قال المروزي قريء على أبي عبد الله وما ذبح على النصب قال على الأصنام وقال كل شيء ذبح على الأصنام لا يؤكل

وقال حنبل قال عمي أكره كل ما ذبح لغير الله والكنائس إذا ذبح لها وما ذبح أهل الكتاب على معنى الذكاة فلا بأس به وما ذبح يريد به غير الله فلا آكله وما ذبحوا في أعيادهم أكرهه

وروى أحمد عن الوليد بن مسلم عن الأوزاعي سألت ميمونا عما ذبحت النصارى لأعيادهم وكنائسهم فكره أكله

وقال حنبل سمعت أبا عبد الله قال لا يؤكل لأنه أهل لغير الله به ويؤكل ما سوى ذلك وإنما أحل الله من طعامهم ما ذكر اسم الله عليه قال الله عز و جل ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وقال وما أهل به لغير الله فكل ما ذبح لغير الله فلا يؤكل لحمه

وروى حنبل عن عطاء في ذبيحة النصراني يقول اسم المسيح قال كل قال حنبل سمعت أبا عبد الله يسأل عن ذلك قال لا تأكل قال الله ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه فلا أرى هذا ذكاته وما أهل لغير الله به

فاحتجاج أبي عبد الله بالآية دليل على أن الكراهة عنده كراهة تحريم وهذا قول عامة قدماء الأصحاب

قال الخلال في باب التوقي لأكل ما ذبحت النصارى وأهل الكتاب لأعيادهم وذبائح أهل الكتاب لكنائسهم كل من روى عن أبي عبد الله روى الكراهة فيه وهي متفرقة في هذه الأبواب

وما قاله حنبل في هاتين المسألتين ذكر عن أبي عبد الله ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وما أهل لغير الله به فإنما الجواب من أبي عبد الله فيما أهل لغير الله به وأما التسمية وتركها فقد روى عنه جميع أصحابه أنه لا بأس بأكل مالم يسموا عليه إلا في وقت ما يذبحون لأعيادهم وكنائسهم فإنه في معنى قوله تعالى وما أهل لغير الله به

وعند أبي عبد الله أن تفسير ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه إنما عني به الميتة وقد أخرجته في موضعه

ومقصود الخلال أن نهي أحمد لم يكن لأجل ترك التسمية فقط فإن ذلك عنده لا يحرم وإنما كان لأنهم ذبحوه لغير الله سواء كانوا يسمون غير الله أو لا يسمون الله ولا غيره ولكن قصدهم الذبح لغير الله

لكن قال ابن أبي موسى ويجتنب أكل كل ما ذبحه اليهود والنصارى لكنائسهم وأعيادهم ولا يؤكل ما ذبح للزهرة

والرواية الثانية أن ذلك مكروه غير محرم وهذا الذي ذكره القاضي وغيره وأخذوا ذلك فيما أظنه مما نقله عبد الله بن أحمد قال سألت أبي عمن ذبح للزهرة قال لا يعجبني قلت أحرام أكله قال لا أقول حراما ولكن لا يعجبني وذلك أنه أثبت الكراهة دون التحريم

ويمكن أن يقال إنما توقف عن تسميته محرما لأن ما اختلف في تحريمه وتعارضت فيه كالجمع بين الأختين ونحوه هل يسمى حراما على روايتين كالروايتين عنده في أن ما اختلف في وجوبه هل يسمى فرضا على روايتين

ومن أصحابنا من أطلق الكراهة ولم يفسر هل أراد التحريم أو التنزيه

قال أبو الحسن الآمدي ما ذبح لغير الله مثل الكنائس والزهرة والشمس والقمر فقال أحمد هو مما أهل به لغير الله أكرهه كل ما ذبح لغير الله والكنائس وما ذبحوا في أعيادهم أكرهه فأما ما ذبح أهل الكتاب على معنى الذكاة فلا بأس به

وكذلك مذهب مالك يكره ما ذبحه النصارى لكنائسهم أو ذبحوا على اسم المسيح أو الصليب أو أسماء من مضى من أحبارهم ورهبانهم

وفي المدونة وكره مالك أكل ما ذبحه أهل الكتاب لكنائسهم أو لأعيادهم من غير تحريم وتأول قول الله أو فسقا أهل لغير الله به

قال ابن القاسم وكذلك ما ذبحوا وسموا عليه اسم المسيح وهو بمنزلة ما ذبحوا لكنائسهم ولا أرى أن يؤكل

ونقلت الرخصة في ذبائح الأعياد ونحوها عن طائفة من الصحابة رضي الله عنهم وهذا فيما لم يسموا عليه غير الله فإن سموا غير الله في عيدهم أو غير عيدهم حرم في أشهر الروايتين وهو مذهب الجمهور وهو مذهب الفقهاء الثلاثة فيما نقله غير واحد وهو قول علي بن أبي طالب وغيره من الصحابة منهم أبو الدرداء وأبو أمامة والعرباض بن سارية وعبادة بن الصامت وهو قول أكثر فقهاء الشام وغيرهم

والثانية لا يحرم وإن سموا غير الله وهو قول عطاء ومجاهد ومكحول والأوزاعي والليث

نقل ابن منصور أنه قيل لأبي عبد الله سئل سفيان عن رجل ذبح ولم يذكر اسم الله متعمدا قال أرى أن لا يؤكل قيل له أرأيت أن كان يرى أنه يجزي عنه فلم يذكر قال أرى أنه لا يؤكل قال أحمد المسلم فيه اسم الله يؤكل ولكن قد أساء في ترك التسمية النصارى أليس يذكرون غير اسم الله

ووجه الاختلاف أن هذا قد دخل في عموم قوله عز و جل وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وفي عموم قوله تعالى وما أهل لغير الله به لأن هذه الآية تعم كل ما نطق به لغير الله يقال أهللت بكذا إذا تكلمت به وإن كان أصله الكلام الرفيع فإن الحكم لا يختلف برفع الصوت وخفضه وإنما لما كانت عادتهم رفع الصوت في الأصل خرج الكلام على ذلك فيكون المعنى وما تكلم به لغير الله وما نطق به لغير الله

ومعلوم أن ما حرم أن تجعل غير الله مسمى فكذلك منويا إذ هذا مثل النيات في العبادات فإن اللفظ بها وإن كان أبلغ لكن الأصل القصد

الا ترى أن المتقرب بالهدايا والضحايا سواء قال أذبحه لله أو سكت فإن العبرة بالنية وتسميته الله على الذبيحة غير ذبحها لله فإنه يسمى على ما يقصد به اللحم وأما القربان فيذبح لله سبحانه ولهذا قال النبي في قربانه اللهم منك ولك بعد قوله بسم الله والله أكبر لقوله تعالى إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين والكافرون يصنعون بآلهتهم كذلك فتارة يسمون آلهتهم على الذبائح وتارة يذبحونها قربانا إليهم وتارة يجمعون بينهما وكل ذلك والله أعلم يدخل فيما أهل لغير الله به فإن من سمى غير الله فقد أهل به لغير الله فقوله باسم كذا استعانة به وقوله لكذا عبادة له ولهذا جمع الله بينهما في قوله إياك نعبد وإياك نستعين

وأيضا فإنه سبحانه حرم ما ذبح على النصب وهي كل ما ينصب ليعبد من دون الله

وأما احتجاج أحمد على هذه المسألة بقوله تعالى ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه فحيث اشترطت التسمية في ذبيحة المسلم هل تشترط في ذبيحة الكتابي على روايتين وإن كان الخلال هنا قد ذكر عدم الاشتراط فاحتجاجه بهذه الآية يخرج على إحدى الروايتين

فلما تعارض العموم الحاظر وهو قوله تعالى وما أهل به لغير الله والعموم المبيح وهو قوله وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم اختلف العلماء في ذلك

والأشبه بالكتاب والسنة ما دل عليه أكثر كلام أحمد من الحظر وإن كان من متأخري أصحابنا من لا يذكر هذه الرواية بحال وذلك لأن عموم قوله تعالى وما أهل لغير الله به وما ذبح على النصب عموم محفوظ لم تخص منه صورة بخلاف طعام الذين أوتوا الكتاب فإنه يشترط له الذكاة المبيحة فلو ذكى الكتابي في غير المحل المشروع لم تبح ذكاته ولأن غاية الكتابي أن تكون ذكاته كالمسلم والمسلم لو ذبح لغير الله أو ذبح باسم غير الله لم يبح وإن كان يكفر بذلك فكذلك الذمي لأن قوله تعالى وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم سواء وهم وإن كانوا يستحلون هذا ونحن لا نستحله فليس كل ما استحلوه يحل لنا

ولأنه قد تعارض دليلان حاظر ومبيح فالحاظر أولى أن يقدم

ولأن الذبح لغير الله أو باسم غيره قد علمنا يقينا أنه ليس من دين الأنبياء عليهم السلام فهو من الشرك الذي أحدثوه فالمعنى الذي لأجله حلت ذبائحهم منتف في هذا والله تعالى أعلم

فإن قيل أما إذا سموا عليه غير الله بأن يقولوا باسم المسيح ونحوه فتحريمه ظاهر أما إذا لم يسموا أحدا ولكن قصدوا الذبح للمسيح أو للكوكب ونحوهما فما وجه تحريمه

قيل قد تقدمت الإشارة إلى ذلك وهو أن الله سبحانه قد حرم ما ذبح على النصب وذلك يقتضي تحريمه وإن كان ذابحه كتابيا لأنه لو كان التحريم لكونه وثنيا لم يكن فرق بين ذبحه على النصب وغيرها ولأنه لما أباح لنا طعام أهل الكتاب دل على أن طعام المشركين حرام فتخصيص ما ذبح على الوثن يقتضي فائدة جديدة

وأيضا فانه ذكر تحريم ما ذبح على النصب وما أهل به لغير الله وقد دخل فيما أهل به لغير الله ما أهل به أهل الكتاب لغير الله فكذلك كل ما ذبح على النصب فإذا ذبح الكتابي على ما قد نصبوه من التماثيل في الكنائس فهو مذبوح على النصب

ومعلوم أن حكم ذلك لا يختلف بحضور الوثن وغيبته فإنما حرم لأنه قصد بذبحه عبادة الوثن وتعظيمه وهذه الأنصاب قد قيل هي من الأصنام وقيل هي غير الأصنام

قالوا كان حول البيت ثلاثمائة وستون حجرا كان أهل الجاهلية يذبحون عليها ويشرحون اللحم عليها ويذبحون عليها وكانوا يعظمون هذه الحجارة ويعبدونها ويذبحون عليها وكانوا إذا شاءوا أبدلوا هذه الأحجار بحجارة هي أعجب إليهم منها ويدل على ذلك قول أبي ذر في حديث إسلامه حتى صرت كالنصب الأحمر يريد أنه كان يصير أحمر من تلوثه بالدم

وفي قوله وما ذبح على النصب قولان

أحدهما أن نفس الذبح كان يكون عليها كما ذكرناه فيكون ذبحهم عليها تقربا إلى الأصنام وهذا على قول من يجعلها غير الأصنام فيكون الذبح عليها لأجل أن المذبوح عليها مذبوح للأصنام أو مذبوح لها وذلك يقتضي تحريم كل ما ذبح لغير الله ولأن الذبح في البقعة لا تأثير له إلا من جهة الذبح لغير الله كما كرهه النبي من الذبح في مواضع أصنام المشركين ومواضع أعيادهم وإنما يكره المذبوح في البقعة المعينة لكونها محل شرك فإذا وقع الذبح حقيقة لغير الله كانت حقيقة التحريم قد وجدت فيه

والقول الثاني أن الذبح على النصب أي لأجل النصب كما قيل أولم رسول الله على زينب بخبز ولحم وأطعم فلان على ولده وذبح فلان على ولده ونحو ذلك ومنه قوله تعالى لتكبروا الله على ما هداكم وهذا ظاهر على قول من يجعل النصب نفس الأصنام ولا منافاة بين كون الذبح لها وبين كونها كانت تلوث بالدم

وعلى هذا القول فالدلالة ظاهرة

واختلاف هذين القولين في قوله تعالى على النصب نظير الاختلاف في قوله تعالى ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام وقوله تعالى ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام

فإنه قد قيل المراد بذكر اسم الله عليها إذا كانت حاضرة

وقيل بل يعم ذكره لأجلها في مغيبها وشهودها بمنزلة قوله تعالى لتكبروا الله على ما هداكم

وفي الحقيقة مآل القولين إلى شيء واحد في قوله تعالى وما ذبح على النصب كما قد أومأنا إليه

وفيها قول ثالث ضعيف أن المعنى على اسم النصب وهذا ضعيف لأن هذا المعنى حاصلا من قوله تعالى وما أهل لغير الله به فيكون تكريرا لكن اللفظ يحتمله كما روى البخاري في صحيحه عن موسى بن عقبة عن سالم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يحدث عن رسول الله أنه لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح وذلك قبل أن ينزل على رسول الله الوحي فقدمت إلى رسول الله سفرة فيها لحم فأبى أن يأكل منها ثم قال زيد إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه

وفي رواية له وإن زيد بن عمرو بن نفيل كان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول الشاة خلقها الله وأنزل لها من السماء الماء وأنبت لها من الأرض الكلأ ثم أنتم تذبحونها على غير اسم الله إنكارا لذلك وإعظاما له

وأيضا فان قوله تعالى وما أهل لغير الله به ظاهره أنه ما ذبح لغير الله مثل أن يقال هذا ذبيحة لكذا وإذا كان هذا هو المقصود فسواء لفظ به أو لم يلفظ وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه النصراني للحم وقال فيه باسم المسيح ونحوه كما أن ما ذبحناه نحن متقربين به إلى الله سبحانه كان أزكى وأعظم مما ذبحناه للحم وقلنا عليه باسم الله فإن عبادة الله سبحانه بالصلاة له والنسك له أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور فكذلك الشرك بالصلاة لغيره والنسك لغيره أعظم شركا من الاستعانة باسم هذا الغير في فواتح الأمور فإذا حرم ما قيل فيه باسم المسيح والزهرة فلأن يحرم ما قيل فيه لأجل المسيح والزهرة أو قصد به ذلك أولى

وهذا يبين لك ضعف قول من حرم ما ذبح باسم غير الله ولم يحرم ما ذبح لغير الله كما قاله طائفة من أصحابنا وغيرهم بل لو قيل بالعكس لكان أوجه فإن العبادة لغير الله أعظم كفرا من الاستعانة بغير الله

وعلى هذا فلو ذبح لغير الله متقربا به إليه لحرم وإن قال فيه بسم الله كما يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة الذين يتقربون إلى الأولياء والكواكب بالذبح والبخور ونحو ذلك وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال لكن يجتمع في الذبيحة مانعان

ومن هذا الباب ما قد يفعله الجاهلون بمكة شرفها الله وغيرها من الذبح للجن ولهذا روي عن النبي أنه نهى عن ذبائح الجن

ويدل على المسألة ما قدمناه من أن النبي نهى عن الذبح في مواضع الأصنام ومواضع أعياد الكفار

ويدل على ذلك أيضا ما رواه أبو داود في سننه حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا حماد بن مسعدة عن عوف عن أبي ريحانة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال نهى رسول الله عن معاقرة الأعراب قال أبو داود غندر وقفه على ابن عباس

وروى أبو بكر بن أبي شيبة في تفسيره حدثنا وكيع عن أصحابه عن عوف الأعرابي عن أبي ريحانة قال سئل ابن عباس عن معاقرة الأعراب فقال إني أخاف أن تكون مما أهل لغير الله به

وروى أبو إسحاق إبراهيم دحيم في تفسيره حدثنا أبي حدثنا سعيد بن منصور عن ربعي عن عبد الله بن الجارود قال سمعت الجارود قال كان من بني رباح رجل يقال له ابن وثيل شاعرا نافر أبا الفرزدق غالبا الشاعر بماء بظهر الكوفة على أن يعقر هذا مائة من إبله وهذا مائة من إبله إذا وردت الماء فلما وردت الإبل الماء قاما إليها بأسيافهما فجعلا ينسفان عراقيبها فخرج الناس على الحمر والبغال يريدون اللحم وعلي رضي الله عنه بالكوفة فخرج على بغلة رسول الله البيضاء وهو ينادي يا أيها الناس لا تأكلوا من لحومها فإنها أهل بها لغير الله

فهؤلاء الصحابة قد فسروا ما قصد بذبحه غير الله داخلا فيما أهل به لغير الله

فعلمت أن الآية لم يقتصر بها على التلفظ باسم غير الله بل ما قصد به التقرب إلى غير الله فهو كذلك وكذلك تفاسير التابعين على أن ما ذبح على النصب هو ما ذبح لغير الله

وروينا في تفسير مجاهد المشهور عنه الصحيح من رواية ابن أبي نجيح في قوله تعالى وما ذبح على النصب قال كانت حجارة حول الكعبة يذبح لها أهل الجاهلية ويبدلونها إذا شاءوا بحجارة أعجب إليهم منها

وروى ابن أبي شيبة حدثنا محمد بن فضيل عن أشعث عن الحسن في قوله تعالى وما ذبح على النصب قال هو بمنزلة ما ذبح لغير الله

وفي تفسير قتادة المشهور عنه وأما ما ذبح على النصب فالنصب حجارة كان أهل الجاهلية يعبدونها ويذبحون لها فنهى الله عن ذلك

وفي تفسير علي بن أبي طلحة عن ابن عباس النصب أصنام كانوا يذبحون ويهلون عليها

فإن قيل فقد نقل إسماعيل بن سعيد قال سألت أحمد عما يقرب لآلهتهم يذبحه رجل مسلم قال لا بأس به

قيل إنما قال أحمد ذلك لأن المسلم إذا ذبحه سمى الله عليه ولم يقصد ذبحه لغير الله ولا يسمى غيره بل يقصد منه غير ما قصده صاحب الشاة فتصير نية صاحب الشاة لا أثر لها والذابح هو المؤثر في الذبح بدليل أن المسلم لو وكل كتابيا في ذبيحة فسمى عليها غير الله لم تبح ولهذا لما كان الذبح عبادة في نفسه كره علي رضي الله عنه وغير واحد من أهل العلم منهم أحمد في إحدى الروايتين عنه أن يوكل المسلم في ذبح نسيكته كتابيا لأن نفس الذبح عبادة بدنية مثل الصلاة ولهذا تختص بمكان وزمان ونحو ذلك بخلاف تفرقة اللحم فإن عبادة مالية ولهذا اختلف العلماء في وجوب تخصيص أهل الحرم

بلحوم الهدايا المذبوحة في الحرم وإن كان الصحيح تخصيصهم بها وهذا بخلاف الصدقة فإنها عبادة مالية محضة فلهذا قد لا يؤثر فيها نية الوكيل على أن هذه المسألة منصوصة عن أحمد محتملة

فهذا تمام الكلام في ذبائحهم لأعيادهم

فصل

فأما صوم أيام أعياد الكفار مفردة بالصوم كصوم يوم النيروز والمهرجان وهما يومان يعظمهما الفرس فقد اختلف فيهما لأجل أن المخالفة تحصل بالصوم أو بترك تخصيصه بعمل أصلا

فنذكر صوم يوم السبت أولا وذلك أنه روى ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الله بن بسر السلمي عن أخته الصماء أن النبي قال لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم وإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنب أو عود شجرة وفي لفظ إلا عود عنب أو لحاء شجرة فليمضغه رواه أهل السنن الأربعة وقال الترمذي هذا حديث حسن وقد رواه النسائي من وجوه أخر عن خالد عن عبد الله بن بسر ورواه أيضا عن الصماء عن عائشة

وقد اختلف الأصحاب وسائر العلماء فيه

قال أبو بكر الأثرم سمعت أبا عبد الله يسأل عن صيام يوم السبت يتفرد به فقال اما صيام يوم السبت ينفرد به فقد جاء في ذلك الحديث حديث الصماء يعني حديث ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الله بن بسر عن أخته الصماء عن النبي لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم قال أبو عبد الله فكان يحيى بن سعيد ينفيه وأبى أن يحدثني به وقد كان سمعه من ثور قال فسمعته من أبي عاصم

قال الأثرم وحجة أبي عبد الله في الرخصة في صوم يوم السبت أن الأحاديث كلها مخالفة لحديث عبد الله بن بسر

ومنها حديث أم سلمة حين سئلت أي الأيام كان رسول الله أكثر صياما لها فقالت يوم السبت والأحد

منها حديث جويرية أن النبي قال لها يوم الجمعة أصمت أمس قالت لا قال أتريدين أن تصومي غدا فالغد هو يوم السبت

وحديث أبي هريرة نهى النبي عن صوم يوم الجمعة إلا بيوم قبله أو بيوم بعده فاليوم الذي بعده هو يوم السبت

ومنها أنه كان يصوم شعبان كله وفيه يوم السبت

ومنها أنه أمر بصوم المحرم وفيه يوم السبت وقال من صام رمضان وأتبعه بست من شوال كان كصيام الدهر وقد يكون السبت فيها وأمر بصيام أيام البيض وقد يكون فيها السبت ومثل هذا كثير

فهذا الأثرم فهم من كلام أبي عبد الله أنه توقف عن الأخذ بالحديث وأنه رخص في صومه حيث ذكر الحديث الذي يحتج به في الكراهة وذكر أن الإمام في علل حديث يحيى بن سعيد كان يتقيه ويأبى أن يحدث به فهذا تضعيف للحديث

واحتج الأثرم بما دل من النصوص المتواترة على صوم يوم السبت

ولا يقال يحمل النهي على إفراده لأن لفظه لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم والاستثناء دليل التناول وهذا يقتضي أن الحديث يعم صومه على كل وجه وإلا لو أريد إفراده لما دخل الصوم المفروض ليستثنى فإنه لا إفراد فيه فاستثناؤه دليل على دخول غيره بخلاف يوم الجمعة فإنه بين أنه إنما نهى عن إفراده

وعلى هذا فيكون الحديث إما شاذا غير محفوظ وإما منسوخا وهذه طريقة قدماء أصحاب أحمد الذين صحبوه كالأثرم وأبي داود

وقال أبو داود حديث منسوخ وذكر أبو داود بإسناده عن ابن شهاب أنه كان إذا ذكر له أنه نهى عن صيام السبت يقول ابن شهاب هذا حديث حمصي وعن الأوزاعي قال ما زلت له كاتما حتى رأيته انتشر بعد يعني حديث ابن بسر في صوم يوم السبت

قال أبو داود قال مالك هذا كذب وأكثر أهل العلم على عدم الكراهة

وأما أكثر أصحابنا ففهموا من كلام أحمد الأخذ بالحديث وحمله على الافراد فإنه سئل عن عين الحكم فأجاب بالحديث وجوابه بالحديث يقتضي اتباعه وما ذكر عن يحيى إنما هو بيان ما وقع فيه من الشبهة وهؤلاء يكرهون إفراده بالصوم عملا بهذا الحديث بجودة إسناده وذلك موجب للعمل به وحملوه على الافراد كصوم يوم الجمعة وشهر رجب

وقد روى أحمد في المسند من حديث ابن لهيعة حدثنا موسى بن وردان عن عبيد الأعرج حدثتني جدتي يعني الصماء أنها دخلت على رسول الله يوم السبت هو يتغذى فقال تعالي تغذي فقالت إني صائمة فقال لها أصمت أمس قالت لا قال كلي فإن صيام يوم السبت لا لك ولا عليك

وهذا وإن كان إسناده ضعيفا لكن تدل عليه سائر الأحاديث

وعلى هذا فيكون قوله لا تصوموا يوم السبت أي لا تقصدوا صيامه بعينه إلا في الفرض فإن الرجل يقصد صومه بعينه بحيث لو لم يجب عليه إلا صوم يوم السبت كمن أسلم ولم يبق من الشهر إلا يوم السبت فإنه يصومه وحده

وأيضا فقصده بعينه في الفرض لا يكره بخلاف قصده بعينه في النفل فإنه يكره ولا تزول الكراهة إلا بضم غيره إليه أو موافقته عادة فالمزيل للكراهة في الفرض مجرد كونه فرضا لا للمقارنة بينه وبين غيره وأما في النفل فالمزيل للكراهة ضم غيره إليه أو موافقته عادة ونحو ذلك

قد يقال الاستثناء أخرج بعض صور الرخصة وأخرج الباقي بالدليل ثم اختلف هؤلاء في تعليل الكراهة

فعللها ابن عقيل بأنه يوم تمسك فيه اليهود ويخصونه بالإمساك وهو ترك العمل فيه والصائم في مظنة ترك العمل فيصير صومه تشبها بهم وهذه العلة منتفية في الأحد

وعلله طائفة من الأصحاب بأنه يوم عيد لأهل الكتاب يعظمونه فقصده بالصوم دون غيره يكون تعظيما له فكره ذلك كما كره إفراد عاشوراء بالتعظيم لما عظمه أهل الكتاب وإفراد رجب أيضا لما عظمه المشركون

وهذا التعليل قد يعارض بيوم الأحد فإنه يوم عيد النصارى فإنه قال اليوم لنا وغدا لليهود وبعد غد للنصارى

وقد يقال إذا كان يوم عيد فمخالفتهم فيه بالصوم لا بالفطر

ويدل على ذلك ما رواه كريب مولى ابن عباس قال أرسلني ابن عباس وناس من أصحاب النبي إلى أم سلمة أسألها أي الأيام كان رسول الله أكثر صياما لها قالت كان يصوم يوم السبت ويوم الأحد أكثر ما يصوم من الأيام ويقول إنهما يوما عيد للمشركين فأنا أحب أن أخالفهم رواه أحمد وابن أبي عاصم والنسائي وصححه بعض الحفاظ

وهذا نص في استحباب صوم يوم عيدهم لأجل قصد مخالفتهم

وقد روى عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله يصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس رواه الترمذي وقال حديث حسن قال وقد روى ابن مهدي هذا الحديث عن سفيان ولم يرفعه

وهذان الحديثان ليسا بحجة على من كره صوم يوم السبت وحده وعلل ذلك بأنهم يتركون فيه العمل والصوم مظنة ذلك فإنه إذا صام السبت والأحد زال الإفراد المكروه وحصلت المخالفة بصوم يوم فطرهم

فصل

وأما النيروز والمهرجان ونحوهم من أعياد المشركين فمن لم يكره صوم يوم السبت من الأصحاب وغيرهم قد لا يكره صوم ذلك اليوم بل ربما يستحبه لأجل مخالفتهم وكرهها أكثر الأصحاب

وقد قال أحمد في رواية عبد الله حدثنا وكيع عن سفيان عن رجل عن أنس والحسن أنهما كرها صوم يوم النيروز والمهرجان

قال أبي هو ابان بن عياش يعني الرجل

وقد اختلف الأصحاب هل يدل مثل ذلك على مذهبه على وجهين

وعللوا ذلك بأنهما يوما تعظمهما الكفار فيكون تخصيصهما بالصوم دون غيرهما موافقة لهم في تعظيمهما فكره كيوم السبت

قال الإمام أبو محمد المقدسي وعلى قياس هذا كل عيد للكفار أو يوم يفردونه بالتعظيم

وقد يقال يكره صوم يوم النيروز والمهرجان ونحوهما من الأيام العجمية التي لا تعرف بحساب العرب بخلاف ما جاء في الحديثين من يوم السبت والأحد لأنه إذا قصد صوم مثل هذه الأيام العجمية أو الجاهلية كانت ذريعة إلى إقامة شعار هذه الايام وأحياء أمرها وإظهار حالها بخلاف السبت والأحد فإنهما من حساب المسلمين فليس في صومهما مفسدة فيكون استحباب صوم أعيادهم المعروفة بالحساب العربي الإسلامي مع كراهة الأعياد المعروفة بالحساب الجاهلي العجمي توفيقا بين الآثار والله أعلم

فصل

ومن المنكرات في هذا الباب سائر الأعياد والمواسم المبتدعة فإنها من المنكرات المكروهات سواء بلغت الكراهة التحريم أو لم تبلغه

وذلك أن أعياد أهل الكتاب والأعاجم نهي عنها لسببين

أحدهما أن فيها مشابهة للكفار

والثاني أنها من البدع

فما أحدث من المواسم والأعياد فهو منكر وإن لم يكن فيه مشابهة لأهل الكتاب لوجهين

أحدهما أن ذلك داخل في مسمى البدع والمحدثات فيدخل فيما رواه مسلم في صحيحه عن جابر قال كان رسول الله إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم ويقول بعثت أنا والساعة كهاتين ويقرن بين أصبعين السبابة والوسطى ويقول أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة

وفي رواية للنسائي وكل ضلالة في النار

وفيما رواه أيضا في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها عن النبي أنه قال من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد

وفي لفظ في الصحيحين من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد

وفي الحديث الصحيح الذي رواه أهل السنن عن العرباض بن سارية عن النبي أنه قال إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة

وهذه قاعدة قد دلت عليها السنة والإجماع مع ما في كتاب الله من الدلالة عليها أيضا

قال تعالى أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به الله فمن ندب إلى شيء يتقرب به إلى الله أو أوجبه بقوله أو فعله من غير أن يشرعه الله فقد شرع من الدين مالم يأذن به الله ومن اتبعه في ذلك فقد اتخذه شريكا لله شرع له من الدين مالم يأذن به الله

نعم قد يكون متأولا في هذا الشرع فيغفر له لأجل تأويله إذا كان مجتهدا الاجتهاد الذي يعفي فيه عن المخطئ ويثاب أيضا على اجتهاده لكن لا يجوز اتباعه في ذلك كمالا يجوز اتباع سائر من قال أو عمل قولا أو عملا قد علم الصواب في خلافه وإن كان القائل أو الفاعل مأجورا أو معذورا

وقد قال سبحانه اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون قال عدي بن حاتم للنبي يا رسول الله ما عبدوهم قال ما عبدوهم ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم

فمن أطاع أحدا في دين لم يأذن به الله من تحليل أو تحريم أو استحباب أو إيجاب فقد لحقه من هذا الذم نصيب كما يلحق الآمر الناهي أيضا نصيب

ثم قد يكون كل منهما معفوا عنه لاجتهاده ومثابا أيضا على الاجتهاد فيتخلف عنه الذم لفوات شرطه أو لوجود مانعه وإن كان المقتضي له قائما

ويلحق الذم من يبين له الحق فيتركه أو من قصر في طلبه حتى لم يتبين له أو عرض عن طلب معرفته لهوى أو لكسل أو نحو ذلك

وأيضا فإن الله عاب على المشركين شيئين

أحدهما أنهم أشركوا به مالم ينزل به سلطانا

والثاني تحريمهم مالم يحرمه الله عليهم

وبين النبي ذلك فيما رواه مسلم عن عياض بن حمار عن النبي قال قال الله تعالى إني جعلت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي مالم أنزل به سلطانا قال سبحانه سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء فجمعوا بين الشرك والتحريم والشرك يدخل فيه كل عبادة لم يأذن الله بها فإن المشركين يزعمون أن عبادتهم إما واجبة وإما مستحبة وإن فعلها خير من تركها

ثم منهم من عبد غير الله ليتقرب بعبادته إلى الله

ومنهم من ابتدع دينا عبدوا به الله في زعمهم كما أحدثه النصارى من أنواع العبادات المحدثة

وأصل الضلال في أهل الأرض إنما نشأ من هذين إما اتخاذ دين لم يشرعه الله أو تحريم مالم يحرمه الله ولهذا كان الأصل الذي بنى الإمام أحمد وغيره من الأئمة عليه مذاهبهم أن أعمال الخلق تنقسم إلى عبادات يتخذونها دينا ينتفعون بها في الآخرة أو في الدنيا والآخرة وإلى عادات ينتفعون بها في معايشهم

فالأصل في العبادات أن لا يشرع منها إلا ما شرعه الله

والأصل في العادات أن لا يحظر منها إلا ما حظره الله

وهذه المواسم المحدثة إنما نهى عنها لما حدث فيها من الدين الذي يتقرب به كما سنذكره إن شاء الله

واعلم أن هذه القاعدة وهي الاستدلال بكون الشيء بدعة على كراهته قاعدة عامة عظيمة وتمامها بالجواب عما يعارضها

وذلك أن من الناس من يقول البدع تنقسم إلى قسمين حسنة وقبيحة بدليل قول عمر رضي الله عنه في صلاة التراويح نعمت البدعة هذه وبدليل أشياء من الأقوال والأفعال أحدثت بعد رسول الله وليست بمكروهة أو هي حسنة للأدلة الدالة على ذلك من الإجماع أو القياس

وربما يضم إلى ذلك من لم يحكم أصول العلم ما عليه كثير من الناس من كثير من العادات ونحوها فيجعل هذا أيضا من الدلائل على حسن بعض البدع إما بأن يجعل ما اعتاده هو ومن يعرفه إجماعا وإن لم يعلم قول سائر المسلمين في ذلك أو يستنكر تركه لما اعتاده بمثابة من وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا وما أكثر ما قد يحتج بعض من يتميز من المنتسبين إلى علم أو عبادة بحجج ليست من أصول العلم التي يعتمد في الدين عليها

والغرض أن هذه النصوص الدالة على ذم البدع معارضة بما دل على حسن بعض البدع إما من الأدلة الشرعية الصحيحة أو من حجج بعض الناس التي يعتمد عليها بعض الجاهلين أو المتأولين في الجملة

ثم هؤلاء المعارضون لهم هنا مقامان

أحدهما أن يقولوا إذا ثبت أن بعض البدع حسن وبعضها قبيح فالقبيح ما نهانا عنه الشارع أما ما سكت عنه من البدع فليس بقبيح بل قد يكون حسنا فهذا مما قد يقوله بعضهم

المقام الثاني أن يقال عن بدعة سيئة هذه بدعة حسنة لأن فيها من المصلحة كيت وكيت

وهؤلاء المعارضون يقولون ليست كل بدعة ضلالة

والجواب أما أن القول أن شر الأمور محدثاتها وأن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار والتحذير من الأمور المحدثات فهذا نص رسول الله فلا يحل لأحد أن يدفع دلالته على ذم البدع ومن نازع في دلالته فهو مراغم

وأما المعارضات فالجواب عنها بأحد جوابين

إما بأن يقال ما ثبت حسنه فليس من البدع فيبقى العموم محفوظا لا خصوص فيه

وإما أن يقال ما ثبت حسنه فهو مخصوص من هذا العموم فيبقى العموم محفوظا لا خصوص فيه

وإما أن يقال ما ثبت حسنه فهو مخصوص من العموم والعام المخصوص دليل فيما عدا صورة التخصيص فمن اعتقد أن بعض البدع مخصوص من هذا العموم احتاج إلى دليل يصلح للتخصيص وإلا كان ذلك العموم اللفظي المعنوى موجبا للنهي

ثم المخصص هو الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع نصا واستنباطا وأما عادة بعض البلاد أو أكثرها وقول كثير من العلماء أو العباد أو أكثرهم ونحو ذلك فليس مما يصلح أن يكون معارضا لكلام الرسول حتى يعارض به

ومن اعتقد أن أكثر هذه العادات المخالفة للسنن مجمع عليها بناء على أن الأمة أقرتها ولم تنكرها فهو مخطئ في هذا الاعتقاد فإنه لم يزل ولا يزال في كل وقت من ينهى عن عامة العادات المحدثة المخالفة للسنة ولا يجوز دعوى إجماع بعمل بلد أو بلاد من بلدان المسلمين فكيف بعمل طوائف منهم وإذا كان أكثر أهل العلم لم يعتمدوا على عمل علماء أهل المدينة وإجماعهم في عصر مالك بل رأوا السنة حجة عليهم كما هي حجة على غيرهم مع ما أوتوه من العلم والإيمان فكيف يعتمد المؤمن العالم على عادات أكثر من اعتادها عامة أو من قيدته العامة أو قوم مترئسون بالجهالة لم يرسخوا في العلم ولا يعدون من أولي الأمر ولا يصلحون للشورى ولعلهم لم يتم إيمانهم بالله وبرسوله أو قد دخل معهم فيها بحكم العادة قوم من أهل الفضل عن غير روية أو لشبهة أحسن أحوالهم فيها أن يكونوا فيها بمنزلة المجتهدين من الأئمة والصديقين

والاحتجاج بمثل هذه الحجج والجواب عنها معلوم أنه ليس طريقة أهل العلم لكن لكثرة الجهالة قد يستند إلى مثلها خلق كثير من الناس حتى من المنتسبين إلى العلم والدين وقد يبدو لذوي العلم والدين فيها مستند آخر من الأدلة الشرعية والله يعلم أن قوله بها وعلمه لها ليس مستندا آخر من الأدلة الشرعية وإن كان شبهة وإنما هو مستند إلى أمور ليست مأخوذة عن الله ولا عن رسوله من أنواع المستندات إليها غير أولي العلم والإيمان وإنما يذكر الحجة الشرعية حجة على غيره ودفعا لما يناظره

والمجادلة المحمودة إنما هي بإبداء المدارك وإظهار الحجج التي هي مستند الأقوال والأعمال وأما إظهار الاعتماد على ما ليس هو المعتمد في القول والعمل فنوع من النفاق في العلم والجدل والكلام والعمل

وايضا لا يجوز حمل قوله كل بدعة ضلالة على البدعة التي نهى عنها بخصوصها لأن هذا تعطيل لفائدة هذا الحديث فإن ما نهى عنه من الكفر والفسوق وأنواع المعاصي قد علم بذلك النهي أنه قد أبيح محرم سواء كان بدعة أو لم يكن بدعة فإذا كان لا منكر في الدين إلا ما نهى عنه بخصوصه سواء كان مفعولا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو لم يكن وما نهى عنه فهو منكر سواء كان بدعة أو لم يكن صار وصف البدعة عديم التأثير لا يدل وجوده على القبح ولا عدمه على الحسن بل يكون قوله كل بدعة ضلالة بمنزلة قوله كل عادة ضلالة أو كل ما عليه العرب والعجم فهو ضلالة ويراد بذلك أن ما نهى عنه من ذلك فهو الضلالة

وهذا تعطيل للنصوص من نوع التحريف والإلحاد ليس من نوع التأويل السائغ وفيه من المفاسد أشياء

أحدها سقوط الاعتماد على هذا الحديث فإن ما علم أنه منهي عنه بخصوصه فقد علم حكمه بذلك النهي ومالم يعلم فلا يندرج في هذا الحديث فلا يبقى في هذا الحديث فائدة مع كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يخطب به في الجمع ويعده من جوامع الكلم

الثاني أن لفظ البدعة ومعناها يكون اسما عديم التأثير فتعليق الحكم بهذا اللفظ أو المعنى تعليق له بما لا تأثير له كسائر الصفات العديمة التأثير

الثالث أن الخطاب بمثل هذا إذا لم يقصد إلا الوصف الآخر وهو كونه منهيا عنه كتمان لما يجب بيانه وبيان لما يقصد ظاهره فإن البدعة والنهي الخاص بينهما عموم وخصوص إذ ليس كل بدعة جاء عنها نهي خاص وليس كل ما جاء فيه نهي خاص بدعة فالتكلم بأحد الاسمين وإرادة الآخر تلبيس محض لا يسوغ للمتكلم إلا أن يكون مدلسا كما لو قال الأسود وعنى به الفرس أو الفرس وعنى به الأسود

الرابع أن قوله كل بدعة ضلالة وإياكم ومحدثات الأمور إذا أراد بهذا ما فيه نهي خاص كان قد أحالهم في معرفة المراد بهذا الحديث على مالا يكاد يحيط به أحد ولا يحيط بأكثره إلا خواص الأمة ومثل هذا لا يجوز بحال

الخامس أنه إذا أريد به ما فيه النهي الخاص كان ذلك أقل مما ليس فيه نهي خاص من البدع فإنك لو تأملت البدع التي نهى عنها بأعيانها وما لم ينه عنها بأعيانها وجدت هذا الضرب هو الأكثر واللفظ العام لا يجوز أن يراد به الصور القليلة أو النادرة

فهذه الوجوه وغيرها توجب القطع بأن هذا التأويل فاسد لا يجوز حمل الحديث عليه سواء أراد المتأول أن يعضد التأويل بدليل صارف أو لم يعضده فإن على المتأول بيان جواز إرادة المعنى الذي حمل الحديث عليه من ذلك الحديث ثم بيان الدليل الصارف له إلى ذلك

وهذه الوجوه تمنع جواز إرادة هذا المعنى بالحديث

فهذا الجواب عن مقامهم الأول

وأما مقامهم الثاني فيقال هب أن البدع تنقسم إلى حسن وقبيح فهذا القدر لا يمنع أن يكون هذا الحديث دالا على قبح الجميع لكن أكثر ما يقال إنه إذا ثبت أن هذا حسن يكون مستثنى من العموم وإلا فالأصل أن كل بدعة ضلالة

فقد تبين أن الجواب عن كل ما يعارض به من أنه حسن وهو بدعة إما بأنه ليس ببدعة وإما بأنه مخصوص فقد سلمت دلالة الحديث

وهذا الجواب إنما هو عما ثبت حسنه

فأما أمور أخرى قد يظن أنها حسنة وليست بحسنة أو أمور يجوز أن تكون حسنة ويجوز أن لا تكون حسنة فلا تصلح المعارضة بها بل يجاب عنها بالجواب المركب

وهو إن ثبت أن هذا حسن فلا يكون بدعة أو يكون مخصوصا وإن لم يثبت أنه حسن فهو داخل في العموم

وإذا عرفت أن الجواب عن هذه المعارضة بأحد الجوابين فعلى التقديرين الدلالة من الحديث باقية لا ترد بما ذكروا ولا يحل لأحد أن يقابل هذه الكلمة الجامعة من رسول الله الكلية وهي قوله كل بدعة ضلالة بسلب عمومها وهو أن يقال ليست كل بدعة ضلالة فإن هذا إلى مشاقة الرسول أقرب منه إلى التأويل

بل الذي يقال فيما يثبت به حسن الأعمال التي قد يقال هي بدعة إن هذا العمل المعين مثلا ليس ببدعة فلا يندرج في الحديث أو إن اندرج لكنه مستثنى من هذا العموم لدليل كذا وكذا الذي هو أقوم من العموم مع أن الجواب الأول أجود

وهذا الجواب فيه نظر فإن قصد التعميم المحيط ظاهر من نص رسول الله بهذه الكلمة الجامعة فلا يعدل عن مقصوده بأبي هو وأمي