجل لم يعرفه واحد منهم إلا بتصديق النبيين وبإعلام النبوة ودلائل الرسالة، لا من قبل حركة ولا سكون ولا من باب الكل والبعض ولا من باب كان ويكون ولو كان النظر في الحركة والسكون عليهم واجبا وفي الجسم ونفيه والتشبيه ونفيه لازما ما أضاعوه، ولو أضاعوا الواجبات لما نطق القرآن بتزكيتهم وتقديمهم ولا أطنب في مدحهم وتعظيمهم ولو كان ذلك من علمهم مشهورا ومن أخلاقهم معروفا لاستفاض عنهم واشتهروا به كما اشتهروا بالقرآن والروايات وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم { ينزل ربنا إلى سماء الدنيا } عندهم مثل قول الله: { فلما تجلى ربه للجبل } ومثل قوله: { وجاء ربك والملك صفا صفا } كلهم يقول ينزل ويتجلى ويجيء بلا كيف، ولا يقولون كيف يجيء وكيف يتجلى وكيف ينزل، وفي قوله { فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا } دلالة واضحة أنه لم يكن قبل ذلك متجليا للجبل، وفي ما يفسر لك حديث التنزيل ومن أراد أن يقف على أقاويل العلماء في قوله { فلما تجلى ربه للجبل } فلينظر في تفسير بقي بن مخلد وتفسير محمد بن جرير وليقف على ما ذكرا من ذلك والله أعلم، وقد ذكر القاضي أبو يعلى في كتاب أبطال التأويلات لأخبار الصفات ما رواه عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي حدثنا أبو المغيرة الخولاني حدثنا الأوزاعي حدثني يحيى بن أبي كثير عن عكرمة قال: إن الله إذا أراد أن يخوف عباده أبدى عن بعضه إلى الأرض فعند ذلك تزلزل، وإذا أراد أن يدمر على قوم تجلى لها قال ورواه ابن فورك عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس إن الله تبارك وتعالى إذا أراد أن يخوف أهل الأرض أبدى عن بعضه، وإذا أراد أن يدمر عليها تجلى لها ثم قال أما قوله أبدى عن بعضه فهو على ظاهره وأنه راجع إلى الذات إذ ليس في حمله على ظاهره ما يحيل صفاته ولا يخرجها عما تستحق، فإن قيل بل في حمله على ظاهره ما يحيل صفاته لأنه يستحيل وصفه بالكل والبعض والجزء فوجب حمله على إبداء بعض آياته وعلاماته تحذيرا وإنذارا قيل لا يمتنع إطلاق هذه الصفة على وجه لا يفضي إلى التجزئة والتبعيض، كما أطلقنا تسمية يد ووجه لا على وجه التجزئة والتبعيض وإن كنا نعلم أن اليد في الشاهد بعض الجملة قال: وجواب آخر وهو أنه لو جاز أن يحمل قوله وإذا أبدى عن بعضه على بعض آياته لوجب أن يحمل قوله أراد أن يدمر على قوم تجلى لها على جميع آياته ومعلوم أنه لم يدمر قرية بجميع آياته لأنه قد أهلك بلادا كل بلد بغير ما أهلك به الآخر وكذلك قال الإمام أحمد فيما أخرجه في الرد على الجهمية لما ذكر قول جهم قال فتأول القرآن على غير تأويله وكذب بأحاديث النبي - وزعم أن من وصف من الله شيئا مما يصف به نفسه في كتابه أو حدث عنه رسوله كان كافرا فبين أحمد في كلامه أن من الله ما يوصف وأنه يوصف بذلك فذلك موصوف والرب موصوف به وهذا كلام سديد، فإن الله في كلامه وصف ما وصف من علمه وكلامه وخلقه بيديه وغير ذلك، وهو موصوف بهذه المعاني التي وصفها ولذلك سميت صفات فإن الصفة أصلها وصفة مثل جهة أصلها وجهة وعدة وزنة أصلها وعدة ووزنة وهذا المثال وهو فعله قد يكون في الأصل مصدرا كالعدة والوعد فكذلك الصفة وموصف وقد يكون بمعنى المفعول كقولهم، حلية ووجهة وشرعة وبدعة فإن فعلا يكون بمعنى المفعول كقوله { بذبح عظيم } أي بمذبوح والشرعة المشروعة والبدعة والوجه هي الجهة التي يتوجه إليها، فكذلك قد يقال في لفظ الصفة إن لم تنقل عن المصدر أنهما الموصوفة، وعلى هذا ينبني نزاع الناس هل الوصف والصفة في الأصل بمعنى واحد بمعنى الأقوال ثم استعملا في المعاني تسمية للمفعول باسم المصدر إذ الوصف هو القول الذي هو المصدر والصفة هي المفعول الذي يوصف بالقول وأكثر الصفاتية على هذا الثاني، وقولهم أيضا يصح على القول الأول كما كنا نقرره قبل ذلك، إذ أهل العرف قد يخصون أحد اللفظين بالنقل دون الآخر، لكن تقرير قولهم على هذه الطريقة الثانية أكمل وأتم كما ذكرناه هنا، فقول أحمد وغيره: فمن وصف من الله شيئا مما يصف به نفسه فالشيء الموصوف هو الصفة كعلمه ويديه، وهذه الصفة الموصوفة وصف الله بها نفسه أي أخبر بها عن نفسه وأثبتها لنفسه، كقوله: { أنزله بعلمه } وقوله: { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي }، ثم قال أحمد: فإذا قيل لهم من تعبدون ؟ قالوا: نعبد من يدبر أمر هذا الخلق، فقلنا: هذا الذي يدبر أمر هذا الخلق هو مجهول لا يعرف بصفة ؟ قالوا: نعم، فقلنا: قد عرف المسلمون أنكم لا تأتمون بشيء وإنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون إلى أن قال لهم فقد جمعتم في مسألة الكلام كما تقدم ذكر لفظه بين كفر وتشبيه فتعالى عن هذه الصفة إلى قوله قال فقالوا: لا تكونون موحدين أبدا حتى تقولوا قد كان الله ولا شيء، فقلنا نحن نقول قد كان الله ولا شيء، ولكن إذا قلنا إن الله لم يزل بصفاته كلها أليس إنما نصف إلها واحدا بجميع صفاته وضربنا لهم في ذلك مثلا فقلنا أخبرونا عن هذه النخلة أليس لها جذع وكرب وليف وسعف وخوص وجمار واسمها اسم شيء واحد وسميت نخلة بجميع صفاتها فكذلك الله وله المثل الأعلى بجميع صفاته إله واحد لا نقول إنه قد كان في وقت من الأوقات لا يعلم حتى خلق فعلم والذي لا يعلم هو جاهل ولكن نقول لم يزل الله عالما قادرا مالكا لا متى ولا كيف وقد سمى الله رجلا كافرا اسمه الوليد بن المغيرة المخزومي فقال: { ذرني ومن خلقت وحيدا } وقد كان الله سماه وحيدا له عينان وأذنان ولسان وشفتان ويدان ورجلان وجوارح كثيرة، فقد سماه وحيدا بجميع صفاته فكذلك الله وله المثل الأعلى هو بجميع صفاته إله واحد فقد بين أن ما لا يعرف بصفة فهو معدم وهذا حق وبين أنه متعال عن الصفة التي وصفه بها الجهمية وذكر أنه إذا قلنا لم يزل بصفاته كلها إنما نصف إلها واحدا وبين أن النبات والحيوان يسمى واحدا وإن كان له صفات هي كالجذع والكرب من النخلة، وكاليد والرجل من الإنسان فالرب أولى أن يكون واحدا وإن كان له صفات، إذ هو أحق بالوحدانية واسم الواحد من المخلوقات التي قد تتفرق صفاتها وتتبعض وتكون مركبة منها، والرب تعالى " أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد " والمقصود أنه سمى هذه الأمور صفات أيضا، ونظير ذلك ما ذكره أبو عمر بن عبد البر في التمهيد في شرح الموطإ بعد أن قال: أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة في القرآن والسنة والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم يكيفون شيئا من ذلك ولا يجدون فيه صفة محصورة، وأما أهل البدع والجهمية والمعتزلة كلها والخوارج فكلهم ينكرها ولا يحمل شيئا منها على الحقيقة، ويزعمون أن من أقر بها مشبه وهم عند من أقر بها نافون للمعبود بلا سوف، والحق فيما قاله القائلون بما ينطق به كتاب الله وسنة رسوله وهم أئمة الجماعة والحمد لله، روى حرملة بن يحيى سمعت عبد الله بن وهب يقول سمعت مالك بن أنس يقول: من وصف شيئا من ذات الله مثل قوله { وقالت اليهود يد الله مغلولة } فأشار بيده إلى عنقه، ومثل قوله { وهو السميع البصير } فأشار إلى عينه وأذنه أو شيئا من يديه قطع ذلك منه لأنه شبه الله بنفسه، ثم قال مالك: أما سمعت قول البراء حين حدث { أن النبي - لا يضحي بأربع من الضحايا وأشار البراء بيده كما أشار النبي - قال البراء ويدي أقصر من يد رسول الله } فكره البراء أن يصف يد رسول الله - إجلالا له وهو مخلوق فكيف الخالق الذي ليس كمثله شيء انتهى، والمقصود قوله من وصف شيئا من ذات الله فجعل الموصوف من ذات الله وغالب كلام السلف على هذا، كقول عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون نظير مالك في كلامه المشهور في الصفات، وقد رواه بالإسناد أبو بكر الأثرم وأبو عمرو الطلمنكي وأبو عبد الله بن بطة في كتبهم وغيرهم قال: أما بعد فقد فهمت ما سئلت فيما تتابعت الجهمية ومن خلفها في صفة الرب العظيم الذي فاقت عظمته الوصف والتقدير وكلت الألسن عن تفسير صفته وانحسرت العقول دون معرفة قدره ردت عظمته العقول فلم تجد مساغا فرجعت خاسئة وإنما أمروا بالنظر والتفكر فيما خلق بالتقدير وإنما يقال كيف لمن لم يكن مرة ثم كان فأما الذي لا يحول ولا يزول ولم يزل وليس له مثل فإنه لا يعلم كيف هو إلا هو، وكيف يعرف قدر من لم يبدأ ومن لا يموت ولا يبلى وكيف يكون لصفة شيء منه حد أو منتهى يعرفه عارف أو يحد قدره واصف، على أنه الحق المبين لا حق أحق منه ولا شيء أبين منه، الدليل على عجز العقول عن تحقيق صفته عجزها عن تحقيق صفة أصغر مخلوقاته لا تكاد تراه صغيرا يحول ويزول ولا يرى له سمع ولا بصر لما يتقلب به ويحتال من عقله أعضل بك وأخفى عليك مما ظهر من سمعه وبصره فتبارك الله أحسن الخالقين وخالقهم وسيد السادة وربهم ليس كمثله شيء وهو السميع البصير،

الوجه السادس والعشرون: أن ثبوت الكلام لله بالأمر والنهي والخبر أثبتموه بالإجماع والنقل المتواتر عن الأنبياء عليهم السلام ومن المعلوم أن هذا المعنى الذي ادعيتم أنه معنى كلام الله لم يظهر في الأمة إلا من حين حدوث ابن كلاب ثم الأشعري بعده إذ قبل قول ابن كلاب لا يعرف في الأمة أحد فسر كلام الله بهذا ولهذا لما ذكر الأشعري اختلاف الناس في القرآن وذكر أقوالا كثيرة فلم يذكر هذا القول إلا عن ابن كلاب وجعل له ترجمة فقال وهذا قول عبد الله بن كلاب، قال عبد الله بن كلاب إن الله لم يزل متكلما وإن كلام الله صفة له قائمة به وإنه قديم بكلامه وإن كلامه قائم به كما إن العلم قائم به والقدرة قائمة به وهو قديم بعلمه وقدرته وإن الكلام ليس بحرف ولا صوت ولا ينقسم ولا يتجزأ ولا يتبعض ولا تتغاير وإنه معنى واحد قائم بالله تعالى وإن الرسم هو الحروف المتغايرة وهو قراءة القارئ وإنه خطأ أن يقال إن كلام الله هو هو أو بعضه أو غيره وإن العبارات عن كلام الله تختلف وتتغاير وكلام الله ليس بمختلف ولا متغاير، كما أن ذكرنا لله مختلف ومتغاير والمذكور لا يختلف ولا يتغاير وإنما سمي كلام الله عربيا لأن الرسم الذي هو العبارة عنه وهو قراءته عربي فسمي عربيا لعلة وكذلك سمي عبرانيا لعلة وكذلك سمي أمرا لعلة وسمي نهيا لعلة وخبرا لعلة ولم يزل الله متكلما قبل أن يسمى كلامه أمرا وقبل وجود العلة التي بها سمي أمرا وكذلك القول في تسميته نهيا وخبرا وأنكر أن يكون الباري لم يزل مخبرا ولم يزل ناهيا ثم يقال ولو قدر أنه لم يحدثه فلا ريب أنه معنى خفي مشكل متنازع في وجوده وإنما يتصور وجوده بالأدلة الخفية وإذا كان كذلك فالذين نقلوا عن الأنبياء عليهم السلام أن الله يتكلم ويأمر وينهى والذين أجمعوا على ذلك إذا لم يذكر أحد منهم أنه أراد هذا المعنى الخفي المشكل الذي ليس يتصور بحال أو لا يتصور إلا بشدة عظيمة لم يجز أن يقال إنهم كانوا متفقين على نقل هذا المعنى والإجماع عليه ولم يجز أن يقال إنهم أجمعوا على ثبوت معنى لا يفهمونه ونقلوا عن الأنبياء عليهم السلام أن الله تعالى يتكلم ويقول وهم لا يفهمون معنى لفظ الكلام والقول فإن هذا أيضا معلوم الفساد بالضرورة وإذا بطل القسمان على أن الذي انعقد عليه الإجماع ونقله أهل التواتر عن المرسلين هو الكلام الذي تسميه الخاصة والعامة كلاما دون هذا المعنى والله سبحانه أعلم، وهذا بين واضح يدل على فساد مذهب المخالف وعلى صحة مذهب أهل السنة وبمثل هذا الوجه يبطل أيضا مذهب الجهمية من المعتزلة ونحوهم فإن كون الكلام يكون منفصلا عن المتكلم قائما بغيره مما لا تعرف العامة والخاصة أنه يكون كلاما للمتكلم وإن أثبت ذلك فإنما يثبت بأدلة خفية مشكلة وإذا كان أهل التواتر نقلوا أن الله تكلم بالقرآن وأجمع المسلمون على ذلك ولم يجز إرادة هذا المعنى علم أن التواتر والإجماع إنما هو على المعنى المعروف وهو أنه سبحانه تكلم بالقرآن كله حروفه ومعانيه وأن المتكلم لا بد أن يقوم به كلامه وإن كان يتكلم إذا شاء .

الوجه الخامس والثلاثون: إنهم قد ذكروا حجتهم على ذلك وإذا تدبرها الإنسان علم فسادها وبناءها على أصل فاسد، وتناقضهم فيها، قال الأستاذ أبو بكر بن فورك أمره سبحانه للمؤمنين بالإيمان هو نهيه عن الكفر وأمره بالصلاة إلى بيت المقدس في وقت بعينه هو نهيه عن الصلاة إليه في وقت غيره، قال: وكذلك يقول إن مدحه المؤمن على إيمانه بكلامه الذي هو ذم للكافرين ولا يتغير القول بتغاير كلامه واختلاف أنواعه بل نقول فيه كما نقول في علمه وقدرته وسمعه وبصره، فنقول إن علمه بوجود الموجود هو علمه بعدمه إذا عدم وقدرته عليه قبل أن يوجده هي قدرته عليه في حال إيجاده ولا يقال إنها قدرة عليه في حال بقائه ورؤيته لآدم وهو في الجنة هي رؤيته له هو في الدنيا وسمعه لكلام زيد هو سمعه لكلام عمرو من غير تغير واختلاف في شيء من أوصافه ونعوته لذاته، وقال: فإن قيل: كيف يعقل كلام واحد يجمع أوصافا مختلفة حتى يكون أمرا نهيا خبرا استخبارا ووعدا ووعيدا قيل يعقل ذلك بالدليل الموجب لقدمه المانع من كونه متغايرا مختلفا على خلاف كلام المحدثين كما يعقل متكلم هو شيء واحد ليس بذي أبعاض ولا أجزاء ولا آلات والذي أوجب كونه كذلك قدمه ووجب مخالفته للمتكلمين المحدثين، وإن كان لا يعقل متكلم هو شيء واحد لا ينقسم ولا يتجزأ في المحدثات فيقال له هذا ليس جوابا عن السؤال فإن السائل قال كيف يعقل أن يكون الواحد الذي لا اختلاف فيه مختلفا، فإن هذا مثل قول النصارى هو جوهر واحد وهو ثلاثة جواهر، وما ذكره إنما هو إقامة الدليل على ثبوت ما ادعاه ليس جوابا عن المعارضة وهذه عادة ابن فورك وأصحابه فإنه لما نوظر قدام محمود بن سبكتكين أمير المشرق فقيل له لو وصف المعدوم لم يوصف إلا بما وصفت به الرب من كونه لا داخل العالم ولا خارجه كتب إلى أبي إسحاق الإسفراييني في ذلك، ولم يكن جوابهما إلا أنه لو كان خارج العالم للزم أن يكون جسما، فأجابوا لمن عارضهم بضرورة العقل بدعوى الحجة، قلت: فنظره كذلك في هذا المقام، فإن كون الواحد الذي لا اختلاف فيه ولا تعدد ولا تغاير أصلا يكون أشياء مختلفة هو جمع بين النقيضين وذلك معلوم الفساد ببديهة العقل، فإذا قبل للشخص، هذا الكلام معلوم الفساد ببديهة العقل هل يكون جوابه أن يقيم دليلا على صحته بل يبين أنه لا يخالف بديهة العقل وضرورته وهو لم يفعل ذلك ولا يمكن أحد أن يفعل ذلك بحق فإن البديهات لا تكون باطلة بل القدح فيها سفسطة وهم دائما ينكرون على غيرهم مخالفتهم ما هو دون هذا كما سننبه على بعضه . وذكر طوائف من المتكلمين كابن الزاغوني عنهم أنهم جميعا يقولون بالاتحاد والحلول، لكن الاتحاد في المسيح والحلول في مريم، فقالوا: اتفقت طوائف النصارى على أن الله جوهر واحد ثلاثة أقانيم وأن كل واحد من الأقانيم جوهر خاص يجمعها الجوهر العام وذكروا اختلافا بينهم ثم قالوا وزعموا أن الجوهر هو الأب والأقانيم الحياة وهي روح القدس والعلم والقدرة وأن الله اتحد بأحد الأقانيم الذي هو الابن بعيسى ابن مريم وكان مسيحا عند الاتحاد لاهوتيا وناسوتيا حمل وولد ونشأ وقتل وصلب ودفن، ثم ذكروا اليعقوبية والنسطورية والملكية، قال الناقلون عنهم واختلفوا في الكلمة الملقاة إلى مريم فقالت طائفة منهم أن الكلمة حلت في مريم حلول الممازجة كما يحل الماء في اللبن فيمازجه ويخالطه، وقالت طائفة منهم أنها حلت في مريم من غير ممازجة وزعمت طائفة من النصارى أن اللاهوت مع الناسوت كمثل الخاتم مع الشمع يؤثر فيه بالنقش ثم لا يبقى منه شيء إلا أثر فيه، ثم ذكر هؤلاء عنهم في الاتحاد نحو ما حكى الأولون فقالوا قد اختلف قولهم في الاتحاد اتحادا متباينا، فزعم قوم منهم أن الاتحاد هو أن الكلمة التي هي الابن حلت قبل جسد المسيح وهذا قول الأكثرين منهم وزعم قوم منهم أن الاتحاد هو الاختلاط والامتزاج، وقال قوم من اليعقوبية هو أن كلمة الله انقلبت لحما ودما بالاتحاد، وقال كثير من اليعقوبية والنسطورية الاتحاد هو أن الكلمة والناسوت اختلطا فامتزجا كاختلاط الماء بالخمر والخمر باللبن وقال قوم منهم أن الاتحاد هو أن الكلمة والناسوت اتحدا فصارا هيكلا ومحلا، وقال قوم منهم الاتحاد مثل ظهور صورة الإنسان في المرآة والطابع في المطبوع مثل الخاتم في الشمع، وقال قوم منهم الكلمة اتحدت بجسد المسيح على معنى أنها حلته من غير مماسة ولا ممازجة كما نقول إن الله في السماء وعلى العرش من غير مماسة ولا ممازجة، وقال الملكية الاتحاد هو أن الاثنين صارا واحدا وصارت الكثرة قلة فزعم بعض الناس أن الذين قالوا هو المسيح ابن مريم الذين قالوا اتحدا حتى صارا شيئا واحدا والذين قالوا هما جوهر واحد له طبيعتان فيقولون هو ولده بمنزلة الشعاع المتولد عن الشمس، والذين قالوا بجوهرين وطبيعتين وأقنومين مع الرب قالوا ثالث ثلاثة وهذا الذي قاله هؤلاء ليس بشيء فإن الله أخبر أن النصارى يقولون إنه ثالث ثلاثة وأنهم يقولون إنه ابن الله وقال لهم لا تقولوا ثلاثة مع إخباره أن النصارى افترقوا وألقي بينهم العداوة والبغضاء بقوله: { ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيمة }، وقد ذكر المفسرون أن هذا إخبار بتفرقهم إلى هذه الأصناف الثلاثة وغير ذلك، وقد أخبر سبحانه عقب قوله ثالث ثلاثة بما يقتضي أن هؤلاء اتخذوه ولدا بقوله تعالى: { ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد } وذكر أيضا ما يقتضي أن قولهم إن الله هو المسيح ابن مريم من الشرك، فقال تعالى: { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار } فهذا يقتضي أن هذا القول من الشرك، وذلك لأنهم مع قولهم إن الله هو المسيح ابن مريم فلا يخصونه بالمسيح بل يثبتون أن له وجودا وهو الأب ليس هو الكلمة التي في المسيح فإن عبادتهم إياه معه إشراك وذلك مضموم إلى قوله إنه هو وقولهم إنه ولده وقد نزه الله نفسه عن هذا وهذا في غير موضع من القرآن، نزه نفسه عن الشريك والولد كما في قوله تعالى: { وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك } وقال تعالى: { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا الذي له ملك السموات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا }، وقال تعالى: { وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون } وأيضا فهذه الأقوال لا تنطبق على ما ذكر فإن الذين يقولون إنهما اتحدا وصارا شيئا واحدا يقولون أيضا إنما اتحد الكلمة التي هي الابن، والذين يقولون هما جوهر واحد له طبيعتان يقولون إن المسيح إله وإنه الله والذين يقولون إنه حل فيه يقولون حلت فيه الكلمة التي هي الابن وهي الله أيضا بوجه آخر كما سنذكره، وأيضا فقوله ثالث ثلاثة ليس المراد به الله واللاهوت الذي في المسيح وجسد المسيح فإن أحدا من النصارى لا يجعل لاهوت المسيح وناسوته إلهين ويفصل الناسوت عن اللاهوت بل سواء قال بالاتحاد أو بالحلول فهو تابع للاهوت، وأيضا فقوله عن النصارى { ولا تقولوا ثلاثة } { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة }، قد قيل إن المراد به قول النصارى باسم الأب والابن والروح القدس إله واحد وهو قولهم بالجوهر الواحد الذي له الأقانيم الثلاثة التي يجعلونها ثلاثة جواهر وثلاثة أقانيم أي ثلاثة صفات وخواص، وقولهم إنه هو الله وابن الله هو الاتحاد والحلول، فيكون على هذا تلك الآية على قولهم تثليث الأقانيم، وهاتان في قولهم بالحلول والاتحاد، فالقرآن على هذا القول رد في كل آية على صنف منهم، والقول الثاني وهو الذي عليه أن المراد بذلك جعلهم للمسيح إلها، ولأمه إلها مع الله، كما ذكر ذلك في قوله: { يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق } إلى قوله: { ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم } الآية، ويدل على ذلك قوله: { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام } فقوله تعالى: { ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة } عقب قوله: { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة } يدل على أن التثليث الذي ذكره الله عنهم اتخاذ المسيح ابن مريم وأمه إلهين، وهذا واضح على قول من حكى من النصارى أنهم يقولون بالحلول في مريم والاتحاد بالمسيح، وهو أقرب إلى تحقيق مذهبهم، وعلى هذا فتكون كل آية مما ذكره الله من الأقوال تعم جميع طوائفهم، وتعم أيضا بتثليث الأقانيم، وبالاتحاد والحلول، فتعم أصنافهم وأصناف كفرهم، ليس يختص كل آية بصنف، كما قال من يزعم ذلك، ولا تختص آية بتثليث الأقانيم، وآية بالحلول والاتحاد، بل هو سبحانه ذكر في كل آية كفرهم المشترك، ولكن وصف كفرهم بثلاث صفات وكل صفة تستلزم الأخرى: أنهم يقولون المسيح هو الله، ويقولون هو ابن الله، ويقولون إن الله ثالث ثلاثة، حيث اتخذوا المسيح وأمه إلهين من دون الله، هذا بالاتحاد، وهذه بالحلول، وتبين بذلك إثبات ثلاثة آلهة منفصلة غير الأقانيم، وهذا يتضمن جميع كفر النصارى، وذلك أنهم يقولون: الإله جوهر واحد له ثلاث أقانيم، وهذه الأقانيم يجعلونها تارة جواهر وأشخاصا، وتارة صفات وخواصا، فيقولون: الوجود الذي هو الأب، والابن الذي هو العلم، وروح القدس التي هي الحياة عند متقدميهم، والقدرة عند متأخريهم، فيقولون موجود حي عالم ناطق أو موجود عالم قادر، لكن يقولون أيضا إن الكلمة التي هي الابن جوهر، وروح القدس أيضا جوهر، وأن المتحد بالمسيح هو جوهر الكلمة دون جوهر الأب وروح القدس وهذا مما لا نزاع بينهم فيه، ومن هنا قالوا كلهم المسيح هو الله، وقالوا كلهم هو ابن الله، لأنه من حيث إن الأب والابن وروح القدس إله واحد وجوهر واحد وقد اتحد بالمسيح كان المسيح هو الله، ومن حيث إن الأب جوهر والابن جوهر وروح القدس جوهر والذي اتحد به هو جوهر الابن الذي هو الكلمة، كان المسيح هو ابن الله عندهم، ولا ريب أن هذين القولين - وإن كان كل منهما متضمنا لكفرهم كما ذكره الله - فإنهما متناقضان، إذ كونه هو يناقض كونه ابنه، لكن النصارى يقولون هذا كلهم، ويقولون هذا كلهم، كما ذكر الله ذلك عنهم، ولهذا كان قولهم معلوم التناقض في بديهة العقول، عند كل من تصوره، فإن هذه الأقانيم إذا كانت صفات أو خواصا وقدر أن الموصوف له بكل صفة اسم كما مثلوه بقولهم " زيد الطبيب " " وزيد الحاسب " " وزيد الكاتب " لكن لا يمكن أن بعض هذه الصفات يتحد بشيء دون الجوهر، ولا أن بعض هذه الصفات يفارق بعضا فلا يتصور مفارقة بعضها بعضا ولا مفارقة شيء منها للموصوف حتى يقال المتحد بالمسيح بعض هذه الصفات، وهم لا يقولون ذلك أيضا بل هم متفقون على أن المتحد به جوهر قائم بنفسه، فإن لم يكن جوهر إلا جوهر الأب كان جوهر الأب هو المتحد، وإن كان جوهر الابن غيره فهما جوهران منفصلان وهم لا يقولون بذلك، والموصوف أيضا لا يفارق صفاته، كما لا تفارقه، فلا يمكن أن يقال: اتحد الجوهر بالمسيح بأقنوم العلم دون الحياة، إذ العلم والحياة لازمان للذات، لا يتصور أن تفارقهما الذات ولا يفارقهما واحد منهما، ومن هنا قيل: النصارى غلطوا في أول مسألة من الحساب الذي يعلمه كل أحد، ، وهو قولهم الواحد ثلاثة، وأما قول بعضهم: أحدي الذات، ثلاثي الصفات، فهم لا يكتفون بذلك - كما تقدم - بل يقولون الثلاثة جواهر والمتحد بالمسيح واحد منها دون الآخر ، وبهذا يتبين أن كل من أراد أن يذكر قولهم على قول يعقل فقد قال الباطل، كقول المتكايسين منهم هذا كما تقول: زيد الطبيب، وزيد الحاسب، وزيد الكاتب فهم ثلاثة رجال باعتبار الصفات، وهم رجل واحد باعتبار الذات، فإنه يقال: من يقول هذا لا يقول بأن زيدا الطبيب فعل كذا أو اتحد بكذا أو حل به دون زيد الحاسب والكاتب، بل أي شيء فعله أو وصف به زيد الطبيب في هذا المثال فهو الموصوف به زيد الكاتب الحاسب، والنصارى يثبتون هذا المثلث في الأقانيم مع قولهم إن المتحد هو الواحد فيجعلون المسيح هو الله لأنهم يقولون الموصوف اتحد به، ويجعلونه هو ابن الله، لأنهم يقولون إنما اتحد به الجوهر الذي هو الكلمة، أو إنما اتحد به الكلمة دون الأب الذي هو الموجود، ودون روح القدس وهما أيضا جوهران، فقد تبين أن قول النصارى بهذا وبهذا جمع بين النقيضين، وهو أفسد شيء في بداهة العقول، وكل منهما كفر كما كفرهم الله، وأما قولهم: ثالث ثلاثة، فإنهم مع ذلك يعبدون الأم التي هي والدة الإله عندهم، وهذا كفر آخر مستقل بنفسه غير تثليث الأقانيم والاتحاد بالمسيح، فالقرآن يتناول جميع أصناف كفرهم في هذا الباب تناولا تاما، والمقصود هنا التنبيه على مضاهاة الجهمية لهم دون تفصيل الكلام عليهم، والجهمية الغلاظ يضاهونهم مضاهاة عظيمة، لكن المقصود هنا ذكر مضاهاة هؤلاء الذين يقولون: الكلام معنى واحد قائم بذات الرب ; فيقال: أنتم قلتم الكلام معنى واحد لا ينقسم ولا يختلف، وهذا المعنى الواحد هو بعينه أمر ونهي وخبر، فجعلتم الواحد ثلاثة، وجعلتم الواحد الذي لا اختلاف فيه ثلاث حقائق مختلفة، وهذا مضاهاة قوية لقول النصارى: الرب إله واحد، وهو مع ذلك ثلاثة جواهر، فجعلوه واحدا، وجعلوه ثلاثة، ثم قلتم: هذا الكلام الذي هو واحد وهو أمر ونهي وخبر، ينزل تارة فيكون أمرا ; وتارة فيكون خبرا، وتارة فيكون نهيا ; وإذا نزل فكان أمرا، لم يكن خبرا، وإنما نزل فكان خبرا لم يكن أمرا ; فإنه إذا أنزله الله فكان آية الكرسي وهي خبر لم يكن آية الدين التي هي أمر، وهذا لعله من أعظم المضاهاة كقول النصارى: إن الجوهر الواحد الذي هو ثلاثة جواهر ثلاثة أقانيم، وإذا اتحد فإنما يكون كلمة وابنا لا يكون أبا ولا روح قدس، فإن هؤلاء كما جعلوا الشيء الذي هو واحد يتحد ولا يتحد ما يتحد من جهة كونه كلمة ، ولا يتحد من جهة كونه وجودا، أجعل أولئك الذي هو كلام واحد ينزل ولا ينزل، ينزل من جهة كونه أمرا، ولا ينزل من جهة كونه خبرا، وأيضا فإنهم ضاهوا النصارى في تحريف مسمى الكلمة والكلام، فإن المسيح سمي كلمة الله لأن الله خلقه بكلمته: { كن فيكون }، كما يسمى متعلق الصفات بأسمائها فيسمى المقدور قدرة، والمعلوم علما، وما يرحم به رحمة، والمأمور به أمرا وهذا كثير قد بسطناه في غير هذا الموضع، لكن هذه الكلمة نادرة يجعلونها صفة لله، ويقولون هي العلم، وتارة يجعلونها جوهرا قائما بنفسه، وهي المتحد بالمسيح، وهؤلاء حرفوا مسمى الكلمة فزعموا أنه ليس إلا مجرد المعنى، وأن ذلك المعنى ليس هو العلم ولا الإرادة، ولا هو من جنس ذلك، ولكن هو شيء واحد، وهو حقائق مختلفة، لكن ليس في غير المسلمين من يقول الكلام جوهر قائم بنفسه ; إلا ما يذكر عن النظام أنه قال: الكلام الذي هو الصوت جسم من الأجسام، وأيضا فهم في لفظ القرآن الذي هو حروفه واشتماله على المعنى لهم مضاهاة قوية بالنصارى في جسد المسيح الذي هو متدرع للاهوت، فإن هؤلاء متفقون على أن حروف القرآن ليست من كلام الله بل هي مخلوقة، كما أن النصارى متفقون على أن جسد المسيح لم يكن من اللاهوت بل هو مخلوق، ثم يقولون: المعنى القديم لما أنزل بهذه الحروف المخلوقة، فمنهم من يسمي الحروف كلام الله حقيقة كما يسمي المعنى كلام الله حقيقة، ومنهم من يقول بل هي كلام الله مجازا، كما أن النصارى منهم من يجعل جسد المسيح لاهوتا حقيقة لاتحاده باللاهوت، واختلاطه به، ومنهم من يقول: هو محل اللاهوت ووعاؤه، ثم النصارى تقول: هذا الجسد إنما عبد لكونه مظهر اللاهوت، وإن لم يكن هو إياه، ولكن صار هو إياه بطريق الاتحاد، وهو محله بطريق الحلول، فعظم كذلك، وهؤلاء يقولون: هذه الحروف ليست من كلام الله، ولا يجوز أن يتكلم الله بها، ولكن خلقها وأظهر بها المعنى القديم ودل بها عليه، فاستحقت الإكرام والتحريم لذلك، حيث يدخل في حكمه بحيث لا يفصل بينهما، أو يفصل بأن يقال: هذا مظهر هذا دليله، وجعلوا ما ليس هو كلام الله ولا تكلم الله به قط كلاما لله معظما تعظيم كلام الله، كما جعلت النصارى الناسوت الذي ليس هو بإله قط، ولا هو الكلمة إلها وكلمة، وعظموه تعظيم الإله الذي هو كلمة الله عندهم، ومنها: أن النصارى

على ما حكى عنهم المتكلمون كابن الباقلاني أو غيره ينفون الصفات ويقولون: إن الأقانيم التي هي الوجود والحياة والعلم، هي خواص، هي صفات نفسية للجوهر، ليست صفات زائدة على الذات، ويقولون: إن الكلمة هي العلم، ليست هي كلام الله، فإن كلامه صفة فعل، وهو مخلوق، فقولهم في هذا كقول نفاة الصفات من الجهمية، المعتزلة وغيرهم، وهذا يكون قول بعضهم ممن خاطبهم متكلمو الجهمية من النسطوريين وغيرهم، وممن تفلسف منهم على مذهب نفاة الصفات من المتفلسفة، ونحو هؤلاء، وإلا فلا ريب أن في النصارى مثبتة للصفات، بل غالية في ذلك، كما أن اليهود أيضا فيهم المثبتة والنفات، والمقصود هنا أن تسميتهم للعلم كلمة دون الكلام الذي هو الكلام، ثم ذلك العلم ليس هو أمرا معقولا، كما تعقل الصفات القائمة بالموصوف، ضاهاهم في ذلك هؤلاء الذين يقولون: الكلام هو ذلك المعنى القائم بالنفس دون الكلام الذي هو الكلام، ثم ذلك المعنى ليس هو المعقول من معاني الكلام، فحرفوا اسم الكلام ومعناه، كما حرفت النصارى اسم الكلمة ومعناها، وهذا الكلام ذكرته من مضاهاة هؤلاء النصارى من بعض الوجوه، [ وقد ] رأيت بعد ذلك الناس قد نبهوا على ذلك، قال أبو الحسن بن الزاغوني: في مسألة وحدة الكلام دليل آخر، يقال لهم: ما الفرق بينكم في قولكم إن الأمر والنهي اثنان وهما واحد، والقول بذلك قول صحيح غير مناف للصحة والإمكان، وبين من قال: إن الكلمة والناسوت واللاهوت ثلاثة واحد، فإن هذا مما اتفقنا على قبحه شرعا وعقلا، من جهة أن الكلمة غير الناسوت واللاهوت، وكذلك الآخران صفة ومعنى، كما أن الأمر يخالف النهي صفة ومعنى ؟ قال: وهذا مما لا محيد لهم عنه، ولا انفصال لهم منه إلا بزخارف عاطلة عن صحة لا يصلح مثلها أن يكون شبهة توقف معها، وقد قال ابن الزاغوني قبل ذلك لو جاز أن يقال: إن عين الأمر هو النهي، مع كون الأمر يخالف النهي في وصفه ومعناه، فإن الأمر استدعاء الفعل، والنهي استدعاء الترك، وموضوع الأمر إنما يراد منه تحصيل ما يراد بطريق الوجوب أو الندب، وموضوع النهي يراد منه مجانبة ما يكره إما بطريق التحريم أو الكراهة والتنزيه ; وما يدخل تحت الأمر يقتضي الصحة، وما يدخل تحت النهي يقتضي الفساد، إما بنفسه أو بدليل يتصل به أو ينفصل عنه، وكذلك من المحال أن يقتضي النهي الصحة إما بنفسه أو بدليل يتصل به، ولو قال قائل: إن المنهي عنه نهي عنه لكونه محبوبا عند الناهي عنه، والمأمور به أمر به لكونه مبغوضا عند الآمر به، لكان هذا قولا باطلا يشهد العقل بفساده، ويعرف جري العادة على خلافه، وهذا يوجب أن يكون الأمر في نفسه وعينه غير النهي بنفسه وعينه، ولو ادعى مدع أن ذلك مقطوع به غير مسوغ حصوله لكان ذلك جائزا ممكنا، قلت: ما ذكره من فساد هذا القول هو كما ذكره لكن يقال له ولمن وافقه: وأنتم أيضا قد قلتم في مقابلة هؤلاء ما هو في الفساد ظاهر، كذلك قال ابن الزاغوني في مسألة الحروف والصوت، قالوا: إذا قلتم إن القرآن صوت ندركه بأسماعنا، والذي ندركه بأسماعنا عند تلاوة التالي إنما هو صوته الذي يحدث عنه، وهو عرض وجد بعد عدمه وعدم بعد وجوده، وهو مما يقوم به ويتقدر بقدر حركاته، فإن قلتم: هذا هو القديم، فنقول لكم: هذا هو صوت الله، فإن قلتم: نعم، فهذا محال لأنا نعلمه ونتحققه صوت القارئ، وإن قلتم: إنه صوت القارئ، فقد أقررتم بأنه محدث وهو خلاف قولكم، قال: قلنا: قولكم إن الصوت الذي ندركه بأسماعنا عند تلاوة التالي للقرآن إنما هو صوته الذي يحدث عنه على ما ذكرتم هو دعوى مسألة الخلاف، بل نقول: إن هذا الذي ندركه بأسماعنا عند تلاوة التالي هو الكلام القديم، فلا نسلم لكم ما قلتم وما ذكرتموه من العدم والوجود بعد العدم، والفناء بعد الوجود، ليس لأمر كذلك بل نقول: إنه ظهر عند حركات التالي بالآية في محل قدرته، فأما عدمه قبل وبعد، فلا، وأما قولكم: إنه يتعذر بحركاته فقد أسلفنا الجواب عنه، وأما سؤالكم لنا: هل هذا الذي نسمعه صوت الله تعالى ؟ أم صوت الآدمي ؟ فقد ذكر أصحابنا في هذا جوابين: أحدهما: ما قلنا إنه ظهر عند حركات آلات الآدمي في محل قدرته من الأصوات فإنما هو القرآن الذي هو كلام الله، وليس هو بالعبد ولا منه، ولا هو مضاف إليه على طريق التولد والانفعال ونتائج العقل، وإنما يضاف إلى الله تعالى بقدر ما توجبه الإضافة، والذي توجبه الإضافة أن يكون قرآنا وكلاما لله، وقد اتفقنا أن القرآن الذي هو كلام الله قديم غير مخلوق، فوجب لذلك أن نقول: إن ما يصل إلى السمع هو صوت الله تعالى لأنه لا فعل للعبد فيه، وهو جواب حسن مبني على هذا الأصل الذي ثبت بالأدلة الجلية القاطعة،

والجواب الثاني: أنهم قالوا: لما جرت العادة أن زيادة الأصوات تكثر عند كثرة الاعتمادات، وقد يختلف الناس في الأداء، فمنهم من يقول: القرآن على وجه لا زيادة فيه، بل هو كاف في إيصاله إلى السمع على وجه، فإن نقص لم يصل وإن زاد أكثر منه وصل عما يحتاج إليه، إما في واقع رفع الصوت وإما في الأداء من المد والهمز والتشديد، إلى غير ذلك من حلية التلاوة، وتصفية الأداء بالقوة والتحسين، فما لا غناء عنه في تحصيل الاستماع وتكملة الفهم فذلك هو القديم، وما قارنه مما اقتضى الزيادة في ذلك مما لو أسقط لما أثر في شيء مما يحتاج إليه من الاستماع والفهم فذلك مضاف إلى العبد، فهذا يبين أنه اقترن القديم بالمحدث على وجه يعسر تمييزه إلا بعد التلفظ والتأني في التدبر ليصل بذلك إلى مقام الفهم والتبيين لما ذكرناه، وهو عند الوصول إليه يمضي العقل بتحصيل مطلوبه، قلت: دعوى أن هذا الصوت المسموع من العبد، أو بعضه، هو صوت الله، أو هو قديم، بدعة منكرة مخالفة لضرورة العقل لم يقلها أحد من أئمة الدين، بل أنكرها أئمة المسلمين من أصحاب الإمام أحمد وغيره، وإنما قال ذلك شرذمة قليلة من الطوائف، وهي أقبح وأنكر من قول الذين قالوا : لفظنا بالقرآن غير مخلوق، فإن أولئك لم يقولوا صوتنا ولا قالوا قديم، ومع هذا فقد اشتد نكير الإمام أحمد عليهم، وتبديعه لهم، وقد صنف الإمام أبو بكر المروزي صاحبه في ذلك مصنفا جمع فيه مقالات علماء الوقت من أهل الحديث والسنة، من أصحاب أحمد وغيرهم، على إنكار ذلك ; وقد ذكر ذلك أبو بكر الخلال في كتاب السنة، وهذا الذي ذكره ابن الزاغوني عن أصحابه إنما هم أتباع القاضي أبي يعلى في ذلك، فإن هذا تصرف القاضي والله يغفر له، وقد كان ابن حامد يقول: إن لفظي بالقرآن غير مخلوق على ما ذكر عنه، والقاضي، أنكر هذا كما ثبت إنكاره عن أحمد، وذهب في إنكار ذلك إلى ما ذهب إليه الأشعري وابن الباقلاني وغيرهما أنهم كرهوا أن يقال لفظت بالقرآن، وأن القرآن لا يلفظ، قالوا: لأن القديم لا يلفظ إذ اللفظ هو الطرح والرمي، ولكن يتلى أو يقرأ، فإن الأشعري لما ذكر في مقالة أهل السنة أنهم منعوا أن يقال: لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق، وكان هو وأئمة أصحابه منتسبين إلى الإمام أحمد خصوصا، وإلى غيره من أهل الحديث عموما في السنة، والإنكار على الطائفتين كما اشتهر عن الإمام أحمد وطائفة من الأئمة في زمانه وافقوه على ذلك وفسروه بكراهة لفظ القرآن ووافقهم القاضي أبو يعلى في ذلك، ثم إن القاضي وأتباعه يقولون: أبلغ من قول من قال لفظي بالقرآن غير مخلوق ; وأولئك يقولون: أبلغ من قول من قال: لفظي بالقرآن مخلوق مع دعوى الطائفتين اتباع أحمد، وقد صنف الحافظ أبو الفضل محمد بن ناصر المشهور، وكان في عصر أبي الحسن بن الزاغوني الفقيه وفي بلده، مصنفا يتضمن إنكار قول من يقول: إن المسموع صوت الله، وأبطل ذلك بوجوه متعددة، وكان ما قام به في ذلك المكان والزمان قياما لغرض رد هذه البدعة وإنكارها، وهو من أعيان أصحاب أحمد وعلمائهم، ومن أعلم علماء وقته بالحديث والآثار . - سئل: المصافحة عقيب الصلاة: هل هي سنة أم لا ؟ الجواب: الحمد لله، المصافحة عقيب الصلاة ليست مسنونة، بل هي بدعة، والله أعلم .