ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الرابع/الباب الأربعون


و هو باب الكلام في الاجتهاد ما هو؟ و بيانه و من هو معذور باجتهاده و من ليس معذورا به و من يقطع على أنه خطأ عند الله تعالى فيما أراد إليه اجتهاده و منم لا يقع على أنه مخطىء عند الله عز و جل و إن خالفناه

قال أبو محمد علي بن أحمد رحمه الله: لفظة "الاجتهاد" مما يجب معرفة تفسيرها، لأن أكثر المتكلمبن في الاجتهاد و حكمه لا يعملون معناها فنقول و بالله تعالى التوفيق: إن حقيقة بناء لفظة " الاجتهاد" أنه افتعال من الجهد، و حقيقة معناها أنه استنفاد الجهد في طلب الشيء المرغوب إدراكه، حيث يؤجى وجوده فيه، أو حيث يوقن بوجوده فيه. هذا ما لا خلاف بين أهل اللغة فيه. و الجهد ـ بضم الجيم ـ الطاقة و القوة، تقول هذا جهدي، أي طاقتي و قوتي، و الجهد بفتح الجيم ـ سوء الحال و ضيقتها. تقول: القوم في جهد، أي في سوء حال. فإذ ذلك كذلك فالاجتهاد في الشؤيعة هو: استنفاد الطاقة في طلب حكم النازلة حيث يوجد ذلك الحكم. ما لا خلاف بين أحد من أهل العلم بالديانة فيه. قال أبو محمد: و إنما قلنا في تفسير الاجتهاد العالم حيث يرجى وجوده، فعلقنا الطلب بمواضع الرجاء، و قلنا في تفسير الاجتهاد في الشريعة. حيث يوجد ذلك الحكم، فلم نعلقه بالرجاء، لأن أحكام الشريعة كلها متيقن أن الله تعالى قد بينها بلا خلاف، و من قال إن الله تعالى و رسوله صلى الله عليه و سلم لم يبين لنا الشريعة التي أراها تعالى منا و ألزمنا إياها ـ: فلا خلاف في أنه كافر، فأحكام الشريعة كلها مضمونة الوجود لعامة العلما، و إن تعذر وجود بعضها على بعض الناس، فمحال ممتنع أن يتعذر وجوده على كلهم، لأن الله تعالى لا يكلفنا ما ليس في و سعنا ما نعذر وجوده على الكل، فلم يكلفنا الله تعالى إياه قط، فال الله تعالى: {لا يكلّف الله إلا وسعها} و قال تعالى: {و ما جعل عليكم في الدّين من حرج} و بالضرورة ندري أي تكليف أصابه ما لا سبيل الى وجوده، فصح قولنا، و بالله تعالى التوفيق. ثم اتفق العلماء على أن القرآن، و ما حكم به ؤسول الله صلى الله عليه و سلم أو قاله أو فعاه أو أقره، و قد علمه مواضع لوجود أحكام النوازل، و اختلفوا في نقل السنن على ما ذكرناه قبل، و بينا البرهان هنالك ـ بحول الله تعالى و قوته على وجوب قبول الخبر المسند بتقل العدول. ثم اختلفوا، فقالت طائفة: لا موضع البتة لطلب حكم النوازل من الشؤيعة، و لا وجود إلا هذه المعادن التي ذكرنا، أما نص على اسم تلك النازلة، و أما دليل منها على حكم تلك النازلة، لا يحتمل إلا وجها واحدا، و هذا قول جميع أهل الإسلام قطعا، و ان اختلفوا في الطرق التي توصل الى معرفة السنن، و هو قول جميع أصحابنا الظاهرييين، و به نأخذ و قد بينّا أقسام الدليل المذكور فيما سلف من ديواننا هذا، و حضرناها هنالك و الحمد لله ربّ العالمين.

و قال آخرون: بل ههنا مواضع أخر يطلب فيها حكم النازلة و هي الخبر المرسل، و قول الصاحب الذي لا يعرف له مخالف من الصحابة إذا اشتهر، و قال آخرون: و إن لم يشتهر ، و قول الإمام الوالي منهم، و دليل الخطاب، و القياس، و الرأي المجرد و الاستحسان، و قول أكثر العلماء، و عمل أهل المدينة، و الأخذ بقول عالم، و إن كان له مخالف مثله، و قد شرحنا معاني هذه الاسماء، و أبطلنا الحكم بكلها أو بشيء منها بالبراهين الضرورية، فيما سلف من كتابنا هذا، و الحمد لله رب العالمين. فأما تعلق قوم فيما اعتقدوه من أحكام بعض النوازل بقول صاحب ـ له مخالفون ـ أو بقول تابع أو بقول فقيه من الفقهاء المتقدمين ـ و إن خالفه غيره من أهل العلم ـ فهذا هو التقليد الذي قد تكلمنا في ابطاله فيما سلف من كتابتا هذا، و الحمد لله رب العالمين. قال أبو محمد: و ليس للمتكلميت في الديانة اليوم قول يكون عندهم اجتهادا غير ما ذكرنا، و قد كانت أقوال في ذلك لقوم من اهل الكلام قد درست، مثل قول بعضهم:/ إن ما وقع في النفس من أول الفكر فهو الواجب أن يقال به، و قال بعضهم: الواجب أن يقال بالأثقل لأنه خلاف الهوى، و قال بعضهم: بل الأخف منها، لقول الله تعالى: { يريد الله بكم اليسر و لا يريد بكم العسر} .

قال أبو محمد: و هذه أقوال فاسدة، لأنها كلها دعاوى يعارض بعضها بعضا، و كل ما ألزمنا الله تعالى فهو يسر، و إن نقل علينا، و كل شريعة تتكلف فهي خلاف الهوى، لأن تركها موافقا للهوى، و لأنه قد يقع في أوائا الفكر الوسواس، و قال تعالى ذامّا لقوم: { شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} . و من قطع بشيء مما يقع في نفسه في الدين فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله تعالى، و قال تعالى : { قُل هاتوا برهانكم أن كنتم صادقين} . فنص تعالى غلى أن ما لا برهان له فليس بصادق، و قال تعالى: { كتي عليكم القتال و هو كرة لكم و عسى أن تكرهوا شيئاً و هو شرٌّ لكم} . فهذا يدفع قول من قال بالأخف، و قال تعالى: { و ما جعل عليكم في الدين من حرج} . و هذا يدفع قول من قال بالأثقل، و صح أنه لا لازم إلا ما ألزمنا الله تعالى، و سواء وقع في النفس أو لم يقع، و سواء كان أخف أو أثقل. قال أبو محمد، و إذ قد انحصرت وجوه الاجتهاد الى ما قد وضحنا براهينه ـ، من القرآن أو الخبر المسند بنفل الثقات الى النبي صلى الله عليه و سلم، إمّا نصّا على الاسم، و إمّا دليلا من النص لا يحتمل إلا معنى واحداً ـ و سقط كل ما عداها من الوجوه التي قد حصرت ـ : فالواجب أن ننظر في أقسام المجتهدين فنظرنا في ذلك فوجدنا أقسام المجتهدين بقسمة العقل الضرورية لا تخرج عن ثلاثة أقسام عندنا، و أما عند الله تعالى فقسمان لا ثالث لهما: فالقسمان اللذان عند الله تعالى هما: مصيب أو مخطىء، لا بد أن يكون كل مجتهد عند الله تعالى واقعا في التعيين: إما مصيب و إما مخطىء، فقد أوضحنا فيما سلف من كتابنا هذا البراهين الضرورية على أن الحق لا يكون في قولين مختلفين في حكم واحد في إنسان واحد في وجه واحد. و أما الثلاثة أقسام التي عندنا: فمصيب تقطع على صوابه عند الله عز و جل، أو مخطىء نقع على خطئه عند الله عز و جل، أو متوقف فيه لا ندري أمصيب عند الله تعالى أو مخطىء، و إن أيقنّا أنه في أحد الحيزين عند الله عز و جل بلا شك لأن الله تعالى لا يشك، بل عنده علم حقيقة كل شيء، و لكنا نقول: مصيب عندنا ، و الله أعلم، أو نتوقف فلا نقول إنه مخطىء و لا مصيب، و إنما هذا فيما لم يقم على حكمه عندنا دليل أصلا، و ما كان من هذه الصفة فلا تحل الفتيا فيه لمن لم يلح له وجهه، إذ لا شك في أن عند غيرنا بيان ما جهلناه، كما أن عندنا بيان كثر مما جهله غيرنا، و لم يعر بشر من نقص أو نسيان أغفله. فإذا قال البرهان عند المرء على صحة قول ما قياما صحيحا |ـ لافحقه التدين به و العمل به و الدعاء إليه، و القطه أنه الحق عند الله عز و جل لما ذكرنا قبل، و ليس من هذا الحكم بالشهادة من العدلين، و قد بكونان في باطن أمرهما عند الله تعالى كاذبين أو مغفلين، إذ لم يكلفنا الله تعالى معرفة باطن ما شهدا به، و لكن كلفنا الحكم بشهادتهما.

وقد علمنا أنه لا يمكن ان يخفى الحق في الدين على جميع المسلمين، بل لا بد ان تقع طائفة من العلماء على صحة حكمه بيقين لما قدمنا في كتابنا في هذا من ان الدين مضمون بيانه و رفع الاشكال عنه، بقول الله تعالى : { تبيانا لكلّ شيء} . و بقوله تعالى: { لتبيّن للناس ما نزّل اليهم} .

و لكن قد قال الله تعالى: { و ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به و لكن ما تعمّدت قلوبكم} . فصح بالنص أن الخطأ مرفوع عنا، فمن حكم بقول و لم يعرف أنه خطأ، و هو عند الله تعالى خطأ، فقد أخطأ و لم يتعمد الحكم بما يدري انه خطأ، فهذا لا جناح عليه في ذلك عند الله تعالى، و هذه الآية عموم دخل فيه المفتون و الحكام و العاملون و المعتقدون فارتفع الجناح عن هؤلاءؤ بنص القرآن فيما قالوه أو عملوا به مما هم مخطئون فيه، و صح ان الجناح انما هو على من تعمد بقلبه الفتيا أو التدين او الحكم او العمل بما يدري أنه ليس حقّا او بما إليه دليل أصلا، و صح بهذه الآية ان من قام عنده برهان على بطلان قول فتمادى عليه فهو في جناح، لأنّه قد تعمد بقلبه ذلك.

و كذلك قول رسول الله صلى الله عليه و سلم:" إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر و إذا اجتهد فأصاب فله أجران" و قد ذكرناه بإسناده فيما سلف من كتابنا هذا فأغنى عن إعادته، فنص رسول الله صلى الله عليه و سلم على أن الحاكم إذا أخطأ في اجتهاده فله أجر فيما أداه اجتهاده الى أنه حق عنده، و أسقط عنه بذلك الإثم، و إن كان مخطئا في الحقيقة عند الله تعالى. قال أبو محمد: و اعتقاد الشيء و العمل به و الفتيا به، حكم به، فدخل هؤلاء تحت لفظ الحديث المذكور و عمومه، فصح ما ذكرناه، و بالله تعالى التوفيق. قال أبو محمد: ثم ينقسم المخطىء المجتهد قسمين لا ثالث لهما: إما مخطىء معذور كما قلنا، وإما مخطىء غير معذور، على ما شهد به قول الله تعالى: {ادْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُواْ آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَـكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } أن المخطىء المعذور هو الذي يتعمد الخطأ، وهو الذي يقدر أنه على حق اجتهاده، وأن المخطىء وغير المعذور هو من تعمد بقلبه ما صح عنده أنه خطأ، أو قطع بغير اجتهاده. فإن قال قائل: فإنكم على هذا يلزمكم أن كل من قال من الصحابة أو من التابعين وفقهاء الأمة وخيارها بقول يخالف قولكم في كل مسألة، فإنه داخل فيما ذكرتم من التكفير أو التفسيق أو الكذب، وفي هذا ما فيه.

قلنا: هذه دعوى منكم كاذبة، بل هو اللازم لكم، ولكل من قال: إن الحق في واحد من الأقوال، لأنكم في قوله لكم تزعمون في نصركم إياها أنها موافقة لما جاءه من عند الله تعالى، إما لقرآن أو لسنة مسندة أو مرسلة، وهما عندكم سواء في أمر الله تعالى بقبوله، أو لقياس، بل هو عندكم مما أمر الله تعالى به، فيلزمكم أن كل من خالفكم فيها من صاحب أو تابع أو فقيه: مخالف لما جاء من عند الله تعالى، والمخالف لما جاء من عند الله تعالى عندكم إما كافر وإما فاسق. فإن قال: لا يكون كافراً ولا فاسقاً ولا عاصياً إلا أن يعاند الحق الذي جاء من عند الله تعالى وهو يدري أنه حق. قلنا: هذا نفس قولنا ولله الحمد، فإن كل من خالف قرآناً أو سنة صحيحة أو إجماعاً متيقناً وهو لا يلوح له أنه مخالف لشيء من ذلك، فليس كافراً ولا عاصياً ولا فاسقاً، بل هو مأجور أجراً واحداً، كما قال رسول الله فيمن اجتهد فأخطأ، ولا خطأ في شيء من الشريعة إلا في خلاف قرآن أو سنة صحيحة، فهذا برهاننا من السنة.

وأما من القرآن فقوله تعالى للمسلمين: {ادْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُواْ آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَـكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } ومن الإجماع أنه لا خلاف بين أحد من الأمة أن من قرأ فبدل من القرآن بلفظ آخر أو أسقط كلاماً أو زاد ساهياً مخطئاً فإنه لا يكفر ولا يبتدع ولا يفسق ولا يعصي، وإنما الشأن فيمن قامت عليه الحجة، فعند وخالف الآية بعد أن وقف عليها، مقلداً أو متبعاً لهواه، أو خالف السنة بعد أن عرفها كذلك، فهؤلاء هم الذين يقع عليهم التكفير والتفسيق، على حسب خلافهم لذلك إن استحلوا خلاف ذلك كفروا، وإن خالفوه معاندين غير مستحلين فسقوا. وهكذا القول في الشريعة كلها، ووطء الفرج الحرام، وأكل الحرام واستباحة العرض الحرام والبشرة الحرام ونحو ذلك، كل هذا من فعله مخطئاً غير عالم أنه خالف ما جاء من عند الله تعالى على لسان نبيه فلا يكفر ولا يفسق ولا يعصي، ومن فعله عامداً غير معتقد لإباحة ما حرم الله تعالى من ذلك فهو فاسق، ومن فعله عامداً مستحلاً خلاف الله تعالى فهو كافر، وقد نزه الله تعالى كل صاحب وكل فاضل عن هاتين المنزلتين، وأوقع فيهما كل فاسق متبع هواه قاصداً إلى نصر الباطل، والثبات عليه وهو يدري أنه باطل، وبالله تعالى التوفيق. قال أبو محمد: فإذا قد صح كل ما قلناه فلنبين بحول الله تعالى وقوته وجوه الاجتهاد التي قدمنا، وحكم من أخذ بوجه منها وفي أي خبر يقع عندنا من القطع بصوابه أو القطع بخطئه، أو التوقف في أمره، وبالله تعالى نعتصم. فأول ذلك من تعلق بآية منسوخة، فهذا لا يخلو من أحد وجهين: إما أن تكون تلك الآية قد جاء نص منقول نقل تواتر بأنها منسوخة، أو قال دليل متيقن النص أو الحال بأنها منسوخة، فإن كان نسخها ثبت أحد هذه الوجوه، فحكمها الثبات على ما بلغه من المنسوخ عند الله عز وجل بلا شك، ما لم يثبت البرهان عنده بنسخها معذور مأجور مرتين. فإذ قام عليه البرهان المذكور بأنها منسوخة فتمادى على ذلك ــــ من الأخذ بالمنسوخ معتقداً لصوابه في ذلك، فهو كافر مشرك حلال الدم كمن تمادى على القول بأن المتوفى عنها وصية إلى الحول، أو على القول بالصلاة إلى بيت المقدس، وما أشبه ذلك.

وأما إن قام الدليل عنده على أنها منسوخة ــــ من النص المتيقن كما ذكرنا ــــ إلا أنها مما اختلف الناس في نسخها، فتمادى على القول بالمنسوخ، وهو يعلم خلاف ذلك، فهو فاسق عاص لله تعالى، لتعمد قلبه القول بمخالفة الحق الصحيح، فهو عامد كبيرة وبالله تعالى التوفيق. فإن كانت تلك الآية مما قام الدليل على نسخها من نقل الآحاد، وهو ممن يصحح مثل ذلك النقل، فتمادى على القول بها، فهو فاسق بتعمده مخالفة ما هو الحق عنده، وإن كنا لا نقطع على أنه مخطىء، وليس هذا فيما لم يأت من جهة الثقات مسنداً فقط، لكن من جهة من اختلف في توثيقه ولا بد ولا مزيد، وهذا كمن رد شهادة العدلين من الحكام فيما يقبلان فيه بغير شيء يوجب رد شهادتهما، فهذا فاسق لرده ما هو الحق عنده، ولعله في باطن الأرض مصيب في ردها إذ لعلهما كاذبان أو مغفلان أو غاب عنهما سر تلك الشهادة فهذا أفضل. وفصل ثان: وهو أن يتعلق بآية مخصوصة مثل قوله: {وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } فهذه خاصة فيمن مات كافراً ببرهان نص آخر، فهذه أيضاً ما لم يقم عنده برهان بأنها مخصوصة، فحكمه الثبات على المخصوص الذي بلغه، وهو مأجور مرتين حتى إذا قام عليه الدليل البرهاني بأنها مخصوصة، فكما قلنا في الفصل الذي قبل هذا.

وفصل ثالث: وهو أن يتعلق بآية قد خص منها بعضها كقوله تعالى: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } وكقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } إلى قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } وكقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } فهذا أيضاً حكمه الثبات على ما بلغه، وهو مأجور مرتين، فإن قام عليه البرهان فتمادى، فإن كان صحيحاً عنده فهو كافر، كمن أحل الخمر بعموم هذه الآية، أو أحل العبيد بملك اليمين.

وفصل رابع: وهو أن يتعلق بآية مزيد عليها نص آخر، كمن تعلق بقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } إلى قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } وقد زيد في هذه الآية تحريم الجمع بين المرأة وعمتها، وخالتها. ومثل هذا كثير، فهذا أيضاً حكمه الثبات على ما بلغه وهو مأجور مرتين ما لم يقل عليه دليل بالزيادة، فإن كان الدليل صحيحاً عنده فخالفه معتقداً خلاف النص فهو كافر.

وفصل خامس: وهو أن يتعلق بآية فيصرفها عن وجهها. كمن ادعى في قول الله عز وجل: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُواْ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } وقوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُواْ الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ لَّهُ مَخْرَجاً } أنهما مخالفان لماصح عن النبي من الحكم باليمين مع الشاهد وموجبان ألا يحكم بأقل من الشاهدين أو شاهد وامرأتين.

قال أبو محمد: وهذا تمويه تعمدوه أو جاز عليهم بغفلة. أو صرف للآيتين عن وجههما وتمويه بوضعهما في غير موضعهما، لأنه ليس في الآيتين المذكورتين أمر بالحكم بالشاهدين. أو الشاهد والمرأتين أصلاً. ولا دليل على ذلك بوجه من الوجوه. وإنما فيهما الأمر باستشهاد الشاهدين أو الشاهد والمرأتين المداينة والطلاق والرحمة فقط مع ما فيهما من قوله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُواْ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } دون ذكر عدد إشهاد واحد يقع عليه اسم «إشهاد» وقوعاً صحيحاً في اللغة بلا شك فهو جائز بنص القرآن.

وكمن تعلق في إيجاب الزكاة بقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } وهذا خطأ لأن إيتاء حق الزكاة فيما أنبتت الأرض لا يمكن يوم الحصاد، وهي أيضاً مكية والزكاة مدنية.

فصح أن من احتج بهذه الآية في أحكام الزكاة فصارف للآية عن وجهها، فمن جهل هذه النكتة واحتج بهاتين الآيتين فيما ذكرنا فهو مخطىء، لأنه لم يأمره الله تعالى قط بما ذهب إليه، لكنه بجهله مأجور مرة معذور، فإن وقف على ما ذكرنا فتمادى على قوله فهو فاسق أو كافر، على ما قسمنا قبل: مخطىء عند الله تعالى بيقين لما ذكرنا قبل. قال أبو محمد: وهذه الفصول كلها داخلة على من تعلق بالأحاديث كما ذكرنا قبل سواء بسواء، كمن تعلق بحديث منسوخ أو مخصوص، أو مخصوص منه أو مزيد عليه، فهذا كما قلنا في الآيات سواء بسواء إلا أنه لا يكفر إلا برد حديث ثبت عنده، وإن كان مختلفاً في الأخذ به فكما قلنا في الآيات، إن خالف في ذلك ما هو الحق عنده معتقداً لذلك فهو كافر مخطىء عند الله تعالى، وإن خالف ذلك بلسانه دون قلبه فهو فاسق. ومما ذكرنا أيضاً قول من احتج في إباحة الصلاة في المقبرة بصلاة النبي على قبر المسكينة السوداء، وهو لا يبيح الصلاة على القبر، وأما لو اتخذ بهذا لكان هذا منه قياساً، لا صرفاً للخبر عن وجهه. وكمن احتج بقوله : «إِذَا مَاتَ المَيِّتُ اِنْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثٍ» في رد الحج عن الميت وترك للصيام عنه وترك كشف رأسه إن مات محرماً. ومنها أن يدعي المرء في عموم آية نسخاً أو تخصيصاً، أو تخصيصاً منها أو ندباً، فإن حقّ له دعواه في ذلك بنص صحيح فقوله حق مقطوع على صحته عند الله عز وجل، ومن قال: إن هذه الآية أو الخبر قد نسخها الله عز وجل أو خصهما أو خصص منهما أو يلزمنا ما فيهما أو أراد بهما غير ما يفهم منهما ولم يأت على دعواه بنص صحيح ــــ فقد قال الله ما لم يعلم. قال أبو محمد: وليس هؤلاء كمن تقدم ذكرنا لهم، لأن من تعلق بنص لم يبلغه ناسخه ولا ما خصه ولا ما زيد به عليه ــــ فقد أحسن ولزم ما بلغه، وليس عليه غير ذلك حتى يبلغه خلافه من نص آخر، ومن ذكرنا في هذا الفصل فلم يتعلق بشيء أصلاً، بل تحكم في الدين كما اشتهى، وهذا عظيم جدّاً، فمن قال بهذا ممن نشاهده ــــ ساهياً غير عارف بما اقتحم فيه من الدعوى ــــ فهو معذور بجهله، ما لم ينبه على خطئه، فإن نبه عليه فثبت على خلاف ما بلغه عامداً فهذا غير معذور، لأنه خالف الحق بعد بلوغه إليه.

وأما من روي عنه شيء من ذلك من الصحابة أو التابعين أو ممن سلف، ممن يمكن أن يظن به أنه سمع في ذلك نصّاً شبه له فيه ــــ فهؤلاء معذورون لأننا لا نظن بهم إلا أحسن الظن، وقد حضنا الله تعالى على أن نقول: {وَالَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } .

قال أبو محمد: ولا يقين عندنا أنهم تحكموا في الدين بلا شبهة دخلت عليهم، ولا شك أنهم لم يتبين لهم الحق في ذلك. وأما من نشاهده أو لم نشاهده ــــ ممن صح عندنا بيقين حاله ومقدار عمله ــــ فنحن على يقين أنه ليس عنده في ذلك أكثر من الدعوى، والقول على الله تعالى بما لا يعلم، فهؤلاء فساق راكبون أعظم الكبائر ونعوذ بالله من الخذلان. ومنها: أن يتعلق بدليل الخطاب أو بالقياس، فهذا أيضاً معذور مأجور مخطىء عند الله تعالى بيقين، إلا أنه لا يفسق، ما لم تقم عليه الحجة في بطلان هذين العلمين، فإن قام بذلك عنده البرهان ــــ من النصوص الثابتة المتظاهرة فتمادى على القول بالقياس أو بدليل الخطاب، فهو فاسق، لأنه ثابت على ما لم يأذن به الله تعالى ولا رسوله كما قدمنا. ومنها: أن يتعلق بالرأي والاستحسان، وهذا أضعف من كل ما تقدم. إذ الشبهة المتعلق بها في هذين الوجهين في غاية الوهاء لأنه دليل على صحتهما، بل البرهان قائم على بطلانهما، إلا أنهم قد تعلقوا في ذلك بأثرين واهيين ساقطين مصروفين أيضاً عن وجههما، أحدهما الحديث المنسوب إلى معاذ، إلا أن من شبه عليه فظن أنه مصيب في ذلك فهو معذور مأجور، فإن قامت عليه الحجة بطلان الرأي والاستحسان فثبت على القول بهما فهو فاسق، لحكمه في الدين بما لم يأذن به الله تعالى.

ومنها أن يتعلق بقول صاحب قد خالفه غيره من الصحابة، أو بقول عالم ممن دونه ممن قد خالفه غيره من العلماء، فهذا هو التقليد بعينه، وليس من فعل هذا مجتهداً أصلاً، وهو حرام لا يحل، فمن قد رأته معذور في ذلك ولم يبلغه المنع منه ولا بلغه أن ههنا عالماً آخر مخالفاً لهذا الذي تعلق به فهو معذور، لأنه يظن أن هذا هو الحق وأما إذا بلغه أن عالماً آخر مخالفاً للذي تعلق هو به فهو فاسق. لأنه ليس بيده شبهة أصلاً يتعلق بها في اتباع رجل بعينه دون غيره، بل هو ضلال مبين. ونعوذ بالله من الخذلان. وأما الوجوه التي لا تقع فيها على تفسيق المخالف لنا ولا على أنه مخطىء عند الله تعالى، بل نقول نحن على الحق عند أنفسنا ومخالفنا عندنا مخطىء مأجور والله أعلم، فأدق ذلك وأغمضه أن ترد آيتان عامتان، أو حديثان صحيحان عامان، أو آية عامة وحديث صحيح، وفي كل واحدة من الآيتين، أو في كل واحد من الحديثين، أو في كل واحد من الآية والحديث ــــ تخصيص لبعض ما في عموم النص الآخر منهما وذلك مثل قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } مع قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً }

وكقول رسول الله : «لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِأُمِّ القُرْآنِ» مع قوله : وقد ذكر الإمام: «وَإِذَا قَرَأَ القُرْآنَ فَأَنْصِتُوا» ومثل قوله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } مع قول رسول الله : «لاَ يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِالله وَاليَوْمِ الآخَرِ أَنْ تُسَافِرَ إِلاَّ مَعَ زَوْجٍ أَوْ ذِي مَحْرَمٍ» فإن خصومنا يقولون: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } وقد خص منه الأختين بملك اليمين قوله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ }

وقلنا نحن إن قوله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } خص منه الأختين بملك اليمين قوله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } .

وقال خصومنا: «لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِأُمِّ القُرْآنِ» خص منه المأموم قوله : «إِذَا قَرَأَ القُرآنَ فَأَنْصِتُوا» وقلنا نحن: قوله : «وَإِذَا قَرَأَ القُرْآنِ فَأَنْصِتُوا» خص أم القرآن منه قوله: «لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأَ بِأُمِّ القُرْآنِ» . وقال خصومنا: قول الله تعالى: خص النساء منه قوله : «لاَ تُسَافِرَ امْرَأَةٌ إِلاَّ مَعَ زَوْجٍ أَوْ ذِي مَحْرَمٍ» وقلنا نحن إن قوله : «لاَ تُسَافِرَ امْرَأَةٌ إِلاَّ مَعَ زَوْجٍ أَوْ ذِي مَحْرَمٍ» خص سفر الحج قوله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } . قال أبو محمد: فهذا وإن رجعنا استعمالنا للحديثين بدليل لازم صحيح، فإن متعلق خصومنا هنا قوي، ووجه خطأ من أخطأ ههنا خفي جدّاً، دقيق البتة، لا يؤمن في مثله الغلط على أهل العلم الواسع والفهم البارع والإنصاف الشائع وليس كسائر ما قدمنا مما تقود إليه العصبية ولا يخفى وجه الخطأ فيه على من أنصف أو تورع. هذا ما لم يوجد فيه نص يشهد لأحد الاستعمالين، فإن وجد نص صحيح بذلك عاد الأمر إلى ما قد ذكرناه في الفصول المتقدمة، ولا بد من وجوده لأن الله تعالى قد ضمن لنا بيان الدين بقوله تعالى: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } فلا يجوز البتة أن يبقى في الدين شيء مشكل، بل هو كله مقطوع على أنه بين بياناً جلياً، والحمد لله رب العالمين. الوجه الثاني: أن يرد حديثان صحيحان متعارضان، أو آيتان متعارضتان أو آية معارضة لحديث صحيح تعرضاً مقاوماً، في أحد النصين منع وفي الثاني إيجاب في ذلك الشيء بعينه، لا زيادة في أحد النصين على الآخر، ولا بيان في أيهما الناسخ من المنسوخ، كالنص الوارد أن رسول الله شرب قائماً، والنص الوارد أنه نهى عن الشرب قائماً، فإن من ترك الخبرين معاً ورجع إلى الأصل الذي كان يجب لو لم يرد ذلك الخبران أو رجع أحد الخبرين على المعارض له بكثرة رواته أو بأنه رواه من هو أعدل ممن روى الآخر، وأحفظ وما أشبه هذا من وجوه الترجيحات التي قد أوردناها في باب الكلام في الأخبار من ديوننا هذا وبيان وجوه الصواب منها من الخطأ، فإن هذا أيضاً مكان يخفى بيان الخطأ فيه جدّاً، وأما نحن فنقول بالأخذ الزائد شرعاً إلا أننا نقول وبالله تعالى التوفيق: إن من مال إلى أحد هذه الوجوه في مكان ثم تركه في مثل ذلك المكان وأخذ بالوجه الأخر مقلداً أو مستحسناً فما دام لم يوقف على تناقضه وتفاسد حكمه فمعذور مأجور، حتى إذا وقف على ذلك فتمادى فهو فاسق عاص لله عز وجل لاتباعه الهوى قال الله تعالى: {يدَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الْحِسَابِ } وكل من قال في الدين بقول لم يأت عليه ببرهان لكن بما وقع في نفسه الميل فإنه بيقين متبع لهواه.

والوجه الثالث: أن يتعلق بحديث ضعيف لم يتبين له ضعفه، أو بحديث مرسل أو ادعى تجريحاً في راوي حديث صحيح، إما بتدليس أو نحوه أو ادعى أن الناقل أخطأ فيه، فمن اعتقد صحة ما ذكر من ذلك معذور مأجور، حتى إذا ترك في مكان آخر مثل ذلك الحديث، أو رد مرسلاً آخر لإرساله فقط، وأخذ بحديث آخر فيه من التعليل كالذي فيما قد رده في مكان آخر، ووقف على ذلك ــــ فإن تمادى فهو فاسق، وإن لم تقطع على أنه مخطىء عند الله عز وجل لكن لإقدامه على الحكم في الدين بما قد شهد لسانه ببطلانه في موضع آخر، فهو متبع هواه، فهو ضال بالنص، كمن حكم شهادة فاسقين يعلم فسقهما فيما لا يدري هو صحة شهادتهما به أو رد شهادة عدلين يعلم عدالتهما بغير حرج ثبت عنده بل علم منه ببطلان ما شهدا به، فهذا فاسق بإجماع الأمة كلها، وإن كان في الممكن أن يكون قد صادف الحق عند الله تعالى، ولكن لما أقدم على خلاف ما أمر به بغير يقين كان عاصياً لله تعالى ونعوذ بالله من الخذلان. فإن قال قائل: فكيف تقولون فيمن بلغه نص قرآن أو سنة صحيحة بخبر ليس من باب الأمر أنه قد جاء ذلك الخبر في نص آخر باستثناء منه أو زيادة عليه ولم يبلغه النص الثاني؟.

فجوابنا وبالله تعالى التوفيق: إن هذا بخلاف الأمر، لأن الأوامر قد ترد ناسخاً بعضها بعضاً، فيلزمه ما بلغه حتى يبلغه ما نسخه، وليس الخبر كذلك، بل يلزمنا تصديق ما بلغنا في ذلك، لأن الله تعالى لا يقول إلا الحق وكذلك رسوله ، وعليه أن يعتقد مع ذلك أن ما كان في ذلك الخبر من تخصيص لم يبلغه أو زيادة لم تبلغه في حق، ولا نقطع بتكذيب ما ليس في ذلك الخبر أصلاً. وكذلك أمر رسول الله إذ قال: «لاَ تُصَدِّقُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِذَا حَدَّثُوكُمْ وَلاَ تُكَذِّبُوهُمْ، تُكَذِّبُوا بِحَقِّ أَوْ تُصَدِّقُوا بِبَاطِلٍ» أو كلاماً هذا معناه. فهذا حكم الأخبار الواردة في الوعظ وغيره. وبالله تعالى التوفيق. وما كان من الأخبار لا يحتمل خلاف نصه صدق كما هو، ولزم تكذيب كل ظن خالف نص ذلك الخبر. وبالله تعالى التوفيق. وهو حسبنا ونعم الوكيل لا إله إلا هو عليه توكلت. قال أبو محمد: علي بن أحمد رضي الله عنه. قد انتهينا من الكلام في الأصول إلى ما أعاننا الله تعالى عليه، ويسرنا له على حسب ما شرطنا، في أول كلامنا في ديواننا هذا من التقصي والاستيعاب، نسأل الله عز وجل أن يجعله لوجهه، ودعاء إليه ونصراً له. وأن يدخلنا بما منَّ به علينا من ذلك، في جملة من أثنى عليهم بقوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } وبقوله تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } .

قال أبو محمد: فلنختم كلامنا بما ابتدأنا به فنقول:

والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على سيدنا محمد عبده ورسوله وسلم تسليماً ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الرابع

في إبطال القول بالعلل في جميع أحكام الدين (1) | في إبطال القول بالعلل في جميع أحكام الدين (2) | في إبطال القول بالعلل في جميع أحكام الدين (3) | في إبطال القول بالعلل في جميع أحكام الدين (4) و هو باب الكلام في الاجتهاد ما هو ؟